أما توسيط الخبر فقد اختلفوا فيه فأجازه الكسائي ومنعه الفراء قال أبو حيان: "واختلفوا في توسيط خبر التقريب فأجازه الكسائي ومنعه الفراء" [26] وللمجيز أن يستدل بقول حسَّان رضي الله عنه:
أَتَرْضَى بِأنَّا لَمْ تَجِفَّ دِمَاؤُنا
وَهَذا عَرُوْساً بِاليَمَامَةِ خَالِدُ [27]
إذ نصب عروساً خبراً للتقريب ورفع خالداً اسماً للتقريب.
المبحث الخامس: تقديم معمول الخبر عليه
يجوز في المنصوب على التقريب أن يتقدم عليه معموله كما رأينا في قوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيةً} [28] فـ (لكم) متعلق بـ (آية) وقد تقدّم عليه وكذلك بيت جرير السابق.
هَذا ابْنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيْفَةً
فـ (في دمشق) متعلق بـ (خليفة) وقد تقدّم عليه.
المبحث السادس: مجيء الخبر معرفة
لا يشترط الكوفيون في الخبر التنكير بل يجوز عندهم أن يكون الخبر معرفة قال أبو حيّان: "وأجازوا التعريف في الخبر فيقولون: وهذا الخليفة القادم" [29] وألمح إلى ذلك ثعلبٌ دون تصريح عندما قال: "وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: هذا زيد إياه بعينه فجعله مثل كان" [30] فزيد اسم التقريب، وإيّاه خبر التقريب وهو ضمير أعرف المعارف وقال الفراء: "والعرب تنصب الاسم المعرفة في هذا وذلك وأخواتهما" [31] ، وقال ثعلب أيضاً: "وهم يسمُّون هذا زيدٌ القائمَ تقريباً، أي قرب الفعل به" [32] فاسم التقريب وخبره هنا معرفتان.
المبحث السابع: مجيء الخبر جملة
هل يصح في التقريب أن يكون خبره جمل؟(38/496)
لم يتعرض الكوفيون لهذه المسألة لا بإثبات ولا بنفي، وإن كنت أرى الجواز إذ ما المانع من ذلك ويجعل منه قوله تعالى: {هَذا كِتابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} [33] بجعل جملة (ينطق) هي خبر التقريب، والمعربون للقرآن أجازوا فيها أن تكون حالاً، وأن تكون خبراً لاسم الإشارة و (كتابنا) بدل أو عطف بيان، أوجملة (ينطق) خبر ثانٍ، والجار والمجرور (بالحق) حال، وجعلوا العامل في الحال اسم الإشارة قال المنتجب: "وقوله: {هَذا كِتَابُنَا يَنْطِقُ} هذا مبتدأ، وكتابنا خبره، وينطق يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون هو الخبر، وكتابنا بدل من هذا أو عطف بيان له، وأن يكون في موضع الحال من الكتاب والعامل في (هذا) معنى الفعل" [34] .
فبما أنه جاز في جملة (ينطق) أن تكون حالاً على مذهب البصريين، والعامل في الحال حينئذٍ اسم الإشارة، فما المانع أن تكون على مذهب الكوفيين خبراً للتقريب ولاسيما أن شروط التقريب عندهم منطبقة هنا إذ الكتاب لا ثاني له في الوجود، وهو معرفة بإضافته إلى الضمير، والمراد هنا - والله أعلم - إعلام الأمم بأن كتاب الله شاهد عليها وليس المراد إعلامهم بأن هذا هو كتاب الله لأنهم كانوا يجهلون ذلك، فشروط التقريب هنا متحققة، فما المانع من جعله خبراً للتقريب، ومن ثَمّ القول بصحة أن يكون خبر التقريب جملة.(38/497)
وكذلك قوله تعالى: {وَتلْكَ حُدُوْدُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُوْنَ} [35] وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [36] وقوله تعالى: {تِلْكَ الرّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [37] وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [38] وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاها إبْرَاهِيْمَ عَلَى قَوْمِهِ} [39] وقوله تعالى: {تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَائِهَا} [40] ، وقوله تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُوْنِهِ آلِهَةً} [41] وقوله تعالى: {وَتِلْكَ القُرَى أهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [42] .
في هذه الآيات أعرب المفسرون للقرآن اسم الإشارة مبتدأ، والمعرفة بعده أجازوا فيها أن تكون خبراً أو بياناً أو بدلاً والجملة الفعلية أجازوا فيها أن تكون هي الخبر عند من قال بالبدلية أو البيان وأن تكون حالاً أو خبراً بعد خبر عند من يعرب الاسم المعرفة بعد الإشارة خبراً [43] .
المبحث الثامن: دخول العوامل اللفظية على العامل في التقريب
العامل في التقريب عند الكوفيين اسم الإشارة، فهل تجري عليه أحكام الأسماء من دخول العوامل اللفظية عليه؟(38/498)
قبل الإجابة على هذا السؤال نتأمَّل قوله تعالى: {وَأنَّ هَذا صراطِي مُسْتَقِيْماً فَاتَّبِعُوهُ} [44] ، وقوله تعالى: {إنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً واحِدَةً وَأنا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [45] وقوله تعالى: {وإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنا رَبُّكُمْ فَاتَّقُوْنِ} [46] فاسم الإشارة في هذه المواضع اسم إنّ و {صِراطِي} و {أمَّتُكُمْ} خبران لـ (إن) وبهما تتم الجملة الإسنادية، والباقي فضلة، وهو ما جعله البصريون حالاً، والكوفيون جعلوا خبر إن اسماً للتقريب والمنصوب بعده خبر التقريب، ولا يصح أن يكون {مُسْتقِيْماً} و {أمَّةً} خبران لـ (إن) لكون الكلمتين منصوبتين، ولأنه سيجعل اسم الإشارة لغواً.
ولهذا أقول لا يمنع دخول العوامل اللفظية عند الكوفيين على العامل في التقريب من إعماله ما دامت شروط الإعمال متحققةً، وهم يحملون الإعمال هنا على إعمال الأفعال الناقصة التي دخلت عليها العوامل اللفظية المختصة بالأفعال ولم يمنع ذلك من إعمالها ـوهو قياس مع الفارق- كقولك لم يكن زيدٌ حاضراً وكقولك تعالى: {وَلَمْ أكُ بَغِيّاً} [47] فتحمل عوامل الأسماء على عوامل الأفعال وتصبح عاملة في ما بعدها معمولة لما قبلها.
المبحث التاسع: حكم التقريب:
وخبر التقريب بعد استيفاء تلك الشروط وانتفاء تيك الموانع حكمه جواز النصب، إذ يجوز فيه أيضاً الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هو قائم، أو على تعدد الخبر عند من يجيز ذلك، أو على جعل اسم التقريب عطف بيان من اسم الإشارة أو بدل منه وما كان خبراً للتقريب هو خبر المبتدأ.(38/499)
قال سيبويه: "هذا باب ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة وذلك قولك هذا عبد الله منطلقٌ حدثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمّن يوثق به من العرب وزعم الخليل أن رفعه يكون على وجهين فوجه أنك حين قلت هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو كأنك قلت هذا منطلق، أو هو منطلق، والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعاً خبراً لهذا" [48] وزاد السيرافي الوجهين الآخرين أعني القول بالبدلية أو عطف البيان [49] .
وقال ابن يعيش: "ويجوز الرفع في قولك منطلقاً من قولك هذا عبد الله منطلقاً قال سيبويه هو عربي جيّد حكاه يونس وأبو الخطاب عمّن يوثق به من العرب" [50] .
وقال ابن شقير: معلقاً على بيت جرير السابق: "نصب خليفة على القطع من المعرفة بالألف واللام، ولو رفع على معنى: هذا ابن عمي هذا خليفةٌ لجاز، وعلى هذا يَقْرَأُ مَنْ قَرَأَ {وَإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةٌ وَّاحِدَةٌ} فإن جُعل (هذا) اسماً، و (ابن عمي) صفته جاز الرفع ومثل هذا قول الراجز:
مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذا بَتِّي
مُقَيّظٌ مَصَيِّفٌ مَشَتِّي
معناه هذا بتِّي هذا مقيِّظٌ، هذا مصيّفٌ، وأما قول النابغة.
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا
لِسِتَّةِ أَعْوامٍ وذا العامُ سابِعُ
رفع (العام) بالابتداء، و (سابع) خبره ... وأما قول الله تبارك وتعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيْدٌ} رفع (عتيد) لأنه خبر نكرةٍ كما تقول هذا شيء عتيد عندي" [51] .
من خلال هذا النص نلمح أن الإعمال بعد استيفاء الشروط جائز لا واجب، كما نلمح التزام تعريف اسم التقريب؛ لأنه علل عدم نصب عتيد في الآية الكريمة بسبب كون الاسم الواقع بعد اسم الإشارة نكرة تامة وهي (ما) التي فسّرها بـ (شيء) ، وعليه فلا تصح أن تكون اسماً للتقريب.
المبحث العاشر: القياس في إعمال اسم الإشارة(38/500)
يبدو أن الكوفيين قاسوا اسم الإشارة في تجويزهم إعماله عمل كان على بعض الأفعال التي حُملت على صار في الإعمال كـ (آض وآل ورجع وعاد وحار واستحال وتحوَّل وارتدَّ وقعد وغدا وراح) أو على أضحى وأمسى كـ (أسحر وأفجر وأظهر) بل توسَّع بعض النحاة في هذا الباب فأدخل كل فعل يجيء المنصوب به بعد المرفوع لا يستغني عنه كقام زيد كريماً وذهب عمرو متحدثاُ وعاش خالد مجاهداً [52] فالكوفيون قاسوا اسم الإشارة على تلك الأفعال ولاسيّما إن لحظوا معنى فعلين في اسم الإشارة وهما: الفعل (أُنَبِّهُ) الذي أفادت معناه الهاء، والفعل (أُشِيْرُ) الذي أفاد معناه اسم الإشارة فأعملوا أحدهما في التقريب، والبصريون يقولون إن العامل في الحال في نحو هذا زيد منطلقاً إنما هو أحد هذين الفعلين أعني: أُنَبِّهُ وأشير الذين أفاد معناهما اسم الإشارة.
المبحث الحادي عشر: العامل من أسماء الإشارة
قد يتساءل المرء هل العمل في التقريب خاص بـ (هذا وهذه وهنَّ وهؤلاء) المختصة بالمشار إليه القريب أو يشمل جميع أسماء الإشارة ما كان منها مختصاً بالمشار إليه القريب، والمشار إليه البعيد كـ (ذلك) و (تلك) .(39/1)
للإجابة على هذا التساؤل لا بدّ لنا من الوقوف على نصين للفراء قال في الأول مفسّراً قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فِيْهِ هُدَىً لِّلْمُتَّقِيْنَ} [53] قال: "يصلح فيه ذلك من جهتين، وتصلح فيه هذا من جهة، فأما أحد الوجهين من ذلك فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، والآخر أن يكون ذلك على معنى يصلح فيه هذا؛ لأن قوله هذا وذلك يصلحان في كل مكان إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه ألا ترى أنك تقول قد قدم فلان فيقول السامع قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه هذا لأنه قد قَرُبَ من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه ذلك لانقضائه والمنقضي كالغائب، ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان ذلك هذا، ولا مكان هذا ذلك " [54] .
ثم أخذ الفراء يوجه إعراب الآية فقال في إعراب هدىً: "وأما قوله تعالى: {هُدَىً لِلْمُتَّقِيْنَ} فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين" [55] فذكر أوجه الرفع، وقال عن أوجه النصب: "فأما النصب في أحد الوجهين فأن يجعل الكتاب خبراً لذلك فتنصب على القطع لأن هدى نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلاً على المعرفة، وإن شئت نصبت هدىً على القطع من الهاء التي في فيه كأنك قلت لا شكّ فيه هادياً" [56] .
ومراد الفراء بقوله: "فتنصب على القطع أي على الحال فالقطع عنده الحال وهو من مصطلحات الفراء.
وقد ألحَّ الفراء على مسألة النصب على الحال في آيات كثيرة منها قوله تعالى [57] : {طس تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ وكتابٍ مُّبِيْن هُدًى وَّبُشْرَىً للمُؤْمِنِيْنَ} [58] وقوله تعالى [59] : {ألم تِلْكَ آياتُ الكِتَابِ الحَكِيْمِ هُدَىً وَّرَحْمَة للْمُحْسِنِيْنَ} [60] .(39/2)
وعلى هذا فهل الفراء أعرب تلك الآيات حالاً لأنه يرى أنها لا يصح فيها النصب على التقريب لما بين (ذلك) المشتملة على اللام التي يشار بها للبعيد، والنصب على التقريب من التنافي في المعنى فبين اللام والتقريب تنافٍ إذ اللام تبعيد لا تقريب هذا هو الظاهر ويؤيده قوله: "ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان ذلك هذا، ولا مكان هذا ذلك"وإن كانت عبارته السالفة "لأن هذا وذلك يصلحان في كل كلام ذكرته ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه… لأنه قد قَرُبَ من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه"توحي بأنه يرى أن هذا وذلك يتقارضان فتحلُّ إحداهما محلّ الأخرى دون تفريق بين ما جعل للبعيد وما جعل للقريب على حدّ قول خُفَافِ ابن نُدْبَهَ:
أَقُوْلُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ
تَأَمَّلْ خُفَافاً إنَّنِي أَنَا ذَلِكا [61]
والنص الثاني هو إعراب الفراء قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيْسَى ابْنُ مِرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ} [62] بنصب {قَوْلَ} [63] على التقريب في أحد وجهي النصب الجائزين في الآية وهي مسبوقة باسم الإشارة ذلك المشار بها للبعيد قال: "وقد قرأتِ القُرَّاءُ بالنصب {قَوْلَ الحَقِّ} وهو كثير يريدون به حقاً، وإن نَصَبْتَ القولَ وهو في النية من نعت عيسى كان صواباً كأنك قلت هذا عبد الله أخاه بعينه، والعرب تنصب الاسم المعرفة في هذا وذلك وأخواتهما فيقولون هذا عبد الله الأسدَ عادياً كما يقولون أسداً عادياً" [64] .
فجعل (قولَ) منصوباً على أنه مفعول مطلق في الوجه الأول، ومنصوباً على التقريب في الوجه الثاني، والعامل في التقريب هنا اسم الإشارة (ذلك) المختصة بالبعيد، وجعل عادياً حالاً من الأسد لا من عبد الله، وقوله والعرب تنصب الاسم المعرفة في هذا وذلك وأخواتهما دليل على أنه لم يفرّق بين هذا وذلك.(39/3)
والذي يبدو لي أن الفراء لم يكن مُتحَمِّساً للتقريب، لأنَّ إلحاحه على الحال في الشواهد القرآنية المحتوية على أسماء الإشارة أكثر من إلحاحه على التقريب.
المبحث الثاني عشر التقريب والحال عند الكوفيين
المصطلح النحوي بين الكوفيين والبصريين كثيراً ما يختلف، ولكن الغالب أن يكون اختلافاً في التسمية فقط كالترجمة للبدل، والمجرى وغير المجرى للمصروف والممنوع من الصرف، والمكني للضمير والتفسير للتمييز، والعماد لضمير الفصل؛ ولهذا قد يقال هل المنصوب على التقريب هو الحال والاختلاف في تسمية المصطلح؟ نقول: لا. بل الحال شيء آخر، وهم يسمون الحال قطعاً وحالاً، فالقطع عند الكوفيين هو جزء من الحال، والبصريون لا يقرُّون بالقطع ولا يقولون به قال أبو حيّان: "وهذا كله منصوب عند البصريين على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع، والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو" [65] والمنصوب على التقريب عند الكوفيين شيء ثانٍ، غير القطع وغير الحال فالتقريب إذن شيء جديد؛ لأن الفراء يقول في النص السابق "هذا عبد الله الأسدَ عادياً".
وإعراب عادياً حال من الأسد، والأسد هو المنصوب على التقريب، فبينهما فرق عنده إذن.
المبحث الثالث عشر: القطع والحال عند الفراء(39/4)
الفراء يستعمل مصطلح القطع كثيراً ويريد به الحال [66] ، ويستعمل كذلك مصطلح الحال كما هو عند البصريين ولكنه قليل، وقد يجمع بينهما لمعنى واحد قال في توجيه نصب {نَزَّاعَةً} من قوله تعالى: {كَلاَّ إنَّهَا لَظَى نَزَّاعَة لِّلشَّوَى} [67] نصبه على القطع وعلى الحال [68] ، ويستعمل مصطلح قطع ويريد به النصب بفعل محذوف قال في توجيه نصب {مَطْوِيّاتٍ} من قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِيْنِهِ} [69] قال: "ومن قال مطوياتٍ رفع السموات بالباء التي في بيمينه كأنه قال: والسموات في يمينه، وينصب المطويات على الحال أو على القطع والحال أجود" [70] ، ويستعمل مصطلح قطع ويريد به الاستئناف قال في توجيه رفع {خَالِصَةً لَّك} من قوله تعالى: {وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَّهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أن يَّسْتنْكِحَهَا خَالِصَة لَكَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ} [71] قال: "ولو رفعت خالصة على الاستئناف كان صواباً كما قال: {لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مَّنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي هذا بلاغ، وما كان من سنة الله وصبغة الله وشبهه فإنه منصوب لاتصاله بما قبله على مذهب حقاً وشبهه والرفع جائز لأنه كالجواب ألا ترى أن الرجل يقول قد قام عبد الله فتقول حقاً إذا وصلته، وإذا نويت الاستئناف رفعته وقطعته مما قبله، وهذا محض القطع الذي تسمعه من النحويين" [72] .
وحاول أبو حيّان التفريق بين مصطلحي الحال والقطع عند الفراء فقال: "وفرَّق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع، وما لا فمنصوب على الحال" [73] .(39/5)
وقال أيضاً في إعراب {مَثَلاً} من قوله تعالى: {مَاذا أرَادَ الله بِهَذَا مَثلاً} [74] قال: "وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه وقطعته عنه نصب على القطع ... كذا قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل فلما لم يجر على إعراب هذا انتصب على القطع" [75] .
وأورد ابن شقير [76] المصطلحين على أنهما متمايزان وجعل القطع هو ما يجوز فيه أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله؛ فإذا لم يتبعه المتكلم في الإعراب وقطعه عنه نصبه على القطع، ويرى ابن شقير أن مصطلح الحال هو ما لا يجوز فيه الإتباع وقال عنه: "والحال لاتكون إلا نكرة" [77] .
الفصل الثاني: البصريون والتقريب
وتحته مباحث
المبحث الأول: التقريب عند سيبويه
هل كان سيبويه يعرف مصطلح تقريب كما يراد منه عند الكوفيين، أم لا؟
للإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ لنا من الوقوف على هذا النص. قال سيبويه: "وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا، وهذه، وهذان، وهاتان، وهؤلاء، وذلك، وتلك، وذانك، وتانك، وأولئك وما أشبه ذلك. واعلم أن المبهمة توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام، والصفات التي فيها الألف واللام جميعاً؛ وإنما وصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام؛ لأنها والمبهمة كشيء واحد، والصفات التي فيها الألف واللام هي في هذا الموضع بمنزلة الأسماء، وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو إذا قلت مررت بزيد الطويل لأني لا أريد أن أجعل هذا اسماً خاصاً، ولا صفة له يعرف بها، وكأنك أردت أن تقول مررت بالرجل، ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرِّب به وتشير إليه" [78] اهـ
من هذا النص فهم بعض الباحثين أن سيبويه يعرف مصطلح التقريب، فقال: "سيبويه يستعمل هذا اللفظ - أي التقريب - ويبين دلالته المعنوية" [79] .(39/6)
والذي يظهر لي أن هذا إغراب في فهم هذا النص؛ لأن مراد سيبويه أن يقول إن اسم الإشارة ربما أتي به وُصْلَةً لوصف ما فيه الألف واللام، والإشارة إليه بالعهد الحضوري لا بالعهد الذهني وهو مراده بقوله "ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرَّب به الشيء وتشير إليه" وللوقوف على حقيقة المعنى المراد نتأمَّل قول الأعلم شارحاً عبارة سيبويه قال: "الاسم المبهم مخالف لغيره في النعت؛ وذلك أنه ينعت بأسماء الأجناس كقولك مررت بهذا الرجل وركبت هذا الفرس؛ وذلك أن غير المبهم يحتاج إلى النعت إذا شاركه غيره في لفظه فيبان من غيره بذكر شيء فيه دون غيره مما يحلّى به، والمبهم إنما دخل وُصْلَةً لخروج ما فيه الألف واللام عن العهد إلى الحضور" [80] .
والبصريون يستعملون كلمة تقريب ولا يريدون منها إعمال اسم الإشارة عمل كان كما هو عند الكوفيين وإنما يعنون معناها اللغوي قال الأعلم: "ثم اتفق قُرْبُ زيد منك فأردت أن تنبه المخاطب عليه وتقرّبه له فأدخلت هذا" [81] .
المبحث الثاني: الحال والتقريب عند البصريين
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أقسام الحال من حيث التبيين والتأكيد
الحال تنقسم بحسب التبيين والتأكيد إلى قسمين كبيرين حال مؤسسة وهي التي لا يستفاد معناها إلا بذكرها كجاء سعد ضاحكاً، وحال مؤكدة وهي التي يستفاد معناها بدون ذكرها؛ وذلك بأن يدلّ عاملها عليها نحو لا تعث في الأرض مفسداً أو يدل صاحبها عليها كقوله تعالى: {إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيْعاً} [82] أو تكون الجملة السابقة عليها هي التي تدل على معناها هذا أبوك عطوفاً.
ووقع القسمان بعد اسم الإشارة كقولك في الحال المؤسسة هذا زيدٌ منطلقاً، وكقولك في الحال المؤكدة هذا أبوك رحيماً.
المطلب الثاني: التقريب عند البصريين(39/7)
البصريون لا يقرّون بالتقريب ولا يقولون به ويجعلون ما كان منصوباً على التقريب عند الكوفيين حالاً مؤسسة أو حالا مؤكدة لمضمون الجملة قبلها قال سيبويه: "فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك هذا عبد الله منطلقاً وهؤلاء قومك منطلقين وهذا عبد الله معروفاً، فهذا اسم مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يبنى عليه أو يبنى على ما قبله ... والمعنى أنك تريد أن تنبه له منطلقاً لا تريد أن تعرّفه عبد الله لأنك ظننت أنه يجهله فكأنك قلت انظر إليه منطلقاُ فمنطلق حالٌ قد صار فيها عبد الله" [83] .
وقال الأعلم شارحاً عبارة سيبويه السابقة: "واعلم أن العامل في الحال في قولك هذا زيد منطلقاً الإشارة، أو التنبيه فالتقدير انظر إليه منطلقاً، وإن أعملت الإشارة فالتقدير أشير إليه منطلقاً والمقصد أنك أردت أن تنبِّه المخاطب لزيد في حال انطلاقه فلا بدّ من ذكر منطلقاً لأن الفائدة تنعقد به، ولم ترد أن تعرّفه إياه، وأنت تقدّر أنه يجهله كما تقول هذا زيد إذا أردت هذا المعنى، والأصل في هذه المسألة: زيد منطلق، ثمّ اتفق قُرْبُ زيد منك فأردت أن تنبه المخاطب عليه وتقرِّبه له فأدخلت (هذا) ، وهو اسم فلا بد له من موضع إعراب لإصلاح اللفظ فرفع بالابتداء لأنه أول الكلام، وجعل زيد خبره فاكتفى به، ونصب منطلقاً على الحال ولا يستغنى عنها لأنها خبر في المعنى كما لايستغنى عن رجل في قولك يا أيها الرجل وإن كان صفة؛ لأنه المقصود بالنداء في الأصل" [84] .(39/8)
وقال المبرّد موضحاً العامل في الحال الواقعة بعد اسم الإشارة: "وتقول هذا زيد راكباً وذاك عبد الله قائماً، فإن قال قائل: ما الذي ينصب الحال وأنت لم تذكر فعلاً قيل له (هذا) إنما هو تنبيه كأنك قلت أنبِّه له راكباً، وإذا قلت ذاك عبد الله قائماً (ذاك) للإشارة كأنك قلت: أشير لك إليه راكباً فلا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل لأنها مفعول فيها" [85] .
المبحث الثالث: رأي البصريين في التقريب
من خلال هذه النصوص يبدو لنا جلياً المانع الذي جعل البصريين لا يقولون بالتقريب رغم طرافة الفكرة لو أسعفتها القواعد فهم نظروا إلى أن أسماء الإشارة لها محل من الإعراب بكونها اسماً من الأسماء، والأسماء لها محل من الإعراب سواء كانت في صدارة الجملة أم في وسطها أم في آخرها على خلاف الأفعال التي إذا تصدّرت الجمل فليس لها محل من الإعراب، وبناءً على هذا فاسم الإشارة سيكون مبتدأً والمرفوع الذي بعده خبره وهو ما عدّه الكوفيون اسم التقريب؛ وبهذا ستكون الجملة تمّت إسناداً مبتدأ وخبر، والمنصوب سيكون حالاً لتمام الجملة قبل مجيئه، ولكنه حال لا يستغنى عنه؛ لأنه خبر في المعنى؛ ولأن الفائدة لا تنعقد إلا به قال سيبويه: "فهذا اسم مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يبنى عليه أو يبنى على ما قبله" [86] .
وأوضح الأعلم المانع من القول بالنصب على التقريب أشد إيضاح في نصه السابق حيث قال: "فأدخلت هذا وهو اسم فلا بدّ له من موضع إعراب لإصلاح اللفظ، فرفع بالابتداء لأنه أول الكلام وجعل زيد خبره فاكتفي به، ونصب منطلقاً على الحال ولا يستغني عنها لأنها خبر في المعنى".(39/9)
أما آض، وآل، ورجع، وعاد، وحار، واستحال، وتحوَّل، وارتدَّ، وقعد، وغدا، وراح، وسواها مِمَّا حملت على كان في الإعمال وارتضاها العلماء فهي أفعالٌ، ليس لها محل من الإعراب إذا كانت في صدارة الجُمَل، بخلاف هذا وأخواتها فهي أسماء لابدّ أن يكون لها محل من الإعراب فالقياس هنا مع الفارق.
ثم إن العرب تنصب الحال وقبله حرف تنبيهٍ فقط دون أن يأتي بعد حرف التنبيه اسم إشارة نحو ها أنا قائماً روى أبو عبد الله بن الجرّاح في كتابه المسمّى: (من اسمه عمرو من الشعراء) النص التالي: «كان عمرو بن معديكرب في مسجد الكوفة يحدّث بأيّامه في الجاهلية إذ: قال فلقيت أنس بن مدركة الخثعمي فطعنته فقتلته، وأنسٌ في القوم فقال: حِلاًّ أبا ثور ها أنا جالساً أسمعك فقال: اسكت ويحك نوزع هذه المرازبة" [87] .
والشاهد هنا: قول أنس بن مدركة: ها أنا جالساً فهل يَعُدُّ الكوفيون (ها) من عوامل التقريب؟ ويلحقونها بـ (كان وأخواتها) ولاسيما أن مراد أنس من عبارته الدلالة على القرب، لم يقل الكوفيون بذلك فيقال لهم: ما الفرق بين هذه العبارة وقولنا ها أنا ذا جالساً؟ أوليس المراد من العبارتين الدلالة على القرب؟ لماذا تعربون ها أنا جالساً حالاً، وتعربون ها أنا ذا جالساً تقريباً؟
وكذلك يحتج على الكوفيين بأن العرب أوقعت الحال بعد الضمائر كقوله تعالى: {وَهْوَ الحَقُّ مُصَدّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [88] وقول سالم بن دارة:
أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوْفاً بِهَا نَسَبِيْ
وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ [89]
فهل يقال أيضاً إن الضمير هنا محمول على كان في الإعمال؟ لم يقل بذلك أحد من النحويين. فيقال ما الفرق إذن بين أسماء الإشارة والضمائر أوليست كلها أسماء وكلها معارف، إن كان الإعمال عندكم للتنبيه فقد رفضتم نص أنس بن مدركة، وإن كان الإعمال للاسم فقد رفضتم بيت ابن دارة.(39/10)
المبحث الرابع: عامل الحال المضمَّن عند البصريين
والعامل في الحال عند البصريين في قولك هذا زيد منطلقاً ما في اسم الإشارة من معنى فعل سواء أُعْمِلَ الفعل أُنَبِهُ الذي أفادته (ها) التنبيه أو أعمل الفعل أُشِيْرُ الذي أفاده اسم الإشارة قال المبرد: "وتقول هذا زيد راكباً وذاك عبد الله قائماً فإن قال قائل: ما الذي ينصب الحال وأنت لم تذكر فعلاً؟ قيل له (هذا) إنما هو تنبيه كأنك قلت أنبِّه له راكباً، وإذا قلت ذاك عبد الله قائماً (ذاك) للإشارة كأنك قلت أشير لك إليه راكباً فلا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل, لأنها مفعول فيها" [90] .
وأجاب ابن يعيش عن اختلاف العامل في الحال وصاحبها فقال: "فإن قيل فأنتم قد قررتم أن العامل في الحال يكون هو العامل في ذي الحال، والحال هاهنا في قولك هذا زيد منطلقاً من زيد، والعامل فيه الابتداء من حيث هو خبر، والابتداء لا يعمل نصباً فالجواب أن هذا كلام محمول على معناه دون لفظه، والتقدير أشير إليه أو أنبه له" [91] .
وقال ابن مالك: "والأكثر أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها ... ومن ورود الحال وعاملها غير عامل صاحبها قولهم: ها قائماً ذا زيد فَنَصَبَ الحالَ حرفُ التنبيه وليس له عمل في صاحبها" [92] .
وقال ابن جني أيضاً: "ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون العامل في الحال هو غير العامل في صاحب الحال ومن ذلك قول الله سبحانه: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً} فـ {مُصَدِّقاً} حال من {الحَقِّ} والناصب له غير الرافع للحق…وكذلك عامة ما يجوز فيه وجهان أو أوجه ينبغي أن يكون جميع ذلك مجوّزاً فيه ولا يمنعك قوّة القوي من إجازة الضعيف أيضاً فإن العرب تفعل ذلك تأنسياً لك بإجازة الوجه الأضعف لتصحّ به طريقك وترحب به خناقك إذا لم تجد وجهاً غيره" [93] .
فهرس المراجع والمصادر(39/11)
1- إتحاف فضلاء البشر لأحمد الدمياطي /مراجعه محمد علي الصباغ / دار الندوة بيروت.
2- ارتشاف الضرب من لسان العرب لأثير الدين أبي حيان /تح د. مصطفى النماس/ النسر الذهبي / القاهرة 1404هـ.
3- أسرار العربية لأبي البركات بن الأنباري / تح محمد بهجت البيطار / مجمع اللغة بدمشق: 1377هـ.
4- الاشتقاق لابن دريد / تح عبد السلام محمد هارون / مكتبة الخانجي / القاهرة: 1378 هـ.
5- الأصول لابن السراج / تح عبد الحسين الفتلي / مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1405 هـ.
6- إعراب القرآن للنحاس / تح زهير غازي زاهد / عالم الكتب بيروت 1405هـ.
7- أمالي ابن الشجري / تح د: محمود الطناحي / مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1413هـ.
8- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات بن الأنباري / تح محمد محي الدين عبد الحميد / دار الفكر بيروت.
9- البحر المحيط لأثير الدين أبي حيان / المكتبة التجارية مكة المكرمة 1412.
10- تثقيف اللسان وتلقيح الجنان لابن مكي الصقلي /تح مصطفى عبد القادر عطا / دار الكتب العلمية الطبعة الأولى:1410 هـ.
11- تصحيح التصحيف وتحرير التحريف لصلاح الدين الصفدي / تح السيد الشرقاوي / مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1407هـ.
12- الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي / تح فخر الدين قباوه ومحمد نديم الفاضل / دار الآفاق بيروت 1403.
13- جواهر الأدب في معرفة كلام العرب لعلاء الدين الإربلي / تح د/أميل بديع يعقوب / دار النفائس بيروت 1412هـ.
14- الخصائص لأبي الفتح بن جني / تح محمد على النجار / دار الكتب المصرية 1371هـ.
15- دراسة في النحو الكوفي: للمختار أحمد ديره / دار قتيبة بيروت 1411هـ.
16- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي / تح د. أحمد الخراط / دار القلم دمشق 1406هـ.(39/12)
17- ديوان جرير بشرح محمد ين حبيب / تح د: نعمان مجمد طه / دار المعارف الطبعة الثالثة.
18- ديوان حسان بن ثابت / رواية الأثرم، ومحمد بن حبيب / تح د. سيد حنفي حسنين / الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974م.
19- ديوان رؤبة بن العجاج / جمع وليم بن الورد / دار الآفاق الجديدة بيروت الطبعة الثانية 1400 هـ.
20- السبعة في القراءات لابن مجاهد / تح د. شوقي ضيف / دار المعارف الطبعة الثالثة 1980م.
21- شرح التسهيل لابن مالك / تح د. عبد الرحمن السيد، ود محمد بدوي مختون / هجر بالقاهرة 1410هـ.
22- شرح القصائد السبع الطوال لأبي بكر بن الأنباري / تح عبد السلام هارون / دار المعارف 1382هـ.
23- شرح اللمع للثمانيني / تح د: فتحي علي حسانين (مخطوط) رسالة دكتوراه في الأزهر.
24- شرح المفصل لابن يعيش / المطبعة المنيرية بالقاهرة 1928م.
25- الفريد في إعراب القرآن المجيد للمنتجب الهمداني / تح د. محمد فهمي النمر، وفؤاد مخيمر / دار الثقافة الدوحة 1411هـ.
26- الكتاب لسيبويه / تح عبد السلام هارون / الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م.
27- الكشف عن وجوه القراءات السبع / لمكي بن أبي طالب / تح محي الدين رمضان / مؤسسة الرسالة بيروت 1407هـ.
28- المبسوط في القراءات العشر للأصبهاني / تح سبيع حمزة حاكمي / دار القبلة جدة: 1408هـ.
29- مجالس ثعلب لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب / تح عبد السلام هارون / دار المعارف الطبعة الثالثة 1960م.
30- المحتسب لابن جني / تح علي النجدي ناصف وزملائه / لجنة إحياء التراث الإسلامي بالقاهرة 1386هـ.
31- المحلّى "وجوه النصب"لابن شقير / تح فائز فارس /مؤسسة الرسالة 1408هـ.
32- مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه/مكتبة المتنبي بالقاهرة.(39/13)
33- مصطلحات النحو الكوفي للدكتور عبد الله بن حمد الخثران / هجر للطباعة والتوزيع 1411هـ.
34- المصطلح النحوي نشأته وتطوره للدكتور عوض بن حمد القوزي / عمادة شئون المكتبات جامعة الملك سعود 1401 هـ.
35- معاني القرآن للأخفش / تح د0 فائز فارس / دار البشير 1401هـ.
36- معاني القرآن للفراء / عالم الكتب بيروت.
37- معاني القرآن وإعرابه المنسوب للزجاج / تح د. عبد الجليل عبده شلبي / عالم الكتب 1408هـ.
38 - معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية للدكتور محمد إبراهيم عبادة / دار المعارف لا ط، لا ت.
39- مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري / تح د: مازن المبارك ومحمد على حمد الله / دار الفكر الطبعة الخامسة 1979 م.
40- المقتضب لأبي العباس المبرد / تح محمد عبد الخالق عضيمة / وزارة الأوقاف المصرية 1399هـ.
41- من اسمه عمرو من الشعراء لأبي عبد الله محمد بن داود بن الجرّاح / تح د عبد العزيز بن ناصر المانع / مكتبة الخانجي 1412هـ.
42- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك لعلي بن محمد الأشموني / عيسى البابي الحلبي.
43- النشر في القراءات العشر لابن الجزري / تصحيح علي محمد الضباع / دار الكتب بيروت.
44- النكت في تفسير كتاب سيبويه / للأعلم الشنتمري / تح زهير عبد المحسن سلطان / معهد المخطوطات بالكويت 1407هـ.
45- همع الهوامع للسيوطي / تح عبد العال سالم مكرم / دار البحوث العلمية 1394هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجالس ثعلب: 43.
[2] ينظر في تعريف التقريب: دراسة في النحو الكوفي: 237، ومصطلحات النحو الكوفي: 94، ومعجم مصطلحات النحو والصرف: 247.
[3] هود: 72، وقراءة النصب هي قراءة الجمهور، وقرأ برفع شيخ ابن مسعود والأعمش والمطوعي.(39/14)
ينظر: معاني القرآن للفراء: 2/23، ومعاني القرآن للأخفش: 2/356 ونسباها لابن مسعود، والمحتسب: 1/ 324 وعزاها للأعمش، اتحاف فضلاء البشر: 259 وعزاها للمطوعي.
[4] الأنعام: 126.
[5] الأعراف: 73.
[6] الأنعام: 153
[7] هود: 78، وقراءة الجمهور أطهرُ بالرفع، وقرأ بالنصب الحسن البصري وعيسى بن عمر كما في معاني القرآن للأخفش: 2/ 356، ورويت عن مروان بن الحكم وزيد بن علي وسعيد بن جبير ومحمد بن مروان والسُّدِّي.
ينظر في هذه القراءة: إعراب القرآن للنحاس: 2/ 295، وشواذ القراءات لابن خالويه: 65، والمحتسب: 1/ 325.
[8] لم يرض البصريون بهذه القراءة؛ ولحّنوا من قرأها بالنصب؛ لأنها تجعل الضمير هنّ فصلاً، وهم يعربون الضمير هنا مبتدأ خبره أطهر، قال أبو عمرو بن العلاء: "حتبى ابن مروان في اللحن حين قرأ {هُنَّ أَطْهَر} بالفتح"قال سيبويه: 2/396 "وأما أهل المدينة فَيُنَ-زِّلُوْنَ هو هاهنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع، فزعم يونس أن أبا عمروٍ رآه لحناً، وقال: احتبى ابن مروان في ذِهِِ في اللحن. يقول لحن وهو رجل من أهل المدينة كما تقول اشتمل بالخطأ وذلك أنه قرأ: {هَؤُلاءِ بَنَاتِيْ هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ} فنصب"اهـ.
[9] البيت من الكامل وهو في ديوان جرير: 388، وانشده ابن شقيري المحلّى وجوه النصب 7، وابن الشجري في أماليه: 3/10.
[10] بيتان من مشطور الرجز في ملاحق ديوان رؤبة: 189، وهما في معاني القرآن للفراء: 3/17، ومعاني القران للأخفش: 37، والأصول لابن السراج: 1/183، والمحلى لابن شقير 8.
[11] ينظر المحلّى وجوه النصب: 8.
[12] همع الهوامع: 2/ 71.
[13] مجالس ثعلب: 43.
[14] المرجع السابق: 44.
[15] المرجع السابق: 43.
[16] معاني القرآن: 1/ 231،232.(39/15)
[17] أي بإعادة ها التنبيهية مع اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هَؤلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيْمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} آل عمران 66، ومثال حذفها قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ} آل عمران 119.
[18] مجالس ثعلب: 43.
[19] هناك خلاف بين سيبويه وابن مالك في نحو "ها أنا ذا"إذ يرى سيبويه أن (ها) في هذا الأسلوب ليست مقدمة من تأخير، وإنما هي حرف تنبيه جديد بدليل الجمع بينه وبين حرف التنبيه المتصل باسم الإشارة في نحو "ها أنتم هؤلاء"، قال فلو كانت (ها) هاهنا هي التي تكون أولا إذا قلت هؤلاء لم تُعَد (ها) هاهنا بعد أنتم، وقال ابن مالك إنّ "ها" الداخلة على الضمير هي التي مع اسم الإشارة وفصل بينهما بالضمير قال وقد تعاد بعد الفصل توكيداً.
[20] ينظر الإنصاف المسألة الحادية والثلاثون: 250، وينظر أسرار العربية: 192.
[21] مجالس ثعلب: 43.
[22] المرجع السابق: 359.
[23] هود: 78.
[24] ينظر رأي البصريين في الكتاب: 2/397، ومعاني القرآن للأخفش: 2/356، وطبقات فحول الشعراء: 1/20.
[25] الكتاب 2/ 397.
[26] ارتشاف الضرب: 2/ 73.
[27] البيت من الطويل وهو في ملاحق ديوان حسّان: 381، وروايته فيه برفع عروس واستشهد به ابن السراج في الأصول 1/ 153:على جواز رفع "عروس" ونصبه قال: "وينشد هذا البيت على وجهين - ثم أورد البيت - وقال فينصب عروس ويرفع" وهو في شرح اللمع 372، وتثقيف اللسان:78، وتصحيح التصحيف: 379 بالنصب.
[28] الأعراف: 73.
[29] ارتشاف الضرب: 2/ 73.
[30] مجالس ثعلب: 43.
[31] معاني القرآن: 2/ 168.
[32] مجالس ثعلب: 359.
[33] الجاثية: 29.
[34] الفريد في إعراب القرآن المجيد: 4/ 287.
[35] البقرة: 230.
[36] البقرة: 252.
[37] البقرة: 253.
[38] أل عمران: 140.(39/16)
[39] الأنعام: 83.
[40] الأعراف: 101.
[41] الكهف: 15.
[42] الكهف: 59.
[43] ينظر: الدر المصون: 2/ 456، 535: 3 / 404: 5/ 24، 397: 7/ 453، 514.
[44] الأنعام 135.
[45] الأنبياء: 92، وقراءة الجمهور بنصب أمة، وقرأ برفعها: الحسن البصري ينظر: معاني القرآن للفراء: 2/210، وإعراب القرآن للنحاس: 3/ 79، والمحتسب: 2/65.
[46] المؤمنون: 52.
[47] مريم: 20.
[48] الكتاب 2/ 83.
[49] ما زاده السيرافي هو القول بالبدلية أو عطف البيان وسبقت الإشارة إليهما في صلب هذا البحث. ينظر كتاب سيبويه طبعة بولاق 1/258.
[50] شرح المفصل: 2/ 58.
[51] المحلى وجوه النصب 7،8.
[52] ينظر في هذه الأفعال: ارتشاف الضرب: 2/ 73، وهمع الهوامع: 2/ 68، والأشموني: 1/ 229.
[53] البقرة: 2.
[54] معاني القرآن: 1/ 10.
[55] المرجع السابق: 1/ 11.
[56] المرجع السابق: 1/ 12.
[57] المرجع السابق: 2/ 286.
[58] النمل: 1 و2.
[59] معاني القرآن: 2/326.
[60] لقمان: 1و2و3.
[61] البيت من الطويل في ديوان خفاف ضمن شعراء إسلاميون: 482، وهو في المنصف: 3/41، والخصائص: 2/186، والإنصاف:720.
[62] مريم: 34.
[63] قرأها بالنصب ابن عامر، وعاصم بن أبي النجود، وهي التي يقرأ بها اليوم بالمشرق الإسلامي، وقرأها بالرفع ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو عمرو.
[64] معاني القرآن: 2/ 168.
[65] البحر المحيط: 1/ 202.
[66] ينظر معاني القرآن: 1/ 7، 12 - 2/ 286، 338، 344، 345، 346 - 3 / 6، 11، 12، 83، 104، 132.
[67] المعارج:15، 16.
[68] معاني القرآن 1/ 309.
وتبعه كذلك أبو بكر ابن الأنباري في شرح القصائد السبع الطوال:24 في توجيه بيت امرئ القيس
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد.(39/17)
[69] الزمر: 67.
[70] معاني القرآن: 2/ 425.
[71] الأحزاب: 50.
[72] معاني القرآن: 2/ 344.
[73] البحر المحيط: 1/ 201.
[74] البقرة: 26.
[75] البحر المحيط: 1/ 201.
[76] المحلى وجوه النصب: 7-10.
[77] المرجع السابق: 10.
[78] الكتاب 2/ 5-8.
[79] المصطلح النحوي: 133.
[80] النكت في تفسير كتاب سيبويه: 1/ 442.
[81] المرجع السابق: 1/481.
[82] يونس: 4.
[83] الكتاب: 2/78.
[84] النكت في تفسير كتاب سيبويه: 1/ 481.
[85] المقتضب: 4/ 168.
[86] الكتاب: 2/ 78.
[87] من اسمه عمرو من الشعراء: 142.
[88] البقرة: 91.
[89] البيت من البسيط وهو لسالم بن دارة في الكتاب: 2/ 79، وابن يعيش: 2/ 64، والأشموني: 1/ 255.
[90] المقتضب: 4/ 168.
[91] شرح المفصل: 2/ 58.
[92] شرح التسهيل: 2/354.
[93] الخصائص: 3/ 60.(39/18)
الإلحاد والظلم
في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ
الدكتور: محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود
عضو هيئة التدريس في قسم الكتاب والسنة
بكلية الدعوة وأصول الدين
جامعة أم القرى
المقدمة
الحمد لله فعّال لما يريد، بيده الخير، وهو على كل شيء شهيد. والصلاة والسلام على القائل: "من يُرِد اللهُ بهِ خَيراً، يُفقِهه في الدين" [1] .
أما بعد: فقد كنت في زيارة أحد أقاربي، المقربين إلى نفسي في مدينة الرياض، وتناول الحديث معه تعلقه الشديد بأرض الحرم، ورغبته الصادقة في سكناها، والعيش فيها.
وكأني أسخر منه، حين سألته: ولمَ لمْ تفعل؟ فالسبيل ميسر، والوسيلة سائرة، وقد منَّ الله عليك بالتبعية لهذا الكيان الكبير، فلا حدود ولا قيود، وأنت اليوم أصبحت خِلْواً من التزاماتك نحو عملك في الجامعة.!!!
فتبسم ضاحكاً من قولي، وصوّب نحوي نظرة شفقةٍ، وحنان، وقال: هو كما قُلْتَ، ولولا آية في كتاب الله لفعلت.
ووجمت مندهشاً وقد أخذ مني الفضول مأخذاً، نظرت إليه بلهفة، وفي عيني سؤال: وما تلك الآية، يرحمك الله؟!
فتلا قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج /25] . فكأنه أيقظني من سبات عميق في وادٍ سحيق، فأخذت أردد تلاوة الآية الكريمة في نفسي، ورفعت إليه بصري، وسألته متغابياً: وما الذي في الآية من معنى يحول بينك وبين تحقيق حلمك الجميل؟ فردَّ قائلاً:(39/19)
الإنسان منَّا عرضة للخطأ، والنسيان، فيما يقول، ويفعل، ولا يزال تحيط به الملذَّات، والشهوات، والرغبات في نيلها، فيريد أن يحقق لنفسه شيئاً منها، إرواءً لغرائزه، فيَهُمُّ بفعلِ معصية، فلا يقع منه في الواقع فعلها، فيصبح موعوداً من الله بعذاب أليم، لمجرد أنه همّ بفعلها في المسجد الحرام. بينما الأمر بخلافه في أي مكان آخر من المعمورة. فالسلامة أن نقتصر على زيارتها - شرَّفها الله - بين الحين والآخر للحج أو العُمرة، فلا يطول بنا المقام إلاّ بقدر تأديتهما والإنتهاء منهما، فنسلم إن شاء الله تعالى من التعرُّض لسخط الله وغضبه.
هذه المحادثة الصغيرة شدَّتْنّي إلى طلب العلم حول هذه القضية، التي كثر الغافلون عنها ممن سكن مكة المكرمة، وجاور المسجد الحرام.
التمهيد
إنَّ موضوعاً يبحث في معنى الإلحاد، والظلم، وإرادتهما بأرض الحرم، وجوار المسجد الحرام، له خصائص تختلف في أهميتها، وماهيتها عن غيرها، مما يتعلق بمواضيع شرعية أخرى، وذلك لحرمة المكان بما يؤكده المولى جلّ وعلا في القرآن الكريم بأكثر من آية.
والقاطنون بمكة المكرمة من أهلها والوافدون إليها، يهمهم أكثر من غيرهم الوقوف على دقائق هذا الموضوع، وتفاصيله المختلفة، لمن شاء منهم أن ينجو من عذاب الله الأليم، بمعرفة أسبابه، ودوافعه.
فما معنى الإرادة؟ وما المراد بالإلحاد، والظلم في الحرم؟ وما المقصود بالحرم، وبالبيت الحرام، والمسجد الحرام؟.
فشرعت في سبيل ذلك أجمع الآيات من القرآن، والأحاديث النبوية، وأقوال المفسرين حولها، وأقوال أهل اللغة والتاريخ، والسِّيَر. وكان من الطبيعي أن أحدد المراد بالحرم. أهو المسجد الذي تقام فيه الصلاة بجوار الكعبة، البيت الحرام، وما يحيط به من جهاته الأربع من ساحات، وأروقة، ومرافق؟ أم هو كل ما دخل في حدود مدينة مكة المكرمة، البلد الحرام؟.(39/20)
ومن ثم يتبين المكان الذي يؤاخذ فيه الإنسان بإرادته المجرَّدة، ومضاعفة أجر الصلاة فيه إلى مائة ألف صلاة.
والحِلُّ يُطلق على خارج حدود الحرم، حيث المواقيت للحج والعمرة لمن أَمَّ البيت الحرام، فمن تجاوزها وقد تلبَّس بهما أو بأحدهما منها أو من بلده، فقد وجب عليه إتمامهما، والعمل بأحكامهما.
وتختلف المواقيت التي هي أبواب أرض الحرم قرباً وبعداً عنه، ليستعدَّ القادم إلى البيت الحرام من لتهيئةِ نفسه وحاله، بعد أن تجرَّد من المخيط، لتتجرد نفسه من أغراض الدنيا وشهواتها، وتُقْبِل على ربها مطمئنَّة راضية، تؤدي نسكها {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ/15] ، {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج / 29] .
ومكة المكرمة القرية الآمنة، كان نواتُها بعض أهل إبراهيم عليه السلام، أسكنهم بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، ودعا الله عز وجل أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ويرزقهم من الثمار - كل الثمار - فالسكنى كانت (عند) المسجد الحرام، وليست (فيه) مما يدل على أن موضع زمزم حيث ترك إبراهيم ابنه لم يكن من المسجد الحرام حينذاك بل بجواره، والله أعلم، واستجاب الله - عز وجل - لدعوة نبيه وخليله، فاستقر في ذلك المكان من العرب مَنْ بدد وحشة (هاجَر) ، وقوَّم لسان إسماعيل عليه السلام، حتى إذا شبَّ عن الطوق، أنكحوه منهم. ثم عاد الخليل عليه السلام يتفقد تركته، ويعلم من شأنهم ما جدّ عليه.
وكرر ذلك مراراً، حتى جاء أمر الله جلَّ وعلا، يأمرهما بإعادة بناء بيته الحرام بعد أن طمرته الرياح بالرمال، والسيول بالوحل والحجارة، على اعتبار أن الملائكة أول من شيده [2] ، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة / 127] .(39/21)
حتى إذا شيداه، وأتماّ بناءه توجها إلى ربهما بالدعاء: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة /128-129] .
ثم يمتنّ الله تعالى على عباده أن صيَّر بيته الآمن مثابة لهم يعودون إليه حيناً بعد حين، قال عز وجلّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة/125] .
وكلمة (الحرم) تشمل قرية مكة المكرمة، بمبانيها، وطرقها، ومرافقها العامة، تحيط بالمسجد الحرام، إحاطة السوار بالمعصم، وليست منه. قال عمر بن الخطاب لمن أبى أن يأخذ ثمن داره التي هدمها قرب المسجد الحرام لتوسعته، وتمنَّع من البيع، "إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل عليكم"فوضع أثمان دورهم في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد [3] غير أن لها ما يميزها عن سائر مدن الأرض وقراها على الإطلاق، ففيها يُنهى عن عضد الشجر بكل أنواعه إلا ما استثناه الشارع، وأن لا يُنفَّر صيدها مهما كان حجمه أو نوعه، وتقع الفدية على من فعل شيئاً من ذلك، ولا تحل لُقَطَتُها لواجدها مهما تطاول عليها الزمن [4] وأن يكون لها منشداً أبداً.(39/22)
و (البيت الحرام) أو (المسجد الحرام) و (الكعبة البيت الحرام) و (البيت) و (البيت العتيق) ، لا تأتي إلاّ مُعَرَّفَة، والمراد الكعبةُ نَفْسُها، وما يحيط بها من جهاتها الأربع إلى آخر ما يصل إليه موضع السجود للمؤتمَّ في صلاته بصلاة الإمام فيه، لا يفصل بينهما شيء من المرافق العامة أو الخاصة، وتكون الصفوف متصلة بحيث لو رآها الناس قالوا: الصفوف متصلة، وذلك عُرْفاً - حتى ولو امتدّت إلى أن تشمل قرية مكة كلِّها، فتكون أرض الحرم كلها مسجداً.
ولا يجوز للحائض، والنفساء، والجنب المكث فيه إلا عابري سبيل كشأن سائر المساجد الأخرى، ولا يطلب ذلك في غير المساجد.
وإذا أراد الله تعالى الإشارة إلى بيته المطهَّر بمكة وصفه بـ"الحرام"، وإذا أشار - جلّ وعلا - إلى غيره من المساجد لم يَصِفْهُ بتلك الصفة، كما قال تعالى عن مسجد بيت المقدس: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء/7] .
وعن مسجد المدينة قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة/108] .
ولا فرق بين جملة (المسجد الحرام) و (البيت الحرام) فالمساجد بيوت الله، وبيوت الله هي المساجد، وأمكن أن يُضاف البيت إلى اسم الجلالة فيقال: بيت الله الحرام، ولا يقال: مسجد الله الحرام، لأن المساجد لا تكون إلاَّ لعبادة الله وحده، ولا يُقبل عمل فيها إلاّ لله، وهي بمعنى السجود: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن/18] ، بينما البيوت تطلق على أماكن العبادة وغيرها.
وسمِّيت أرض مكة حرماً من أجل ما حُرِّم فيها من عضد الشجر وتنفير الصيد، وغيرهما مما اختصت به دون غيرها من بقاع الأرض، والحُرْمَةُ ما لا يَحِلُّ انتهاكُه، ويقال: هُوَ ذو مَحْرَمٍ منها، إذا لم يَحِلّ له نِكاحُها. وحَريم البِئْر وغَيْرِها: ما حولها من مرافقها، وحقوقها [5] .(39/23)
فقرية مكة: هي حريم المسجد الحرام، وهي له كسياج تحيط به، تحول بين هوانه ممن لا يعظمه في نفسه، ويعمل على إهانته، والنيل منه، بعبادة ربه بما لم يُشَرِّعه لعباده للتقرب إليه وطاعته، كالمشركين يعبدون الأوثان، ويستغيثون بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} فأولئك لو تمكنوا من دخول مكة - الحرم الآمن - لتمكنوا من دخول المسجد الحرام بطريقة أو بأخرى "كالراعي يرعى حول الحمى"، فقطعاً لدابر مثل هذا الاحتمال حُظِر عليهم دخول أرض مكة كلِّها، وبالتالي دخول بيت الله الحرام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة/28] .
وقد كان من المشركين أربابُ تجارة، يعتادون مكة بأصنافٍ منها، ينتفع بها المسلمون، الذين منهم من اغتمَّ عند نزول صدر الآية الكريمة، خشية الفقر عند انقطاع موارد الرزق، حتى إذا نزل عجزها اطمأنت نفوس المسلمين.
قال ابن حجر: والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام، ولو لم يقصدوا الحج، ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه، فيكون ما وراءه أولى بالمنع. والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله [6] .
وقرية مكة المكرمة لها طابع بيئي متميز، الجبال الشاهقة تحيط بها من جميع جوانبها، والأودية تتخلل تلك الجبال، وحتى موضع البيت الحرام في وادي غير ذي زرع تغمره مياه الأمطار، وقد أدَّت السيول إلى هدمه أكثر من مرة من تاريخ إنشائه. غلب على مناخِها طابع الحرارة الشديدة، ولا تكاد تُميَّز فروق الفصول الأربعة فيها.(39/24)
وأَقْدِر لمكة المكرمة بلداً يَسكُن حبها نفوسَ المسلمين، ولكن لا يسكنها إلاّ من سكنت إليها نفسه، واطمأنت بالإيمان غالباً. ومزاجها من السكان خليط، ومن العادات مختلف وجديد. يكاد لا يجمع بينهم من الروابط والعادات الاجتماعية إلاّ رابط التعلق ببيت الله الحرام، والتقرب إلى الله فيه.
تحسبهم جميعاً وفق ما ينبغي من تقوى لله، وورع، والتزام يليق بالجوار والجار، عظمة، وحُرمة، غير أنَّها بلد لم تُحصَّن – كغيرها - ضد الشيطان وجنده، فهم يجوبون طرقها، وأنديتها، ويستحوذون على بعض أفئدة سكانها بما يُزَيِّنونه من مسائل، ووسائل تغوي السفهاء، فتكاد المعاصي فيها من مرتكبيها تتشابه بالمعاصي في غيرها من المدن الأخرى.
ولكن يبقى للمسجد الحرام في مكة المكرمة ما يُميزه عن أي بقعة من بقاع الأرض، ذلك هو مؤاخذة من أراد فيه الإلحاد والظلم، - مجرد الإرادة -، بعذاب أليم، وفي غيره يستوجب الفاعل لهما العقوبة بمباشرته الحدث ووقوعه منه فعلاً وقصداً، لا بمجرد أن يهمَّ بذلك هماً دون الإلمام به، ولا تخلو نفس بشرية - إلاّ من رحم - من الهمِّ بفعل يعتبره الشارع معصية يستحق فاعلها عقوبة في الدنيا أو في الآخرة إذا تحقق فعلها منه، وفي الحديث عن ابن عباس يرفعه: "ما مِنْ أَحدٍ مِنْ وَلَدِ آدم ألاّ قد أَخْطأ أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا" [7] .
وخواطر الإنسان، وأفكاره، وهواجسه لا تقف عند قَدْرٍ، ولا تحدها حدود، فلا يشعر الإنسان إلاّ وقد حلَّقت به أفكاره بعيداً عن مكان وجود بدنه، ويتصور، ويتخيل شتى الصور والخيالات، المألوفة، وغير المألوفة، المباحة، وغير المباحة.(39/25)
وقد تُحَرِّك في نفسه بعض تلك الصور المُتَخَيَّلَة نوعاً من الرغبة في نيلها، والاستمتاع بها، فيتدرج مع خياله في سبل تحقيقها حتى يكتمل في ذهنه مُحققاً، وواقعاً ملموساً، قد ذلل بقدرته على التصور كل العقبات المحتملة دونه، فينزع إلى التنفيذ ويهم بالمباشرة، وتبرز عندئذٍ (الإرادة) فيْصَلاً بين التنفيذ أو الإحجام.
فإن هو سعى في طلب ما نزعت إليه نفسه بنيَّة تحقيقه، في قوة مركَّبة من شهوة، وخاطر، وأمل، واتخذ حيال ذلك الوسائل، والوسائط، والسبل، وأجرى في نفسه مشهداً تجريبياً، تجري فصوله مثال الواقع، فاستهواه واستساغه، وشجعه بجعله واقعاً ملموساً، فهو قد أراد إرادة أكيدة في تحقيق ونيل ما سعى إليه، وتسمى تلك الإرادة المؤكدة (عزيمة) ، فإن تم له ما أراد تقرر في حقه الثواب أو العقاب، وإذا حال دون تحقيق إرادته مانعٌ لا يقوى على تذليله، وبقيت معه تلك الإرادة المؤكدة تراوده إلى فعل ما أراد حال تمكُّنه، يسمى فعله ذلك إصراراً يؤاخذ عليه في الحرم، والإصرار هو: "الإقامة على الذنب، والعزم على فعل مثله" [8] .
وإذا منعه من تحقيق ما أراد مانع من نفسه، كخوفه من الله، وخشيته من العاقبة، وكان قادراً على الاسترسال في طلب مراده، وتحقيق ما أراد، فاستغفر ربه وأناب، فكأنَّه في هذه الحالة لم يصدر عنه شيء البتَّة، بل يثاب على تركه المعصية - وقد كان قادراً على فعلها - خوفاً من الباري جلّ وعلا.
روى النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً عن ربه جلّ وعلا أنه قال: "إذا أراد عبدي أن يعْمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثِلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة" [9] .(39/26)
والحديث - والله أعلم - لم يفرق بين من أراد السيئة في المسجد الحرام، ومن أرادها خارجه، ولكن إن ترك فعل السيئة أو المعصية بعد تمكنه من فعلها، خوفاً من الله فإنَّه يثاب، ولا يؤاخذ بما همَّ به في غير المسجد الحرام.
قال المحاسبي: "أما الهمّ الموضوع فهو التَروية إذا خطرت المعصية أيفعلها أم لا؟ فهو يميل بين الفعل والترك، فلا يُكْتَب عليه شيء حتى يصير إلى أحدهما، فإن صار إلى العَقْد زال عنه الهمّ.
وإن هو صار من الهمِّ إلى الترك صار إلى الطاعة، وكتبت له حسنة، وإذا همّ بفعل حسنة من النفل كتبت له حسنة، فإذا عقد عليها كُتبت له عشراً، فإذا همَّ بحسنة من الفرض أيفعل أو لا يفعل؟ فليس ذلك من حسنة إنما الهمُّ بالحسنة هو الهمّ بالنفل" [10] .
وقال الخطابي: "محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يُسمى تاركاً إلاّ مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع، كأن يمشى إلى امرأة ليزني بها - مثلاً - فيجد الباب مغلقاً، ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا - مثلاً - فلم ينتشِر، أو طَرَقَه ما يخاف من أذاه عاجلاً [11] . والله أعلم.
الفصل الأول
الحدود والفروق بين الحرم والمسجد الحرام
المبحث الأول: حدود مكة المكرمة، ومواقيت حرمها الأربعة(39/27)
من الشمال من طريق المدينة المنورة دون التنعيم [12] ، عند بيوت نِفَار ثلاثة أميال. ومن الجنوب من طريق اليمن، طرف أضاة لَبَن على ستة أميال. وأضاة لبن، سميت كذلك لأن الجبل [13] المطل عليها يقال له: (لَبَن) بالتحريك، وقيل: بكسر اللام وإسكان الباء، (والأَضَاة) خَبْتٌ يجتمع سيل وادي مكة فيه، على وزن فتاة. ومن الغرب طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال. و (الأعْشَاش) منطقة رملية تقع بين الحديبية وبين سلسلة جبال (المُرَيْر) و (الجوف) ، ويخترقها طريق جدة القديم. وأنصاب الحرم قبل الحديبية [14] بكيل ونصف، ومن الجنوب الشرقي من طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلاً. ومن الشمال من طريق العراق على ثَنيَّة خَلٍّ بالمُقَطَّع [15] ، على سبعة أميال.
و (ثنيَّة خل) يقال لها أيضاً: (خلِّ الصِفَاح) نسبة إلى أرض الصِفاح، وهي أرض بيضاء واسعة تقع ضمن (المغْمس الأفيح) [16] . أقول: تُسمى اليوم: الشرائع السُفلى، أو قرية المجاهدين.
ومن الشرق من طريق الجِعْرانة في شعب عبد الله بن خالد بن أُسيد [17] ، على تسعة أميال.
وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: نصب إبراهيم أنصاب الحرم، يُريه جبريل عليه السلام، ثم لم تُحرَّك حتى كان قُصَي فجددها، ثم لم تُحرَّك حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجدّدها [18] ، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب فبعث أربعة من قريش فجددوها: مخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وحُويطب بن عبد العُزى، وأزهر بن عبد عوف، ثم جدَّدها معاوية، ثم أمر عبد الملك بتجديدها. وقيل: أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشياطين، فاستعاذ بالله، فأرسل الله تعالى ملائكة حَفَّوا بمكة من كل جانب، ووقفوا حواليها، فحرّم الله تعالى الحرم حيث وقفت الملائكة [19] .(39/28)
وأما عن المواقيت المكانية ففي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة [20] ، ولأهل الشام الجُحْفَة [21] ، ولأهل نجد قَرْنَ المنازل [22] ، ولأهل اليمن يَلَمْلَمْ [23] ، وقال: "هنَّ لهن ولكل آتٍ عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة يُهِلون من مكة" [24] .
قوله: "حتى أهل مكة يهلون من مكة"، قال المحب الطبري: هذا في الحج بالإجماع.
أما العمرة فلا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة في حق المكيِّ، بل عليه أن يخرج من الحرم إلى أدنى الحِلِّ، لأمره صلى الله عليه وسلم عائشة أن تخرج إلى التنعيم [25] عندما أرادت العمرة بعد الحج.
وعن ابن عمر قال: لما فُتح هذان المصران (البصرة والكوفة) ، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجدٍ قَرْناً، وهو جَوْر عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرْناً شق علينا، قال: "فانظروا حْذوها من طريقكم"فحدّ لهم ذات عِرْق [26] .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المشرق العقيق [27] ، و (العقيق) قريب من ذات عرق، قبلها بمرحلة أو مرحلتين، وكل موضع شقَّه ماء السيل فوسَّعه فهو عقيق [28] .
المبحث الثاني: حدود المسجد الحرام
قال صلى الله عليه وسلم لقريش: "قفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم" [29] .
وعن أبي ذرٍ قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟، قال: "المسجد الحرام".
قلت: ثم أَيّ؟.
قال: "المسجد الأقصى".
قلت: كم بينهما؟.
قال: "أربعون سنة، ثم أين أدركتك الصلاة بَعْدُ فصلَّ فإن الفضل فيه" [30] .
قال المحب الطبري:(39/29)
"إعلم أن المسجد الحرام كان صغيراً، ولم يكن عليه جدار، وإنما كانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية، فضاق على الناس المسجد فاشترى عمر بن الخطاب دوراً فهدمها، وأدخلها فيه، ثم أحاط عليه جداراً قصيراً، ثم وسع المسجد عثمان بن عفان فاشترى من قوم، ثم زاد ابن الزبير فيه، واشترى دوراً، وأدخلها فيه" [31] .
لعل من الملاحظ أن حدود المسجد الحرام على مرِّ العصور لم تتسم مساحتها بالثبات، مما يحيط بالكعبة المشرفة من أروقة، وساحات، ومرافق، بل بالإتساع، والزيادة، والتضعيف خلال أزمنة مختلفة متفاوتة، وذلك لكثرة الوافدين إلى البيت، والآمّين له عاماً بعد عام من شتى صقاع الأرض، خاصة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أعقب ذلك من فتوحات للبلدان المجاورة والبعيدة عن جزيرة العرب واتساع رقعة الإسلام، وكثرة من اعتنقه من الأمم الأخرى.
وكان للكوارث التي حلت بالبيت الحرام، من اجتياح السيول وما نتج عنه من هدم، وغرق، وما أصابه من حريق عند إصابته بالمنجنيق، وتصدع لبعض أركانه، وجوانبه لتطاول العهد عليها، الدافع القوي لدى ولاة الأمر لإصلاحه، وترميمه، وحماية جوانبه من تكرار ما حلّ به من كوارث، وكان يواكب تلك الإصلاحات في الغالب إضافة مساحات جديدة إلى مساحته القديمة.
وكان يتسابق الملوك، والخلفاء، والولاة على العناية بالمسجد الحرام لينالوا بذلك شرف خدمته، تقرباً إلى مولاهم جلّ وعلا.
ويقول المؤرخون [32] : إن أولّ من قام بتوسعة المسجد الحرام هو:
الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب: سنة سبع عشرة من الهجرة، فقد كانت مساحته في زمن قريش: ألفين ومائة وستة وعشرين متراً مربعاً، فبلغت بعد زيادة عمر رضي الله عنه: ثلاثة آلاف وسِتُّ مائة وثلاثة عشر متراً مربعاً.(39/30)
ثم تلاه خليفته ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه: سنة ستة وعشرين من الهجرة، وأحدث زيادة في مساحة المسجد الحرام، قدرها: ثمان مائة وتسع وستون متراً.
وتلاه عبد الله بن الزبير: سنة خمس وستين من الهجرة فأضاف إلى المساحة القديمة: ألفين وتسع مائة وثلاثة وثمانين متراً مربعاً.
ثم أضاف الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك: سنة إحدى وتسعين من الهجرة إلى مساحة المسجد الحرام: ألفين وثمان مائة متراً مربعاً.
وأما في العهد العباسي فقد أضاف الخليفة أبو جعفر المنصور: سنة سبع وثلاثين بعد المائة الأولى من الهجرة: خمسة آلاف ومئتين وواحداً وعشرين متراً مربعاً.
وفي عهد الخليفة محمد المهدي: سنة إحدى وستين ومائة بلغت الزيادة: إثنى عشر ألفاً وخمس مائة واثني عشر متراً مربعاً.
ثم أضاف المعتضد: سنة أربع وثمانين ومئتين من الهجرة: ألفاً وثلاث مائة وتسعاً وثلاثين متراً مربعاً.
وأخيراً أضاف الخليفة المقتدر: سنة ست وثلاث مائة من الهجرة: سبع مائة وأربعة عشر متراً مربعاً.
فبلغ ما أضيف إلى المسجد الحرام من زيادات منذ عهد عمر بن الخطاب إلى عهد الخليفة المقتدر، بالإضافة إلى ما كانت عليه مساحته أيام قريش قبل البعثة، أكثر من ثلاثين ألف متراً مربعاً.
وبقيت مساحة المسجد الحرام ثابتة منذ عهد الخليفة العباسي المقتدر إلى عهد الحكم السعودي في دولته الثالثة، فقد شرع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل يرحمه الله في مشروع كبير لتوسعة المسجد الحرام، وذلك سنة ثلاث وسبعين وثلاث مائة وألف من الهجرة، ووافاه الأجل في السنة نفسها - يرحمه الله - وتولى الأمر بعده ابنه الملك سعود يرحمه الله ومضى في تنفيذ وإتمام ما بدأه والده.(39/31)
ولما انتقلت الولاية للملك فيصل بعد أخيه - يرحمهما الله - واصل تنفيذ وإتمام توسعة المسجد الحرام على أكمل وجه، وأحسنه، وتم ذلك سنة ست وتسعين وثلاث مائة وألف، واستغرق تنفيذ المشروع عشرين عاماً.
فبلغت مساحة المسجد الحرام بعد إتمام التوسعة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز - يرحمه الله -: إحدى وخمسين ومائة ألف مترٍ مربعٍ، وتعرف هذه التوسعة بالتوسعة السعودية الأولى.
وفي العام التاسع بعد الأربع مائة والألف من الهجرة بدأت التوسعة السعودية الثانية، التي تعرف اليوم بتوسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وتمت في العام الثاني عشر بعد الأربع مائة والألف من الهجرة، فأصبحت مساحة المسجد الحرام، مع ما يحيط به من ساحات تزيد على ثمان وعشرين وثلاث مائة ألف متر مربع [33] .
وحول مسألة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما نص عليه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء/1] ، وقع ما يمكن أن نسميه إلتباساً في الفهم، حول المكان الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وذلك لورود نوعين من الأحاديث: أكثرها تنص على أن الإسراء تم من المسجد الحرام [34] ، والأخرى تنص على أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيت أم هانئ [35] عندما آتاه الملائكة، وشقّ جبريل عليه السلام عن صدره، وبيت أم هانئ حينذاك كان خارج المسجد الحرام.(39/32)
وفي حديث لأنس بن مالك عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فُرٍج عن سقف بيتي وأنا بمكة [36] …" وساق الحديث… وبيته كان في الشعب فأخذ الذين يقولون بأن مكة غير المسجد الحرام في مضاعفة المثوبة أو العقاب والأخذ بالإرادة قبل التنفيذ بالأحاديث الدّالة على أن الإسراء إنما كان من المسجد الحرام.
وأخذ الذين قالوا: بأن لا فرق بين أرض مكة والمسجد الحرام في مضاعفة الثواب أو العقاب، والأخذ بالإرادة من الإنسان على فعل المعصية، قبل فعلها منه، إلى حديث أم هانئ عند الحاكم وغيره، وإلى حديث البخاري في كتاب الصلاة.
قال ابن حجر: "وإن كان مختلفاً في (الحطيم) هل هو الحِجْرُ، أم لا؟ لكن المراد بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها.
وقد تقدم في أول بدء الخلق [37] بلفظ: "بينا أنا عند البيت"وهو أعم، ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر [38] : "فُرج سقف بيتي وأنا بمكة"، وفي رواية الواقدي [39] بأسانيده أنه - صلى الله عليه وسلم - أُسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: أنه - صلى الله عليه وسلم - بات في بيتها، قالت: "ففقدته من الليل، فقال: لها "إن جبريل أتاني".
والجمع بين هذه الأقوال أنه - صلى الله عليه وسلم - نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم، - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان مضطجعاً، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.
وقد وقع في مراسيل الحسن عند ابن اسحاق: أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع [40] .
المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم
أولاً - مكة المكرمة:(39/33)
تقع في الجهة الغربية من شبه الجزيرة العربية، غربي مدينة الطائف، وشرقي مدينة جدة، وجنوبي المدينة المنورة، وهضبة نجد. وبطن مكة ليس فيه ماء، ولم يكن لأحد فيه قرار. بدأت أهميتها للمسلمين بلداً مقدساً منذ أن أسكن فيها إبراهيم إبنه إسماعيل - عليهما السلام - مع أمه (هاجر) بأمر من الله. وقول الله تبارك وتعالى على لسان إبراهيم - بعد أن ترك أهله وأراد العودة إلى الشام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم 37] .
فقوله تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وصف مميز لطبيعة أرض مكة المكرمة الجغرافية، فالوادي ممر تجري فيه سيول الأمطار، وكونه (غير ذي زرع) دليل على عدم صلاح تربة جانبيه للزرع، ولوجود الصخور والأحجار المتناثرة فوقه، ولعدم ملائمة جوه الحار الجاف لانبات كثير من أنواع الشجر، والزروع التي تحتاج إلى رطوبة الجو، وغزارة المياه لكي تنمو وتعطي ثمارها. فالموقع الذي اختاره الخليل عليه السلام لأهله لا يختاره إنسان بإرادته ومعرفته البشرية، لخلوه في الظاهر من أكثر عناصر الحياة أهمية للإنسان وهما: الماء والغذاء. مما يدل على أن الله جل وعلا بعلمه وحكمته، اختار له ذلك المكان ليترك أهله، ويعود من حيث أتى وهو مطمئن على مصيرهم لثقته برعاية الله لهم، وله معاً.
لذلك عندما أوقفته (هاجر) وسألته: إن كان الله هو الذي أمره بتركهم في هذا المكان المقفر، أجاب: نعم. قالت: إن الله لن يضيعنا [41] .
وأنبط الله ماء زمزم، حيث وضع الفتى - عليه السلام - جرى ماءً غَدَقاً، فرحت به الأم المتعبة، فأخذت تحوطه بيديها كي لا يضيع في التراب، شفقة منها، ولهفة عليه. فسقت، وأسقت واطمأنت، وخلتْ.(39/34)
ومر بهما نفر من جرهم، اعتادوا اجتياز هذا الوادي المقفر، ولم يعهدوا فيه ماء، ولا طيراً تحوم حوله. وقد شدهم رؤية طير فوقهم صافات ويقبضن، فبعثوا بأحدهم يستجلي الأمر، حتى إذا وقف على هاجر، ورأى الماء عندها، سألها المشاركة فيه، فأبت عليهم ذلك إلا أن يكون أمر الماء إليها، فوافق ذلك هوى في نفوسهم، وهوت أفئدتهم إليها فحطوا عن رحالهم، وأقاموا مشكِّلين بذلك النواة الأولى لمجتمع مكة المكرمة، مما مكن إسماعيل عليه السلام عند نشأته، وفي نشأته من تعلم لغتهم، وفنونهم في الفروسية، حتى إذا شب عن الطوق زوجوه منهم.
وأخذ الخليل عليه السلام يعاود زيارة تركته في ذلك المكان، مرة بعد مرة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة 26] .
ولم تزل أرض مكة حرماً آمناً منذ خلق الله السموات والأرض. وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط، وأن يرزق أهلها من الثمرات [42] .
ثم يمضي الله - جل وعلا - في مشيئته، تحقيقاً، وتثبيتاً، فيأمر خليله وابنه إسماعيل، عليهما السلام - برفع قواعد بيته المندثرة، وبنائِه للمرة الثالثة بعد بناء الملائكة، وآدم عليه السلام. قال تعالى يصف فعلهما: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة 127] .(39/35)
وكان ذلك كما بينه الله تعالى في كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران 97] .
فالأمن لمن دخله، عرض مغر لأولئك الذين يعيشون الخوف في مجتمعاتهم لا يأمنون على شيء مما يملكون. فإذا اجتاز حدود الحرم إليه استشعر الأمن لنفسه من نفسه، فإن وجد من يعكر صفو ذلك الأمن في المسجد الحرام فذلك من الإلحاد والظلم فيه، عندها يذقه الله من عذاب أليم.
ويأمر الله جل وعلا خليله عليه السلام، بدعوة الناس إلى حج بيته الحرام طلباً لمغفرته {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج /29] .
ومنذ ذلك النداء الخالد أصبح لمكة المكرمة - قرية المسجد الحرام - مكانة قدسية راسخة في عقول العباد، ونفوسهم على مدى العصور والأزمان، يؤمون كعبتها بقدر كبير من الخشوع، والتعظيم، حتى إذا أشرق نور الإسلام، وبعث الله محمداً بالفرقان، أكد - تعالى - وجوب قصد البيت الحرام على كل مسلم مرة في العمر، عند استطاعته ذلك: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران/97] .(39/36)
وأقسم تعالى في كتابه العزيز بالبلد الأمين: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/1-2] . وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين/1-3] .
وورد في القرآن الكريم ذكرها في أكثر من آية، وبأكثر من اسم، فهي (البلد) ، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا} [إبراهيم/35] .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا} [البقرة/126] .
والبلد في اللغة: صدر القُرى.
وهي (البلدة) في قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل/91] .
وهي (أم القرى) في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى/7] .
وهي (بكة) في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران/96] .
وقال عكرمة، ومقاتل بن حيَّان:
البيت وما حوله (بكَّة) وما وراء ذلك (مكة) [43] .
وهي (القرية) في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد/13] .
والقرية: اسم لما يجمع جماعة من الناس، من قولهم: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه. وهي خير وأحب الأرضين إلى الله قال صلى الله عليه وسلم: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" [44] .(39/37)
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه التَفَتَ إلى مكة، وقال: "أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك" [45] .
وهي (مكة) كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح/24] .
وهي (الحرم) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص/57] .
وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت/67] .
قال ابن كثير: "أخبر الله عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى، حيث قالوا لرسوله: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا مِن أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، قال الله تعالى مجيباً لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد آمن، وحَرَمٍ معظَّم، آمِن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمِناً لهم في حال كفرهم، وشركهم، ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا، وتابعوا الحق [46] ؟
قال الأزهري: "فإن قيل: كيف يكون حرماً آمناً وقد أخيفوا، وقُتِلوا في الحرم؟، فالجواب بأن الله عز وجل جعله حَرَماً آمناً أمراً، وتعَبُّداً لهم بذلك لاإجباراً فمن آمن بذلك كفّ عما نُهي عنه اتباعاً، وانتهاءً إلى ما أمر به، ومن ألحد وأنكر أَمْرَ الحرمِ وحُرمَتَهُ فهو كافر مباح الدم، ومن أقرَّ وركب النهي فهو فاسق [47] .
ثانياً: المسجد الحرام(39/38)
نصت أكثر آيات الكتاب الكريم على تسميته بالمسجد الحرام، كما في سورة:
البقرة الآيات: (144، 149، 150، 191، 196، 217)
والتوبة الآيات: (2، 7، 19، 27)
والأنفال الآية: (34)
والإسراء الآية: (1)
والحج الآية: (25)
والفتح الآيتان: (25، 27)
و (الحرام) ضد (الحلال) ، و (أحرم) الرجل بالحج والعمرة لأَنَّه يَحْرُمُ عليه ما كان حلالاً من قبل كالصيد، والنساء.
و (المسجد الحرام) عَلَمٌ على المسجد الذي بداخله الكعبة المشرفة، بيت الله. وكذلك (البيت الحرام) [48] ، و (بيتك المحرم) [49] ، و (البيت العتيق) [50] ، و (البيت) [51] ، و (البيت المعمور) [52] و (بيتي) [53] .
عند تتبع الآيات الواردة في الكتاب الكريم التي تصف مكة المكرمة، والأخرى التي تصف بيت الله المسجد الحرام، يظهر بجلاء الفرق بين الموضعين، فمكة المكرمة قرية تضم الدور، والشوارع، والميادين، والشجر، والحجر، وكل ما يحتاجه الإنسان من مرافق كالأسواق، والمساجد، والسجون، والشُرَط، وأصحاب الحرف، كالحدادين، والنجارين، والبُناة، والخبَّازين، والتُجار، إلى غير ذلك من الأمور التي تكون في القُرى، والمدن العامرة بالسكان.
والمسجد الحرام: الذي يضم في جنباته الكعبة المشرفة، ومقام إبراهيم، وحجر إسماعيل عليهما السلام، وبئر زمزم، والركن اليماني، والحجر الأسود، وما يحيط بكل ذلك من ساحات، وأروقة، وما ينتظم فيها من صفوف المصلين خلف إمام واحد مهما اتَّسعت دائرة المصلِّين حول البيت المعمور، وما استحدث ويستحدث من ساحات حول المسجد الحرام تكتظ بالمصلين عند كثرة الآمِّين للمسجد الحرام في موسم الحج والعمرة وغيرهما.
فإذا اتصلت الصفوف من هناك إلى حيث من يؤم المصلين فهو من المسجد الحرام، عيناً، وحكماً.
بعد ذلك ندرك أن لكل منهما وصفاً قائماً بذاته، وخصوصيته ثابتة لا تجوز على أحدهما بدل الآخر، أو يشتركان فيه.(39/39)
جاء في الأثر عن ابن عمر قوله: إن الله - عز وجل - اختار الكلام فاختار القرآن، واختار البلاد فاختار الحرم، واختار الحرم فاختار المسجد، واختار المسجد فاختار موضع البيت [54] .
والكعبة من المسجد قِبْلة المسلمين أينما وجدوا، وحيث ما حلوا تنفيذاً لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة/144] ، وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة/150] .
قال الإمام الشافعي: (شطره) جهته في كلام العرب، وكذلك (تلقاءه) أي: استقبل تلقاءه، وجهته.
قال خفاف بن نُدْبَة [55] :
ألا مَن مُبْلغٍ عمراً رسُولاً وما تُغْنى الرسالةَ شطْر عمْرو
وهذا كله مع غيره من أشعارهم يُبيِّن أن شطر الشيء: قصدَ عين الشيء، إذا كان مُعَايناً فبالصواب، وإذا كان مُغيَّباً، فبالإجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه [56] .
إذاً كلما كان المسلم يرى الكعبة بعينه المجرّدة، فلا يجزئه عند الصلاة إلاّ استقبال عينها، كما لو كان قذيفة أُطلقت من مَدْفَعٍ نحو الكعبة، وكلما بَعُدَ عن مركز البيت الحرام اتسعت جهة القبلة إليه، كوضع (الفرجار) يكون طرفاه مُتطَاَبِقين، ثم يأخذ كل طرف يبتعد عن مركز الدائرة حتى تصل الزاوية بينهما إلى (180ْ) درجة.
فمن صلّى في المسجد الحرام استقبل عين الكعبة، ومن كان بمكة استقبل جهة المسجد الحرام، ومن كان خارجها استقبل جهتها، ومن كان خارج جزيرة العرب اتجه نحو جزيرة العرب [57] .(39/40)
والكعبة البيت الحرام منذ إنشائها إلى أن ترك إبراهيم الخليل عليه السلام بعض أهله في موضع قرب البيت العتيق، لم يستقر حولها من السكان أحد - والله أعلم - وبعد دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، وبعد أن نبع زمزم، وأعاد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بناء الكعبة، تقاطر الناس نحو مكة وازداد تقاطرهم بعد أذان الخليل فيهم بالحج بأمر من الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج/27] .
ومع كثرة الوافدين إلى المسجد الحرام أصبح من الضروري أن يجد هؤلاء الوافدون أماكن لطعامهم، وشرابهم، وقضاء حاجاتهم، ونومهم وسائر حاجاتهم الأخرى خارج المسجد الحرام الذي لا تجوز فيه إلاّ أمور العبادة من صلاة، وذكر، وتلاوة قرآن، وطواف [58] ، ولقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة/125] .
فانتشرت حول المسجد الحرام الأماكن الخاصة، والعامة، والدور، والأزقة، والمرافق العامة والخاصة، وهذا مما جعله الله تعالى للإنسان في الأرض، وأمتنَّ به عليه، قال جلّ ذكره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً…} [النحل/80] ، تأوون إليها وتستترون بها، وتنتفعون، مما شكَّل حول المسجد الحرام من جهاته المختلفة ما يشبه القرية المأهولة بالسكان الذين هوت أنفسهم إلى بيت الله الحرام، فآثروا الجوار بالاستقرار فعُرفوا بعد ذلك بأهل الله [59] ، فأصبح للقرية حُرمة مستمدة من حُرمة البيت الحرام، أكَّد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إذ قال: "إن هذا البلد حرّمهُ الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحُرمة الله عز وجل إلى يوم القيامة…" [60] .(39/41)
وهو ما يدل على أن هذه البقعة من الأرض محرمة عند الله منذ خلق السموات والأرض، فكان من الأسباب والمسببات بعد ذلك ما جعل من تلك البقعة المباركة موضعاً لبيته الحرام: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين…} [آل عمران/96] .
ثم أن الله تبارك وتعالى جعل البيت موضعاً يُرجع إليه مرة بعد أخرى قال جلّ ذكره: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً…} [البقرة/125] .
و (ثاب) الناس: اجتمعوا، وجاءوا [61] .
وشعر كل من جاور المسجد الحرام - أو هكذا يجب أن يكون - بحرمته، وعظمته، ورضي العيش بمكة - قرية المسجد الحرام - كل من عايش في نفسه حب الخير، وكراهة المعصية، وكان للعبادة في حياته الجانب الأهم.
ومنهم من أخذ على نفسه ترويضها على الطاعة، متأثراً بمن حوله في المجتمع، فأصبح الطابع المميز لأكثر سكان مكة المكرمة الرغبة في الطاعة، والإستزادة من فعل الخيرات، مما أكسبهم محبة غيرهم من الوافدين عليهم، أو بلغته أخبارهم، فأصبح مجتمع مكة مجتمعاً آمناً كما قال تعالى ممتنا، ومُبكِّتاً لبعض أهله الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم حينذاك، معللين ذلك بخوفهم من جيرانهم اليهود والنصارى أن يتخطفوهم إذا آمنوا، واتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا عنهم تجارتهم. وهي حجة واهية فالأمن لجيران المسجد الحرام أمر واقع، وملموس منذ عهد إبراهيم عليه السلام، وكان محفوظاً بحفظ الله له رغم ما أدخله بعض العرب فيه من عبادة الأوثان، فهل يأمنون وهم مشركون، ويخافون إذا هم آمنوا؟!
إنها دعوى باطلة، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص/57] .(39/42)
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت/67] .
وقال تعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش/1-4] .
وإذا أسقطنا الأفعال المشينة التي خالف فيها مجتمع مكة القديم، أوامر الله بطاعته، وتوحيده، واجتناب نواهيه، وسببه ما طرأ على أهلها من شرك، ووثنية، فإنا نجده مجتمعاً يجنح أهله ويحرصون على فعل الخير، وإشاعته حفاظاً على مصالحهم، ومكانتهم المقدسة عند جيرانهم لكونهم جيران بيت الله الحرام.
فقد تحالف أهله في وقت من الأوقات على نصرة المظلوم، وكفّ يد الظالم، على شكل معاهدة ومُعاقدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، مثل: حلف المُطيِّبين، وحلف الفضول، وأنشأوا دار الندوة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلف المُطَّيَّبين مع عمومتي، وأنا غلام، فما أُحب أن لي حٌمر النَّعم وأني أنكثه" [62] ، وكان بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيمٌ قد اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جَفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، فسموا المطيِّبين [63] .
وكذا حلْف الفضول عندما تداعت قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العُزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مُرة، فتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تُردُّ عليه مظلمته [64] .(39/43)
وأما دار الندوة فهي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور [65] . وكان بينهم من تكفل برفادة الحجيج وآخر بسقايته قال السهيلي: "كانت الرفادة خرْجاً تُخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قُصي بن كِلاب فيصنع به طعاماً للحاجِّ فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وخطب فيهم قائلاً: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله، وزوّار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة" [66] .
وقال أبو طالب:
وكُنَّا قديماً لا نُقِرُّ ظُلامةً
إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقِيمها [67]
وهم بذلك قد استشعروا حرمة المكان من حرمة الجوار.
وحتى عندما أشرك من أشرك من أهل مكة لم يسقطوا من حسابهم تلك المهابة لبيت الله الحرام، وما وضعه بعضهم من أصنام حول الكعبة، إنما هو وسيلة - بزعمهم - تقربهم إلى رب البيت، كما أشار قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر/3] .
المبحث الرابع: حاضروا المسجد الحرام
قال الله تعالى: {.. ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي} [البقرة/196] .
(حاضري) مادتها (حَضَر) ، و (الحَضَر) بفتحتين خلاف البدو، وهم الذين يسكنون القُرى، والمدن، والأرياف، لا يبرحونها إلاَّ ليعودوا إليها، والبدو لايستقرون في مكان إلاّ بقدر ما يجدون الماء والكلأ ثم يرحلون إلى أماكن أخرى طلباً لهما، فالتنقل من سمات حياتهم.
وفلانٌ (حاضر) بموضع كذا، أي: مقيم به [68] .(39/44)
و (حاضروا المسجد الحرام) هم الناس من الحَضَر الذين تقع مساكنهم داخل حدود الحرم إلى المسجد الحرام، "ممن هو حوله ممن بينه، وبينه من المسافة مالا تقصر إليه الصلوات" [69] .
وقد جاء ذكر حاضري المسجد الحرام في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة/196] .
قال ابن كثير: "شرع تعالى في بيان المناسك بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، واتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، وإتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات. والآية نزلت حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت عام الحديبية.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات" [70] .(39/45)
وقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أي: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أوطانكم، روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر قال: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، فأهلّ بعمرة ثم أهلّ بالحج فتمتعّ الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصِّر، وليحللِّ ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" [71] .
قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، قال الطبري: اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، بعد إجماعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم [72] .
ومعنى لا يتمتع أهلها أي: لا يتمتعون بالعمرة إلى الحج، والتمتع أحد نسك الحج الثلاثة: القِران، والإفراد، والتمتع.
ولم يُلْزَمُوا بذلك لكونهم من حاضري المسجد الحرام، ومن رغب الحج منهم يُهِل من بيته، قال قتادة: "ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة لامتعة لكم، أُحلت لأهل الآفاق، وحرِمت عليكم، إنما يقطع أحدكم وادياً - أو قال: "يجعل بينه وبين الحرم وادياً - ثم يُهل بعمرة" [73] .
وعليه فمن جاء من أهل الحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل فهو متمتع لا دم عليه. ومن أحرم قارناً لا يطرح إحرامه حتى يتحلل التحلل الأول في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، بعد رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير من شعره، ولا دم عليه.(39/46)
والقرى حاضرة المسجد الحرام التي لا يتمتع أهلها منها:
1 - المُبَطَّنَة: وقيل المطمئنة بمكة المطلة عليها نخلتان.
قال البلادي: "تسمى اليوم المضيق، تبعد خمسة وأربعين كيلاً عن مكة المكرمة على طريق حاج العراق القديم [74] .
2- مَرُّ الظهران: تسمى اليوم الجموم، أو وادي فاطمة، تبعد ثمانية عشر كيلاً عن عمرة التنعيم" [75] .
3- عُرنَة: قال البلادي: "هي الوادي الفحل الذي يخترق أرض المغمس، فيمر بطرف عرفة من الغرب عند مسجد نمرة، ثم يجتمع مع وادي نعمان، غير بعيد من عرفة، ثم يأخذ الوادي اسم عُرنة فيمر جنوب مكة على حدود الحرم [76] .
4- ضجنان: بالتحريك، حرة شمال مكة المكرمة على مسافة أربع وخمسين كيلاً على طريق المدينة المنورة، تعرف اليوم بحرَّة المحسنية [77] .
5- الرجيع: بفتح الراء وكسر الجيم وآخره عين معجمة - ماءٌ يعرف اليوم باسم الوطيَّة، يقع شمال مكة المكرمة على قرابة سبعين كيلاً، قبيل عُسفان إلى اليمين [78] .
6- فجٌّ: من قرى معبَّد بن حرب بمنطقة الجموم [79] .
7- وذي طوى: وادٍ من أودية مكة المكرمة، يسيل في سفوح جبل أذاخر والحجون من الغرب [80] .
8 - جبل التنعيم: قال أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم، متسلحين يريدون غَرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سَلماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [81] [الفتح/24] .
9 - الحديبية: قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم [82] ، ونقل ابن حجر عن العُتْبِية قول مالك: والحديبية من الحرم [83] .
--------------------------------------------------------------------------------(39/47)
[1] رواه البخاري في صحيحه من كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
[2] قال ابن كثير في تفسيره (1/302) : "وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة، وقيل آدم".أ. هـ. وانظر البداية والنهاية (1/16 (3) 166) . وانظر تفسير القرطبي للآية (127) من سورة البقرة (2/12) ، وتفسير البغوي عند تفسير الآية نفسها (1/149) وانظر: تاريخ الكعبة المعظمة لحسين عبد الله باسلامه (ص4) ط2 سنة 1384هـ.
[3] انظر "شفاء الغرام "للفاسي (1/224) ، رواه عن الأزرقي عن جدِّه قال: أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج، وانظر "تاريخ الأمم والملوك"لابن جرير الطبري (4/206) .
[4] انظر صحيح البخاري كتاب العلم، باب كتابة العلم، حديث رقم (112) وأطرافه (2434) و (6880) . وكتاب البيوع باب ما قيل في الصوَّاغ حديث رقم (209) وكتاب اللقطة، باب رقم (7) ، وانظر صحيح مسلم كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها، حديث رقم (1355) .
[5] مختار الصحاح، مادة (حرم) .
[6] فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/32) .
[7] رواه الإمام أحمد في مسنده (1/254،292،295،32) عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لوجود علي بن زيد بن جدعان التيمي، قال أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي.
[8] التعريفات للجرجاني (ص 37) .
[9] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدِّلوا كلام الله} ، حديث رقم (7501) .
[10] انظر كتابه: المسائل في أعمال القلوب والجوارح، (79) ، (والمحاسبي) معروف حاله!.
[11] انظر كتابه: أعلام الحديث (3/2252) ، وانظر فتح الباري لابن حجر، (11/326) .(39/48)
[12] روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم مُتسلِّحين، يريدون غِرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سَلماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الفتح / 28. (انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} (133ـ 1808) ، وأبو داود في الجهاد، باب في المنِّ على الأسير بغير فداء. أقول: وبطن الوادي أسفله، فيكون معنى قوله تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي: أن جبل التنعيم من مكة، ويقع في أسفلها من ناحية الشمال، والله أعلم، انظر أسباب النزول للواحدي بتحقيق سيد صقر (ص405) .
[13] قيل: جبل (لبن) يقال له اليوم (لُبين) عنده حد الحرم الجنوبي و (إضاة) لبن يقال لها اليوم (العُقَيْشِيَّة) نسبة إلى رجل يقال له (عُقيش) كان يملكها، (انظر أخبار مكة للفاكهي، ج4/195) والقِري (582) .
[14] قال الإمام مالك في العُتْبيَّة: والحديبية في الحرم، (انظر فتح الباري لابن حجر: 5/334) ، وشفاء الغرام ـ للفاسي (1/58) .
[15] سمي مقطَّعاً لأنهم قطعوا منه أحجار الكبعة في زمن ابن الزبير، "انظر شفاء الغرام للفاسي (1/56) ".
[16] انظر أخبار مكة للفاكهي (4/195) .(39/49)
[17] قال الفاسي: هو فيما أحسب ابن أخي عتّاب بن أُسيد بن أبي العاص الأموي القرشي أمير مكة، لأنه كان لعبد الله المذكور بمكة شهرة لولايته لأمر مكة. وقيل: هو عبد الله بن خالد بن أُسيد الخزاعي، وقيل: آل عبد الله القسري، وقال: وحدُّ الحرام من هذه الجهة لا يُعرف موضعه الآن، إلاّ أن بعض أعراب مكة زعم أنه في مقدار نصف طريق الجِعْرانة، وسئل عن سبب معرفته لذلك فقال: إن الموضع المشهور الذي أشار إليه في محاذاة أعلام الحرم من جهة نخلة، وهي جهة العراق، (شفاء الغرام ـ ج1 ص57) .
[18] انظر مصنف عبد الرزاق (5/25) رقم (8864) وفيه: تميم بن أسد، بدل أُسيد، وكذا ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/295) ، وقال ابن حجر في الإصابة (1/3.4) رقم (83) : وأخرجه أبو نعيم، وزاد: " وكان إبراهيم وضعها يُريه إيَّاها جبريل"إسناده حسن، وانظر تعجيل المنفعة للبزار (ص39) .
[19] انظر القِرى لقاصد أم القرى، لمحب الدين الطبري (ص 652 ـ 653) .
[20] (ذو الحليفة) بالمهملة والفاء مُصغراً، مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين، وقيل: عشر مراحل، وبينها وبين المدينة ستة أميال، بها مسجد الشجرة، وبئر يقال لها بئر علي، (انظر فتح الباري: (3/385) .
[21] (الجحفة) قرية بين مكة والمدينة على أربع مراحل من مكة، وهي ميقات أهل الشام، ومصر، والمغرب، ويحرم المصريون الآن من رابغ بوزن فاعل، قريب من الجحفة.
[22] (قرن المنازل) و (قرن الثعالب) واحد، وهو تلقاء ذات عِرْق على مرحلتين من مكة، وهو ميقات أهل النجدين، نجد الحجاز، ونجد تهامة واليمن.
[23] (يلملم) جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، وقيل: وادياً.
[24] انظر صحيح البخاري كتاب الحج باب مُهل أهل مكة للحج والعمرة، (فتح الباري: 3/384) ، وصحيح مسلم كتاب الحج باب مواقيت الحج والعمرة (11/1181) .
[25] انظر كتابه القِري لقاصد أم القرى (ص99) .(39/50)
[26] أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الحج باب ذات عرق لأهل العراق، (وذات عرق) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، بينها وبين مكة مرحلتان، والمسافة إثنان وأربعون ميلاً، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، (انظر فتح الباري 3/389) .
[27] أخرجه أبو داود في سننه، من كتاب المناسك، باب في المواقيت، حديث رقم (174) ، والترمذي في الحج، باب في المواقيت حديث رقم (832) ، وقال: حديث حسن، قال الخطابي: الحديث في العقيق أثبت منه في ذات عِرق، (معالم السنن) ، وانظر صحيح مسلم كتاب "الحج"باب مواقيت الحج والعمرة، وفيه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المشرق ذات عرق.
[28] انظر القِري لقاصد أم القرى (ص101) .
[29] أخرجه أبو داود في سننه من كتاب المناسك باب موضع الوقوف بعرفة، والترمذي في الحج باب في الوقوف بعرفات والدعاء بها، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الحج باب الموقف بعرفات، ومسند الإمام أحمد (4 /137) وجامع الأصول حديث (1522) قال الإمام الخطابي في معالم السنن (2/47) ، المشاعر: المعالم، وأصله من قولك: شعرت بالشيء "أي" علمته، وليت شعري ما فعل فلان، أي: ليت علمي بلغه، وأحاط به، وقال الأزهري (5/43) في تهذيب اللغة: "الحرم قد ضُرب على حدوده بالمنار القديمة التي بيَّن خليل الله ـ عليه السلام ـ مشاعِرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم".
[30] أخرجه مسلم في صحيحه من كتاب المساجد الباب الأول، والإمام أحمد في مسنده (5/15.،156،157،16) .
[31] انظر كتابه القِرى لقاصد أم القرى (ص 657) .
[32] انظر تاريخ ابن جرير (4/206) ، وإتحاف الورى (2/8) ، وأخبار مكة للفاكهي (تحقيق ابن دهيش) (2/175-176) .
[33] انظر: توسعة وعمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية (ص2) .(39/51)
[34] انظر صحيح البخاري كتاب التوحيد باب: (وكلّم الله موسى تكليماً) حديث رقم (5717) وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (162،164) ، وانظر جامع الأصول لابن الأثير (11/305-310) .
[35] انظر الطبراني في الكبير (24/432) حديث رقم (1059) عن أم هانيء (بات رسول الله ليلة أسرى به في بيتي ... ) ، وانظر تفسير أول سورة الإسراء عند ابن كثير.
[36] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة الباب الأول، كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟.
[37] كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة من صحيح البخاري، حديث رقم (3207) .
[38] هي في صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب كيف فُرضت الصلوات في الإسراء؟ وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
[39] أنظر: طبقات ابن سعد (1/213) ، وسيرة ابن هشام (2/36) والروض الأُنف (3/399) .
[40] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر (7/204) .
[41] انظر: صحيح البخاري كتاب الأنبياء، باب يزفون: النسلان المشي رقم (9) وفتح الباري لابن حجر (6/396) رقم الحديث (3364) .
[42] انظر شفاء الغرام - للفاسي - (1/72) .
[43] انظر تفسير ابن كثير عند تفسير آية آل عمران رقم (96) .
[44] أخرجه الترمذي (3925) ، وابن ماجه (3108) ، وأحمد (4/305) ، والدارمي (2513) كلهم من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
[45] أخرجه الترمذي في سننه تحت رقم (3926) من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم حدثنا سعيد بن جبير وأبو الطفيل عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وانظر تحفة الأشراف (5539) ، والدر المنثور للسيوطي (7/463) .
[46] انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية (57) من سورة القصص.(39/52)
[47] انظر تهذيب اللغة (5/43) .
[48] سورة المائدة (79) .
[49] سورة إبراهيم (37) .
[50] سورة الحج (29،33) .
[51] سورة البقرة (125،127،158) وآل عمران (96،97) ، والأنفال (35) .
[52] سورة الطور (4) .
[53] سورة البقرة (125) .
[54] انظر المطالب العالية لابن حجر (1/363) .
[55] هو خفاف - بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء - بن عمير بن الحارث بن الشريد أبو خراشة ينسب إلى أُمة، يقال: خفاف بن ندبة، وهي أمة سوداء، وخفاف أسود حالك، شاعر، فارسي، صحابي، شهد فتح مكة وحنيناً، والطائف، [انظر الأغاني - دار الثقافة - 18/22، وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/174، 2/331، والإصابة في تمييز الصحابة (3/148) رقم (1547) ] .
[56] انظر الرسالة للشافعي (ص34ـ38) ، ومعرفة الآثار والسنن للبيهقي (2/315) .
[57] الذي نقل عن علي بن أبي طالب "شطره"قِبَله، وقال: والذي روي مرفوعاً "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض "حديث ضعيف.
[58] أخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: بينا نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، مَهْ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكرالله عزَّ وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، [انظر صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول (1.. ـ 285) ] .(39/53)
[59] روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استعمل عتّاب بن أسيد على أهل مكة قال له: "يا عتّاب أتدري على من استعملتك على أهل الله تعالى فاستوص بهم خيراً" قال ابن أبي مُليكة: كان أهل مكة فيما مضى يُلْقَوْنَ فيقال لهم: يا أهل الله، وهذا من أهل الله. انظر القِرى لقاصد أم القرى، (ص649) ، وعند الفاكهي في أخبار مكة (3/65) أتدري أين بعثتك؟ بعثتك على أهل الله، ليس بلد أحب إلى الله عز وجل، ولا إليّ منها، ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج. وانظر شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/78) ، وانظر الكامل لابن عدي (7/27) .
[60] انظر صحيح مسلم كتاب الحج باب تحريم مكة وصيدها (445 ـ 1353) .
[61] انظر مادة (ثوب) من الصحاح وغيره.
[62] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/22) وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد، = ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر مسند الإمام أحمد (1/19.،193) ، كلاهما من طريق إسماعيل بن أمية، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، وانظر الكامل لابن عدي (4/161) وأبو نُعيم في معرفة الصحابة (ص495) .
[63] انظر الروض الأُنف (2/61) .
[64] المصدر السابق (2/63) .
[65] المصدر السابق (2/55) .
[66] المصدر السابق (2/5) .
[67] انظر الإملاء المختصر للخشني (1/166) .
[68] انظر مختار الصحاح (بتصرف) .
[69] انظر تفسير الطبري (4/11) .
[70] أخرجه البخاري في كتاب الحج باب جواز التمتع، وفي تفسير سورة البقرة آية (33) ، باب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج.
[71] انظر تفسير ابن كثير في تفسير الآية رقم (196) من سورة البقرة. (بتصرف) .
[72] انظر تفسيره (4/11) .
[73] انظر تفسير ابن كثير عند تفسير آية (196) من سورة البقرة.
[74] انظر كتابه: قلب الحجاز (ص13) .
[75] انظر صحيح الأخبار لابن بليهد (2/139) .(39/54)
[76] انظر كتابه: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، ص205.
[77] المصدر السابق (ص138) .
[78] المصدر السابق (ص138) ، وانظر تفسير الطبري (4/112) .
[79] انظر المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ص 175.
[80] المصدر السابق (ص188) .
[81] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (133ـ 1808) ، وأبو داود في الجهاد باب في المن على الأسير بغير فداء، وأحمد في مسنده (3/124،29) ، (ص4.5) ، وانظر أسباب النزول للواحدي ص 405.
[82] انظر كتاب القِرى لقاصد أم القُرى (ص621) .
[83] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (5/334) وانظر القِرى لقاصد أم القرى لمحب الدين الطبري، (652)(39/55)
تابع لإلحاد والظلم في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ
الفصل الثاني
الإرادة - الإلحاد - الظلم
قال الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ…} [الحج/25] .
هذه الآية الكريمة جمعت مفردات هذا الفصل كاملة وهي: الإرادة، والإلحاد، والظلم، وهذا لبُّ البحث ومُعْظَمُه.
والمعنى الإجمالي للآية يبيِّن أن الكافر من شأنه الإعراض عن طريق الله القويم، الذي بيَّنَه لعباده، بواسطة رسله، ليبقي على أغراضه الدنيئة، ويهمه أن يجد غيره من الناس يشاركه نهجه، ومعتقده، فيقومان بمنع من استطاعا عن الهدى.
وكفار قريش زادوا على ذلك - بحكم نفوذهم القوي في مكة - بمنع المؤمنين، ممن اعتنق الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن يقصدون المسجد الحرام للطواف فيه حول الكعبة، وملازمته بالانقطاع إلى العبادة فيه لله، وكانوا لا يفرقون بين مسلم أهل الحرم، وغيره ممن يقصده من خارج الحرم، وهم يفعلون ذلك نكاية بالمسلمين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وبصنيعهم هذا قد عدلوا عن القصد، وأعرضوا عن الحق، وسلكوا طريقاً معوّجاً، ظالمين أنفسهم، والآخرين.
وحتى في حالة عجزهم عن الانتقام من المسلمين حسياً، أو معنوياً، فإنهم يضمرون ذلك في أنفسهم، فتوعدهم الله عز وجل بعذاب أليم، وأنكر عليهم صدهم المؤمنين عن شهود بيته، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه.
المبحث الأول: الإرادة
قال في اللسان: وأراد الشيء: أحبه، وعُنِيَ به.
وقال الجوهري وغيره: والإرادة (المشيئة) [1] .
وقال الجرجاني: في تعريفاته - الإرادة: ميلٌ يعقبه اعتقاد النفع [2] .(39/56)
وقال الألوسي: "الإرادة في الأصل قوة مركبة من: شهوة، وخاطر، وأمل، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه، لأنّها قد تتعلق بنفسها، بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذّات، والإنسان قد يريد الدواء البشع، ولا يشتهيه. ويشتهي اللَّذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه، وقد يشتهي ويريد [3] . وإن صحَّ أن نقسم الإرادة إلى أطوار، أو مراحل تسبق التنفيذ من الإنسان للفعل، صح أن نقول هي خمسة:
1- الهاجس: ويعبرون به عن الخاطر الأول، فإذا تحقق في النفس سمَّوه إرادة، فإذا تردد الثالث سمّوه، هِمّةً. وفي الرابعة سمّوه عزماً، وعند التوجه إلى القلب - إن كان خاطرَ فعلٍ - سمّوه قصداً، ومع الشروع في الفعل سمّوه: نيَّة [4] .
2- الخاطر: هو ما يَرِد على القلب من الخطاب، أو الوارد الذي لا عمل للعبد فيه [5] .
3- حديث النفس: ويسمى وسواساً، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق/16] . أي: ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي [6] .
وفي الحديث: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست - أو حدثت - به أنفسها، مالم تعمل به أو تكلَّم" [7] .
4 - الهمُّ: بمعنى القصد والإرادة مطلقاً، أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت [8] . وفي الحديث القدسي: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" [9] .
قال ابن حجر: الهمُّ ترجيح قصد الفعل، تقول: هممت بكذا أي: قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب.(39/57)
قال: وقد وجدت عن الشافعي أن المؤاخذة إنما تقع لمن همّ على الشيء فشرع فيه، لا من همَّ به ولم يتصل به العمل.
قال: استثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهمُّ بالمعصية، ما يقع في الحرم المكي، ولو لم يصمم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج/25] .
أخرج الثوري في تفسيره [10] عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "ما من رجل يَهمُّ بسيئة فتكتب عليه، إلاّ أن رجلاً لو همَّ بِعَدَنِ أَبْيَنَ [11] أن يقتل رجلاً بالبيت الحرام إلاًّ أذاقه الله من عذاب أليم" [12] .
ويؤكد ذلك أن الحرم يجب إعتقاد تعظيمه، فمن همَّ بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا المبحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك من همَّ بمعصيته لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذ بما دونه؟!
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن إنتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم إنتهاك حرمة الله، لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله، فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى.
نعم، من همَّ بالمعصية قاصداً الاستخفاف بالحرم عصى، ومن همَّ بمعصية الله قاصداً الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه، من همَّ بمعصية ذاهلاً عن قصد الاستخفاف [13] .
5 - العزم: أو العزيمة، في اللغة: عبارة عن الإرادة المؤكدة.
قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم/17-18] ، في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم [14] .(39/58)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟!، قال: "إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه" [15] ، فعلل بالحرص.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا، وعصينا؟، بل قولوا: سمعنا، وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلمّا اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [16] .
قال ابن حجر: المراد بالمحاسبة: ما يخفي الإنسان مما يصمّم عليه، ويشرع فيه، دون ما يخطر له، ولا يستمر عليه [17] .(39/59)
قال الألوسي: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ …} أي: يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي، والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به، لا يعاقبه عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم"، أي: إن الله لا يعاقب أمتي على تصور المعصية، وإنما يعاقب على عملها، وقيل: إذا وصل التصور إلى حدّ التصميم والعزم، يؤاخذ به، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة/225] .
لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على التصميم والعزم على إيقاع المعصية في الأعيان، وهي أيضاً من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات، ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس [18] .
قال ابن حجر:
المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود.
وقسَّم بعضهم ما يقع في النفس أقساماً:
أضعفها أن يخطر له، ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة وهو معفوٌّ عنه، وهو دون التردد.
وفوقه أن يتردد فيهمُّ به، ثم ينفر عنه، فيتركه، ثم يهمُّ به ثم يتركه، ولايستمر على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه، وفوقه، أن يميل إليه، ولاينفر منه، بل يُصمم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهمُّ وينقسم إلى قسمين: أن يكون من أعمال القلوب صرفاً، كالشك في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، فهذا كفر، ويعاقب عليه جزماً.
ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر، كمن يحب ما يبغض الله، ويبغض ما يحبه الله، ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا إثم.
أن يكون من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، فهو الذي وقع فيه النزاع، فقيل: لا يؤاخذ بذلك أصلاً.(39/60)
أخرج مسلم عن طريق همّام عن أبي هريرة رفعه: "قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها" [19] .
وعند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران/135] .
قال القرطبي قوله: " (ولم يصروا) قال القاضي أبو بكر بن الطيب: إن الإنسان يؤاخذ بما وَطَّنَ عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية، قال: وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء، والمحدِّثين، والمتكلِّمين.
ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهمُّ الإنسان به، وإن وطَّن عليه لايؤاخذ، ولاحجة له في قوله صلى الله عليه وسلم: "من همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة"، أي: أظهرها، أو عزم عليها [20] .
وقيل: من فعل المعصية، ولم يتب منها ثم همَّ أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار، جزم به ابن المبارك، وغيره.
ويؤيده أن الإصرار معصية إتفاقاً، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا فعلها كتبت عليه معصية ثانية [21] .
قال في التعريفات:
الإصرار: الإقامة على الذنب، والعزم على فعل مثله [22] .
المبحث الثاني: الإلحاد
قال في اللسان: قال أبو عبيدة: لحَد في الدِّين، يلْحَد، واَلْحَدْ: مال، وعدل، وقيل: لحد: مال، وجار، قال ابن السكيت: الملْحِد: العادل عن الحق، المدْخِل فيه ما ليس فيه، يقال: قد ألحْدَ في الدِّين، و (لحَدَ) أي: حاد عنه [23] .
وقُرِيء: {لِسَانُ الَّذِي يَلْحِدُونَ إِلَيْهِ …} - بفتح الحاء المهملة - قال الفراء: يميلون إليه (ويُلحِدون) - بكسر الحاء المهملة، يعترضون.(39/61)
روي عن الأحمر: لحَدْت: جُرْت، ومِلْت، وألحَدْتُ: ماريت، وجادلت [24] .
وألحَدَ الرجل أي: ظلم في الحرم، وأصله: قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ …} .
والإلحاد في المسجد الحرام:
قال الزجاج: الإلحاد فيه: الشك في الله، وقيل كل ظالم فيه مُلْحِد.
وقيل: من يُرد متلبساً بالميل عن الحق وهو ظالم أن يُحْدِثَ في المسجد الحرام ما لا يرضي الله، نذقه من عذاب أليم [25] .
قال ابن العربي: قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ …} تكلم الناس في دخول الباء ههنا، فمنهم من قال: إنها زائدة، وهذا مما لا يُحتاج إليه في سبيل العربية، لأن حمل المعنى على الفعل أولى من حملِه على الحرف.
فيقال المعنى: ومن يهم فيه بميل يكون ذلك الميل ظلماً، لأن الإلحاد هو الميل في اللغة، إلاّ أنه قد صار في عرف الشريعة ميْلاً مذموماً، فرفع الله الإشكال، وبيَّن أن الميل بالظلم هو المراد هنا [26] .
وقيل: ألحد في الحرم: ترك القصد فيما أُمر به، ومال إلى الظلم.
وفي الحديث: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه" [27] ، أي: ظلم وعدوان، وفي حديث طهْفة: "لا تُلْطِط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة" [28] .
أي: لا يجري منك ميل عن الحق ما دمت حيّاً.
روى الطبري - بسنده عن ابن عباس قوله: الإلحاد: التكذيب.
وعند قتادة - يلحدون: يشركون [29] .
وقيل - الإلحاد: الزيغ. ويلحدون: يحوِّرون.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحِد في الحرم…" وذكر الحديث [30] .
قال ابن حجر: قوله: (أبغض) هو أفعل من البغض.
قال المهلب وغيره: "المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: "أكبر الكبائر"، وإلاّ فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي".(39/62)
قوله: "ملحد في الحرم"أصل الملحد المائل عن الحق، والإلحاد: العدول عن القصد، واستُشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق؟!!، والجواب: أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين، فإذا وصف بها من ارتكب معصية كان ذلك إشارة إلى عظمها وقيل: إيراده بالجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة ثم التنكير للتعظيم، فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب.
وحديث ابن مسعود: "ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه…" [31] ، ظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو مشكل، فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة، وقد يؤخذ ذلك من سياق الآية، فإن الآيتان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ …} الآية، يفيد ثبوت الإلحاد، ودوامه، والتنوين للتعظيم، أي: من يكون إلحاده عظيماً [32] .
قال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد (في المسجد الحرام) أن يقول الإنسان: لا والله، وبلى والله، وكلاّ والله"، ونُسب ذلك أيضاً إلى عبد الله بن عمرو بن العاص [33] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ …} قال: الشرك، وقال عطاء: الشرك، والقتل.
وقيل: صيد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير محرم [34] .
وقال أهل العلم: الإلحاد في الحرم: القتل، والمعاصي [35] .
وعن عمرو بن العاص: الإلحاد في الحرم: ظلم الخادم فما فوق ذلك [36] .
وقيل: أصل (الإلحاد) في كلام العرب: العدول عن القصد، والجور عنه، والإعراض، ثم يستعمل في كل معوَجٍّ غير مستقيم، ولذلك قيل لِلَحْد القبر لحد، لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه.(39/63)
وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرق بين (الإلحاد) و (اللحد) ، فيقول في (الإلحاد) إنه العدول عن القصد، وفي (اللحد) إنه الركون إلى الشيء، وكان يقرأ جميع ما في القرآن (يُلحِدون) بضم الياء وكسر الحاء، إلاّ التي في النحل: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} فإنَّه كان يقرؤها (يَلحَدون) بفتح الياء والحاء.
وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب فيرون أن معناهما واحد، وأنهما لغتان جاءتا في حرف واحد، بمعنى واحد [37] .
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف/180] ، - أي: يميلون فيها عن طريق الحق ويسمونه - سبحانه - بغير ما ينبغي أن يُسمى به، قال مكي بن أبي طالب القيسي: وكان إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عمّا هي عليه، فسموا بها آلهتهم، وأوثانهم، وزادوا فيها، ونقصوا منها، فسموا بعضها (اللات) اشتقاقاً من (الله) و (العزى) من (العزيز) [38] .
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت/40] ، أي: يطعنون في صحتها، أو يأولونها تأويلاً خاطئاً.
وقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل/103] ، أي: كلام الرجل الذي يشيرون إليه زاعمين كذباً أنه يُعلِّم الرسول، هو كلام مبهم غير بيِّنٍ [39] .
المبحث الثالث: الظلم
(الظلم) لغة: وضع الشيء في غير محله.
وشرعاً: عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل.
وهو الجور، وقيل: هو التصرف في ملك الغير، ومجاوزة الحدِّ [40] .
قال ابن العربي: (الظلم) في الحقيقة، لغة، وشرعاً: وضع الشيء في غير موضعه، وذلك يكون بالذنوب المطلقة بين العبد ونفسه، وبالذنوب المتعدِّية إلى الخلق، وهو أعظم.(39/64)
والجنايات تعظم على قدر عظم الزمان، كالأشهر الحرم، وعلى قدر عظم المكان، كالبلد الحرام.
فتكون المعصية معصيتين:
إحداهما: بنفس المخالفة.
والثانية: باسقاط حرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام [41] .
قال في اللسان: ومن أمثال العرب في الشَبَهِ: من أَشْبه أباه فما ظلم، قال الأصمعي: ما ظلم، أي: ما وضع الشبه في غير موضعه.
قال: وأصل الظلم: الجوْر، ومجاوزة الحدِّ [42] .
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله، لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام/82] ، شقَّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
قال ابن حجر: وجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله (بظلم) عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما بيَّن لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك. فدلّ على أن الظلم مراتب متفاوتة.
قال: قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} أي: لم يخلطوا، وقال محمد بن اسماعيل التيمي في شرحه: خلطُ الإيمان بالشرك لا يُتصور، فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان، كفر متأخر عن إيمان متقدم، أي: لم يرتدوا.
ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهراً وباطناً، أي: لم ينافقوا [43] .
وقول الله تعالى فيما يتعلق بالمسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
قال ابن العربي: المعنى: ومن يَهمُّ فيه (بميل) يكون ذلك (الميل) ظلماً، لأن الإلحاد هو الميل في اللغة، إلاّ أنه قد صار في عُرف الشريعة ميلاً مذموماً، فرفع الله الإشكال وبيَّن أن الميل بالظلم هو المراد هنا [44] .(39/65)
وقال ابن كثير: ضمَّن الفعل ههنا معنى (يَهِمُّ) ولهذا عدّاه (بالباء) فقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أي: يَهِمُّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، وقوله: {بِظُلْمٍ} أي: عامداً، قاصداً أنه ظلمٌ، ليس بمُتأولٍ [45] .
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ... } الإرادة هنا إرادة تصميم، وإصرار من المريد على ما أراد فعله في المسجد الحرام من أنواع المعاصي والذنوب، وما كان سوى ذلك فهو حديث نفس وخواطر لا يتعلق عليها حكمٌ، وهي مما وضعه الله تعالى عن عباده، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تَعْمل أو تتكلم به" [46] .
ألا ترى أن من أكره على الكفر، فكفر، لا يكفر لأن قلبه مطمئن بالإيمان، وقد اختصَّ الباري جل وعلا بعلم ما تُخفي الصدور، وربط كل عمل للعباد بما علمه عنهم من نوايا حسنة، أو سيئة.
والنية تصحح القول والعمل، ما كان خالصاً لله، وما كان رياءً وسمعة، والثواب والعقاب يُقوَّمَانِ على هذه القاعدة الحكيمة، فلا يُظلم أحد مثقال ذرة، ولا دخل للأهواء والأغراض في القضاء، إذ لا يعلم حقيقة النية إلاَّ الله.
المبحث الرابع: بعض خصائص البلد الأمين (القرية، والمسجد)
أولاً: (القرية)
وهي كل ما يحيط بالمسجد الحرام، من دور، ومرافق عامة، وخاصة، اتخذها الإنسان لنفسه، وعمرها، وفق حاجاته الأساسية والضرورية للعيش في الحياة الدنيا، وذلك منذ قبول (هاجر) أم إسماعيل عليه السلام، نفراً من جرهم مشاركتها ماء (زمزم) .
وأخذ ذلك المجتمع الصغير ينمو، ويتسع مع مضي الوقت والزمان، واكتسب أهمية عظمى في نفوس العباد منذ أن خوّل الباري جل وعلا خليله إبراهيم، وابنه إسماعيل - عليهما السلام - برفع قواعد أول بيت وضع للناس، الكعبة البيت الحرام، بيتاً لله في الأرض.(39/66)
فكان من الطبيعي أن يكتسب جيرانه حرمة من حرمته، ومكانة من مكانته تفوق كل حرمة وكل مكانة في أي بقعة من الأرض.
نصحت إحدى نساء العرب أبناءها في الجاهلية - وكانت شاعرة بليغة - بما يجب عليهم فعله تجاه البلد الحرام قائلة:
أَبَنيَّ لاَ تَظْلِم بمكة
لا الصَّغيرَ ولا الكبير
واحْفَظ محارمَها بُنَيَّ
ولا يَغْرَّنكَ الغرور
أَبنيَّ من يَظْلم بمكة
يَلْقَ أطراف الشُّرور
أَبنيَّ يُضْربُ وجهَه
وَيَلُحْ بخديه السعير
أَبنيَّ قَدْ جَربتُها
فوجدتُ ظالمها يبور
الله آمنها وما
بُنِيتْ بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
والعُصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تُبَّعٌ
فكسا بَنيَّتَها الحبير
وأذل ربي ملكه
فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافياً
بفنائها ألفا بعير
والفيل أَهْلك جيشَه
يُرمون فيها بالصخور
فاسمع إذا حُدِّثت
وأفْهم كيف عاقبة الأمور [47]
وقال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي حين خرج ومن معه إلى اليمن:
فسحَّت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أَمْنٌ وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامُهُ
يظل به آمناً وفيه العصافر [48]
ومكة بحرمها وحريمها، حرَّمها الله، ولم يحرمها الناس، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال يوم الفتح، فتح مكة: "إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلاّ ساعة من نهار، فهو حرام، بحُرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يَلَتقِطُ لقطته إلاَّ من عرَّفها ولايختلي خلاها"، وزاد في رواية: "إن الحرم لا يُعِيذ عاصياً، ولا فاراً بدمٍ ولافارّا بخَرْبَةٍ" [49] .(39/67)
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح" [50] . هذا مما يؤكد أمنها واستقرارها، فالسلاح يحتاجه من احتاج الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه، وهو عون للخائف على السكينة والإطمئنان، والشعور بهما، والله جل وعلا قال عن المسجد الحرام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً..} ، وبالتالي القرية من حوله سياج له تحفظ وتحقق دواعي ذلك الأمان فهي آمنة، وإن جاء من خالف هذا التوجيه، وأرهب أهله وأفزعهم، فهو كالمسلم أمر بالصلاة ولا يصلي، عصياناً وتمرداً، وأمر بالصوم فلا يصوم، وأمر بالزكاة ولا يزكي.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً…} الآية من سورة [البقرة /126] .
قيل: اختلف العلماء في مكة وحرمها، هل صار ذلك حرماً آمناً من الجبابرة، والخسوف، والزلازل بسؤال الخليل عليه السلام؟.
أم لم يزل حرماً آمناً منذ خلق الله السماوات والأرض؟، وهو الصحيح، وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعل ذلك آمناً من الجدب، والقحط، وأن يرزق أهل من الثمرات [51]
قال تعالى موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا…} [النمل/91] .
وامتدح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، عندما هاجر منها إلى المدينة بقوله: "والله إنك خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" [52] . وقال أنس: الدجال يطأ كل بلدة إلاّ مكة والمدينة [53] .
وقال مجاهد: إذا قَتَل في الحرم، قُتِل في الحرم، وإذا أصاب حداً في الحرم أقيم عليه في الحرم، وإذا قَتَل في غير الحرم ثم دخل أمِنَ [54] .
قال ابن عباس: إذا دخل القاتل الحرم لم يُؤْوَ، ولم يُبايع، ولم يُجالس، ولم يُسْقَ حتى يخرج [55] .(39/68)
وعن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: العمرة على الناس كلهم إلاّ على أهل مكة، فإنها ليست عليهم عمرة، إلاّ أن يقدم أحدهم من أفق من الآفاق [56] .
روى علقمة بن نضلة قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وما تُدعى رباع مكة إلاّ السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن [57] .
قال ابن العربي: والذي عندي الآن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح مكة عَنْوة، لكنَّه مّنَّ عليهم في أنفسهم، فسموا الطلقاء، ومَنَّ عليهم في أموالهم وأمر مناديه فنادى: من أغلق عليه بابه فهو آمن، وتركهم في منازلهم على أحوالهم من غير تغيير عليهم، لكن الناس إذا كثروا واردين عليهم شاركوهم، بحكم الحاجة إلى ذلك [58] .
قال مالك وغيره: ليست الدور في ذلك كالمسجد، بل هي مُتملّكَة.
وعن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله أين تنزل غداً؟ في حَجَّتهِ، قال: "وهل… ترك لنا عقيلٌ منزلاً؟ ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة - المُحصَّب - حيث قاسَمَتْ قريش على الكفر" [59] .
قوله: "هل ترك لنا عقيلٌ منزلاً" دليل علىبقاء دور مكة لأربابها [60] .
ثانياً: المسجد الحرام
ويراد به الكعبة بيت الله الحرام، وما أحاط به من جميع جهاته المختلفة، وما يلحق به من أروقة، وساحات مهما اتسعت، وتكون فيه صفوف المصلين متصلة خلف إمام واحد.
ووصفه (بالحرام) خاص به دون غيره من أماكن العبادة التي ذكرها الله في كتابه العزيز، فإذا جاء ذكر غيره من أماكن العبادة جاء مجرداً، أو موصوفاً بصفة أخرى، حتى المسجد الأقصى، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ…} [الإسراء/1] .
وقال تعالى عن مسجد قباء في المدينة: {… لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ…} [التوبة/108] .(39/69)
والمسجد هو مكان السجود في أي مكان طاهر من الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" [61] . ومواضع عبادة الله وحده تسمى مساجد، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً…} [الجن/18] .
وهي بيوت الله، تشريفاً لها، وتعظيماً لمكانتها، ومن أقدسها وأشرفها الكعبة بيت الله الحرام، حيث تضاعف الحسنات، وتضاعف السيئات، ويؤاخذ الإنسان فيه إذا همَّ بسيئة، وأصرّ على تنفيذها، وأعد لذلك عدّته، وإن لم يقع منه الفعل. بل يؤاخذ فيه الإنسان حتى على ما يصدر عنه من لغو الحديث.
قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله، وبلى والله، وكلاَّ والله" [62] .
وهذا مما اختص به المسجد الحرام دون سائر حرم مكة المكرمة، حتى يكون لبيت الله ما يميزه دون غيره من سائر بقاع الأرض.
أخرج عبد بن حميد عن عكرمة، قال: ما من عبدٍ يَهِمُّ بذنب فيؤاخذه الله بشيء حتى يعمله، إلاَّ من همَّ بالبيت العتيق شراً، فإنه من هَمَّ به شراً عجل الله له" [63] .
ومكة - قرية المسجد الحرام - لها أيضاً ما يميزها عن غيرها من القرى، وقد سبق ذكر شيء من ذلك في هذه الرسالة.
ويختص المسجد الحرام دون غيره من المساجد بالطواف حول كعبته المشرفة، وهو نوع من العبادة، والتقرب إلى الله، لا يجزئ، ولا يجوز في أي بُقْعَةٍ من بقاع الأرض سواه.
وفيه مقام إبراهيم، حجر قام عليه ليرفع قواعد البيت كما أمره ربه، فأصبح من شعائر الله، أُمر المسلمون بالصلاة خلفه.
وفيه بئر زمزم، ومنه الماء المبارك، لسقيا الوافدين للحج والعمرة، ماؤه لاينضب، وفيه الحجر الأسود وحِجْرُ إسماعيل.(39/70)
والصلاة فيه - الفريضة والنافلة - تفْضُل على الصلاة في غيره بمائة ألف [64] ، قال ابن عباس: "من صلى في المسجد الحرام، حول بيت الله الحرام، في جماعة كتب الله تعالى له خمساً وعشرين مرة مائة ألف صلاة".
قال له رجل من التابعين: أعن رأيك هذا يا ابن عباس، أو عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، بل عن رسول الله [65] .
فقوله: "في المسجد الحرام، حول بيت الله الحرام"، تخصيص لأرض مسجد الكعبة دون غيرها من الأرضين.
وحول الأخذ (بالإرادة) دون (التنفيذ) واستحقاق المريد لعذاب أليم، وإن لم يقع منه ما أراد، بل بمجرد الإرادة، وقع التباس: هل هو أمر خاص بالمسجد الحرام دون غيره من البقاع في الأرض؟ أم هل تكون المؤاخذة في قرية مكة كلها باعتبارها حرماً تضاعف فيها السيئات والحسنات كالمسجد الحرام؟.
مكة المكرمة كما سلف لم يكن لها وجود قبل ترك إبراهيم عليه السلام بعض أهله بواديها، ونبط الماء من بئر زمزم.
ثم قيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع قواعد البيت الحرام ممتثلَيْن لأمر ربهما، وقد أمرهما بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود.
ثم أَمَرَ - سبحانه - نبيه إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج إلى الكعبة بيت الله الحرام.
كل هذه مراحل أساسية في تكوين مجتمع مكة المكرمة، حتى أصبحت قرية مأهولة، يجد فيها كل قاصدٍ لبيت الله الحرام ما يحتاجه من مرافق، وضروريات، لطعامه، وشرابه، وسباته، وقضاء حاجته، وسائر الأمور التي ينزه بيت الله عنها.
وورد في حقها ما يميزها عن سائر بقاع الأرض، وعرفت في القرآن الكريم بأم القرى، والأم لها من الحقوق والواجبات ما ليس لغيرها من القرابات على ولدها.
وكان وجود الكعبة بيت الله الحرام في حريمها سبباً في إضفاء القدسية، والبركة في سائر أرضها المحاطة بأنصبة ومعالم تفصلها عن غيرها.(39/71)
وإذا أُطلق المسجد الحرام، فلا يُعرف منه إلاّ البقعة المحيطة بالكعبة من جميع جهاتها، إحاطة السوار بالمعصم، من أروقة وساحات، تتصل صفوف المصلين للفريضة فيها خلف إمام واحد.
وهذه البقعة كما بدأت ضيقة، وما أصبحت عليه الآن من اتساع كبير، بما لحقها من إضافات كانت خارج حدود المسجد الحرام، فإنها قابلة للزيادة، والإتساع وفق حاجة المسلمين، وتزايد أعداد الحجاج والمعتمرين الذين يقصدون البيت الحرام لأداء نسكهم. فهذه الزيادات تدخل تحت اسم المسجد الحرام، وتكتسب أحكامه، وحرمته، مهما امتدت أو اتسعت، ويبقى ما وراءها خارجاً عنها.
وحرمة المسجد الحرام أصل تفرع عنه حرمة المكان المحيط به، وقد اكتسب (الفرع) بعض خصائص (الأصل) ، ولكن يبقى للأصل ما يميزه عن الفرع.
وأرض المسجد الحرام، والكعبة بعينها مركز الدائرة، وما أحاط بها حريم لها، يتسع للمصلين خلف إمام واحد، وما كان خارج ذلك فهو بمثابة السياج حول أرض الحمى، يطوِّق المكان، ويمنع عنه وصول المغرضين، المعادين لرب البيت ومليكه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة/28] .
جاء في الصحيح عن أبي هريرة قوله:
بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مُؤذِّنين يوم النحر، نؤَذِّنُ بمنىً، أَلاَّ يحج بعد العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عُربان.
قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّاً، فأمره أن يؤذن "ببراءة".
قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليٌّ في أهل مِنى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرياناً [66] .(39/72)
قال ابن حجر: "والغرض منه الإشارة إلى أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ... } ، كان في هذه القصة [67] . وقوله: "وألاّ يحج بعد العام مشرك"، هو منتزع من قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام ولو لم يقصدوا الحج، ولكن لمَّا كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه، فيكون ما وراءه أولى بالمنع. والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله [68] .
قال الطبري: "يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرم، وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام" [69] .
ومادة (قرب) جاءت أحياناً في كلام الله تعالى للتحذير، والتنبيه، من الدنو - مجرد الدنو - من حدود الله، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة/187] ، وليس المراد الوقوع فيها، بل التحذير مما يمكن أن يؤدي إلى انتهاكها.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ…} [الأنعام/151] . فإن التحذير، والتنبيه عن المقدمات، والأسباب التي مع الاسترسال فيها، وتسلسلها يدنو المؤمن من فعل الفاحشة إلى أن يقع فيها في النهاية.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء/32] . فالنظر إلى الأجنبية والإسترسال في ذلك، ومحاولة الخلوة بها، ومحادثتها، من مقدمات الزنى في الغالب.
فإذا منع المؤمن نفسه من الإسترسال في النظر إلى الأجنبية ممتثلاً قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ…} [النور/30] ، فإنه بذلك يقطع السبب الرئيسي المؤدي - في الغالب - إلى الوقوع في فعل الفاحشة.(39/73)
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فالعينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرِجْلانِ يزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القُبل" [70] .
وكذلك الأمر بالنسبة لحدود الله، فكلما تساهل المؤمن في أسبابها، ودواعيها، ولم يكن لديه من الورع والتقوى، ما يحذره الإقتراب، وقع لا محالة فيها.
كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مُشْتبهات لايعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحِمى يُوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حمى، إلا إنّ حِمى اللهِ في أرضه محارمُه…" [71] .
فقوله جلّ وعلا محذراً المؤمنين التساهل مع المشركين في دخولهم إلى المسجد الحرام، اقتضى أن يمنعوهم عن مجرد الإقتراب إليه، بأن جعل لحرم مكة حدوداً لا يجوز لمشركٍ أن يتجاوزها حتى لا يصل بشكل أو بآخر إلى المسجد الحرام عينه. رُوي عن عطاء قوله: لم يَعْنِ المسجد وحده، إنما عني مكة والحرم [72] .
فالمقصود إذاً هو المسجد الحرام - البيت الحرام - لذاته، كما يفعل الإنسان عند تشييده للأسوار، والقلاع، والحصون، حول مدينته أو قريته. وذلك لحمايتها، فلو تساهل مع العدو أن يجتازها ولو بقدر يسير، فقد السيطرة في النهاية على صده من اجتياح الدور، والأبنية، فالحكيم إذاً الذي يحتاط للأمر قبل وقوعه، لا إذا قُضي الأَمر ووقع، نَدِمَ، واسترجع.
ومكة، أرض الحرم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعضد شجرها، وينفَّر صيدها، وتلتقط لقطتها، ويختلي خلاها [73] . ومعلوم أن هذه الأشياء لا يوجد معظمها في المسجد الحرام، بل في أطراف المدينة وضواحيها، في الأودية والشعاب، والجبال، والسهول، مما يدل على أن الحظر خاص بحرم مكة دون المسجد الحرام، ولكنه إن وجد في المسجد الحرام فمن باب أولى أن يكون الحظر أشد.(39/74)
وورد في الحديث أن الصلاة في المسجد الحرام تتضاعف مائة ألف مرة عن الصلاة فيما سواه، وبذلك تتميز بقعته عن سائر بقاع الأرض، وتبقى له خصوصية ليست لسائر أرض الحرم حوله، ولا يختلف اثنان في أن الصلاة بقرب الكعبة، واستقبال عينها أكثر تفضيلاً من الصلاة خارج المسجد الحرام لمن استقبل جهتها.
وفي سير الصحابة والتابعين لم يظهر أن أحداً منهم سكن في الحل، واتخذ لنفسه موقعين، الأول لأمور عبادته في الحرم والثاني لأهله وعياله وشئون دنياه في الحل. إلاَّ ما ورد في الأثر أن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص قد اتخذا لنفسيهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أرد أحدهما العبادة من صلاة وغيرها دخل الفسطاط الذي في الحرم، وإذا أراد شيئاً من أمور الدنيا دخل الآخر الذي في الحل [74] .
وهذا يراد به أرض الحرم دون المسجد الحرام، وهو ورع منهما، يصعب على كل من أراد ذلك أن يفعله، لأن أكثر المصالح الدنيوية داخل أرض الحرم، وكذا جلّ الدور والمرافق فيها. ومثل هذا الفعل لا يتأتى إلاّ إذا اعتبرنا (الحل) أرض مكة و (الحرم) أرض المسجد الحرام.
فوجب أن نفصل بين أرض الحرم وبين المسجد الحرام في مضاعفة الأجر، والمؤاخذة (بالإرادة) المجردة لئلا يجد الناس القاطنون بجوار بيت الله عنتاً ومشقة و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} .
ولو نذر أحدهم الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه في البيت الحرام، ولا يجزئه مكاناً آخر في حرم مكة، مما يدل أن هناك تخصيصاً وتعميماً للمراد بالحرم، والمسجد الحرام.
قيل: المسجد الحرام مسجد الجماعة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلاّ المسجد الحرام" والإشارة بمسجده إلىمسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك [75] .(39/75)
والذين احتجوا بمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حجِّه بالأبطح يصلي فيه الصلوات المفروضة [76] ، قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حرصاً على مضاعفة الأجر له وللمؤمنين، فلو لم ير أن مصلاه في الأبطح يضاعف فيه الأجر كالمسجد الحرام سواء، لما اختار الأقل على الأكثر؟!
والجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج سوى حجة واحدة، وحج معه ما يربو على مائة ألف نسمة كلهم يتبعونه، ويقتدون به.
وهو صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة/128] . فهو يرأف بالمؤمنين، ويرحمهم، فلو لزم المسجد الحرام يصلي فيه كل فرض من مكانه في الأبطح، يتبعه المسلمون شيباً وشباناً، رجالاً ونساءً.
والمسافة بين المطرحين لا تقل عن كيلين اثنين تقريباً فسيبعث مثل هذا الفعل مشقة كبيرة على الناس، وحسرة وألماً في صدور العجزة، وغير القادرين على الإقتداء، وموضع الأبطح مكان فسيح، وهو من أقرب المواضع الفسيحة من المسجد الحرام، لاستيعاب ذلك العدد الكبير. أو كما وصفته عائشة رضي الله عنها في قولها: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح بخروجه [77] ، قال ابن حجر: (أسمح) أي: أسهل لتوجهه إلى المدينة، ليستوي في ذلك البطيء، والمعتدل، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة [78] . والله أعلم،،،
النتائج والتوصيات(39/76)
من خلال ما تقدم تبين أن هناك فرقاً بين المسجد الحرام، وبين حرم مكة، فيما يتعلق بمضاعفة الحسنات والسيئات، وأن المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} المسجد الحرام، بأن تكون تلك الإرادة بالسوء في جوفه، ولا يؤاخذ المؤمن بالإرادة المجردة قبل أن يفعل أو يقول بأرض الحرم، أو غيرها سواه، ولكن يبقى لحرم مكة ما يميزه عن سائر البقاع الأخرى سوى المسجد الحرام.
والعمل الصالح فيها بنية الإخلاص، يبارك، وأحرى للقبول من فاعله، والعمل السيء فيها أكثر بشاعة من مؤمن يتبطن أرض الحرم، ويشتمُّ روحانية بيت الله الحرام.
وهو دليل من فاعله على قلة إحساسه بالمسئولية، وقلة تعظيمه لشعائر الله، وضعف تقواه. وكذلك من رحمة الله بعباده، وخاصة جيران بيته المحرم ألاًّ يحملهم ما لا يُطيقون، أو يؤاخذهم بما لا يستطيعون ردّه، أو التحكم فيه، كحديث النفس والوساوس.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة/286] ، إرشاد للمؤمنين، يتوسلون به إليه، ويدعونه جلّ وعلا بما يرفع عنهم المشقة، أو التعرض لسخطه، وعذابه، بما يأتونه نسياناً منهم، أو عند غلبة الهوى والنفس والشيطان عليهم.
فهم كسائر خلقه جلّ وعلا ليسوا معصومين عن الخطأ، والمعاصي، وليسوا كهيئة الملائكة عباد الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم/6] .
وبعد ذلك وقبله يُفترض فيمن جاور المسجد الحرام من المؤمنين أن يكون على قدر ذلك الجوار في سلوكه، ومنهجه وعقيدته، وألاّ يصدر عنه من أفعال، وأقوال إلاّ ما يُرضي رب البيت، ومليكه، وفق ما سنَّه، وشرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.(39/77)
وأن لا يلحد في بيته بلفظ الشرك أو فعله، فيميل عن الحق ويتبع سبيل المجرمين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/48،116] .
وإذا بلغ بالمسلم السَّفه، أو الجهل، أوالطغيان حدّ الإشراك بالله الواحد الأحد في بيته، وتحت ظل كعبته، فقد ظلم نفسه ظلماً عظيماً، واستحق من الله - عدلاً وإنصافاً - عذاباً أليماً، وإن كان منه ذلك مجرد إرادة: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان/13] .
وما من شيء يُسخط الرحمن، ويُغضبه، مثل الإشراك به، ومن ثم ما من شيء من الأفعال أو الأقوال محبب إلى الله، مثل توحيده، والثناء عليه من خلقه، وصدق الله القائل: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء/147] .
وهذه الأمور وغيرها أكسبت أرض الحرم قدراً، وهيبة، ومكانة مقدسة، في نفوس جميع المسلمين، مما يتوجب معه أن يكون لها ما يواكب هذه القدسية من مرافق، وخدمات. كوجود محطة بث مرئي خاصة، تتشابه في برامجها مع إذاعة نداء الإسلام. والحد من عمل البنوك داخل أرض الحرم.
وإحكام مداخل الحرم البرية وغيرها، لمراقبة الداخلين إلى أرض الحرم، ومنع من يصدر في حقه حكم شرعي - يُجرِّمه أخلاقياً وسلوكاً، وإبعاد من يدان بشيء من الزندقة، والفسوق، والبدع المخلة.
هذا ما منَّ الله به عليَّ ويسّره حول هذا الموضوع الخطير، وإني اعتذر إلى الفقهاء والمؤرخين بخاصة عن أي قصور فيما أوردته من مسائل وأحكام تتعلق بفنيهما. سائلاً المولى عز وجل أن يُلهمنا الصواب في القول والعمل.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس/10] .
المراجع
1 - أحكام القرآن لابن العربي. تحقيق علي محمد البجاوي. دار المعرفة. بيروت.(39/78)
2 - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه. لأبي عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي. تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش. الناشر: مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة. سنة 1407هـ.
3 - أخبار مكة للأزرقي. تحقيق: رشدي الصالح ملحس. مطابع دار الثقافة. ط4. سنة 1403هـ بمصر.
4 - أسباب النزول للواحدي. تحقيق: سيد صقر. ط2. سنة 1404هـ. الناشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية.
5 - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. مراجعة عبد الله العلايلي. الناشر: دار الثقافة - بيروت. ط3. سنة 1381هـ.
6 - الإصابة في تميز الصحابة. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. الناشر: مؤسسة الحلبي. القاهرة.
7 - الإملاء المختصر في شرح غريب السير. للخشني. بتحقيق أ. د عبد الكريم خليفة. الناشر: دار البشر. سنة 1412هـ. عمان. الأردن.
8 - تفسير الثوري. تعليق: امتياز علي عرشي. طبعة وزارة المعارف الهندية. سنة 1385هـ.
9 - تفسير الطبري. أبو جعفر محمد بن جرير "جامع البيان عن تأويل آي القرآن". بتحقيق: محمود وأحمد شاكر. دار المعارف.
10 - تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي. الناشر: دار الأندلس - بيروت. سنة 1385هـ.
11 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) عن طبعة دار الكتب المصرية. ط3. دار القلم سنة 1386هـ.
12 - تهذيب اللغة. لأبي منصور محمد أحمد الأزهري. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. الناشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر. الدار المصرية للتأليف والترجمة. سنة 1384هـ.
13 - توسعة وعمارة الحرمين الشريفين. رؤية حضارية. الناشر: مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر. الطبعة الثانية. سنة 1412هـ-.
14 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري. تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط. الناشر: مكتبة الحلواني - ومطبعة الملاح. مكتبة دار البيان. سنة 1389هـ.(39/79)
15 - حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد الأصفهاني. المكتبة السلفية. دار الفكر.
16 - الدر المنثور في التفسير المأثور لعبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي. الناشر: دار الفكر للطباعة. سنة 1403هـ.
17 - الرسالة للشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. الناشر: مكتبة دار التراث بالقاهرة. سنة 1399هـ.
18 - روح المعاني للألوسي. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
19 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام. للسُهيلي. تحقيق: عبد الرحمن الوكيل. الناشر: دار الكتب الحديثة. القاهرة. سنة 1387هـ.
20 - سنن أبي داود. سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي. دار الحديث للطباعة والنشر. بيروت. سنة 1388هـ.
21 - سنن ابن ماجه.
22 - سنن البيهقي. مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن. الهند. سنة 1352هـ.
23 - سنن الدارمي لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن. الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
24 - السيرة النبوية لابن هشام. تحقيق: مصطفى السقا. إبراهيم الأبياري. عبد الحفيظ شلبي. الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
25 - شرح أبيات المغني. لعبد الله بن عمر البغدادي. تحقيق عبد العزيز رباح. الناشر: دار المأمون للتراث. دمشق. ط2. سنة 1407هـ.
26 - شرح النووي على صحيح مسلم. دار إحياء التراث العربي. بيروت. ط2. سنة 1392هـ.
27 - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام. لتقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي. تحقيق لجنة من كبار العلماء والأدباء - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
28 - صحيح الأخبار. لابن بليهد. الطبعة الثانية. سنة 1392هـ.
29 - صحيح الإمام البخاري. الجامع الصحيح. الناشر: رئاسة إدارات البحوث العلمية، سنة 1397هـ، بالمملكة العربية السعودية.(39/80)
30 - صحيح مسلم. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي - سنة 1374هـ.
31 - طبقات ابن سعد الكبرى. طبعة دار صادر. بيروت.
32 - العمدة في غريب القرآن لمكي بن أبي طالب القيسي. بتحق-يق: د. يوس-ف عبد الرحمن المرعشلي. الناشر: مؤسسة الرسالة. ط2. سنة 1404هـ.
33 - غريب الحديث لابن قتيبة. تحقيق: عبد الله الجبوري. إحياء التراث الإسلامي وزارة الأوقاف العراقية. سنة 1397هـ.
34 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
35 - القِري لقاصد أم القرى لمحب الدين الطبري. الناشر: دار الفكر. الطبعة الثالثة. سنة 1403هـ.
36 - كتاب التعريفات. لعلي بن محمد الجرجاني. بتحقيق: د0 عبد المنعم الحفني - دار الرشاد - القاهرة.
37 - لسان العرب لابن منظور. دار صادر / دار بيروت. سنة 1388هـ.
38 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. دار الكتاب. بيروت. سنة 1967م.
39 - المحلى لابن حزم. تصحيح: محمد خليل هراس. مطبعة الإمام. بمصر.
40 - مختار الصحاح.
41 - المسائل في أعمال القلوب والجوارح. للحارث بن أسد المحاسبي. تحقيق: عبد القادر أحمد عطا. الناشر عالم الكتب - القاهرة. سنة 1969م.
42 - المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري. توزيع دار الباز للنشر. مكة المكرمة.
43 - مسند الإمام أحمد بن حنبل.
44 - مسند الطيالسي. سليمان بن داود بن الجارود الفارسي. طبعة مجلس المعارف النظامية. حيدر أباد الدكن. سنة 1321هـ. الناشر: دار الكتاب اللبناني. دار التوفيق.
45 - مصنف بن أبي شيبة. تحقيق: عبد الخالق الأفغاني. الناشر: الدار السلفية بالهند. ط2. سنة 1399هـ.
46 - مصنف عبد الرزاق. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. منشورات المجلس العلمي. الناشر: المكتب الإسلامي بيروت. سنة 1390هـ.(39/81)
47 - المطالب العالية. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
48 - معالم السنن لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي. مع سنن أبي داود. إعداد: عزت عبيد الدعاس. الناشر: دار الحديث والطباعة والنشر. سنة 1388هـ.
49 - معجم ألفاظ القرآن الكريم. مجمع اللغة العربية. الهيئة المصرية العامة. سنة 1973هـ.
50 - المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية. حمد الجاسر. الناشر: دار اليمامة. الرياض.
51 - المعجم الكبير للطبراني. الدار العربية للطباعة. أعظمية نجيب باشا.
52 - معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية. للمقدم عاتق بن غيث البلادي. دار مكة. سنة 1402هـ.
53 - معجم قبائل الحجاز. لعاتق بن غيث البلادي. الناشر: دار مكة للنشر. ط2 - سنة 1403هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الصحاح، واللسان: مادة (رود) .
[2] انظر كتابه التعريفات (ص26) .
[3] انظر تفسيره روح المعاني (1/208) .
[4] انظر تعريفات الجرجاني (284) .
[5] المصدر السابق (107)
[6] انظر تفسير روح المعاني للألوسي (26/178) .
[7] أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الأيمان والنذور باب إذا حنِثت ناسياً في الأيمان، حديث رقم (6664) ، ومسلم في كتاب الإيمان (201-202) .
[8] انظر تفسير روح المعاني (12/213) .
[9] أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الرقاق باب من همّ بحسنة أو بسيئةٍ، حديث رقم (6491) .
[10] رواية الثوري في تفسيره: من همَّ بخطيئة ولم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها، ولو أن رجلاً همَّ - وهو يقدر - أن يقتل رجلاً عند البيت لأذاقه الله عذاباً أليماً، انظر تفسيره ص168.
[11] (أبين) موضع في جبل عدن، نسبت إليه مدينة (عدن) لشهرته (انظر معجم المعالم الجغرافية في السيرةالنبوية، لعاتق بن غيث البلادي، ص14، وص2..) .(39/82)
[12] قال ابن حجر في الفتح (12/210) : إسناده صحيح، وقال: وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه عنه موقوفاً، وأخرجه أحمد (1/428) عن يزيد بن هارون عن شعبة عن السدي عن مرة عند عبد الله، قال الحاكم في المستدرك (2/388) : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأخرجه الطبري (17/95) في تفسيره من طريق أسباط بن نصر عن السدي موقوفاً، والحاكم في المستدرك (2/387) عن الثوري عن زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة، قال: "ما من عبدٍ يهمُّ بذنب فيؤاخذه الله بشيء حتى يعمله، إلاّ من همَّ بالبيت العتيق شراً، فإنه من همّ به شراَ عجل الله له، (انظر الدر المنثور للسيوطي 6/29) وانظر علل الدارقطني (5/269) .
[13] انظر كتابه فتح الباري (11/328) .
[14] انظر تفسيره (28/241) .
[15] أخرجه البخاري في صحيحه في الإيمان باب: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... } حديث رقم (31) ، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (14/2888) .
[16] انظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، وانظر شرح النووي عليه (2/144) .
[17] انظر كتابه فتح الباري (8/206 ـ 207) .
[18] انظر تفسيره روح المعاني (3/64) .
[19] انظر صحيحه كتاب الإيمان، باب: إذا همَّ العبد بحسنة (203ـ128) ، وانظر فتح الباري لابن حجر، (11/327) .
[20] تفسير القرطبي (4/215) .
[21] انظر فتح الباري، لابن حجر (11/327) .
[22] كتاب الجرجاني (ص37) .
[23] مادة / ل / ح / د.
[24] رواه ابن قتيبة في غريبة (1/251) ، و (الأحمر) هو أبان بن عثمان بن يحيى اللؤلؤي، من شيوخ أبي عبيدة، من علماء اللغة، (انظر بغية الوعاة: 1/405) .
[25] انظر معجم ألفاظ القرآن (ص377) .(39/83)
[26] انظر كتابه أحكام القرآن (3/1276) [تحقيق على محمد البجاوي/ دار المعرفة بيروت] .
[27] رواه أبو داود في سننه من كتاب المناسك باب تحريم حرم مكة، وإسناده ضعيف فإن فيه جعفر بن ثوبان وشيخه عمارة بن ثوبان وثقهما ابن حبان، وهما مجهولان.
[28] انظر النهاية في غريب الحديث (2/25.) .
[29] انظر تفسيره (13/282 ـ 283) .
[30] انظر كتاب الديات، من صحيح البخاري، باب من طلب دم امريء بغير حق.
[31] أخرجه الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود، سبق تخريجه ص 164.
[32] انظر كتابه فتح الباري (12/21.) .
[33] انظر حلية الأولياء (1/29.) وتفسير الطبري (17/141) وأخبار مكة للأزرقي (2/131) وللفاكهي (2/256) .
[34] انظر تفسير القرطبي (12/34) .
[35] انظر القِرى لقاصد أم القرى، لمحب الدين الطبري (ص646) .
[36] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (5/151) .
[37] انظر تفسير الطبري (13/283) .
[38] انظر كتابه: العمدة في غريب القرآن.
[39] انظر معجم ألفاظ القرآن (377) .
[40] انظر تعريفات الجرجاني (ص164) .
[41] انظر كتابه أحكام القرآن (3/1276) .
[42] اللسان، مادة / ظ / ل / م.
[43] أنظركتابه فتح الباري (1/87 / 88) .
[44] انظر كتابه أحكام القرآن (3/1276) .
[45] انظر تفسيره عند آية (25) من سورة الحج.
[46] رواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان (202 / 127) باب بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس (شرح النووي 2/147) .
[47] المرأة اسمها: سُبيعة بنت الأَحبِّ، من هوازن من قيس عيلان، (انظر سيرة ابن هشام) (1/26) ، وانظر الإملاء المختصر في شرح غريب السير ـ للخشني (1/81) .
[48] انظر الإملاء المختصر (1/116) .(39/84)
[49] (نجربة) يفتح الخاء المعجمة، وإسكان الراء، أصلها سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة، وفي صحيح البخاري: إنها البلية، وقال: الخليل: هي الفساد في الدين من (الخارب) وهو اللص المفسد في الأرض، (النووي في شرحه على صحيح مسلم " 9/128 ") .
[50] الحديث والروايات من صحيح مسلم كتاب الحج أحاديث رقم (445 إلى 449) ، وانظر صحيح البخاري كتاب الحج باب لا يُعضَد شجر الحرم. وقبله كتاب العلم ليبلغ الشاهد الغائب.
[51] انظر شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، للفاسي (1/72) .
[52] . انظر ابن ماجه في المناسك، باب فضل مكة رقم (3108) والمستدرك للحاكم (3/7) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ورواه الترمذي في المناقب في فضل مكة (4017) ، وقال: حسن غريب صحيح. ومسند أحمد (4/305) .
[53] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل المدينة باب لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم في الفتن (123ـ2943) .
[54] انظر مصنف ابن أبي شيبة (10/116) ، عن أبي بكر قال: حدثنا أبو الأحوص عن خصيف ومصنف عبد الرزاق (9/304) ، عن الثوري عن منصور.
[55] انظر سنن البيهقي (9/214) ، ومصنف عبد الرزاق (5/152) و (9/304) ، والمحلى لابن حزم (1./493) وتفسير الطبري (4/13) والدر المنثور (2/55) .
[56] انظر الفاكهي (3/74) رقم (1822) والدر المنثور للسيوطي، (1/209) .
[57] انظر سنن ابن ماجه كتاب المناسك، باب أجر بيوت مكة، رقم (3107) ، قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[58] انظر كتابه أحكام القرآن (3/1276) .
[59] أخرجه البخاري في صحيحه، من كتاب الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب.
[60] انظر القِرى (548) .
[61] انظر صحيح البخاري، كتاب التيمم، الباب الأول، وصحيح مسلم، كتاب المساجد (3،4،5) .
[62] انظر مصنف عبد الرزاق (5/28) ، وتفسير الطبري (17/141) ، وتفسير القرطبي (12/34) .(39/85)
[63] انظر الدر المنثور (6/29) ، وفتح الباري (11/328) .
[64] انظر مسند الطيالسي عن ابن الزبير، ورواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ... حديث رقم (1406) ، قال في الزوائد: صحيح ورجاله ثقات.
[65] رواه الفاكهي بسند حسن إلى ابن عباس عن عبد الله بن منصور عن عبد الرحيم بن زيد العميِّ عن أبيه عن سعيد بن جبير. عبد الرحيم كذّبه ابن معين، وأبوه ضعيف، (انظر أخبار مكة للفاكهي (2/92) رقم 1189، وانظر شفاء الغرام للفاسي (1/8. ـ 81) .
[66] رواه البخاري في صحيحه من كتاب الصلاة باب ما يُستر من العورة.
[67] انظر فتح الباري (8/83) .
[68] المصدر السابق (8/320) .
[69] انظر تفسيره (14/191) بتحقيق محمود شاكر.
[70] أخرجه مسلم برقم (2657) كتاب القدر، باب قدِّر على ابن آدم حظَّه من الزنى وغيره (4/2046) وأبو داود (2153) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/343، 344، 372، 411) ، كلهم من طريق سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً.
[71] أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في صحيحه، من كتاب المساقاة، رقم (107) .
[72] نقله عنه الطبري في تفسيره (14/191) ، وانظر الدر المنثور (4/165) .
[73] انظر صحيح البخاري كتاب الحج، باب لا يُعضد شجر الحرم.
[74] انظر مصنف عبد الرزاق (5/28) ، وتفسير الطبري (17/141) وحلية الأولياء (1/29.) .
[75] انظر القِري (ص 657) .(39/86)
[76] أخرج البخاري في كتاب الحج، باب من صلّى العصر يوم النفر بالأبطح، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت فطاف به، وعن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتم نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال بالظهر على ظهر الكعبة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً ... إلى أن قال: "ولم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام بيتاً من بيوت مكة، وإنما أمر بقبة ضُربت له بالأبطح فكان هناك حتى خرج منها، (انظر القِرى لمن قصد أم القُرى (ص26.) .
[77] أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الحج، باب المحصَّب، ومسلم في صحيحه، من كتاب الحج رقم (339) .
[78] انظر فتح الباري (3/591) .(39/87)
تأمُّلات
في مماثلة المؤمن للنَّخلة
بقلم
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الحمد لله الذي غرس شجرةَ الإيمان في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصَّهم بوافرِ فضلِه وجزيل نعمته، وفضّلهم بمنِّه ورحمتِه على سائر خليقتِه، فهي {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} ، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد بن عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على مسلمٍ ما للإيمانِ من أهميّةٍ عظيمةٍ، ومكانةٍ عاليةٍ رفيعةٍ، ودرجةٍ ساميةٍ مُنِيفةٍ، فهو أعظمُ المطالبِ، وأَجَلُّ المقاصدِ، وأنبلُ الأهداف؛ إذ به ينال العبدُ سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُدرِك أهمَ المطالب وأجَلَّ المقاصد، ويظفرُ بالجنَّةِ ونعيمِها، وينجو من النارِ وسخَطِ الجبَّارِ، وينالُ رضى الربِّ فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذّذُ بالنظرِ إلى وجهه الكريم في غير ضرّاءَ مضرّة ولا فتنةٍ مضلّةٍ، وثمراتُ الإيمان وفوائدُه كثيرةٌ لا تُحصى، فكم للإيمان من فوائدَ عظيمة، وثمارٍ يانِعةٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة.(39/88)
ولما كان الإيمان بهذه المثابة وعلى هذا القدرِ من الأهمية، كانت النصوص المبيّنة لفضله والدالّة على شريف قدره كثيرةً جداً ومتنوّعةً؛ إذ إنَّ مِن حكمة الله البالغة ونعمته السابغة على عباده أنْ جعل الأمر كلَّما كانت الحاجة إليه أعظم والضرورة إليه ألزم كانت براهينُه وطرقُ تحصيله وسُبُلُ نيلِه أوفر وأكثر، وحاجة العباد إلى الإيمان هي أعظم الحاجات، وهي أعظم من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم؛ ولذا كانت دلائلُ الإيمانِ أقوى الدلائل، وبراهينُه أصحَّ البراهين، وسبلُ نيله وتحصيله أيسرَ السبل مسلكاً وأقربَها مأخذاً وأسهلَها مُتناولا؛ ولذا أيضا تنوّعت وتعدّدت براهينُ الإيمان ودلائله الموضحة له إجمالاً وتفصيلاً.
وإنَّ من أعظم دلائل الإيمان التي اشتمل عليها القرآن ضربَ الأمثال التي بها تتّضح حقيقتُه، وتستبينُ تفاصيلُه وشعبُه، وتظهرُ ثمرتُه وفوائدُه.
والمَثَلُ هو عبارة عن قولٍ في شيء يُشبِه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة لتبيين أحدهما من الآخر وتصويره، ولا ريب "أنَّ ضربَ الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى- وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين-: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} [1] ، وقد اشتمل منها [أي القرآن] على بضعة وأربعين مثلاً، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلاً لم يفهمه يشتدُّ بكاؤُه ويقول: لست من العالِمين" [2]
وكان قتادة يقول: "اعقِلوا عن الله الأمثال" [3] .
ومن هنا رأيتُ أن أقدِّم هذه الدراسة لأحدِ أمثال القرآن والسنة المشتملة على بيان الإيمان وتقريبه، وإيضاح أصلِه وفرعه وشُعبِه وثمراته، ومن الله وحده العونُ والتوفيقُ.(39/89)
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [4] ، فهذا مَثَلٌ بديعٌ عظيمُ الفائدةِ، مُطابقٌ لما ضُرِب له تمام المطابقة، وقد بدأه الله بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} .
أي: ألم ترَ بعين قلبِك فتعلمَ كيف مثّل الله مثلاً وشبّهه شبهاً للكلمة الطيّبة كلمة الإيمان، وختَمَه بقوله: {وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
أي: أن القصد من ضرب هذا المثل وغيرِه من الأمثال هو تذكيرُ الناس ودعوتُهم إلى الاعتبار وعقلِ الخطاب عن الله.
ولا شك أنَّ هذا البدء والختم في الآية فيه أعظم حَضٍّ على تعلُّمِ هذا المثل وتَعَقُّلِه، وفيه دلالة على عِظم شأن هذا المثل المضروب، كيف لا وهو يتناول بيان الإيمان الذي هو أعظم المطالب وأشرف المقاصدِ على الإطلاق.(39/90)
وعندما نتأمّل هذا المثل العظيم نجِدُ أنَّ الله تبارك وتعالى ذَكَر فيه مُمثَّلاً له، ومُمثَّلاً به، ووجهَ المثلية بينهما، فالممثَّلُ له هو الكلمة الطيّبة، والممثَّلُ به الشجرة الطيّبة، ووجه المثلية هو كما قال الله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} ، فشبَّهَ تبارك وتعالى كلمةَ الإيمان الثابتة في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من فروع وشُعب وثمار بالشجرة الطيّبة الثابتة الأصل الباسقةِ الفرع في السماء علوّاً، التي لا تزالُ تؤتي ثمراتها كلَّ حين، ومن يتأمّل في المُمثّلِ به وهو الشجرة الطيّبة، والممثّل له وهو كلمة الإيمان في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من ثمارٍ يجدُ أوصافاً عديدةً متطابقة بينهما، وقد أُشيرَ إلى بعضها في الآية كما تقدّم.(39/91)
ولذا يقول ابن القيّم رحمه الله: "وإذا تأمَّلتَ هذا التشبيه رأيتَه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعُها من الأعمال الصالحة صاعدةً إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كلَّ وقتٍ، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصِه فيها، ومعرفتِه بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتِها حقَّ رعايتها، فمَن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتَّصف قلبُه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسنَ صبغة منها، فعرَفَ حقيقةَ الإلهية التي يُثْبِتها قلبُه لله ويشهدُ بها لسانُه وتصدِّقُها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمَها عن كلِّ ما سوى الله، وواطأَ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحُه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سُبلَ ربِّه ذُلُلاً غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبودِه الحق بدلاً؛ فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرَتَها من العمل الصالح الصاعدِ إلى الله كلَّ وقت، فهذه الكلمة الطيّبةُ هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمةُ الطيّبةُ تُثمرُ كلماً كثيراً طيّباً يقارنُه عملٌ صالحٌ فيرفع العملُ الصالح الكلمَ الطيّب، كما قال تعالى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، فأخبر سبحانه أنَّ العملَ الصالحَ يرفعُ الكلِمَ الطيِّب، وأخبر أنَّ الكلمةَ الطيّبة تُثمر لقائلها عملاً صالحاً كلَّ وقت.
والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً، متَّصفاً بموجبها قائماً قلبُه ولسانُه وجوارحُه بشهادته؛ فهذه الكلمةُ الطيّبةُ هي التي رفعتْ هذا العملَ من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كلَّ وقت" [5] .(39/92)
وقد صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشجرةَ الطيّبة هي النخلة، وذلك فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مخرّج في الصحيحين من طرق كثيرة عنه رضي الله عنه.
فقد روى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ "فوقع الناس في شجر البوادي [6] . قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: "هي النخلة".
قال: فذكرتُ ذلك لعمر. قال: لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا [7] . وهذا لفظ مسلم.
ورواه البخاري من طريق سليمان، عن عبد الله بن دينار به [8] .
ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار به [9] .
وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي نُجيح، عن مجاهد قال: صحِبتُ ابنَ عمر إلى المدينة فلم أَسمعهُ يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُتي بجُمّار، فقال: "إنَّ من الشجر شجرةً مثلها كمثل المسلم". فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" [10] .
ورواه البخاري من طريق أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جُمَّاراً، فقال: "من الشجر شجرةٌ كالرجل المؤمن". فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أحدثهم. قال: "هي النخلة" [11] .(39/93)
ورواه البخاري من طريق الأعمش قال: حدّثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسٌ، إذ أُتي بجُمّار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم". فظننت أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله، ثم التفتُّ فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم، فسكتُّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" [12] .
ورواه البخاري من طريق زُبيد، عن مجاهد به مختصراً [13] .
ورواه مسلم من طريق أبي خليل الضُّبَعيِّ، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: "أخبروني عن شجرة، مثلُها مثلُ المؤمن"، فجعل القوم يذكرون شجراً من البوادي. قال ابن عمر: وأُلقي في نفسي أو روعي أنها النخلة. فجعلتُ أريد أن أقولها، فإذا أسنانُ القوم، فأهابُ أن أتكلّم، فلما سكتوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" [14] .
ورواه مسلم أيضاً من طريق سيف، عن مجاهد به [15] .
وروى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبروني بشجرة تُشبه أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُها ولا ولا ولا" [16] ، تؤتي أكلها كلَّ حين. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنَّها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهتُ أن أتكلّم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة". فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة. فقال: ما منعك أن تكلَّم؟ قال: لم أرَكُم تكلَّمون فكرهتُ أن أتكلم أو أقول شيئاً. قال عمر: لأَنْ تكون قلتَها أحبُّ إليّ من كذا وكذا" [17] .(39/94)
وروى البخاري من طريق محارب بن دِثار: سمعت ابنَ عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ". فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة - وأنا غلام شاب - فاستحييت، فقال: "هي النخلة" [18] .
ورواه البخاري تعليقاً من طريق حفص بن عاصم، عن ابن عمر مثله [19] .
فهذا مجموع ما في الصحيحين من طرق لهذا الحديث العظيم، وللحديث طرقٌ أخرى خارج الصحيحين في السنن والمسانيد والمعاجم، سيأتي الإشارة إلى شيء منها.
ثم إنَّ البخاري - رحمه الله - وقد روى الحديث في مواطن عديدة من صحيحه فقد روى الحديث في كتاب التفسير من صحيحه، في باب: {كشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} ، وهو بذلك يشير إلى أنَّ المراد بالشجرة المذكورة في الآية هي النخلة، فيكون الحديث بذلك مفسِّراً للآية.
وقد ورد هذا صريحاً فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ... } فقال: أتدرون ما هي؟ قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلّم مكان سِنِّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة:" [20] .
قال ابن حجر: "ويُجمع بين هذا وبين ما تقدّم أنَّه صلى الله عليه وسلم أُتي بالجُمّار فشرع في أكله تالياً للآية قائلاً: "إنَّ مِنَ الشجر شجرةً ... " إلى آخره، ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ ... " فذكر الحديث، وهو يؤيّد رواية البزار" [21] .(39/95)
ويؤيّد هذا أيضاً الروايات الكثيرة الواردة عن السلف الصحابة وغيرهم في تفسير الشجرة الطيّبة في الآية بأنَّها النخلة.
فقد روى الترمذي وغيره عن شعيب بن الحبحاب قال: كنّا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب، فقال أنس رضي الله عنه لأبي العالية: "كُلْ يا أبا العالية، فإنَّ هذا من الشجرة التي ذَكَر الله في كتابه: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا} قال: هكذا قرأها يومئذ أنس".
ورواه الترمذي من وجه آخر مرفوعاً، وقال: "هذا الموقوف أصح" [22] .
وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السلف، منهم: ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد [23] .
وقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعنى المتقدّم، وهو تشبيه المؤمن بالنخلة في أوجز عبارة، وذلك فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها مِنْ شيء نفعك" [24] .
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدة.
وقد أفرد أبو حاتم السجستاني - رحمه الله - كتاباً خاصاً بالنخل، بيّن فيه فضله وخصائصه وأسماءه، وذكر أبحاثاً عديدةً مفيدةً متعلّقةً به، قال في أوله:
"النخلة سيّدة الشجر، مخلوقة من طين آدم صلوات الله عليه، وقد ضربها الله جلّ وعزّ مثلاً لقول "لا إله إلا الله"فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} وهي قول: "لا إله إلا الله"، {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهي النخلة.
فكما أنَّ قول “ لا إله إلا الله"سيّد الكلام، كذلك النخلة سيّدة الشجر" [25] .(39/96)
ثم أخذ يفصّل القول في الكلام على هذه الشجرة الكريمة الفاضلة، واستشهد لقوله إنَّها مخلوقة من طين آدم عليه السلام بما ساقه بسنده من طريق مسرور بن مسعود التميمي قال: حدّثني الأوزاعي، عن عروة بن رُويم، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرِموا عمَّتكم النخلة، فإنها خُلقت مِنَ الطين الذي خُلق منه آدم، وليس شيء يُلقح غيرها، وأطعِموا نساءكم الوُلَّد الرُّطَب فالتمر، وليس شيء من الشجر أكرم على الله جلّ وعزّ من شجرة نزلت تحتها مريم ابنة عمران".
إلا أنَّ إسناد هذا الحديث واهٍ، فلا يصلح للاحتجاج، تفرّد به مسرور بن مسعود وهو متّهم.
قال ابن الجوزي: "لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عدي: مسرور غير معروف وهو منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الأوزاعي المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بما يرويها" [26] .
وقال الذهبي: "غمزه ابن حبان، فقال: يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة" [27] .
وعلى كلٍّ، فلا ريب في فضل النخلةِ وشرفِها وتميّزها، ويكفيها فضيلةً أنَّها خُصّت من بين سائر الشجر بأن جُعلت مثلاً للمؤمن، وفي النصوص المتقدّمة ما يدلّ على أنواع من الفضائل والميزات للنخلة؛ كثبات الأصل وارتفاع الفرع، وإيتائها أكلها كلّ حين، ووصفها بالبركة، وأنَّها لا يؤخذ منها شيء إلا نفع، ونحو ذلك مما يدل على فضل النخلة وتميّزها.
ثمّ ها هنا أمرٌ مهمّ، وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما شَبَّه المؤمن بالنخلة، لا شك أنَّ ثَمّ هناك أوجهاً عديدةً في الشبه بين المؤمن المطيع لله الذي قامت في قلبه كلمةُ الإيمان وانغرست في صدره وأخذت تُثمر الثمارَ اليانعة والخيرَ المتنوّع وبين النخلة.(39/97)
ولا ريب أنَّ الوقوفَ على أوجه الشبَّه بينهما والحرص على معرفة ذلك والفقه فيه أمرٌ جديرٌ بالاهتمام والعناية؛ لعظم فائدته وكثرة منافعه، والله تعالى قد أرشد في كتابه إلى فهم هذا عندما مثّل المؤمن بها وذكر بعض أوجهِ الشبَّه بينهما حيث قال: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} .
هذه أربعة وجوه في الشبه بينهما، ومن يتأمّل في الممثَّل والممثَّل به يجد بينهما من أوجه الشبّه الشيء الكثير، ومن يطالع كلامَ أهل العلم في هذا الباب يقف من ذلك على لطائفَ جمّة وفوائد مهمّة. ولعَلِّي فيما يلي أستعرض جملةً من أوجه الشبه بينهما من خلال ما وقفت عليه من كلام أهل العلم في ذلك في كتب التفسير وشروحات الحديث وغيرها.
فمن هذه الأوجه [28] :
أولاً: أنَّ النخلة لا بدّ لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، وكذلك شجرة الإيمان لا بدّ لها من أصل وفرع وثمر، فأصلها الإيمان بالأصول الستة المعروفة، وفرعُها الأعمال الصالحة، والطاعات المتنوّعة، والقربات العديدة، وثمراتُها كلُّ خير يحصِّلُه المؤمن، وكلُّ سعادة يجنيها في الدنيا والآخرة.
روى عبد الله في السنة عن ابن طاووس، عن أبيه قال: "مثل الإيمان كشجرة؛ فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا، وثمرُها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع فيه" [29] .
قال البغوي رحمه الله: "والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة هي أنَّ الشجرةَ لا تكون شجرةً إلاَّ بثلاثة أشياء؛ عِرق راسخ، وأصلٌ قائم، وفرع عالٍ، وكذلك الإيمان لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء؛ تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعمل بالأبدان" [30] .(39/98)
وقال ابن القيم رحمه الله: "الإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب فروعُها الأعمال، وثمرها طِيبُ الحياة في الدنيا، والنعيمُ المقيمُ في الآخرة، وكما أنَّ ثمار الجَنّة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوفُ والهمُّ والغمُّ وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزَّقومُ والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم" [31] .
ثانياً: أنَّ النخلة لا تبقى حيّةً إلاّ بمادة تسقيها وتنميها، فهي لا تحيا ولا تنمو إلاّ إذا سُقيت بالماء، فإذا حبس عنها الماء ذبلت، وإذا قطع عنها تماماً ماتت، فلا حياة لها بدونه، وهكذا الشأنُ في المؤمن لا يحيا الحياة الحقيقية ولا تستقيم له حياته إلاّ بسقي من نوع خاص، وهو سقيُ قلبه بالوحي، كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا سمَّى الله الوحيَ روحاً في نحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعِلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} [32] ، وقوله: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بالرُوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [33] ؛ لأنَّ حياة القلوب الحقيقية إنَّما تكون به، وبدونه فإنَّ الإنسان يكون ميتا ولو كان بين الناس من الأحياء {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُلُمُاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [34] ، ولذا يقول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [35] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.(39/99)
فهذا وجه شبهٍ ظاهرٍ بين المؤمن والنخلة، فالنخلة لا تحيا إلاَّ إذا سُقيت بالماء، والمؤمن لا يحيى قلبُه إلاَّ إذا سُقي بالوحي، وكما أنَّ الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء اهتَزَّت ورَبَتْ وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ، فكذلك القلب الميّت إذا سمع الوحي وقَبِلَه صَلُحَ وحسُنَ ونما فيه من الخير الشيءُ الكثير.
ولذا لمّا حذّر الله في سورة الحديد من عدم الخشوع لذكر الله كحال الذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، قال عقِب ذلك سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [36] وفي هذا إشارة إلى أنَّ الذي يُحيي الأرض بعد موتها بالماء فهو كذلك يُحيى القلوبَ بعد موتها بالوحي، ولكن ذلك إنّما يكون لمن عقل آيات الله.
وبهذا يتبيّن أنَّ "شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبُها بسقيها كلَّ وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكّر على التفكّر والتفكّر على التذكّر، وإلاّ أوشك أن تيبس، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان يخْلَقُ في القلب كما يخلَقُ الثوبُ فجدّدوا إيمانكم" [37] . وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا تعلم شدّة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظّفها عليها وجعلها مادة لسقي غِراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم" [38] .
ثالثاً: أنّ النخلةَ شديدةُ الثبوت، كما قال الله تعالى في الآية المتقدمة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ، وهكذا الشأنُ في الإيمان إذا رسخ في القلب فإنه يصير في أشدّ ما يكون من الثبات لا يزعزعه شيء، بل يكون ثابتاً كثبوت الجبال الرواسي.(39/100)
سئل الأوزاعي رحمه الله عن الإيمان أيزيد؟ قال: "نعم حتى يكون كالجبال، قيل: أينقص؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء" [39] .
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن زيادة الإيمان ونقصانه فقال: "يزيد حتى يبلغ أعلى السموات السبع، وينقص حى يصير إلى أسفل السافلين السبع" [40] .
رابعاً: أنَّ النخلة لا تنبت في كلِّ أرض، بل لا تنبت إلاّ في أراضٍ معيّنةٍ طيّبة التربة، فهي في بعض الأماكن لا تنبت مطلقاً، وفي بعضها تنبت ولكن لا تثمر، وفي بعضها تُثمر ولكن يكون الثمر ضعيفاً، فليس كلُّ أرض تناسب النخلة.
قال أبو حاتم السجستاني: "قالوا: وإنَّما يرديه ويسيء نبته طعمة الأرض، فيجيء ضخماً كثير القشر، سريع اليبس ثَنِتاً، أي: عَفِناً، جَخِراً نَخِراً، والجخرُ: الضخم الذي ليست له قوة ولا تعجبه الأرض فيميل وينتفخ وتخوي نخلته وتردؤ، وإذا كان في أرض جيّدة السر جاء أبيضَ رقيقاً، وتراه كأنَّ طرفه يدري لا يُعوِّجه شيء حتى يدرك الماء بعُدَ أو قَرُب، وإذا كان العِرْق في أرضٍ طيّبةِ الطين وقف ساعةً يشرع في الماء؛ لأنَّه يرجع إلى طينة طيبة وطعمة تعجبه، ولم ينحدِر إلاّ طلبَ الماء، فلما شام الماءَ وقف، وإذا انحدر من أرضٍ خبيثة الطين ليس لها سرٌّ انخرط حتى يتثنى في الماء عفناً؛ لأنّه إنما ساقه طلب الماء، فلما وجد طعمة الماء جعل انخراطاً فيه مِن بُغض ما فوقه" [41] . فليست كلُّ أرضٍ تناسب النخلة.(39/101)
وهكذا الشأنُ في الإيمان فهو لا يثبت في كلِّ قلبٍ، وإنَّما يثبتُ في قلب من كتب الله له الهدايةَ وشرح صدرَه للإيمان، والقلوب أوعيةٌ متفاوتةٌ، ولهذا صحّ في الحديث عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب الأرضَ، فكانت منها طائفةٌ قبِلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثيرَ، وكانت منها أجادِب قد أمسكت الماءَ فنفع الله به النَّاسَ فشربوا منها ورعوا وسقوا، وأصابت طائفة أخرى إنَّما هي قِيعان فلا تمسك ماءً ولا تنبتُ كلأً، كذلك مثلي ومثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِمَ وعلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به" [42] .
خامساً: أنَّ النخلةَ قد يخالطها دغلٌ ونبت غريبٌ ليس من جنسها قد يؤذي النخلةَ، ويضعف نموها، ويزاحمها في سقيها؛ ولهذا تحتاج النخلة في هذه الحالة إلى رعايةٍ خاصّة وتعاهدٍ من صاحبها بحيث يُزال عنها هذا الدغل والنوابت المؤذية، فإن فعل ذلك كمُل غرسه، وإن أهمله أوشك أن يغلب على الغرس فيكون له الحكم ويضعف الأصل.
وهكذا الأمر بالنسبة للمؤمن، لا شك أنَّه يصادفُه في الحياة أمورٌ كثيرةٌ قد توهي إيمانَه وتُضعف يقينَه، وتزاحم أصلَ الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا يحتاج المؤمن أنْ يحاسب نفسَه في كلِّ وقت وحين، ويجاهدها في ذلك، ويجتهد في إزالة كلِّ وارد سيئٍ على القلب، ويُبعد عن نفسه كلَّ أمر يؤثِّر على الإيمان كوساوس الشيطان، أو النفس الأمّارة بالسوء، أو الدنيا بفتنها ومغرياتها أو غير ذلك، والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [43] .(39/102)
سادساً: أنَّ النخلةَ كما أخبر الله {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} والأكل الثمر، فهي تؤتي ثمرها كلَّ حين ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاءً إمّا تمراً أو بُسراً أو رُطَباً.
وكذلك المؤمن يصعد عملُه أوّل النهار وآخره، قال الربيع بن أنس: {كُلَّ حِينٍ} : "أي كلّ غدوة وعشية؛ لأنَّ ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً، إمّا تمراً أو رطباً أو بُسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره" [44] .
وقال الضحاك: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} : "تخرج ثمرها كلَّ حين، وهذا مثل المؤمن يعمل كلَّ حين كلَّ ساعة من النهار، وكلَّ ساعة من الليل وبالشتاء والصيف بطاعة الله" [45] .
وقد أورد ابن جرير رحمه الله عن السلف عدّةَ أقوال في المراد بقوله تعالى: {كُلَّ حِينٍ} ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندي قول من قال: عنى بالحين في هذا الموضع: غدوة وعشية وكلَّ ساعة؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه ضرب ما تؤتي هذه الشجرة كلّ حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلاً، ولا شك أنَّ المؤمنَ يُرفع له إلى الله في كلِّ يوم صالح من العمل والقول، لا في كل سنة أو في كل ستة أشهر أو في كلِّ شهرين، فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنَّ المثل لا يكون خلافاً للممثَّل به في المعنى، وإذا كان ذلك كذلك كان بيِّناً صحة ما قلنا. فإن قال قائل: فأيُّ نخلة تؤتي في كلِّ وقت أكلاً صيفاً وشتاء؟ قيل: أما في الشتاء فإنَّ الطلع من أكلها، وأما في الصيف فالبَلَح والبُسر والرطب والتمر، وذلك كلّه من أكلها" [46] .
ثم روى عن قتادة أنه قال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} : "يؤكل ثمرها في الشتاء والصيف".(39/103)
سابعاً: أنَّ النخلةَ فيها بركةٌ في كلِّ جزء من أجزائها، فليس فيها جزء لا يُستفاد منه، وهكذا الشأنُ بالنسبة للمؤمن، وقد جاء في صحيح البخاري في بعض ألفاظ حديث ابن عمر المتقدّم من رواية الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم ... "الحديث.
"وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرّة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعاً، ثم بعد ذلك يُنتفع بجميع أجزائها حتى النَّوى في علف الدوابّ والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامّة في جميع الأحوال، ونفعُه مستمر له ولغيره حتى بعد موته" [47] .
ثامناً: أنَّ النخلةَ كما وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يسقط ورقُها"وبين المسلم والنخلة في هذا وجه شبه يتضح بما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر، ولفظه: قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "إنَّ مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ "قالوا: لا. قال: "هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة" [48] .
قال القرطبي في تفسيره مبيِّناً أهميةَ هذه الزيادة وعِظم فائدتها: "وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادةً تساوي رحلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهي النخلة لا تسقط لها أنملة، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة"فبيّن معنى الحديث والمماثلة" [49] .
والدعاء مأمور به كما هو معلوم، وموعود عليه بالإجابة كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [50] لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تتخلّف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه وآدابه والتي من أعظمها حضور القلب ورجاء الإجابة، والعزم في المسألة [51] .(39/104)
وذكر ابن القيّم رحمه الله في معنى الحديث وجهاً آخر وهو أنَّ ذلك يدلّ على: "دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفاً ولا شتاءً، كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافيَ ربَّه تعالى" [52] .
تاسعاً: أنَّ النخلة وُصفت في الآية بأنَّها طيّبة، وهذا أعمّ من طيب المنظر والصورة والشكل، ومن طيب الريح وطيب الثمر وطيب المنفعة، والمؤمن أجلّ صفاته الطيب في شؤونه كلِّها وأحواله جميعها، في ظاهره وباطنه وسرِّه وعلنه؛ ولهذا عندما يدخل المؤمنون الجَنَّةَ تتلقّاهم خزنتها وتقول لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [53] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [54] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ} [55] .
فالطيب أجَلُّ صفاتهم وأجمل نعوتهم وأحسن حليتهم في أحوالهم كلها، في أقوالهم وأعمالهم وفي حركاتهم وسكناتهم وشؤونهم جميعها.
عاشراً: أنَّ النخلةَ وُصفت بأنّها: "ما أخذتَ منها من شيء نفعك"كما في حديث ابن عمر المتقدّم، و "النخلة كلها منفعة، لا يسقط منها شيء بغير منفعة، فثمرها منفعة، وجذعها فيه من المنافع ما لا يُجهل للأبنية والسقوف وغير ذلك، وسعفُها تُسقف به البيوت مكان القصب، ويُستر به الفُرَج والخَلَلُ، وخوصُها يُتخذ منه المكاتل والزنابيلُ وأنواعُ الآنية، والحُصُر وغيرها، ولِيفُها وكربها فيه من المنافع ما هو معلوم عند الناس" [56] .(39/105)
وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه وجلسائِه ورفقائه، لا يُرى فيه إلاّ الأخلاق الكريمة، والآداب الرفيعة، والمعاملة الحسنة، والنصح لجلسائه، وبذل الخير لهم، ولا يصل إليهم منه ما يضر، بل لا يصل إليهم منه إلاَّ ما ينفع كالكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة والخلق الجميل والعون والمساعدة ونحو ذلك، فهو كالنخلة ما أخذتَ منه من شيء نفعك.
حادي عشر: أنّ النخل بينه تفاوت عظيمٌ في شكله ونوعه وثمره، فليست النخيل في مستوى واحد في الحسن والجودة، بل بينه من التفاوت والتمايز الشيء الكثير، كما قال الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [57] ، فهو متفاوت في طعمه ومنظره ونوعه، وبعضه أفضل من بعض.
وهكذا الشأن بين المؤمنين، فالمؤمنون متفاوتون في الإيمان، وليسوا في الإيمان على درجة واحدة، بل بينهم من التفاوت والتفاضل الشيء الكثير، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ} [58] .(39/106)
ثاني عشر: أنَّ النخلة أصبر الشجر على الرياح والجهد، وغيرُها من الدوح العظام تميلها الريح تارة، وتقلعها تارة، وتقصف أفنانها، ولا صبر لكثير منها على العطش كصبر النخلة، فكذلك المؤمن صبورٌ على البلاء لا تزعزعه الرياح، وقد اجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصيه، والصبر على أقداره المؤلمة، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [59] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [60] .
ثالث عشر: أنَّ النخلةَ كلَّما طال عمرُها ازداد خيرُها وجاد ثمرُها، وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيرُه وحسن عمله.
روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر: أنَّ أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: "من طال عمرُه وحَسُن عملُه" [61] .
وروى أيضاً عن أبي بكرة: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله أيّ الناس خير؟ قال: "من طال عمرُه وحَسُن عملُه". قال: فأيّ الناس شرّ؟ قال: "من طال عمره وساء عملُه" [62] .
وروى الإمام أحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن عن عبد الله بن شدّاد: أنَّ نفراً من بني عُذْرَة ثلاثةً أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(39/107)
"من يكفينيهم"قال طلحةُ: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدُهم فاستشهدَ، قال: ثم بَعَثَ بعثاً آخر، فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالثُ على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيراً يليه، ورأيت الذي استُشهد أوَّلَهم آخرَهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكرتَ من ذلك، ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يُعمّرُ في الإسلام يَكثُر تكبيرُه وتسبيحُه وتهليلُه وتحميدُه" [63] .
رابع عشر: أنَّ قلبَ النخلة - وهو الجُمّار - من أطيب القلوب وأحلاها، وقد مرّ معنا في بعض طرق حديث ابن عمر المتقدّم: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجُمَّار وشرع في أكله ثم قال: "إنَّ من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم".
وجُمّار النخلة حلو الطعم جميل المذاق، وهو من أطيب القلوب وأحسنها، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب وأحسنها، لا يحمل إلاّ الخير ولا يبطن سوى الاستقامة والصلاح والسلامة.
خامس عشر: أنَّ النخلة لا يتعطّل نفعها بالكليّة أبداً، بل إن تعطلت منها منفعة ففيها منافع أخر، حتى لو تعطّلت ثمارها سنة لكان للناس في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع وآراب، وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط، بل إن أجدب منه جانب من الخير أخصب منه جانبٌ، فلا يزال خيرُه مأمولاً وشرُّه مأموناً، روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "خيركم من يُرجى خيرُه ويؤمنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجى خيره ولا يُؤمن شرُّه" [64] .(39/108)
ولذا ورد عن عكرمة في قوله تعالى: {كَشَجَرَة طَيِّبَةٍ} قال: "هي النخلة لا تزال فيها منفعة" [65] ، وهكذا الشأن في المؤمن - كما هو في النخلة - لا يزال فيه منفعة، بل منافع وذلك بحسب حظِّه ونصيبه من الإيمان.
سادس عشر: أنَّ النخلةَ سهلٌ تناول ثمرها ومتيسّر، فهي إمَّا قصيرة فلا يحتاج المتناول أن يرقاها، وإمّا باسقة فصعودها سهلٌ بالنسبة إلى صعود الشجر الطوال غيرها، فتراها كأنَّها قد هُيّئت منها المراقي والدرج إلى أعلاها، وكذلك المؤمن خيره سهلٌ قريبٌ لمن رام تناوله لا بالغرِّ ولا باللئيم.
سابع عشر: أنَّ ثمرتها من أنفع ثمار العالَم، فإنَّه يؤكل رطبه فاكهة وحلاوة، ويابسُه يكون قوتاً وأُدْماً وفاكهة، ويُتخذ منه الخلّ والحلوى، ويدخل في الأدوية والأشربة، وعموم النفع به أمرٌ ظاهر، وهكذا الشأن في المؤمن في عموم منافعه وتنوّع خيراته ومحاسنه.
وكما أنَّ ثمر النخلة لطعمه حلاوة فكذلك الإيمان له حلاوة لا يذوقها إلاَّ صحيح الإيمان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وَجَد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلاّ لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" [66] .
قال أبو محمد بن أبي جمرة: "إنَّما عبّر بالحلاوة لأنَّ اللهَ شبَّه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: {مثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَةٍ} فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصلُ الإيمان، وأغصانها اتّباع الأمر واجتناب النهي، وورقُها ما يهتمُّ به المؤمنُ من الخير، وثمرها الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها" [67] .(39/109)
ثامن عشر: ومن طريف ما يُذكر هنا حول تطابق الصفات بين النخلة في كلِّ أجزائها مع صفات المؤمن ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال: "وقد طابق بعض الناس هذه المنافع وصفات المسلم وجعل لكلِّ منفعة منها صفة في المسلم تقابلها، فلما جاء إلى الشوك الذي في النخلة جعل بإِزائه من المسلم صفةَ الحدَّة على أعداء الله وأهل الفجور، فيكون عليهم في الشدّة والغلظة بمنزلة الشوك، وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرطب حلاوة وليناً {أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [68] " [69] .
ولذا يوصف بعض أهل العلم الذين لهم بلاءٌ في الردّ على المبطلين، وبعضُ المجاهدين الذين لهم بلاءٌ في مقاتلة أعداء المسلمين بأنَّهم شوكة في حلوق الأعداء.
فهذه بعض أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة، وقد ذكر بعضُ الشرّاح أوجهاً في الشبه أخرى لكنها ضعيفة وبعضها باطل، وقد لخّص ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري فقال: "وأمّا من زعم أنَّ موقعَ التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قُطع رأسها ماتت، أو لأنَّها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنَّها تموت إذا غرقت، أو لأنَّ لطلعها رائحة مَنيِّ الآدمي، أو لأنَّها تعشق، أو لأنَّها تشرب من أعلاها فكلّها أوجه ضعيفة؛ لأنَّ جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختصّ بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أنَّ ذلك لكونها خُلقت من فضلة طين آدم، فإنَّ الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم" [70] .
بما تقدّم يُعلم أنَّ الإيمان شجرةٌ مباركة عظيمةُ النفع غزيرةُ الفائدة كثيرةُ الثمر، لها مكان خاص تُغرس فيه، ولها سقيٌ خاص، ولها أصل وفرع وثمار.
أمَّا مكانها فهو قلب المؤمن، فيه توضع بذورها وأصولها، ومنه تتفرّع أغصانها وفروعها.
وأمّا سقيها فهو الوحي المبين، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبه تُسقى هذه الشجرة، ولا حياة لها ولا نماء إلا به.(39/110)
وأمّا أصلها فهو أصول الإيمان الستة وأعلاها الإيمان بالله تعالى، فهو أصل أصول هذه الشجرة المباركة.
وأمّا فروعها فهي الأعمال الصالحة والطاعات المتنوّعة والقربات العديدة التي يقوم بها المؤمن.
وأمّا ثمراتها فكلُّ خير وسعادة ينالها المؤمن في الدنيا والآخرة، فهو ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجه.
وقد أفرد الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في هذا الباب رسالة لطيفة أسماها: "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان"أتى فيها على أهمّ معالم هذه الشجرة المباركة شجرة الإيمان بدأها رحمه الله بتفسير الإيمان وبيان حدِّه، ثمّ ثنّى بذكر أصوله ومقوّماته ومن أيّ شيء يستمدّ، ثم ثلّث بذكر فوائده وثمراته، وانطلق في ذلك رحمه الله من الآية الكريمة المتقدّمة المشتملة على تمثيل كلمة الإيمان في قلب المؤمن التي هي أفضل الكلمات بالنخلة التي هي أطيب الأشجار.
ثم إنَّ "هذه الشجرة متفاوتة في قلوب المؤمنين تفاوتاً عظيماً، بحسب تفاوت هذه الأوصاف التي وصفها الله بها، فعلى العبد الموفّق أن يسعى لمعرفتها ومعرفة أوصافها وأسبابها وأصولها وفروعها ويجتهد في التحقق بها علماً وعملاً، فإنَّ نصيبه من الخير والفلاح والسعادة العاجلة والآجلة بحسب نصيبه من هذه الشجرة" [71] .(39/111)
وخير ما يُوضّح به أصول هذه الشجرة وفروعها حديث شعب الإيمان المعروف الذي خرّجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شُعب الإيمان"، فهذا الحديث فيه أعظم بيان لهذه الشجرة المباركة أصولها وفروعها سواء القائم منها بالقلب أو اللسان أو الجوارح، ولهذا يقول الإمام ابن منده - رحمه الله - في كتابه الإيمان بعد أن أورد حديث ابن عمر المتقدّم والمشتمل على تمثيل المؤمن بالنخلة: " ... ثم فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بسنته إذ فهم عن الله مَثَلَه فأخبر أن الإيمان ذو شُعب أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، فجعل أصله الإقرار بالقلب واللسان، وجعل شعبه الأعمال" [72] .
وقد اجتهد جماعةٌ من شراح هذا الحديث في عدِّ هذه الشُعب وحاولوا حصرها، وصنّفوا في هذا مصنّفات عديدة مختصرة ومطوّلة، واتّبعوا في ذلك طرائق متنوّعة، إلاّ أنَّ أحسن طريقةٍ في ذلك طريقةُ ابن حبان رحمه الله، إذ هي طريقة فذّة فريدة استغرقت وقتاً طويلاً وجهداً بالغاً.(39/112)
قال رحمه الله في وصف طريقته هذه: "وقد تتبّعت معنى الخبر مدّةً، وذلك أنَّ مذهبنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتكلّم قطّ إلاّ بفائدة، ولا من سننه شيءٌ لا يُعلم معناه، فجعلتُ أعُدُّ الطاعات مِن الإيمان، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعتُ إلى السنن، فعددتُ كلَّ طاعةٍ عدَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقُصُ من البضع والسبعين، فرجعتُ إلى ما بين الدّفتين من كلام ربِّنا، وتلوتُه آيةً آيةً بالتدبّر، وعددتُ كلَّ طاعةٍ عدَّها الله جلّ وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممتُ الكتاب إلى السنن، وأسقطتُ المُعادَ منها، فإذا كلّ شيء عدّه الله جلَّ وعلا من الإيمان في كتابه، وكلُّ طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه تسعٌ وسبعون شعبةً لا يزيد عليها ولا ينقُص منها شيء، فعلمتُ أنَّ مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر أنَّ الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرتُ هذه المسألة بكمالها بذكر شعبه في كتاب (وصف الإيمان وشعبه) بما أرجو أنَّ فيها الغُنْية للمتأمّل إذا تأمّلها، فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب" [73] .
وهي طريقةٌ مجهدةٌ ولا شك، ومما يؤسف حقاًّ أنَّ كتابه (وصف الإيمان وشعبه) الذي أودعه جهده هذا مفقودٌ لا يُعرف له وجود الآن، بل أشار الحافظ ابن حجر في الفتح إلى أنّه لم يقف عليه.
وقد قام الحافظ رحمه الله بتلخيص شعب الإيمان من خلال ما جمعه غيرُ واحد من أهل العلم فخرج بملخّص عظيم النفع لشُعب الإيمان، فقال رحمه الله: "وقد لخّصتُ ممّا أوردوه ما أذكره، وهو أنَّ هذه الشُعب تتفرّع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.(39/113)
فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه: الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنَّه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه. والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشرّه، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه: المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار. ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه: الصلاة عليه، واتباع سنته. والإخلاص، ويدخل فيه: تَرْكُ الرياءِ والنفاقِ. والتوبةُ، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه: توقير الكبير، ورحمة الصغير. وترك الكِبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحِقد، وترك الغضب.
وأعمال اللسان، وتشتمل على سبع خصال: التلفّظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلّم العلم وتعليمه، والدعاء، والذِّكر، ويدخل فيه: الاستغفار. واجتناب اللّغو.(39/114)
وأعمال البدن، وتشتمل عل ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختصّ بالأعيان، وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه: اجتناب النجاسات. وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفكّ الرِّقاب، والجود، ويدخل فيه: إطعام الطعام، وإكرام الضيف. والصيام فرضاً ونفلاً، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه: الهجرة من دار الشرك. والوفاء بالنذر، والتحري في الأيمان، وأداء الكفّارات. ومنها ما يتعلّق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفُّف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق. وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلّق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه: قتال الخوارج والبغاة. والمعاونة على البِر، ويدخل فيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حلِّه. وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف. وردّ السلام، وتشميت العاطس، وكفّ الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدّها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضمّ بعضه إلى بعض مما ذُكر، والله أعلم" [74] .
لكن ينبغي أن يُعلم أنَّ حصرَ هذه الشُعب وعدّها ليس شرطاً في الإيمان، بل يكفي المسلم من ذلك أن يقرأ كتاب الله وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم ويقوم بما فيهما من أوامر، وينتهي عمّا فيهما من نواهي، ويصدِّق بما فيهما من أخبار، فمن قام بذلك فقد قام بشعب الإيمان، ونصيبُ العبد من هذه الشُعب هو بحسب نصيبه من القرآن والسنة علماً وعملاً وتطبيقاً.(39/115)
ولذا يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "تكلَّف جماعةٌ حصرَ هذه الشُعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان" [75] .
ثم إذا كان مثلُ المؤمن مثل النخلة ووجه الشبه بينهما ظاهرٌ في أمورٍ كثيرةٍ تقدّم الإشارة إلى شيء منها، فإنَّ المؤمنين في ديارهم مثلهم مثل نخيل كثيرة في جنّة مباركة تؤتي أطايب الثمار وأحسن الأكل في كلِّ حين بإذن ربِّها.
وإذا كان هذا مثلُ المؤمنين في ديارهم فإنَّ مَثَل المصلحين فيهم مثل الفلاّح في بستانه، ومعلوم أنَّ أهل الفلاحة في بساتينهم ليسوا على مستوى واحد في الكفّاءة والقدرة وحسن الرعاية للنخيل والزروع والثمار، بل بينهم مِن التفاوت في ذلك ما الله به عليم، ولا بأس هنا من ضرب ثلاثة أمثلة لثلاثة من الفلاّحين في مزارعهم يتّضِحُ به المُرَادُ والمقصود.
المثال الأول:
فلاّحٌ صفتُه فيما يراه الرائي غير مرضيّة، فهو حادُّ الطبع، أحمر العينين، شديدُ الغضب، سريعٌ في اتّخاذ تدابيره، قليلُ الأناة، يتعامل مع نخيله في حديقته معاملة غريبة خرج بها عن سمت الحق في الفلاحة، واعتزل فيها طريق الصواب في ذلك، وذلك أنَّه اعتقد في نخله أنَّ النخلة لا تكون مستحقةً هذا الاسم [أي النخلة] وما يصحب ذلك من رعاية وعناية إلاّ إذا كانت صحيحةً سليمةً مكمّلةً لا نقص فيها بوجه، ولهذا فإنَّه إذا دبَّ إلى نخلةٍ من نخيله شيءٌ من النقص أو اعتراها شيءٌ من المرض أو داخلها شيءٌ من الخلل، فإنَّه يبادر بلا هوادةٍ ولا أناة إلى اجتثاثها من أصلها وقلعِها من جذورها، ثم يلقي بها بأبعد ما يكون من مكان وراء حائطه. هذا دأبه مع نخيله، لا يهتمّ بأمر الإصلاح ولا يعتني بجانب الرعاية والعناية فيه، ولا ريب أن النتيجة الحتمية لهذا العمل هو تبدُّد حديقته، وتفكّك نخيله، وتناقصُه شيئاً فشيئاً.
أما المثال الثاني:(39/116)
فهو فلاّحٌ آخر يتعامل مع نخيله بطريقة أخرى غريبة وعجيبة، إذ يعتقد أنَّ النخلة لا يصح وصفُها بالنقص مطلقاً، فكما أنَّ النخلة الميتة لا ينفعها وجود بعض أجزائها، فكذلك النخلة الحيّة القائمة لا يضرّها نقص بعض أجزائها، فالنخيل جميعه عنده سواء في درجة واحدة، المريض منه وما اعتراه نقصٌ والصحيح، كلُّه عنده بمستوى واحد وعلى درجة واحدة، بل يصرّح بأنّه سواسية كأسنان المشط لا فرق بينه ولا تمايز ولا تفاضل، حتى آل به الأمرُ إلى عدم التمييز بين ثمار النخيل وأنواع التمور مما يُعلم بالضرورة عند كلّ أحد تمايزه وتفاضله.
ثم إنَّ هذا المعتقد الغريب أورث عند هذا الفلاح نوعاً غريباً من التعامل مع حديقته، فهو لا يتعاهدها بالرعاية، ولا يهتمّ بها في أمر السقاية، ولا يعتني بها، ولا يتفقّدها، وقد يمرض الكثير من نخيله، وقد يعتري العديد منه أنواعٌ من النقص والخلل والفساد فلا يكترث بهذا ولا يهتم، بل لا يزال مع ذلك كلِّه معتقداً تمامَه وكماله وسلامته، ولا ريب أنَّ النتيجة الحتمية لهذا التصرّف هو ذهاب حديقته وزوالها بأسرع ما يكون.
أما المثال الثالث:(39/117)
فهو فلاّحٌ نشأ على حبّ فلاحته منذ صغره، فهو حكيمٌ في رعايته لها، عالمٌ بطرق إصلاحِها وأسبابِ قوّتِها ونمائها، صبورٌ على شدّتها ولأوائها، دقيقٌ في القيام بمستلزماتها ومتطلباتها، يهتم بنخله من أوَّل غرسه تمام الاهتمام، ويتعاهده بالسقي والإصلاح وإزالة النباتات الغريبة الدخيلة التي قد تؤذيه وتضرّه، يهتم بنخله كلِّه دون تفريق بين قويِّه وضعيفه وجيِّده ورديئه، فما كان منه قوياَّ صحيحاً سليماً فإنَّ عينَه تقرُّ به ويَسُرُّ تمامَ السرور بحسنه وسلامته وكماله، ويواصل معه في تهيئة أسباب ثباته وبقائه، وما كان منه ضعيفاً مريضاً ناقصَ النموِّ فإنَّ قلبه يألم له ويحزن لضعفه ونقصه ويتعامل معه معاملةً حكيمةً، فلا يجتثُّه من أصله ويطرحه خارج حديقته، ولا يهمله بالكلية فيتركه بدون رعاية وعناية، بل يتّخذ في سبيل إصلاحه وتقويمه التدابيرَ الحكيمةَ، والمناهجَ السليمة، َ والطرقَ الصحيحةَ القويمة، والتي من شأنها بتوفيق الله وتسديده صلاحُ نخله وثباته وحسن نمائه، ولا ينقطع عند اتّخاذ هذه التدابير عن مشاورة ذوي الفضل والحنكة والتجربة، ثم هو قبل هذا كلّه قويُّ الصلة بالله عظيمُ الثقة به، يبرأ من حول نفسه وقوّته، ويعتقد أنَّه لا حول له ولا قوّة إلاّ بالله العظيم الذي بيده أزمَّةُ الأمور، ولذا فإنّ لسانه رطبٌ من ذكر الله، يُكثر من قول "ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله"، فلا تزال حديقتُه في نماء، ولا تزال نخيله في كثرة وازدياد بمرأى جميل ومظهر حسن تؤتي من أنواع الثمار وأطايب الأكل كلَّ حين بإذن ربِّه، ثم هو عظيم الحمد لربِّه، كثيرُ الثناء عليه، عالمٌ بأنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(39/118)
فهذه ثلاثة أمثلة يتّضح من خلالها تنوّعُ مناهج المشتغلين بالإصلاح وتباينُ طرائقهم، ولا بأس من إيضاح أمرٍ غير خافٍ على المتأمِّل، وهو أنَّ المثال الأول مضروب لحال المعتزلة والخوارج في التعامل مع عباد الله المؤمنين، فهم أهل شدّةٍ وغِلظةٍ وفضاضةٍ، ومِن معتقداتهم الفاسدة الحكمُ على مرتكب الكبيرة بالخروج من الإيمان والخلود يوم القيامة في النيران، والمثال الثاني مضروب للمرجئة في تعاملهم مع المؤمنين، فهم أهل ارتخاء وخَوَر، وقلّة مبالاة بأمر المؤمنين، وقد نشأ هذا فيهم بسبب شؤم معتقدهم حيث يرون أنَّ الأعمال ليست من الإيمان، ثم هم متفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً حتى إنَّ منهم من صار إلى القول بأنَّ الإيمان لا يضرّ معه ذنبٌ مهما عظُم، كما أنَّ الكفرَ لا تنفع معه طاعةٌ، وأما المثال الثالث فهو مضروب لأهل السنة والجماعة والحق والاستقامة أهل المنهج العدل الوسط، وخيرُ الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلوّ المعتدين، ومنهج أهل السنة مع العصاة من أهل الملَّة هو أنَّهم لا يكفِّرونهم ولا يخرجونهم بذلك من الدين كالخوارج والمعتزلة، ولا يحكمون بكمال إيمانهم وتمامه كالمرجئة، بل يقولون: هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، فيحبّونهم على ما عندهم من الإيمان، ويُبغضونهم على ما عندهم من العصيان، ويرحمونهم وينصحون لهم ويحرصون على استصلاحهم وهدايتهم بأرفق السُبل وأحسن الأساليب في حدود قواعد الشريعة وأصولها المعلومة.
وبهذا تمّت هذه التأملات، والله أعلم، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، الأولى (1408هـ) .
- إعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن القيّم، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.(39/119)
- الإيمان لابن منده، تحقيق: د / علي بن محمد بن ناصر فقيهي، نشر الجامعة الإسلامية، الأولى (1401هـ) .
- تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.
- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لابن سعدي، مكتبة المعارف، الرياض (1406هـ) .
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت (1405هـ) .
- جامع العلوم والحكم لابن رجب، دار المعرفة، بيروت.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1408هـ) .
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، دار الفكر، بيروت، الأولى (1403هـ) .
- زاد المسيرفي علم التفسير لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة (1404هـ) .
- سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، المجلد الثاني: المكتب الإسلامي الرابعة (1405هـ) . المجلد الرابع: مكتبة المعارف، الرياض، الرابعة (1408هـ) .
- سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني، المكتب الإسلامي (1405هـ) .
- السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، تحقيق: د / محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، الأولى (1406هـ) .
- سنن الترمذي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت (1407هـ) .
- السنن الكبرى للنسائي، تحقيق: عبد الغفار البنداري، وسيّد كسروي حسن، دار الكتب العلمية بيروت، الأولى (1411هـ) .
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، تحقيق: د / أحمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض، الأولى.
- شرح صحيح مسلم للنووي، المطبعة المصرية.
- صحيح البخاري دار الكتب العلمية، بيروت، (1412هـ) .
- صحيح البخاري، المطبعة السلفية، الأولى (1400هـ) .
- صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، المكتب الإسلامي، الثانية (1406هـ) .(39/120)
- صحيح سنن الترمذي للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى (1408هـ) .
- صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت.
- الفوائد لابن القيم، تحقيق: بشر محمد عيون، نشر دار البيان، الأولى (1407هـ) .
- الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيّم، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة.
- مجمع الزوائد للهيثمي، دار الكتاب العربي بيروت، الثالثة (1403هـ) .
- المستدرك للحاكم، دار المعرفة، بيروت.
- المسند للإمام أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت.
- معالم التنزيل للبغوي، تحقيق: خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، بيروت، الأولى (1406هـ) .
- المعجم الكبير للطبراني، نشر مكتبة ابن تيمية.
-مفتاح دار السعادة لابن القيم، تحقيق: علي بن حسن بن عبد الحميد، دار ابن عفان، نجد، الأولى (1416هـ) .
- الموضوعات، لابن الجوزي، تحقيق: توفيق حمدان، دار الكتب العلمية، بيروت (1415هـ) .
- ميزان الاعتدال للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي.
- النخل، لأبي حاتم السجستاني، تحقيق: د / إبراهيم السامرائي، دار اللواء، الرياض، الأولى (1405هـ) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة: العنكبوت، الآية: (43) .
[2] الكافية الشافية لابن القيم (ص:9) .
[3] رواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي (5/26) .
[4] سورة: إبراهيم، الآيات (24،25) .
[5] إعلام الموقعين (1/172،173) .(39/121)
[6] أي: "ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كلٌّ منهم يفسِّرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة". فتح الباري لابن حجر (1/146) .
[7] البخاري (1/38) ، ومسلم (4/2164) .
[8] البخاري (1/38) .
[9] البخاري (1/63) .
[10] البخاري (1/43) ، ومسلم (4/2165) .
[11] البخاري (2/115) .
[12] البخاري (3/444) .
[13] البخاري (3/445) .
[14] مسلم (4/2165) .
[15] مسلم (4/2166) .
[16] تكرّر النفي ثلاث مرات هكذا على طريق الاكتفاء في لفظ البخاري، ووقع ذكر النفي مرة واحدة في رواية مسلم، فاستشكل ذلك بعض الرواة، وظنَّ "لا"زائدة.
قال إبراهيم بن سفيان - أحد رواة صحيح مسلم -: "لعلّ مسلماً قال: "وتؤتي أكلها". وكذا وجدت عند غيري أيضاً، ولا تؤتي أكلها كلّ حين". صحيح مسلم (4/2166) .
ظنّ أنَّ لفظة "لا"في الحديث متعلّقةٌ بقوله: "تؤتي أكلها "، فاستشكل هذا، فقال: "لعل مسلماً رواه "وتؤتي أكلها" أي بإسقاط "لا".
قال القاضي وغيرُه من الأئمة: "وليس هو بغلط كما توهّمه إبراهيم، بل الذي في مسلم صحيحٌ، بإثبات "لا"، وكذا رواه البخاري بإثبات "لا"، ووجهه أنَّ لفظة "لا"ليست متعلّقة بـ "تؤتي"، بل متعلقّة بمحذوف تقديره: لا يتحات ورقها، ولا مكرّر، أي لا يصيبها كذا ولا كذا". شرح صحيح مسلم للنووي (17/156) .
قال الحافظ ابن حجر: "وقد وقع عند الإسماعيلي بتقديم: "تؤتي أكلها كل حين"على قوله: "لا يتحاتُّ ورقها"فسلِم من الإشكال". فتح الباري (1/146) .
[17] البخاري (3/246) ، ومسلم (4/2166) .
[18] صحيح البخاري (4/113) .
[19] صحيح البخاري (4/113) .
[20] أورده الحافظ في الفتح (1/146) .
[21] فتح الباري (1/146،147) .(39/122)
[22] سنن الترمذي (رقم:3119) ، ورواه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والرامهرمزي في الأمثال كما في الدرّ المنثور للسيوطي (5/22) .
[23] انظر هذه الآثار في تفسير الطبري (8/204 - 206) ، والدر المنثور للسيوطي (5/22،23) .
ومن السلف من ذهب إلى أنَّ المراد بالشجرة الطيبة هي المؤمن نفسه، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، روى ذلك عنهم ابن جرير في تفسيره (8/204) .
قال ابن القيّم رحمه الله: "لا اختلاف بين القولين، والمقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبّهةٌ به وهو مشبّه بها، وإذا كانت النخلة شجرةً طيّبةً، فالمؤمن المشبّه بها أولى أن يكون كذلك"إعلام الموقعين (1/173) .
ومنهم من ذهب إلى أن المراد بالشجرة الطيّبة شجرة في الجَنّة، روى ذلك ابن جرير (8/206) عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال: "أولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال هي النخلة لصحَّة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ".
قال ابن القيّم رحمه الله: "ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنّة". إعلام الموقعين (1/173) .
[24] المعجم الكبير للطبراني (12/رقم:13514) .
قال الحافظ في الفتح (1/147) : "وإسناده صحيح".
[25] كتاب النخل (ص:33) .
[26] الموضوعات (1/129) .
[27] الميزان (5/222) ، وانظر: السلسلة الضعيفة للعلاّمة الألباني حفظه الله (1/283،284) .
[28] وانظر في ذلك: مفتاح دار السعادة (1/116 - 122) ، وإعلام الموقعين (1/171 - 175) ، تفسير البغوي (3/33) ، فتح الباري لابن حجر (1/145،146) ، زاد المسير لابن الجوزي (4/359،360) ، تفسير القاسمي (10/3727) .
[29] السنة لعبد الله (1/316) .
[30] تفسير البغوي (3/33) .
[31] الفوائد (ص:214،215) .
[32] سورة الشورى، الآية: (52) .
[33] سورة النحل، الآية: (2) .(39/123)
[34] سورة الأنعام، الآية: (122) .
[35] سورة الأنفال، الآية: (24) .
[36] سورة: الحديد، الآية: (17) .
[37] روى الحاكم (1/4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الإيمان ليخلَق في جوف أحدكم كما يخلَق الثوب فاسألوا الله أن يجدّد إيمانكم".
وقال الحاكم: "رواته مصريون ثقات"، ووافقه الذهبي.
ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/52) ، وقال الهيثمي: "إسناده حسن"، وصححه الألباني. انظر: صحيح الجامع (رقم:1590) ، والسلسلة الصحيحة (4/113) .
[38] إعلام الموقعين لابن القيم (1/174) .
[39] رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/959) .
[40] رواه ابن أبي يعلى في الطبقات (1/259) .
[41] كتاب النخل (ص:66،67) .
[42] صحيح البخاري (1/45) ، وصحيح مسلم (4/1787) .
[43] سورة: العنكبوت، الآية: (69) .
[44] ذكره البغوي في تفسيره (3/33) .
[45] رواه ابن جرير في تفسيره (8/208) .
[46] تفسير الطبري (8/210) .
[47] فتح الباري لابن حجر (1/145،146) .
[48] فتح الباري (1/145) .
[49] الجامع لأحكام القرآن (9/236) .
[50] سورة غافر، الآية: (60) .
[51] انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:368) .
[52] مفتاح دار السعادة (1/116) .
[53] سورة: الزمر، الآية: (73) .
[54] سورة: النحل، الآية: (32) .
[55] سورة الحج، الآية: (23،24) .
[56] مفتاح دار السعادة لابن القيّم (1/120) .
[57] سورة الرعد، الآية: (4) .
[58] سورة فاطر، الآية: (32) .
[59] سورة البقرة، الآيات: (155،156،157) .
[60] سورة الزمر، الآية: (10) .
[61] سنن الترمذي (4/565) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/271) .(39/124)
[62] سنن الترمذي (4/566) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/271) .
[63] المسند (1/163) ، والسنن الكبرى للنسائي كتاب: عمل اليوم والليلة (رقم:10674) ، وحسنه الألباني في الصحيحة (رقم:654) .
[64] سنن الترمذي (رقم:2263) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:3320) .
[65] رواه ابن جرير في تفسيره (8/205) .
[66] رواه البخاري (1/22) ، ومسلم (1/66) .
[67] فتح الباري لابن حجر (1/60) .
[68] سورة: الفتح، الآية: (29) .
[69] مفتاح دار السعادة (1/120،121) .
[70] فتح الباري (1/147) .
[71] التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لابن سعدي (ص:6،7) .
[72] الإيمان (2/350) .
[73] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/387،388) .
[74] فتح الباري (1/52،53) .
[75] فتح الباري (1/52) .(39/125)
موجز تاريخ اليهود
والرد على بعض مزاعمهم الباطلة
د. محمود عبد الرحمن قدح
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ (تاريخ الأديان) من المباحث الرئيسة التي يشتمل عليها علم الأديان، وهو مبحث يهتم بدراسة تاريخ ونشأة الديانة وتطورها، وتأثيرها على المجتمع الإنساني.
وقد اهتم علماؤنا المتقدّمون في مؤلَّفاتهم بدراسة تاريخ الأديان، وبالمراحل والتطورات التي يمر بها أتباع الأديان، ورصد انحرافاتهم عن الدين الحق، لِمَا في ذلك من الفوائد في إظهار الحق وإزهاق الباطل، ومعرفة أسباب الانحراف عن الدين الحق لتوقّيها وتحذير الناس منها.
وهذه دراسة موجزة عن موضوع (موجز تاريخ اليهود والرد على بعض مزاعمهم الباطلة) لمعرفة حقيقة اليهود المعاصرين، وإظهار فساد دينهم وبطلانه، والرد على بعض دعاويهم وفضح ادّعاءاتهم الكاذبة، حيث إنَّ اليهود قد جعلوا تاريخهم جزءاً من دينهم المنحرف وكتابهم المحرَّف.
وقد قسمت الدراسة في الموضوع كالآتي:
- التمهيد: ويشتمل على تعريف ومصطلحات.
- المبحث الأول: موجز تاريخ بني إسرائيل واليهود.
- المبحث الثاني: مزاعم يهودية باطلة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد على وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه
د. محمود بن عبد الرحمن قدح
تمهيد
تعريف ومصطلحات:(39/126)
فلسطين جغرافياً وتاريخياً
P2
خريطة "إسرائيل من الفرات إلى النيل"كما رسمها اليهود على باب الكنيست البرلمان، وكما وزَّعوها في نيويورك قبل العدوان بأيَّام، ويبدو فيها أنَّهم لا يكتفون بفلسطين، بل يتطلَّعون إلى ضم العراق والأردن وسوريا وجزء من المملكة العربية السعودية ومنها المدينة المنورة وجزء من جمهورية مصر العربية.
إن المنطقة التي سيتركز الحديث عليها أثناء دراستنا لليهودية وتاريخهم هي فلسطين، فمن المناسب معرفة بعض المعلومات عنها:
فأما مساحتها فتبلغ حوالي 27.000 كم2، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم جداً حيث تقع في قلب العالم الإسلامي، وفي ملتقى ثلاث قارات (آسيا، إفريقيا، أوروبا) ، وفي مركز مهم بالنسبة للمواصلات البرية والبحرية والجوية. وتتميز كذلك بأراضي خصبة جداً وثروات معدنية كبيرة.
وأما تاريخها فقد سكنها الفينيقيون - من القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية- في الألف الثالث قبل الميلاد (سنة 3000ق. م) ، وإلى الجنوب منهم نزلت قبائل عربية أخرى أشهرها قبائل الكنعانيين حوالي سنة 2500ق. م. على ضفة الأردن الغربية وسميت المنطقة باسمهم فأصبحت تُدعى (أرض كنعان) ووردت كثيراً بهذا الإسم في التوراة أيضاً، وفي حوالي سنة 1200 ق. م. نزلت بالساحل المطل على البحر الأبيض جماعات تسمى قبائل فلستين جاءت من جزيرة كريت (اقريطش) واختلطت بالكنعانيين فأصبحت البلاد تعرف بفلسطين [1] ، وقد كانت تسمى بـ (أرض كنعان) في التوراة قبل دخول إبراهيم عليه الصلاة والسلام إليها [2] وبعده إلى زمن دخول بني إسرائيل إليها بعد موسى عليه الصلاة والسلام، أما إطلاق اسمهم عليها فقد كان في آخر عهد القضاة تقريباً في زمن نبي لهم اسمه صموئيل، مع بقاء الكنعانيين فيها [3] .(39/127)
وقد بدأ الفتح الإسلامي لهذه البلاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي سيّر جيشاً سنة ثمان من الهجرة النبوية إلى (مؤتة) [4] لمقاتلة الروم [5] ، ثم كانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة النبوية [6] ، وفي آخر عهده صلى الله عليه وسلم جهّز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى تخوم البلقاء من الشام [7] ، وقد سيّر الصديق رضي الله عنه ذلك الجيش بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم [8] . وفي عهد الخليفة الصديق رضي الله عنه كانت موقعة (أجنادين) [9] التي نصر الله فيها جيش المسلمين بقيادة خالد ابن الوليد رضي الله عنه ونتج عنها فتح عدة مدن بفلسطين منها: نابلس وعسقلان وغزة والرملة وعكا وغيرها، وبهذا مُهّد الطريق للزحف إلى بيت المقدس [10] ، ودعم ذلك موقعة (اليرموك) [11] التي انتصر فيها المسلمون.
وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجّه جيشاً بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه لفتح بيت المقدس التي حاصرها مدة أربعة أشهر حتى طلب أهلها الصلح واشترطوا أن يتولى الخليفة عمر بنفسه استلام المدينة، وهكذا كان فجاء عمر رضي الله عنه وكتب لهم وثيقة الأمان وبنى مسجده في بيت المقدس [12] .
وبهذا الفتح أصبح بيت المقدس منذ شهر رجب سنة 16هدار إسلام يجب على المسلمين فيها إظهار أحكام الإسلام وشعائره والدفاع عنها، وإذا ما استولى الكفار عليها وأصبحت (دار الإسلام المحتلة أو المغتصبة) فإنه يتعين على المسلمين المقيمين فيها الجهاد لاسترداد حقهم وأراضيهم من الكفرة المغتصبين، كما يتعين على المسلمين المجاورين لها القيام بالجهاد مع أهلها كما فعل الملك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى حينما استردها من الصليبيين الكفرة وأعادها إلى المسلمين، ونسأل الله عز وجل أن يرفع راية الجهاد، وأن يؤيد المسلمين بنصر من عنده عز وجلّ {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [13] .(39/128)
العبرانيون، بنو إسرائيل، اليهود
إن من الشعوب التي سكنت أرض فلسطين في التاريخ القديم، شعب بني إسرائيل الذين سنتحدث عن تاريخهم، لكننا نجد مسميات أخرى لهم، كالعبرانيين، واليهود، فهل هي مصطلحات مترادفة؟ أم أن بينها فرقاً؟!
وقبل أن نخوض في الحديث عن موضوع دراستنا (تاريخ اليهود) ، كان لا بد من الإجابة على السؤال المطروح؛ لصلته الوثيقة بموضوع الدراسة، فنقول - مستعينين بالله -:
- أما العبرانيون: - في الاصطلاح - فهي كلمة مرادفة لـ (بني إسرائيل) المتحدرين من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وتسمى لغتهم العبرية أو العبرانية [14] .
وقد اختلف في أصل هذه التسمية على أقوال منها:
1- أنها نسبة إلى (عابر) أو (عيبر) وهو الجد الخامس في سلسلة نسب إبراهيم عليه الصلاة والسلام في التوراة [15] .
2- أنها نسبة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام الملقب في التوراة بـ (ابرام العبراني) [16] لعبوره نهر الفرات أو نهر الأردن.
ولم ترد هذه التسمية في القرآن الكريم، وإنما وردت في السنة النبوية الصحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: "فانطلقت به (النبي صلى الله عليه وسلم) خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدا لعزى - ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" [17] .(39/129)
ووردت كذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {ءَامَنَّا بِاللهِ وَمآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنْزِلَ إِلى إِبْراهيمَ وَإِسماعِيلَ وَإسحاقَ وَيَعْقُوبَ والأَسْباطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُم وَنحَنُ لَهُ مُسْلِمُون [18] " [19] .
- وأما بنو إسرائيل: - في الاصطلاح - فهم الأسباط الإثنا عشر أبناء يعقوب عليه الصلاة والسلام ومن جاء من نسلهم.
- وأما (إسرائيل) : فهو نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [20] .
وبما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل - أن عصابة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله - وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد ... " [21] . الحديث.
وقد ذكرت التوراة قصة سبب تسمية يعقوب عليه الصلاة والسلام بإسرائيل، حينما صارعه ملاك في صورة إنسان حتى طلوع الفجر، ولم يطلقه يعقوب حتى قال له: لا يدعى اسمك فيما بَعْد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت [22] .(39/130)
وقد جاء ذِكْر بني إسرائيل في القرآن الكريم والسنة النبوية كثيراً، خاصة في مجال تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وعلى آبائهم وأسلافهم ودعوتهم، إلى الدخول في الإسلام ومتابعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتهييجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل، قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ... } [23] الآيات.
وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول: يا ابن الكريم افعل كذا [24] .
- وأما اليهود - في الاصطلاح - فهم المتبعون لشريعة التوراة من بني إسرائيل وغيرهم [25] .
قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْءَامَنَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالحِاً فَلَهُم أَجْرُهُم عِنْدَ رَبِّهِم وَلا خَوْفُ عَلَيْهِم وَلا هُم يحَزَنُون} [26] . قال: إن لفظ {الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} يتناول جميع أهل الكتاب - التوراة والإنجيل - الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، والذين كانوا بعد ذلك، فهذا الاسم لا يختص بالكفار منهم، كما أن لفظ (بني إسرائيل) ولفظ (أهل الكتاب) ليس مختصاً بالكفار، ولكن كانوا مسلمين ومؤمنين مع كونهم من بني إسرائيل ومن أهل الكتاب، وكذلك من اليهود والنصارى [27] .اه
واختلف في أصل تسميتهم باليهود على أقوال منها:
1- قيل: سمُّوا يهوداً من (الهوادة) وهي المودّة، لمودتهم في بعضهم لبعض.
2- وقيل: من (التهوّد) وهي التوبة، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك} [28] ، أي تبنا. فكأنهم سُمُّوا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم البعض.
3- وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهوّدون - أي يتحركون - عند قراءة التوراة [29] .(39/131)
4- ورد أن (يهوذا) هو الابن الرابع ليعقوب عليه الصلاة والسلام ونسب إليه سبط من الأسباط الاثني عشر، ثم أطلق اسمه على المملكة الجنوبية (مملكة يهوذا) لأن ملوكها كانوا من سبط يهوذا وتمييزاً لها عن (مملكة إسرائيل الشمالية) وفيها الأسباط العشرة، وحينما تشتت الأسباط وأُخِذَ سبط يهوذا إلى السبي البابلي فقد توسع معناه، فصار يشمل جميع من رجعوا من الأسر من بني إسرائيل، ثم صار يطلق على جميع اليهود المشتتين في العالم [30] .
قال البيروني: إنه قد أبدلت الذال المعجمة دالاً مهملة (يهوذا - يهودا) لأن العرب كانوا إذا نقلوا أسماء الأعجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها. اه [31] .
وقال المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس: ومن ذلك الزمان - 515 ق. م - يختفي ذكر الأسباط العشرة الأخرى، فمن عاد منهم - أي من السبي البابلي - إلى فلسطين اختلط بسبطي يهوذا وبنيامين، وفي ذلك الحين سُمي الإسرائيليون يهوداً، ودُعيت بلادهم اليهودية [32] .اه.
والقول الأخير – في نظري – أقرب الأقوال إلى الصواب؛ لما بيّناه [33] ، والله أعلم.
وقد تكرر ذكر اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية كثيراً، خاصة في سياق بيان كفرهم وأقوالهم الباطلة وإظهار خزيهم وفضائحهم والتحذير من مكائدهم وشرورهم، حيث لم ترد هذه التسمية في مقام المدح لهم، وإنما وردت في مقام الذم والتقريع لهم، ومن تلك الآيات القرآنية الدالة على ذلك: قوله عز وجل: {وَقالت اليَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهم وَلُعِنٌوا بما قَالُو ابَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُم مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضآءَ إِلى يَومِ القِيامَةِ كُلَّمآ أَوْقَدُوا نَاراً للحَرْبِ أَطْفَأَها الله وَيَسْعَوْنَ في الأَرضِ فَساداً والله لا يحُبُّ المُفْسِدينَ} [34] .(39/132)
- وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يحُرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا ليّاً بِأَلْسِنَتِهِم وَطَعْناً في الدِّينِ وَلَو أَنَّهُم قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكَانَ خَيراً لَهُم وَأَقْوَم وَلكِنْ لَعَنَهُم الله بِكُفْرِهِم فَلا يُؤمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [35] .
- وقوله تعالى: {لَتَجِدَنِّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للَّذِينَ ءامَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً للَّذِينَءَامَنُوا الَّذينَ قَالوآ إِنَّا نَصارَى ذَلِكَ بَأَنَّ مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُم لا يَسْتَكْبِرون} [36] .
- وقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابنُ الله وَقالَتِ النَّصارَى المَسِيحُ ابنُ الله ذَلِك قَوْلهُم بِأَفْواهِهِم يُضاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُم الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [37] .
- وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّها الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُم أَنَّكُم أَوْلِياءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوا المَوتَ إِنْ كُنْتُم صَادِقين وَلا يَتمَنَّوْنَهُ أبداً بما قَدَّمَتْ أَيدِيهِم وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالمِين قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالمِ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بما كُنتم تَعْمَلُون} [38] .
وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تتحدث عن اليهود.
أسماؤهم الأخرى:
لليهود أسماء وأوصاف أخرى نذكر منها الآتي:
- أهل الكتاب: لأنهم يؤمنون بالكتاب المنزل على موسى عليه الصلاة والسلام، وهو التوراة، وهذا الاسم يشترك فيه معهم النصارى.
- أهل التوراة: لإيمانهم بشريعة التوراة وأنها مؤبدة لا تنسخ.(39/133)
- أهل السبت: لتعظيمهم يوم السبت وتحريم العمل فيه.
- قوم موسى أو أمة موسى: لانتسابهم إليه وإلى شريعته، واعتقادهم أنه ليس هناك نبي أفضل من موسى عليه الصلاة والسلام.
- المغضوب عليهم: لأنهم علموا الحق فلم يعملوا به فاستحقوا غضب الله عليهم ولعنته، قال ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا - أي أن المراد بقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [39] هم اليهود – اختلافاً، وذكر الإمام ابن كثير أحاديث مروية في ذلك [40] .
المبحث الأول
موجز تأريخ بني إسرائيل واليهود
لمعرفة حقيقة اليهود المعاصرين وفهم ديانتهم المحرفة ونقد كتبهم المقدسة لديهم، فإنه ينبغي دراسة تاريخ بني إسرائيل، لأن اليهود جعلوا تاريخهم الطويل جزءاً من دينهم المنحرف وكتابهم المحرّف، واعتبروه تراثاً مقدساً يستمدون منه شعائرهم وأخلاقهم وشعاراتهم وأفكارهم، وإن نظرةً سريعة إلى ما تتضمنه كتبهم المقدسة لديهم تُبَيِّن لنا أن ثلاثة أرباع محتوياتها تشتمل على سرد تاريخ بني إسرائيل الطويل وما جرى لهم من الحوادث في مختلف الأزمنة والأمكنة.
يقول المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس: ولا يخفى أن معظم تاريخ اليهود حتى خراب أورشليم مأخوذ من التوراة، فهي خزانة تاريخهم وحكاية ما حلّ بهم من العبودية والظلم، وما أصابوه من العز والفوز والسؤدد، كما أنها كتاب وحيهم ومجموعة معتقدهم وشرائعهم الدينية والأدبية والمدنية، فالناظر في تاريخهم لا بد له أن يعتمد التوراة لاستخلاص أخبارهم [41] .
ولما كان تاريخهم طويلاً يمتد لعشرات القرون، ومليئاً بالأحداث والروايات والقصص، فإنه يصعب الإحاطة بتفاصيله في هذه الدراسة الموجزة، لا سيما وقد كتبت في تاريخهم المجلدات والرسائل الجامعية الكثيرة، ومنها:
- كتاب (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم) - للأستاذ محمد عزة دروزة.(39/134)
- وكتاب (التراث الإسرائيلي في العهد القديم وموقف القرآن الكريم منه) ، وكتاب (التاريخ اليهودي العام) ، وكتاب (بنو إسرائيل بين نبأ القرآن الكريم وخبر العهد القديم) ، وكلها للدكتور صابر طعيمة.
- وكتاب (اليهود نشأتهم وعقيدتهم) ، زكي شنودة.
- وكتاب (اليهود في تاريخ الحضارات الأولى) ، للدكتور غوستاف لوبون، وغيرها من المؤلفات العديدة.
لذلك سنكتفي في هذه الدراسة بموجز عن تاريخ بني إسرائيل وأبرز الأحداث التي مرت بهم خلال تاريخهم الطويل في النقاط الآتية:
المطلب الأول: بدء تاريخهم.
- إن تاريخهم يبدأ من إسرائيل – وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام- الذي نشأ وعاش في أرض الكنعانيين (أرض فلسطين) ، وقد ولد له اثنا عشر ولداً من أربع نسوة وهم كالآتي:
- رأوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، يسّاكَرُ، زبلون - وأمهم ليئة.
- يوسف عليه الصلاة والسلام، بنيامين - وأمهما راحيل.
- دان، نفْتالي - وأمهما بِلْهة جارية راحيل.
- جاد، أشير – وأمهما زِلفة جارية ليئة [42] .
وهؤلاء الأولاد الإثنا عشر هم أصل الأسباط الإسرائيليين.
- ثم قصة يوسف عليه الصلاة والسلام المشهورة مع إخوته وأبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وانتقال إسرائيل (يعقوب) وبنيه للعيش في أرض مصر معززين مكرّمين في ظل يوسف عليه الصلاة والسلام [43] .
- وبعد وفاة يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام وتوالي السنون وتعاقب الملوك، تغير حال بني إسرائيل في مصر من العزة والكرامة إلى المذلة والمهانة، لأن فرعون مصر اضطهد بني إسرائيل واستعبدهم [44] قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [45] .
المطلب الثاني: قوم موسى.(39/135)
- فأرسل الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ابني عْمرام بن قَهَات بن لاوي بن يعقوب [46] عليه الصلاة والسلام إلى فرعون وقومه مؤيّدين بالمعجزات لدعوتهم إلى الإيمان بالله وحده ورفع العذاب عن بني إسرائيل، فكذب فرعون وقومه وعصوا وكفروا بالله وآياته، فأمر الله رسوله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر، فأتبعهم فرعون بجنوده، فأغرقهم الله في اليمّ، ونَجَّا موسى وقومه إلى أرض سيناء.
- وكان قوم موسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل - الذين خرج بهم من مصر - قد عاشوا في العبودية والذل والوثنية سنوات مديدة، ففسدت عقائدهم وخبثت نفوسهم وضعفت همتهم وظهر عنادهم وكسلهم وتواكلهم وتخاذلهم وعصيانهم لأمر الله ورسوله، ونريد أن نقف هنا بعض الوقفات لنبين بعض أخلاق سلف اليهود وآبائهم ممن كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام في الأمور الآتية:
- أنهم شكّوا في موت فرعون بعد أن أغرقه الله في البحر، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح [47] . قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [48] .
- ولما جاوزوا البحر ونجوا قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [49] .(39/136)
- وحينما وصلوا إلى صحراء سيناء وأحسوا بالعطش تذمروا وشكوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام [50] قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [51] .
- وبعد أن شربوا وأطفؤا ظمأهم جأروا بالشكوى إلى موسى من الجوع وسألوا الطعام [52] قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [53] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المنّ ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤا، والسلوى طائر يشبه بالسماني كانوا يأكلون منه [54] .
- ثم طلبوا بعد ذلك المكان الظليل الذي يقيهم من حر الصحراء فسأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه ذلك، قال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [55] .(39/137)
وعلى الرغم من كثرة الآيات والمعجزات من الله عز وجل لقوم موسى، فقد أظهروا العناد والمكابرة وعدم الإيمان حتى يروا الله جهرة، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [56] . وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} [57] .
وبعد هذه المعجزات والآيات البينات التي امتن الله بها على بني إسرائيل فإنهم – حينما ذهب موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه لأخذ التوراة على جبل طور سيناء واستبطأوا رجوعه - رجعوا إلى ما ألفوه من الوثنية بمصر فعبدوا العجل [58] ، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [59] ، ومع فداحة الذنب وعظم الخطيئة فإن رحمة الله عز وجل أكبر، وعفوه تبارك وتعالى أوسع وأعظم قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [60] .(39/138)
ولكن ذلك العفو كان لابد له من الكفارة [61] قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [62] .
ـ ولما جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بما شرع لهم في التوراة فإنهم لم يقبلوها حتى رُفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [63] .
ومع هذا كله لم يحمد بنو إسرائيل ما هم فيه من النعيم رب غفور وشراب طهور وطعام سائغ لا يكلفهم أدنى مجهود وظل ممدود بل ظلوا يضجرون ويتكاسلون ويطلبون ويعاندون ويتمادون حتى قالوا [64] ما أخبر الله عز وجل به عنهم في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [65] .(39/139)
فأمرهم الله عز وجل أن يدخلوا الأرض المقدسة (بيت المقدس وأرض الخيرات) ووعدهم بالنصر، وطلب موسى ذلك من قومه، فقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [66] .(39/140)
فحكم الله عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه حتى [67] مات ذلك الجيل المتخاذل العاصي الذي خرج به موسى من مصر ولقي من أذاهم وعصيانهم ما لا يوصف، قال الله عز وجل مبيناً أذاهم لموسى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [68] .
- وتوفي هارون ومن بعده موسى عليهما الصلاة والسلام في ذلك التيه، وأقام الله في بني إسرائيل يوشع بن نون [69] (فتى موسى) عليهما الصلاة والسلام نبياً لهم خليفة عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولما انقضت مدة التيه خرج يوشع عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل إلى بيت المقدس فحاصرها وفتحها الله عليهم، وأمرهم الله عز وجل حين دخولهم الأرض المقدسة {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [70] .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني إسرائيل: {َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدّلوا وقالوا: حِطة حبة في شعرة" [71] .
فتعساً لهؤلاء القوم الذين يقابلون الإحسان بالإساءة، والمعروف بالمنكر، والنعمة بالجحود، فاستحقوا بذلك غضب الله عز وجل عليهم.(39/141)
- وبعد دخولهم الأرض المقدسة بدأ يوشع عليه الصلاة والسلام يكمل فتوحاته ويقسم الأراضي التي غنمها على أسباط بني إسرائيل الإثني عشر، وبعد وفاة يوشع عليه الصلاة والسلام تولى قيادة بني إسرائيل قضاتهم. ومن هنا يُقَسِّم المؤرخون المراحل التاريخية التي مرت على بني إسرائيل منذ دخولهم الأرض المقدسة (فلسطين) إلى العصور الآتية:
المطلب الثالث: عصر القضاة.
نسبة إلى القضاة الذين تولوا الحكم في أسباط بني إسرائيل الإثني عشر بعد وفاة يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام، وينتهي هذا العصر بآخر قاض لبني إسرائيل وهو صموئيل، ومدة هذا العصر 350 سنة على حساب سفر القضاة، والتحقيق العلمي يثبت أن هذا العصر لا تزيد مدته عن 100عام [72] .
ومن سمات هذا العصر كثرة النزاعات والحروب الداخلية والخارجية بين الأسباط الإثني عشر وغيرهم، وتكرر حوادث الارتداد والكفر منهم، وانتشار الزنا بينهم ومن ذلك ما ورد في سفر القضاة الإصحاح (12) : "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا إله آبائهم الذين أخرجهم من مصر، وساروا وراء آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها ... "وتكرر ذلك الكفر والشرك منهم مرات عديدة في فترات مختلفة بنص سفر القضاة [73] ، وحينما فسد القضاة وأخذوا الرشوة وحكموا بين الناس بالظلم والهوى طلب بنو إسرائيل من نبي لهم يدعى (صموئيل) وهو آخر قضاتهم أن يختار لهم ملكاً يوحد صفوفهم ويقيم النظام بينهم ويقاتل أمامهم [74] ، وبذلك يبدأ العصر الثاني وهو عصر الملوك.(39/142)
وقد بين الله عز وجل السبب الذي لأجله طلب بنو إسرائيل تعيين ملك عليهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [75] .
المطلب الرابع: عصر الملوك.
ويبدأ باختيار شاؤل [76] ملكاً على بني إسرائيل، ثم داود، ثم سليمان عليهما الصلاة والسلام.
ومن أبرز حوادث هذا العصر: بناء داود عليه الصلاة والسلام للهيكل، وإتمام بنائه في عهد سليمان عليه الصلاة والسلام وتسميته بـ (هيكل سليمان) ، وتكرر حوادث الانحراف والكفر في بني إسرائيل بنص سفر الملوك الأول في الإصحاح (11) .
وقد بلغ الكفر والفجور عند اليهود إلى حد وصف النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بارتكاب الكبائر حتى الشرك بالله، وهذا من الكذب والبهتان والتحريف الموجود في كتب اليهود المقدسة لديهم [77] ، وبعد وفاة سليمان عليه الصلاة والسلام انقسمت مملكة بني إسرائيل، وكان ذلك بداية العصر الثالث.
المطلب الخامس: عصر انقسام مملكة بني إسرائيل.(39/143)
بعد وفاة سليمان عليه الصلاة والسلام اجتمع بنو إسرائيل في أورشليم لتنصيب رحبعام بن سليمان مكان أبيه، ولكنهم اشترطوا عليه تخفيف الأحكام التي فرضها عليهم سليمان، لكنه رفض ذلك فانحاز معظم الشعب (10 أسباط) إلى مبايعة يربعام بن نباط (وكان أحد قادة جيوش سليمان فانشق عنه وهرب إلى مصر وعاد إلى فلسطين بعد وفاة سليمان) وبايع سبطا يهوذا وبنيامين رحبعام، وبهذا انقسمت مملكة بني إسرائيل إلى دولتين متنازعتين:
1- إحداهما في الشمال وتسمى (مملكة إسرائيل أو مملكة السامرة) أو (المملكة الشمالية) وعاصمتها (شكيم) التي بناها يربعام.
2- والأخرى في الجنوب وتسمى (مملكة يهوذا) أو (المملكة الجنوبية) وعاصمتها (أورشليم) .
وأبرز حوادث هذا العصر ما يأتي:
أ - وقوع بني إسرائيل في الردة والكفر والفجور منذ بداية عصر الانقسام وتكرر ذلك منهم مرات عديدة في أزمنة مختلفة [78] .
ب – سلسلة الحروب والنكبات المستمرة بين المملكتين ومع البلاد المجاورة لها.
جـ – الغزو الآشوري بقيادة الإمبراطور الآشوري (تغْلث فلاسر) على مملكة إسرائيل الشمالية، والقضاء عليها وتدميرها تدميراً نهائياً ونقل من بقي من أهلها أسرى إلى آشور (العراق) على يد الإمبراطور الآشوري سرجون الثاني في عام 722م، وبذلك كانت نهاية مملكة إسرائيل الشمالية [79] .
د- ضياع التوراة وإهمالها سنوات مديدة ثم ادعاء العثور عليها من غير قصد في عهد الملك يوشيا من ملوك مملكة يهوذا بعد تدمير مملكة إسرائيل [80] .
المطلب السادس: عصر السبي البابلي.(39/144)
بقيت مملكة يهوذا الجنوبية تكافح وتناضل الطامعين فيها من أجل البقاء إلى أن جاء فرعون مصر فزحف على مملكة يهوذا سنة 608 ق. م فاحتلها، واستمر في زحفه فاحتل مملكة إسرائيل التي كانت قد سقطت تحت سلطة الآشوريين، وقد ثار لذلك البابليون -الذين خلفوا الآشوريين وورثوا ممتلكاتهم- وجاءوا بقيادة ملكهم بختنصر (نبوخذ نصر) الذي احتل أورشليم وأحرق هيكل سليمان وهدمه، ودمّر أسوار ومنازل أورشليم، وأخذ من بقي من بني إسرائيل عبيداً إلى بابل وهذا ما يعرف في تاريخ اليهود بـ (الأسر أو السبي البابلي) سنة 586 ق. م. تقريباً، وفيه وقع (التدمير الأول) لهيكل سليمان، وكان ذلك القضاء المبرم على مملكة يهوذا أو ما تبقى من مملكة بني إسرائيل [81] .
وقد عاش بنو إسرائيل في المنفى أو السبي البابلي مدة طويلة، انحرفوا خلالها عن الدين الحق وتأثروا بوثنية أسيادهم البابليين ومن جاء بعدهم [82] .
المطلب السابع: عصر العودة من السبي إلى أورشليم.
في سنة 539 ق. م احتل الفرس بلاد بابل وورثوا ممتلكاتهم، وأظهر ملك الفرس (كورش) تعاطفا نحو بني إسرائيل حيث سمح لهم بالعودة إلى فلسطين سنة 536 ق. م، ولكن الكثيرين منهم فضلوا البقاء في بابل، وعاد بعضهم على صورة جماعات كان أولها بقيادة زَرَّبَابَل وكان عددهم خمسين ألف يهودي ثم تحت قيادة عزرا ثم نحميا [83] .
وأبرز حوادث هذا العصر ما يأتي:
1- إعادة بناء مدينة أورشليم وهيكل سليمان [84] .
2- يزعم اليهود بأن (عزرا) أعاد التوراة المفقودة - في السبي البابلي - من حفظه، وأنه الذي جمع أسفار الكتاب المقدس ونظمها، وأنه مؤسس نظم اليهود المتأخرة (في القرن الخامس ق. م) ولذلك يلقب بـ (الكاهن الكاتب أو الوراق) [85] .(39/145)
2- يقول المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس في كتابه (تاريخ الإسرائيليين) [86] :"ومن ذلك الزمان يختفي ذكر الأسباط العشرة الأخرى، فمن عاد منهم إلى فلسطين اختلط بسبطي يهوذا وبنيامين، وفي ذلك الحين سُمَّي الإسرائيليون يهوداً ودُعيت بلادهم اليهودية".اه.
ومن الجدير بالذكر أن الجماعات اليهودية العائدة إلى فلسطين عاشت تحت ظل الحكم الفارسي لتلك البلاد، ومن بعده في ظل حكم الإسكندر المكدوني (اليوناني) [87] ومن بعده حكم البطالسة [88] المصريين (أحد قادة الإسكندر الذين اقتسموا مملكته بعد وفاته) ، ثم جاء الحكم الروماني على فلسطين سنة 63 ق. م، وفي فترة الحكم الروماني ولد وعاش النبي الكريم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. وقد حاول اليهود مراراً وتكراراً في ظل الحكومات المتعاقبة السابقة إعادة مجدهم السابق في فلسطين وعزهم الزائل وحلمهم الكبير في إقامة مملكة مستقلة لليهود، ولكن كانت محاولاتهم الكثيرة تبوء بالفشل والندم والدم حيث تنتهي ثوراتهم باضطهادهم وتدميرهم وقتلهم وتشريدهم وذلهم وهوانهم [89] ، عقاباً لهم من الله وغضباً عليهم لكفرهم وفجورهم وقتلهم الأنبياء والصالحين وإفسادهم في الأرض.
المطلب الثامن: عصر الشتات (الدياسبورا) [90] .
على أثر ثورة من الثورات المتكررة التي كان يقوم بها اليهود سنة 70م دمّر الإمبراطور الروماني تيطس (هيكل سليمان) مرة ثانية وقتل وسبى عدداً كبيراً من اليهود [91] .
وفي سنة 135م قام اليهود بثورة أخرى زمن الإمبراطور الروماني أدريانوس الذي دمّر مدينة أورشليم، وبنى مكان الهيكل معبداً لـ (جوبيتير) كبير آلهة الرومان وغيّر اسم المدينة إلى (إيليا كابيتولينا) ، وتخلص من اليهود فيها بالقتل والتعذيب والتشريد والنفي ومنعهم من دخولها [92] . فازداد تشتت اليهود وتفرقهم في أنحاء العالم - عما كانوا عليه من قبل منذ التدمير الثاني للهيكل - في دول آسيا وأوروبا وإقريقيا.(39/146)
يقول المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس: "إلى هنا ينتهي تاريخ الإسرائيليين كأمة، فإنهم بعد خراب أورشليم تفرقوا في جميع بلاد الله، وتاريخهم فيما بقي من العصور ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها، وقد قاسوا في غربتهم هذه صنوف العذاب والبلاء، فإن الرومانيين حظروا عليهم دخول أورشليم" [93] اه.
ومع تشتتهم فإن العذاب كان يحل بهم أينما حلوا، وتعرضوا لنقمة أهل البلاد التي يسكنون فيها بسبب كفرهم وفسقهم وفسادهم وإفسادهم في الأرض وإشاعتهم للفتن والرذائل وأكل أموال الناس بالباطل قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [94] .
فكان عقاب الله عز وجل عليهم بأن سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [95] .(39/147)
وقال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [96] .
فسلط الله عليهم الآشوريين والفراعنة المصريين والبابليين واليونانيين والبطالسة المصريين الوثنيين ثم الرومان الوثنيين والنصرانيين قديماً وحديثاً لقرون عديدة، ثم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم سلطه الله عز وجل عليهم فأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة النبوية وقتل بني قريظة وحارب يهود خيبر حتى استسلموا له وصالحوه، ثم أوصى بإخراجهم من جزيرة العرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" [97] .
وفي العصر الحديث كان اليهود يسامون سوء العذاب في الدول الأوروبية النصرانية وغيرها فمثلاً اضطهدوا في بريطانيا سنة 1298م حينما أمر الملك ادوارد الأول بطرد اليهود من جميع البلاد البريطانية، وفتك البريطانيون باليهود فتكاً ذريعاً.
وفي فرنسا اضطهدهم الملك لويس التاسع، وفي عهد الملك فيليب الجميل سنة 1306م، وفي سنة 1321م نكل بهم الفرنسيون وطردوهم، وأيضاً في سنة 1582م طردوا مرة أخرى.(39/148)
وفي إيطاليا حاربهم بابوات الكنيسة الكاثوليكية حرباً شعواء، وفي سنة 1540م ثار عليهم الإيطاليون فقتلوهم وطردوهم.
وفي روسيا حدثت مذابح فظيعة في عهد الحكم القيصري النصراني خاصة في سنة 1881م، وسنة 1882م، وسنة 1902م حيث قتل اليهود بالآلاف.
وفي ألمانيا ظل القتل والطرد باليهود قائماً في القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، وكان آخر ما لاقوه من عذاب وتقتيل وتشريد على يد هتلر النازي إبتداء من توليه الحكم في ألمانيا 1933م إلى 1945م [98] .
يتبين لنا من هذه الأمثلة والنماذج لاضطهادات اليهود في كل البلاد التي نزلوا بها أنهم تعرضوا لنقمة أهل البلاد التي سكنوها وغضبهم يستوي في ذلك تاريخهم القديم والوسيط والحديث والمستقبل أيضاً حسب الوعيد الإلهي في الآية الكريمة بأنهم يسامون العذاب إلى يوم القيامة ويكون ذلك على يد المسلمين إن شاء الله كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة في أن المسلمين سيقاتلون اليهود فيقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: تعال يا مسلم فإن ورائي يهودي فاقتله [99] .
المطلب التاسع: تجمعهم في فلسطين في العصر الحديث.
مما سبق نجد أن اليهود لم تقم لهم قائمة ولا دولة ولا كيان في فلسطين إلا في عصرنا المؤلم حينما تحالفت اليهودية الماكرة مع الصليبية الحاقدة - التي احتلت بلاد المسلمين بجيوشها الصليبية - في تشريد المسلمين وسلب أراضيهم في فلسطين وخاصة بيت المقدس ومنحها أو بيعها لليهود وتشجيع هجرتهم إليها من شتى بقاع الأرض لإقامة دولة غاصبة لهم في فلسطين وقد مرّت إقامة تلك الدولة المشؤمة بالمراحل الآتية:
- لعل أول دعوة علنية لإنشاء وطن قومي لليهود كانت في كتاب (نداء اليهود) الذي أصدره السير هنري فنش بإنجلترا عام 1616م [100] .(39/149)
- ثم جاء الجنرال نابليون بونابرت الفرنسي الذي دعا اليهود إلى إقامة وطن لهم في فلسطين خلال الحملة التي قام بها على مصر والشرق في عام 1798م ووجه إلى اليهود بياناً سماهم فيه (ورثة فلسطين الشرعيين) ، ولكن هزيمة نابليون حالت دون إكمال المؤامرة [101] .
- ثم توالت نداءات وكتابات زعماء ومفكري اليهود إلى اتخاذ فلسطين وطناً قومياً لليهود وإقامة دولة لهم فيها بشتى الوسائل ومن أبرز هؤلاء:
الحاخام (زفى هيرش كاليشر 1795-1874م) في كتابه (البحث عن صهيون) .
والحاخام (موسى هيس 1821-1875م) في كتابه (من روما إلى القدس) .
والمفكر اليهودي (بيريتز سمولنسكن 1842-1885م) في كتابه (فلنبحث عن الطريق) وغيرهم [102] .
- تكونت في أوروبا وأمريكا وآسيا وغيرها عشرات الجمعيات والمنظمات اليهودية التي ترعى شؤون اليهود ومصالحهم، ومن أبرزها (جمعية أحباء صهيون) التي قدمت عام 1882م طلباً للقنصل العثماني في روسيا يطلبون الإقامة في فلسطين فكان الرد بالرفض القاطع من السلطان عبد الحميد العثماني [103] [104] .
- استطاع اليهود أن يتغلغلوا في الأوساط الدينية والاجتماعية والمالية والإعلامية والسياسية في البلاد الغربية ذات النفوذ العالمي مثل بريطانيا وروسيا وفرنسا ثم أمريكا وغيرها، وأن يُسَخِّروا حكومات وشعوب تلك البلاد في تحقيق المصالح اليهودية والأهداف الصهيونية والتي كانت تلتقي مع المطامع والمصالح الصليبية ضد الإسلام والمسلمين.(39/150)
فأما في المجال الديني فقد استطاع اليهود أن يندسوا في الكنيسة النصرانية ويصلوا إلى أعلى المناصب الكنسية حتى منصب (بابا الفاتيكان) [105] ، ويستصدروا من مجمع (مؤتمر) الفاتيكان العالمي الثاني المنعقد في عام 1963م قراراً بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه الصلاة والسلام، ثم أصدر البابا بولس السادس في 28 أكتوبر 1965م عن المجمع المسكوني بياناً اشتهر باسم (وثيقة التبرئة) يؤكد فيه ما سبق [106] .
وأما في المجال المالي فقد ظهرت إمبراطوريات مالية يهودية في أوروبا وامتد نشاطها إلى أمريكا ومن أبرز تلك الإمبراطوريات المالية عائلة (روتشيلد) اليهودية وغيرها التي قامت بتمويل الحركات الثورية والمنظمات الصهيونية التي تخدم مصالح اليهود [107] .
وأما في المجال الإعلامي فقد سيطر اليهود عن طريق المال بشرائهم وإنشائهم للمؤسسات الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية وعن طريقها كانوا يتحكمون في الحكومات والشعوب وتوجيههم حسب خطط اليهود وأهدافهم ومصالحهم.
ومن الأمثلة التي تدل على السيطرة اليهودية على الإعلام أن وكالة (رويتر) أسسها (جوليوس باول رويتر الألماني) وكان يهودياً اسمه (إسرائيل بيير جوزافات) وقد أسس وكالته سنة 1848م، كما أن (وكالة أنباء هافاس) أسسها أحد اليهود من عائلة هافاس سنة 1835م، وأصبحت فيما بعد الوكالة الرسمية لفرنسا [108] .
وأما في المجال السياسي فقد استطاع اليهود السيطرة عليه والتغلغل فيه عن طريق الإغراء المالي والجنسي والتأثير الإعلامي والجمعيات الماسونية للوصول إلى أعلى المناصب السياسية أمثال اليهودي (بنيامين دزرائيلي) رئيس وزراء بريطانيا [109] ، وأعضاء الحزب الشيوعي في روسيا بعد الانقلاب الشيوعي - الذي أطاح بالحكم القيصري النصراني - كان معظمهم من اليهود، وكذلك أعضاء الكونجرس الأمريكي ووزراء ومستشارو الرئيس الأمريكي ومعاونوه [110] .(39/151)
- في عام 1896م أصدر الصحفي اليهودي (ثيودور هرتزل) [111] كتابه (الدولة اليهودية) ودعا إلى مؤتمر (بازل) بسويسرا عام 1897م حضره زعماء اليهود وحاخاماتهم من جميع أنحاء العالم وتقرر فيه إنشاء (المنظمة الصهيونية العالمية) واختيار فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود بعد تجميعهم فيها من أنحاء العالم وبذل كافة الجهود لتحقيق ذلك.
- في عام 1901م أنشأ هرتزل (الصندوق اليهودي الوطني) لشراء الأراضي في فلسطين، وعرض على السلطان عبد الحميد العثماني رشوة مالية ضخمة مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين فرفض السلطان - رحمه الله - ذلك العرض الدنيء وقام بطرد هرتزل.
- في عام 1909م تمكن الماسونيون من الإطاحة بالسلطان عبد الحميد وعزله بانقلاب عسكري عليه، وتولي حزب الاتحاد والترقي (معظم أعضائه من يهود الدونمة السلانيك والماسونيين) للسلطة الفعلية في تركيا، ثم قاموا بإلغاء الخلافة العثمانية في عام 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك (عميل الغرب) [112] .
- ثم في 2 نوفمبر 1917م أصدر وزير خارجية بريطانيا (بلفور) [113] وعده المشؤم بمنح اليهود حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين ومساعدتهم في ذلك.(39/152)
- وفي نفس العام 1917م احتلت الجيوش البريطانية فلسطين بعد هزيمة الدولة العثمانية حليفة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914م-1917م) ، ثم وضعت فلسطين وما جاورها تحت الانتداب البريطاني بموافقة عصبة الأمم المتحدة (الدول الغربية) في 25 إبريل من عام 1920م إلى عام 1932م حيث قامت بريطانيا بتحقيق وعد بلفور المشؤم في تشجيع ودعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتوطينها وحمايتها، فهاجر إلى فلسطين أثناء مدة الانتداب البريطاني ما يقرب من 118 ألف يهودي كوّنوا عصابات إرهابية مسلحة مثل الهاجاناه [114] ، والأرجون [115] ، وشتيرن [116] ، وقوات البالماخ [117] وغيرها بهدف الإستيلاء على أراضي المسلمين وتشريدهم وإرهابهم، وقد اندمجت تلك العصابات اليهودية بعد ذلك في (جيش الدفاع) في الدولة اليهودية.
- في 26 نوفمبر 1947م أصدرت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين بين المسلمين واليهود وانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
- ثم في 15 مايو 1948م أعلن بن جوريون قيام دولة يهودية في فلسطين [118] على أثر إعلان بريطانيا انتهاء الانتداب، وقد تسارعت الدول الغربية الصليبية التي تتلاقى مصالحها ومطامعها مع المخططات اليهودية إلى الاعتراف بالدولة اليهودية الغاصبة وفي مقدمة تلك الدول إمريكا وروسيا وفرنسا.(39/153)
- وقد استطاعت الدولة اليهودية التي سُميت باسم (إسرائيل) ترسيخ وجودها بل توسيع أراضيها المغتصبة في المنطقة العربية الإسلامية بدعم حلفائها الغربيين - وخاصة إمريكا وروسيا - حيث قامت باحتلال القدس الغربية وجنوب النقب عام 1949م، ثم احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزه وصحراء سيناء وهضبة الجولان عام 1967م، وبناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة. كل ذلك سعياً وراء تحقيق الحلم الصهيوني اليهودي بما يسمى (إسرائيل الكبرى) من النيل إلى الفرات، ولكن تقلّص ذلك الحلم حينما تمكنت الجيوش العربية في حرب رمضان سنة 1393هـ (6 أكتوبر 1973م) من تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي وخط بارليف الذي لا يقهر - بزعمهم -، واستعاد المصريون صحراء سيناء، مما دفع باليهود إلى تغيير إستراتيجيتهم في اختراق البلاد العربية فسعت إلى توقيع معاهدة السلام في كامب ديفيد بأمريكا عام 1978م بين الرئيس المصري محمد أنور السادات والرئيس الإسرائيلي مناحيم بيجين.
- وعلى الرغم من ذلك فقد قامت إسرائيل بغزو جنوب لبنان في نفس عام 1978م وإحتلالها وتشريد أهلها وقتل الأبرياء الآمنين، وواصلت إسرائيل إعتدائها واجتياح لبنان حتى وصلت إلى بيروت عام 1982م ولا تزال تواصل إعتداءاتها.
- وبعد جهود حثيثة من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والإتحاد السوفيتي ودول أخرى عقد مؤتمر السلام في الشرق الأوسط في 30 أكتوبر عام 1991م بالعاصمة الإسبانية (مدريد) لوضع حد للصراع العربي الإسرائيلي بحضور الفلسطينيين والإسرائيليين على مائدة المفاوضات لإقامة سلام دائم وعادل بين شعوب الشرق الأوسط.(39/154)
ولكن يجب علينا أن لا ننسى مع ذلك أن اليهود أعداؤنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..} [119] ، والصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفار - إذا حدث مع وجود المصلحة أو الضرورة حسب ما يراه ولي أمر المسلمين - لا يلزم منه مودتهم ولا محبتهم ولا موالاتهم ولا يقتضي تمليكهم لما تحت أيديهم بل يجب على المسلمين أن يعدوا العدة ما استطاعوا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة، ويجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [120] . ولن يتحقق ذلك إلا إذا عاد المسلمون إلى دينهم وتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وطبقوه في حياتهم وجميع شؤونهم أفراداً وأسراً ومجتمعات وحكومات ودولاً، فإذا تحقق ذلك كانوا جديرين بنصر الله عز وجل لهم وهزيمة أعدائهم واستعادة مقدساتهم ومجدهم فيكونون خير أمة أخرجت للناس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [121] .
ولا توجد أمة تستطيع تخليص البشرية من شرور اليهود ودولتهم إلا أمة الإسلام، إن هذه الدولة اليهودية - التي لا تزال تنفث سمومها وتواصل عدوانها ومكائدها ضد المسلمين، وتعيث في الأرض شروراً وإرهاباً وفتناً وفساداً - تسير على خطى سلفهم من اليهود الذي قال الله عز وجل عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [122] .(39/155)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [123] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: قاموس الكتاب المقدس ص685، 789، اليهودية ص41 د. أحمد شلبي.
[2] انظر: سفر التكوين 12/5.
[3] انظر: سفر صموئيل 13/9، وأخبار الأيام الأول 22/2.
[4] منطقة تقع في شرق الأردن شمال البتراء، وعلى مسيرة أحد عشر كيلا جنوب الكرك.
انظر: (المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص237 محمد شرّاب) .
[5] انظر: السيرة النبوية 4/23-45 لابن هشام، تاريخ الإسلام (المغازي) ص479 للذهبي.
[6] انظر: المرجعين السابقين 4/215-236، ص627.
[7] انظر: المرجعين السابقين 4/384،385-396، ص713.
[8] انظر: تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ، ص19 للذهبي.
[9] منطقة بفلسطين في الجنوب الغربي لبيت المقدس، من أعمال الخليل. انظر: (المعالم الأثيرة ص20 محمد شُرَّاب) .
[10] انظر: تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ، ص81-83.
[11] نهر اليرموك طوله 57 كيلاً، وهو الحد الفاصل بين سورية والأردن، وقد نشبت معركة اليرموك في سهل الواقوصة. انظر: (المعالم الأثيرة ص297) محمد شُرَّاب.
[12] تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ص162 للذهبي، البداية والنهاية 7/55 لابن كثير.
[13] سورة آل عمران، الآية 126.
[14] انظر: قاموس الكتاب المقدس ص596، دروس اللغة العبرية ص32،33 د. ربحي كمال.
[15] انظر: سفر التكوين 11/14.(39/156)
[16] انظر: تكوين 14/13. للتوسع (انظر: قاموس الكتاب المقدس ص596، دروس اللغة العبرية ص36 د. يحيى كمال، تأريخ بني إسرائيل 30-31 محمد دروزة، بنو إسرائيل في القرآن والسنة ص18 د. محمد سيد طنطاوي، اليهودية ص46-47 د. أحمد شلبي) .
[17] أخرجه البخاري في صحيحه (انظر: صحيح البخاري ضمن فتح الباري 1/22) .
[18] سورة البقرة، آية 136.
[19] أخرجه البخاري. (انظر: فتح الباري 8/170، 13/333) .
[20] سورة آل عمران، آية 93.
[21] أخرجه الإمام أحمد 1/273،278، والطبراني في المعجم الكبير 12/247، والبيهقي في دلائل النبوة 6/266،267.
[22] انظر: سفر التكوين 32/24-32، قاموس الكتاب المقدس ص69،1074.
[23] سورة البقرة، آية 40،47.
[24] انظر: تفسير ابن كثير 1/86.
[25] أي من غير بني إسرائيل لأن أجناساً من الروم والخزر قد اعتنقوا الديانة اليهودية المنحرفة وليسوا من بني إسرائيل - فيما سنبينه إن شاء الله تعالى - فعلى هذا فإن مصطلح اليهود أعم من بني إسرائيل.
[26] سورة البقرة، آية 62. ونظيرها في سورة المائدة، آية 69 قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْءَامَنَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالحِاً فَلَهُم أَجْرُهُم عِنْدَ رَبِّهِم وَلا خَوْفُ عَلَيْهِم وَلا هُم يحَزَنُون} .
[27] انظر: كتاب (تفسير آيات أشكلت) 1/275، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/55.
[28] سورة الأعراف، آية 156.
[29] انظر: تفسير ابن كثير 1/107 في ذكر الأقوال السابقة.
[30] انظر: خطط المقريزي 3/503، قاموس الكتاب المقدس ص1084، الشخصية الإسرائيلية ص28-31 د. حسن ظاظا.
[31] صبح الأعشى 13/253.
[32] انظر: تاريخ الإسرائيليين، ص32.(39/157)
[33] وقد رجح هذا القول الشيخ محمد صديق خان - رحمه الله تعالى - في كتابه: (لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان، ص111) وغيره.
[34] سورة المائدة، آية 64.
[35] سورة النساء، آية 46.
[36] سورة المائدة، آية 82.
[37] سورة التوبة، آية 30.
[38] سورة الجمعة، آية 6-8.
[39] سورة الفاتحة، آية 7.
[40] انظر: تفسير ابن كثير 1/31،32.
[41] تاريخ الإسرائليين، ص3،4.
[42] انظر: سفر التكوين 35/33.
[43] وردت القصة مفصلة في سورة يوسف، وفي سفر التكوين من الإصحاح 37 - إلى الإصحاح 45.
[44] ذكرت عدة أسباب لذلك الإضطهاد، منها:
أ- أن فرعون رأى رؤيا أفزعته مضمونها أن زوال ملكه سيكون على يد رجل من بني إسرائيل. (انظر: تفسير ابن كثير 1/93) .
ب- لخشيته من تكاثر عددهم واستفحال نفوذهم. (سفر الخروج 1/8،9) .
ج- أن زمن دخول بني إسرائيل إلى مصر كان في فترة حكم ملوك الرعاة (الهكسوس) غزاة أرض مصر، وحينما طرد المصريون الهكسوس من أرضهم واستعادوا ملكهم فإنهم اضطهدوا بني إسرائيل المتعاونين مع الحكام السابقين. (انظر: قصص الأنبياء ص153، 154 عبد الوهاب النجار، اليهودية 51-54، 59-61 د. شلبي) .
[45] سورة البقرة، آية 49.
[46] سلسلة النسب من سفر التكوين 6/16-20، وقد عاش موسى في القرن الثاني عشر قبل الميلاد تقريباً.
[47] انظر: تفسير ابن كثير 2/446.
[48] سورة يونس، آية 92.
[49] سورة الأعراف، آية 138-139.
[50] انظر: سفر الخروج 17/1-7.
[51] سورة البقرة، آية 60.
[52] انظر: سفر الخروج صح16.
[53] سورة طه، آية 80.
[54] ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره 1/98-100، كما ذكر أقوالاً أخرى في تعريف المن والسلوى.(39/158)
[55] سورة البقرة، آية 57. وانظر: تفسير ابن كثير 1/100-101، فيما نقله عن السدي ووهب بن منبه وغيرهما في تفسير الآيات الكريمة السابقة.
[56] سورة البقرة، آية 55-56.
[57] سورة النساء، آية 153.
[58] انظر: سفر الخروج صح 32، وتتهم توراة اليهود هارون عليه الصلاة والسلام بأنه صنع العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته، وقد برّأ الله عز وجل في القرآن الكريم هارون عليه الصلاة والسلام من هذه التهمة الباطلة وكشف عن المجرم الحقيقي وهو السامري. قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . [سورة طه، آية 87،88] .
[59] سورة الأعراف، آية 148-149.
[60] سورة البقرة، آية 51،52.
[61] انظر: سفر الخروج صح (32) .
[62] سورة البقرة، آية 54.
[63] سورة الأعراف، آية 171.
[64] انظر: سفر العدد صح (11) .
[65] سورة البقرة، آية 61.
[66] سورة المائدة، آية 20 - 26.
[67] انظر: سفر العدد صح13،14،32.
[68] سورة الصف، آية 5.(39/159)
[69] يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام نبي من أنبياء بني إسرائيل ثبتت نبوته عند المسلمين في السنة الصحيحة بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولمّا يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر أولادها، قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه…"الحديث- أخرجه البخاري مختصراً. (انظر: فتح الباري 9/223) ، ومسلم 3/1366 واللفظ له، والإمام أحمد 3/318، ويبين لنا حديث أبي هريرة الآتي اسم هذا النبي الكريم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس".
أخرجه الإمام أحمد 2/325 وصححه ابن كثير (انظر: قصص الأنبياء ص377) والألباني (انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة ح202) ، وراجع سفر يشوع صح (10) .
[70] سورة البقرة، آية 58،59.
[71] أخرجه الإمام البخاري (انظر: فتح الباري 8/164،308) ، ومسلم 4/2312، وأحمد 2/118، وراجع تفسير ابن كثير 1/103.
[72] انظر: تاريخ بني إسرائيل ص122 محمد دروزة، دائرة المعارف البريطانية 2/8،9، اليهودية والمسيحية ص83 د. محمد الأعظمي.
[73] راجع الإصحاحات 3،4،6،10،13،17.
[74] انظر: سفر صموئيل الأول، الإصحاح 8.
[75] سورة البقرة، آية 246،247.
[76] ورد اسمه في القرآن الكريم (طالوت) . سورة البقرة، آية 247.
[77] انظر: سفر صموئيل الثاني صح11، سفر الملوك الأول صح11.
[78] انظر: سفر الملوك الأول الإصحاحات (12،14، 15،16، 17، 18،19،22) ، وسفر الملوك الثاني الإصحاحات (1،13،15، 16،17، 21، 22، 23،24) .(39/160)
[79] انظر: سفر الملوك الثاني الإصحاح (2) ، قاموس الكتاب المقدس ص78، القدس عربية إسلامية ص74،75 د. سيد فراج راشد.
[80] انظر: سفر الملوك الثاني الإصحاح (22، 23) .
[81] انظر: سفر الملوك الثاني صح (24،25) ، وسفر أخبار الأيام الثاني صح (36) ، قاموس الكتاب المقدس ص458،899، وتاريخ بني إسرائيل ص207،208 لمحمد دروزة، واليهودية ص84 د. أحمد شلبي.
[82] انظر: تاريخهم في فترة السبي البابلي في (سفر دانيال، وحزقيال، وأستير، وعزرا) .
[83] انظر: (سفر عزرا، سفر نحميا، قاموس الكتاب المقدس ص458) .
[84] انظر: (سفر عزرا صح306، وسفر نحميا صح6) .
[85] انظر: سفر عزرا صح (7) ، قاموس الكتاب المقدس ص621، السنن القويم في تفسير العهد القديم 5/80،81، قصة الحضارة 2/366 ول ديورانت.
[86] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص32.
[87] الإسكندر الكبير ملك مكدونيا (336-323 ق. م) اتسعت دولته فشملت فارس والعراق والشام ومصر واستولى على أكثر الأرض في زمنه. (انظر: قاموس الكتاب المقدس 101، المنجد في الأعلام 43) .
[88] لقب خلفاء الإسكندر المقدوني، وأولهم بطليموس الأول (323-285ق. م) (انظر: قاموس الكتاب المقدس 179) .
[89] انظر: سفر المكابيين الأول والثاني، تاريخ الإسرائيليين ص32-71 شاهين مكاربوس.
[90] كلمة يونانية أخذها العبريون إلى لغتهم وتعني التفرق في الأرض والذهاب فيها أشتاتاً (انظر: الشخصية الإسرائيلية ص65 د. حسن ظاظا) .
[91] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص71-78، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص381 دروزه، أبحاث في الفكر اليهودي ص36،37 د. حسن ظاظا.
[92] انظر: أبحاث في الفكر اليهودي ص36-38 د. حسن ظاظا، التاريخ اليهودي العام 1/152 د. صابر طعيمة، القدس عربية إسلامية ص126-128 د. سيد فرج، اليهودية العالمية ص26 عبد الله التل.
[93] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص77.(39/161)
[94] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص77.
[95] سورة الأعراف، آية 167.
[96] سورة الإسراء، آية 4-8.
[97] أخرجه الإمام مسلم 3/1388 وغيره عن عمر t، وأخرجه البخاري عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". (انظر: فتح الباري 6/271) .
[98] راجع في تفصيل تلك الإضطهادات: تأريخ الإسرائيليين ص80-97 شاهين مكاريوس، خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية ص106-120 عبد الله التل، التاريخ اليهودي العام 2/47-73 د. صابر طعيمة، الشخصية الإسرائيلية 84-90 د. حسن ظاظا، بنو إسرائيل في القرآن الكريم ص113،114 د. محمد عبد السلام.
[99] أخرجه البخاري: (انظر فتح الباري 6/107) .
[100] انظر: القدس عربية إسلامية ص167 د. سيد فرج، التاريخ اليهودي العام 2/194 د. صابر طعيمة.
[101] انظر: التاريخ اليهودي 2/195 د. صابر طعيمة.
[102] انظر: الصهيونية ص40 العوضي، دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية ص21 د. محمد زعروت.
[103] السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م) آخر سلاطين الخلافة العثمانية الأقوياء، تعرض تاريخه للتشويه لمقاومته النفوذ الغربي اليهودي. (انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص7، 587 محمد فريدبك) .
[104] انظر: صراعنا مع اليهود ص34 محمد إبراهيم ماضي.
[105] للتوسع إقرأ كتاب (بابوات من الحي اليهودي) تأليف -واكيم بيرنز، تعريب - خالد أسعد عيسى.
[106] للتوسع اقرأ كتاب (نحن والفاتيكان وإسرائيل) تأليف - أنيس القاسم، الناشر: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية – بيروت - 1966م. وكتاب (إسرائيل حرّفت الأناجيل والأسفار المقدسة ص21 وما بعدها) للأستاذ أحمد عبد الوهاب - مكتبة وهبة – القاهرة - 1972م.(39/162)
[107] إقرأ كتاب (حكومة العالم الخفية) تأليف يشيريب سيبريد وفيتش - ترجمة مأمون سعيد إصدار دار النفائس - بيروت - 1982م، وكتاب (اليهود وراء كل جريمة ص85 وما بعدها) وليم كار.
[108] انظر للتوسع: (السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمي) تأليف - زياد أبو غنيمة، وكتاب (النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية) تأليف- فؤاد سيد الرفاع.
[109] د. زرائيلي، بنيامين أيرل بيكنسفيلد (1804-1881م) سياسي ومؤلف بريطاني، من سلالة يهودية، تولى عدة وزارات واختير رئيساً للوزارة في 1867م، وفي 1874-1880م. (انظر: الموسوعة العربية 1/792، المنجد في الأعلام ص286) .
[110] إقرأ للتوسع في السيطرة اليهودية على المال والسياسة كتاب (اليهودي العالمي) تأليف هنري فورد. تعريب: خيري حماد، منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت، وكتاب (الأخوة الزائفة) تأليف: جاك تني - عضو مجلس الشيوخ الإمريكي، تعريب - أحمد التازوري، مؤسسة الرسالة - بيروت، وكتاب (النشاط السري اليهودي) تأليف غازي محمد فريج، وكتاب (خطر اليهودية العالمية) تأليف - عبد الله التل، وكتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) و (اليهود وراء كل جريمة) تأليف -وليم كار، و (جذور البلاء) -عبد الله التل، وغيرها من الكتب الكثيرة.
[111] ثيودور هرتزل (1860-1904م) يهودي نمساوي، زعيم الصهيونية الحديثة (المنجد 727) .
[112] انظر: للتوسع كتاب (دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية) تأليف د. محمد زغروت، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.
[113] بلفور، أرثر جيمس (1848-1930م) سياسي بريطاني شغل عدد مناصب وزارية. (انظر: الموسوعة الميسرة 1/399 المنجد ص141) .
[114] كلمة عبرية تعني الدفاع.
[115] اختصار جملة تعني (المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل) .
[116] تعني (المحاربون من أجل إسرائيل) .
[117] تعني (سرايا الصاعقة) .(39/163)
[118] انظر: فلسطين عربية إسلامية ص170-174 د. سيد فرج.
[119] سورة المائدة، آية 82.
[120] انظر: للتوسع نص فتوى سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله ووفقه - في حكم الصلح مع الكفار الذي نشر في جريدة المسلمون السنة العاشرة العدد 516، 520 عام 1415هـ الموافق 1994م.
[121] سورة محمد، آية 7.
[122] سورة المائدة، آية 78،79.
[123] سورة آل عمران، آية 21،22.(39/164)
تابع لموجز تاريخ اليهود والرد على بعض مزاعمهم الباطلة
المبحث الثاني
مزاعم وأساطير يهودية باطلة.
اليهود -لعنهم الله- قوم بهت وكذب، وهذه الصفة من أقبح الصفات التي انغرست في نفوسهم -خاصة في زعمائهم- وأصبحت طبعاً لازماً لهم كأنهم جُبلوا عليها، وقد بلغت بهم الجرأة في الكذب والكفر إلى حد الافتراء والكذب على الله عز وجل، وقد سجّل القرآن الكريم عليهم تلك الصفة المذمومة فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [1] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ? [2] ، وقال تعالى: { ... وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ? [3] ، وغيرها من الآيات الكريمة [4] .(39/165)
كما شهد عليهم شاهد من أنفسهم هداه الله إلى الإسلام فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم"؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا – وفي رواية: ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام"؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله [5] .
وقد استخدم الصهاينة [6] اليهود سلاح الكذب والافتراء في خداع الرأي العالمي -خاصة الغربي- وتضليله وتسخيره لأطماعهم ومخططاتهم الصهيونية وذلك بواسطة نشر الأكاذيب والأساطير والدعاوى اليهودية الكاذبة وتقديمها إلى الناس على أنها حقائق ثابتة لا تقبل الشك والريب بها - بزعمهم - عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية العالمية اليهودية وأبواقها التابعة لها، ومن أبرز تلك الأكاذيب ما يأتي:
1- الادعاء بأنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار.
2- الزعم بنقاء الجنس والعنصر اليهودي المتميز.
3- الادعاء بأن لليهود حقاً تأريخياً ودينياً في فلسطين.(39/166)
إن هذه الإدعاءات أسهمت في تبرير جرائمهم ومكائدهم وحروبهم ومفسادهم أمام الرأي العالمي لتحقيق الهدف الصهيوني في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين -والغاية تبرر الوسيلة حسب القاعدة الميكافيلية اليهودية-، حيث ترافق وتزامن نشر هذه الادعاءات اليهودية الصهيونية وغيرها مع الخطوات والمراحل السابقة لمخطط اليهود في احتلال فلسطين، وسوف نبين إن شاء الله تعالى بطلان هذه المزاعم بالأدلة والبراهين الساطعة.
المطلب الأول: زعمهم بأنهم شعب الله المختار.
إن الشعور بالاستعلاء والاستكبار على جميع الخلق داء عضال ومزمن عند الأمة اليهودية ذكره القرآن الكريم عنهم في آيات كثيرة وتزخر به نصوص كتبهم المقدسة لديهم ومنها ما ورد في توراتهم المحرفة "أنتم أولاد للرب إلهكم ... لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" [7] .
ويقول الرِّبِّي عقيبا في المشنا (وصايا الآباء 3/18) : بنو إسرائيل أحباء الله لأنهم يدعون أبناءه، بل هناك برهان أعظم على هذا الحب، وهو أن الله نفسه قد سماهم بهذا الاسم في قوله في التوراة: "أنتم أولاد للرب إلهكم" [8] .
وفي مصطلحاتهم نجدهم يخلعون على أنفسهم صفات المدح والتعظيم فيسمون أنفسهم أيضاً بـ (الشعب الأزلي) وبالعبرية [عام عولام] ، و (الشعب الأبدي) وبالعبرية [عام ينصح] ، و (شعب الله) وبالعبرية [عام ألوهيم] [9] .
وانبنى على ذلك احتقارهم للأمم الأخرى وتسميتها بألفاظ السباب والشتائم مثل (الجوييم) و (عاريل) و (ممزير) [10] ، ثم تمادوا في ادعائهم بأن لهم حق السيطرة على العالم ما داموا أنهم أبناء الله وأحباؤه.
بطلان هذه الدعوى:(39/167)
لقد بيّن القرآن الكريم بطلان زعمهم بالأدلة الواضحة الدامغة فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [11] .
قال الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة: "لم يكونوا يخلون من أحد أمرين:
إما أن يقولوا: هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذاً أبناؤه ولا أحباؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه وذلك دليل على كذبكم، وإما أن يقولوا: لا يعذبنا، فيكذبوا ما في كتبهم وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم فيلتزمون أحكام كتبهم" [12] .
قلتُ: قد كان وسيكون عذاب الله عز وجل لليهود على ذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة كما بينّاه في أثناء الحديث عن تاريخهم [13] .
ثم بَيَّن الله عز وجل بطلان اصل الادعاء، وبيّن لهم ما هو الحق من أمرهم فقال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود، بل الحق أنكم كسائر البشر من خلق الله إن آمنتم وأصلحتم أعمالكم نلتم الثواب، وإن بقيتم على كفركم وجحودكم نلتم العقاب، لا فضل لأحد على أحد عند الله إلا بالإيمان والعمل الصالح [14] .
فالناس من أصل وأب واحد من آدم عليه الصلاة والسلام وهو من تراب قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [15] .(39/168)
فلا فرق بين أسود وأبيض ولا ميزة لفرد على آخر ولا فضل لإنسان على إنسان عند الله إلا بالتقوى وهو المقياس الصحيح قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [16] .
كما أبطل الله عز وجل زعمهم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [17] .
وتحداهم الله عز وجل في القرآن الكريم لإظهار كذبهم بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [18] .
وبقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [19] .
ثم نقول متعجبين ومستنكرين كيف يكون اليهود أبناء الله وأحباؤه وقد غضب الله عليهم ولعنهم في كتبه المقدسة المنزلة على أنبيائه الكرام؟!، فقد ورد في القرآن الكريم لعن الله عز وجل وغضبه عليهم صراحة في أحد عشر موضعاً في الآيات القرآنية الآتية:-(39/169)
- قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [20] .
- وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [21] .
- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [22] .
- وقال تعالى: {أُو لَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [23] .
- وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [24] .
- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [25] .(39/170)
- وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [26] .
- وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [27] .
- وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [28] .
- وقال تعالى: {و َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ..} [29] .
- وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [30] .
ولعنهم الله ضمناً مع الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين في آيات كثيرة في القرآن الكريم.(39/171)
كما عذبهم عز وجل بألوان من العذاب لم تحدث لغيرهم كالمسخ قردة وخنازير. قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [31] .
وحرّم عليهم طيبات أحلت لغيرهم. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [32] .
وقضى الله عز وجل عليهم بالتشريد والعذاب والمسكنة والغضب عليهم قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [33] .(39/172)
وإن إنزال العذاب من الله عز وجل على اليهود بسبب كفرهم وعصيانهم ثابت في كتبهم التي يقدسونها لتظل شاهداً على افترائهم وكذبهم فقد ورد في توراتهم قول موسى عليه الصلاة والسلام: "لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة، هو ذا وأنا بعد حيّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب، فكم بالحري بعد موتى ... لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم" [34] .
وذكرت المزامير بعض العقوبات الإلهية التي نزلت على اليهود بسبب كفرهم وعصيانهم، وفيها: "وتعلقوا ببعل فغور وأكلوا ذبائح الموتى وأغاظوه بأعمالهم فاقتحمهم الوباء، فوقف فينحاس ودان فامتنع الوباء ... لم يستأصلوا الأمم الذين قال لهم الرب عنهم، بل اختلطوا بالأمم وتعلموا أعمالهم، وعبدوا أصنامهم فصارت لهم شركاً، وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان، وأهرقوا دماً زكياً، دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان، وتدنست الأرض بالدماء، وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فحمي غضب الرب على شعبه وكره ميراثه، أسلمهم ليد الأمم وتسلط عليهم مبغضوهم، وضغطهم أعداؤهم فذلوا تحت يدهم ... " [35] .
وقال نبيهم أرميا في رثاء بيت المقدس وما أصابها من الأعداء: "لأن الرب قد أذلها لأجل كثرة ذنوبها، ذهب أولادها إلى السبي قدام العدو" [36] .
وقال أرميا عن الله وعذابه: "نحن أذنبنا وعصينا أنت لم تغفر، إلتحفت بالغضب وطردتنا" [37] وقال: "ردّ لهم جزاءً يا رب حسب عمل أياديهم، لعنتك لهم، اتبع بالغضب وأهلكهم من تحت سماوات الرب" [38] .
ثم قال في نهاية رثاءه لما أصاب بني إسرائيل: "لماذا تنسانا إلى الأبد وتتركنا طول الأيام، ارددنا يا رب إليك فنرتد، جدد أيامنا كالقديم، هل كل الرفض رفضتنا؟! هل غضبت علينا جداً؟! " [39] .(39/173)
كما أن الأناجيل نسبت إلى المسيح عليه الصلاة والسلام ذم اليهود وتوعدهم بالعذاب الإلهي، فقال: "يا أورشليم يا أروشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها، كم أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يترك لكم خراباً" [40] .
ونكتفي بهذه النصوص في بيان بطلان دعوى اليهود بأنهم أبناء الله وأحباؤه.
المطلب الثاني: زعمهم نقاء الجنس اليهودي
إن الإحساس بالتميز والاستعلاء والاستكبار لابد أن يؤدي باليهود إلى التعصب لجنسهم، وزاد في ذلك تأثرهم بمن كانوا يعيشون بينهم في أوروبا القومية، وبالتعصب الديني السائد في أوروبا في العصور الوسطى مما ألجأ اليهود إلى الانعزال - إضافة إلى عوامل أخرى - والانفراد بأحياء خاصة بهم عرفت باسم (الجيتو) كما عرفت في الدول العربية باسم (حارة اليهود) ، فادعوا تلك الدعوى الزائفة "بأن جميع يهود العالم من سلالة شعب إسرائيل، وأن يهود كل بلدان العالم إنما هم امتداد عضوي للآباء الأول من عصر إسحاق ويعقوب" [41] .
وقال زعيم الصهيونية هرتزل: إن اليهود بقوا شعباً واحداً وعرقاً متميزاً، إن قوميتهم المتميزة لا يمكن أن تزول، ويجب أن لا تنقرض، لذلك لا يوجد غير حل واحد فقط للمسألة اليهودية، هي الدولة اليهودية [42] .
بهذا النص يتبين لنا الهدف والمغزى من تلك الدعوى الزائفة وهو تبرير الاحتلال اليهودي الصهيوني لفلسطين بدعوى العودة إلى أرض الآباء والأجداد!!
وقد بلغ من تأثير الدعاية الصهيونية وترويجها لهذه الأسطورة أن صدقها بعض العرب فاعتقدوا بأن اليهود المتجمعين في إسرائيل هم من سلالة النبي الكريم يعقوب (إسرائيل) عليه الصلاة والسلام.
بطلان هذه الدعوى:(39/174)
إذا عدنا إلى تأريخ اليهود وكتبهم المقدسة لديهم وجدنا أن الاختلاط الجنسي بين اليهود وغيرهم ثابت منذ بداية تاريخهم، فقد ورد في كتبهم ما يأتي "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء، وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم" [43] .
ولو ألقينا نظرة خاطفة على اليهود المعاصرين لوجدناهم مختلفي الألوان والأشكال حسب البلاد التي عاشوا فيها وقدموا منها إلى فلسطين، لذلك يقول عالم الأنثروبولوجيا السويسري أوجين بيتار: "إن جميع اليهود في نظر علماء الأنثروبولوجيا، على الرغم من كل ما يدّعيه اليهود والمنضوون تحت الفكرة العنصرية الإسرائيلية، بعيدون عن الانتماء إلى (جنس يهودي) ، وكما يقول رينان: "لا توجد سحنة يهودية، بل هناك عدة سحنات يهودية) ، وليس هناك أصحّ من قوله هذا، فنحن لا نستطيع أن نعتبر اليهود الحاليين مكوّنين لكتلة بشرية ذات عنصر واحد، ولا حتى في فلسطين، بعد أن جرَّت إليها الحركات الصهيونية كثيراً من الإسرائيليين دون اختيار أو تمييز. فاليهود ينتمون إلى طائفة دينية واجتماعية، اندمج فيها في كل عصور التاريخ أشخاص من أجناس متباينة، وكان أولئك المتهودون يدخلون فيها من جميع الآفاق المسكونة بالبشر، من اليهود الأحباش -الفلاشة-، إلى اليهود الأشكناز- من الجنس الجرماني-، إلى التاميل - اليهود الأفارقة الزنوج -، إلى اليهود الهنود الذين يسمّون ببني إسرائيل، واليهود الخزر الذي ينتمون إلى الجنس التركي، فهل هناك من هذه الأنواع الإسرائيلية نوع يعتبر من ناحية التشريح والتحليل ممثلاً حقيقياً ونقياً للجنس اليهودي؟! "ويستمر عالم الأجناس البشرية السويسري في تحليل كل نوع من الجاليات اليهودية في العالم، من حيث القامة والجمجمة والهيكل العظمي والتقاطيع ولون البشرة والشعر والعينين وشكل الأنف وغيرها من المميزات البيولوجية، ليخرج بنتيجة(39/175)
حاسمة وهي أن الدعوى العنصرية التي يجاهر بها اليهود من ناحية وأعداء اليهود من ناحية أخرى ليست إلا ادعاءً خرافياً من نسج الخيال" [44] .
ولو أردنا معرفة حقيقة الكثرة الغالبة من اليهود المعاصرين في فلسطين المحتلة وخاصة الطبقة الحاكمة في إسرائيل من السياسيين وكبار القادة العسكريين وأقطاب الصهيونية الحديثة، لوجدنا أنهم ينتمون إلى يهود الأشكناز [45] وهم أحفاد الخزر الذين كانوا في جنوب روسيا واعتنقوا الديانة اليهودية في القرنين السابع والثامن الميلادي.
وعن هؤلاء الخزر تقول الموسوعة اليهودية طبعة 1903م في المجلد الرابع ص1-5 ما يأتي:
"الخزر: شعب تركي الأصل تمتزج حياته وتاريخه بالبداية الأولى لتاريخ يهود روسيا ... أكرهته القبائل البدوية في السهول من جهة، ودفعه توقه إلى السلب والانتقام من جهة أخرى ... على توطيد أسس مملكة الخزر في معظم أجزاء روسيا الجنوبية، قبل قيام الفارنجيين (سنة 855م) بتأسيس الملكية الروسية ... في هذا الوقت (855م) كانت مملكة الخزر في أوج قوتها تخوض غمار حروب دائمة ... وعند نهاية القرن الثامن ... تحوّل ملك الخزر ونبلاؤه وعدد كبير من شعبه الوثنيين إلى الديانة اليهودية ... كان عدد السكان اليهود ضخما في جميع أنحاء مقاطعة الخزر، خلال الفترة الواقعة بين القرن السابع والقرن العاشر ... بدا عند حوالي القرن التاسع، أن جميع الخزر أصبحوا يهودا، وأنهم اعتنقوا اليهودية قبل وقت قصير فقط" [46]
إن مملكة الخزر اليهودية التي قامت في جنوب روسيا -بمنطقة القوقاز فيما بين نهري الفولجا والدون- استمرت لمدة قرنين تقريباً وكان اسم عاصمتها (إتل) وسقطت على يد أمراء (كييف) الروس في الفترة بين سنة 964 و973م، ودامت لهم ولاية في القرم نصف قرن آخر إلى سنة 1016م [47] .
P 285(39/176)
خريطة منقولة عن دائرة المعارف اليهودية تبيّن التوزيع الديني في أوربا عام 900 ميلادية، وفي وسطها تظهر امبراطورية الخزر اليهودية، التي دامت ثلاثة قرون، وكانت كبرى دول اليهود في التاريخ ولا تمت بأية صلة عرقية إلى دولتي "إسرائيل ويهوذا "التاريخيتين على أرض فلسطين.
والحقيقة أنَّ من يزعمون أنفسهم (يهودا) المتحدرين تاريخياً من سلالة الخزر يشكلون أكثر من 92% بالمائة من جميع من يسمون أنفسهم (يهودا) في كل مكان من العالم اليوم، والخزر الآسيويون الذين أنشأوا مملكة الخزر في أوروبا الشرقية أصبحوا يسمون أنفسهم (يهودا) بالتحول والاعتناق سنة (720م) ، وهؤلاء لم تطأ أقدام أجدادهم قط (الأرض المقدسة) في تاريخ العهد القديم، هذه حقيقة تاريخية لا تقبل جدلاً.
ويؤيد ذلك معظم الباحثين في علوم الإنسان والآثار والتاريخ المختصون بموضوع خزر أمس ويهود اليوم [48] .
وإن حرص اليهود المعاصرين - الذين بيّنا حقيقة أصلهم ونسبهم - على الانتساب- كذباً وزوراً وبهتاناً - إلى نسل بني إسرائيل القدماء، لتكون لهم حجة ودليلٌ لتعزيز ادعائهم الباطل بأن لهم حقاً تأريخياً ودينياً في أرض فلسطين، وهو ما سنبين بطلانه إن شاء الله تعالى في الأكذوبة الثالثة من أكاذيب اليهود وأساطيرهم.
المطلب الثالث: زعمهم أن لهم حقاً تاريخياً ودينياً في فلسطين
يدعي اليهود أن لهم حقوقاً تاريخية في فلسطين لأن أجدادهم سكنوها فترة من الزمن، بدءاً بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومروراً بموسى ويوشع بن نون عليهم الصلاة والسلام، وإقامة مملكتهم زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، وانتهاءاً بطرد آخر يهودي من بيت المقدس في عصر التشرد والتشتت اليهودي الذي بدء عام 70م.(39/177)
ويدعي اليهود أيضاً أن لهم حقاً دينياً على ما جاء في كتبهم المقدسة لديهم أن الله وعدهم بامتلاك (أرض كنعان) فلسطين وما جاورها (من النيل إلى الفرات) وهي أرض الميعاد لتكون لهم ملكاً ووطناً ويستدلون على ذلك بما ورد في التوراة أن ذلك الوعد كان مع أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما قال له الرب: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" [49] . وقال له الرب أيضاً: "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم" [50] . ويزعم اليهود المعاصرون أنهم أحفاد إبراهيم وسلالته وأنهم شعب الله المختار فهم الأحق إذاً بفلسطين وما جاورها أرض الآباء والأجداد.
بطلان هذه الدعوى:
فأما بالنسبة لزعمهم بالحق التاريخي فنبين بطلانه بالآتي:
1- أن من الثابت تأريخياً وجود القبائل العربية من الكنعانيين والفينقيين في فلسطين قبل ظهور اليهود بآلاف السنوات، ولم ينقطع وجود العرب واستمرارهم في فلسطين إلى يومنا بخلاف اليهود. وقد بينا ذلك من قبل [51] .
2- أن على اليهود المعاصرين - سلالة الخزر- أن يطالبوا بالحق التاريخي لمملكة الخزر بجنوب روسيا وبعاصمتهم (إتل) ، وليس بفلسطين أو بيت المقدس، لأن أجدادهم لم يطأوها من قبل، وقد أوضحنا ذلك أيضاً [52] .
3- كانت مدة بقاء بني إسرائيل في فلسطين لا تزيد عن ثلاثة قرون ونصف قرن - وبعض المؤرخين يرى أنها تبلغ خمسة قرون - فهل المدة التي مكثوها في فلسطين كافية في إثبات حقهم مقابل وجود العرب في فلسطين من قبلهم وبعدهم لمئات القرون؟!!
وأما بالنسبة للحق الديني والوعد الإلهي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وانتسابهم إليه دينياً فهو باطل من وجوه عديدة نذكر منها ما يأتي:-(39/178)
1 - بعد أن أوضحنا بطلان انتساب معظم اليهود المعاصرين إلى سلالة إسرائيل (يعقوب) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فقد بين لنا القرآن الكريم بطلان انتساب اليهود إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام دينياً فقال عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [53] .
وقال عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [54] .
2 - أنه لايسلم لليهود صحة كتبهم المقدسة لديهم وما احتجوا بها من نصوص، فقد أثبت القرآن الكريم أنهم تجرؤا على كتب الله المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بالتحريف والتزوير والتغيير قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... } [55] . وهذا ما سنبينه ونذكر الشواهد والأدلة عليه فيما سيأتي [56] إن شاء الله تعالى.(39/179)
3- وعلى فرض التسليم لهم - جدلاً- صحة ما استدلوا به على الوعد الإلهي من كتبهم، فإنا نقول إن الوعد الإلهي قد أعطي لإبراهيم أولاً عند وصوله أرض كنعان ولم يولد له ولد حينئذ (تكوين 12/7) ، وتكرر الوعد حين رجوعه إلى أرض كنعان من مصر (تكوين 13/15) ، ثم تكرر الوعد ولم يكن لإبراهيم ولد (تكوين 15/18) ، ثم تكرر الوعد لإبراهيم بعد أن ولد له إسماعيل عليهما الصلاة والسلام (تكوين 17/8) .
بناء على ذلك فالوعد الإلهي من حق إسماعيل عليه الصلاة والسلام جدُّ العرب والمسلمين دون غيره، لأن إسحاق الابن الثاني لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام لم يولد بعد [57] .
فإن قيل: بأن الوعد الإلهي لهم بالأرض المقدسة إرثٌ وموطنٌ أبديٌ قد ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [58] .
فالجواب: أنه بقطع النظر عن كون يهود اليوم هم غير بني إسرائيل القدماء - كما بيناه من قبل - وأن ما جاء في الآية لا يعنيهم؛ لأنها لا تشمل من دان باليهودية من غير بني إسرائيل وهم معظم أو كل يهود اليوم، فإن الحق في هذا الأمر الذي عليه جمهور المفسرين هو أن عبارة الآية ليست على التأبيد، وإنما هي خاصة بالزمن الذي وعدوا فيه بذلك ونتيجة لما كان من استجابتهم لأوامر الله وصبرهم [59] .
وذلك الجزاء لإيمانهم وتفضيلهم على عالمي زمانهم سنّة إلهية في عباده عز وجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [60] .(39/180)
فلما انحرف بنو إسرائيل عن دين الله الحق وارتدوا وفسدوا وأفسدوا في الأرض لم يعد لهم حق بالتمسك بالوعد الإلهي لهم، بل كان الجزاء عليهم بما تضمنته الآيات الكريمة بلعنة الله عليهم وغضبه وعقابه بتشتيتهم في الأرض وتسليط من يسومهم سوء العذاب عليهم إلى يوم القيامة، وضرب الذلة والمسكنة عليهم أين ما ثقفوا جزاءً لنقضهم مواثيق الله وكفرهم بآياته.
4- كما يمكن القول أيضاً أن وعد الله لهم قد تحقق بعد موسى عليه الصلاة والسلام حينما دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون - فتى موسى عليهما الصلاة والسلام - وأقاموا فيها زمن داود وسليمان عليهما السلام حينما فضلهم الله عز وجل على عالمي زمانهم، ولكن حينما كفروا بالله وفسدوا وأفسدوا في الأرض غضب الله عليهم فعذبهم وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب وحرمهم من الأرض المقدسة وشردهم وشتتهم في الأرض.
وأما فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان الوعد أبديا ولا يمكن نسخه فيقول الدكتور الفرد جلوم - أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن: بأنه لم يقطع إطلاقاً أي وعد غير مشروط بأن التملك سيكون أبدياً، هذا مع أن المقصود كان فترة طويلة غير محددة. اهـ[61] .
5- إن الوعد الإلهي مشروط بالإيمان والعمل الصالح، فقد ورد في التوراة الأمر بذلك وبالمثوبة عليه، والوعيد الشديد لمن كفر بالله وارتد عن دينه ونصه: "فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فإني أنبئكم أنكم لا محالة هالكون" [62] .
وقد ثبت في أسفارهم المقدسة لديهم أنهم قد كفروا بالله وارتدوا وعبدوا آلهة وأوثاناً أخرى، وقد أوضحنا ذلك أثناء سردنا لتاريخهم [63] .(39/181)
لذلك حل بهم العذاب والبلاء والغضب من الله وهو ثابت أيضاً في أسفارهم حيث يقول نبيهم أرميا: "لماذا بادت الأرض واحترقت كبرية بلا عابر؟! فقال الرب: على تركهم شريعتي التي جعلتها أمامهم، ولم يسمعوا لصوتي ولم يسلكوا بها، بل سلكوا وراء عناد قلوبهم ووراء البعليم [64] التي علمهم إياها آباؤهم، لذلك قال رب الجنود إله إسرائيل: ها أنذا أطعم هذا الشعب أفْسِنْتينا [65] ، وأسقيهم ماء العلقم، وأبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم، وأطلق وراءهم السيف حتى أفنيهم" [66] .
وقال: "هكذا قال الرب: إن كنت لم أجعل عهدي مع النهار والليل فرائض السماوات والأرض، فإني أرفض نسل يعقوب وداود عبدي" [67] .
بل قد ورد التصريح في أسفارهم المقدسة لديهم بحرمانهم من بيت المقدس بسبب كفرهم وضلالهم وعصيانهم، فقال أشعيا: "فكان إليّ كلام الرب قائلاً: يا ابن آدم إن الساكنين في هذه الخرب في أرض إسرائيل يتكلمون قائلين: إن إبراهيم كان واحداً وقد ورث الأرض ونحن كثيرون، لنا أعطيت الأرض ميراثاً، لذلك قل لهم: هكذا قال السيد الرب تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم، أفترثون الأرض!! وقفتم على سيفكم فعلتم الرجس، وكل منكم نجَّس امرأة صاحبه، أفترثون الأرض!! " [68] .
فمتى نقض اليهود عهد الله فإنه عز وجل لا ينفذ عهده ووعده لهم بل ينفذ وعيده وعذابه، فالأرض لله يورثها من أقام دينه واتبع تعاليمه لا من يفسد في الأرض ويعيث فساداً قال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [69] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [70] .(39/182)
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [71] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [72] .
والمسلمون هم المراد بهذه الآيات الكريمة إذا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ورجعوا إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، وتمسكوا بالإسلام كاملاً أفراداً وأسراً ومجتمعات ودولاً، ونكتفي بهذه الأوجه في الرد على مزاعم اليهود وبيان بطلانها [73] .
فهرس المصادر والمراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - الأخوة الزائفة - جاك تني، تعريب أحمد التازوري، مؤسسة الرسالة، بيروت.
3 - أبحاث في الفكر الديني اليهودي - د. حسن ظاظا، الطبعة الأولى دار القلم، بيروت، 1407 هـ.
4 - أحجار على رقعة الشطرنج - وليم كار.
5 - إسرائيل حرفت الأناجيل والأسفار المقدسة - أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة - 1972م.
6 - البداية والنهاية - لابن كثير، دار الفكر العربي - القاهرة.
7 - بابوات من الحي اليهودي - واكيم بيرنز، تعريب خالد أسعد عيسى.
8 - بنو إسرائيل في القرآن الكريم - د. محمد عبد السلام محمد، الطبعة الأولى، 1400هـ، مكتبة الفلاح، الكويت.
9 - بنو إسرائيل في الكتاب والسنة – د. محمد سيد طنطاوي، الطبعة الأولى، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة 1407هـ.(39/183)
10 - تاريخ الإسلام – للذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام، ط (1) ، دار الكتاب العربي - بيروت، 1407هـ.
11 - تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم – محمَّد دروزة، المكتبة العصرية، بيروت، 1389 هـ- / 1969 م.
12 - تاريخ الإسرائيليين – شاهين مكاريوس – مطبعة المقتطف، مصر 1904م.
13 - تاريخ الدولة العلية العثمانية - محمد فريد بك، تحقيق: د. إحسان حقي، الطبعة الثانية، دار النفائس - بيروت، 1403هـ.
14 - التاريخ اليهودي العام – د. صابر طعيمة، الطبعة الثانية، 1403هـ- - دار الجيل، بيروت.
15 - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء حتى لا يوجد طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل لا يوجد فيها إلا ما هو خطأ - شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز الخليفة، الطبعة الأولى، مكتبة الرشد - الرياض، سنة 1417هـ.
16 - الجامع الصحيح – للإمام محمد بن إسماعيل البخاري – مطبوع مع فتح الباري شرح صحيح البخاري.
17 - الجامع الصحيح - للإمام مسلم النيسابوري - تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى سنة 1375 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
18 جذور البلاء – عبد الله التل، عبد الله التل، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399 هـ.
19 - جريدة المسلمون - الصادرة من لندن.
20 - حكومة العالم الخفية - يشيريب سيبريد وفيتشى، ترجمة مأمون سعيد دار النفائس- بيروت 1982م.
21 - الخطر الصهيوني على العالم الإسلامي - ماجد كيلاني، الطبعة الثالثة، 1409هـ، الدار السعودية - جدة.
22 - خطر اليهودية العالمية - عبد الله التل، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399 هـ.
23 - خطط المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) – للمقريزي – مطبعة بولاق، القاهرة،1270هـ ـ.(39/184)
24 - الخلفية التوراتية للموقف الإمريكي – إسماعيل الكيلاني، الطبعة الأولى، مكتبة الأقصى، قطر، 1407 هـ.
25 - دروس اللغة العبرية – د. يحيى كمال، عالم الكتب، بيروت، 1982 م.
26 - دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية - د. محمد محمد إبراهيم زغروت، دار التوزيع والنشر الإسلامية - القاهرة.
27 - دولة الخزر الجديدة (إسرائيل) - عبد الرحمن شاكر، الطبعة الأولى، 1981 م، دار مصباح الفكر - بيروت، لبنان.
28 - سلسلة الأحاديث الصحيحة - للشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
29 - السيرة النبوية - لابن هشام، تحقيق: د. همام عبد الرحيم، ومحمد عبد الله، الطبعة الأولى، مكتبة المنار - الأردن، سنة 1409هـ.
30 - السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمي - زياد أبو غنيمة.
31 - الشخصية الإسرائيلية - د. حسن ظاظا، الطبعة الأولى، بيروت، 1407 هـ.
32 - صبح الأعشى في صناعة الإنشاء – للقلقشندي، الطبعة الأميرية، المؤسسة المصرية للتأليف.
33 - صراعنا مع اليهود - محمَّد إبراهيم قاضي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.
34 - الصهيونية وخطرها على البشرية - د. حمود الرحيلي، الطبعة الأولى، دار العاصمة، الرياض، 1414 هـ.
35 - الصهيونية والعنف – د. حسن ظاظا، الطبعة الأولى، بيروت، 1407 هـ.
36 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني دار المعرفة، بيروت.
37 - الفكر الديني اليهودي - د. حسن ظاظا، الطبعة الثانية، دار القلم، بيروت، 1407 هـ.
38 - فلسطين عربية إسلامية – د. سيد فرج، دار المريخ للنشر، 1406هـ، الرياض.
39 - قاموس الكتاب المقدَّس - تأليف مجموعة من الأساتذة اللاهوتيين.
40 - قصة الحضارة - ول ديورانت، الطبعة الثالثة، القاهرة 1973م.
41 - الكتاب المقدَّس - طبعة دار الكتاب المقدَّس، القاهرة.(39/185)
42 - الكتاب المقدَّس - منشورات دار المشرق، بيروت، 1983 م.
43 - الكنز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج، ترجمة: د. يوسف نصر الله، الطبعة الأولى، دار القلم، بيروت، دمشق 1408 هـ / 1987 م.
44 - لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان – الملك محمد صديق حسن خان، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية – بيروت، 1405هـ.
45 - المخططات التلمودية اليهودية – أنور الجندي – دار الاعتصام، القاهرة.
46 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.
47 - المعالم الأثيرة في السنة والسيرة – محمد محمد حسن شُراب- الطبعة الأولى، دار القلم - دمشق 1411هـ.
48 - المماليك الصهاينة – عبد الرحمن شاكر، مطبعة خطاب سنة 1948م، القاهرة.
49 - المنجد في اللغة والأعلام، الطبعة السابعة والعشرون، المكتبة الشرفية، بيروت، لبنان.
50 - الموسوعة الفقهية الميسرة - دار نهضة لبنان، بيروت، 1406هـ.
51 - النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة – غازي محمد فريج، طبعة 1411هـ، دار النفائس – بيروت.
52 - النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية - فؤاد سيد الرفاع.
53 - اليهود والتحالف مع الأقوياء - د. نعمان السامرائي، الطبعة الأولى، كتاب الأم-ة، قطر، 1412 هـ.
54 - اليهود وراء كل جريمة – وليم كار، تعليق خير الله الطلفاح، الطبعة الثانية، 1402 هـ-، دار الكتاب العربي، بيروت.
55 - يهود اليوم ليسوا يهودا – بنيامين فريدمان، ترجمة زهدي الفاتح، الطبعة الثانية، 1403 هـ، دار النفائس – بيروت.
56 - اليهودي العالمي – هنري فرود، تعريب خيري حماد، دار الآفاق الجديدة - بيروت.
57 - اليهودية والمسيحية - د. محمد الأعظمي، الطبعة الأولى، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1409هـ.(39/186)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة، آية 79.
[2] سورة آل عمران، آية 78.
[3] سورة المائدة، آية 41.
[4] إقرأ الآيات الأخرى في سورة النساء، آية 50، وسورة هود، آية 18، وسورة الصف، آية 7،8.
[5] أخرجه البخاري (انظر: فتح الباري 7/250،272) .
[6] الصهيونية: نسبة إلى جبل صهيون في القدس، ثم أصبحت كلمة (الصهيونية) اسماً لحركة سياسية عنصرية يهودية متطرفة، تسعى إلى تجميع اليهود من أنحاء العالم، وإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ثم إخضاع العالم لحكمهم.
انظر للتوسع: بروتوكولات حكماء صهيون، جذور البلاء - عبد الله التل، الصهيونية - أحمد العوضي، الصهيونية وخطرها على البشرية - د. حمود الرحيلي، الموسوعة الميسرة ص331، وغيرها من الدراسات والكتب المؤلفة عن الحركة الصهيونية.
[7] انظر: سفر التثنية 14/1 وتكررت التسمية في مواضع كثيرة في التوراة المحرفة منها خروج 19/6 وتثنية 7/2-8، 28/9 وغيرها.
[8] النص من كتاب التلمود نقلاً من كتاب (أبحاث في الفكر اليهودي، ص111 د. حسن ظاظا.
[9] انظر: الشخصية الإسرائيلية ص28، 50 د. حسن ظاظا.
[10] الجوييم: كلمة عبرية تعني القذارة المادية والروحية والكفر، أما كلمة (عاريل) فتعني (الأقلف) أي الذي لم يختتن فهو قذر وكافر، وهذه الكلمة أصبحت من نصيب النصراني لأن الختان غير شائع عنده، أما (ممزير) فتعني ابن الحرام أو ابن الزنا ويطلقها اليهود على المسلم لأنه من سلالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هاجر -وهي عندهم جارية وأجنبية- فكل من ينتمي إليها منتسباً بالأصل أو بالدين إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو من سلالة إسماعيل عليه الصلاة والسلام فهو عند اليهود (ممزير) . (انظر: الشخصية الإسرائيلية ص49) بتصرف بسيط.
[11] سورة المائدة، آية 18.(39/187)
[12] انظر: تفسير القرطبي 1/126.
[13] انظر ص29 وما بعدها.
[14] انظر: بنو إسرائيل في الكتاب والسنة ص562 د. الطنطاوي.
[15] سورة الروم، آية 20.
[16] سورة الحجرات، آية 13.
[17] سورة النساء، آية 49-50.
[18] سورة الجمعة، آية 6-8.
[19] سورة البقرة، آية 94،95.
[20] سورة البقرة، آية 88.
[21] سورة البقرة، آية 89.
[22] سورة البقرة، آية 159.
[23] سورة آل عمران، آية 87.
[24] سورة النساء، آية 46.
[25] سورة النساء، آية 47.
[26] سورة النساء، آية 51-52.
[27] سورة المائدة، آية 13.
[28] سورة المائدة، آية 60.
[29] سورة المائدة، آية 64.
[30] سورة المائدة، آية 78،79.
[31] سورة المائدة، آية 60-63.
[32] سورة الأنعام، آية 146،147.
[33] سورة آل عمران، آية 112.
[34] تثنية 31/27-30.
[35] المزمور 106/19-47.
[36] مراثي أرميا 1/5.
[37] مراثي أرميا 3/42، 43.
[38] مراثي أرميا 3/65،66.
[39] مراثي أرميا 5/21،22.
وللاستزادة من الأسفار المقدسة لديهم في غضب الرب عز وجل وسخطه عليهم بسبب كفرهم وضلالهم. راجع: سفر أرميا - الإصحاحات (4) ، (6) ، (13) ، وسفر أشعيا - الإصحاح (14) ، (51) .
[40] إنجيل متّى 23/29-39.
[41] انظر: التاريخ اليهودي 2/165.
[42] انظر: اليهود والتحالف مع الأقوياء ص150 د. نعمان السامرائي.
[43] سفر القضاة 3/5-6 وتكرر ذلك منهم في مواضع متعددة من كتبهم وأزمان مختلفة وخاصة في السبي البابلي.(39/188)
[44] الأجناس البشرية والتاريخ ص413-432 يوجين بيتار، نقلاً من الشخصية الإسرائيلية ص35،36، وأبحاث في الفكر اليهودي ص104 كلاهما للدكتور حسن ظاظا، وراجع أيضاً كتاب (العرب واليهود في التاريخ) ص551 للمؤلف أحمد نسيم سوسه (كان يهودياً فأسلم) ، وانظر: اليهود والتحالف مع الأقوياء ص151،152 د. نعمان السامرائي، والخلفية التوراتية للموقف الأمريكي ص82-92 إسماعيل الكيلاني.
[45] ينقسم جمهور اليهود إلى طائفتين كبيرتين جداً هما:- الإشكناز، والسفرد، فأما الإشكناز: فهم اليهود الذين استقروا في شمال أوروبا وشرقها، وأما السفرد: فهم اليهود الذي استقروا في حوض البحر الأبيض المتوسط والبلاد العربية والآسيوية (انظر: الفكر الديني اليهودي ص202-204 د. حسن ظاظا) .
[46] نقلاً من كتاب (يهود اليوم ليسوا يهودا ص19 للمؤلف بنيامين فريدمان) ترجمة زهدي الفاتح.
[47] انظر: دولة الخزر الجديدة أو إسرائيل ص12،13،35،36، عبد الرحمن شاكر، والقدس عربية إسلامية ص175 د. سيد فرج راشد، يهود اليوم ليسوا يهودا ص39-44 بنيامين فريدمان.
[48] انظر: يهود اليوم ليسوا يهودا ص44،45، بنيامين فريد مان بتصرف بسيط، وراجع دولة الخزر ص36،37 عبد الرحمن شاكر، التاريخ اليهودي العام ص165-181 د. صابر طعيمة، والمماليك الصهاينة -عبد الرحمن شاكر، والمخططات التلمودية اليهودية ص31-38 أنور الجندي.
[49] سفر التكوين 15/18 وقد ذكر الوعد أولاً في تكوين 12/7 ثم 13/15 ثم 17/8، ثم تكررت الوعد لإسحاق ويعقوب في تكوين 26/1-4، 28/13، ثم تكرر مع يوشع في سفر يوشع 1/2-4، ثم تكرر مع داود في المزمور 69/25، 26، وسفر صموئيل الثاني 7/4-6، 12-16.
[50] تكوين 17/7،8.
[51] انظر ص6.
[52] انظر ص53 وما بعدها.
[53] سورة آل عمران، آية 65-68.
[54] سورة البقرة، آية 140.
[55] سورة المائدة، آية 13.(39/189)
[56] في بحث عنوانه (الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم - عرض ونقد)
[57] انظر: الصهيونية والعنف ص66 د. حسن ظاظا، الصهيونية وخطرها على البشرية ص72 د. حمود الرحيلي.
[58] سورة المائدة، آية 20،21، وبنحو هذه الآية في سورة الأعراف، آية 137، وسورة الإسراء، آية 104، وسورة الشعراء، آية 57-59.
[59] انظر: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص537،538، محمد دروزة.
[60] سورة الأنبياء، آية 105.
[61] نقلاً من كتاب الخلفية التوراتية للموقف الإمريكي ص70 إسماعيل الكيلاني.
[62] سفر التثنية 20/15-18.
[63] انظر: ص24 وما بعدها، وراجع سفر الملوك الثاني 17/9-17 وغيره.
[64] البعليم: جمع إله البعل، وهو إله المزارع ورب الخصب عند القبائل الوثنية.
- انظر: قاموس الكتاب المقدس ص180.
[65] نبات مُرُّ وسام (المرجع السابق ص95) .
[66] سفر أرميا 9/12-16.
[67] سفر أرميا 33/19 - 25 باختصار.
[68] سفر أشعيا 33/23-26.
[69] سورة الأعراف، آية 128.
[70] سورة الأنبياء، آية 105.
[71] سورة النور، آية 55.
[72] سورة الحج، آية 41.
[73] انظر: للتوسع التاريخ اليهودي العام 1/317-322 د. صابر طعيمة، الخلفية التوراتية للموقف الإمريكي ص41-94 إسماعيل الكيلاني، اليهود والتحالف مع الأقوياء ص146-168 د. نعمان السامرائي، الصهيونية وخطرها على البشرية ص69-106 د. حمود الرحيلي، بنو إسرائيل في القرآن الكريم ص263-265 د. محمد عبد السلام محمد.(39/190)
من ذخائر ابن مالك في اللغة
مسألة من كلام الإمام ابن مالك
في الاشتقاق
تقديم ودراسة وتحقيق وتعليق
الدكتور: محمد المهدي عبد الحي عمار
أستاذ مساعد في كلية اللغة العربية
في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإنه لجلي كل الجلاء ما لتحقيق المخطوطات ونفض الغبار عنها وإخراجها من ظلمات المخازن من عظيم المزية وكبير الفائدة في خدمة لغة القرآن ولسان السنة.
ولقد كان ابن مالك من العلماء الأفذاذ الذين أثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم المفيدة في مختلف مجالاتها، وقد حُقِّق بعض مؤلفاته ونشِر، ولكن بعضها ما زال مخطوطاً ينتظر من يقوم بخدمته.
ورغبة مني في المشاركة في خدمة هذا التراث المفيد فقد قمت بتحقيق مسألة لابن مالك في الاشتقاق، ولما كانت المسألة المحققة مختصرة وخاصة بجزئية محدودة من الاشتقاق فقد مهدت لها بتقديم اشتمل على أهم مسائل الاشتقاق؛ ليكون القارئ لهذه المسألة مستحضراً لموضوع الاشتقاق؛ ليسهل عليه فهمها واستيعاب محتواها ومضمونها، وقد سلكت في عملي الخطة التالية:
أولاً: الاستفتاح.
ثانياً: التقديم وقد ضمنته سبعة مطالب وهي:
المطلب الأول: في بيان فائدة الاشتقاق وقوة الحاجة إليه.
المطلب الثاني: في بيان جهود العلماء في الاشتقاق.
المطلب الثالث: في تعريف الاشتقاق وبيان أنواعه.
المطلب الرابع: في الخلاف في وقوع الاشتقاق والآراء في أصل المشتقات.
المطلب الخامس: في بيان أركان الاشتقاق والأنواع التي لا يدخلها.
المطلب السادس: في المرجحات التي يؤخذ بها عند تردد الكلمة بين أصلين.(39/191)
المطلب السابع: في التغييرات التي تحصل بين الأصل المشتق منه والفرع المشتق.
ثالثاً: الدراسة وهي قسمان:
أ - دارسة المؤلِّف وقد اختصرت الحديث عنه لشهرته وقصرت كلامي عنه في: نسبه: اسم وكنيته ولقبه ونسبته، وتاريخ ميلاده ووفاته، وذكرت عدد مصنفاته إجمالاً.
ب - دراسة المسألة وقد تضمنت: توثيق نسبتها، وسبب وضعها وبيان أهميتها، وأتبعت ذلك بوصف المخطوط.
رابعاً: تحقيق نص المسألة:
وقد قمت فيه بكتابتها وفق القواعد الإملائية، وشرحت وجه التمثيل من الأمثلة وفسرت الكلمات الغريبة مع توثيق ذلك كله من مراجعه.
خامساً: الفهرس:
هذا وإني لأحمد الله العلي القدير على أن مكنني من إنجاز هذا العمل الذي ما قصدت منه إلا وجه الله ثم خدمة اللغة العربية، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك من فضل الله وجوده، وإن كانت الأخرى فحسبي أنني بذلت جهدي وما بخلت بطاقتي، والتوفيق من الله. نسأله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
تمهيد
المطلب الأول
في بيان فائدة الاشتقاق وقوة الحاجة إليه(39/192)
إنّ المتأمل في اللغة العربية وما يحصل في بعض كلماتها من تفريعات، وما يتولّد منها من ألفاظ مختلفة المبنى متقاربة المعنى ليدرك بوضوح قيمة الاشتقاق، الذي يُعَدُّ من أبرز الخصائص التي مَهَّدت للغة الضاد سُبُل التوسع، ومكنتها من القدرة على مواكبة التطور الحضاري، والتفاعل مع واقع البيئة والمجتمع، فهي بواسطته تتجدد مع كل طور من أطوار الحياة، مُزَوِّدَةً المتكلم بها بكل متطلبات عصره من الألفاظ، والتراكيب التي تمكنه من التعبير عن كل ما يطرأ في حياته السياسية، والاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية، مع الحفاظ على الأصول الأولى لتلك الألفاظ وبسبب الاشتقاق ظل آخر هذه اللغة يتصل بأولها في نسيج متقن، من غير أن تذهب معالمها، أو يَنْبَهم ما خَلَّفَه السلف من تُراث على الأجيال بعدهم، فالاشتقاق يُسَهِّل إيجاد صِيغ جديدة من الجذور القديمة، بحسب ما يحتاج إليه الإنسان، فعن طريقه يستطيع العربي استبدال المصطلحات الأجنبية بكلمات عربية فصيحة هي أحسن تعبيراً وأدق دلالة على مفهومها، وذلك باستمدادها من الأصول المناسبة المتمتعة بسمات الرسوخ والحيوية الدائمة [1] ، وقد اشتدت الحاجة إلى الاشتقاق في عصرنا الحاضرة عصر التقنيات والمخترعات التي نحتاج إلى تعريبها، وسبيلنا إلى ذلك هو الاشتقاق.
وقد كان لمجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق دور بارز في اشتقاق الأسماء المناسبة لكثير من تلك المخترعات.
المطلب الثاني
جهود العلماء في الاشتقاق
لقد فطن العلماء منذ القدم لفائدة الاشتقاق وأهميته واتضح لهم دوره البارز في إثراء اللغة العربية بما ينتج عنه من توليد للألفاظ والصيغ وربط بين الكلمات ذات الحروف المتجانسة والمعاني المتقاربة.(39/193)
فلذلك أولوه عناية فائقة، وقاموا بدرسه وسطرت أقلامهم فيه تراثاً عظيماً وصلنا بعضه وسطت غير الزمان على بعضه، فقد ذكر المؤرخون جمعا غفيراً من المتقدمين الذين كانت لهم جهود جبارة في هذا الميدان، فمنهم من أفرد له مؤلفات، ومنهم من جعل له فصولاً ضمن كتبهم.
وقد ربط المحدثون الحاضرَ بالماضي في هذا المجال، فقاموا هم أيضاً ببحثه وتمحيصه، وأودعوا مرئياتهم فيه كتباً مستقلة، وأبحاثاً ضمن مؤلفاتهم.
وقد قام الدكتور عبد السلام هارون في تقديمه لكتاب الاشتقاق لابن دريد بحصر شامل لِجُلِّ مؤلفات الاشتقاق مع ذكر أسماء مؤلفيها من المتقدمين والمحدثين، ونقل عنه ذلك الحصر نذير محمد مكتبي في مقدمته لتحقيق العلم الخفاق من علم الاشتقاق، وزاد عليه بعض المؤلفات التي توصل إليها من خلال بحثه في هذا المجال، وكذلك قام بحصر أكثر تلك المؤلفات الدكتور رمضان عبد التواب في مقدمته لتحقيق اشتقاق الأسماء للأصمعي.
وفيما يلي ثبت بأسماء أصحاب تلك المؤلفات كما ذكرها أولئك المحققون مضاف إليها ما وقفت عليه من المؤلفات التي فاتتهم فلم ترد في كتبهم.
1 - أبو علي محمد بن المستنير "قطرب" المتوفى سنة 206هـ، له كتاب (الاشتقاق) [2] .
2 - أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى سنة 215هـ، له (اشتقاق الأسماء) [3] .
3 - أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط المتوفى سنة 215هـ له: (الاشتقاق) [4] .
4 - أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي ابن أخت الأصمعي المتوفى سنة 231هـ له: (اشتقاق الأسماء) [5] .
5 - أبو الوليد عبد الملك بن قطن المهري القيرواني المتوفى سنة 253هـ، له (اشتقاق الأسماء مما لم يأت به قطرب) [6] .
6 - أبو الفضل أحمد بن طاهر طيفور المتوفى سنة 280هـ. له (المشتق) [7] .
7 – أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة 285هـ، له (الاشتقاق) [8] .(39/194)
8 - أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم المتوفى سنة 300هـ، له (الاشتقاق) [9] .
9 - أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج المتوفى سنة 311هـ له (الاشتقاق) [10] .
10 - أبو بكر محمد بن سهل ابن السراج المتوفى سنة 316هـ له (الاشتقاق) ولم يتمه [11] .
11 - أبو بكر محمد بن دريد المتوفى سنة 321هـ، له (الاشتقاق) [12] .
12 -أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المتوفى سنة 337هـ له (اشتقاق أسماء الله وصفاته) [13] .
13 - أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي ابن النحاس المتوفى سنة 338هـ له كتابان:
أ - كتاب الاشتقاق لأسماء الله عزوجل.
ب - كتاب الاشتقاق [14] .
14 - أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه المتوفى سنة 347هـ. له كتابان:
أ- الاشتقاق الصغير.
ب- الاشتقاق الكبير [15] .
15 - أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه المتوفى سنة 370هـ، له كتاب (الاشتقاق) [16] .
16 - أبو الحسن علي بن عيسى الرماني المتوفى 374هـ له كتابان:
أ- الاشتقاق الصغير.
ب - الاشتقاق الكبير [17] .
17 - أبو القاسم يوسف بن عبد الله الزجاجي المتوفى سنة 415هـ، له: اشتقاق الأسماء، أو اشتقاق أسماء الرياحين [18] .
18 - أبو عبيد البكري عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي المتوفى سنة 487هـ له (اشتقاق الأسماء) [19] .
19 - حجة الأفاضل علي بن محمد الخوارزمي المتوفى سنة 560هـ، له كتاب (اشتقاق أسماء المواضع والبلدان) [20] .
20 - أبو بكر محمد بن وائل البكري الأندلسي المتوفى سنة 685هـ، له كتاب (الاشتقاق) [21] .
21 - علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756هـ، له أرجوزة سماها: لمعة الإشراق في أمثلة الاشتقاق [22] .
22 - الإمام محمد بن علي الشوكاي المتوفى سنة 1250هـ، له (نزهة الأحداق في علم الاشتقاق) [23] .(39/195)
ومما ينبغي أن يضاف إلى كتب الاشتقاق.
23 - كتاب (مقاييس اللغة لأحمد بن الحسين ابن فارس المتوفى سنة 395هـ[24] . فإنه تناول مواده اللغوية في ضوء الاشتقاق.
24 - ومثل ذلك معجم البلدان لياقوت الحموي المتوفى سنة 626 فقد جرى فيه على بيان اشتقاق أسماء البلدان [25] .
25 - السيد الإمام أبو الطيب محمد بن صديق خان الحسيني المتوفى سنة 1307هـ، له: العلم الخفاق من علم الاشتقاق [26] .
26 - العلامة عبد القادر المغربي المتوفى سنة 1376هـ له: الاشتقاق والتعريب [27] .
27 - الأستاذ عبد الله أمين له: كتاب الاشتقاق [28] .
28 - الدكتور فؤاد حنا ترز له (الاشتقاق) [29] .
29 - الدكتور عبد الحميد أبو سكين له: (الاشتقاق وأثره في النمو اللغوي) [30] .
ولم تهمل كتب فقه اللغة والدراسات اللغوية والصرفية جانب الاشتقاق، بل إنها قد تطرقت إليه وتناولته من جميع النواحي، ومن أمثلة ذلك الخصائص لابن جني، والصاحبي لابن فارس، والمزهر للسيوطي من الكتب القديمة، ومن الحديثة تصريف الأسماء لمحمد الطنطاوي، ودروس الصرف لمحمد محي الدين عبد الحميد، ودقائق العربية للأمير أمين آل ناصر، وفي أصول النحو لسعيد الأفغاني، والمدخل إلى علم النحو والصرف للدكتو عبد العزيز عتيق، ودراسات في فقه اللغة للدكتور صبحي الصالح، كما تناوله الدكتور عبد السلام هارون في تقديمه لكتاب الاشتقاق لابن دريد.
ومن العلماء من أفرد كلاً من القلب والإبدال والنحت بالتأليف دون أن يذكر أنها من أنواع الاشتقاق مع أنها من صميمه ومن أمثلة ذلك:
1 - أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن السكيت المتوفى سنة 244 له كتاب القلب وله كتاب الإبدال [31] .
2 - عبد الواحد بن علي أبو الطيب اللغوي المتوفى بعد سنة 350هـ له كتاب الإبدال [32] .(39/196)
3 - أبو علي الظهير الفارسي العماني له كتاب في النحت سماه (تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب) [33] .
4 - جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك له: الوفاق في الإبدال [34] .
5 - أحمد فارس الشدياق له: سر الليال في القلب والإبدال [35] .
ومن الكتب التي اشتملت على مباحث من الأنواع الثلاثة جمهرة ابن دريد والمزهر للسيوطي.
المطلب الثالث
تعريف الاشتقاق وبيان أنواعه
أولاً: تعريفه:
في اللغة: يطلق على معان منها: أخذ الشيء من الشيء، ومنها الأخذ في الكلام والخصومة يميناً وشمالاً مع ترك القصد، واشتقاق الحرف من الحرف أخذه منه، وكذلك أخذ الكلمة من الكلمة، واشتقاق الكلام إخراجه أحسن مخرج [36] .
وقد ورد بمعنى أخذ شيء من شيء في حديث قدسي وهو قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عزوجل: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي [37] .
وفي الاصطلاح: أخذ كلمة من أخرى مع تناسب بينهما في المعنى واختلاف في الصيغة [38] .
ثانياً: أنواعه:
حصر العلماء الاشتقاق في أربعة أنواع وهي:
الأول: الصغير أو الأصغر.
ويُعَرَّف بأنه: أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما معنى ومادة أصلية وهيئة تركيب لها؛ ليدل بالثانية على معنى الأصلية بزيادة مفيدة؛ لأجلها اختلفا حروفا وتركيبا كضارب من الضرب، وحَذِر من الحذَرِ [39] .
وهذا النوع هو أكثر أنواع الاشتقاق وروداً وهو المراد عند إطلاق الاشتقاق.
وأفراده عشرة هي:
1- الفعل الماضي 2- الفعل المضارع 3- فعل الأمر 4- اسم الفاعل 5- اسم المفعول 6- الصفة المشبهة 7- اسم التفضيل 8- اسم الزمان 9- اسم المكان 10- اسم الآلة [40] .
الثاني: الاشتقاق الكبير:(39/197)
وعَرَّفوه بأنّه أخذ كلمة من كلمة مع تناسبهما في المعنى واتفاقهما في الحروف الأصلية دون ترتيبها، مثل: حمد ومدح. وأيس ويئس، والحلم والحمل، ودهده وهدد [41] ، وجمهور الصرفيين يطلقون على هذا النوع القلب المكاني [42] . وأول من فكر فيه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) وعلىّ أساس تلك الفكرة رتب معجمه (كتاب العين) ولكن أول من بسط فيه القول وبين جوانبه ووضحه أبو الفتح عثمان بن جني (ت392هـ) الذي ذكر أن شيخه أبا عليّ (ت 377هـ) كان يستأنس بن يسيراً [43] .
الثالث: الاشتقاق الأكبر
وهوأخذ لفظة من أخرى مع تناسبهما في المعنى واتحادهما في أغلب الحروف، مع كون المتبقي من الحروف من مخرج أو مخرجين متقاربين مثل: نعق ونهق، وهتن وهتل، وثلب وثلم، ويطلق على هذا النوع أحياناً الإبدال اللغوي [44] .
الرابع: الاشتقاق من الُكُبَّار:
وهو أخذ كلمة من كلمتين أو أكثر مع تناسب المأخوذ والمأخوذ منه في اللفظ والمعنى مثل: عبشمي وعبدري في عبد شمس وعبد الدار، وبسمل وسبحل قال بسم الله وسبحان الله، وكثير من العلماء يسميه بالنحت [45] .
المطلب الرابع
الخلاف في وقوع الاشتقاق والآراء في أصل المشتقات.
أولاً: الخلاف في وقوعه:
اختلفت الآراء في وقوع الاشتقاق في اللغة العربية فقال الخليل بن أحمد
ت (170هـ) وسيبويه (ت180هـ) وجمع غفير من أئمة العربية: إن بعض الكلم مشتق وبعضه غير مشتق، وقالت طائفة من المتأخرين اللغويين إن كل الكلم مشتق، ونسب هذا القول إلى سيبويه والزجاج (ت 311هـ) .
وقال فريق ثالث - وصفهم السيوطي بالنظار [46]- إن الكلم كله أصل، والراجح هو الأول [47] .
ثانياً: الآراء في أصل المشتقات:(39/198)
تباينت آراء العلماء قديماً وحديثاً في أصل المشتقات، فذهب جمهور البصريين: إلى أن المصدر هو أصل المشتقات، وقد احتجوا لرأيهم بأدلة أوصلها بعض العلماء إلى العشرة، وقد اختار أكثر المتقدمين والمتأخرين رأيهم.
وقال الكوفيون: إن الفعل هو أصل المشتقات، وأوردوا على ذلك عدة أدلة، وقد حاول بعض المحدثين تاييد رأيهم [48] .
وهذا الخلاف وأدلة الفريقين وردودهم مبسوط في كثير من كتب الصرف بخاصة وكتب النحو بعامة ولا يتسع المقام هنا لتفصيله [49] .
المطلب الخامس
في بيان أركان الاشتقاق والأنواع التي لا يدخلها
أولاً: أركان الاشتقاق:
لابد في عملية الاشتقاق من تحقق أربعة أمور هي أركانه.
1- المشتق 2- المشتق منه 3- تشاركهما في المعاني والحروف.
4- أن يكون بينهما تغيير لفظاً مثل: طالب من الطَّلَبِ أو تقديراً مثل طَلَبَ من الطَّلَبِ [50] .
ثانياً: الأنواع التي لا يدخلها الاشتقاق:
يذكر العلماء ستة أنواع لا ينقاس الاشتقاق منها وما ورد من ذلك يَعْدُّونه نادراً مقصوراً على السماع، والأنواع هي:
1 - الأسماء الأعجمية.
2 - أسماء الأصوات
3 - الأسماء المتوغلة في الإبهام مثل: (مَنْ، ماء، مهما) .
4 - الألفاظ النادرة مثل: طوبى.
5 - الأسماء التي لها معان متقابلة مثل الجون للأبيض والأسود والجلل للكبير والصغير.
6 - الحروف [51] .
وقد أجاز مجمع اللغة العربية الاشتقاق من الأعيان عند الضرورة [52] .
المطلب السادس
في المرجحات التي يؤخذ بها عند تردد الكلمة بين أصلين:
لما كانت بعض الكلمات العربية محتملة للاشتقاق من أكثر من أصل فقد بحث العلماء عن ما يرجح كونها من أحد تلك الأصول وقد أورد السيوطي ت 911هـ في المزهر تلك المرجحات فقال:
"وإذا ترددت الكلمة بين أصلين في الاشتقاق طُلِب الترجيح وله وجوه:(39/199)
أحدها: الأمكنية كمهدد علما من الهد أو المهد فيرد إلى المهد؛ لأن باب كُرُم أمكن وأوسع وأفصح وأخف من باب (كرّ) فيرجح بالأمكنية.
الثاني: كون أحد الأصلين أشرف؛ لأنه أحق بالوضع له، والنفوس أذكر له وأقبل كدوران اشتقاق كلمة (الله) -فيمن اشتقها - بين الاشتقاق من ((ألَهَ)) أو ((لوه)) أو ((وَله)) [53] فيقال من ((أَلَه)) أشرف وأُقرب.
الثالث: كونه أظهر وأوضح كالإقبال والقُبُل.
الرابع: كونه أخص فيرجح الأعم كالفضل والفضيلة وقيل عكسه.
الخامس: كونه أسهل وأحسن تصرفا كاشتقاق المعارضة من العرض بمعنى الظهور أو من العرْض وهو الناحية فمن الظهور أولى.
السادس: كونه أقرب والآخر أبعد كالعقار يرِد إلى عقر الفهم لا إلى أنها تسكر فتعقر صاحبها.
السابع: كونه أليق كالهداية بمعنى الدلالة لا بمعنى التقدم من الهوادي بمعنى المتقدمات.
الثامن: كونه مطلقاً فيرجح على المقيد كالقرب والمقاربة.
التاسع: كونه جوهراً والآخر عرضا لا يصلح للمصدرية ولا شأنه أن يشتق منه فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه أسبق، فإن كان مصدراً تعين الرد إليه؛ لأن اشتقاق العرب من الجوهر قليل جداً والأكثر من المصادر" [54] .
المطلب السابع
في التغيرات التي تحصل بين الأصل المشتق منه والفرع المشتق
من ينعم النظر في المصدر - أصل الاشتقاق - وما أخذ منه يتضح له أن الفرق بينهما لا يخرج عن كونه زيادة حركة أونقصها، أو زيادة حرف أو نقصه، أو نقص أحدهما وزيادة الآخر أو نقص الاثنين أو زيادتهما، أو الجمع بين ذلك.
وقد قال أبو حيان ت (745هـ) : إنَّ التغييرات التي تعرض بين المشتق والمشتق منه تسعة [55] .
ولكن السيوطي ت (911هـ) ذكر أن تلك التغييرات تنحصر في خمسة عشر تغييراً، وفيما يلي بيانها كما في المزهر:
الأول: زيادة حركة كعَلِم وعِلْم.
الثاني: زيادة حرف كطَالِب وطَلَبَ.(39/200)
الثالث: زيادتهما كضَارِب وضَرْب.
الرابع: نقصان حركة كالفُرْس من الفَرَس [56] .
الخامس: نقصان مادة كـ ((ثَبَتَ وثَباتٍ)) .
السادس: نقصانهما كنَزَا ونَزَوَان.
السابع: نقصان حركة وزيادة مادة كغضبي وغضب.
الثامن: نقص مادة وزيادة حركة كـ حَرَمٍ وحِرْمَان.
التاسع: زيادتهما مع نقصانهما كـ: استنوق من الناقة [57] .
العاشر: تغاير الحركتين كـ: بَطِرَ بَطَرَا.
الحادي عشر: نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف كـ: أَضْرِب من الضَّرْبِ.
الثاني عشر: نقصان مادة وزيادة أخرى كـ: راضع من الرَّضَاعَةِ.
الثالث عشر: نقصان مادة وزيادة أخرى وحركة كـ ((خَافَ من الخَوْف)) ؛ لأن الفاء ساكنة في خوف لعدم التركيب.
الرابع عشر: نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط كـ ((عِدْ)) من الوَعْدِ فيه نقصان الواو وحركتها وزيادة كسرة العين.
الخامس عشر: نقصان حركة وحرف وزيادة حرف كـ: فَاخِرْ من الفَخَارِ نقصت ألف وفتحة وزادت ألف [58] .
وهذه التغييرات بين المشتق والمشتق منه هي موضوع المسألة التي قدمت لها بهذه المطالب.
وقد بلغت التغييرات التي اشتملت عليها هذه المسألة أربعة وعشرين تغييراً [59] .
الدراسة
أ - ابن مالك
اسمه - نسبه - لقبه - كنيته تاريخ ميلاده - تاريخ وفاته عدد مصنفاته.
ب - المسألة
توثيق نسبتها - سبب وضعها - أهميتها - وصف المخطوط
أ - ابن مالك
اسمه ونسبه:
أجمع المترجمون لابن مالك على أن اسمه ((محمد)) ولكنهم اختلفوا في سلسلة آبائه ويمكن تلخيص آرائهم في الصور التالية:
1 - محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك.
وردت هذه الصيغة في أول بعض مؤلفاته [60] وذكرها بعض من ترجمه [61] .
2 - محمد بن عبد الله بن مالك، وقد وردت هذه الصيغة أيضاً في أوائل بعض كتبه [62] ، وكذلك صرح بها بعض مترجميه [63] .(39/201)
3 - محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك.
وردت هذه الصيغة في أول تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد للدماميني [64] وذكرها بعض المترجمين له [65] .
4 - محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن مالك ذكر هذه الصيغة ابن طولون في القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية القسم الثاني [66] .
5 - محمد بن مالك وردت هذه الرواية في أول كتاب الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة [67] .
كنيته ولقبه:
لقد اشتهرت تكنيته بابنه عبد الله، فهو أبو عبد الله، ولقبه المشهور هو جمال الدين [68] ، وذكر بعضهم له لقبا آخر وهو: جلا الأعلى [69] .
وهو ينتسب إلى قبيلة طيء العربية، وكان مذهبه الفقهي - في بداية حياته المذهب المالكي ثم انتقل إلى المذهب الشافعي [70] ، وقد ولد رحمه الله في مدينة جَيَّان [71] الأندلسية وتوفي في دمشق.
تاريخ ميلاده ووفاته
تاريخ ميلاده:
اختلفت أقوال المؤرخين في تحديد تاريخ ميلاده رحمه الله، فمنهم من يرى أنه ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة [72] . ومنهم من ذكر أنه ولد سنة إحدى وستمائة [73] وقيل: إنه ولد سنة ستمائة [74] ، وتردد بعضهم فقالوا إنه ولد سنة ستمائة أو إحدى وستمائة [75] .
تاريخ وفاته:
أـ أجمع المترجمون له على أنه توفي سنة 672هـ ودفن بدمشق [76] .
مؤلفاته:
بلغت مؤلفاته التي وقفت على أسمائها خمسة وخمسين مصنفا، طبع بعضها وبعضها مازال مخطوطاً [77] .
ب - المسألة
توثيق نسبة المسألة:
لقد جاءت نسبة هذه المسألة لابن مالك صريحة في أول المخطوط حيث جاء في أوله بعد البسملة (مسألة من كلام الشيخ الإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني رحمه الله) [78] .(39/202)
وكذلك نسبها له حاجي خليفة في كشف الظنون [79] ، وذكرها الدكتور حاتم الضامن ضمن مؤلفات ابن مالك [80] ، وممن نسبها له أيضاً بدر الزمان محمد شفيع النيبالي [81] وعنوانها في المخطوط ((مسألة)) وفي المراجع التي ذكرتها (رسالة في الاشتقاق) ولكن الرسالة يصح إطلاقها على المسألة كما يجوز أن تسمى الرسالة مسألة إذا كانت في موضوع واحد.
سبب وضع المسألة:
لقد أوضح ابن مالك السبب الذي دفعه إلى وضع هذه المسألة، فقال: "فهذه أمثلة الأقسام التي تعرض في السؤال، وفي السؤال تقصير، من قبل ذكر الاسم، فالذي ينبغي أن يسأل عن أمثلته تغيّر المشتق بالنسبة إلى المشتق منه، ليدخل في ذلك الفعل، فإنه أصل الاشتقاق".
فهذا تصريح منه بسبب وضعه لهذه المسألة، وهو ذلك السؤال الذي عُرِض عن أمثلة التغيير الذي يحصل بين الأسماء المشتق بعضها من بعض.
ولكن الشيخ لم يكتف بالإجابة على هذا السؤال وقال: إن فيه تقصيرا؛ لكونه خاصاً بالإسم.
وقال إن الذي ينبغي أن يسأل عنه هو تغيّر المشتق بالنسبة إلى المشتق منه، على وجه العموم؛ ليدخل في ذلك الاسم والفعل على حد سواء.
وقد أجاب الشيخ عن ذلك السؤال المفترض وذكر أمثلته.
أهمية هذه المسألة
إن أهمية المسألة تكمن في أنها أوسع مبحث مستقل - حسب علمي - يحصر التغيرات التي تحدث بين المشتق والمشتق منه مع توضيحها بالأمثلة وعلى ذلك تكون هذه المسألة عند نشرها أول مسألة مستقلة تنشر في هذا الموضوع.
وصف المخطوطة
لقد اعتمدت في تحقيق هذه المسألة على نسخة واحدة، عثرت على مصورة منها في قسم المخطوطات بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية تحت رقم (4239) .(39/203)
وهي مصورة من مجموع تحتفظ به المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم 1593، تبدأ فيه من (75/ب إلى 77/أ) فهي تقع في ورقتين وعدد أسطر الصفحة 18 سطراً عدا الصفحة الأخيرة فإن أسطرها لا تتجاوز 7 أسطر، ولم يكتب عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، إلا أنني وجدت ضمن المجموع الذي يحويها رسالة أخرى لابن مالك وهي ((الاعتماد في نظائر الظاء والضاد)) .
وقد نسخت هذه الرسالة في 5 جمادي الأولى سنة 735هـ وكاتبها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن أحمد بن مالك النفري الأندلسي وبمقابلة الرسالتين مع بعضهما تبين لي اتحاد خطهما، وتأكد لديّ أنّ كاتبهما واحد. والله أعلم.
التحقيق
مقدمة
مسألة من كلام الشيخ الإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجيائي رحمه الله.
المشتق إمّا بزيادة حرف، أو حركة، أو حركة وحرف، وإمّا بنقصان حرف أو حركة، أو حركة وحرف.
فهذه ستتة مع إفراد الزيادة وإفراد النقص ثم ينضم إليها زيادة حرف مع نقصان حركة، وزيادة حركة مع نقصا حرف، فتصير ثمانية:
فأول أمثلتها: كـ ((طَالِب)) وكَرِيم، فاشتقاقهما من الطَّلَب، والكَرَم [82] .
وثانيها: كـ ((حَسَنَ)) و ((مَزَق)) فاشتقاقهما من الحُسْنِ والمَزْق [83] .
وثالثها: كـ ((فَاضل ومَجِيد)) فاشتقاقهما من الفَضْلِ والمَجْدِ [84] .
ورابعها: كـ ((شُجَاع)) و ((يَقِظ)) فاشتقاقهما من الشَّجَاعَة واليَقَظَةِ [85] .
وخامسها: كـ ((ضَخْم ورِجْس)) فاشتقاقهما من الضخم والرجس أي قذر [86] .
وسادسها: كـ ((حُلْوٍ)) و ((عَذْب)) فاشتقاقهما من الحَلاوَة والعذُوبة [87] .
وسابعها: كـ ((أَشْنَبٍ)) و ((يَعْمَل)) فاشتقاقهما من الشَّنَبِ والعَمل [88] .
وثامنها: كـ ((فَطِن)) و ((خَضِر)) فاشتقاقهما من الفِطْنَة والخُضرَة [89] .(39/204)
فهذه أمثلة الأقسام التي تُعَرَّض في السؤال، وفي السؤال تقصير من قِبَل ذكر الاسم، فالذي ينبغي أن يسأل عن أمثلته تغير المشتق بالنسبة إلى المشتق منه؛ ليدخل في ذلك الفعل، فإنه أصل في الاشتقاق؛ إذ لا فعل إلا وهو مشتق من مصدر مستعمل أو مقدر [90] ، والاسم تبع له؛ ولذلك كثر فيه الجمود.
وبعد ذلك فالاعتبار الصحيح يقتضي كون المشتق بالنسبة إلى مباينة المشتق منه عشرين قسماً أو أكثر من ذلك.
أولها: متغير بزيادة حرف دون تبدل حركة: كـ ضَاحِك فاشتقاقه من الضَّحك [91] .
وثانيها: متغير بزيادة حرف مع تبدل حركة كـ: طَالب فاشتقاقه من ((الطَّلَبِ)) [92] .
وثالثها: متغير بزيادة حركة دون تبدل أخرى: كـ ((مَزَق فاشتقاقه من المَزْق)) [93] .
ورابعها: متغير بزيادة حركة مع تَبَدُّلِ أُخرى: كـ ((حَسَنَ فاشتقاقه من الحُسْنِ)) [94] .
وخامسها: متغير بزيادة حرف وحركة، دون تبدل أخرى، كـ ((ضَارِب)) فاشتقاقه من الضَّرْبِ [95] .
وسادسها: متغير بزيادة حرف وحركة مع تبدل أخرى ((عَالِم فاشتقاقه من العِلْم)) [96] .
وسابعها: متغير بنقصان حرف دون تبدل حركة، كـ ((حَصَان)) فاشتقاقه من الحَصَانة [97] .
وثامنها: متغير بنقصان حرف مع تبدل حركة كـ ((شُجَاع)) فاشتقاقه من الشَّجَاعَة [98] .
وتاسعها: متغير بنقصان حركة فقط: كـ ((شَأْزٍ)) ، فاشتقاقه من شَئِزَ المكان إذا كثرت حجارته [99] .
وعاشرها: متغير بنقصان حركة مع تبدل أخرى كـ ((ضَخْم)) فاشتقاقه من الضِّخَم [100] .
والحادي عشر: متغير بنقصان حرف وحركة دون تبدل أخرى، كـ: ((حيٍ)) فاشتقاقه من الحياة [101] .
والثاني عشر: متغير بنقصان حرف وحركة مع تبدل أخرى كـ ((حَرٍّ)) فاشتقاقه من الحِرَار وهو الحرَّة [102] .
والثالث عشر: متغير بزيادة حرف ونقصان حركة: كـ ((أَشْيَب)) فاشتقاقه من الشَّيبِ [103] .(39/205)
والرابع عشر: متغير بزيادة حرف وحركة ونقصان أخرى: كـ ((أشّنب)) فاشتقاقه من الشَّنَب [104] .
والخامس عشر: متغير بزيادة حركة ونقصان حرف: كـ ((رَؤُفَ)) فاشتقاقه من الرَّأْفَة [105] .
والسادس عشر: متغير بزيادة حركة مع تبدل حرف: كـ ((رَحِيم)) فاشتقاقه من الرَّحْمَة [106] .
والسابع عشر: متغير بتبدل حرف دون زيادة ولا نقصان: كـ ((مُدَحْرِج)) فاشتقاقه من الدحْرَجَة [107] .
والثامن عشر: متغير بتبدل حركتين ونقصان حرفين: كـ ((جُنُب)) فاشتقامه من الجَنَابَة [108] .
والتاسع عشر: متغير بتبدل حرف ونقصان حركة: كـ ((أسْوَد)) فإنه مشتق من السّواد [109] .
الموفي عشرين: متغير بزيادة حرفين ونقصان حركة: كـ ((شَّنْبَاء)) فاشتقاقه من الشَّنَب [110] .
الحادي والعشرون: متغير بتبدل حركة فقط: كـ ((فَرِح)) فاشتقاقه من الفَرَح [111] .
الثاني والعشرون: متغير بزيادة حرفين وتبدل حركة، وتسكين متحرك كـ ((مَطْلُوب)) فاشتقاقه من الطَّلَب [112] .
الثالث والعشرون: متغير بزيادة حرفين وتحريك ساكن وتسكين متحرك كـ ((مَضْرُوب)) فاشتقاقه من الضَّرْب [113] .
والرابع والعشرون: متغير بتبدل المصحوب مع اتحاد اللفظين كـ ((طَلَبَ وضَحِكَ)) فإنهما مشتقان من الطَّلَبِ والضَّحِكِ [114] .
هذا شرح ما حضرني، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً، وباطناً، عدد ماخلق، وعدد ما هو خالق، حمداً يوافي نعمه الجسيمة، ويكافئ مننه العظيمة، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والمقتدين بهم في كل زمان، ما ذكره الذاكرون، وما غفل عن ذكره الغافلون.
فهرس المصادر والمراجع
1 ـ الإبدال والمعاقبة والنظائر للزجاجي تحقيق عز الدين التنوخي طبع في دمشق سنة 1962م.(39/206)
2 ـ الإبدال لابن السكيت تحقيق حسين محمد محمد شرف الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة 1398هـ.
3 ـ أخبار النحويين البصريين للسيرافي: الكاثوليكية بيروت عام 1936م.
4 ـ أسرار العربية للأنباري تحقيق بهجت البيطار، مطبعة الترقي، بدمشق سنة 1377هـ.
5 ـ الأشباه والنظائر في النحو للسيوطي، تحقيق طه عبد الرؤف سعد مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1395هـ.
6 ـ اشتقاق أسماء الله الحسنى للزجاجي، تحقيق عبد الحسين المبارك مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية سنة 1406هـ.
7 ـ الاشتقاق لابن دريد، تحقيق عبد السلام هارون دار الجيل سنة 1411هـ.
8 ـ اشتقاق الأسماء للأصمعي، تحقيق رمضان عبد التواب وصلاح الدين، مكتبة الخاني، الطبعة الأولى سنة 1979م.
9 ـ الاشتقاق وأثره في النمو اللغوي لعبد الحميد أبو سكين، مكتبة الفنون النموذجية، الطبعة الأولى سنة 1399هـ.
10 ـ إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين لعبد الباقي اليمني، تحقيق عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل للبحوث، الطبعة الأولى 1406هـ.
11 ـ الأصول لابن السراج تحقيق عبد الحسين الفتلى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
12 ـ الاعتضاد في الفرق بين الظاء والضاد لابن مالك نشره ببغداد حسين تورال وطه محسن سنة 1972م.
13 ـ الاعتماد في نظائر الظا والضاد، تحقيق صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية سنة 1404هـ.
14 ـ الأعلام لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة.
15 ـ إكمال الإعلام بتثليث الكلام لابن مالك، تحقيق سعد حمدان الغامدي، مركز البحث وإحياء التراث بمكة، الطبعة الأولى 1404هـ.
16 ـ الإنصاف في مسائل الخلاف للأنباري تعليق محمد محي الدين المكتبة التجارية بمصر.
17 ـ الإيضاح في علل النحو للزجاجي، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس ببيروت، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.(39/207)
18 ـ بدائع الفوائد لابن القيم نشر دار الكتاب العربي ببيروت.
19 ـ البداية والنهاية لابن كثير مكتبة المعارف ببيروت، الطبعة الأولى 1966م.
20 ـ بغية الوعاة للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل، دار الفكر، الطبعة الثانية 1399هـ.
21 ـ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، ترجمة رمضان عبد التواب، دار المعارف بمصر 1975هـ.
22 ـ التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين للعكبري، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، دار العرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ.
23 ـ تسهيل الفوائد لابن مالك تحقيق محمد كامل بركات، دار الكتاب العربي سنة 1378هـ.
24 ـ تصريف الأسماء لمحمد الطنطاوي، مطبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة السادسة.
25 ـ التعريفات للجرجاني، دار الكتاب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى.
26 ـ تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد للدماميني، تحقيق عبد الرحمن المفدي، الطبعة الأولى سنة 1403هـ.
27 ـ التكملةلأبي علي الفارسي، تحقيق كاظم المرجان العراق 1401هـ.
28 ـ جمهرة اللغة لابن دريد حيدر آباد سنة 1345هـ.
29 ـ الخصائص لابن جني تحقيق محمد علي النجار، الطبعة الثانية 1371هـ.
30 ـ دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية محمد الفندي وأحمد الشنتاوي وآخرون 1352هـ المجلد (1) .
31 ـ دراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح، دار العلم للملايين ببيروت، الطبعة الثالثة سنة 1388هـ.
32 ـ دروس في التصريف لمحمد محي الدين، المكتبة العصرية ببيروت عام 1411هـ.
33 ـ دقائق اللغة العربية للأمير أمين آل ناصر مكتبة لبنان، الطبعة الثالثة 1986م.
34 ـ ذيل معرفة القراء الكبار لابن مكتوم نشر مع معرفة القراء الكبار بتحقيق محمد سيد جاد الحق، مطبعة دار التأليف بمصر.
35 ـ سر الليال في القلب والإبدال، لأحمد فارس الشدياق، المطبعة العامرة بالاستانة سنة 1348هـ.(39/208)
36 ـ شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، مكتبة القدس بمصر 1350هـ.
37 ـ شرح التسهيل لابن مالك، تحقيق عبد الرحمن السيد ومحمد موسى المختون هجر للطباعة، الطبعة الأولى 1410هـ.
38 ـ شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لابن مالك تحقيق عدنان عبد الرحمن الدوري، مطبعة العاني ببغداد سنة 1395هـ.
39 ـ شرح الكافية للرضى، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الثانية.
40 ـ شرح الكتاب للسيرافي الجزء الأول، بتحقيق مجموعة من الأساتذة نشر الهيئة المصرية عام 1986م.
41 ـ الصحاح للجوهري تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1402هـ.
42 ـ الصرف العربي نشأة ودارسة للدكتور فتحي الدجني دار الكتاب الغربي بيروت.
43 ـ طبقات الشافية الكبرى للسبكي تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه سنة 1994م.
44 ـ طبقات الشافعية للأسنوي، تحقيق عبد الله الجبوري، مطبعة الإرشاد، ببغداد سنة 1970م.
45 ـ طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبه نشر د/محسن عياض.
46 ـ طبقات النحويين للزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل دار المعارف س 1973هـ.
47 ـ العبر في خبر من غبر، للذهبي، تحقيق فؤاد السيد الكويت 1961م.
48 ـ العلم الخفاق من علم الاشتقاق، لمحمد صديق خان تحقيق نذير محمد مكتبي، دار البصائر، الطبعة الأولى 1405هـ.
49 ـ غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري، تحقيق برحستراسر وبرتزل القاهرة 1932م.
50 ـ الفصحى لغة القرآن للجندي.
51 ـ فصل المقال لأبي عبيد الكبري تحقيق إحسان عباس وعبد المجيد عابد من مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1403هـ.
52 ـ الفهرست لابن النديم الرحمانية بالقاهرة.
53 ـ فهرس ابن خير الإشبيلي تحقيق مرنستكه قدارة وخليان طرغوه، نشر المكتب التجاري والمثنى والخاني، الطبعة الثانية 1383هـ.(39/209)
54 ـ فهرس مخطوطات، دار الكتب الظاهرية، علوم اللغة أسماء الحمضى بدمشق.
55 ـ فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي تحقيق د/ إحسان عباس، بيروت 1973م.
56 ـ في أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغاني دار الفكر الطبعة الثانية سنة 1383هـ.
57 ـ في علم الصرف للدكتور أمين السيد، دار المعارف، الطبعة الثانية سنة 1972م.
58 ـ القاموس المحيط للفيروز آبادي، مطبعة الحلبي بمصر الطبعة الثانية.
59 ـ قراءة في النحو العربي.
60 ـ كتاب الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة لابن مالك، تحقيق د/نجات حسن نولي مركز إحياء التراث بأم القرى الطبعة الأولى.
61 ـ الكتاب لسيبويه، تحقيق د/ عبد السلام هارون عالم الكتب، الطبعة الأولى.
62 ـ كشف الظنون لحاجي خليفة من منشورات مكتبة المثنى ببغداد.
63 ـ لسان العرب لابن منظور مصور عن طبعة بولاق.
64 ـ مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة أبحاث متفرقة.
65 ـ المدخل في علم النحو والصرف للدكتور عبد العزيز عتيق دار النهضة ببيروت.
66 ـ المدرسة النحوية بمصر والشام، للدكتور، عبد العال مكرم، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1410هـ.
67 ـ مرآة الجنان لليافعي بيروت 1970م.
68 ـ المزهر للسيوطي، تحقيق محمد بك والبجادي ومحمدإبراهيم، الطبعة الثالثة مكتبة دار التراث بالقاهرة.
69 ـ مسند الإمام أحمد، المطبعة الميمنية بمصر عام 1313هـ.
70 ـ المشوف المعلم لأبي البقاء العكبري، تحقيق ياسين السواس مركز إحياء التراث بأم القرى، الطبعة الأولى 1403هـ.
71 ـ معجم الأدباء لياقوت المحموي دار الفكر، الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
72 ـ معجم البلدان لياقوت الحموي، دار صادر بيروت.
--------------------------------------------------------------------------------(39/210)
[1] تنظر الفصحى لغة القرآن ص12، ومقدمة محقق العلم الخفاق ص7.
[2] ينظر معجم الأدباء 19:52 والمزهر 1/351، وتقديم هارون ومقدمة كل من رمضان عبد التواب ونذير محمد مكتبي.
[3] ينظر المزهر 1/351، والبغية 2/113،وقد طبع بتحقيق د/رمضان عبد التواب ود/صلاح الدين الهادي سنة 1400هـ مكتبة الخانجي.
[4] ينظر معجم الأدباء 11/230، وبغية الوعاة 1/591، والمزهر 1/351 والمقدمات السابقة.
[5] تنظر طبقات النحويين ص 250، والفهرست 83، والمزهر 1/351 وتقديم هارون 28 ومقدمة رمضان وصلاح الدين 46 ومقدمة نذير محمد مكتبي ص 40.
[6] تنظر طبقات النحويين واللغويين 250 والبغية 2/114 ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص 47، ومقدمة محمد نذير مكتبي ص 40.
[7] تنظر الفهرست 215، والمقدمتان السابقتان في الصفحات نفسها.
[8] تنظر الفهرست ص88، ووفيات الأعيان 4/313، والمزهر 1/351، وتقديم هارون 29، ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص47، ومقدمة نذير محمد مكتبي ص 40.
[9] ينظر معجم الأدباء 1/151، وبغية الدعاة 2/297 والمزهر 1/351، ومقدمة رمضان عبد التواب وصلاح الدين ص 47 وطبقات ابن قاضي شهية 1/254.
[10] تنظر الفهرست ص91 ومعجم الأدباء 1/151 والمزهر 1/351 وتقديم عبد السلام هارون29 ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص 47، ومقدمة نذير محمد مكتبي ص 40.
[11] ينظر معجم الأدباء 18/200، والمزهر 1/351، والبغية 1/110 وقد نشره محمد صلاح التكويتي 1973 كما نشره محمد علي الدرويش ومصطفى الحدري في دمشق سنة 1973م، تنظر مقدمة نذير محمد مكتبي للعلم الخفاق ص 42.
[12] طبع بتحقيق الدكتور عبد السلام هارون ومن تقديمه له استقيت جل هذه المعلومات.
[13] طبع بتحقيق عبد الحسين المبارك.(39/211)
[14] ينظر فصل المقال ص 34 وفهرست ابن خير 386 ومعجم الأدباء 4/228، وتقديم هارون 29 ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص50، ومقدمة نذير محمد مكتبي ص 40.
[15] تنظر الفهرست لابن النديم ص 95، والتقديم والمقدمتان الصفحات السابقة.
[16] تنظر الفهرست 122، وبغية الوعاة 1/530، وتقديم هارون 29، ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص 51، ومقدمة العلم الخفاق ص 40.
[17] ينظر معجم الأدباء 14/74 والمزهر 1/351، وتقديم هارون ومقدمة رمضان وصلاح الدين ومقدمة نذير محمد مكتبي.
[18] ينظر معجم الأدباء 20/60، والبغية 2/358، وكشف الظنون 2/212، وتقديم هارون 29، ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص 51، ومقدمة نذير مكتبي ص 41.
[19] تنظر بغية الوعاة 2/49، وتقديم ومقدمتا المحققين السابقين.
[20] تنظر البغية 2/195، وهدية العارفين 1/698 والتقديم والمتقدمتان.
[21] تنظر هدية العارفين 2/135، وبغية الوعاة 2/44 ومقدمة رمضان عبد التواب وصلاح الدين لاشتقاق الأسماء للأصمعي ص 51 ومقدمة نذير محمد مكتبي للعلم الخفاق ص43.
[22] تنظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 10/186، وتنظر مقدمة العلم الخفاق ص 43.
[23] تنظر مقدمة محقق العلم الخفاق ص 43.
[24] طبع بتحقيق عبد السلام هارون سنة 1411هـ بدار الجيل، بيروت.
[25] مطبوع في دار إحياء التراث العربي بيروت.
[26] طبع بتحقيق نذير محمد مكتبي وقد أفدت من مقدمة محققة في جل ما أثبته هنا.
[27] ينظر تقديم هارون ص 30 ومقدمة رمضان وصلاح الدين ص 50.
[28] تنظر مقدمة رمضان وصلاح الدين ص50 وتقديم هارون30 ومقدمة العلم الخفاق ص43.
[29] تنظر المقدمتان السابقتان.
[30] مطبوع بمطبعة الأمانة، الطبعة الأولى سنة 1399هـ.
[31] تنظر طبقات الزبيدي ص 223 وقد طبع كتاب الإبدال بتحقيق الدكتور حسين محمد محمد شرف تنظر مقدمته ص 27.(39/212)
[32] تنظر بغية الوعاة 2/120.
[33] ينظر المرهز 1/482.
[34] ينظر بغية الوعاة 1/130 وما بعدها وقد طبع بتحقيق بدر الزمان النيبالي.
[35] طبع بالمطبعة العامرية بالاستانة سنة 1248هـ.
[36] ينظر الصحاح واللسان والقاموس ((شقق)) ، ومقاييس اللغة 3/171.
[37] ورد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد 1/190، 194 وينظر المزهر 1/346، والعلم الخفاق ص 94، وأصول النحو لسعيد الأفغاني ص 130.
[38] ينظر المزهر 1/346، والعلم الخفاق ص 65 ودقائق العربية 19، وتصريف الأسماء لمحمد الطنطاوي ص 38، ودروس التصريف لمحمد محي الدين ص 10 وفي أصول النحو لسعيد الأفغاني ص 130 ودراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح 174،وتقديم عبد السلام هارون لكتاب الاشتقاق لابن دريد ص 26، والاشتقاق لعبد الحميد أبو سكين ص 10.
[39] المزهر 1/346، وينظر التبيين للعبكري ص 144، والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص15.
[40] تنظر المراجع السابقة في الحاشية 2 ص 315، والصرف العربي نشأة ودراسة للدكتور فتحي الدجني ص 166.
[41] ينظر الخصائص 1/5، 2/134، والمزهر 1/347، ودقائق العربية ص 19 وتصريف الأسماء للطنطاوي ص 39، ودراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح ص 186.
[42] ينظر الاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 91.
[43] تنظر المراجع السابقة.
[44] تنظر دراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح ص 210 وتصريف الأسماء للطنطاوي ص 39، والمدخل في علم النحو والصرف ص 55، والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 39.
[45] تنظر المراجع السابقة، وتقديم عبد السلام هارون لكتاب الاشتقاق لابن دريد ص 28، وفي أصول النحو لسعيد الأفغاني ص 134، والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 125.
[46] النظار هم أصحاب النظر والجدل، تنظر التعريفات للجرجاني ص 207 وينظر المزهر 1/348.(39/213)
[47] ينظر همع الهوامع 2/212، 213، والمزهر 1/348، والعلم الخفاق ص 98، 101 والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 16.
[48] ينظر في أصول النحو لسعيد الأفغاني ص 141.
[49] ينظر الكتاب 1/12، والأصول 1/162، والإيضاح في علل النحو ص 56، والتكملة لأبي علي ص 507، وشرح الكتاب للسيرافي 1/54، وأسرار العربية ص 171، والإنصاف المسألة 28، والتبيين 143 وشرح التسهيل لابن مالك 2/178، وشرح الكافية للرضى 2/192 وبدائع الفوائد 1/27، والأشباه والنظائر 1/56، والمدخل إلى علم النحو ص 58،60 وفي أصول اللغة لسعيد الأفغاني ص 141 والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 121.
[50] أصول النحو لسعيد الأفغاني ص 100، وتنظر دروس التصريف ص 11 مع حاشيته (1) وص 12 مع حاشيتها.
[51] المزهر 1/353، 354، وينظر في أصول اللغة للأفغاني ص 151، والعلم الخافق 107 ودروس الصرف 20 (الاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 21.
[52] تنظر مجلة المجمع 1/233، 235، 2/9،10، والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 35.
[53] تنظر الآراء في اشتقاق كلمة (الله) في اشتقاق أسماء الله للزجاجي ص 23 وما بعدها.
[54] المزهر 1/349، 350، وينظر العلم الخفاق ص 104، والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 19،20.
[55] ينظر همع الهوامع 2/213، ولم أعثر على ما نسب لأبي حيان في مؤلفاته التي بين يدي.
[56] لم أجد في المعاجم مايثبت أن الفُرْس مأخوذ من الفَرَس.
[57] هذه التسعة هي التي ذكرها أبو حيان، ينظر الهمع 2/213.
[58] ينظر المزهر 1/348 والعلم الخفاق ص 102 والاشتقاق وأثره في النمو اللغوي ص 17.
[59] ينظر النص المحقق ص 29.(39/214)
[60] وردت في أول المخطوط موضوع البحث ووردت أيضاً في أوائل كل من شواهد التوضيح والتصحيح ص 3، والاعتضاد في الفرق بين الظاء والضاد ص 33 وفي أول شرحه للتسهيل جـ1 ص1 وجاءت أيضاً على غلاف نسخة من شرح عمدة الحافظ توجد بمكتبة الأوقاف ببغداد، وفي إكمال الإعلام بتثليث الكلام 1/ص4.
[61] منهم الذهبي في العبر 5/300، والسبكي في طبقات الشافعية 8/68، وابن قاضي شهبة في طبقات النحاة واللغوين ص 133، وابن مكتوم في ذيل معرفة القراء الكبار ص 610، والفيروز آبادي في البلغة في تاريخ أئمة اللغة ص 229، وابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القراء 2/180 والسيوطي في بغية الوعاة 1/130.
[62] منها شرح النظم الأوجز في ما يهمز وما لا يهمز ص 29، والاعتماد في نظائر الظاء والضاد ص 23، ووفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم ص 43.
[63] منهم ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات 2/452 واليافعي في مرآة الجنان 4/173 والأسنوي في طبقات الشافعية 2/454 وابن كثير في البداية والنهاية 13/267 وغيرهم كثير.
[64] ينظر تعليق الفرائد 1/25.
[65] ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 5/275 ودائرة المعارف الإسلامية 1/272 وقد رجح الدكتور محمد كامل بركات هذه الصيغة في مقدمته لتسهيل الفوائد ص1، ورد عليه الدكتور سعد حمدان الغامدي في مقدمته لإكمال الإعلام بتثليث الكلام ص 13.
[66] تنظر مقدمة التسهيل لمحمد بن كامل بركات ص 1.
[67] ينظر كتاب الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة ص 21، وينظر نفح الطيب للمقري 2/427 وما بعدها فقد وردت فيه الآراء المختلفة في سلسلة نسبه وأشار إليها ايضاً د/محمد بركات في مقدمته للتسهيل ود/سعد بن حمدان الغامدي في مقدمته لكتاب إكمال الإعلام بتثليث الكلام والدكتور عبد الرحمن السيد في مقدمته لشرح التسهيل لابن مالك وعدنان الدوري في مقدمته لشرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ.(39/215)
[68] تنظر العبر 5/300، وطبقات النحاة واللغويين 133 والبلغة 229 والبغية 1/130.
[69] مقدمة عبد المنعم هريدي على شرح عمدة الحافظ ص 32.
[70] تنظر طبقات الشافعية للسبكي 8/68، وطبقات الشافعية للأسنودي 2/454، ونفح الطيب 2/427 وما بعدها وتنظر المراجع السابقة.
[71] جيان مدينة لهاكورة واسعة بالأندلس تقع شرقي قرطبة، ينظر معجم البلدان 2/169.
[72] ينظر نفح الطيب 2/196 وغاية النهاية 2/180 وذيل معرفة القراء الكبار
ص 610.
[73] ينظر الوافي بالوفيات 3/359، النجوم الزاهرة 7/244.
[74] تنظر مقدمة شرح التسهيل للدماميني وتعليق الفرائد ص 11، وفوات الوفيات 2/452، والبلغة في تاريخ اللغة 229.
[75] تنظر طبقات الشافعية للسبكي 8/67، وبغية الوعاة 1/130 ونفح الطيب 2/421، وشذرات الذهب 5/339، وانظر الآراء عن تاريخ ميلاده في مقدمة التسهيل ص 2 ومقدمة شرح عمدة الحافظ تحقيق عدنان الدروي 19 ومقدمة إكمال الإعلام بتثليث الكلام ص 15، 16.
[76] تنظر المراجع السابقة.
[77] تنظر مقدمة التسهيل لمحمد كامل بركات ومقدمة سعيد حمدان الغامدي لإكمال الإعلام ومقدمة عدنان الدوري لشرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ ومقدمة وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم ومقدمة شرح التسهيل لابن مالك.
[78] ينظر التحقيق ص 333.
[79] ينظر كشف الظنون 2/127.
[80] ينظر تقديمه لكتاب الاعتماد في نظائر الظاء والضاد للمصنف ص 14.
[81] تنظرمقدمته لوفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم للمصنف ص 13.
[82] زيدت الألف في ((طالب)) والياء في ((كريم)) .
[83] زادت فتحة السين في حَسَنَ وفتحه الزاي في ((مزق)) والمَزْق: الخَرْق والشق للثياب ونحوها، يقال: مَزَقَه يمْزقه مَزْقاً ومِزْقةً، وصار الثوب مَزَقاً أي قِطعاً، وسحاب مَزِق، على التشبيه، الصحاح واللسان مزق.(39/216)
[84] زادت الألف وكسرة الضاد في فاضل، والياء وكسرة الجيم في مجيد، والفضل ضد النقص، والمجد المروءة والسخاء والشرف وقيل: لا يكون إلا بالآباء، يقال: مَجَدَ يَمْجُدُ فهو ماجد، ومَجُدَ مَجَادَة فهو مجيد، الصحاح واللسان مجد.
[85] نقصت التاء من الشجاعة واليقظة، والشجاعة شدة القلب عند البأس، وقد شَجُع الرجل - بالضم - فهو شُجَاع بضم الشين وروى بكسرها المشوف المعلم 1/418، واليَقَظَة محركة نقيض النوم ورجل يَقِظ ويَقْظ متيقظ حذر. اللسان يقظ.
[86] نقصت حركة الخاء في ضخْم والجيم في رِجْس والضَّخَم بالفتح والتحريك العظيم من كل شيء والجرم الكثير اللحم والرجس بالكسر القذر ويحرك وتفتح الراء وتكسر الجيم وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح اللسان ضخم ورجس.
[87] نقصت الألف وفتحة اللام من الحلاوة والواو وضمة الذال من العذُوبة.
[88] زادت الهمزة في أشْنَب ونقصت منها حركة الشين وزاد الياء في يعمل ونقصت منها حركة العين والشنَب محركة ماء ورقة وعذوبة وبرد في الأسنان أو نُقَط بيض فيها أو حدة الأنياب، يقال: شَنِب كفرح فهو شانب وشنيب وأشنَب وهي شنباء وشمباء وشانبة ((اللسان)) شنب. واليَعْمَلة الناقة النجيبة المطبوعة على العمل والجمل يَعْمَل ولا يوصف بهما إنما هما اسمان القاموس واللسان ((عمل)) .
[89] في فَطِنِ زادت حركة الطاء ونقصت التاء من آخره، وفي خَضر زادت حركة الضاد ونقصت التاء من آخره والفِطنة بالكسر الحذق يقال فَطَن به وإليه كفَرح ونَصَر وكرم فطنا - مثلثه وبالتحريك فهو فاطن وفطين وفَطُون وفَطِنٌ وفَطْنٌ، القاموس واللسان ((فطن)) .
وخَضر الزرع كفرِح واخضوضر وأخضرَّ فهو أخضر وخضور وخَضِرٌ القاموس واللسان ((خضر)) .(39/217)
[90] كلام ابن مالك هنا مؤكد لما ذكره في التسهيل وشرحه من أن الفعل مأخوذ من المصدر وهو بذلك ينهج نهج البصريين الذي تقدمت الإشارة إليه، لكن كلامه هنا يدل على أنه يرى أن الفعل أصل لبقية المشتقات بينما نجده يصرح في شرحه للتسهيل بأنه يجب كون الصفة مشتقة من المصدر، وبهذا يكون له في المسألة رأيان، وقد ذكر محقق شرح التسهيل أنه من آخر مؤلفاته، وعلى ذلك يكون ما في شرحه هو الرأي الأخير لابن مالك والله أعلم. ينظر شرح التسهيل لابن مالك 2/178، وما بعده والتقديم ص 6.
[91] زادت فيه ألف فاعل وفي الصحاح ضحك يضحك ضَحْكاً وضِحْكاً وضِحَكاً وضَحِكاً أربع لغات.
[92] زادت فيه ألف فاعل وتغيرت حركة اللام من الفتح إلى الكسر.
[93] زادت فيه حركة الزاي، والمزق الخرق والشق للثياب ونحوها يقال: مَزَقه يَمْزِقه مَزْقاً ومزقة.، الصحاح واللسان ((فزق)) .
[94] زادت حركة الشين وتغيرت حركة الحاء من الضم إلى الفتح.
[95] زادت فيه الألف وحركة الراء.
[96] زادت فيه الألف وحركة اللام وتغيرت حركة العين من الكسر إلى الفتح.
[97] سقطت منه التاء التي في آخر الحصانة، والحاصِن والحَصَان: المرأة المتعففة الحاصنة فرجها. مقاييس اللغة 2/69.
[98] نقصت منه التاء، وتغيرت حركة الشين من الفتح إلى الضم، ويجوز فيها الكسر شِجاع: المشوف المعلم 1/418.
[99] نقصت منه حركة الهمزة، وشئز المكان كفرح شأَزا وشؤزا فهو شَئِزٌ وشَأْزٌ، غلظ وارتفع والشأز الموضع الغليظ الكثير الحجارة. اللسان ((شأز)) .
[100] نقصت حركة الخاء وتغيرت حركة الضاد من الكسر إلى الفتح، والضخم العظيم من كل شيء والجرم الكثير اللحم ((اللسان)) .
[101] نقصت منه التاء التي في آخره كما نقصت حركة الياء والحي ضد الميت، والحي واحد آباء العرب الصحاح ((حي)) .(39/218)
[102] حذفت منه الألف، وكذلك نقصت حركة الراء وتغيرت حركة الحاء من الكسر إلى الفتح والحرَّة والحرارة العطش وقوم حِرار عطاش، مقاييس اللغة 2/6 والصحاح واللسان ((حرر)) .
[103] زادت الهمزة في أوله، ونقصت حركة الشين، والشيب بياض الشعر وربما سمي به الشعر: شاب يشيب شيباً ومشيباً وشيبة وهو أشيب، الصحاح واللسان ((شيب)) .
[104] زادت الهمزة وحركتها ونقصت حركة الشين.
[105] زادت الهمزة وحذفت التاء والرأفة أشد من الرحمة يقال رجل رؤوف على فَعُول ورؤف على فَعُل الصحاح ((رأف)) .
[106] تحركت الحاء ونقصت التاء وزادت الياء والرحمة الرقة والتعطف، والرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة، والرحيم قد يكون بمعنى المرحوم كما يكون بمعنى الراحم ((الصحاح)) رحم.
[107] نقصت منه التاء وزادت فيه الميم.
[108] تغيرت حركة الجيم والنون من الفتح إلى الضم ونقصت الألف والتاء ورجل جنب من الجنابة يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث وربما قالوا في جمعه أجناب وجُنوب الصحاح ((جنيب)) .
[109] زادت الهمزة في أوله ونقصت الألف من وسطه، كما نقصت حركة الشين منه.
[110] زادت فيه الألف والهمزة ونقصت منه حركة النون، والشنباء مؤنث الأشنب وقد تقدم شرحه في الحاشية 1/26.
[111] تغيرت حركة الراء من الفتح إلى الكسر.
[112] زادت فيه الميم والواو، وتغيرت حركة اللام من الفتح إلى الضم، وسكنت الطاء التي كانت متحركة.
[113] زادت فيه الميم والواو وتحركت الراء التي كانت ساكنة وسكنت الضاد التي كانت متحركة.
[114] اتحد لفظ الفعل والمصدر في الكلمتين فهما في الأوليين فعلان وفي الأخيرتين مصدران، ووزن طَلَب وضحك مختلف ومن هنا جاء التغاير بين المصحوب ومصاحبه.(39/219)
موت الألفاظ في العربية
للدكتور
عبد الرزاق بن فراج الصاعدي
أستاذ مساعد - قسم اللغويات
كلية اللغة العربية - الجامعة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله الحكيم الباعث والمحيي المميت، والصلاة والسلام على صفوة الخلق محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فإن من ألفاظ العربية ما يملك مقومات الحياة والبقاء فيبقى، ومنها ما يفقد تلك المقومات فيموت ويفنى، فاللغة كائن حي [1] نام خاضع لناموس التطور والارتقاء، وليس فيها كسب دائم من النمو والتجديد، فكل نمو في جانب يقابل بنوع من الخسائر في الجانب الآخر، وهي ((تحاول دائماً أن تصل إلى نوع من التوازن، فهي كما تقترض ألفاظاً من اللغات الأخرى لتسعف حاجات المتكلمين بها نراها تستغني عن ألفاظ أخرى تختفي من الاستعمال)) [2] .
ومن الألفاظ ما يعمر فلا يموت، ولو مضى عليه آلاف السنين، لما فيه من ضروب المناعة الداخلية كقوة المعنى ودوامه، ورشاقة اللفظ وعذوبة جرسه، أو المناعة الخارجية، كألفاظ القرآن الكريم التي تكفّل الله - عز وجل - بحفظها، وما صح من ألفاظ الحديث النبوي الشريف.
أما ما دُوْنَ ذلك فإنه معرّض للتبديل والهجر والموت والانقراض، إلا أنّ هذا لا يكون أبدياً؛ فكل لفظ مات واندثر قابل للبعث لتدبّ فيه الحياة من جديد، وتجري به الألسنة بمعناه القديم أو بإلباسه معنى جديداً.
وفي العربية الفصحى ألفاظ هجرت في الاستعمال لأسباب عديدة فماتت، كالمِرْباع، والنَّشيطة، والفُضُول، والحُلْوَان، والصَّرورة من الأسماء [3] ، وجَعْتَبَ، وحَنْجَدَ، وخَنَدَ، وحَبَّ، وكَهَفَ، وعَذَطَ، من الأفعال [4] .(39/220)
وهذه مع غيرها ألفاظ أميتت في العربية منذ وقت مبكر، وقد صادفها علماء العربية عند تدوين اللغة في عصور الاحتجاج مماتة ساقطة من الاستعمال، فوردت عنهم إشارات لها متفرقة في مصادر اللغة المتنوعة؛ تدل على موتها؛ فأردت أن أجمع ما تفرق مما أميت من ألفاظ العربية زمن الفصاحة وأدرسه، أما ما هجر بعد عصور الاحتجاج منذ نهاية القرن الرابع إلى عصرنا هذا فليس مما أهدف إليه في هذا البحث، وهو كثير، ولا اعتداد بهجره من الاستعمال، ولا يعدّ من الممات في العربية، وإنما تركه المولدون لابتعادهم عن منابع اللغة وضعف سلائقهم ولما استجد من أمور الحضارة، و ((لو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى وما اختصت به من المعاني وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسماً كبيراً من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية)) [5] مما يعد من فضول الحاجات كأسماء الإبل وصفاتها وأسماء الحشرات وأدوات البداوة، وأسماء النبات، وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير مستفيض، وليس هو من الممات، وإن تركه المعاصرون.
وقد حافظ علماء اللغة على الممات القديم ودونوه في معجماتهم، ولعل من أبرز العوامل التي أدت إلى اشتمال العربية على هذا الثراء اللفظي أن الممات من ألفاظها كتب له البقاء، بتدوينه، وكأن احتفاظهم به إرهاص لإحيائه [6] .
إلا أن التدوين بعامة لم يشمل اللغة كلها لسعتها، وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير " [7] .
ويقول: "قد ذهب من كلامهم شيء كثير " [8] .
وقال ابن فارس: "ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل.
قال: ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعر كثير وكلام كثير. وأحر بهذا القول أن يكون صحيحاً" [9] .(39/221)
ولهذا وجب الحذر في الأحكام بموت الألفاظ، والتسليم بأن الإلمام بكل الممات في اللغة غاية لا يمكن الوصول إليها، فثمة ما أميت قديماً من العربية القديمة؛ كالثمودية والصفوية واللحيانية من العربية الشمالية، والسبئية والمعينية والقتبانية والحميرية، من العربية الجنوبية، وهي مما يسمى ((العربية البائدة)) أو عربية النقوش التي بادت قبل الإسلام بما فيها من ألفاظ وظواهر لا نكاد نعرف منها إلا القليل.
وللمات في اللغة وجهان رئيسان:
الأول: موت الألفاظ، وهو موضوع هذا البحث.
الثاني: موت المعاني، أي أن يموت المعنى ويبقى اللفظ لتطوّر دلالته وانتقالها إلى معنى آخر، كالألفاظ الإسلامية التي تركت معانيها القديمة مثل: الصلاة، والزكاة، والصّوم، والكفر، وما أشبه هذا، وهو كثير، ولا يدخل في هذا البحث.
وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع ((موت الألفاظ في العربية)) أمور، من أهمها:
1- أهمّيّة البحث في الممات، لكونه أحد الظّواهر اللّغويّة الّتي تحتاج إلى درس، يفصّل فيها ويكشف عن مخبوئها ويبحث في أسبابها.
2- دور الممات في نموّ اللّغة وإثرائها عن طريق إحيائه واستعماله، كما سيأتي بيانه في الباب الأخير من هذا البحث.
3- دوره في وصل الحلقات المفقودة في التطوّر اللّغويّ والكشف عن تاريخ العربيّة، وإسهامه في التّعرف على أحوال العرب الغابرين، وتفهّم شؤون حياتهم الاجتماعية، فهو لا يقلّ في قيمته العلميّة عن القطع الأثريّة الّتي يُعنى بها علماء الحفريّات والآثار.(39/222)
4- جِدّة الموضوع، وطرافته، إذ لم يكتب فيه - فيما أعلم - بحث مستقلّ يجمع شتاته ويبسط القول فيه، ويبين أسبابه، ودوره في نمو اللغة، فليس في تراثنا اللّغويّ قديمه وحديثه شيء منه سوى إشارات وأقوال متناثرة في بعض الألفاظ المماتة، وعلى رأس هؤلاء: الخليل في ((العين)) وسيبويه في ((الكتاب)) وابن دريد في ((الجمهرة)) والسّيوطي في ((المزهر)) .
أو مباحث قصيرة عارضة في مؤلّفات بعض المعاصرين؛ كالّرافعي في ((تاريخ آداب العرب)) [10] .
وأنستاس الكرملي في ((نشوء اللّغة ونموّها واكتهالها)) [11] .
والدكتور حلمي خليل في كتابه ((المولّد في العربية)) [12] وقد استلّ ماكتبه في كتابه هذا فنشره في ((المجلة العربية)) [13] بعنوان: ((انقراض الكلمات)) ((وهو عنوان مطابق لفصل قصير كتبه ستيفن أولمان في كتابه: ((دور الكلمة في اللغة)) [14] إلا أن ما كتبه ((أولمان)) لا يخصّ لغة بعينها، فهو يبحث في علم اللغة العام، مع تركيز على اللغات الأوربية، كالإنجليزية والفرنسية.
وللأستاذ شفيق جبري محاضرة بعنوان ((حياة الألفاظ)) أشار فيها إلى شيء من الممات والمهجور، ومسهما مساً خفيفاً، ونشرت محاضرته في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق [15] .
وللشيخ عبد القادر المغربي مقالة وجيزة بعنوان ((توهم الميت حياً)) نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق [16] ناقش فيها أربع كلمات مناقشة صرفية موجهاً ما جاء فيها من شذوذ صرفي في الجمع أو اشتقاق اسم المفعول توجيهاً يستند على قاعدة سماها: توهم الميت حياً.
وقد اقتضت طبيعة الموضوع أن يأتي هذا البحث في أربعة أبواب يسبقها تمهيد ويتلوها خاتمة، وفق الخطة التالية:
المقدمة
التمهيد: مصطلحات الممات.
الباب الأول: الممات من الأسماء
الفصل الأول: الممات من أسماء الأيام.
الفصل الثاني: الممات من أسماء الشهور.(39/223)
الفصل الثالث: الممات من أسماء متفرقة.
الفصل الرابع: أسماء أميت مفردها.
الفصل الخامس: أسماء مصغرة أميت مكبرها.
الباب الثاني: الممات من الأفعال.
الفصل الأول: أفعال أميتت صيغها وتصريفاتها.
الفصل الثاني: أفعال اختلف في موتها.
الفصل الثالث: أفعال أميت المجرد منها دون المزيد.
الفصل الرابع: أفعال أميتت بعض تصريفاتها.
الفصل الخامس: أفعال مبنية للمجهول أميت المبني للمعلوم منها.
الباب الثالث: أسباب إماتة الألفاظ
الفصل الأول: العامل الصوتي.
الفصل الثاني: العامل الدلالي.
الباب الرابع: إحياء الممات.
الفصل الأول: الحاجة إلى إحياء الممات.
الفصل الثاني: موقف العلماء من إحياء الممات.
الفصل الثالث: دور مجامع اللغة العربية في إحياء الممات.
الخاتمة.
فهرس الألفاظ.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
ولقد شغلني هذا البحث زمناً، وكان حاضراً في ذهني وأنا أكتب بحث الدكتواره، فجمعت مادّته على مُكثٍ طويل، ولا أزعم بلوغ الغاية فيه، ولكني أرجو المقاربة والسّداد، ولا أبرّئ نفسي من التقصير وسوء الفهم والعثرة والزّلّة، والمأمول مِمّن ينظر فيه أن يصلح ما طغى به القلم، وزاغ عنه البصر، وقصر عنه الفهم، فالإنسان محل النسيان، وعلى الله التكلان، ومنه العون وهو حسبي ونعم الوكيل.
التمهيد
مصطلحات الممات
لظاهرة موت الألفاظ في اللّغة مصطلحات متعدّدة عند اللّغويين القدامى، كـ ((الممات)) و ((المتروك)) و ((العُقميّ)) و ((الاستغناء)) ، وهي مترادفة في مدلولاتها.
وأضاف اللغويون المعاصرون مصطلحات أخرى منها: ((المنقرض)) ، و ((البقايا الأثريّة)) و ((الكلمات التاريخيّة)) .(39/224)
وثمّة مصطلحات قديمة ليست بعيدة في مفهومها عن الممات، أو هي تدلّ على ألفاظ في طريقها إلى الانقراض، وهي على درجات متفاوتة في الفصاحة؛ كـ ((الضّعيف)) و ((المنكر)) و ((الحوشي)) و ((النّادر)) و ((الشّارد)) و ((الغريب)) و ((المذموم)) و ((المرغوب عنه)) من اللغات، و ((الرّديء)) و ((القبيح)) و ((الخبيث)) .
فمن مصطلحات الممات:
1- الممات:
وهو ما كان مستعملاً من ألفاظ اللّغة، ثمّ أميت بالهجر، أو التطوّر اللّغويّ، أو النّهي عن استعماله، فاستغنت عنه اللّغة تماماً، كأسماء الأيّام والشّهور القديمة، وبعض الألفاظ الجاهليّة الّتي زالت لزوال معانيها أو لنهي الإسلام عن استعمالها.
ومن أقدم من ذكر هذا المصطلح بهذا المعنى الخليل في مواضع متعدّدة من ((العين)) ومنها قوله: "عندأوة: فعللوة، والأصل أميت فعله " [17] .
وروي عن الكسائي قوله: "محبوب: من حببت، وكأنها لغة قد ماتت " [18] .
2- المتروك:
وهو ما ترك واستغنت عنه اللّغة تماماً فمات وحلّت محله ألفاظ أخرى جديدة [19] كأسماء الأيام والشّهور في الجاهليّة، فالمتروك مصطلح مرادف للممات ويعرّفه السّيوطي بقوله: إنه "ما كان قديماً من اللّغات ثمّ ترك واستعمل غيره" [20] .
قال ابن دريد: "وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: مضَّني: كلام قديم قد ترك، كأنه أراد أن أمضّني هو المستعمل " [21] .
3- العُقميّ:
العقمي هو ما درس من الكلام، أو الغريب الّذي لا يكاد يُعرف، قال ابن سيده: "كلام عُقميّ: قديم قد درس؛ عن ثعلب. وسَمِعَ رجلٌ رجلاً يتكلّم، فقال: هذا عقميّ الكلام: أي قديم الكلام " [22] .
وقال الأزهري: "وقال ابن شُميل: إنه لعالم بعقميّ الكلام وعُقبي الكلام، وهو غامض الكلام الذي لا يعرفه الناس، وهو مثل النوادر".(39/225)
وقال أبو عمرو: "سألت رجلاً من هُذيل عن حرف غريب، فقال: هذا كلام عُقْمِيّ، يعني أنه من كلام الجاهلية، لا يعرف اليوم " [23] .
4- الاستغناء:
وهو أن يستغني بكلمة عن أخرى مماتة، وقد أكثر سيبويه من استعماله، فمنه قوله: إن العرب استغنت بتركْتُ عن وَدَعْتُ [24] ، وباشتدّ عن شَدُد [25] وباحمارّ عن حَمِرَ [26] ، وباستنوك عن نَوِك [27] .
5- الانقراض:
هو أن تهجر الكلمة فتزول من الاستعمال وتندثر، كأسماء الأيام والشهور في الجاهلية، وهذا من اصطلاحات المعاصرين [28] .
6- البقايا الأثريّة:
وهذا من مصطلحات الرّافعي [29] ، وهو يريد بالبقايا الأثريّة ما أراده علماء اللغة أنفسهم بمصطلحات المتروك والممات والمنكر، ومثّل له بما مثلوا له في هذه المصطلحات الثّلاثة.
7- الكلمات التّاريخية:
وهي الكلمات الّتي تزول من الاستعمال لزوال مدلولاتها واندثارها، وذكر هذا المصطلح اللغويّ الفرنسي ((درمستيتر)) (Darmesteter) في قوله: ((إنّ الكلمات الّتي تخرج من الاستعمال مع الأشياء التي نعبّر عنها تندثر لأسباب تاريخيّة، ويمكن أن نسميها بالكلمات التاريخية)) [30] ، ومثّل لها بالأسلحة، والمعدات، والعملات، والقوانين، والأحداث الاجتماعية، التي سادت في عصر ثم زالت لزوال تلك المدلولات.
8- المهمل:(39/226)
هذا من المصطلحات التي قد تلتبس بالممات، وليس هو مما يرادف الممات في دلالته، والفرق بينهما كبير، فالمهمل من الألفاظ هو ما لم يستعمل في الأصل اللغوي مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول اللغوية المتصوّرة أو المستعملة، وأكثره مهمل للاستثقال [31] لتقارب حروفه نحو: سص وظث وثظ، ومقلوبات ((خرع)) و ((هكع)) و ((خشع)) و ((خضع)) وهو كثير في الثلاثي، وأكثر في الرباعي، وكثير جداً في الخماسيّ؛ إذ تأتلف من الخماسيّ نحو ((سفرجل)) عشرون ومائة أصل يحتملها التقليب أهملت جميعاً سوى سفرجل، وكذلك في ((فرزدق)) و ((جحمرش)) فالمهمل في العربية أكثر من المستعمل، ومع ذلك فالمستعمل كثير، وهذا يدل على الطاقة الكبيرة للعربية.
أمّا الممات فهو ما كان مستعملاً من ألفاظ اللّغة ثمّ أميت لعلّةٍ، كما تقدّم ذكره.
ومن المصطلحات الّتي تلحق بالممات أو تدلّ على ألفاظ في طريقها إلى الانقراض، أو ممّا يتّصل بفصاحة اللّفظ.
1- الضّعيف:
وهو ((ما انحطّ عن درجة الفصيح)) [32] كقولهم للضّفدع: خُنْدَع، ولغلاف القارورة أو غطاء الرأس: برصوم، وللقصير: بُعْقُوط، وللبعوض: الطَّيْثَار، وللرِّخْو: بَخْو [33] .
2- المنكر:
وهو أقلّ درجة من الضعيف؛ بحيث أنكره بعض أئمة اللّغة، ولم يعرفه، كقولهم: بَلَقُ الدّابّة؛ وهو سواد وبياض [34] .
3- الغريب والحوشي والنّادر والشّارد:
وهي مصطلحات متقاربة، وكلّها خلاف الفصيح. وتندرج تحت الغريب الّذي لا يكاد يعرف من الألفاظ.
فالحوشيّ من الكلام: ما نفر عن السّمع، كأنّه منسوب إلى الحُوش؛ وهي بقايا إبل وَبَار [35] بأرض قد غلبت عليها الجنّ، كما يزعمون [36] .
ويحمل النّادر والشّارد على ما في الغريب والحوشيّ من معنى، وهي الألفاظ القليلة الاستعمال الّتي توشك أن تهجر فتموت.(39/227)
ومن ذلك: البَرْت: الرّجل الدليل، والحَرْش: الأثر، والعَيْقَة: ساحل البحر، والوَبيل: الحُزْمة من الحطب [37] .
4- الرّديء والمذموم والقبيح والخبيث والمرغوب عنه:
كلّ ذلك من اللّغات، وهو أقبحها وأنزلها درجة [38] ؛ كالكشكة، والعنعنة، والفحفحة، والاستنطاء.
ومنه في الألفاظ: الطَّعْسَفَةُ، قال ابن دريد: "وهي لغة مرغوب عنها؛ مرّ يطعسف في الأرض، إذا مرّ يخبطها " [39] .
ومنه قولهم: غَلَقْتُ الباب غلقاً، وهي لغة رديئة متروكة [40] .
وثحجه برجله ثحجاً: ضربه بها، مهريّة مرغوب عنها [41] .
ويقال: الفِصّ بالكسر - لغة في الفصّ، وهي أردأ اللّغتين [42] .
ويقال: مِنتن - بالكسر - وهي رَديئة خبيثة [43] .
الباب الأول
الممات من الأسماء
الفصل الأول: الممات من أسماء الأيام
الفصل الثاني: الممات من أسماء الشهور
الفصل الثالث: الممات من أسماء متفرقة
الفصل الرابع: أسماء أميت مفردها
الفصل الخامس: أسماء مُصغّرة أميت مُكبّرها
مدخل
ثمة أسماء أُميتت في العربية الفصحى، وترك العرب استعمالها بعد أن كانت في لغتهم، فانقرضت وزالت، كأسماء الأيام والشّهور في الجاهلية، وما تركه العرب من ألفاظ خاصّة زالت بزوال معانيها، والمكبّر الّذي أميت ودلّ عليه مصغّره، وهو المصغّر الّذي لا واحد له، والمفرد الّذي أميت ودلّ عليه مثناه أو جمعه، وهما المثنّى الّذي لا واحد له والجمع الّذي لا واحد له من لفظه، وغير ذلك ممّا نصّ العلماء على أنه من الممات أو المتروك في اللغة، أو أشاروا إليه بطرف خفي.(39/228)
وأكثر هذه الأسماء أميت لفظاً، وأميت المعنى في بعضها القليل وبقي اللفظ مستعملاً في أشياء أخرى، مثل ((أول)) اسم يوم الأحد، و ((مؤنس)) اسم يوم الخميس في الجاهلية، وقد أُميتا ولكن اللفظ بقي في دلالات أخر، وقد ذكرت هذه الألفاظ القليلة لاتّصالها بأخواتها ممّا أميت اللّفظ فيها.
والممات من الأسماء على النّحو التّالي:
الفصل الأول
الممات من أسماء الأيام
كانت الأيام في الجاهلية على النّحو التّالي:
الأحد: أول.
الاثنين: أَهْوَن وأَوْهَد، وقالوا: هذا يوم الثُّنَى - أيضاً.
الثلاثاء: جُبار
الأربعاء: دُبار أو دِبار
الخميس: مؤنس.
الجمعة: العروبة، وحَرْبَة - أيضاً.
السبت: شِيار.
ثم أميتت هذه الألفاظ واستخدمت مكانها الأيام المعروفة: السبت والأحد.... ألخ.
وقد جمعها شاعر جاهليّ، فقال [44] :
أُؤَمّل أن أَعِيشَ وإنَّ يَوْمِي
بأوّلَ أو باهونَ أو جُبارِ
أَوِ التَّالِي دُبارَ [45] ، فإن أَفُتْهُ
فمؤنِسَ [46] أو عَرُوبةَ أو شِيارِ
هِيَ الأَيَّامُ دُنيانا عَلَيها
ممَرُّ اللَّيلِ دَأباً والنَّهارِ
أمّا معاني ذلك، فإنهم قالوا للأحد ((أوّل)) لأنهم جعلوه أوّل عدد الأيام، وقالوا للاثنين: ((أَهْوَن)) و ((أَوْهَد)) فأهون من الهَوْن وهو السّكون، ومنه قوله تعالى {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوناً} [47] ويدلّ ((أَوْهَدُ)) على هذا المعنى؛ لأن الوَهْدَة الانخفاض، كأنّهم جعلوا الأوّل أعلى ثم انخفضوا في العدد.
وقالوا للثلاثاء: ((جُبار)) ؛ لأن العدد جُبِرَ به، وقوي إذ حصل به فرد وزوج [48] ، وقيل: هو من الأَرْش: ما يُهْدر، والأَرْش: الدية [49] .
وقالوا للأربعاء ((دُبار)) لأنه عندهم آخر العدد، وبه يتمّ العقد الأول، ودبر كلّ شيء مؤخره.(39/229)
أمّا الخميس والجمعة فسمّيت بأشياء تصنع فيها، فاستغنوا بها عن عددها، فقالوا للخميس ((مؤنس)) لأنّه يؤنس به لقربه من الجمعة التي يتأهّبون فيها للاجتماع.
وقالوا للجمعة ((عروبة)) لبيانها عن سائر الأيّام، والإعراب في اللغة: الإبانة والإفصاح. وقيل: من العَرُوبة، وهي المتحبّبة إلى زوجها أو لأن كلمتهم اجتمعت، وبان لهم من الرأي ما كان خافياً؛ فتعربوا واتّفقوا.
وتسمّى الجمعة ((حَرْبة)) أيضاً، لبياضها ونورها وتعظيمها؛ فهي في الأيام كالحَرْبة.
وقالوا للسبت ((شِيار)) من قولهم: شُرت الشّيء إذا أظهرته وبيّنته [50] .
والعَروبة بالألف واللام، وربّما لم تدخل عليها، قال القطاميّ:
نَفْسِي الفِدَاءُ لأَقْوَامٍ هُمُ خَلَطُوا
يَوْمَ العَرُوبَةِ أَوْراداً بأَوْرَادِ [51]
فأدخل الألف واللام، وقال ابن مقبل:
وإذا رَأى الرُّوَّادَ ظَلَّ بأَسْقفٍ
يَوْماً كَيَومِ عَرُوبةَ المُتَطَاوِلِ [52]
الفصل الثاني
الممات من أسماء الشهور
كانت أسماء الشّهور في الجاهليّة على النحو التّالي [53] :
المؤتمر: المحرم.
ناجر: صفر.
خَوّان أو خُوّان: ربيع الأوّل.
وُبْصَان أو وَبْصَان: ربيع الآخر.
الحَنين: جمادى الأولى.
رُنّى [54] ، ويقال: رُبّى - بالباء: جمادى الآخرة.
الأَصَمّ: رجب.
عاذِل: شعبان.
ناتق: رمضان.
وَعِل [55] شوّال.
وَرْنَة، وقيل: هُوَاع [56] ذو القعدة.
بُرَك: ذو الحجة.
وثمّة من خالف جمهور العلماء في أسماء هذه الشهور، فقد ذكر البيروني أنها كما يلي:
المؤتمر وناجر وخوّان وصُوان وحنتم وزَبّاء والأصمّ وعادل ونافق وواغِل وهُوَاع وبُرَك [57]
ونظمها الصاحب بن عبّاد في قوله [58] :
أَرَدْتَ شُهُورَ العُرْبِ في الجَاهِلِيَّةِ
فَخُذْهَا عَلَى سَرْدِ المُحَرّم تشتَرِكْ(39/230)
فمؤتمرٌ يأتي ومِن بَعْدُ ناجرٌ
وخَوَّانُ مع صُوَان يُجْمَعُ في شَرَكْ
حَنينٌ وزَبّا والأصَمُّ وعادل
ونافِق مَعْ وَغْلٍ وَرَنَّةُ مَعْ بُرَكْ
والموازنة بين بعض هذه الأسماء، وما يقابلها في الروايتين ترجح أن ثمّة تصحيفاً أو تحريفاً في بعض أسمائها، قارن مثلاً بين وبصان وصوّان، والحنين وحنتم، ورنّى وربّى وزباء، وعاذل وعادل، وناتق ونافق، ووَعِل وواغل.
والتصحيف في أسماء هذه الشهور غير غريب، لإماتة هذه الألفاظ وتركها في الاستعمال مع قدمها، وقد تكون لغات لبعض القبائل.
وخالف المسعودي - أيضاً - في بعض أسمائها، فهي عنده: ناتِق وثَقِيل وطَلِيق ونَاجِر وأَسْلَخ وأَمْيَح وأَحْلَك وكُسَع وزَاهِر وبُرَك وحُرَف ونُعَس، وهو ذو الحجة [59] .
واشتقاق هذه الشهور المماتة - وفق ما ورد في الروايات المشهورة في أسمائها - على النحو التالي [60] :
((المؤتمر)) (المحرم) من أحد ثلاثة؛ أحدها أنّه يؤتمر فيه الحرب والثاني أن يكون من أَمَرَ القومُ إذا كثروا؛ فكأنّهم لما حُرِموا القتال فيه زادوا وكثروا.
والثّالث: أن يأتمر بكلّ شيء ممّا تأتي به السّنة من أقضيتها.
وأمّا ((ناجر)) (صفر) فهو من النجر، وهو شدة الحرّ، أو لأنّ الإبل تَنْجَرُ فيه، أي: يشتدّ عطشها حتّى تيبس جُلودها.
أمّا ((خوان)) (ربيع الأول) فهو من الخَون وهو النّقص؛ لأن الحرب يكثر ويشتدّ فيه فيتخوّنهم أي يتنقّصهم، وقد يكون من الخيانة.
أمّا ((وُبصان)) أو ((وَبصان)) (ربيع الأول) فهو من الوبيص أي البريق، ومن قال: بُصان فهو من البصيص.
واشتقاق ((الحنين)) (جمادي الأولى) من حنين الناس إلى أوطانهم؛ لأن النّاس يحنّون فيه إلى أوطانهم - كما يقول المرزوقي [61] .(39/231)
و ((رُنّى)) (جمادي الآخرة) : (فعلى) من الشّدّة في كل شيء، قيل: يوم أَرْوَنانٌ: شديد في كل شيء ووزنه (أفوعال) من الرّنين فيما ذهب إليه ابن الأعرابي، وهو عند بعضهم (أفعلان) من قولك: كشف الله عنك رونة هذا الأمر، أي غمّته وشدّته [62] .
وأنكر بعضهم النّون - كما تقدم - وقال هو: رُبّى - بالباء، مأخوذ من الشّاة الرُّبَّى، وهي الحديثة النِّتاج؛ لأن فيه يعلم ما نتجت حروبهم إذا انجلت عنه، قال الشاعر:
أتيتك في الحَنِين فقلت: رُبَّى
وماذا بين رُبّى والحَنِينِ [63]
وقد يقال في ((رُنّى)) : ((رُنَّة)) بحذف الألف وتخفيف النّون، قال ابن منظور: "رُونة، وهي محذوفة العين، ورُونة الشيء: غايته في حَرٍّ أو بردٍ أو غيره، فسمّي به جمادى لشدّة برده، ويقال: إنهم حين سمّوا الشّهور وافق هذا الشَّهر شدّة البرد فسُمّوه بذلك " [64] .
وسُمِّيَ رجب: ((الأصمّ)) لتركهم الحرب فيه حتى لا تسمع صلصلة حديد.
وسُمّيَ شَعبان: ((عاذلاً)) كأنّه كان يعذلهم على الإقامة، وقد حلّت الحرب والغارات.
وقيل: ((عاذل)) اسم شهر شوال، أمّا شعبان فاسمه وَعِل، أي: أنّهم عكسوا [65] ، وأكثرهم على ما ذكرت، أي أن عاذلاً هو شعبان ووَعِلاً شوال [66] .
وسمّي رمضان: ((ناتِقاً)) لكثرة الأموال فيه، يقال: نَتَقَت النّاقة أو المرأة إذا كثر ولدها. أو هو مشتقّ من النّتْق، وهو الجذب كأنّه كان يجذب النّاس إلى غير ما هم عليه، قال الراعي [67] :
وفي نَاتِقٍ كانَ اصْطِلامُ سَرَاتِهم
لَيَالِيَ أَفْنَى القَرْحُ جُلَّ إِيَادِ
نَفَوا إخْوَةً ما مِثْلَهُم كَانَ إِخْوَةٌ
لِحَيٍّ وَلَمْ يَسْتَوْحِشُوا لِفَسَادِ
وسُمِّيَ شوَال ((وَعِلاً)) لأن الغارة كانت تكثر فيه فيلتجي كلُّ قوم إلى ما يُتَحَصّنُ به، والتَوَعّل: التَّوقّل وهو العلو والاحتراز، ومنه اشتقّ الوعل والمستوعل من الحمير المتحرزة.(39/232)
وسُمّي ذو القعدة: ((وَرْنَة)) للتَّنَعُّم فيه، قال ابن الأعرابي: "التَّوَرُّن: كثرة التّدهّن والنّعيم" [68] .
أمّا ((هُوَاع)) - وهو الاسم الآخر الّذي روي لشهر ذي القعدة - فقد قيل له ذلك "لأنه كان يهوع الناس، أي: يخرجهم من أماكنهم إلى الحج، ويقال: هاع فلان يهوع هوعاً إذا قاء وتهوّع وما يخرج من حلقه هُواعة" [69] .
أمّا ((بُرَكُ)) وهو شهر الحج، فهو معدول عن ((بارك)) وكأنّه الوقت الذي تبرك فيه الإبل للموسم، وقد يكون مشتقاً من البَرَكة، لأنّه وقت الحجّ، فالبركات تكثر فيه، وأصل البَرَكة من الثَّبات، كأنه من قولهم: بَرَكَ البَعِير، أو هو من مبرك البَعير الّذي يثبت فيه.
وقد سمّت العرب أشهرها بالأسماء المعروفة المحرّم وصفر ... إلخ، واشتقوا أسماءها من أمور اتّفق وقوعها عند تسميتها، والمتأمل لاشتقاق أسماء شهور الجاهلية أوّلاً ثمّ اشتقاقها ثانياً يتبين له أنّ بين التسميتين زماناً طويلاً، لاختلاف المدلول الزمني بين التسمتين لكل شهر.
الفصل الثالث
الممات من أسماء متفرقة
ترك العرب مما كان مستعملاً في الجاهلية ألفاظاً كثيرة أماتوها بعد أن زالت معانيها، فمن ذلك [70] :
1- المِرباع: وهو ربع الغنيمة يكون لرئيس القوم في الجاهليّة دون أصحابه وصار في الإسلام الخمس على ما فرضه الله تعالى.
2- النَّشِيطة: وهي من الغنيمة ما أصاب الرئيس لنفسه، مثل السّيف والفرس والجارية، قبل أن يصير إلى بيضة القوم.
3- الصَّفايا: جمع صَفِيّ، وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه، مثل السّيف والفرس والجارية، قبل القسمة مع الربع الذي له، وبقي الصّفيّ حيناً في الإسلام، وقد خصّ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد اصطفى صلى الله عليه وسلم سيف منبّه بن الحجّاج المسمّى ذو الفِقار، يوم بدر، وغير ذلك، قال ابن فارس: "وزال اسم الصّفيّ لمّا توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم " [71] .(39/233)
4- الفُضُول، وهو ما فضل من القسمة مما لا تصحّ قسمته على عدد الغزاة كالبعير والسكين ونحوهما، قال عبد الله بن عَنَمَة الضّبّي حليف بني شيبان في رثاء بسطام بن قيس:
لَكَ المِرْبَاعُ مِنها والصَّفَايا
وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ [72]
5- إتاوة، وهو الخراج أو الرّشوة، نص ابن فارس على أنه ممّا ترك من ألفاظ الجاهليّة [73] ، وربّما أحيي هذا اللّفظ فيما بعد.
6- المَكْسُ، وهو الجباية، دراهم كانت تؤخذ من بائع السِّلع في الأسواق الجاهليّة، وهو ما يأخذه العشّار من ضريبة، ولهذا يقال للعشّار: ماكِس.
قال جابر بن حُنَيّ [74] :
وفِي كُلِّ أَسْوَاقِ العِراقِ إِتَاوَةٌ
وفِي كلّ مَا بَاعَ امْرِوٌ مَكْسُ دِرْهَمِ [75]
7- الحُلوان: الرشوة، ومنه أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وهذا عار عند العرب، قالت امرأة في مدح زوجها:
لا يَأخُذُ الحُلْوانَ مِن بَنَاتِنَا [76]
8- صَرُورة: رَوَى أبو عبيد في غريب الحديث: "لا صرورة في الإسلام" [77] وهو في الحديث: "التَّبتّل وترك النكاح؛ أي ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج؛ لأنه ليس من أخلاق المؤمن، وهو فعل الرُّهبان " [78] .
وروي عن ابن مسعود: أنه قال: "لا يقولنّ أحدكم: إني صرورة، فإن المسلم ليس بصرورة " [79] .
قال ابن دريد: "الأصل في الصّرورة أنّ الرجل في الجاهلية كان إذا أحدث حدثا ولجأ إلى الكعبة لم يُهَجْ، فكان إذا لقيه وليّ الدم بالحرم قيل له: هو صرورة فلا تَهِجْهُ، فكثر ذلك في كلامهم حتّى جعلوا المتعبّد الّذي يجتنب النّساء وطيّب الطّعام صرورة وصرورياً، وذلك عنى النّابغة الذّبياني بقوله:
لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لأَشْمَطَ رَاهِبٍ
عَبَدَ الإِلَهَ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ
أي: متقبّض عن النّساء والتّنعم" [80] .(39/234)
ومن هذا سمّيَ من لم يَحُجّ: صرورة أو صرورياً، فترك تسميتة بذلك، وأميت لفظه [81] .
9- النّوافج؛ وهي الإبل التي تساق في الصّداق، فتكثر بها إبل الرجل وتعظُم، وكانت العرب تقول في الجاهلية للرجل إذا ولدت له بنت: هنيئاً لك النّافجة، أي المعظّمة لمالك، وذلك أنّه يزوّجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمّها إلى إبله فينفجها، أي يرفعها ويكثّرها [82] .
قال شاعرهم وقد كره ذلك:
لَيْسَ تِلادِي مِن وِرَاثَةِ وَالِدِي
ولا شَانَ مَالي مُسْتَفَادُ النَّوافِجِ [83]
10- غُلامة، وهي مؤنث الغلام، كان يقال للجارية؛ قال أبو عبيدة معمر ابن المثنى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النّحوي حين أنشده شعر الأسديّ:
ومِرْكَضَةٍ صَرِيحىّ أَبُوها
تُهانُ لَهَا الغُلامَةُ والغُلامُ
قال: فقلت له: فتقول للجارية: غلامة؟ قال: لا، هذا من الكلام المتروك [84] .
11- الرَّتِيمة، وهي شيء كان يفعله الجاهليّون، كان الرّجل إذا أراد سفراً عمد إلى شجرتين متقاربتين فعقد غصنين منهما فإذا رجع من سفره نظر إليهما، فإن كان الغصنان بحالهما علم أنه لم يُخَن في أهله، وإن كانا منحلّين ظنّ بأهله ظنّ سوء [85] .
12- عَدَوْلاة، وهو اسم موضع في البحرين، قال الخليل: "والعَدَوْلِيّة: ضرب من السفن، نُسب إلى موضع يقال له: عدولاة، أميت اسمه " [86] أي أميت لفظ ((عَدَوْلاة)) .
والّذي في كتب البلدان أنّ اسم القرية ((عَدَولَى)) [87] قال البكريّ: "عَدَوْلَى: قرية بالبحرين، والعَدَوليُّ من السُّفن منسوب إليها، قال طرفة:
عَدَوْلِيّةٌ أو من سَفِين ابن يامِنٍ
يَجُوزُ بها المَلاّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي [88]
وذكره سيبويه فيما جاء من الأسماء على مثال فَعَولَى، وزعم الخليل أنه موضع كانت تنسب إليه السفن، فأميت اسمه " [89] .(39/235)
13- الجَدَف، وهو ما لايغطّى من الشراب، ورد في حديث عمر، قال أبو عمرو بن العلاء: "الجَدَف لم أسمعه إلا في هذا الحديث، وما جاء إلا وله أصل، ولكن ذهب من كان يعرفه ويتكلم به كما قد ذهب من كلامهم شيء كثير " [90] .
14- الأرداف، وهم الوزراء في الجاهلية، قال الأزهري: "أرداف الملوك في الجاهلية الذين يخلفونهم في القيام بأمر المملكة، بمنزلة الوزراء في الإسلام " [91] .
وقال الجوهري: "الرِّدافة: الاسم من إردافِ الملوك في الجاهلية. والردافة: أن يجلس الملك ويجلس الرِّدف عن يمينه، فإذا شرب الملك شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك قعد الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك أخذ الردف المرباع.
وكانت الرِّدافة في الجاهلية لبني يربوع، لأنه لم يكن في العرب أحد أكثر غارة على ملوك الحيرة من بني يربوع، فصالحوهم على أن جعلوا لهم الرِّدافة، ويكفّوا عن أهل العراق الغارة " [92] .
فهذه كلمات متفرّقة أميتت في الجاهلية، وهجرت، وربما أحيي بعضها فاستعمل مرة أخرى في معناه القديم أو بمعنى آخر، وإحياء الممات وارد في اللغة على النحو الذي سيأتي تفصيله في الباب الرابع - إن شاء الله تعالى.
15- عُبسُور، وهي السريعة من النوق، وهذه الكلمة مما انفرد به المتقدمون وتركه المتأخرون؛ لاستعمالهم مرادفه. قال ابن فارس: ".. وقد كان لذلك كله ناس يعرفونه. وكذلك يعلمون معنى ما نستغربه اليوم نحن من قولنا: عُبسُور، في الناقة، وعَيْسَجور، وامرأة ضِناكٌ وفرس أَشَقُّ أمقُّ خِبَقٌ ذهب هذا كله بذهاب أهله" [93] .
16- عَيْسجُور، وهي الناقة الصلبة، وقيل السريعة القوية، ذكر ابن فارس أنه مما ذهب بذهاب أهله - كما تقدم في النص السابق في الفقرة (15) .
17- ضِناك، في قولهم: امرأة ضِناك، وهي ثقيلة العجز الضخمة، ذكر ابن فارس أنه مما ذهب بذهاب أهله - كما تقدم في الفقرة رقم (15) .(39/236)
18- خِبَقٌّ، في قولهم: فرس: أَشَقُّ أَمَقُّ خِبَقٌّ، وناقة كذلك، وهي السريعة، وقيل: خِبقٌّ إتباع، وذكر ابن فارس أنه مما ذهب بذهاب أهله - كما تقدم.
الفصل الرابع
أسماء أميت مفردها
وهو نوعان: الجمع، والمثنى، وهما على النحو التالي:
أ – الجمع:
المفرد من الأسماء هو الأصل للجمع، فلكل جمع مفرد مسموع أو مقدّر، قياساً على الكثير الغالب من كلام العرب، وثمّة جموع قليلة لم يوجد من مادّتها مفرد البتة [94] ؛ روى اللحياني عن الأصمعيّ: "أن المطايب والأطايب والمحاسن والمساوئ والمغازي والمقاليد لا يعرف لها واحد " [95] وكذلك نسوة وعبابيد وعباديد ومذاكير.
وأغلب الظن أن مفرداتها أميتت فانقرضت [96] ، وظلّت تلك الجموع دليلاً على مفرداتها، ولا خلاف بين العلماء أن المفرد من تلك الجموع مقدر، وأنه يكون عند التقدير على حسب القياس [97] ، ولكنه مهجور في الاستعمال لإماتته، اكتفاء - فيما نقدر - بلفظ الجمع، وهو يسمّى عند بعض العلماء ((المفرد التقديري)) أو ((الخيالي)) أو ((غير الحقيقي)) [98] ولو سمّي المفرد الميت أو الممات أو المتروك لكان صحيحاً.
أما المفردات التي لم يسمع لها جموع، نحو المرء والمرأة، والدّبور؛ وهي ريح الصبا؛ فإنه لا يصح أن يقال: إن تلك الجموع مماتة؛ لأن الجمع فرع والمفرد أصل، ووجود الأصل - وهو المفرد - لا يقتضي وجود الفرع وهو الجمع، ويصح معكوس ذلك لفظاً ومعنى؛ أي أن وجود الفرع في الاستعمال يقتضي وجود الأصل في الاستعمال ولو مرة واحدة قبل الإماتة.
ومن الجموع الّتي أميتت مفرداتها وزالت من الاستعمال [99] :
1- الخَلابيس، وهي الأمور التي لا نظام لها، لم يعرف البصريون لها واحداً، وقال البغداديون: خِلْبِيس - كما يقول ابن دريد [100] .
2- سَمادير العين، وهو ما يراه المُغْمَى عليه من حُلْم، والمفرد ممات.(39/237)
3- معاليق، وهو ضرب من التّمر، والمفرد ممات.
4- عبابيد وعباديد، وهم الفرق من الناس، والخيل الذاهبون في كل وجه، والمفرد ممات.
5- تَبَاشير الصّباح، وهي أوائلة الّتي تبشربه، وتباشير النخل بواكيره، والتباشير - أيضاً - البشرى، وأميت مفرده.
6- التَّعَاشِيب في قولهم: أرض مملوءة بالتعاشيب، وقيل: هو أول ما يظهر من العشب، ويكون متفرقاً، وهو مما أميت مفرده.
7- تضاعيف الشيء، وهو ما ضُعِّف منه، والمفرد ممات، قال ابن سيده: "ليس له واحد، ونظيره في أنه لا واحد له: تباشير الصبح ... وتعاشيب الأرض، لما يظهر من أعشابها أولاً " [101] .
8- التعاجيب، وهي العجائب، وتعاجيب الدهر: ما يأتي من عجائبه. أميت المفرد.
9- التماسي، وهي الدواهي، قال أبو عمرو بن العلاء: "لقيت من فلان التماسي، أي الدواهي، لا يعرف واحده" [102] .
10- الهزائز، وهي الشدائد، حكاها ثعلب، قال: ولا واحد لها [103] .
11- الزآنب، وهي القوارير، ذكر ابن الأعرابي أنّه لا واحد لها [104] ، أي أنّ المفرد ممات.
12- مطايب اللحم وغيره: خياره وأطيبه، قال ابن منظور نقلاً عن ابن سيده: "ومطايب اللحم وغيره: خياره وأطيبه؛ لا يفرد، ولا واحد له من لفظه، وهو من باب محاسن وملامح؛ وقيل: واحدها مَطَاب ومَطَابة، وقال ابن الأعرابي: هي من مطايب الرطب، وأطايب الجزور. وقال يعقوب: أطعمنا من مطايب الجزور ولا يقال: من أطايب. وحكى السيرافي أنه سأل بعض العرب عن مطايب الجزور، ما واحدها؟ فقال: مَطْيَب، وضحك الأعرابي من نفسه كيف تكلّف لهم ذلك في كلامه " [105] .(39/238)
13- المحاسن، وهي المواضع الحسنة من البدن، قال ابن سيده: "قال بعضهم: واحدها محسن، وليس هذا بالقوي ولا بذلك المعروف، إنّما المحاسن عند النحويين، وجمهور اللغويين جمع لا واحد له، ولذلك قال سيبويه: إذا نسبت إلي محاسن قلت: محاسنيّ، فلو كان له واحد لردّه إليه في النسب، وإنما يقال: إنّ واحده: حَسَنٌ على المسامحة " [106] .
14- ملامح الإنسان: ما بدا من محاسن وجهه ومساويه مفرده: ((مَلْمَحَة)) استغنوا عنه بلمحة، فأميت [107] .
ب – المثَنَّى:
من المثنّيات في العربيّة ما أميت واحده، وترك في الاستعمال، وهي قليلة منها [108] :
1- اثنان، لا واحد له من لفظه، وقد أميت مفرده فيما نقدّر.
2- المِذْروان، طرفا الأليتين، ليس لهما واحد، وقيل واحده مِذْري، وفي اللِّسان: ((قيل: المِذروان: أطراف الأليتين، ليس لهما واحد، وهو أجود القولين؛ لأنه لو قال مِذرى لقيل في التثنية مِذْريان بالياء للمجاورة)) [109] .
ذكره أبو الطيب اللغويّ فيما ليس له مفرد من لفظه [110] .
3- هجاجان؛ يقال هم هجاجيه، أي عن يمينه وشماله، ذكر أبو الطّيّب أنه لا واحد له من لفظه [111] .
4- دَوَاليك، ومعناه مُداولة بعد مُداولة، قال الزّجَاجيّ: ((ولا يفرد له واحد)) [112] .
الفصل الخامس
أسماء مصغرة أميت مكبرها
من الأسماء ما جرى في العربيّة مصغّراً وأميت مكبّره، مثل: كُعَيت وكُميت، وقد تناوله علماء اللغة في كلامهم في التّصغير [113] على وجه من الإيجاز، ومثّلوا له بألفاظ قليلة من أبرزها:
1 - كُعَيت؛ وهو البلبل، وحُكِىَ عن المبرّد أنّه قال: يشبه البلبل ويقاربه، وقد يصغّر الشيء لمقاربة الشيء كقولهم دُوين ذلك وفويقه، ويقولون في جمعه: كعتان؛ لأنّ تقدير مكبّره الممات أن يكون على كُعَت [114] .
2 - جُميل، وهو البلبل - أيضاً - لا يستعمل إلا مصغّراً بعد إماتة مكبّره.(39/239)
3 - كُمَيت، لون ليس بأشقر ولا أدهم، بين السّواد والحمرة، قال سيبويه: "سألت الخليل عن كُميت، فقال: هو بمنزلة جُمَيل؛ وإنما هي حمرة مخالطها سواد، ولم يخلص؛ فإنما حقّروها لأنّها بين السّواد والحمرة، ولم يخلص أن يقال له أسود ولا أحمر، وهو منهما قريب، وإنّما هو كقولك: دوين ذلك " [115] .
4 - الثُّريّا، كواكب في السماء، سمّيت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها، فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحلّ، لازمت التّصغير [116] بعد إماتة مكبّرها، وهو ((ثَرْوَى)) [117] .
5 - القَصَيرى، وهي أسفل الأضلاع، وقيل: هي الضِّلع الّتي تلي الشّاكلة، وهي الواهنة، وقيل: هي آخر الضّلوع [118] . استغنى بمصغّرها عن مكبّرها الممات.
6 - ويكثر ذلك في الأعلام، مثل حُنين، موضع بين الطائف ومكّة، وأمّ حُبين؛ دويّبة على خلقة الحرباء، وهُذيل، وقُريظة، وقصيّ، وطُهيّة، وبُثينة [119] .
وتكاد تنحصر نظرة علماء العربيّة إلى مكبّر هذه الكلمات في أحد أمرين:
الأوّل: أنّ المكبّر لم يستعمل أصلاً، ولم ينطق به، وإنّما نطق بالمصغّر ابتداء، فجرى في الكلام دون غيره ((كأنهم في أصل الوضع فهموا تصغيره، فوضعوا اسمه على التّصغير)) [120] وقد نطقوا بهذه الكلمات مصغّرة؛ لأنها عندهم مستصغرة [121] ، والصّغر من لوازمها، فوضعوا الألفاظ على التّصغير)) [122] .
قال الرّضي: "وقولهم في جُمَيل وكعيت: جِملان وكِعتان؛ كصِردان ونِغْران تكسير لمكبّريهما المقدّرين، وهما الجُمَل والكُعَت، وإنّما قُدّرا على هذا الوزن؛ لأنه أقرب وزن مكبّر من صيغة المصغّر، فلمّا لم يسمع مكبّراهما قُدّرا على أقرب الأوزان من وزن المصغّر" [123] .
الثّاني أن المكبّر كان مستعملاً ثم أميت وتُرِك [124] ، واستغنى عنه بالمصغّر، وتنوسي التّصغير فأصبح كالمكبّر.(39/240)
قال سيبويه: "هذا باب ما جرى في الكلام مصغّراً وترك تكبيره؛ لأنه عندهم مستصغر، فاستغنى بتصغيره عن تكبيره " [125] ولا يكادون يلفظون به [126] .
ومما يقوّي هذا الرأي أنّ المصغّر فرع كالجمع والمثنّى، والمكبّر أصل كالمفرد، والفرع تالٍ والأصل سابق في الوضع، فدلّ هذا على سبق المكبر في الاستعمال.
ويقويه - أيضاً - أن للمصغّر قياساً يتّبع في التّصغير، وهو أن يكون على وزن واحد من الأوزان الثلاثة المعروفة، وهي: فُعَيل للثّلاثي وفعيعل للرّباعي، وفعيعيل للخماسي الذي رابعه حرف لين، أو ما حذف منه وعُوّض عن محذوفه، ويتعذر اختيار أحد الأوزان الثّلاثة في التّصغير قبل معرفة المكبّر وعدد حروفه، فدلّ قولهم: جُمَيل وكُعَيت - مثلاً - على معرفتهم بأن المكبر ثلاثي وهو: جُمَل وكُعَت، وليس رباعياً أو خماسياً.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ينظر: اللغة العربية كائن حي 92.
[2] المولد في العربية 151.
[3] ينظر معاني هذه الأسماء في باب الممات من الأسماء.
[4] ينظر معاني هذه الأفعال في باب الممات من الأفعال.
[5] تاريخ آداب العرب 1/168.
[6] ينظر: دراسات في فقة اللغة 1/25.
[7] طبقات فحول الشعراء 1/25.
[8] اللسان (جدف) 9/24.
[9] الصاحبي 58.
[10] 1/166 - 170.
[11] ص 99 - 101.
[12] ص 141 - 151.
[13] السنة الخامسة، العدد 1 جمادي الثانية 1401هـ ص 56 - 58.
[14] ص 209 - 214.
[15] مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق المجلد 8، ج 5 ص 257.
[16] المجلد الثاني عشر (سنة 1932) الجزء 5، 6 ص 355 -361.
[17] العين 2/215.
[18] المزهر 1/219.
[19] ينظر: المولد في العربية 148.
[20] المزهر 1/214.
[21] الجمهرة 1/148.(39/241)
[22] المحكم 1/150.
[23] التهذيب 1/289.
[24] الكتاب 1/25، 4/67، 99.
[25] المصدر السابق 4/33.
[26] المصدر السابق 4/33.
[27] المصدر السابق 4/36.
[28] ينظر: دور الكلمة في اللغة 209، 210، والمولّد في العربيّة 145، والدّلالات الجديدة في المعجم الوسيط 257.
[29] ينظر: تاريخ آداب العرب 1/168.
[30] المولد في العربية 145.
[31] ينظر: الخصائص 1/54.
[32] المزهر 1/214.
[33] المزهر 1/215، 216.
[34] المصدر السابق 1/214، 218، واللسان (بلق) 10/25.
[35] وَبَار مثل قَطَام: أرض كانت لعاد بين اليمن ورمال يبرين كما قيل، غلبت عليها الجن، فمن العرب من يجريها مجرى نَزَالِ ومنهم من يجريها مجرى سُعاد. ينظر:اللسان (وبر) 4/273.
[36] المزهر 1/233.
[37] المصدر السابق 1/233 - 237.
[38] المزهر 1/221.
[39] الجمهرة 2/1155.
[40] الصحاح (غلق) 4/1538.
[41] ينظر: المجمل 1/157، واللسان (ثحج) 2/222.
[42] ينظر: المزهر 1/334.
[43] المصدر السابق 1/334.
[44] ينظر: الأيام والليالي والشهور 37، والجمهرة 3/1311، والإبدال لأبي الطيب اللغوي 1/393، والمقاييس 1/159، والإنصاف 2/497.
[45] ترك صرف ((دُبار)) للضّرورة، وهو منصرف، وقيل: ترك الصّرف على اللّغة القديمة الميّتة. ينظر: اللسان (عرب) 1/593.
[46] ترك صرف ((مؤنس)) للضّرورة، أو على اللّغة القديمة الميّتة. ينظر: اللسان (عرب) 1/593.
[47] سورة الفرقان: الآية 63.
[48] ينظر: الأزمنة والأمكنة 1/270.
[49] ينظر العين 6/116.
[50] ينظر: الأزمنة والأمكنة 279 - 281.
[51] ديوان القطامي 88.
[52] ديوان ابن مقبل 221.(39/242)
[53] الأيام والليالي والشهور 49، والأزمنة وتلبية الجاهلية 129، والجمهرة 3/1311، والأزمنة والأمكنة 9/43 والمخصص 9/43.
[54] اختلف العلماء في اسم هذا الشهر فقال بعضهم: هو بالباء. ومن هؤلاء قطرب وابن الأنباري والسيوطي. (ينظر: الأزمنة وتلبية الجاهلية 129، واللسان (رنى) 14/240، والمزهر 1/219) ويرى أكثرهم أنه بالنون. (ينظر: الأيام والليالي والشهور 49، والجمهرة 3/1312، والأزمنة والأمكنة 1/281، والآثار الباقية 62، والمخصص 9/43) ونقل عن أبي عمر الزاهد أنه قال: رُبّى بالباء تصحيف، إنما هو بالنون. (ينظر: اللسان (رنى) 14/340.
[55] في اللسان (وعل) 11/732: وَعْل بالسكون شعبان ووَعِل بالكسر: شوال، وفيه أيضاً: وقيل: وَعِل شعبان.
[56] ينظر: الأيام والليالي والشهور 53.
[57] ينظر: الآثار الباقية 60، 61.
[58] المصدر السابق 63.
[59] ينظر: مروج الذهب 2/191.
[60] ينظر: الأزمنة والأمكنة 280 - 282.
[61] ينظر: الأزمنة والأمكنة 281.
[62] ينظر: اللسان (رنن) 13/187، 188.
[63] ينظر: المصدر السابق (رنن) 13/188.
[64] المصدر السابق (رنى) 14/340.
[65] ينظر: الأزمنة والأمكنة 1/282.
[66] ينظر: اللسان (عذل) 11/438.
[67] ديوان الراعي النميري 20.
[68] ينظر: التهذيب 15/237.
[69] الأزمنة والأمكنة 1/283.
[70] ينظر: الصاحبي 102، 105، والحيوان 1/327 - 330، والمزهر 1/296 - 298.
[71] الصاحبي 103.
[72] ينظر: الحماسة 1/503، والحيوان 1/330، والأمالي للقالي 1/144، واللآلي 1/389.
[73] ينظر: الصاحبي 103.
[74] شاعر جاهلي قديم، كان صديقاً لامرئ القيس. ينظر: معجم الشعراء 206، 207، والمفضليات 208.
[75] ينظر: المفضليات 211.
[76] ينظر: اللسان (حلو) 14/193.(39/243)
[77] ينظر: سنن أبي داود 2/141، ومستدرك الحاكم 1/448، ومسند أحمد 1/312 وغريب الحديث لأبي عبيد 3/97، وكنز العمال 3/658وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزياداته 909.
[78] النهاية 3/22.
[79] ينظر: المجموع للنووي 8/281.
[80] الجمهرة 3/1252.
[81] ينظر: الصاحبي 103.
[82] ينظر: الجمهرة 1/489، واللسان (نفج) 2/382.
[83] ينظر: الصاحبي 105.
[84] ينظر: الحيوان 1/329، 330.
[85] ينظر: اللسان (رتم) 12/225.
[86] العين 2/40.
[87] ينظر: معجم البلدان 4/90.
[88] ينظر: ديوان طرفة 20.
[89] معجم ما استعجم 2/926.
[90] اللسان (جدف) 9/24.
[91] التهذيب 14/97.
[92] الصحاح (ردف) 4/1363.
[93] الصاحبي 65،66.
[94] ثمة خلاف في همزة البتة فهي همزة وصل عند بعض العلماء، وهي همزة قطع عند بعضهم الآخر، وقد بحثتُ في هذه المسألة قبل سنوات، ولم أصل إلى ما أقطع به في ذلك، وأنا أتّبع الأصل فيها، وهو أن الهمزة فيها همزة وصل، وعلى هذا كثير من علمائنا، والذي يكتبها همزة قطع فهو مصيب غير مخطئ.
[95] التهذيب 14/40.
[96] ينظر: في علم الصرف 125.
[97] ينظر: تصريف الأسماء 233.
[98] ينظر: المعجم المفصل في النحو العربي 2/1034.
[99] ينظر: الكتاب 2/282، 3/23، 256، 379، 275، 425، والجمهرة 3/1271، والمزهر 2/197، وأزاهير الفصحى 256.
[100] ينظر: الجمهرة 3/1271.
[101] المحكم 1/255.
[102] اللسان (مسا) 15/281.
[103] ينظر: اللسان (هزز) 5/425.
[104] ينظر: التاج (زأنب) 1/384.
[105] اللسان (طيب) 1/566.
[106] المحكم 3/143.
[107] ينظر: الكتاب 3/275، 425.
[108] ينظر: المثنّى لأبي الطّيّب اللّغويّ 56 - 62.
[109] اللّسان (ذرا) 14/285.
[110] ينظر: المثنّى 59.
[111] نفسه 62.(39/244)
[112] أمالي الزّجّاجيّ 130.
[113] ينظر: الكتاب 3/477، والمقتضب 3/233، والأصول في النحو 3/61، والمخصص 14/106، وشرح المفصل لابن يعيش 5/136، والتسهيل 287، والمساعد 3/520.
[114] ينظر: المخصص 14/106.
[115] الكتاب 3/477.
[116] ينظر: المساعد 3/520.
[117] ينظر: تفسير رسالة أدب الكاتب 87.
[118] ينظر: اللسان (قصر) 5/103.
[119] ينظر: شرح الكافية الشافية 4/1921.
[120] الإيضاح في شرح المفصل 1/584.
[121] ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 5/136.
[122] ينظر: شرح الشافية للرضي 1/280.
[123] المصدر السابق 1/280، 281.
[124] ينظر: المفصل 206.
[125] الكتاب 3/477.
[126] ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 5/136.(39/245)
تابع لموت الألفاظ في العربية
الباب الثاني
الممات من الأفعال
الفصل الأول: أفعال أميتت صيغها وتصريفاتها.
الفصل الثاني: أفعال اختلف في موتها.
الفصل الثالث: أفعال أميت المجرد منها دون المزيد.
الفصل الرابع: أفعال أميتت بعض تصريفاتها.
الفصل الخامس: أفعال مبنية للمجهول أميت المبنى للمعلوم منها.
مدخل:
ثمّة أفعال كثيرة أُميتت في العربيّة، وترك العرب استعمالها بعد أن كانت في لغتهم، فانقرضت وزالت، وبقي ما يَدُلّ عليها من الأسماء أو بعض اشتقاقات الفعل.
والإماتة في هذه الأفعال على أربعة أوجه:
أوّلها: إماتة الفعل بكل تصريفاته وصيغه.
ثانيها: إماتة المجرّد وإحياء المزيد.
ثالثها: إماتة بعض التصريفات (الأزمنة)
رابعها: إماتة المبني للمعلوم.
وينبغي - قبل تفصيل هذه الأنواع - أن يعلم الباحث اللّغويّ في متن اللّغة أنّ علماء العربية اعتادوا في معاجمهم أن يتركوا ذكر القياسيّ من الأفعال والأسماء وتصريفاتهما اختصاراً أو استغناء بالقياس، فوجب الحذر وأخذ ذلك في الحسبان عند الحكم بالإماتة وخاصة حين لا يكون هناك نصّ صريح لأولئك العلماء المتقدّمين أو لأحدهم من غير إنكار عليه منهم، أو يكون ثمة دليل لغوي يُهتدى به، كاستعمال المضارع أو الأمر دون الماضي نحو "يَهيط" بمعنى، يصيح فإن المضارع فرع والماضي أصل له، ووجود الفرع دون الأصل دليل على إماتة ذلك الأصل، وهذا قياس لغوي.
ومن علماء العربيّة الّذين يمكن للباحث أن يظفر بإشارات لهم فيما أميت من الأفعال: الخليل في "العين" وابن دريد في "الجمهرة" و"الاشتقاق" والأزهريّ في "تهذيب اللّغة" والصّغانيّ في "الذّيل والتّكملة والصّلة".
وفيما يلي تفصيل الأوجه الأربعة في إماتة الأفعال:
الفصل الأول
أفعال أميتت صيغها وتصريفاتها(39/246)
أمكن لي الظّفر بجملة من الأفعال المماتة بكامل تصريفاتها مستخرجة من المصادر اللّغويّة القديمة، وعلى رأسها "الجمهرة " لابن دريد الّذي عني في معجمه هذا بذكر الممات والإشارة إليه في مواضع عديدة، ولم يرد لها ذكر في معاجم الأفعال لابن القوطيّة والسّرقسطيّ وابن القطّاع أو المعاجم الكبيرة مثل "التهذيب" و"الصّحاح" و"المحكم" و"اللسان" و"القاموس المحيط" و"التاج" فدلّ ذلك على أنها مماته، كما قال ابن دريد وغيره من العلماء.
وأنبه - بين يدي هذا الفصل قبل أن أعرض لعدد من الأفعال المماتة - إلى أن ثمة خلافاً بين البصريين والكوفيين في أصل المشتقات، فالبصريون يرون أن المصدر هو الأصل والفعل منه، ويرى الكوفيون أن الفعل هو الأصل والمصدر مشتق منه.
واستدل البصريون على أن المصدر أصل الفعل بأمور، منها أن المصدر يدل على زمان مطلق، والفعل يدل على زمان معين، فكما أن المطلق أصل للمقيد فكذلك المصدر أصل للفعل.
واستدل الكوفيون على أن الفعل أصل المصدر بأمور، منها أن المصدر يصح لصحة الفعل، ويعتل لاعتلاله، كما في قولك: قاوَم قِوَاماً وقام قياماً، فلما صح المصدر لصحة الفعل واعتل لاعتلاله دلّ على أنه فرع عليه.
والخلاف في هذه المسألة مبسوط في كتب النحو والصرف [1] ،فلا حاجة لبسطه هنا، وقد رجح جمهور العلماء مذهب البصريين.
ويبدو أن ابن دريد الذي نقلت عنه قدراً صالحاً من ممات الأفعال في هذا الفصل والذي يليه - يختار مذهب الكوفيين في أصل الاشتقاق مع أنه بصري.(39/247)
والحق أنه يصعب الجزم بصحة أحد المذهبين وتخطئة الآخر، فالطابع العام لهذه المسألة نظري - كما يقول بعض الباحثين المعاصرين - "ولذا كان الخلاف فيها ميداناً لتصارع الحجج النظرية، ومن هنا ترددتْ خلال الحجج قضايا فلسفية، مثل الأصالة والفرعية، والإطلاق والتقييد، والبساطة والتركيب، وفي الوقت نفسه لم تخل المسألة من استئناس بالواقع اللغوي" [2] .
ويبدو أن الموازنات السامية ترجح مذهب الكوفيين، وفي ذلك يقول ولفنسون: "وقد نشأ من اشتقاق الكلمات من أصل هو الفعل أن سادت العقلية الفعلية- إذا صح هذا الاستعمال - على اللغات السامية، أي أن لأغلب الكلمات في هذه الكلمات مظهراً فعلياً ...
وقد رأى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الاسمي هو الأصل الذي يشتق منه أصل كل الكلمات والصيغ ولكن هذا الرأي خطأ - في رأينا - لأنه يجعل أصل الاشتقاق مخالفاً لأصله في جميع أخواتها السامية.
وقد تسرب هذا الرأي إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية، والأصل في الاشتقاق عند الآريين أن يكون من مصدر اسمي.
أما في اللغات السامية فالفعل هو كل شيء، فمنه تتكون الجملة، ولم يخضع الفعل للاسم والضمير، بل نجد الضمير مسنداً إلى الفعل ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً" [3] .
ولست بصدد مناقشة هذا الرأي، ولكن هذا يكفي - على الأقل - لجعلي أقبل - في هذا البحث - برأي ابن دريد حينما يجعل الفعل أصلاً للمصدر في الاشتقاق ويقول بموته حين يجد المصدر مستعملاً ولا فعل له.
وأذكر فيما يلي ما وقفت عليه من الأفعال المماتة، مرتبة على حروف المعجم، وهي:
1ـ بحن:
أميت الفعل "بَحِنَ" بكلّ تصريفاته وأزمنته. قال ابن دريد: "البَحَنُ: فعل ممات، ومنه اشتقاق البَحْوَن، وهو الرّمل المتراكب " [4] ، وقوله: فِعل ممات؛ أي: فعله ممات، أي أنه مشتق من فعل ممات.
ومنه رجل بَحْوَن: عظيم البطن [5] .(39/248)
وتقدير الفعل: بَحِنَ يَبْحَنُ.
وسأقدر جميع الأفعال التّالية وفق أقيسة الأفعال، واحتمال الخطأ في تقدير ضبط العين وارد، لعدم السّماع، لأنّ عين الماضي والمضارع في العربيّة لا تنضبطان انضباطاً كاملاً، والعمدة في كثير منهما على السماع [6] .
2ـ تير:
تَيّار البحر: موجه، وهو من فعل ممات، قال الأزهري: "التَّيّار: فَيعَال من تار يَتُور، مثل القيام من قام يقوم، غير أن فعله ممات " [7] .
3 ـ ثتل:
قال ابن دريد: "ثتل: استعمل منها الثَّتْل، ثمّ أميت [8] ، ومنه بناء ثَيْتَل، وهو جبل معروف ... والثَّتْل ضرب من الطير زعموا " [9] .
وتقدير الفعل: ثَتَلَ يَثْتِلُ أو يَثْتُلُ.
4 ـ ثعر:
قال ابن دريد: "الثَّعْر ممات، وهو أصل بناء الثُّعرور، والثعروران كالحلمتين تكتنفان غرمول الفرس عن يمين وشمال، وكذلك الزائدتان على ضرع الشّاه " [10] .
وذكر هذا المعنى في بعض المعاجم [11] ولم أجد من قدّر له فعلاً مماتاً غير ابن دريد.
وتقدير الفعل: ثَعَرَ يَثْعَرُ.
5 ـ جعتب:
قال أبو بكر: "جُعْتُب: اسم مأخوذ من فعل ممات " [12] .
ورويَ هذا الاسم بالثّاء المثلّثة فقد جاء في التّاج: "جُعْثُب كقُنْفُذ؛ أهمله الجوهري، وهو بالمثلّثة في سائر النسخ، وقال ابن دريد هو بالثاء المثناة الفوقية؛ اسم مأخوذ من فعل ممات " [13] .
وتقدير الفعل: جَعْتَب يُجعتِب، أو جَعْثَبَ يُجْعثِبُ.
6 ـ حتد:
قال السّرقسطيّ: "حَتَدَ بالمكان يَحْتِد حتداً إذا أقام به ... وهي لغة مرغوب عنها، وقد أميتت " [14] .
وفي "الجمهرة " [15] : "لغة مرغوب عنها" وفي "اللّسان " [16] : "مماتة" وكذلك في "التّاج " [17] .
وتقدير الفعل: حَتَدَ يَحْتِد، كما قال السَرقسطي.
7 ـ حجد أو حنجد:(39/249)
حُنْجُود اسم جد جاهلي، مشتق من فعل ممات، كما يرى بعض اللّغويين، وهو ثلاثي، ولا يمتنع أن يكون رباعياً بأصالة النون؛ لأنها ثانية.
ومن أقدم من قال بإماتة هذا الفعل ابن دريد، قال في "الجمهرة [18] : "حُنجُود: اسم ... والنّون والواو فيه زائدتان، وهو فعل ممات ".
وذكر في "الاشتقاق " [19] أنه من الأسماء المشتقة من الأفعال التي أميتت.
وتقدير الفعل حَجَدَ يحجُد، مثل هَجَدَ يهجُدُ، أو حَنْجَدَ يُحَنجدُ إن كان الفعل رباعياً.
8 ـ حمط:
قال ابن دريد: "الحَمْطُ من قولهم: حَمَطتُ الشّيء أَحْمِطُهُ حَمْطاً إذا قشرته، وهذا فعل قد أُميت " [20] .
وقد أشار إلى إماتة هذا الفعل بعض العلماء كابن منظور [21] والزّبيديّ [22] . وأنكر الأزهري [23] الحَمْط بمعنى القشر، وذكر أنَه لم يسمعه لغير ابن دريد.
وتقدير الفعل: حَمَطَ يَحْمِط، كما قال ابن دريد.
9 ـ خنذ:
قال الأزهري: "الخِنذيذ - بوزن فِعليل - كأنه بني من خنذ، وقد أميت فعله، ويقال هو الخَصّيُّ من الخيل، ويقال الطّويل ... وقال شمر: قال ابن الأعرابي: كلّ ضخم من الخيل وغيره خِنذيذ - خصياً كان أو غير خصيّ " [24] .
وتقدير الفعل: خَنِذَ يَخْنِذ، مثل خَنِثَ يخنِثُ، أو خَنَذَ يخنِذُ ويَخْنذُ مثل خَنَسَ يخنِسُ ويخنُسُ، ويكون بعد الإلحاق: خَنْذَذَ يُخَنْذِذُ.
10 ـ درح:
قال ابن دريد: "الدِّرحاية الرَّجل الضخم ... واشتقاق الدِّرحَاية من الدرح، وهو فعل ممات " [25] ، أي: أن فعله "دَرَحَ"ممات.
وتقدير الفعل: دَرَحَ يدرَح، مثل سَرَحَ يسْرَح.
11 ـ دفص:
الدَّفْصُ المُلُوسة، وفعله ممات [26] ، ومنه اشتقاق الدّوفص وهو البصل الأبيض الأملس، والواو زائدة.
وتقدير الفعل: دَفِصَ يدفَصُ مثل: دَلِصَ يدلَص، بمعنى: زَلِقَ أو لانَ.
12 ـ ردك:(39/250)
قال ابن دريد: "الرَّدْك فعل ممات استعمل منه غلام رَوْدَك، وجارية رَوْدكة: في عنفوان شبابها " [27] .
ونقل عنه هذا جماعة من العلماء من غير إنكار عليه؛ ومنهم الصّغاني [28] ، والفيروز آبادي [29] والزبيدي [30] .
وتقدير الفعل: رَدُك يردُك، أو رَدِكَ يردَك.
13 ـ زتن:
يحتمل لفظ الزّيتون – وهو الثمر المعروف – أحد أصلين: (زيت) و (زتن) فالأول مشتقّ من الزّيت، فوزنه حينئذ (فعلون) والثاني مشتق من الزَّتن، والفعل منه ممات كما ذكر بعض العلماء [31] ، ووزنه حينئذ (فيعول) ولذا وضعه ابن منظور في الأصلين (زيت) و (زتن) .
وتقدير الفعل الممات: زَتَنَ يزتِن أو يزتُنُ، أو زتِن يزتَن.
14 ـ زعك:
قال ابن دريد: "الزَّعْك: فعل ممات، ومنه اشتقاق قولهم رجل أزعكيّ، وهو الدّميم، وذكر يونس أنّه سمع زعكوك، قصير مجتمع الخلق " [32] .
وهذا مما انفرد به ابن دريد.
وتقدير الفعل: زَعَكَ يَزْعَك أو زَعِكَ يَزْعَك.
15 ـ سلحف:
قال أبو بكر: "سَلْحَف (فعل) ممات، ومنه اشتقاق السّلحفاة. تمدّ وتقصر " [33] .
وتقدير الفعل: سَلْحَفَ يُسَلْحِفُ.
16 ـ سمدع:
السّميدع هو السيّد الشّريف الكريم، وذكر بعض العلماء أنّه مشتق من فعل رباعيّ ممات وهو: سَمْدَع يُسَمْدِعُ [34] .
17 ـ سنر:
السّنر ضيق الخلق وشراسته، وهو مشتقّ من فعل ثلاثي ممات، تقديره: سَنَر يسنُرُ، ومنه اشتقاق السِّنَّور [35] .
18 ـ سهق:
السَّهْوَق هو الظّليم الطّويل الرّجلين، وربّما سمّى الرجّل الطّويل السّاقين سَهْوقاً، واشتقاقه من فعل ممات، وهو سَهْوَق كما يرى ابن دريد [36] . والواو فيه للإلحاق بالرّباعي.
19 ـ ضعز:
الضّعز: الوطء الشّديد، وهو مشتقّ من فعل ممات في رأي ابن دريد [37] وقد ذكر ابن القطّاع هذا الفعل، قال: "ضَعَزَ المرأة نكحها " [38] .(39/251)
وأشار الزّبيدي إلى أن هذا الفعل ممات [39] .
20 ـ ضعس:
قال ابن دريد: "الضَعْسُ فعل ممات، واشتق منه: رجل ضَعْوَس، وهو الحريص النَّهِم " [40] . وقال ابن منظور: "الضّعرس: النّهم الشّديد " [41] فكأنه منه أو مرادف له أو تحريف منه، وفي "القاموس " [42] : الضّغرس بالغين المعجمة.
وتقدير الفعل الثلاثي: ضَعُسَ يضعُس، مثل ضَعُف يضعُف، والرباعي ضَعْوَسَ يُضَعْوِسُ وضَعْرَسَ يُضَعْرِسُ.
21 ـ طهش:
الطَّهْش: أن يختلط الرجل فيما أخذ فيه من عمل بيده فيفسده [43] .
وذكر جماعة من علماء العربية أن فعله أميت، ومنه بناء "طَهْوَشٍ " [44] وهو اسم.
وتقدير الفعل: طَهَشَ يَطْهَشُ، مثل: طَهَسَ في الأرض يطهَس، إذا دخل فيها.
22 ـ عتص:
قال ابن دريد: "العَتَصُ: فعله ممات، وهو - زعموا - كالاعتياص، وليس بثبت؛ لأن بناءه لا يوافق أبنية العرب، استعمل الاعتياص، وهو الافتعال من قولهم اعتاص يعتاص اعتياصاً، وهذه الألف أصلها ياء كأنه اعتَيَصَ " [45] .
وذكر إماتة هذا الفعل "عَتَصَ" الصّغاني [46] ، والفيروز آبادي [47] والزبيديّ [48] وهو لا يوافق أبنية العرب؛ لأن العرب تتجنّب التاء بجوار الصّاد، لثقل ذلك، أو تقلب التّاء طاء، كما حدث في تاء الافتعال في اصطفى ونحوه.
وليس العتص من الاعتياص، فهما أصلان مختلفان تماماً فالأول من (ع ت ص) والثّاني من (ع وص) فالتّاء في "لاعتياص"زائدة، وهي تاء الافتعال، والتّاء في "لعتص"أصليّة، وهي عين الكلمة.
وتقدير هذا الفعل الممات: عَتَصَ يعتِص، مثل عَتَمَ يَعْتِم، إذا كفّ عن الشيء بعد المضيّ فيه.
23 ـ عضنك:
العَضَنّك: الغليظ الشّديد من الرّجال، والعجزاء اللفاء من النّساء. وذكر ابن دريد أن فعله [49] أميت، وهو رباعيّ، ويجوز أن يكون ثلاثياً بزيادة النّون.
وتقدير الفعل: عَضْنَكَ يَعْضْنِكُ.
24 ـ عظر:(39/252)
يقال: عَظِرَ الرّجل، أي كَرِهَ الشّيء، وهذا فعل ممات، قال ابن دريد: "جل عِظْيَرّ: كَزّ غليظ، ويقال هو الشيء الخلق، وهذا اسم مشتقّ من فعل قد أميت، وهذا من عَظِرَ الرّجل، إذا كدّه الأمر واشتد عليه، ولا يكادون يتكلمون به ولا يصرّفون له فعلاً".
وأشار ابن منظور إلى إماتة هذا الفعل وأنهم لا يكادون يتكلمون به [50] . وتقدير الفعل: عَظِرَ يعظَرُ.
25 ـ عقز:
العَقْز: تقارب دبيب النّمل وما أشبهه [51] ، ذكر الزّبيديّ [52] أنّ الفعل منه ممات، وتقديره: عَقَزَ يعقز، مثل: عَقَر يَعْقِر.
26 ـ عقس:
العَقَسُ شُجيرة تنبت في الثُّمام [53] ، وكذلك العَوقس، قال ابن دريد: "لعَقسُ فعل ممات، ومنه اشتقاق عَوْقَس، وهو ضرب من النّبت " [54] .
وتقدير الفعل: عَقِسَ يَعْقَسُ مثل عَكِشَ يَعْكَشُ.
27 ـ عدو أو عندأ:
العِندأوة التواءٌ وعسر وجرأة في الرجل، والعندأو الدّاهية أو الجرئ المقدام من الرّجال. قال الخليل: "يقال عندأوة (فِعللوة) والأصل أميت فعله، لا يدرى أمِنْ عَنْدَى يُعندي أم عدا يعدو، فلذلك اختلف فيه " [55] .
وذكر الأزهري [56] أن فعله ممات، وأنه "دو"يزيادة النون والهمزة، أو أنه من "ندأ".
من الممكن أن نقيس على "دو"في إماتة فعله والاختلاف في تقديره: "لحنطأو"وهو عظيم البطن من الرجال، و"لسّند أو"المقدام، و"لقندأو"الصّلب الشّديد و"لكنثأو"عظيم اللحية.
28 ـ عهج:
العَوْهَج: الطّويلة العُنُق من الظّباء والظّلمان والنّوق.
قال ابن دريد: "لعَهْج فعل ممات، ومنه اشتقاق: ظبية عَوْهَج، طويلة العنق، الواو زائدة".
وتقدير الفعل: عَهَجَ يَعْهَجُ، وأميت لسبب صوتيّ يأتي بيانه في الباب الثالث إن شاء الله.
29 ـ عهم:
العَهْم فعله ممات، ومنه اشتقاقهم: ناقة عَيْهَم وعَيهامة وعَيْهَمانة، وهي السَّريعة الجرئية على السّير [57] .(39/253)
وتقدير الفعل: عَهِمَ يَعْهَم، مثل عَهِدَ يَعهَد.
30 ـ فسط:
أميت فعل "لفَسْط"ومنه اشتقاق الفسيط - كما يقول ابن دريد [58] ، وهو قلامة الظفر، واحدته فسيطة.
وتقدير الفعل: فَسَطَ يَفْسُطُ أو يَفْسِط.
31 ـ فلم:
الفَيلم: الرجل العظيم، والجبان، والعظيم الجُمَّة [59] .
وقال ابن دريد: "لفَلْم فعل ممات، ومنه اشتقاق الفَيلَم، وهي الجُمَّةُ العظيمة " [60] وتقدير الفعل: فَلم يَفْلَم.
32 ـ قدل:
قال أبو بكر: "لقَدْل: فعل ممات، وهو أصل بناء القَنْدَل، والنون زائدة، وهو الصّلب الشّديد، وقال قوم: هو الصّلب الرأس " [61] .
وتقدير الفعل: قَدُلَ يَقْدُلُ أو يَقْدُلُ، أو قَدِلَ يِقْدَلُ.
33 ـ قعن:
القَيْعون من العشب: نبت على زنة (فيعول) مثل القَيصوم، وهو ما طال منه، يقال اشتقاقه من القعن، وفعله ممات [62] .
وتقدير الفعل: قَعَنَ يَعْعَن.
34 ـ قلط:
القلطيّ والقُلاط والقيليط: القصير المجتمع من الرجال [63] ،وهو مشتق من فعل ممات كما يقول ابن دريد [64] .
وتقدير الفعل: قَلَط يقلُط، بمعنى اجتمع الشيء وقَصُر.
35 ـ قنر:
قال ابن دريد: "لقنر فعل ممات، ومنه اشتقاق: رجل قَنَوَّر، وهو السّيّء الخلق الشَّكِسه " [65] .
وتقدير الفعل: قَنَر يَقْنُرُ، أو قَنِرَ يَقْنَر.
36- لخم:
قال ابن دريد: "لخْم: قبيلة من العرب، واشتقاق أصله من قولهم: لَخُم الرجل، إذا كثر لحم وجهه وغَلُظ، وهذا فعل ممات لا يكادون يتكلمون به " [66] .
وأيد المعجميون ابن دريد، وأشاروا إلى إماتة هذا الفعل [67] .
وتقدير الفعل: لَخُم يلخُم، كما قال ابن دريد.
37 ـ مدن:
ذكر علماء اللّغة أن المَدن فعل ممات، ومعناه الإقامة والثّبات، وأنّه من قولهم: مدن بالمكان إذا قام به، وبه سمّيت المدينة في لغة هؤلاء.
38 ـ نرز:(39/254)
النّرز: الاستخفاء من فزع، وبه سمّي الرجل: نَرْزَة ونارزة، وفعله ممات عند بعض المعجميين كابن دريد [68] ، والصّغاني [69] ، وابن منظور [70] ، والزبيديّ [71] .
وتقديره مع المضارع: نَرَزَ ينرِز، وهو ثقيل - كما ترى - لمجئ الراء المتحرّكة بعد النون السّاكنة، وهذا نادر في العربيّة، وهو من أسباب إماتة هذا الفعل، كما سيأتي.
39 ـ هلف:
الرجل الِهلَّوف: الكثير الشّعر الجافي، ومنه لحية هِلّوفة: كثيرة الشعر، ومنه الهَلَف، وهو مشتق من فعل ممات، كما يقول ابن دريد [72] والصغاني [73] ، وتقدير الفعل مع مضارعه: هَلِفَ الشعرُ يَهْلَف؛ أي: طال وكثر.
40 ـ وده:
قال ابن دريد: "لوَدْهُ: فعل ممات من وَدِهَ يَوْدَه وَدَها، وأودهني عن كذا وكذا؛ أي: صدّني عنه، وهي لغة قديمة " [74] .
وأشار جماعة من علماء العربية إلى إماتة هذا الفعل، ومنهم السرقسطي [75] ، وابن سيده [76] ، وابن منظور [77] .
41- وذل:
قال ابن دريد: "الوَذْل فعل ممات، ومنه الوذيلة، وهي السبيكة من الفِضّة خاصّة، وقال قوم: بل من الفضة والذهب " [78] .
وتقدير الفعل: وَذَل يذِل.
الفصل الثاني
أفعال اختلف في موتها
يلحق بتلك الأفعال المماتة التي أوردناها في الفصل الأول من هذا الباب أفعال ذكر بعض العلماء أنّها أميتت، وذكرها آخرون في مؤلفاتهم من غير نصّ على إماتتها وتركها فكأنّها عندهم من المستعمل في الكلام. وليس لدينا ما نقطع به في إماتة كثير من هذه الأفعال أو بقائها في الاستعمال اللّغوي، ومن هذه الأفعال:
1 ـ أَبَوَ وأَمَمَ:
ذكر الهروي في "إسفار الفصيح " [79] أن العرب تركت الفعل من الأبِ والأمّ بعد أن أميت فعلاهما. ولكن جاء في "لسان العرب " [80] : "أَبَوْتَ وأَبَيتَ: صرتَ أباً ... وأبوتُ الرجلَ أَأْبوه، إذا كنت له أبا، ويقال: ماله أب يأبوه، أي يغذوه ويُربّيه".(39/255)
ويقال: "أمّت أمومة، أي صارت أُمّاً " [81] و"لقد أمِمْتِ أمومةً؛ أي: صرتِ أمّاً " [82] .
وقد يكون هذا تقديراً للفعل الممات، وقد يكون إحياء له، وقد تكون الإماتة في بيئة دون غيرها.
2 ـ بتو:
قال ابن دريد: "البَتْو فعل ممات، ثم قالوا: بتا يبتو بتوّاً فلم يهمزوا، وهمز قوم، فقالوا: بتأ يبتأ بتوءاً، إذا أقام بالمكان " [83] .
وذكر ابن منظور هذا الفعل بمعناه من غير إشارة إلى إماتته [84] .
3 ـ حظب:
ذكر ابن دريد أن قولهم رجل حُظُبٌّ، وهو الجافي الغليظ أو البخيل - مشتقّ من فعل ممات، وهو حَظَب يحظِب ويحظُبُ.
وهذا الفعل مذكور بمعناه في بعض المعاجم [85] ، ولم يُذكر أنّه ممات.
4 ـ خفد:
يرى ابن دريد أن الخَفْد مشتق من فعل ممات، وهو خَفَدَ يخفِد خَفْداً، إذا أسرع في المشي. ومنه اشتقاق الخفيدد وهو الظّليم [86] .
والفعل مذكور في بعض المعاجم [87] .
5 ـ دره:
قال الخليل: "دَرَهَ: أميت فعله إلا قولهم رجل مِدْرَه حرب، وهو مِدْره القوم؛ أي: الدّافع عنهم " [88] .
ووافقه ابن عبّاد فذكر أن هذا الفعل ممات [89] .
وقال السّرقسطيّ: "دَرَهَ لقومه دَرْها: دفع عنهم بلسانه ويده " [90] .
وقالوا: دَرَهَ على القوم: هجم، ودره فلان علينا ودرأ؛ إذا هجم من حيث لم نحتسبه [91] ، ولم يذكر هؤلاء أنه ممات.
6 ـ دسق:
أميت فعل الدّسق على رأي ابن دريد، ومنه اشتقاق الدَّيسق بزيادة الياء، وهو ترقرق السّراب على الأرض، وترقرق الماء المتضحضح، وكلّ لمعان ماء أو سراب فهو ديسق [92] .
ولكن ورد في الاستعمال اللّغويّ قولهم: دَسِقَ الحوض دَسَقاً: امتلأ وساح ماؤه، ومنه قالوا الدّيسق وهو ترقرق الماء أو السّراب [93] .
7 ـ رمغ:
ذكر ابن دريد أن الرَّمْغ أميت فعله، وهو عرك الشيء باليد [94] .(39/256)
وورد في المعاجم: رَمَغَ الشيء يرمغه رَمْغاً: دلكه بيده كما تدلك الأديم ونحوه [95] ، وهذا يدلّ على أنّ هذا الفعل لم يزل حياً.
8 ـ زغر:
قال ابن دريد: "الزَّعْر فعل ممات، وهو اغتصابك الشيء، زعموا، زَغَرْتُ الشّيء أزغر زغراً " [96] .
وهذا فعل مذكور بمعناه في معاجم اللّغة الكبيرة، كـ "اللّسان " [97] و"القاموس " [98] و"التاج " [99] وهو في معاجم الأفعال [100] .
9 ـ سكم:
ذكر ابن دريد أنّ العرب أماتت فعل السَّكْم، ومنه اشتقاق "سَيْكم"وهو تقارب خطوٍ في ضعف [101] ، ونقله عنه الأزهري [102] ، وابن منظور [103] ، والزّبيدي [104] ، وورد هذا الفعل في بعض المعاجم دون إشارة إلى أنّه ممات [105] .
10 ـ ضرك:
قال ابن دريد: "الضَّرك فعل ممات، ومنه اشتقاق الضَّريك، وهو المضرور، ولا يكادون يصرّفون للضّريك فعلاً، لا يقولون: ضَرَكه، في معنى ضَرَّه " [106] .
ونقل الجوهري عن الأصمعي أنّهم لا يصرّفون له فعلاً، أي لا يقولون: ضركه، في معنى ضرّه [107] . وهذا يعضّد ما قاله ابن دريد.
وفي "الأفعال " [108] للسّرقسطيّ ما يدلّ على أن الفعل مستعمل في الكلام، قال: "ضَرُك ضراكة: أصابه ضُرُّ في جسمه، وضَرُك الجسم وضرِك ضراكة: عَظُم واشتدّ ... وضَرُك الرّجل وحدَه: ساءَتْ حاله من الهزال".
ومثله في "الأفعال " [109] لابن القطّاع.
11 ـ عذف:
قال ابن دريد: "العَذْف فعل ممات، يقال منه: ما له عذوف يوم، أي قوت يوم، وما أكلت عذوفاً، أي ما أكلت شيئاً، والعذوف، والعزوف واحد " [110] .
ولكن جاء هذا الفعل في بعض المعاجم، قالوا: "عذف من الطّعام والشّراب يعذف عذفاً: أصاب منه شيئاً " [111] .
12 ـ عشد:
ذكر ابن دريد أن العَشْد - وهو جمعك الشّيء - أميت فعله [112] .
وجاء في بعض المعاجم: عَشَدَه يَعْشِده عَشْداً: جمعه [113] .
13 ـ عشز:(39/257)
قال ابن دريد: "العَشْز فعل ممات، وهو غِلَظُ الجسم، ومنه اشتقاق العَشَوزَن، وهو الغليظ من الإبل والنّاس " [114] .
وهذا يخالف ما ذكره السّرقسطي، فالفعل عنده مستعمل، قال: "عَشَزَ المقطوعُ الرّجل عَشَزانا: مشى مِشْيَته " [115] .
وكذا في المعاجم الكبيرة [116] ، فقد لا يكون من الممات، وقد يكون مما أُحيِيَ بعد موته.
14 ـ علد:
ذكر ابن دريد أنّهم أماتوا فعل العَلْد، ومعناه: اشتدّ وصَلُب، ومنه: رجل عِلّود وبعير عِلّود " [117] .
وورد هذا الفعل في بعض المعاجم من غير إشارة إلى إماتته، قالوا: عَلِدَ يَعْلِد عَلَداً بمعنى اشتدّ وصَلُب ورَسَى [118] .
15 ـ غرد:
قال ابن دريد: "الغَرْد فعل ممات، استعمل منه: غَرَّد الطّائر تغريداً، وهو مغرّد، إذا طرّب في صوته " [119] .
ولكن جاء في بعض المعاجم: غَرِدَ الطائر كفرح، فهو غرد، وهو مثل غرّد تغريداً [120] ، وهذا يدلّ على أنّ الفعل ليس مماتاً، أو أَنّه ممّا استعمل بعد إماتته.
16 ـ غطر:
ذكر ابن دريد أنّ الغَطْر فعل ممات، ونقل عن يونس أنّهم يقولون: مرّ فلان يغطر بيديه مثل يخطر سواء [121] ، فكيف يكون مماتاً؟
وفي "اللّسان": "الغَطْر لغة في الخطر؛ مرّ يَغْطِرُ بّذنبه أي يَخْطِرُ " [122] .
وكذا في أفعال السّرقسطيّ [123] .
18 ـ مسر:
ذكر صاحب "الجمهرة" أن المَسْر فعل ممات، وهو مَسَرتُ الشيء أمسُره مَسْراً، إذا استللته فأخرجته، أي أخرجته من ضيق إلى سعة [124] .
وجاء في أفعال السّرقسطيّ: مَسَرت الشيء مَسْراً: استخرجته من ضيق [125] ، ومثله في "اللّسان " [126] .
19 ـ مظع:
ذكر ابن دريد أن المظع فعل ممات، ومنه اشتقاق مظّعت العود، إذا تركته في لحائه ليشرب ماءه [127] .(39/258)
وحكى المعجميون: مَظَعَ الخَشَبة مظعاً؛ أخرج نُدُوَّتها، والوتر ملّسه، ومَظَعَ العود مَظْعا، ومظّعه تمظيعاً، شرّبه ماء لحائه [128] .
20 ـ نفه:
قال ابن دريد: "النَّفْهُ ممات، منه رجل منفّه، ضعيف القلب، نفّهت الرجل تنفيها فهو منفّه" [129] .
وليس هذا الفعل مماتاً عند بعض المعجميين، فقد حكى السرقسطي: "نَفِهَ البعير نَفَها: أعيا ... ونُفِهَ الرجل نَفْها: ضَعُف قلبه " [130] .
21 ـ نيح:
النَّيح عند ابن دريد مما أميت فعله، وذكر منه قولهم: ما نّيحته بخير، أي ما أعطيته شيئاً.
وحكى المعجميون قول العرب: ناح العظيم نيحا: اشتدّ بعد رطوبته [131] ، وناح الغُصْن نيحا، ونَيَحانا: مال.
وفي غريب الحديث: لا نيّح الله عظامه؛ أي: لاصلّبها ولا شدّ منها [132] .
22 ـ هدس:
قال ابن دريد: "الهَدْس: لغة يمانيّة مماتة، وأصله من قولهم: هدسته أهدسته هَدْساً، إذا زجرته وطردته، وقد أميت هذا الفعل " [133] .
وذكر بعض المعجميين [134] هذا الفعل من غير إشارة إلى إماتته.
23 ـ همغ:
ذكر ابن دريد أنّ الهمغ مما أميت فعله، ومنه بناء الهِمْيَغ، وهو الموت الوَحِيّ، [135] أي السّريع.
ويقال - عن شمر: هَمَغَ رأسه وثدغه وثمغه؛ إذا شدخه [136] .
24 ـ وطح:
ذكر ابن دريد أنّ الوطح – وهو الدفع باليدين – ممّا أميت فعله [137] . وجاء في "التّاج " [138] : "وطحه يطِحه طِحة كعدة؛ إذا دفعه بيديه عنيفاً، أي في عنف" ولم يشر إلى إماتة الفعل، وكأنه - عنده - من المستعمل، ومثله في "أقرب الموارد " [139] من غير إشارة إلى إماتته.
الفصل الثالث
أفعال أميت المجرد منها دون المزيد
قد يمات مجرد الفعل الماضي، ويستغنى عنه ببعض الصّيغ المزيدة، فتكون تلك الصّيغ - مع انتفائه - شاهداً قوياً على موته.(39/259)
ومن تلك الصّيغ الّتي شقّت طريقها في الحياة، وأميت مجرّدها: أَفْعَلَ، وفَعَّلَ، وفَاعَلَ، وفنعَلَ، فَعْوَلَ وَفَوْعَلَ، وفَعْيَلَ، وتَفَعّلَ، وتَفَاعَل، وتَفَنْعَلَ، وافتَعَلَ، واستَفْعَلَ، وافْعَلَلَّ، وافْعَلَّ، وافْعَالَّ. وهي على النّحو التّالي:
أـ مجرَد (أَفْعَلَ)
باب فعلت وأفعلت من الأبواب المعروفة في اللّغة، وألّف فيه جماعة من علماء اللّغة، وثمّة أفعال استغنى فيها بأَفْعَلْتُ عن فَعَلْتُ، فتَرِكَ هذا الأخيرُ مع أنّه هو الأصل، فأميتَ، وهي أفعال قليلة، قال سيبويه: "استُغنيَ عن جَنَنتُ ونحوها بأَفْعَلْتُ " [140] .
وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "مَضَّنِي" كلام قديم قد تُرِكَ فأُميت؛ أراد أنّ "أمضّني" هو المستعمل [141] .
أمّا ابن دريد فكان يقول: إنّ غَاثَه يغُوثُهُ غَوثاً أصل لقولهم: أغاثه يُغيثه إغاثة، فأميت الأصل من هذا، واستعمل الفرع وهو المهموز [142] ، إلا أنّ هذا الفعل الممات مذكور في بعض المعاجم [143] .
وأميت الفعل (حَبَّ) اكتفاء بـ (أَحَبّ) قال الكسائي: "محبوب من حَبَبتُ، وكأنّه لغة قد ماتت " [144] يريد أنّ الفعل الثلاثي المجرّد هو الّذي أميت، وبقي اسم المفعول منه وهو محبوب، فهم يقولون: أحبّه فهو محبوب، مبنياً على الثّلاثيّ الممات، وليس على الرّباعيّ.
قال أبو جعفر النحّاس: (قال الكسائي: يقال: يحِبّ وتَحِبُّ وأَحِبُّ، ويِحِبُّ - بكسر الياء - وتِحِبُّ ونِحِبُّ وإحِبّ، قال: وهذه لغة بعض قيس يعني الكسر، قال: والفتح لغة تميم وأسد وقيس، وهي على لغة من قال: حَبَّ، وهي لغة قد ماتت. قال الأخفش: لم تسمع حببت. قال الفراء: لم نسمع حببت إلا في بيت أنشده الكسائيّ:
[فَوَ اللَّهِ] لَوْلا تَمْرُهُ ما
ولا كَانَ أَدْنَى مِن عُبَيدٍ ومُشْرقِ) [145](39/260)
وقال الأصمعي: "يقال تَحِب - بفتح التاء، ولا أعرفه في غير التاء، ولا أعرف حَبَبْتُ" [146] .
ومثل هذا قولهم: أحنط الرِّمث، فهو حانط؛ إذا أثمر، فحانط اسم فاعل من الفعل الثّلاثيّ الممات، وهو (حنط) [147] .
وشبيه به قولهم: أَيْفَعَ الغُلام فهو يافع وأبقل الموضع فهو باقل، وأَوْرَسَ الرّمث فهو وارس [148] ، فكأنّهم أماتوا (فَعَلَ) من هذه الأفعال، أو شرعوا في إماتتها، فبقيت منها بقايا مذكورة في المعاجم، قال السّرقسطيّ: "يَفَعَ الغلام يُفُوعاً - لغة - وأيفع الأعمُّ: شبّ " [149] .
وأماتوا ماضي (أنذر) وهو: (نَذَرَ) قال الأزهريّ: "والنّذير يكون بمعنى المُنذر، وكان الأصل نَذَرَ، إلا أنّ فعله الثّلاثيّ ممات " [150] .
ب ـ مجرّد (فعّل)
أميت مجرد (فعّل) في مثل: نبّأ وحدَّثَ من الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل المتضمنة معنى (أَعْلَم) ولم يستعمل الثلاثي في هذا المعنى [151] .
ومن مجرد (فعّل) أميت (ضِحْتُ) فقالوا: ضَيَّحْتُ اللبن تضييحاً، إذا مزجته بالماء.
وأشار إلى إماتة هذا الفعل بعض العلماء [152] .
وقال بعضهم إن ضِحْتُ مثل ضيّحت [153] أي أن الثلاثي مستعمل.
وأماتوا مجرّد (ورّخ) الكتاب بمعنى وقّته، وقالوا: (أرّخه) والهمزة مبدلة من الواو، أو العكس [154] ، والرّاجح الأوّل لقولهم في الجمع: تواريخ، ولم يقولوا: تآريخ [155] .
ج ـ مجرّد (فاعل)
أميت ماضي (فَاعَل) في الدَّلْس، ومنه قولهم: دَالَسَ يُدالس مُدالسة ودِلاساً، بمعنى خادع، ويقال: فلان لا يدالس ولا يوالس؛ أي: لا يخادع ولا يغدر [156] .
ومن أقدم من قال بإماتة هذا الفعل ابن دريد [157] ، واستعملوا منه – أيضاً- (فعّل) فقالوا: دَلّس في السّلعة، إذا كتم عيبها [158] .
د ـ مجرّد (فَنعَلَ)(39/261)
أميت الفعل المُجَرّد للفعل المزيد على وزن (فَنعَل) ومنه قولهم: كَنْهَفَ عنا؛ أي: تَنَحّى، وفي هذا يقول ابن دريد: "الكَهْف - زعموا - السّرعة في المشي والعدو، وهو فعل ممات، ومنه بناء كنهَفَ عنا، إذا تنحّى " [159] .
ولم يذكر الفعل الثّلاثيّ الممات في المعاجم الّتي اطّلعت عليها، وأشار الصّغاني [160] والفيروزاباديّ [161] والزّبيدي [162] إلى إماتة هذا الفعل الثّلاثيّ.
هـ ـ مجرّد (فَعْوَلَ)
أماتوا الفعل (هَرَلَ) [163] بمعنى أسرع في مشيه دون الخبب، واشتقّوا منه المزيد على وزن (فعول) فقالوا: هَرْوَلَ يُهَرْوِلُ هَرْوَلَة وهِروالاً، بمعنى الفعل الثّلاثي، فأغناهم عنه.
وقالوا قَهْوَس الرّجل في مشيه قَهْوَسَةً إذا أسرع في مشيه، أو عدا من فزع، وفعله الثلاثي (قهس) ممات [164] .
وقالوا: قَعْوَل يُقعول قعولة، إذا جاء يسفي التّراب بصدر قدميه في مشيته، وقيل: القعولة: إقبال القدم كلها على الأخرى، وقيل: هي مشي ضعيف [165] ، وقد أميت فعله الثّلاثيّ المجرد (قعل) كما قال ابن دريد [166] .
وـ مجرّد (فَوعَلَ)
قالوا: هَوْذَلَ في مشيه هَوْذَلَةً؛ أسرع، وقيل: الهَوْذَلَةُ: اضطراب في العدو، والفعل على وزن (فَوْعَلَ) .
وذكر ابن دريد أنّ الفعل المجرّد أميت وأنّ أصله: هَذِلَ يهذَل هَذَلاً وهذلاناً [167] .
ز ـ مجرّد (فَعْيَلَ)
قالوا: عَذْيَطَ الرّجل يُعَذْيِط عَذْيَطَة؛ أي: أحدث عند غشيان النّساء، وهو العِذْيوط [168] . والفعل المجرّد منه ممات [169] .
ح ـ مجرّد (تَفَعّل)
ذكر الأصمعيّ أنّ العرب تقول تَطَوَّسَتِ المرأة والجارية؛ إذا تزيّنت [170] وهو مأخوذ من الطّوس كما يقول السّرقسطي [171] .
وذكر ابن دريد أن فعله المجرّد ممات [172] .
ويقال تزنّر الشيء إذا دقّ، وهو على زنة (تفعّل) والمجرّد منه ممات على رأي ابن دريد [173] .(39/262)
ط- مجرّد (تَفَاعَل)
قال ابن دريد: "اللّحك من قولهم: لَحِكَ يلحَك لَحْكاً ولَحَكاً، إذا تداخل بعضه في بعض، وقد أميت هذا الفعل فاكتفوا بقولهم: تلاحك تلاحُكاً " [174] .
وفي (اللّسان) [175] : "وربما قيل لَحِكَ لَحَكاً، وهي مماتة" ومثله في (التاج) [176] .
ي ـ مجرّد (تَفَنْعَلَ)
العكث: اجتماع الشّيء والتئامه، وقد أميت الفعل الثّلاثيّ منه، واستعمل مزيده (تعنكث) على زنة (تفنعل) .
قال الزّبيديّ: "العكث أميت أصل بنائه، وهو الاجتماع والالتئام؛ أي لم يستعملوه ثلاثياً، وإنّما استعمل مزيداً كما يدلّ على ذلك قوله: "وتعنكث الشيء: اجتمع " [177] .
وقد ذكر غير واحد من علماء اللغة إماتة الفعل المجرد من هذا الفعل [178] .
ك ـ مجرّد (افْتَعَلَ)
أميت المجرّد من فعلي افتقر واشتدّ وبقي منهما المزيد، قال سيبويه: "ولم نسمعهم قالوا فَقُرَ، كما لم يقولوا في الشّديد: شَدُد، استغنوا باشتدّ وافتقر، كما استغنوا باحمارّ عن حَمِرَ " [179] .
وذهب ابن دريد [180] إلى أن العرب أماتت الفعل المجرد من (المحن) وبقي منه في الاستعمال: امتحنه امتحاناً؛ أي ابتلاه ابتلاء واختبره.
وحكى السّرقسطيّ قولهم: "مَحَنَ الرجلَ وغيرَه: اختبره " [181] ولم يذكر أنه ممات.
وذكر بعض اللغويين أنه أميت مجرّد (اعترط) بمعنى أبعد في الأرض [182] .
ل ـ مجرّد (اسْتَفْعَلَ)
أماتوا مجرّد (استنوك) والمُستنوِك هو الأحمق، وكذلك الأنوك، والجمع النوكى. قال سيبويه: "وقالوا: استنوك، ولم نسمعهم يقولون نَوِك، كما لم يقولوا: فَقُر" [183] .
ولكن جاء في (اللّسان) [184] : "نَوِكَ نَوَكاً ونَوْكاً ونَوَاكةً: حَمُقَ، وهو أنوك" ومثله في أفعال السّرقسطي [185] .
م ـ مجرد (افْعَلَلَّ)
أميت الفعل الرّباعيّ (ضَمْحَل) واستُغْنِى بمزيده: (اضمحلّ) بمعنى ذهب وتلاشى [186] .(39/263)
وأميت الفعل الرّباعيّ (زَمْهَلَ) [187] واستغنى عنه بمزيده (ازمهلّ) فقالوا: ازمهلّ المطر ازمهلالاً؛ وقع، وازمهلّ إذا الثلج إذا سال بعد ذوبانه [188] .
ن ـ مجرد (افعلّ) و (افعالّ)
أميتت بعض الأفعال المجرّدة الدّالّة على الألوان، واستغنوا عنها بالمزيد نحو افعلّ وافعالّ. قال سيبويه: "وقد يستغنى بافعالّ عن فَعِل وفَعُل، وذلك نحو ازراقّ، اخضارّ، واصفارّ، واحمارّ، واشرابّ، وابياضّ، واسوادّ، واسودّ وابيضّ واخضرّ واحمرّ واصفرّ أكثر في كلامهم " [189] .
الفصل الرابع
أفعال أميتت بعض تصريفاتها
يغلب في العربيّة استعمال الفعل بتصرّفاته الثّلاثة، أي أزمنته، الماضي والمضارع والأمر؛ والماضي هو الأصل، والمضارع مشتقّ منه، ومن المضارع اشتقّ فعل الأمر على مذهب الجمهور من علماء اللغة.
وثمّة أفعال قليلة لازمت صيغة واحدة؛ كالماضيّ أو المضارعة أو الأمر، مع إماتة الصيغتين الأخريين، أو لازمت صيغتين كالمضارع والأمر مثلاً مع إماتة الصيغة الثالثة، كما سيأتي بيانه، أولا لازمت صيغة واحدة، وأميت ما عداها، نحو ليس ونعم وبئس. إلا أنه ينبغي التحرّز في هذا النّوع خاصّة؛ لأنه ليس ثمّة دليل قاطع على إماتة المضارع والماضي، أي أنّهما استُخدما ثمّ أميتا؛ لأن الماضي هو الأصل والمضارع ومن بعده الأمر: فرعان، ووجود الأصل لايقتضي بالضّرورة وجود الفرع، فقد يكون الفرع مهملاً لم يستعمل قط فلا إماتة حينئذ، ويصح عكس ذلك؛ أي أن وجود المضارع - مثلاً - يقتضي وجود الماضي، مستعملاً أو مماتاً، ولا يمنع هذا أن نظن ظناً أنّ المضارع والأمر من بعده من الممات، إذا فقدناهما في الاستعمال ووجدنا ماضيهما؛ لأن الكثير الغالب في لغة العرب أن يكون للفعل في الاستعمال تصريفات ثلاثة: الماضي والمضارع والأمر، فنحمل القليل مما قصّرت تصريفاته على الكثير مما كملت تصريفاته أي أزمنته الثلاثة.(39/264)
واحتمالات الإماتة في هذا كلّه على النّحو التّالي:
1- إماتة الماضي دون غيره.
2- إماتة المضارع دون غيره.
3- إماتة الأمر دون غيره.
4- إماتة الماضي والمضارع دون الأمر.
5- إماتة الماضي والأمر دون المضارع.
6- إماتة المضارع والأمر دون الماضي.
وفيما يلي ما وقفت عليه ممّا أميت من هذه الأوجه الستة:
أ - إماتة الماضي دون غيره:
اشتهر عند اللّغويين والنّحاة قولهم إن العرب أماتت ماضي الفعل (يَدَعُ) وكذلك ماضي (يَذَرُ) استغناء عنهما بـ (تَرَكَ) [190] وهم يقولون: ذر ذا ودعه؛ أي: اتركه، كما يقولون: يذره ويدعه، ولا يقولون: وَذَرْتُهُ ولا وَدَعْتُهُ، ولكن تركته، ولا يقولون: واذرٌ ولا وادع ولكن تارك [191] ؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُوْنَ أَزْوَاجاً} [192] و {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتُرُوْن} [193] .
واستعملوا (فعّل) من (وَدَعَ) قالوا: ودّعته، وفي القرآن {مَا وَدَّعَكَ رُبُّكَ وَمَا قَلَى} [194] .
ولم يكن حكمهم بإماتة الفعل (وَدَعَ) محلّ اتفاق عند النّحاة؛ لورود هذا الفعل في قراءة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعروة بن الزُّبير وأبي حَيْوَة وابن أبي عبلة {مَا وَدَّعَكَ رُبُّكَ وَمَا قَلَى} [195] .
ولوروده في الشّعر، كقول أبي الأسود:
لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي مَا الَّذي
غَالَهُ في الحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ [196]
وقول الآخر:
وثُمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وعَامِر
فَرَائِسَ أَطْرَافِ المُثَقَّفَةِ السُّمْرِ [197]
وجاء المصدر من (وَدَعَ) في الحديث: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعات" [198] وروي "الجماعات" [199] .
وقد روي عن شمر قوله: "زعمت النّحويّة أنّ العرب أماتوا مصدر يدع، والنّبيّ عليه السّلام أفصح العرب، وقد رويت عنه هذه الكلمة " [200] .(39/265)
ولورود هذا الفعل في القرآن والحديث والشّعر قال الفيّوميّ: "وما هذه سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال ولا يجوز القول بالإماتة " [201] .
وأرى أنّ ما قاله النّحاة صحيح، فالماضي من هذا الفعل ممات، كما قالوا، وقد يظهر الممات في الاستعمال، على قلة، كما ظهر هذا الفعل في قراءةٍ وشعرٍ وحديثٍ؛ فيكون هذا من باب إحياء الممات عند الحاجة، كما سيأتي بيانه في الباب الرابع.
أمّا ماضي الفعل الآخر (وَذَرَ) فهو من الممات عند أكثر اللّغوييّن، فلا يقال: وذرته، ولكن يقال يذرُ وذَرْهُ، قال الخليل: "والعرب أماتت المصدر من يَذَرُ والفعل الماضي، واستعملته في الحاضر والأمر، فإذا أرادوا المصدر قالوا: ذَرْهُ تركاً، أي اتركه " [202] .
ويرى بعضهم أنّه قد يستعمل على قلّة، قال الفيّوميّ: "وربّما استعمل الماضي على قلّة، ولا يستعمل منه اسم فاعل " [203] .
ب - إماتة المضارع دون غيره:
أي أن يستعمل الماضي والأمر ويمات المضارع، ولم أجد لهذا النّوع شاهداً، وسبب ذلك فيما أرى أنّ استعمال فعل الأمر يقتضي - في الغالب - استعمال الفعل المضارع؛ لأنّ الأمر مقتطع من المضارع المجزوم بحذف حرف المضارعة، فثمّة تلازم بين المضارع والأمر، وقد يمات المضارع إذا أميت الماضي، فتكون الإماتة حينئذ للمضارع والماضي معاً، كما سيأتي في الفقرة (د) .
جـ – إماتة الأمر دون غيره:
أُميت الأمر - فيما نقدّر - في بعض الأفعال، نحو مازال وأخواتها، وهنّ أربعة: زال وفتئ وبرح وانفكّ، ويشترط في عملهنّ النّفي [204] .
قال الأزهريّ: "يقال: مازال يفعل كذا وكذا، ولا يزال يفعل كذا؛ كقولك ما برح، وما فتئ، وما انفكّ، ومضارعه: لا يزال؛ ولا يُتكلّم به إلا بحرف نفي " [205] .
ولا يستعمل منه فعل الأمر، وكذلك في أخواتها: ما فتئ وما برح وما انفكّ [206] ، ولعلّ فعل الأمر من هذه الأفعال من الممات.(39/266)
وأميت الأمر في بعض أفعال المقاربة نحو كادَ وأَوْشَكَ على الصّحيح، [207] أو الرجح، حكى الجوهريّ مضارع طَفِقَ، قال: "طَفِقَ يفعل كذا يطفَق طفوقاً ... وقال بعضهم طفَقَ - بالفتح - يطفِق طفوقاً " [208] وحكى الكسائيّ مضارع جعل [209] .
ويعمل الماضي والمضارع من هذه الأفعال، نحو كاد ويكاد، وأوشك ويوشك وطَفِق يطفِقُ وجعل يجعل، تقول مثلاً: يَطفِق الحجيجُ يعود إلى بلاده، ولم يستعمل الأمر من هذه الأفعال فقد يكون مهملاً من الأصل، وقد يكون مماتاً.
د - إماتة الماضي والمضارع دون الأمر:
أميت الماضي والمضارع من قولهم: هَاتَى يُهَاتِي، وبقى منه الأمر، وهو: هاتِ، قال الخليل: "المُهاتاة من قولك: هاتِ، يقال: اشتقاقه منه هاتى، الهاء فيه أصليّة، ويقال: بل الهاء في موضع قطع الألف من آتي يؤاتي، ولكن العرب أماتوا كلّ شيء من فعلها إلا هاتِ في الأمر، وقد جاء قوله:
لله ما يُعْطِي وما يُهَاتِي
أي: ما يأخذ " [210] .
ومثل ذلك في "التهذيب " [211] و"اللّسان " [212] .
ومنه في القرآن: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم} [213] .
وقيل: إن (هاتِ) اسم فعل، كما سيأتي بعد قليل.
وقالوا في النّداء: تعالَ؛ أي: اعلّ، ولا يستعمل في غير الأمر [214] ، وهو بمعنى الارتفاع، قال عز وجل {فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنا وَأَبْنَاءَكم ونِسَاءَنا ونِسَاءَكم وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُم ثمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِين} [215] .
والأصل في هذا الفعل أنه من مادة (العلو) من التّعالي، بمعنى الارتفاع وعلى هذا فإنّ وزن تعالَ: (تفاعَ) حذفت لامه للجزم.
والعرب تقول في النّداء للرّجل: تعالَ أو تعالَه - بها السّكت، وللاثنين: تعاليا، وللرّجال: تعالَوا، وللمرأة تعالَيْ، وللنّساء: تعالَينَ، وهم لا يبالون إن كان المدعو في مكان أعلى من مكان الدّاعي، أو في مكان دونه [216] .(39/267)
قال الخليل: "وأماتوا هذا الفعل سوى النداء" [217] يعني سوى الأمر، وفي هذا نظر؛ فقد جاء الماضي من هذا الفعل في القرآن بكثرة كقوله عز وجلّ {تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [218] و {تَعَالى عَمّا يَقُولُون عُلُوّاً كبيراً} [219] وقوله {عُلُواً} ليس مصدر (تعالى) .
و (هات) و (تعالَ) فعلا أمر على الرّاجح؛ لأن اسم الفعل لا تبرز فيه ضمائر الرّفع على مذهب الجمهور، فلماّ برزت هذه الضمائر معهما دلّ ذلك على أنّهما ليسا من أسماء الأفعال، وقد عدّهما بعض العلماء من أسماء الأفعال، قال ابن هشام: "وأما هاتِ وتَعالَ فعدّهما جماعة من النّحويين في أسماء الأفعال، والصّواب أنّهما فعلا أمر، بدليل أنّهما دالان على الطّلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، تقول: هاتِي وتعالَيْ " [220] .
ويلحق بهذين الفعلين (هَلُمَّ) على لغة بني تميم إذ تلحقها الضّمائر البارزة، بحسب ما أسندت إليه، فتقول: هَلُمَّ، وهلمّا، وهلمّوا، وهَلْمُمْنَ، بفكّ الإدغام وسكون الّلام، وهَلُمِّي، وهي عند هؤلاء فعل أمر لدلالتها على الطلب وقبولها ياء المخاطبة، وقد أميت ماضيها ومضارعها [221] .
وهي اسم فعل على لغة من ألزمها طريقة واحدة مع الواحد والمثنّى والجمع، وهي لغة أهل الحجاز، وبها جاء التّنزيل، قال تعالى: {والقَائِلِينَ لإِخْوَانِهم هَلُمَّ إِلينَا} [222] أي: ائتوا إلينا.
هـ – إماتة الماضي والأمر دون المضارع:
(يَهِيط) مضارع لا ماضي له ولا أمر، قال ابن القطّاع: "وما زال يهيط مرة ويميط أخرى، لا ماضي ليهيط، والهياط: الصياح منه، والمياط الدّفاع " [223] .
وفي "اللّسان " [224] : "ما زال منذ اليوم يَهيط هيطاً، وما زال في هيط وميط وهياط ومياط؛ أي في ضجاج وشرّ وجلبة ... وقد أميت فعل الهياط" أي: أميت الفعل الماضي.
ومن هذا قولهم: ينبغي له أن يفعل كذا، قال تعالى: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا(39/268)
يَنْبَغِي لَهُ} [225] وهو ملازم لهذه الصّيغة، أي: أميت ماضيه وأمره، وحكى اللّحياني: انبغى [226] .
وذكر بعض الباحثين المعاصرين أنّ قول بعض النّحويين: "انبغى لفلان أن يفعل، أي صلح له أن يفعل؛ من قبيل الأمثلة المصنوعة، فليس له نظير في قديم فصيح يحتج به عليه، ولو أنّهم وجدوا شيئاً من ذلك ما تركوه، ومن هنا كان هذا الفعل الماضي مما حُذقت فيه الصنعة، وهوشيء مهجور " [227] أي ممات.
و إماتة المضارع والأمر دون الماضي:
أميت المضارع والأمر من بعض الأفعال الّتي ترفع المبتدأ اسماً لها وتنصب الخبر، مثل ليس ودامَ، قال ابن مالك: "وما سوى ليس ودام من أفعال هذا الباب يتصرّف؛ أي: يستعمل منه ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ومصدر، إلا أنّ الأمر لا يتأتّى صوغه من ملازمات النّفي " [228] .
وثمّة خلاف في إماتة المضارع من (دام) ومذهب الفرّاء وكثير من النّحاة أنّها لا تتصرّف، فلا تستعمل إلا بلفظ الماضي [229] .
ولازمت أفعال المقاربة لفظ الماضي إلا (كاد) و (أوشك) عند الجمهور [230] و (طفق) عند الجوهري - كما تقدم.
ومن أقدم من نصّ على إماتة المضارع والأمر في الفعل (عسى) الخليلُ، إذ قال: "ويستعمل منه الفعل الماضي، فيقال،: عسيت وعيسنا وعسوا وعسيا وعسين - لغة - وأميت ما سواه من وجوه الفعل، لا يقال يفعل ولا فاعل، ولا مفعول " [231] .
ومرة أخرى أذكّر بأنّ المضارع والأمر فرع، والماضي أصل، واستعمال الأصل دون الفرع لا يعني بالضّرورة إماتة الفرع - أي المضارع والأمر- إنّما نأخذه بالقياس على الكثير، وبقول العلماء، فنقول فيه بالإماتة، من غير قطع به، ولهذا قال الرّافعي في حديثه عن بعض الألفاظ المماتة: "ومن ذلك (ليس) الفعل الناقص؛ فإن بعضهم يظنّ مضارعه وأمره من الأفعال المماتة " [232] .
الفصل الخامس
أفعال مبنية للمجهول أميت المبني للمعلوم منها(39/269)
في العربية أفعال لازمت صيغة البناء للمجهول سماعاً، بعضها مجرّد وبعضها مزيد، وقد ذكر النّحاة أنّ المبني للمعلوم منها لم تستعمله العرب، أي: أنّه أميت استغناء بصيغة المبني للمجهول، مثل: سُلَّ وزُكم وجُنَّ ودُهِشَ وشُدِهَ وأُوْلِعَ به واستُهْتِر به، وأُغْرِمَ به.
ولمّا كانت صيغة المبني للمجهول صيغة فرعية، محوّلة من الصيغة الأصليّة، وهو المبني للمعلوم، فقد تبيّن أنّ فقد هذه الصّيغة الأصليّة - مع وجود الصّيغة الفرعيّة المحوّلة عنها - دليل على إماتة تلك الصّيغة الأصلية.
ومن أقدم من عقد لهذه الأفعال باباً، وأشار إلى إماتة أصولها، المبنيّة للمعلوم: سيبويه، إذ قال: "هذا باب ما جاء فُعِلَ منه على غير فَعَلْتُه، وذلك نحو: جُنَّ وسُلَّ وزُكم ووُرِد، وعلى ذلك قالوا: مجنون ومسلول مزكوم ومحموم مورود.
وإنّما جاءت هذه الأفعال على جَنَنته وسَلَلته وإن لم يستعمل في الكلام، كما أنّ يَدَعَ على وَدَعْتُ ويَذَرُ على وَذَرْت ُ وإن لم يستعملا، استغنى عنهما بتركت، واستغنى عن قَطِعَ بقُطِع، وكذلك استغنى عن جَنَنْتُ ونحوها بأفعلت، فإذا قالوا: جُنَّ وسُلّ فإنّما يقولون جُعل فيه الجنون والسِّل " [233] .
وذكر ثعلب [234] طائفة من هذه الأفعال، وأشار إلى أنَّها لا تبني للمعلوم، وتبعه جماعة من العلماء، كابن قتيبة [235] ، والسّيوطيّ [236] ، وأفردها بعض المتأخّرين بتأليف مستقلّ جمع فيه متفرّقها، ومن هؤلاء: ابن أبي السّعود بن ظهيرة القرشيّ المخزوميّ المكّيّ "من علماء القرن العاشر" في "المنهل المأهول في الفعل المبني للمجهول" وابن علان الصّدّيقي (1057هـ) في "اتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل".
وهذه الأفعال من حيث الإماتة والإحياء على نوعين:(39/270)
أحدهما: ما لازم صيغة المجهول، نحو حُمَّ الأمر، بمعنى قضي، وحُمَّ الرّجل بمعنى أصابته الحمَّى، وسُلَّ: أصيب بذات الرّئة، وامتُقِعَ لونه؛ أي: تغَيّر، من حزن أو فزع، وهذا النّوع هو الّذي أميت أصله المبني للمعلوم، وأمثلته كثيرة مذكورة في الكتابين المشار إليهما آنفاً، ولا حاجة إلى سردها هنا.
والآخر: ما جاء على صيغتي المعلوم والمجهول معاً، ولكن استعماله على صيغة المجهول أكثر، نحو بُهت الرّجل؛ أي: تحيّر، وزُهِيَ علينا؛ أي: تكبّر، ونُفِسَت المرأة؛ أي: وضعت حملها، وما شابه ذلك، وليس المبني للمعلوم - من هذا النّوع الثّاني - من الممات، لاستعماله.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف 1/235، 245، وأسرار العربية 171، وائتلاف النصرة 111.
[2] الخلاف بين النحويين 204.
[3] تاريخ اللغات السامية 14،15.
[4] الجمهرة 1/285.
[5] ينظر: اللسان (بحن) 13/46.
[6] صوابي في تقدير ضبط عين الفعل الماضي والمضارع في هذا النوع أو خطئي فيه ليس له تأثير على إماتة الفعل، فهذا التقدير من لزوم ما لا يلزم في هذا البحث، حملني عليه رجاء الفائدة - إن شاء الله -.
[7] التهذيب 11/310.
[8] أي أميت الفعل.
[9] الجمهرة 1/384.
[10] المصدر السابق 1/421.
[11] ينظر: اللسان (ثعر) 4/102.
[12] الجمهرة 2/1110.
[13] التاج (جعثب) 1/183.
[14] الأفعال 1/394.
[15] 1/385.
[16] (حتد) 3/139.
[17] (حتد) 2/330.
[18] 1/435.
[19] 213.
[20] الجمهرة 1/551.
[21] ينظر: اللسان (حمط) 6/276.
[22] ينظر: التاج (حمط) 5/121.
[23] ينظر: التهذيب 4/401.
[24] التهذيب 7/325.
[25] الجمهرة 1/501.(39/271)
[26] ينظر: الجمهرة 2/655، 1177، والقاموس (دفص) 799.
[27] الجمهرة 2/637.
[28] ينظر: التكملة والذيل والصلة (ردك) 5/201.
[29] ينظر: القاموس (ردك) 1214.
[30] ينظر: التاج (ردك) 7/135.
[31] ينظر: الخصائص 3/203.
[32] الجمهرة 2/815.
[33] المصدر السابق 2/1142.
[34] المصدر السابق 2/1148.
[35] الجمهرة 2/722.
[36] المصدر السابق 2/853.
[37] المصدر السابق 2/812.
[38] الأفعال 2/274.
[39] ينظر: التاج (ضعز) 4/46.
[40] الجمهرة 2/833.
[41] اللسان (ضعرس) 6/120.
[42] (ضعرس) 713.
[43] ينظر: اللسان (طهش) 6/312.
[44] ينظر: الجمهرة 2/868، والتكملة والذيل والصلة (طهش) 3/487، والتاج (طهش) 4/320.
[45] الجمهرة 1/400.
[46] ينظر: التكملة والذيل والصلة (عتص) 4/19.
[47] ينظر: القاموس (عتص) 803.
[48] ينظر: التاج (عتص) 4/405.
[49] ينظر: الجمهرة 2/1158.
[50] ينظر: اللسان (عظر) 4/583.
[51] المصدر السابق (عقز) 5/380.
[52] ينظر: التّاج (عقز) 4/59.
[53] ينظر: اللسان (عقس) 6/144.
[54] الجمهرة 2/840.
[55] العين 2/215.
[56] ينظر: التهذيب 3/118.
[57] المصدر السابق 2/954.
[58] المصدر السابق 2/835.
[59] ينظر: القاموس (فلم) 1479.
[60] الجمهرة 2/970.
[61] الجمهرة 2/675.
[62] ينظر: العين 1/170.
[63] اللسان (قلط) 7/385.
[64] ينظر: الجمهرة 2/923.
[65] المصدر السابق 2/793.
[66] المصدر السابق 1/620.
[67] ينظر: التكملة والذيل والصلة (لخم) 6/145، والقاموس (لخم) 1494، والتاج (لخم) 9/58.
[68] ينظر: الجمهرة 2/711.
[69] ينظر: التكملة (نرز) 3/305.
[70] ينظر: اللسان (نرز) 5/416.
[71] ينظر: التاج (نرز) 4/85.(39/272)
[72] ينظر: الجمهرة 2/971.
[73] ينظر: العباب (هلف) 660.
[74] الجمهرة 2/689.
[75] ينظر: الأفعال 4/282.
[76] ينظر: المحكم 4/298.
[77] ينظر: اللسان (وده) 13/560.
[78] الجمهرة 2/702.
[79] ص 158.
[80] اللسان (أبو) 14/8.
[81] القاموس (أمم) 1391.
[82] الأفعال للسرقسطي 1/82.
[83] الجمهرة 2/1016.
[84] ينظر: اللسان (بتأ) 1/26، و (بتو) 14/64.
[85] ينظر: الأفعال لابن القوطية 211، والأفعال للسرقسطي 1/394، والأفعال لابن القطاع 238، واللسان (حظب) 1/323.
[86] ينظر: الجمهرة 1/579.
[87] ينظر: الأفعال لابن القطاع 1/306، واللسان (خفد) 3/163.
[88] العين 4/24.
[89] ينظر: المحيط 3/442.
[90] الأفعال 3/317.
[91] ينظر: اللسان (دره) 13/487، 488.
[92] ينظر: الجمهرة 2/646.
[93] ينظر: الأفعال السّرقطيّ 3/321، واللّسان (دسق) 10/96،97.
[94] ينظر: الجمهرة 2/781.
[95] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 3/77، والأفعال لابن القطاع 2/31، واللّسان (رفع) 8/430.
[96] الجمهرة 2/705.
[97] (زغر) 4/324.
[98] (زغر) 512.
[99] (زغر) 3/238.
[100] ينظر: الأفعال للسّرقطيّ 3/466، والأفعال لابن القطّاع 2/98.
[101] ينظر: الجمهرة 2/855.
[102] ينظر: التهذيب 10/90.
[103] ينظر: اللسان (سكم) 12/289.
[104] ينظر: التاج (سكم) 8/336.
[105] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 3/544، والأفعال لابن القطّاع 2/154.
[106] الجمهرة 2/751.
[107] ينظر: الصّحاج (ضرك) 4/1598.
[108] 2/233.
[109] 2/276.
[110] الجمهرة 2/697.
[111] ينظر: اللسان (عذف) 9/236.
[112] ينظر: الجمهرة 2/651.
[113] ينظر: الأفعال لابن القطاع 2/383، واللسان (عشد) 3/291، والتاج (عشد) 2/423.(39/273)
[114] الجمهرة 2/811.
[115] الأفعال 1/261.
[116] ينظر: اللسان (عشز) 5/379، والقاموس (عشز) 665، والتاج (عشز) 4/59.
[117] ينظر: الجمهرة 2/662.
[118] ينظر: اللسان (علد) 3/301، والقاموس (علد) 384، والتاج (علد) 2/430.
[119] الجمهرة 2/633.
[120] ينظر: اللّسان (غرد) 3/324، والقاموس (غرد) 388.
[121] ينظر: الجمهرة 2/754.
[122] اللسان (غطر) 5/25.
[123] 2/31.
[124] ينظر: الجمهرة 2/721.
[125] الأفعال 4/184.
[126] 5/183 (مسر)
[127] ينظر: الجمهرة 2/931.
[128] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 4/177، والأفعال لابن القطّاع 3/177، واللّسان (مظع) 8/339.
[129] الجمهرة 2/972.
[130] الأفعال 3/227، وينظر: الأفعال لابن القطاع 3/221.
[131] ينظر: الأفعال للسرقسطي 3/236، واللسان (نيح) 2/628.
[132] ينظر: النهاية في غريب الحديث 4/140.
[133] الجمهرة 2/651.
[134] ينظر: الأفعال للسرقسطي 1/163، واللسان (هدس) 6/247.
[135] ينظر: جمهرة 2/963.
[136] ينظر: التهذيب 5/289.
[137] ينظر: الجمهرة 1/552.
[138] (وطح) 2/548.
[139] (وطح) 2/1463.
[140] الكتاب 4/67.
[141] ينظر: الجمهرة 1/148.
[142] الجمهرة 1/429.
[143] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 2/21.
[144] شرح القصائد المشهورات 2/11.
[145] إعراب القرآن 1/367، وما بين المعقوفين تصويب من المصادر. ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 7/137، ومغنى اللبيب 473، وشرح شواهد المغني 2/780.
[146] ينظر: شرح القصائد المشهورات 2/11.
[147] ينظر: الجمهرة 1/551.
[148] ينظر: المخصص 15/68، 69.
[149] الأفعال للسرقسطي 4/294.
[150] التهذيب 14/420.
[151] ينظرك حاشية الشيخ ياسين الحمصي على التصريح 1/264.(39/274)
[152] ينظر: الجمهرة 1/549، والتكملة والذيل والصلة (ضيح) 2/69، واللسان (ضيح) 2/527.
[153] ينظر: التكملة (ضيح) 2/69.
[154] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 4/291 واللّسان (أرخ) 2/4، و (ورخ) 2/66.
[155] ينظر: التطور اللّغويّ مظاهره وعلله 82.
[156] ينظر: اللّسان (دلس) 6/86.
[157] ينظر: الجمهرة 2/647.
[158] ينظر: الأفعال لابن القطّاع 1/355.
[159] الجمهرة 2/970.
[160] ينظر: العباب (كهف) 557.
[161] ينظر: القاموس (كهف) 1101.
[162] ينظر: التّاج (كهف) 6/241.
[163] ينظر: الجمهرة 2/802.
[164] ينظر: المصدر السابق 2/853، والأفعال للسّرقسطيّ 2/130.
[165] ينظر: اللّسان (قعل) 11/560.
[166] ينظر: الجمهرة 2/940.
[167] الجمهرة 2/702.
[168] ينظر: الأفعال للسّرقسطيّ 1/324.
[169] ينظر: الجمهرة 2/1149.
[170] ينظر: التّكملة والذّيل والصّلة (طوس) 3/380.
[171] ينظر: الأفعال 3/286.
[172] ينظر: الجمهرة 2/838.
[173] المصدر السابق 2/711.
[174] المصدر السابق 1/563.
[175] (لحك) 10/483.
[176] (لحك) 7/173.
[177] التاج (عكث) 1/633.
[178] ينظر: الجمهرة 1/426، والتكملة (عكث) 1/373، والقاموس (عنكث) 221.
[179] الكتاب 4/33.
[180] ينظر: الجمهرة 1/572.
[181] الأفعال 4/187.
[182] ينظر: الجمهرة 2/753.
[183] الكتاب 4/36.
[184] (نوك) 10/501.
[185] 3/169.
[186] ينظر: الجمهرة 2/1142.
[187] ينظر: الجمهرة 2/1155.
[188] ينظر: اللسان (زمهل) 11/312.
[189] الكتاب 4/26.
[190] ينظر: الكتاب 1/25، 4/399، والفصيح 289، والمسائل العسكرية 135، 136، وتصحيح الفصيح 127 أ، والمغرب 2/345.
[191] ينظر: إسفار الفصيح 203، 204.(39/275)
[192] سورة البقرة: الآية 234.
[193] سورة الأنعام الآية 112.
[194] سورة الضحى: الآية 3.
[195] سورة الضحى: الآية 3، وينظر: المحتسب 2/364، ومختصر في شواذ القرآن 175، والدر المصون 11/36.
[196] ينظر: ديوان أبي الأسود (ملحق الديوان) 350، والخصائص 1/99، والإنصاف 2/485. ونسب لأنس بن زنيم في حماسة البحتري 259، وخزانة الأدب 6/471.
[197] ينظر: البحر المحيط 8/485، والدر المصون 11/36.
[198] ينظر: صحيح مسلم: جمعة 40 (3/10)
[199] ينظر: سنن ابن ماجة: مساجد ح 794 (1/260)
[200] المغرب 2/346.
[201] المصباح (ودع) 653.
[202] العين 8/196.
[203] المصباح (وذر) 654.
[204] ينظر: المساعد 1/255.
[205] التهذيب 13/253.
[206] ينظر: شرح ابن عقيل 1/271.
[207] ينظر: شرح ابن عقيل 1/338، والمغني في تصريف الأفعال 160.
[208] الصحاح (طفق) 4/1517.
[209] ينظر: شرح ابن عقيل 1/341.
[210] العين 4/80.
[211] 6/395.
[212] (هتى) 15/352.
[213] سورة الأنبياء: الآية 24.
[214] ينظر: اللسان (علو) 15/90.
[215] سورة آل عمران: الآية 61.
[216] ينظر: التهذيب 3/189، والزاهر 2/265.
[217] العين 2/247.
[218] سورة النمل: الآية 63.
[219] سورة الإسراء: الآية 43.
[220] شرح قطر الندى 41.
[221] ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 4/44، وشرح قطر الندى 40.
[222] سورة الأحزاب: الآية 18.
[223] الأفعال لابن القطاع 3/366.
[224] (هيط) 7/424.
[225] سورة يس: الآية 69.
[226] ينظر: اللسان (بغى) 14/79.
[227] في شعاب العربية 187.
[228] شرح التسهيل 1/343.
[229] ينظر: الارتشاف 2/79، وشرح ابن عقيل 1/243.
[230] ينظر: شرح التسهيل 1/400، 401.
[231] العين 2/201.(39/276)
[232] تاريخ آداب العرب 1/169.
[233] الكتاب 4/67.
[234] ينظر: الفصيح 269 - 271.
[235] ينظر: أدب الكاتب 401 - 403.
[236] ينظر: المزهر 2/233 - 236.(39/277)
تابع لموت الألفاظ في العربية
الباب الثالث
أسباب إماتة الألفاظ
الفصل الأول: العامل الصوتي
الفصل الثاني: العامل الدلالي
مدخل:
تقوم اللّغة في أصل من أصولها على مبدأ الاختيار والاصطفاء، فتموت ألفاظ فتندثر، وتولد ألفاظ فتحيا وتزدهر، وموت الكلمات نتيجة مباشرة للتطوّر اللّغوي الّذي لا يتوقّف، وهذا التطوّر نتيجة لاستعمال اللّغة وحركتها الدائمة.
وقد تختفي بعض الألفاظ من الاستعمال فتموت لأسباب عديدة، تتّفق في بعضها سائر اللّغات، وتنفرد ببعضها لغات، وللعربيّة أسبابها الخاصّة الّتي أدّت إلى إماتة الألفاظ فيها ممّا حُكِمَ بموته عند تدوينها، وهي ترجع - في الجملة إلى أسباب صوتيّة ومعنويّة، وقد ربط علماء العربيّة القدماء في معرفتهم لفصاحة الكلمة، وشيوعها في الاستعمال، بين عنصرين هامّين من عناصر الكلمة، وهما:
1- العنصر الصّوتيّ.
2- القيمة الدلاليّة.
وهذان العنصران في حقيقة الأمر هما ما يعطيان الحياة للكلمة أو يسلبانها إيّاها فتترك ويستغني عنها ثمّ تموت [1] ، وهما كما يلي:
الفصل الأول
العامل الصوتي
قد تموت الكلمة لسبب داخليّ فيها، وهو ما تشتمل عليه من أصوات، فلا تمتدّ بها الحياة كثيراً كمن ولد مريضاً فلا يلبث أن يموت، وآفة الكلمة أن تتقارب مخارج الحروف فيها، ((فلا يكاد يجيئ في كلام العرب ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لحزونة ذلك على ألسنتهم
وثقله)) [2] وحروف الحلق خاصّة يقلّ اتصالها في الكملة من غير فصل، وأمّا القاف والكاف فلا تجيئ متّصلة في كلام العرب، وندر ائتلاف القاف والجيم أو الكاف والجيم، فلم يأت عنهم: قج ولا جق، ولا كج وجك، ولا قك ولا كق، كلّ ذلك لتجنّب الثّقل الذي يعيق آلة اللسان بسببٍ من تقارب المخارج.
وبالجملة فإنّ تأليف الحروف العربيّة يأتي على ثلاثة أقسام [3] :(39/278)
فالأول: تأليف الحروف المتباعدة، نحو: كتب وجلس ودخل، وهو الأحسن والمختار، هو الكثير في كلام العرب.
والثّاني: تضعيف الحرف نفسه، نحو: عدّ وفكّر، أو تكريره، نحو وسوس وهمهم، وهو يلي القسم الأول في الحسن، وأقل منه في الكثرة والاستعمال.
والثّالث: تأليف الحروف المتجاورة، وهو قليل في كلامهم أو منبوذ في الاستعمال كما تقدّم.
وهذا القليل الّذي قد يقع في كلامهم هو الّذي يكون عرضة للإماتة لثقله، نحو العَهْق، فإن فعله ممات، كما يقول ابن دريد [4] ، لمجاورة الهاء العين، ومثله إماتة الفعل ((عهم)) لتجاور حرفي الحلق [5] ، وقد ندر مجيء الرّاء بعد النّون ولاسيّما إن كانت النّون ساكنة والرّاء متحرّكة، وهذا قليل جدّاً في العربيّة.
وقد جاء في اللّسان [6] : " النّرز: فعل ممات، وهو الاستخفاء، من فزع، وبه سمّي الرجل: نَرْزة ونارزة، ولم يجىء في كلام العرب نون بعدها راء إلا هذا، وليس بصحيح".
وعلّة الإماتة واضحة؛ لأن اللّسان يميل إلى الأسهل في النّطق في العادة؛ ولأنّ الحروف المتباعدة تجري من السّمع مَجرى الألوان من البصر، ولا شكّ في أنّ الألوان المتباينة إذا اجتمعت بان حسنُها لعين النّاظر، بخلاف الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض مع السّواد أحسن منه مع الصّفرة [7] ، واللّغة تميل في أصل من أصول تطوّرها إلى مبدأ الاختيار والاصطفاء، فيترك ما ثقل على الألسن، وينبو عن الأسماع، فيموت.
ومن القواعد الصوتية لبنية الكلمة العربية أن الخماسي لا يخلو من حرف أو أكثر من حروف الذلاقة الستة: الراء واللام والنون والباء والفاء والميم، المجموعة في قولك: ((مربنفل)) .
وكذلك الرباعي غير المضاعف إلا في النادر، وعلة ذلك أن هذه الأحرف خفيفة في اللسان فناسب أن تأتي في الخماسي والرباعي لتعطيهما شيئاً من الخفة.
أما الثلاثي فهو خفيف بعدد حروفه، فلا يجب أن يكون فيه حرف من حروف الذلاقة.(39/279)
فإذا وُجد كلمة خماسية أو رباعية خالية من حروف الذلاقة فإنها تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون دخيلة أو محدثة مبتدعة - كما قال الخليل [8] .
والآخر: أن تكون من بقايا الممات القديم.
قال الخليل: "فلما ذلقت الحروف الستة، ومذل بهنّ اللسان، وسهلت عليه في المنطق كثرت في أبنية الكلام، فليس شيء من بناء الخماسي يعرى منها أو من بعضها ...
فإن وردت عليك كلمة رباعية أوخماسية معرّاة من حروف الذَّلَق أو الشفوية، ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب؛ لأنك لست واجداً من يسمع من كلام العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من حروف الذَّلَق والشفوية واحد واثنان أو أكثر" [9] .
وقال الليث: "قلت: فكيف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غير مشوبة بشيء من هذه الحروف؟ فقال [الخليل] : نحو الكَشَعْثج، والخَضَعثج، والكَشَعْطج، وأشباههنّ، فهذه مولّدات لا تجوز في كلام العرب ...
وأما البناء الرباعي المنبسط فإن الجهور الأعظم منه لا يعرى من الحروف الذُّلْق، أومن بعضها، إلا كلمات نحواً من عشركنّ شواذّ.
ومن هذه الكلمات: العَسْجَد والقَسْطوس والقُداحِس والدُّعشوقة ... " [10] .
ومن الرباعي الذي خلى من حروف الذلاقة: ((تَخْطَعٌ)) وهو اسم ذكره ابن منظور في الرباعي، وقال: "قال ابن دريد: أظنه مصنوعاً، لأنه لم يعرف معناه" [11] .
وقد يكون مماتاً ولذلك لم يعرف معناه.
ومنه: ((العُهْعُخ)) قال الخليل: "سَمِعْتُ كلمة شنعاء لا تجوز في التأليف الرباعي؛ سئل أعرابي عن ناقته فقال: تركتها ترعى العُهْعُخ، فسألنا الثقات من علمائهم فأنكروا أن يكون هذا الاسم من كلام العرب. وقال الفذّ منهم: هي شجرة يُتداوى بورقها.
وقال أعرابيّ: إنما هو الخُعْخُع، وهذا موافق لقياس العربية" [12] .(39/280)
ومنه ((القُداحِسُ)) وهو الشّجاع أو السيّء الخلق أو الأسد - كما يقول صاحب ((القاموس)) [13] .
ومهما يكن من أمر فإن كلماتٍ من هذا النوع الذي خلا من حروف الذلاقة لا يكتب لها البقاء في العربية؛ لأنها ثقيلة فتهجر وتموت، وقد لا تعرف، ولعل هذه الألفاظ النادرة التي رواها بعض العلماء هي من بقايا ممات غير قليل، وهذه الألفاظ القليلة المروية معرضة للهجر والإماتة أكثر من غيرها.
الفصل الثاني
العامل الدلاليّ
الدّلالة عنصر فعّال فيما يتّصل بإماتة الألفاظ، وإليها يعود موت كثير من الألفاظ المشهورة في العربيّة، وللإماتة هنا عدّة أسباب، ومن أهمّها:
1 - زوال المعنى.
2 - الاستغناء.
3 - العامل الديني.
4 - العامل الاجتماعي.
وهي على النحو التالي:
المبحث الأول: زوال المعنى:
قد يزول معنى الكلمة وليس لها معانٍ أخرى تتشبّث بها، فتموت؛ لتفريغها من محتواها الّذي هو سرّ بقائها، وقد أشار إلى ذلك ابن فارس في قوله: "ومن الأسماء الّتي كانت فزالت بزوال معانيها قولهم: المرباع، والنّشيطة والفضول ... " [14] .
وقال الجاحظ: "قال أبو عبيدة معمر بن المثنى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النّحوي حين أنشده شعر الأسدي:
ومركضةٌ صَرِيحيٌّ أَبُوهَا
تُهَانُ لَهَا الغُلامَةُ والغُلامُ
قال: فقلت له: فتقول للجارية: غلامة؟ قال: لا، هذا من الكلام المتروك، وأسماؤه زالت مع زوال معانيها؛ كالمرباع والنّشيطة… " [15] .
وقد قضى الإسلام على كثير من الكلمات الدّالّة على نظم جاهليّة، كالمِرْبَاع والصَّرورة والنَّوَافج والحُلْوَان والمَكْسُ، وغيرها، فماتت تلك الكلمات؛ لأنّ الإسلام غير من القيم الفكرية والاجتماعيّة الّتي كانت سائدة في الجاهليّة.(39/281)
ولا مبرّر لوجود الكلمة في اللّغة عند ما لا تقول للعقل شيئاً، فإنّ اللّغة تهملها، كما يقول درمستيتر (Darmesteter) [16] .
وهكذا تتخلّص اللّغة من الألفاظ الّتي لم تعد كافية للتّعبير عن المعنى الّذي يناط بها؛ لأنّها ضعفت أو بليت [17] .
المبحث الثاني: الاستغناء
قد يؤدّي التّرادف إلى ترك بعض الألفاظ استغناء بمرادف لها؛ لأنّه يؤدّي معناها، فتموت الألفاظ المتروكة، قال سيبويه: "وأمّا استغناؤهم بالشّيء عن الشّيء فإنّهم يقولون: يَدَعُ، ولا يقولون: وَدَعَ، استغنوا عنها بترك، وأشباه ذلك كثير " [18] وقد استغنوا باشتدّ عن شَدُدَ [19] ، وباحمارّ عن حِمِرَ [20] وباستنوك عن نوك [21] .
وقال ابن الأنباريّ: "استغنوا عن وَدَعَ بترك؛ لأنّه في معناه، وكذلك استغنوا به عن وَذَرَ " [22] .
وقال ابن جنّي في تركهم بعض المصادر: "يقال: نَذِرْتُ بالشّيء؛ إذا علمت به فاستعددت له، فهو في معنى فهمته وعلمت به، وطَبِنْتُ له، وفي وزن ذلك، ولم تستعمل العرب لقولهم نذرت بالشيء مصدراً، كأنّه من الفروع المهجورة الأصول. ومنه ((عسى)) لا مصدر لها، وكذلك ((ليس)) .
وكأنّهم استغنوا عنه بأنْ والفعل، نحو: سرّني أن نَذِرْت بالشيء، ويسرّني أن تَنْذَر به" [23] .
وقد يُمات الفعل المجرّد استغناء بمزيده، قال ابن دريد: " واللّحَك من قولهم: لَحِكَ يلحَك لَحْكاً، إذا تداخل بعضه في بعض، وقد أميت هذا الفعل فاكتفوا بقولهم: تلاحك تلاحكاً " [24] .
المبحث الثالث: العامل الديني(39/282)
كان العرب على إرث من إرث آبائهم في لغتهم وآدابهم ونسائكهم وقاربينهم -كما يقول ابن فارس [25]- فلمّا جاء الإسلام حالت أحوال، ونقلت دلالات، وأميتت ألفاظ كره العرب النّطق بها في الإسلام؛ لأنّه نهى عنها للمدلول الّذي تحمله، قال عزّوجلّ: {يَا أَيُّها الَّذِين آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا} [26] وقد قيل: "إنّ (راعنا) كلمة كانت تجري مجرى الهزء فنهى المسلمون أن يلفظوا بها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنّ اليهود - لعنهم الله - كانوا اغتنموها فكانوا يسبّون بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهم، ويتسترون من ذلك بظاهر المراعاة منها، فأمروا أن يخاطبوه بالتّعزيز والتّوقير " [27] .
وقال ابن تيمية: "ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال قتادة وغيره: "كانت اليهود تقوله استهزاء؛ فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم".
وقال أيضاً: "كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سَمْعَك، يستهزؤون بذلك. وكانت في اليهود قبيحة".
ورى أحمد عن عطية العوفي قال: قال: كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: "راعنا سَمْعَك، حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود". وقال عطاء: "كانت لغة في الأنصار في الجاهلية".
وقال أبو العالية: "إن مشركي العرب كانوا إذا حَدَّت بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه: راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك. فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نُهِي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها، وإن كانت من اليهود قبيحة، ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وطريقهم إلى بلوغ غرضهم" [28] .(39/283)
ومن ذلك أنّهم أماتوا كلمة ((العَتِيرة)) وهي شاة كانت تذبح في الجاهليّة في رجب يتقرّب بها، ثمّ نسخت العتيرة بالأضاحي [29] ، وقيل إنّ العتيرة هي الشّاة الّتي كانت تذبح في الجاهليّة وتقدّم للأصنام، فيصبّ دمها على رأسها [30] .
ومن ذلك ((الصّرورة)) روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا صرورة في الإسلام " [31] وهو التّبتّل في الإسلام، وأصل الصّرورة أنّ الرّجل في الجاهليّة كان إذا أحدث حدثاً فلجأ إلى الحرم لم يُهَجْ، وكان إذا لقيه وليّ الدّم في الحرم قيل له: هو صرورة، فلا تَهُجه، ثم كَثُر ذلك في كلامهم حتّى جعلوا المتعبّد الّذي يتجنّب النّساء: صرورة، وصرورياً [32] ، كما تقدم في الباب الأول.
وللرّافعيّ تعليل في إماتة الإسلام هذا النّوع من الألفاظ، وهو أنّهم كرهوا النّطق بها في الإسلام لخوفهم على العرب أن يعودوا في شيء من أمر الجاهليّة، فمنعوهم من الكلام الّذي فيه أدنى متعلّق [33] .
المبحث الرابع: العامل الاجتماعي
قد تنحطّ دلالة الكلمة فتدلّ مباشرة على ما يستقبح ذكره، كدلالتها الصّريحة على قذارة أو نجس، أو عضو تناسليّ، أو غريزة جنسيّة، فيكون ذلك إيذاناً بتركها ثمّ موتها، فيبحث المجتمع عن كلمة أخرى ليس فيها ذلك المعنى المباشر، أو يلجأ إلى الكناية، ثم تستخدم الكلمة، فتحمل مع كثرة الاستعمال ما تحملته سابقتها، ومن ذلك كلمة ((الغائط)) مثلاً، فإنّها كناية عن ذلك الشّيء في أصل الاستعمال اللّغوي، ومعناها اللّغويّ القديم المكان المنخفظ.
ويمكن القول: إن الأسباب الاجتماعية ((واضحة جداً في تغيّر الكلمات مراعاة للّياقة، إذ ليس من الّلائق أن يتكلّم في أحد المجتمعات عن أفعال معروفة بالفظاظة، أو بأنّها مما يجرح الحياء)) [34] .(39/284)
ويصل الحال إلى التّضييق من دائرة المفردات حتّى لا يتكلّم النّاس إلا تلميحاً أو بالكناية كما يحدث عادة في ألفاظ النّكاح، وهو ما يفسّر كثرتها؛ لأنّ النّاس يلجؤون [35] إلى ترك الكلمة لمجرد ما يتعلق بها ذلك المعنى، وعلى هذا ماتت كثير من الألفاظ في العربيّة، ورصدت المعاجم بعضه مع أنّه متروك في الاستعمال اللّغويّ الرّاقيّ، والأمثلة على ذلك معروفة.
وقد يكون للكلمة مدلول اجتماعي مكروه، لا يليق بمكانة الإنسان، ومن ذلك ما روي عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - وقد جاءه قوم من العرب، فسألهم - عليه السّلام - فقال: "من أنتم" فقالوا: "بنو غيّان"، فقال: "بل أنتم بنو رِشْدان" [36] .
وعلّة ذلك ظاهرة، وهي أنّ غيّان من الغيّ؛ فكره لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاسم، لما يحمل في طياته من دلالة اجتماعية غير مرغوبة؛ فأمر بتركه وإماتته.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ينظر: المولد في العربية 144.
[2] سر الفصاحة 57.
[3] ينظر: المصدر السابق 58.
[4] ينظر: الجمهرة 2/945.
[5] المصدر السابق 2/954.
[6] (نرز) 5/416.
[7] ينظر: سرّ الفصاحة 64.
[8] ينظر: العين 1/52.
[9] الصاحبي المصدر السابق 1/52.
[10] العين 1/52، 53.
[11] اللسان (تخطع) 8/32.
[12] العين 2/274.
[13] مادة: (قدحس) 728.
[14] الصاحبي 102.
[15] الحيوان 1/329، 330.
[16] ينظر: المولد في العربية 218.
[17] ينظر: اللغة لفندريس 272.
[18] الكتاب 1/25.
[19] المصدر السابق 4/33.
[20] المصدر السابق 4/33.
[21] المصدر السابق 4/36.
[22] الإنصاف 2/485.
[23] المحتسب 1/367.
[24] الجمهرة 1/563.
[25] ينظر: الصاحبي 78.(39/285)
[26] سورة البقرة: الآية 104.
[27] التهذيب 2/341.
[28] اقتضاء الصراط المستقيم 45، 46.
[29] ينظر: الجمهرة 1/392.
[30] ينظر: النهاية 3/178.
[31] ينظر: سنن أبي دواد 2/141، وكنز العمال 3/658.
[32] ينظر الصاحبي 104.
[33] ينظر: تاريخ آداب العرب 1/209.
[34] اللغة، لفندريس 280.
[35] وتكتب أيضاً: يلجأون، وكتابة الهمزة – هنا - على الواو يرجحها كثير من العلماء. ينظر: الإملاء والترقيم 121، والهمزة في الإملاء العربي 37.
[36] ينظر: المبهج 35، والمناهي اللّفظية 252.(39/286)
العدد 108
فهرس المحتويات
1-مقدمة العدد: مدير الجامعة الإسلامية د. صالح بن عبد الله العبود
2- الملك عبد العزيز آل سعود وفقه الدعوة: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
3- الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله: د/ عوض بن أحمد بن سلطان الشهري
... تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز ... (1)
... تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز ... (2)
... تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز ... (3)
4- أثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية: د. حمود بن أحمد الرحيلي
... تابع لأثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية (1)
... تابع لأثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية (2)
5- أصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز وأثر ذلك في الاستقرار الشامل للمملكة العربية السعودية: د/ عبد الرب بن نواب الدين بن غريب الدين آل نواب
... تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز ... (1)
... تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز ... (2)
6- جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن وأثره في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره: الدكتور / عبد الرحيم بن محمد المغذوي
... تابع لجهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن
7- الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -
الدكتور عبد العزيز محمد نورولي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(39/287)
مقدمة العدد
تقديم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والرسل، لا نبي بعده ولا رسول، بعثه الله إلى الناس كافة، ينذرهم عن الشرك ووسائله وأسبابه، وعن البدع والخرافات والتفرق واتباع الأهواء، ويدعوهم إلى التوحيد وتحقيقه، واتباع السنة والاعتصام بحبل الله جميعاً، ولزوم الجماعة، والتعاون على البر والتقوى، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، ثم توفاه الله إليه، وأبقى دينه، وافترض طاعته على الجن والإنس، إلى يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(39/288)
فإنه يسرني أن أقدم، بهذا التمهيد، هذا العدد الخاص من مجلة الجامعة الإسلامية؛ المجلة العلمية المحكمة، وهو إصدار خاص؛ بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، أقدمه للقراء الكرام، وقد حوى هذا العدد، من الموضوعات العلمية القيمة، العديد المفيد، لعلماء محققين، وأساتذة باحثين، كتبوا عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - المؤسس الباني، عن منهجه السلفي الصالح، وأثره في توحيد المملكة العربية السعودية، وإصلاحها دينا ودنيا، وتنميتها علميا وصحيا، وبسط الأمن في ربوعها، وفقه الدعوة إلى الله تعالى لديه، والتزامه مكارم الأخلاق والشرف والمروءة؛ التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لذلك الأثر العظيم، في توطين أشتات من العرب هم "أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم"لذلك و"لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة" [1] ، "فإذا كان الدين، بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين، المُذْهِب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تَمَّ اجتماعهم، وحصل لهم الملك والتغلب" [2] .(39/289)
ولقد كان في واقع الحال - قبل قيام الملك عبد العزيز (رحمه الله) كما هو المشهور من الرواية المتواترة، وكما هو المشاهد الآن من بقيته على حاله، في خارج المملكة العربية السعودية، مما ينافي تحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، - مظاهر خطيرة على الأمن والإيمان، كالأضرحة المقدسة من دون الله، والمشاهد الشركية، والقباب المقامة على القبور المعظمة، يطاف حولها ويعكف تعبدا لها، وتقصداً للتبرك بها، وطلب قضاء الحوائج، وتفريج الكربات عندها، في مكة مركز التوحيد نفسها، كالقباب التي كانت في المعلاة في الحجون، على قبر خديجه وغيره، وفي الحلقة القديمة على قبر المستسقي، وقبر العلوية قريب من باب مكة، وقبر الشيخ أبو سرير وضريحه؛ بزاوية كانت معروفة في آخر سوق الندى، والقبر الشهير بالمظلوم والزوايا المنسوبة إلى الصوفية، وما فيها من الأضرحة والخرافات التي تنسج حولها، وفي طريق النورية قبة (على ما يزعمونه) قبر ميمونة، وفي الزيمة على قبر الرشيد، وغير ذلك، كما في المدينة في البقيع القباب التي كانت على قبور الصحابة، وفي أحد كانت القبة المشهورة على قبر حمزة، وغير ذلك.
هذا في مكة والمدينة، فكيف في غيرهما؟ إنه كثير، في نواح عديدة، كانت القباب على القبور، والأماكن والأشجار والأحجار والغيران، والطواغيت، التي تقصد للدعاء والتبرك وذبح القربان، وغير ذلك مما لم ينزل الله به من سلطان، وإنما هي مظاهر للبدع والشرك والخرافة التي يدعو إليها الشيطان، ويتخذ منها بعض الناس سُلّما لسلب الأموال، عن طريق سدانتها والشعوذة والدجل على ضعاف العقول والجهلة، خاصة من الحجاج والغرباء.(39/290)
ولما كانت هذه الأمور الواقعة منافيةً للإيمان، ولا لها من ينكرها ويغيرها، كانت بيئتُها مرتعاً لاضطراب الأمن بل عدمه، مرتعاً لنشاط أهل الشرك، وعبد الطاغوت، وجفاة الأعراب، وسراق الحجيج، ومنافقي العرب، وعلوج العجم، في النهب والسلب والقتل وقطع الطريق، والاحتيال والنصب، بمختلف الطرق الملتوية، وأساليب الدجل والشعوذة؛ حتى انتشرت جرائم الحرامية، وعصابات قطع الطريق، على حجاج بيت الله الحرام، وسلب أموالهم، ونهب بضائعهم وأمتعتهم، من قِبل البدو والعربان والأدلاء والمطوفين والجَمّالة، فكان الحاج (فضلاً عن غيره) عرضةً لكل ألوان التعدي على العرض والدم والمال، والنهب، والعبث بالحرمات، من الضرب والقتل والسرقة والخطف والاغتصاب، وسوء الأدب والصياح والصخب، واتخاذ شتى أنواع الخداع والحيل لاستغفال الحاج والغريب، عن أمتعته وثيابه ونفقته، أو استدراجه بعيدا عن رفاقه، ليُقضى عليه بضربة بعصا أو خنجر أو طلقة نار، فتخمد أنفاسه، وعندئذٍ يعريه الحرامي من ثيابه، وينتزع حزامه، ويفر به إلى الجبال، وربما كان هذا الحرامي أحدَ الجماميل أو الحراس أو الأدلاء، وقد لا يجد مع ضحيته مالاً، فلا يتأسف إلا على رصاصته!
ولذا؛ أصبح الحج سلسلة من المشقات، بل نوعاً من المغامرة والمجازفة، وكان الناس يحذرون المسافرين من أخطار الطريق، وكان من يريد الحج يودع أهله وداع مفارق لا يرجو العودة؛ بسبب اضطراب الأمن، وسوء أحواله، وكانوا يقولون: "الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود"وأصبح هذا القول مثلاً، يرويه المسنون، الذين أدركوا هذا الواقع [3] .(39/291)
وكان التعصب المذهبي قد بلغ ذروته، حتى وصل بهم إلى أن تقام في المسجد الحرام أربع جماعات في الصلاة المفروضة، لكل أهل مذهب جماعة وإمام ومقام، وقد رأيت أبنية هذه المقامات في المسجد الحرام، وهذا لاشك له أثره في تفريق جماعة المسلمين، وتمزيق صفوفهم، فرحم الله الملك الإمام على توحيده الأمة.
هكذا كان الواقع في الحجاز وغيره، سواء كان في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب؛ قبل قيام الملك الإمام عبد العزيز بتأسيس دولة التوحيد؛ المملكة العربية السعودية، فلما هيأ الله عبد العزيز سلطانا للإسلام نصيرا، وملكا للعرب حاميا، وقدوة للمسلمين وعزاً، ولما لم يكن كذلك بمشيئة أجنبي أو مستعمر، بل بمشيئة الله تعالى وحده، قام فيهم مقام الولي؛ مقام وريث النبي؛ الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، وتحقيق توحيده، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم، لإظهار الحق، فتم توطينهم واجتماعهم على تحقيق التوحيد؛ الذي هو حق الله على العبيد، وأصبح الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والأنفة والجفاء والغلظة والمنافسة والحسد على الدنيا، ذهب ذلك منهم، فسهل انقيادهم، وتوافقت أهواؤهم، على إمامته؛ بما يقيم لهم من الملك، وما يقيم فيهم من التوحيد؛ الذي هو حق الله على العبيد؛ فحصل له ولأبنائه من صلبه ومن شعبه توحيد المملكة العربية السعودية على ولايتهم؛ قدراً كونياً، وشرعاً دينيا؛ رغم ما كانت عليه الحال من الشتات والشقاء والفرقة، فلله الحمد والمنة.
وصدق الشاعر محمد بن عثيمين؛ حين قال يخاطبه:
تألفت بك أهواء مفرقة
تأججت بينهم من قبلك النار
فأصبحوا بعد توفيق الإله لهم
بعد الشقا والجفا في الدين أخيار(39/292)
وإن مرور مائة عام قرن من الزمان على تأسيس المملكة العربية السعودية على التوحيد، نعمة من الله عظيمة، نبتهج بها، وتقتضي منا جميعا الشكر لله تعالى، والتأمل والاعتبار، فيما حققته هذه المسيرة، من ترسيخ دعائم وحدة المملكة العربية السعودية، وأمنها ورخائها، على المنهج السلفي الصحيح؛ الذي التزم به قائد هذه المسيرة، الملك عبد العزيز (رحمه الله) وسار عليه أبناؤه البررة، وشعبه الوفي، من بعده، فما زالت الوحدة السعودية متماسكة بالتوحيد (ولله الحمد والمنة) وماتزال (إن شاء الله تعالى) متماسكة بالتوحيد؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال: 53.
مضى قرن من الزمان، والمملكة العربية السعودية (ولله الحمد والمنة) تحتل المكانة الدينية في العالم الإسلامي مكان القلب في الجسد، سواء في البناء وتوحيد الكيان، أو في الحكم والإدارة، أو في التنفيذ والتطبيق، أو في التربية والتعليم، منذ نشأة بنائها إلى استكماله وتطويره؛ من لدن المؤسس الباني؛ الملك الإمام عبد العزيز (رحمه الله) ثم مروراً بعهد أبنائه الملوك؛ سعود وفيصل وخالد (رحمهم الله) إلى عهد قائد نهضتها، ورائد تعليمها، ومحكم قوتها؛ خادم الحرمين الشريفين؛ الملك المفدى؛ فهد بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين، والنائب الثاني، وبقية الأمراء من أبناء عبد العزيز، والشعب السعودي؛ عُصبةِ العز والمنعة (بإذن الله تعالى) حفظ الله الجميع، وأمدهم بعونه وتوفيقه، وأسبغ عليهم وعلى أمتهم نعمة الصحة والعافية.(39/293)
وبقدر الإمكان، فلنغتنم هذه المناسبة المجيدة؛ للتذكير بتاريخنا المشرق بالتوحيد، وسن السنة الحسنة ما استطعنا، ولا ندع تاريخنا المضيء للتشويه والجحود والنكران، ولمن يحوله في غير مساره؛ الذي هو تاريخ تحقيق التوحيد، وفي ذلك المصلحة (إن شاء الله) في الدنيا والدين.
ولنجعل من مرور مائة عام (بفضل الله تعالى) على تأسيس مملكة التوحيد، مناسبةً تقتضي منا جميعاً بذل الجهد للتذكير؛ لنشكر الله تعالى، ونراجع أسباب عزنا وأمننا، ونتأمل تاريخنا، ونرسخ الولاء الصادق لهذه الوحدة السعودية، وتجديد الثقة بها، جماعةً للمسلمين، ونواةً لوحدتهم العظمى.
لنذكِّر أجيالنا ومن بعدهم، بهذه النعمة الشرعية، فقد كنا أعداءً، فألف الله بها بيننا، وأصبحنا بها وحدة سعودية واحدة، فنشكر الله عليها دائما؛ لنستديم هذه النعمة، وهذا ليس أمراً نحدثُه في الإسلام قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: 7.
وفي الختام أشكر أسرة التحرير رئيساً وأعضاء ومحكمين وكل من ساهم على ما بذلوه من جهد كبير في إصدار المجلة (جزاهم الله خيراً وأثابهم) وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مدير الجامعة الإسلامية
د. صالح بن عبد الله العبود
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عبد الرحمن بن خلدون المقدمة، 151.
[2] المصدر السابق.
[3] انظر: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز تأليف رابح لطفي جمعة، ص42.(39/294)
أصالة المنهج
في سيرة الملك عبد العزيز
وأثر ذلك في الاستقرار الشامل للمملكة العربية السعودية
د/ عبد الرب بن نواب الدين بن غريب الدين آل نواب
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله وصحابته ومن والاه وبعد: فإن المنهج الأصيل في مختلف مسالك الحياة ضرورة عصرية وبغية لا غنية عنها فهو سبب نهضة الأمم وبقاء الحضارات ونمائها ومصدر عزها وسؤددها، وهذا مطرد في كل الأحقاب والأجيال:
لأن حياة الناس لا تنتظم إلا على منهج واحد يسلمون له ويذعنون إليه.
ولأن الدين الحنيف هو السبيل الأقوم والنهج الأعدل الذي تنبثق منه عرى الأمن والسلام، وتنبعث منه وشائج الحياة السعيدة المستقرة التي تقيم في الإنسان موازين الحق والعدل، وتقيم موازنة حكيمة بين متطلبات الجسد والعقل والروح.
ولأن تعدد المناهج واختلافها وتنافرها في المجتمع الواحد من أهم أسباب تفككه وعوامل ضعفه فانهياره، وهو داء نراه يستشري في كثير من المجتمعات الإنسانية فيرديها، ومنها الأوساط الإسلامية إذ لا يصلحها ولا ينهض بها غير الاستمساك بالهدي القويم والنهج الحكيم في أصالة ونقاء من غير تجزئة ولا تحوير. وهذا ما دل عليه تاريخ المسلمين في مختلف العصور والأحقاب.
ولأن من مقررات الدين الحنيف أن المنهج القائم على توحيد اللَّه عز وجل في ربوبيته وألوهيته، المؤسس على تحكيم شرعه واتباع هديه هو المنهج الأصيل الذي نزلت به الكتب ودعت إليه الرسل وقام عليه أمر الدنيا والآخرة. وبغير هذا المنهج لا تتحقق سعادة الدنيا ولا نعيم الآخرة.
والأصالة في المنهج بكل محاوره ومضامينه ومقاصده ليست من مبتكرات العقل ولا من منجزات الفكر البشري المحدود، ولا هي من معطيات الحضارات وتجارب الأمم، إنها فوق ذلك وأسمى من ذلك.(39/295)
إن الأصالة هي ما تنزل به الوحي الإلهي المعصوم على خاتم النبيين والمرسلين، والمنهج الأصيل هو ما تضمنه الدين الحنيف بمراتبه الثلاث: الإسلام والإيمان، والإحسان، وهو ما يعبر عنه بالعقيدة والشريعة والأخلاق.
وللمنهج من الخصائص والمقومات (كالربانية والشمولية والعصمة والخلود) ما يحقق فيه معاني الأصالة على مر الأجيال، وتتابع الأحقاب إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين.
والحاجة اليوم تتنامى وتتعاظم إلى هذا المنهج الكامل الفريد لاسيما بعد أن طغت النزعات المادية في العالم، وتوغلت إثر ذلك في عالمنا الإسلامي الاتجاهات المادية التي تقصي الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وتعده من أسباب ضعضعة المجتمع وحجر عثرة في طريق التقدم والتطور، فظلت المناهج الوضعية الوافدة خاضعة للتقويم والتصويب بين الحين والحين، وكان ثمن التجريب فالتصويب واكتشاف الزيف باهظا بل مدمراً لمقومات المجتمعات الإسلامية وخصائصها ورسالتها.(39/296)
وعلى صعيد العمل الإسلامي المعاصر يتراءى للناظرين تعدد مناهج الإسلاميين أنفسهم وهم يرومون تقويم ما اعوج في مسيرة المجتمعات الإسلامية، ويصدون عنها ما اعتراها من أسباب البعد عن منهج اللَّه، والركون إلى المادية الجوفاء، فمنهم من جنح إلى الأخلاق يدعو إليها، ويلاحي عنها، ويقتصر عليها، ومنهم من صوّب جهده وطاقته صوب الحزبية فهو يخوض غمارها، ويزج بنفسه في معتركها في غير طائل، ويرى بأم عينه انغماس الناس في البدع والشركيات واتخاذ الأسباب الصارفة عن أنوار التوحيد واقتفاء السنة فلا يحفل به، ومنهم من يرى التقدم كامناً في احتذاء النمط الغربي ضارباً عرض الحائط بمقومات الدين الحنيف وثوابته وقيمه وآدابه، ومنهم من ضاق أفقه فانحصر المنهج عنده في الزهد والخمود واعتزال المجتمع، بل ومنهم من يرى في التأصل تنفيرا وتفريقا للأمة، فهو يعادي ترسيخ العقيدة في القلوب ويجافي تصحيح المفاهيم الخاطئة لمعنى كلمة التوحيد ومقتضياته ... وتلك نماذج.
وعلى هذا فإن إبراز المنهج الأصيل الذي سار عليه ودعا إليه الأنبياء والمرسلون - عليهم الصلاة والسلام - واجب الدعاة والعلماء والولاة لا يسعهم غير ذلك؛ لأن بنيان المجتمع الإسلامي لا ينهض ولا يستقيم إلا على توحيد اللَّه تعالى وإفراده جل وعلا بالعبادة فلا إله غيره ولا رب سواه، وإن العمل على هذا الأصل منقبة الدهر يصطفي اللَّه تبارك وتعالى للتمسك به، والدعوة إليه، المخلص من عباده العلماء والولاة في مختلف الأجيال، وتعاقب الأحقاب.(39/297)
ولقد رأينا كيف ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى توحيد اللَّه تعالى، وأنه طيلة العهد المكي اقتصرت دعوته على تحقيق هذا المقصد الإيماني العظيم، وفي العهد المدني أقام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الأولى على أساس العقيدة الخالصة التي نشرها خلفاؤه الراشدون في الآفاق من بعده، وكيف قيض الله تبارك وتعالى من بعدهم من الخلفاء والملوك والعلماء من رفعوا راية الإسلام في الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وممن يذكره التاريخ من العلماء: الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية مؤسس المدرسة السلفية في القرن السابع، والشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدعوة في القرن الثاني عشر، ومن آزر الدعوة من ملوك آل سعود إلى يومنا هذا.
وأما الملك عبد العزيز فقد قيضه الله تبارك وتعالى لهذا العمل الجليل والمقصد النبيل، واتسم جهده وجهاده بما انفرد به في عصره، فقد تسلم راية الدولة الإسلامية قبل أن تسقط في الأستانة فاتصل ارتفاعها واستمر، وراية الدولة الإسلامية لم تسقط أبدا منذ أن أسس النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة في الإسلام بالمدينة النبوية.. وليتبين للناس أن منهج الرشد ليس في الشرق ولا الغرب، وإنما هو في هذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله لعباده والذي لا يقبل دينا سواه بالاحتكام إليه وتطبيق شرعه والاستمساك بهديه في مسالك الحياة كلها، وتأسيس ذلك على أساسه الوطيد ومرتكزه الركين، وهو تحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومقتضياتها.(39/298)
إن التمسك بالمنهج الأصيل في المجتمعات الإسلامية في عصرنا يتجاوز حدود الضرورة الحضارية والحاجة المتجددة إليه، إلى ما هو أرقى من ذلك وهو أنه مطلب شرعي، وواجب ديني لا تتحقق سعادة الإنسان إلا بالاستمساك به والدعوة إليه والذب عنه، وتقديمه على كل صور وأنماط النظم الوضعية والاجتهادات البشرية، فالملك عبد العزيز رحمه الله صاحب منهج، ومنهجه قويم لأنه مستمد من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
والحديث عن المنهج وأصالته حديث عن كيان وعقيدة ودولة بكل عناصر الدولة (السكان، والأرض، والحكومة، والسيادة) والحديث عن عظماء الرجال تكثر شعبه، وتتعدد جوانبه؛ لتكاثر المجالات التي تستدعي حديثا وكتابة وفقها وتأريخا. والحديث عن الملك الصالح والإمام الملهم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يتشعب وتذهب فيه مسالك الكتابة والتأمل كل مذهب، فإنه رحمه الله جمعت فيه مناقب عديدة وخصال فريدة، قل أن تراها في عظماء الرجال بعد انصرام القرون المفضلة.
ولئن كان رحمه الله مؤسس الدولة السعودية الثالثة وبانيها فلقد قيضه الله تعالى في ظروف عصيبة، واجتباه لخدمة الحرمين الشريفين في وقت كانت الأمة الإسلامية - ولا زالت - تمر فيه بمنعطفات تاريخية غير مسبوقة.. وتحديات فكرية ترتكز على القوة والنفوذ والغلبة لا على الحكمة والمنطق!
فقد استطاع - بعد توفيق الله - بقوة إيمانه ويقينه بالله وببصيرته النافذة وعزيمته الماضية وملكاته المتعددة إقامة وبناء هذا الكيان الإسلامي الكبير: (المملكة العربية السعودية) على منهج إسلامي راشد تجلت فيه الأصالة والمعاصرة في معادلة متوازنة. فهي مملكة القوة والسلام، ومملكة الأمن والوئام، مملكة العلم والإيمان، مملكة الحق والعدل، مملكة البناء والعمران، مملكة الثقل الدولي المؤثر والموقر.(39/299)
والكتابة عن إمام فذ، وملك راشد في مثل مقام الملك عبد العزيز ومنهجه الراشد شرف لكاتبه وتشريف لقارئه، ومعظم الذين كتبوا في سيرة الملك عبد العزيز ممن عاصروه أو ممن لم يحظوا بمعاصرته نهجوا في التأريخ له منهج الوصف، فظلت كتاباتهم - مع أهميتها وقيمتها العلمية الكبرى - منحصرة في الجانب التاريخي الوصفي، وتنامت إثر ذلك الحاجة إلى كتابات تأصيلية تكشف من خلال المنهج التحليلي أبعاد المعاني الإسلامية والأهمية العصرية للدولة الإسلامية في فكر الملك عبد العزيز وسيرته ومنهجه، لتكون نبراسا للأجيال القادمة، ولتعرف هذه الأجيال مكانتها وموقعها ورسالتها في خارطة العالم المعاصر، عالم له توجهاته المادية العارمة، وله مع ذلك صبغته التكتلية العاتية، ولتعرف تلك الأجيال ما قام به سلفنا من جهود موفورة، وما بذلوه من تضحيات مشكورة لإعلاء كلمة الله في أرض الله.
فإن من حق الأجيال الصاعدة أن تعرف في قادتها إيمانهم وجهادهم وتضحياتهم، وتعي إثر ذلك مسالك الولاء لهم في السر والعلن، للمحافظة على المكتسبات وإكمال المسيرة، وهو ولاء ووفاء للحق وللعقيدة ومعطياتها، فقادة هذه البلاد هم - بعد الله تعالى - أولياء النعمة التي يرفل فيها جيلنا والأجيال القادمة حيث شيوع الأمن، وغضارة العيش، وانتشار التعليم، وقبل ذلك التربية العقدية والتبصرة الدينية القويمة.
وعلى الصعيد الخارجي العمل على وحدة الصف العربي وتعزيز الأخوة الإسلامية، والتضامن الإسلامي، والإسهام في إيجاد كل ضرورات الحياة الإسلامية المثلى للقاصي والداني، وفي المحافل الدولية ترسيخ مقومات الحق والعدل والسلام، وتلك ثمرة العقيدة الإسلامية واستشعار المكانة والمسئولية التاريخية.
بواعث الدراسة:
وللكتابة عن تاريخ المملكة ومؤسسها ودراسة منهاجه الأصيل في مثل هذه المناسبة العزيزة بواعث تتلخص فيما يلي:-(39/300)
أولاً:- إن دراسة وتأمل ماضي المسلمين وحاضرهم للاتعاظ والاعتبار مطلب شرعي، لاسيما المنجزات وجهود الإصلاح فهي في بؤرة الاهتمام الإسلامي، كيف كنا؟ وإلى ماذا صرنا؟! تلك النقلة الهائلة من حالة التشتت والفرقة والجهل والتناحر إلى نعمة الوحدة والقوة والعلم والمنجزات الحضارية… كل ذلك لم يكن ليتم لولا مشيئة اللَّه تعالى ثم عزيمة الملك عبد العزيز وإيمانه.
ولقد أشاد القرآن العظيم بهذا الجانب من حياة المسلمين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وللَّه تعالى سنن نافذة وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل:
* منها أن نصر اللَّه وتأييده لا يتأخر إن صدق المسلمون في إيمانهم وأخلصوا لربهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . [محمد:7]
* ومنها أن ظهور الأمة الإسلامية وقيامها بالحجة على الخلق أمر مطرد فقد يعتريها فترات من الضعف والجهل وفشو المنكرات لكن نور الإسلام لا ينطمس بالكلية بل يعاود قوته وسطوعه قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} . [الرعد: 17]
وقال في موضع آخر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} . [غافر: 51] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" [1] .(39/301)
قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة فإن هذا الوصف ما زال بحمد اللَّه تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر اللَّه المذكور في الحديث" [2] .
* ومنها أن الأمة المحمدية أمة لها رسالة فهي أمة علم، وأمة صلاح وإصلاح قال اللَّه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران. 110]
*ومنها أن التمكين في الأرض لا يتحقق إلا إذا استمسك المسلمون بشرع الله وعملوا على إعلاء كلمة الله، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] .
والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى فهم المنهج الأصيل الذي ارتضاه الله لهم والعروة الوثقى التي أمرهم بالاستمساك بها، والصراط المستقيم الذي به مناط سعادتهم وانتصارهم، ولا تتحقق لهم السعادة والعزة في الدنيا والآخرة إلا بهذا الطريق فحسب.
ومنهج الملك عبد العزيز - رحمه الله - موضع قدوة ومنار أسوة للباحثين عن سبل السلام والأمن والوئام:
إذ نبذ كل النظريات البشرية شرقية وغربية في إباء وشموخ.
والتزم عقيدة التوحيد صافية نقية كما وردت في الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.
وأقام على هذا الأصل الأصيل منهج الحكم الراشد، وعليه أسس هذا الكيان الإسلامي المبارك.(39/302)
قال رحمه الله: "إنني أدعو المسلمين جميعا إلى عبادة الله وحده والرجوع للعمل بما كان عليه السلف الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، إن المسلمين لا يرقون ولا ينهضون بالبهرجة والزخارف، إن سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص والخروج من أسر البدع والضلالات والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم" [3] .
وإن الأبحاث العلمية في هذا الموضوع تفتح للدارسين آفاقا رحبة في موضوعات هي في بؤرة الاهتمام الإسلامي بل والعالمي المعاصر، وتحل إشكاليات في الفكر السياسي طالما دأب أعداء الإسلام على إيجاد تلك الإشكاليات وتلفيقها مثل: (أهمية الدولة الإسلامية في العصر الحاضر) ، (إقامة الدولة على أساس ديني) ، (موقع النظام السياسي في الإسلام وخصائصه في منظومة النظم السياسية المعاصرة) .
ولقد ظهرت في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي بعد القرون المفضلة اجتهادات لخدمة الإسلام، وانتهاج طريقه القويم، وهديه المستقيم ورفع رايته في كل الأصقاع صافيا من البدع والمكدرات، فقامت دعوات ودول، لكن الدولة التي أقامها الملك عبد العزيز تفردت بجملة من الخصائص لم تتوافر في من سبقها لما يحمله المنهج الذي تبناه من خصائص الأصالة، ثم لما اكتنفت عصره من ظروف وأحداث.(39/303)
ثانيا - لا يخفى أن عصرنا عصر الغزو الإعلامي المقنن، الأمر الذي يستدعي أكثر من أي وقت مضى أن نربط حاضر مجتمعنا السامق بماضيه المجيد، وأن تظل أسباب العزة والقوة والوحدة نابضة في قلوب الشباب وضمائرهم كي يكونوا هداة مهتدين، وعلى طريق الرشد سائرين، يقول الدكتور صالح العبود: "وقد نشأ جيل جديد وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويغتر وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به، فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم" [4] .
وعلى هذا فإن من الضرورات المعرفية بل من مقومات مجتمعنا أن يتعمق في وجداننا ومشاعرنا أسباب الأمن الوارف الذي نعيشه، والتلاحم العميق الذي نرفل فيه، والوحدة المكينة التي ننعم بها وهو ماثل في عقيدة التوحيد والاحتكام إلى الشرع المطهر وإقامة كافة مناهج الحياة ومباهجها على هذا الأساس، وأن يتعمق مع ذلك في مشاعرنا ما بذله ولاة الأمر في القديم والحديث من ترسيخ هذا الأصل الأصيل في ثقافتنا وبنيتنا الاجتماعية والفكرية، وما لهم من أياد بيضاء في خدمة العقيدة والإسلام والمسلمين، لا يرجون من ورائها جزاء ولا شكورا، ولا مقابل لها سوى الدعاء لهم بظهر الغيب دعاء خالصا يثمر وفاء وولاء وإخلاصا وتلاحما.(39/304)
ثالثا - تصحيح المفاهيم الشوهاء وتصويبها في أذهان الذين ساروا مع الدعايات المغرضة أو سايروها، وذلك بالأسلوب العلمي الرصين وبالحجة والبرهان، من مثل اصطلاح (الوهابية) الذي يجده القارئون كثيرا في كتابات المستشرقين، وقد تركت صورة محرفة حتى لدى بعض مشاهير الكتاب والمؤلفين الإسلاميين كما في كتاب تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبي زهرة عفا الله عنه، إذ جهل حقيقة الدعوة التي نادى بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجعل ما أسماه بالوهابية مقترنة مع البهائية والقاديانية تحت عنوان (مذاهب حديثة) !. [5]
وهذا ولا شك إسفاف مبين، وفي مثله يقول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل [6]
وقد فند الملك عبد العزيز رحمه الله هذه الشبهة وتلك الفرية كما سيأتي إيراده قريبا إن شاء الله، كما فندها من قبل الشيخ محمد وغيره رحمهم الله جميعا [7] .
وبادئ ذي بدء لا مندوحة من التذكير بأن ما قام به الملك عبد العزيز رحمه الله من تأسيس المملكة العربية السعودية وإقامة بنيانها على قواعد الإسلام ولإعلاء راية التوحيد ليس إلا مظهرا من مظاهر رحمة الله بعباده في هذه الجزيرة خاصة وبالمسلمين عامة، فللجزيرة العربية ومنها الحرمان الشريفان خصائصها المميزة، فهي مهبط الوحي وبها قبلة المسلمين ومن أرضها انبثقت رسالة الإسلام وسطعت أنوارها فعمت الأرض، وبالمدينة النبوية أقام النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة للإسلام، فلم تكن المملكة التي أقامها الملك عبد العزيز إلا مظهراً من مظاهر رحمة الله وعنايته بالمسلمين، منذ أن انبثقت شجرة آل سعود المباركة.
ثم هو ثمرة لدعوة مستجابة إن شاء الله، دعوة خرجت من قلب إمام عادل كان يأمل ويرجو رحمة ربه أن تكون كلمة التوحيد في أمته وشعبه بقية نقية خالدة، قال ابن بشر عن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود المتوفى سنة (1218هـ) :(39/305)
"وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى، وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه كان يكثر الدعاء لهم في ورده، قال وسمعته يقول: اللهم أَبق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها" [8] .
وهذا التواصل المبارك الذي يراه المتأملون في تاريخ الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة نموذج إسلامي فذ، يذكّر بما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من البر والإحسان، ومن ثم فهي رحمة مهداة، ونعمة مسداة، وسنة ربانية نافذة:
- أن تظل راية التوحيد خفاقة عالية بالتمكين لأهل التوحيد، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]
- وأن يبقى الحرم آمنا، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وقال في موضع: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .
- وأن لا يعبد في هذه البقعة الطاهرة من الأرض غيره جل وعزّ قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:34] وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91](39/306)
- وأن يشرف بخدمة مهبط الوحي من هو أهل له قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
فتوحيد الله في ربو بيته وألوهيته وحرمة البيت صنوان متلازمان منذ أن نزل القرآن الكريم بل منذ أن بني هذا البيت، تأمل قول الحق جل ذكره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] فقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أي: لا تعبد معي إلها غيري، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهره من الشرك وعبادة الأوثان، وهو وجه في التفسير ذكره أهل العلم [9] .
إن التزام نهج الإسلام في أصالته ونقائه، والإخلاص لله تعالى في العبادة هو الخيار الأوحد الذي أرسى دعائمه الملك عبد العزيز، كما أرساه من قبل أسلافه الميامين الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية، ومن قبله الإمام محمد بن سعود باني الدولة السعودية الأولى بعد أن آزر واحتضن دعوة التوحيد التي نادى بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وكذلك هو امتداد لتاريخ حافل أحياه شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته السلفية الضاربة بجذورها إلى عصر التابعين فالصحابة فالوحي المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم(39/307)
وسيذكر التاريخ للملك عبد العزيز بمداد من نور وقفته القوية الصلبة ومنقبته الفريدة بإقامة الدولة على عقيدة التوحيد، وتأسيس كافة أنساق الحكم على تعاليم الشريعة الغراء دون هوادة، وحفظ حقوق الإنسان كأتم ما يكون الحفظ في ظل الدين الحنيف، في وقت شهد فيه العالم الإسلامي ائتمارا عالميا شرسا على إقصاء الدين من مجالات الحياة السياسية، واستبدال ذلك بالنظم الوضعية والنظريات البشرية ذات المصالح الآنية والمقاصد الوقتية ... [10]
إن المتأمل الدارس لما كتب عن الملك يحس أنه يقرأ عن سيرة قائد فذ ليست كالسير التي درج عليها عامة العظماء والرواد، ويستشعر أنه في رحاب إمام عادل ورع تراه في ميدان الوغى مجاهدا مقداما، وتراه في محرابه خاشعا متبتلا، وفي حديثه لبقا حكيما، يسمو بمكارمه إلى مقام سامق يذكّر بسير الخلفاء الربانيين والأئمة المهديين الذين لم تنبت الأرض مثلهم في أحقاب التاريخ إلا النادر القليل.
وحسبه شرفا أنه تلقف راية الإسلام يوم رام أعداء الإسلام إسقاطها لما تزعزعت الدولة العثمانية، فاتصل بذلك ارتفاع راية الإسلام عبر مختلف الأحقاب التاريخية منذ أن أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى في المدينة النبوية.
وحقيقةً فإن المتأمل في سيرة الملك عبد العزيز يأخذه الإعجاب من مواهبه المتعددة ومناقبه المتكاملة، ومنهجه الأصيل ومنجزاته الإسلامية الباهرة، ولولا فضل الله ورحمته ومنّه وإحسانه بأهل هذه البلاد وبالمسلمين عامة بل وبالإنسانية جمعاء ما قام عبد العزيز بما قام ولا أنجز ما أنجز!.
شخصية الملك عبد العزيز في مكنونها ظاهرة أخلاقية فريدة لا تفي بحقه الدراسات التحليلية لأحقاب عديدة! فهو السياسي المحنك والعسكري المتمرس والمربي المستبصر والعالم المستنير والعابد الزاهد المتبتل في محرابه، والمتحدث اللبق المفوّه والقائد الملهم وذو الخُلُق الكريم.(39/308)
ولئن كانت المعالم الرئيسة لسيرة الملك عبد العزيز ثلاثة كما يقول معالي الدكتور عبد الله التركي وهي:
1- عبقريته ومواهبه المتعددة المتكاملة.
2- المنهج القويم الذي التزمه.
3- والنموذج الاجتماعي والسياسي الذي بناه [11] .
فإن كل معلم من هذه المعالم النيرة مدرسة في حد ذاتها لها مقوماتها وخصائصها تستأهل أسفارا ضخاما.
لذا نقتطف قبسا من حياته المباركة وسيرته الفذة في (أصالة المنهج) الذي اتبعه، وهو أهم وأجل الجوانب التي اكتنفت حياته المباركة، والتي من خلالها تتجلى (الأصالة) ناصعة بهية، لنرى كيف أن الله تعالى قيض هذا الإمام الهمام والملك الراشد، وادخره بمواهبه ومناقبه وعزيمته ليظهر في غمرة الأحداث المتتابعة في بقعة من أطهر البقاع، وفي فترة هي أخطر الفترات، وكيف قاد شعبه من الصحراء إلى المجتمع الدولي!.
وهو مع ذلك وقبل ذلك داعية التوحيد، يعمل من أجل ربه جل وعز، ولإعلاء كلمته ونصرة المسلمين.
فلقد كانت الأمة الإسلامية في مهب الريح في أعقاب تفكك الدولة العثمانية وظهور التوجهات الفكرية والنزعات العرقية والمطامع الاستعمارية، من بين كل هذه الأخطار الجسام والنوازل العظام خرج الملك عبد العزيز بشخصه المهيب، ومنهجه الأصيل ليقيم مملكته إسلامية ترفرف عليها راية التوحيد وتجمع بين شعبه كلمة التوحيد، وتنهض عزيمته الميمونة بواجبات إسلامية جليلة في مجال الدعوة إلى الله، والحفاظ على بيضة الإسلام في كل مكان ورعاية شئون المسلمين لاسيما الأقليات، استشعاراً بمسئوليته الإسلامية وموقعه ومكانته.(39/309)
ثم هو يقوم بهذه الواجبات الجليلة جنباً إلى جنب واجباته في الداخل بتوحيد أجزاء المملكة وتشييد صروحها العلمية والأمنية والصحية والتنموية المتعددة، في تسابق مع الزمن، وبناء المواطن الصالح كأنموذج للإنسان المسلم المعاصر المتدرج في أكناف عقيدة التوحيد، والمعتز بقيادته الواعية الراشدة، المترعرع في أحضان كيان متميز يستشرف خدمة الإسلام والمسلمين ويشرف بها.
ومن أجلّ منجزات الملك عبد العزيز التي لا تقارن بغيرها إطلاقا تربيته الفذة لأبنائه البررة الذين تحمّلوا الأمانة من بعده ورفعوا راية التوحيد خفاقة عالية، وواصلوا مسيرة الخير والعطاء وبذلوا كل شيء لخدمة الإسلام والمسلمين.
نبذة عن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
لم تتجاوز دعوة الشيخ محمد رحمه الله أصل الدين وجوهره، وهذا أمر واضح جلي يلمسه كل من قرأ تاريخ الشيخ وسيرته وتأمل في كتبه ورسائله.
ولعله من المناسب هنا إيراد طرف من كلامه يجلي فيه الأصالة في وضوحها ونقائها ويذب عنه ما ألصق به زوراً وبهتاناً، فها هو يقول في رسالة إلى بعض من سأله:
وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] .
ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وأخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين ولأضربن بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق [12] .(39/310)
وقد لقي الشيخ من الجهلة صدودا وكيدا - شأن الدعوات الإصلاحية- فكان يفند ما افتري عليه بالدليل البين والأسلوب الرصين، ومن ذلك قوله في إحدى رسائله:
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن عبد الله (عالم أهل العراق في زمانه) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركته أما بعد:
فقد وصل كتابك وسر الخاطر جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين وأخبرك إني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم ألقى الله لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة..) [ثم شرع يرد على الكذب الذي ألصقوه به وقال] : "ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وازعم أن أنكحتهم غير صحيحة ويا عجبا؟ كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر؟ أو عارف أو مجنون؟! وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها وأما دلائل الخيرات فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان" [13] .
ومن هذا يتبين:
* أن دعوة الشيخ إنما كانت إلى أصل الدين الحنيف وأساسه وهو توحيد الله تعالى في عبادته، وهي أصل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسلام، عقيدة سهلة تستجيب لها الفطر السليمة والعقول القويمة.(39/311)
* وأنه - رحمه الله - كان بعيداً عن مظاهر التشدد والتطرف مما لفقه أهل الأهواء، وألصقوه به وراج عند الدهماء، فلقد طفق ينفي عن دعوته الغلو الذي افتراه عليه أعداء الدعوة، ويفند ذلك بالأدلة العقلية والنقلية في قوة وإفحام، وكيف وهو الذي نادى بالعودة إلى العقيدة صافية بعيدا عن غلو المتأولين وتأويلات المتكلمين.
· وأنه -رحمه الله - لم يأت بجديد، ولم يخترع مذهبا حديثا كما يلفقه أعداء الإسلام، وإنما أحيا الله عز وجل على يديه ما اندرس من معالم الدين وسنن الهدى، وأمات على يديه الشرك والبدع والخرافات والدجل والباطل الذي يروج ويسود في غيبة الحق.
إن التدين لا يصح ولا يستقيم إلا إذا كان الأسس التي بني عليها الإسلام وأول ذلك تحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، ثم إقامة مسالك الحياة على هذا الأساس.
وتوحيد العبادة أساس الحياة السعيدة وهو سر التفوق والمنجزات والاستقرار ومصدر كل خير وسبيل النجاة يوم القيامة، ولما مضى على هذا سلف المسلمين ازدهرت حضارتهم وسادوا الدنيا أكثر من ألف عام، وكان لهم ثقلهم ووزنهم في كافة الأصعدة، وإنه ليس يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح عليه أولها.
لمحة عن الأصالة:
(لولا الله ثم عبد العزيز) كلمة ترددها الشفاه أنى سارت، وأنى توجهت، يلفظها اللسان، وتنطلق من كل فم، يرددها البدوي ويلهج بها الحضري، ويقولها الأمي ويتغنى بها المثقف، الكل يقول لك: "لولا عبد العزيز بعد مشيئة الله لما كان كذا وكذا".
وهذه المقولة النابعة من الأعماق تعكس حالين متباينين: الحالة المتردية التي عاشها الناس قبل العهد السعودي من فشو الجهل والمرض والخوف وكل ما يفتقده المجتمع من مقومات الحياة الفاضلة في غيبة سلطان الشرع.(39/312)
ثم في نقلة سريعة حالة الأمن والوحدة والعلم والتحضر في خطى ثابتة متسارعة وفي زمن قياسي على نحو لم يعهده الناس من قبل.. فإذا هم على مشارف العصر وبروح العلم والإيمان والطموح، وفي نقلة هائلة من الصحراء وشظف عيشها إلى التحضر بكل وسائله من فرض التعليم، وإنشاء الهجر، وتوطين البدو الرحل، وتشجيع الصناعة والزراعة ونشر بساط الأمن، تلك هي قصة الملحمة التي عاشها الناس ويذكرونها لعبد العزيز الملك المسلم المخلص ويذكرونه بها، ويحمدون الله عز وجل أن قيض لهم هذا الإمام الملك الراشد.
وكان هذا الولاء والحب نابعا عن قناعة راسخة ومحبة ثابتة لا تتزعزع، وكان الملك عبد العزيز أهلا لذلك، فهو صاحب أصالة في التمسك بالعقيدة، وأصالة في السيرة الذاتية، وأصالة في الفكر، وأصالة في الأخلاق، وأصالة في التعامل مع مستجدات الحياة.
وتتنامى الحاجة في عصرنا وجيلنا إلى توطيد وترسيخ مفهوم المعاصرة في مختلف جوانب الحياة، وتطرد الحاجة قبل ذلك ومع ذلك إلى إبراز الأصالة كمرتكز أساس في الحياة الإسلامية المعاصرة وإلى الأهمية القصوى للدولة الإسلامية المعاصرة، لا سيما بعد بروز الأنماط غير المكترثة بالدين، والتي تحد من دوره الحيوي في الحياة (كالعلمانية واللادينية) وهي أنماط نشأت في البلاد الغربية ولا تصلح إلا لبيئاتها الأصلية، ولا تناسب إلا الرواسب الثقافية والتاريخية لتلك البيئات.
والأصالة - كما يقول علماء اللغة - تتضمن معاني القوة والثبات والاستحكام، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه ومنشؤه الذي ينبت منه [14] .
ومن مدلولات الأصالة: القاعدة وأصل كل شيء أسفله، وأيضاً: الدوام والاستمرار، يقال: إن النخل بأرضنا لأصيل أي هو بها لا يزال ولا يفنى [15] .
وتتسم الأصالة في منهج الملك عبد العزيز -رحمه الله - وفي سيرته بالخصائص التالية:(39/313)
أ - إقامة المنهج بكل أنساقه على عقيدة التوحيد وهي أصل الدين الإسلامي ولبه وحقيقته ومرتكزه، بل هو أصل الأصول كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم [16] .
ب - الاستمساك ومع ذلك مقتضيات العقيدة من شريعة (عبادات ومعاملات وأخلاق) وإقامة كافة شئون الحياة على هذا النسق، فالدين الحنيف كامل شامل.
ج - الاعتزاز بهذا المنهج الرباني الفريد (ورفض كل صور وأشكال التزييف للمنهج ورفض الأخذ بالمنهج ناقصاً أو مشوباً أو مجزءاً)
د - رد كل أشكال وصور النظم البشرية السائدة المنافية للعقيدة ومقاصد الشريعة وذلك في إباء وثبات، كالفكر العلماني والماركسي والقومي والعنصري والميكيافيلي والمرقع والانفصامي وغيرها [17] وإقامة موازنة المعاصرة بمعايير نابعة من صميم العقيدة الإسلامية الخالدة، الصالحة لكل عصر ومصر.
ولسنا في حاجة إلى إثبات الأصالة التي نهجها الملك عبد العزيز في إقامة دولته فهو أمر معروف مشهود كالشمس في رابعة النهار وضوحاً وجلاءً، والناس كلهم منذ أن أرسيت قواعد الدولة يعرفون ذلك ويعونه وهو سر ولائهم له وتقديرهم لجهوده وجهاده وإعجابهم بشخصيته الإسلامية الفذة وتفانيه في خدمة دينه وعقيدته وشعبه وأمته.
ومن نافلة القول - بعد هذا - أن نقول إن الأصالة التي اتسمت بها الدولة السعودية منذ أن قيض الله لها المحمدين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود - رحمهما الله -هي قيام دولة على أسس الإسلام وركائز الإيمان وإقامة كافة أنساق الحياة على هذا الأساس المتين والأصل المكين.(39/314)
فلقد قامت الدعوة إلى توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة، وطرح كل ما ينافي ذلك من الشركيات والخرافات والبدع، والعودة إلى أصل الدين صافيا كما كان عليه السلف الصالح وهذا هو أصل الأصول وقاعدة القواعد، وهو محور رسالات الله ودعوات كل الأنبياء كما هو جلي في قول الحق جل ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] .
ولقد استمد الملك عبد العزيز منهاجه وقوته في عمله وإنجازه من قوة إيمانه بالله وصلته به ووثوقه بفضله، وتعلقه به وكان السر في نجاحه وسؤدده وتوفيق الله له: عقيدة التوحيد التي رباه عليها والده الإمام عبد الرحمن الذي تربى عليها هو بدوره في تسلسل ميمون إلى جده الأعلى الإمام محمد بن سعود رحمهم الله جميعاً.
ويتضح ذلك من عشرات المواقف الكريمة، أقتطف منها في هذه العجالة ما يجلي هذا المقام:
أ- يوم فتح الرياض بعدد قليل من الرجال لا يتجاوزون الأربعين وكان ذلك في موازين العقل السائد مغامرة أو ضربا من الخيال، لكن الإيمان بالله والوثوق بتأييده ونصره والتوكل عليه، والإنابة إليه، والاستعانة به، والتضرع بين يديه، وكلها من معاني التوحيد ولوازمه يفعل الأعاجيب. وبفضل الله ثم بوثوق عبد العزيز بالله وبنصره حقق ما أراد.
ب - أقواله المفعمة بالإيمان بالله، وتعد مدرسة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، له أسسه وخصائصه وسماته المميزة ومعالمه الواضحة، فمن أقواله: "اثنتان أحمد الله على واحدة منهما وأشكره على الأخرى، أحمد الله على أني أكره أهل الضلال وعلى كراهية أهل الضلال لي، وأشكره على محبة أهل الخير لي ومحبتي لهم" [18](39/315)
وفي هذا تتجلى قوة تدين الملك عبد العزيز وهو السياسي المحنك، وهذه سمة مميزة ترفعه عند الله تعالى درجات، إذ يجنح أغلب الساسة إلى المصانعة والمسايرة لكسب الأصوات واصطناع المحبين الزائفين ولو على حساب الدين، ويرون ذلك من الكياسة واللباقة! وما هو إلا من ركاكة التدين وخور الهمة.
وتبرز - أيضا - أصالة الفكر السياسي القائم على أساس الدين القويم، وأن ذلك هو الأصلح والأوفق لأنه يتسم بالصدق والوضوح، ومعروف ما للصدق من آثار عميقة في استحداث الثقة بين القائد والرعية واستحثاثها.
ومن أقواله أيضا: "أنا قوي بالله تعالى ثم بشعبي، وشعبي كلهم كتاب الله في رقابهم، وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عددهم ولكنهم أقوياء إن شاء الله بإيمانهم" [19] .
وقد تضمن هذا القول الحكيم ميزانا شرعيا دقيقا في معرفة حقائق الناس ومقياس القوة لديهم، فالناس بإيمانهم ومبادئهم وثباتهم عليها واستعدادهم للتضحية في سبيلها، وليس بمظاهرهم وعددهم.
ج - في مؤتمر الرياض عام 1347 هـ إثر خروج بعض الإخوان عليه قال: "أسست هذه المملكة من دون معين، وكان الله القدير وحده معيني وسندي وهو الذي أنجح أعمالي" [20] .
وبقدر ما في هذا القول الباهر من وثوق عبد العزيز بالله جل ذكره وقوة صلته به واعتماده عليه، بقدر ما فيه من اعتزاز القائد بمبادئه العقدية وهو ما ينمي في الرعية بواعث الإعجاب بالقيادة المعتزة بدينها كما يعمق فيهم التدين الذي يعصم من داء التشرذم والتفرق ويحض على الاجتماع، وهو أمر لا يفقهه إلا العظماء المتمرسون من الساسة.(39/316)
د - في قصة المحمل الذي كان الحاج المصري وغيره يأتي به في الموسم وقد اشتمل على الطبول والبدع، قال المؤرخون عن حجة عام 1344 هـ: "بينما حجاج العالم الإسلامي من جميع الممالك والأقطار مجتمعون في مخيماتهم بمنى، تلفت عربان نجد وكانوا أكثر الحجاج عددا في ذلك العام فرأوا أمامهم (المحمل) القادم من الحج المصري على جمل يتهادى بين الجموع تحيط به موسيقاه وعساكره ودبدباته، وتصايحوا: الصنم الصنم! وتهافتوا يرشقونه بالحجارة وهم بملابس الإحرام ولم يكن من أمير الحج المصري إلا أن أمر بنصب المدافع والرشاشات واطلاق نيرانها على الجموع"!!.
قال الزركلي: "وأخبرني ثقات من حجاج ذلك العام أن عبد العزيز لما علم بالخبر وهو على رأس الحجيج نهض من سرادقه وأسرع يعدو إلى أن توسط ما بين العربان ونار الجند، وبسط ذراعيه يصيح: أنا عبد العزيز! أنا عبد العزيز! وكان من حسن حظ العرب والإسلام أنه لم تتناوله رصاصة طائشة أو متعمدة، وهدأ إطلاق النار وتدخل الجند السعودي وانكف الناس وأمر بحجز المحمل عن الأنظار" [21] .
وهكذا حل الملك هذه المعضلة بثقته بالله ثم بنفسه، وثقته بولاء مواطنيه وحب المسلمين من جميع الأقطار الإسلامية لشخصه الكريم وأسلوبه الحكيم، يقول وهو واثق من نفسه: أنا عبد العزيز أنا عبد العزيز!! وفي المفاجآت والشدائد تتكشف جواهر الأخلاق والطباع.
من هذه القبسات ومن خلال سيرته المباركة يتبين أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان صاحب منهج له معالمه وخصائصه، فهو ملك ليس كسائر الملوك، لا يفتأ يذكر منهجه ورسالته في غمرة الأحداث، ولا ينقطع أمله بالله وبنصره حتى في أحلك الظروف.
خصائص المملكة العربية السعودية:(39/317)
الحديث عن الملك عبد العزيز يستتبع الحديث عن خصائص هذا الكيان الكبير الذي أسسه (المملكة العربية السعودية) وما ينفرد به من خصائص ومميزات دينية وتاريخية وسياسية هي في مكنونها مظهر من مظاهر الأصالة:
أول هذه الخصائص تميز المملكة بالنظام الإسلامي الراشد الذي يتخذ من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مرجعا في كافة الشئون، فهو نظام قائم على الكتاب والسيف، على العلم والقوة، والمملكة بهذه الخاصية تنفرد من بين سائر الممالك الإسلامية المعاصرة حسب علمنا.
جاء في التعليمات الأساسية للمملكة الصادرة بالتصديق الملكي الكريم في 21 صفر سنة 1345 هـ: في المادة الخامسة من القسم الثاني ما نصه: (تكون جميع إدارة المملكة الحجازية [22] بيد صاحب الجلالة الملك عبد العزيز الأول بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود وجلالته مقيد بأحكام الشرع الشريف) .
وفي المادة السادسة: (الأحكام تكون دواما في المملكة الحجازية [23] منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح) [24] .
وهذا النهج القويم يعطيها بعدا استراتيجيا هاما في الدراسات السياسية المقارنة، وفي الدراسات المتعلقة بالتنمية، وفي هذا النهج الإسلامي الراشد دلائل قواطع تبطل الإشكاليات التي لفقها أعداء الإسلام في صلاحية الإسلام كنظام للحكم، فالنظم الإسلامية (النظام الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والسياسي) تواكب التقدم والتطور إذ تحث على العلم وتدعو إلى الأخذ بكل جديد نافع، وعليه فإن النظام العلماني ليس بالضرورة شرطا لتحقيق التقدم والازدهار.
ثانيا: احتضان المملكة لقبلة المسلمين وتشرفها بخدمة الحرمين الشريفين، حيث يؤمها أكثر من ألف مليون مسلم في صلواتهم خمس مرات في اليوم من كافة أنحاء العالم.(39/318)
كما تهوي إليها أفئدة الحجاج والمعتمرين والزائرين، وهذا يكسبها ثقلا سياسيا رائدا، كما يضفي على كاهلها مسئوليات وواجبات إسلامية جساما، لا تدخر المملكة وسعا في القيام بها مما هو واقع ملموس للقاصي والداني، فهي رائدة التضامن الإسلامي، ومناصرة المسلمين ماديا ومعنويا، ومعينة لكل من ينشد الخير والسلام والوئام للإنسانية.
ثالثا: الموقع الجغرافي الفريد إذ تتوسط قارات العالم وتمثل جسرا يربط مختلف الدول الأوربية والآسيوية والأفريقية تجاريا وسياسيا وثقافيا، وللمملكة أطول ساحل شرقا وغربا وجنوبا من بين الدول العربية، وللخليج في ساحلها الشرقي أهمية استراتيجية قصوى.. وهذا الموقع الجغرافي المتميز يهيئ العديد من المصالح السياسية والتجارية والحضارية.
رابعا: الأهمية الحاسمة للثروة البترولية التي تعد من المصادر الإستراتيجية للطاقة على اختلاف محاورها الصناعية والحربية والتقنية وغيرها، لا سيما وقد دلت الأبحاث العلمية على أنها ثروة طويلة المدى غير ناضبة على المدى القريب.
خامسا: المملكة نمط فريد في بناء الأمة بكل مقوماتها الحضارية وأصالتها التاريخية وخصائصها، وهذا في مكنونه مثال فذ رائع للنموذج الموفق في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتحول من ظروف القرن الثامن عشر إلى أوضاع القرن العشرين.
وجملة القول: إن الخصائص التي تضافرت في كيان المملكة أضفت عليها المكانة المرموقة، والمواقف المتوازنة الحكيمة سواء على الصعيد العربي أو الإسلامي أو الدولي، فضلا عن الأهمية القصوى للمملكة على مختلف المحاور.(39/319)
وهذا مرده في الحقيقة إلى النهج الوسط الذي تسلكه المملكة، وهو وحي عقيدتها وتاريخها، فالمملكة عامل استقرار مهم ليس في المنطقة فحسب بل وعلى المستوى العالمي، والمملكة بلد الأمن بكل معانيه وأبعاده لأنها مأرز الإيمان، وكما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب فرض الخمس (3116) ط وترقيم فتح الباري المطبعة السلفية 1380هـ مصر ـ ومسلم في كتاب الإيمان (156) ترقيم محمد عبد الباقي ط دار القلم.
[2] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 13/67 ط 1407هـ/1987م دار القلم بيروت.
[3] مع عاهل الجزيرة العربية ـ لعباس العقاد ص19 ـ ط: المكتبة العصرية بيروت (دون تاريخ الطبع) .
[4] عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية - للدكتور صالح العبود ص 15 ط: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1408 هـ
[5] تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 207 ط: دار الفكر العربي 1987 م
[6] ديوان الأعشى ص 61 شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، ط: المطبعة النموذجية 1950م القاهرة، والكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد 1 / 397 ط: المكتبة التجارية الكبرى (دون تاريخ الطبع) .
[7] انظر ص 22 من هذا البحث.
[8] عنوان المجد في تاريخ نجد1 / 126 لعثمان بن بشر ط: مكتبة الرياض الحديثة (دون تاريخ الطبع) .
[9] انظر تفسير ابن كثير 3/238 ط دار السلام ـ الرياض 1413هـ / 1992م.(39/320)
[10] أنظر في موضوع الغزو الفكري للعالم الإسلامي: (قلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها) للدكتور محمد عبد القادر هنادي، ط: مكتبة الطالب الجامعي 1408هـ/1978م - مكة المكرمة، وأيضا: (في الغزو الفكري) لنذير حمدان ط مكتبة الصديق - الطائف (دون تاريخ الطبع) .
[11] الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية -لمعالي الدكتور عبد الله التركي -ص 18 ط الزهراء للإعلام العربي 1409 هـ /1989 م القاهرة
[12] تاريخ نجد 2/11 وأيضا 2/ 219 الحسين بن غنام ط 1403 هـ الرياض والدرر السنية 1/31 -32 لعبد الرحمن بن قاسم القحطاني ط 1385 هـ / 1965 م.
[13] تاريخ نجد لابن غنام 2/155 والدرر السنية 1 /54 –55.
[14] المعجم الوسيط 1/20 مادة (أصل) مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط: طهران (دون تاريخ) وانظر لسان العرب 11/16 مادة (أصل) - محمد مكرم ابن منظور ط: دار صادر بيروت (دون تاريخ الطبع) .
[15] المعجم الوسيط 1/20 مادة (أصل) مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط: طهران (دون تاريخ) وانظر لسان العرب 11/16 مادة (أصل) - محمد مكرم ابن منظور ط: دار صادر بيروت (دون تاريخ الطبع) .
[16] انظر مجمع الفتاوي 1/20 ترتيب محمد بن قاسم ط: دار العربية 1398 هـ –بيروت
[17] العلمانية: هي اللادينية وعند بعضهم هي عزل الدين عن الحياة العامة وقصره داخل دور العبادة.الماركسية: نسبة إلى مؤسسها كارل ماركس الذي قال بان تاريخ الإنسانية قائم علي صراع الطبقات ونادى بالشيوعية في الممتلكات وكل ما فيه نفع. القومية: انتماء إلى أمة على أساس اللغة أو الأصل العرقي أو العقيدة، ظهرت في أوربا في القرن 19 م ثم امتدت إلى آسيا وإفريقيا.
= العنصرية: تصنيف الناس على أساس المعايير الفيزيقية كلون البشرة ونسيج الشعر والعرق.
المرقع: المذهب المشوب من كل أو بعض الاتجاهات والمذاهب الفكرية، كترقيع الثوب.(39/321)
الانفصامية: هي ذات الوجهين المتضادين.
انظر في المذاهب المذكورة: الموسوعة العربية الميسرة ط: 1406 هـ -1986 م دار نهضة لبنان للطباعة بيروت - والاتجاهات الفكرية المعاصرة للدكتور جمعة الخولي ط 1406 هـ / 1986 م الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[18] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 55 للزركلي ط: دار العلم للملايين 1984م بيروت، ومع عاهل الجزيرة ص21.
[19] الوجيز ص 78، والملك الراشد ص 381 لعبد المنعم الغلامي ط: دار اللواء للنشر - الرياض.
[20] الوجيز ص 141 والملك الراشد ص 373.
[21] الوجيز ص 126
[22] كان لقب صاحب الجلالة سنة 1345 هـ / 1926 م (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها) ، ثم صدر مرسوم ملكي عام 1451 هـ / 1932 م بتسمية البلاد (المملكة العربية السعودية) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/19 ط: 1416هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م.
[23] نفس المصدر السابق.
[24] جريدة أم القرى عدد الجمعة 3 ربيع الأول 1345 هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م.(39/322)
تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز
أصول المنهج وثوابته:
يعتمد بقاء الحضارات وسيادة الأمم - كما هو معروف - على أصالة المنهج وصلاحه واستمراره، وينفرد المنهج الإسلامي بخاصية الاستمرار والخلود فلا تتغير أحكام الشرع الأساسية وثوابته بتغير العصر، وقد أقام الملك عبد العزيز رحمه الله منهجه على أسس ثابتة مستمدة من الكتاب والسنة وهي:
الأصل الأول - عقيدة التوحيد:
وهي أصل الدين ومبعث الخير ومناط التوفيق، فلا يعبد في أرض الله إلا هو سبحانه، ولا يحكّم في عباد الله إلا شرعه، ولا يكون الولاء والبراء إلا على هذا المبدأ الأصيل والأساس الركين، ولا تستقيم مسارات الحياة كلها إلا وفق معطيات الدين الحنيف فهو دين كامل شامل، فيه العقيدة والشريعة والأخلاق، والشريعة تتضمن العلاقات الدولية، وتحث على الخير والأمن على نحو تتجاوب له الفطرة وتتناسق مع هديه متطلبات كل عصر.
كان الملك عبد العزيز رحمه الله يستشعر هذا المعنى العظيم للتوحيد، ويعرف ما تتسم به الشريعة من الشمولية والخلود، وما تثمره هذه العقيدة الخالدة من خيري الدنيا والآخرة، وما ينعم به المتمسك بالتوحيد الداعي إليه الذاب عنه من أسباب التمكين والتوفيق.
كان يدرك ذلك وهو يؤسس هذا الكيان الإسلامي الكبير على أساس العقيدة، وكان ذلك من نعم الله عليه وعلى شعبه وهو معنى كريم من معاني الأصالة التي أقام عليها منهجه، فها هو يقول في وضوح وجلاء:
"إنني والله لا أحب إلا من أحب الله حبا خالصا من الشرك والبدع، وأنا والله لا أعمل إلا لأجل ذلك، ولا يهمني أن أكون ملكا أو فقيرا، والله ثم والله إني لأفضل أن أكون على رأس جبل آكل من عشب الأرض وأعبد الله وحده من أن أكون ملكا على سائر الدنيا وما فيها" [1] .(39/323)
وقال: "والله ثم والله إن العجوز القابعة في وكرها والتي لا تملك من الثياب إلا الأطمار البالية وهي تعبد الله وحده عبادة خالصة هي أحب إلى قلبي من أي إنسان بلغ من العظمة والشأن ما بلغ إذ لا يؤمن بالله إيمانا صادقا خالصا، ولا يعمل بما جاء في كتاب الله" [2] .
وهذه الكلمات المنيرات تبين عن الإيمان العميق بالله، والقناعة الراسخة بعقيدة التوحيد، وأنه لا يعبد إلا الله وحده وأن ذلك هدف المسلم في حياته وهو معنى وجوده في الحياة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . [الذاريات: 56] .
وهذه العقيدة التي هي أساس الإسلام ومبناه، هي واضحة جلية بينة لا لبس فيها ولا عوج، وهي ما نزل به الكتاب المبين وبينته السنة المطهرة، وصدع به جميع الأنبياء والمرسلين ولا يستطيع أحد من المسلمين إنكار ذلك!.
ونستقي من هذا أن أساس منهجه عقيدة راسخة ومبدأ ثابت عليه تبنى كل مسالك الحياة، وهي مرد كل نازلة.
قال رحمه الله بخطبة له بمكة: "أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب بين أيديكم فإن كان فيها ما يخالف أمر الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة" [3] .
وهذا هو غاية الإنصاف، فالمسلمون جميعاً رئيسهم ومرؤ سهم ينبغي أن ينقادوا للحق وأن يتواصوا به وأن يكون ذلك مصدر اعتزازهم واجتماعهم.
ولقد بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أصل الدين وأهميته وأثر الاستمساك به، ومضت على ذلك أجيال من سلف الأمة خلت منذ فجر البعثة المحمدية.
فمن معطيات الدين ومقرراته وثوابته مما يستدل به من عشرات الأدلة:(39/324)
أن الله تعالى لا يقبل ديناً سوى دين الإسلام، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [آل عمران:85] .
وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 82] .
وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران19] .
وأن الإسلام مبناه وأساسه توحيد الألوهية بأن لا يعبد إلا الله ولا يصرف شيء من أنواع العبادة إلا له جل وعلا عما يقول الظالمون علوا كبيرا، قال تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] .
وفي عهد مؤكد يقطعه المسلم على نفسه أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم، وهو يقول في صلواته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . [الفاتحة: 5] .
وإن جميع الرسل إنما دعوا إلى هذا المبدأ العظيم والهدي القويم قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
وهذه كلمة التوحيد لا إله إلا الله نسمع صداها عبر أحقاب التاريخ في دعوة كل رسول ينادي بها، ويدعو إليها، ويجاهد في سبيلها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال جل ذكره: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2] .(39/325)
وأن عبادة الله سبحانه هي الهدف من خلق الثقلين، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] بل إن هذا الكون بما فيه ومن فيه لم يخلق إلا لهذا الهدف العظيم والمقصد الجليل، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] .
وأن التوحيد هو الذي من أجله جردت سيوف الجهاد وبذلت النفوس والأرواح قال تعالى: {و َقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" [4] .
وأن تحقيق التوحيد مناط الفوز بسعادة الدنيا ودار الكرامة في الآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وهو الأمن بكل صوره وأشكاله في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة" [5] .(39/326)
وأن ترك التوحيد - والعياذ بالله - ضلال مبين، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ونقيض التوحيد الشرك وهو سبب كل شقاء وبلاء، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .
وليس المقام هنا مقام إطناب وحسبنا هذه الإشارة ففيها غنية عن بسط العبارة.
وكما عرف الملك عبد العزيز بأصالته في تمسكه بالعقيدة، عرف بأصالته - أيضاً - وحصافته في الذب عنها والدعوة إليها بالأسلوب الحكيم والنهج القويم.
فها هو يبين للناس مبدأ العقيدة ومنهج الاعتدال الذي يدين به وينهجه كل مسلم سوي، ويذكر المسلمين بسلفهم الصالح ويذكرهم مع ذلك بأهمية وأثر العقيدة في الاستقرار والأمن والحضارة والتحصن من كل ما يكدر الحياة من مشكلات ومن كل ما يقعد به عن معالي الأمور:
قال الملك عبد العزيز في خطاب ألقاه في حفل أقيم بالقصر الملكي في مكة المكرمة في غرة ذي الحجة 1347هـ/ 11 مايو أيار 1929م قال:(39/327)
"يسموننا ((بالوهابيين)) باعتبار أننا أصحاب مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا، هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل وخالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن" [6] .
ونستشف مما سبق:
أن عبادة الله تعالى وحده، وهو ما يعرفه العلماء بتوحيد القصد والإرادة، وتوحيد العبادة والألوهية هو أصل الدين، بل هو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [7] وقد اتفق على ذلك علماء المسلمين في كافة العصور.
وأن من لوازم هذه العقيدة (الوسطية والاعتدال) وهي سمة أهل السنة والجماعة لم يخالفهم فيها إلا أهل البدع والأهواء كالخوارج ونحوهم [8] .
ولو استقرأنا أحوال المسلمين عبر التاريخ على اختلاف فرقهم لوجدنا أن خاصية التوسط والاعتدال مع التمسك بأصل الدين وأساسه وقاعدته وهو توحيد الله تعالى في ألوهيته ثم من بعد ذلك إقامة مسالك الحياة كلها وفق ذلك، مما اتسمت به عبر الأحقاب وفي كل الأجيال الطائفة المنصورة.(39/328)
لقد اعترى كثيرا من المسلمين على فترات من التاريخ الجهل بالدين فاندرست معالم السنن وظهرت البدع وصار ذلك رسما ينشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، وكان من رحمة الله أن قيض أئمة مهديين يحيون موات القلوب بإقامة السنة وقمع البدعة ودعوة الناس إلى التوحيد بالبيان تارة، وبالسنان تارة أخرى، وكان منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن السادس الهجري وشيخ الإسلام ابن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، والأئمة من آل سعود ومنهم الملك عبد العزيز وإلى يومنا هذا.
إن العقيدة الإسلامية تنمي في المسلم نوازع الخير، وتثمر في حياته كل خير وبر ورشد، وفيما يلي مقتطفات من ثمرات هذه العقيدة التي دعا إليها واحتضنها وأسس عليها دولته الملك عبد العزيز رحمه الله:
أ - الإخلاص لله ثم النصح للمسلمين:
ذلك أن العودة بالحياة الإسلامية إلى ما كانت عليه إبان فجر البعثة المحمدية، خالية من البدع والخرافات وكل ما أدخل في الدين مما ليس منه، والمجاهدة في سبيل تحقيق ذلك هو لب الأصالة وموئل الشرف، وكان ذلك ديدن الملك عبد العزيز رحمه الله.
قال التاريخ: وفي تموز سنة 1924 م صرح ابن سعود لوفد علماء الهند التصريحات التالية، قال: "أعترف أمام الله وأمام كل المسلمين بأني لا أريد إلا العودة إلى دين الإسلام الصحيح القويم، البعيد عن العقائد الوثنية التي ليست من الإسلام في شئ. وأن عقائدي هي عقائد أجدادي الأطهار الأتقياء، عاداتنا هي عاداتهم، وشعائرنا هي شعائرهم، وأننا نعود في كل شيء لأحكام القرآن الكريم وللسنة، ونحاول أن نعيش كما عاش الخلفاء الراشدون، وكل ما نطمع فيه أن يتحد العلماء المسلمون فيتحد العالم الإسلامي، نريد أن يكون اتحادنا قويا متينا، وأن يخضع العالم الإسلامي خضوعا تاما لأحكام القرآن والسنة" [9] .(39/329)
وهذه الكلمات المنيرات تعيد إلى الأذهان ما كان عليه الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون من نقاء السريرة وحسن السيرة، وصفاء العقيدة من كل شوب، مع بعد النظر وسداد الرأي، وأن الحاكم المسلم الورع التقي إذا أعمر ما بينه وبين الله تعالى وفقه الله لكل خير وجعله رحمة لشعبه وأمته، وإماما يقتدي به الأئمة في كل مجالات الخير، والمسلمون أجمعون مطالبون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم والأخيار ممن جاءوا من بعدهم وهم السلف الصالح الذين لا ينقطع حبلهم ولا تنفصم عروتهم.
وليس هذا المرقى الإيماني السامق بغريب من الملك عبد العزيز أكرم الله مثواه، فهو يذكّر أن هذه العقيدة التي هي أساس الإسلام ومبناه هي واضحة جلية بينة لا لبس فيها ولا عوج، وهي ما نزل به الكتاب وبينته السنة، وصدع به جميع الأنبياء والمرسلين ولا يستطيع أحد إنكار ذلك!
وهو رحمه الله بمنهاجه الأصيل هذا امتداد للأصل الثابت من آبائه الميامين، وتأمل كلمات ومواعظ سلفه مما وعته ذاكرة التاريخ.
فمن المواعظ الجامعة للإمام تركي بن عبد الله المتوفى سنة (1249 هـ) وكان من حفظة القرآن الكريم منذ صغره، قال رحمه الله:(39/330)
"بسم الله الرحمن الرحيم.. من تركي بن عبد الله إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: موجب الخط إبلاغكم السلام والسؤال عن أحوالكم والنصيحة لكم والشفقة عليكم والمعذرة من الله الذي ولاني أمركم والله المسئول أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، والله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] فالذي أوصيكم به تقوى الله في السر والعلانية، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] .
وجماع التقوى أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، وأعظم فرائض الله بعد التوحيد الصلاة، ولا يخفاكم ما وقع من الخلل بها والاستخفاف بشأنها وهي عمد الإسلام، الفارقة بين الكفر والإيمان، من أقامها فقد أقام دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر وصية كل نبي لقومه وهي آخر ما يذهب من الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وبعض الناس يسئ في صلاته، وأحدهم يتخلف عن الجماعة ويصلي وحده أو في نخله هو ورجاجيله والمسجد جار له، وفي الحديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" [10] (وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم بالنار لولا ما فيها من النساء والذرية) [11] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" [12] وهذه أمور ما يخفاكم وجوبها".
[ثم ذكر رحمه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب الزكاة وحرمة الربا وبيع العينة والتطفيف في المكاييل والموازين، في موعظة جامعة قال في آخرها] :(39/331)
"وأنا أشهد الله عليكم أني برئ من ظلم من ظلمكم وأنا نصرة لكل صاحب حق وعون لكل مظلوم، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] وأعزكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وكثركم بعد القلة، وأمنكم بعد الخوف، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم والسلام" [13] .
رحم الله الإمام ((تركي)) ورفع درجته في عليين، فلقد كان إماما ورعا تقيا نقيا، لقد صدق والله وبرّ، وما أعظمها من كلمات منيرات: "وأعزّكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وكثركم بعد القلة، وأمّنكم بعد الخوف، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم والسلام! ".
ونموذج آخر من مواعظ الإمام فيصل بن تركي، المتوفى سنة (1282هـ) : "بسم الله الرحمن الرحيم.. من فيصل بن تركي إلى من يصله هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإن أجمع الوصايا وأنفعها: الوصية بتقوى الله تعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وتقوى الله: أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله، ومعظم التقوى والمصحح لأعمالها توحيد الله بالعبادة وهي دين الرسل الذين بعثوا به وهو مبدأ دعوتهم لأممهم، وهو معنى كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وإخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2-3] .(39/332)
وقد بين الله تعالى معنى هذه الكلمة في كثير من الآيات المحكمات، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26] فهذا معنى لا إله، وقوله {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فهو معنى إلا الله، وقد عبر عنها بمعناها من النفي والإثبات، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية.
والآيات في توحيد العبادة أكثر من أن تحصر.
وهذا التوحيد هو الذي جحدته الأمم المكذبة للرسل، قال تعالى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 71] وجحده مشركو العرب ومن ضاهاهم من مشركي هذه الأمة، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} الآية [إبراهيم:9] وأما مشركو العرب فأخبر الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص: 5] ".
[ثم استطرد الإمام في سوق الأدلة إلى أن قال] :
"فيا من يدعي معرفة هذا التوحيد اعرف هذه النعمة وقدّرها فإنها أعظم نعمة أنعم الله بها على من عرفها وأحبها وقبلها وعمل بها وألزمها، فقابِلوها بالشكر ولا تكفروها بالإعراض عنها، واحذروا أن يصدكم الشيطان عن ذلك، واعلموا أنه قد غلط في هذا طوائف لهم علوم وزهد وورع وعبادة، فما حصل لهم من العلوم إلا القشور وقد حرموا لبه وذوقه، وقلدوا أسلافا {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] فيالها من مصيبة ما أعظمها وخسارة ما أكبرها فلا حول ولا قوة إلا بالله) إلى آخر كلامه رحمه الله" [14] .(39/333)
ومواعظ وخطب الأئمة في الحقيقة درر في التاريخ الإسلامي، وفي تاريخ الدعوة السلفية، وهي الزاد بعد القرآن والسنة فإنها من معينهما مستقاة، وكما أنها زاخرة ومفعمة بالروحانية والأصالة هي كذلك قطع أدبية راقية نستشف منها منهاج الحاكم المسلم وتقواه وورعه وخطته السياسية، وأن الدولة المؤسسة على أساس العقيدة الخالصة كما قامت في القرون الأولى المفضلة، ها هي اليوم ننعم بظلالها ونتفيأ نعيمها، وكان من آثارها تلكم الحضارة الإسلامية الزاهية التي لا نظير لها في تاريخ الإنسانية، أمن مستتب، وعيش وارف، وتلاحم وولاء بين القيادة والشعب، وتناصر وتناصح..
إن الدين الحنيف صالح ولا زال وسيظل كذلك لتأصيل المناهج السياسية والاجتماعية والإصلاحية على معطياته، كما هو مشاهد في عهد الملك عبد العزيز والملوك الأماجد من أبنائه الميامين: سعود وفيصل وخالد وخادم الحرمين الشريفين فهد، وستظل كذلك إلى آخر الزمان، بل إن صلاح الدول ونهضة الأمة وصحوتها منوط بتمسكها بدينها القويم، وهديها المستقيم.
وعودة إلى سيرة الملك عبد العزيز رحمه الله وأصالة منهجه وعمق إيمانه بالله ومضاء عزيمته وهو من هو مكانة في القيادات الإسلامية التاريخية نلحظ أنه لم يحد عن منهجه.
فقد جاء في الوصية لولي عهده:
"تفهم أننا نحن والناس جميعا ما نعز أحدا ولا نذل أحدا، وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره - عياذ الله - وقع وهلك، موقفك اليوم غير موقفك بالأمس.
ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:(39/334)
أولا - نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد إلى الله في الرخاء تجده الشدة، وعليك بالحرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه.
ثانيا - عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شئون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرا وعلانية والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنا وظاهرا، وينبغي أن لا تأخذك في الحق لومة لائم.
ثالثا - عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة، اجعل كبيرهم ولدا وأوسطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهن نفسك لرضاهم وامح زلتهم وأقل عثرتهم انصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فابشر بالخير. وأوصيك بعلماء المسلمين خيرا، احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم، واحرص على تعليم العلم لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة، احفظ الله يحفظك" [15] .
ب عبادته وورعه وتقواه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المؤمنين في كل زمان أعبد الناس وأخشاهم لله وأتقاهم، وكان يكثر من العبادة والتهليل والتسبيح، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فيقال له في ذلك فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا" [16] .
ومقام العبودية لله تعالى أشرف المقامات وأجلها وهو من لوازم التوحيد.
وعلى هذا السنن مضى خلفاؤه الراشدون وأصحابه المهديون، ثم جاء من بعدهم الأئمة الذين سلكوا سبيله، واجتهدوا ما وسعهم إلا اتباع سنته في كل جيل، وكان منهم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.(39/335)
قال التاريخ عنه أنه كان رحمه الله يحيي غالب الليل قائما يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن [17] .
وكان رحمه الله تعالى من الرأي والفراسة والتدبير ما ليس لغيره، وكان كثيرا ما يلهج بقوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] .
وكان قد ثقل آخر عمره فكان يخرج لصلاة الجماعة يتهادى بين رجلين حتى يقام في الصف وله من العمر نحو اثنتين وتسعين سنة [18] .
وعلى هذا المنهاج النبوي في العبادة وتزكية النفس تتابع الأئمة من آل سعود أكرم الله مثواهم، ومن ذلك مما وعته ذاكرة التاريخ:
أن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، المتوفى سنة 1218هـ كان كثير الخوف من الله والذكر، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم.. قال ابن بشر: "وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى، وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه كان يكثر الدعاء لهم في ورده، قال وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها" [19] .(39/336)
وقال التاريخ في سيرة الملك عبد العزيز: "اعتاد أن يستيقظ قبل الفجر بنحو ساعة فيقرأ سورا من القرآن الكريم ويتعبد ويتهجد وكثيرا ما يسمع له نشيج، ويستمر إلى أن يؤذن الفجر فيصلي الصبح مع الجماعة ويسبح ويقرأ ورد الصباح ويدخل فيضطجع إلى أن تشرق الشمس، وينهض فيغتسل ويلبس ثيابه ويفطر ثم يخرج إلى المجلس الخاص فتعرض عليه مهام الحكومة في فترة غير طويلة، يأذن بعدها بالمقابلات الخاصة لكبار الزوار، ثم ينتقل إلى المجلس العام، حيث يدخل كل من يريد مقابلته ويمكث نحو ساعة، فإذا اقترب وقت الظهر نهض إلى مجلسه الخاص فيعرض عليه ما تجدد من الشئون العامة إلى صلاة العصر، ويجلس بعدها لإخوانه وأولاده وأقاربه وكبار الموظفين، ثم يخرج بسيارته إلى ظاهر المدينة للرياضة، ويعود بعد صلاة المغرب، وبعد العشاء يجلس في مجلس شبه عام وهناك يحضر القارئ فيتلو فصولا من كتب مختلفة، وبعد قليل يدخل قارئ الإذاعة العربية فيتلو ما التقط من محطات الإذاعة الشرقية من متنوع الأخبار.. وفي نحو الساعة الرابعة عربية (العاشرة زوالي) مساء ينفض المجلس بنهوض الملك عائدا إلى داخل القصر بعد أن يتلطف بكلمات يختمها بتحية الجميع: السلام عليكم [20] .(39/337)
ويذكر معاصروه بعض أحواله في التعبد والتبتل حال سفره فيقول: ".. وفي صبيحة يوم السبت الموافق 5رجب [1345هـ] نهضنا من النوم وكان الليل مظلما والسكون سائدا ونسيم الصبا يهب هبوبا قارسا، وكان أول شيء طرق مسامعنا صدى صوت رخيم يخالط ذرات الهواء وهو يختلج في ذلك السكون، فدنوت مستقصيا عن مصدر هذا الصوت لما فيه من الرقة والعذوبة والخشوع في آن واحد، فلما قربت منه علمت أنه جلالة الملك يقرأ القرآن كما هي عادته في كل صباح قبل طلوع الفجر، وكان جلالته يتلو القرآن تلاوة يتخللها بكاء بخشوع عند قراءة آيات الترهيب خوفا من الله عز وجل، فمما لا ريب فيه أنه ليس هناك إنسان يسمع هذا الصوت بخشوع وقلبه يشعر إلا وعينه تدمع لمجرد سماع هذه القراءة الصادرة من ثغر ملك عظيم، ملأت عدالته جزيرة العرب من مشرقها إلى مغربها" [21] .
وقد رأينا فيما سبق ما جاء في وصيته لولي عهده وفيها: "وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه" [22] .
ويتبين من هذه المقتطفات من عبادته وتقواه - وهي مظهر من مظاهر الأصالة - أنه كان في ذلك يترسم منهاج السلف، فلم تكن العبادة منحصرة عندهم في الشعائر التعبدية الظاهرة كالصلاة والزكاة فحسب، بل تشمل ذلك وتشمل معه كافة مسالك الصلاح والإصلاح.
ولم يكن التبتل والإخبات ساعات أداء الصلوات المفروضة فحسب، بل كان سمة لازمة تكلل حياتهم كلها بالتوفيق والسداد، لأن العقيدة الخالصة المبنية على مبدأ الإخلاص والتوحيد ليست إيمانا راسخا فحسب، بل هي مع ذلك عمل صالح يحفزه قلب منيب وضمير حي.
ج – طرف من أخلاقه:(39/338)
من أبرز ما يشد المتأملين في أخلاق الملك عبد العزيز وهو سليل بيت أصيل عرف بالخلق الكريم:
(بره بأبيه) وكيف لا يبر عبد العزيز بأبيه وهو داعية التوحيد، وهو يعلم أن البر بالوالدين مقرون بالتوحيد في التنزيل الحكيم، ولقد كان بر الملك عبد العزيز بأبيه الإمام عبد الرحمن الفيصل آية يندر مثالها في سير الملوك..
يحدثنا التاريخ عن هذا الجانب المشرق من أخلاق عبد العزيز الملك الإنسان فيقول: "بعد عودة جلالته من مكة المكرمة إلى الرياض كنت أرى جلالة الملك تأدبا مع أبيه، يقف على الباب قبل الدخول يصلح من عقاله ويرتب ثوبه، فيدخل بكل أدب وخشوع حتى وصل والده فقبله بين عينيه وجلس بين يديه بكل احترام وإجلال، ثم قدم لجلالة والده بعض رجال حاشيته، وطفق يسأل والده عن صحته وراحته وهو متيقظ بكل بادرة تبدو من أبيه ليأمر بالإسراع في إنفاذها، أقمنا قليلا في المجلس نسمع حديث الإشفاق والتحنان يتداول بين الولد وأبيه ثم خرجنا من المجلس وتركناهما يتناجيان.
هذا ما استطعنا وصفه من المشهد، وأما ما كان يدركه الوجدان من حس العطف الأبوي وخفض جوانح الذل من الرحمة في الولد فهذا ما نعجز عن وصفه، وانه لخلة في جلالة الملك وعلو في نفسه أن يرى الناس فيه - وهو الآمر الناهي في ملكه - هذا الانقياد والطاعة لأبيه، وإنها لمنزلة من الرضوان حق له أن يفاخر بها، وحق على باقي أفراد الرعية أن يتأسوا بتواضعه" [23] .
فهذه العلاقة بين الأب وابنه التي ذكرها حتى الغربيون بشيء كثير من الإعجاب [24] كانت نابعة من الأصالة التي غرسها الإسلام في أبنائه، فعبد العزيز في غمرة النصر وفي نشوة الغلبة والحكم وحتى بعد أن أخضع سائر خصومه واستتب له الأمر ظل بارا بوالده خافضا له جناح الذل من الرحمة كما أمر القرآن الكريم، وهذا نموذج في الحكام قليل بل نادر.(39/339)
وتتبدى أصالة عبد العزيز كثيرا في سيرته الميمونة في هذا الخلق العظيم، قال الزركلي تحدث فلبي عن أول مرة رأى فيها الملك عبد العزيز سنة 1333هـ[1915م] فقال ما خلاصته: "دخلت الرياض يصحبني الكولونيل كانليف أوين، وجندي يخدمنا وقد ارتدينا الملابس العربية وكان في استقبالنا إبراهيم بن جميعة فدخل بنا القصر إلى غرفة كان فيها شيخ ضئيل الجسم في نحو السبعين من عمره، سلمنا عليه ودعانا إلى الجلوس وجئ بالقهوة، وهو يسأل عن أحوالنا ويلاطفنا، قال فلبي: وبينما كنت أقول في نفسي من هذا؟ وأين ابن سعود؟ إذا بالشيخ ينهض متمهلا ويقول: مرحبا بكم، حديثكم مع الابن عبد العزيز.. وما كاد يتوارى حتى انتصب من زاوية المجلس عملاق أقبل علينا فعرفنا أنه سيد الجزيرة، وكان منطويا على نفسه في حضور أبيه، وكأن عيني لم تقع عليه" [25] .
ومثل هذه الأخلاق لا تبدر إلا من ذوي الخلق العظيم والحظ العظيم.
وكان رحمه الله يقول: "رحمة الله على والدي لقد كان يعاملني كأنني أنا الوالد وهو الولد، وما رأيت قط كهذه بين الآباء والأبناء أو بين الإخوة والأقربين" [26] .
ومن لطائفه المؤثرة التي تستأهل وقفات ووقفات للتأمل والاتعاظ بأخلاق عبد العزيز الإنسان المسلم أنه دخل على أبيه الإمام عبد الرحمن في الرياض فقبل يديه وتزود بدعائه ورضاه، واحتشد من في الرياض لوداعه فكان مما قال: "إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها بل لرفع المظالم عنها، إني مسافر إلى مهبط الوحي لبسط أحكام الشريعة ولن يكون في مكة بعد الآن سلطان لغير الشرع"وكان سفره من الرياض على الذلول يوم 13ربيع الثاني 1343هـ[27] .
ومن أخلاقه لينه وتواضعه لشعبه، ومن حق جيلنا أن يعرف أصالة الأخلاق التي تبوأها الملك عبد العزيز، والأخلاق في كل أمة وفي كل جيل هي معيار الأصالة ومقياس الصلاح والتقوى.(39/340)
يقول المستشرق فلبي بعد أن ذكر الشورى وتلاحم الشعب بقيادته: ".. ويعود الفضل في ذلك بالطبع لابن سعود إذ أنه لم يقطع الاتصال برعاياه مهما سبب له ذلك من إزعاج، لا فرق بين الكبير والصغير، والغني والفقير، كان يستمع إلى شكاواهم ويساعدهم في التغلب على مصاعبهم، وكان هذا طبيعة فيه تلازمه، وإنه لمن المدهش حقا أنه استطاع بالرغم من مشاغله العظيمة والمزعجة أن يجد متسعا من الوقت يقوم فيه بتأدية هذه الآلاف المؤلفة من المساعدات البسيطة أو يفكر فيها، هذه المساعدات التي حملت الكثيرين من الناس بعد وفاته على أن يمجدوا ذكراه ويترحموا عليه، فلقد كرس حياته لخدمة الآخرين، وربما كان هذا هو السبب الذي جعله لا يكل جزءا من هذه الأعباء التي يحملها على عاتقه طول حياته لأخلص مستخدميه وموظفيه" [28] .
وكثيرا ما نقرأ في سيرة الملك عبد العزيز وكثيرا ما نسمع من كبار السن الذين عاصروه أنه كان يناديه أفراد شعبه باسمه المجرد وكان أحدهم يقول يا عبد العزيز! ويرفع مظلمته ويعرض حاجته وهو في موكبه الملكي فيقف وينصت ويأمر ويوجه، وهذه في الحقيقة أخلاق لا تصدر إلا من مشكاة النبوة يتمثلها الحاكم المسلم الورع فيزداد قربى من الله وزلفى ويزداد في أعين شعبه تألقا ورفعة.
ومما يدل على كرم معدنه وأصالته أن كان يقوم بمسئوليته الجسيمة في إدارة دفة الحكم وتصريف شئون الدولة بتفان وإخلاص عظيمين ولو على حساب صحته، وهذا ما دفع المستشرق الإنجليزي فلبي إلى القول: "إنها هنات مزايا رجل عظيم، رجل عظيم لا يضاهيه أحد في منطقته مخلص في دينه وصادق وغيور على سمعته واسمه وخير شعبه، لهذا فإنه لم يثق بأي من موظفيه ورعيته في أن يخدمه بالغيرة والكفاءة اللتين أظهرهما هو في خدمتهم، وكثيرا ما كان يردد القول المعروف: كبير القوم خادمهم" [29] .(39/341)
وعلى الجملة فإن الله تعالى لحكمة يريدها وهب عبد العزيز من الخصال الفريدة المتكاملة ما جعله بها إماما تجتمع عليه القلوب، وتتناهى إليه المكارم وتهتف بقيادته الراشدة ربى المملكة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها.
وهذه الخلال الفريدة والخصال الحميدة هي في أصالتها لمما يغرسه الإسلام في أبنائه فتكون أخلاقهم متناسقة مع الفطرة متجاوبة مع الطبيعة البشرية السوية بعيدا عن الشطط والتقلب.
يقول العقاد: "إذا عرفت الملك عبد العزيز ثلاثة أيام فكأنك عرفته ثلاث سنوات أو لازمته في أطول الأوقات، لأن هذا الرجل العظيم مطبوع على الصراحة ووضوح المزاج، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض التي يحدث منها اختلاف الحالات وتناقض العادات، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة ولا يواجه عارفيه في حالتي رضاه أو غضبه بخليقة لم تكن لهم في الحسبان" [30] .
الأصل الثاني - تطبيق الشريعة:
من الأسس الجديرة بالدراسة والتنويه (تطبيق الشريعة الإسلامية) وهو سبب قوة المسلمين وعزهم ونصرهم، وبه تكفل حقوق المسلم بل حقوق الإنسان أينما كان لأن الشريعة نظام شامل كامل.
جاء في الموسوعة العربية العالمية: "اختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز شكل وشعار الدولة وعلمها الحاليين، وقام دستور الدولة على القرآن ويقوم الحكم فيها على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أثر عن الصحابة وتابعيهم بإحسان وما عليه الأئمة الأربعة وصالح سلف الأمة، وتطبق الدولة في المعاملات والأحوال الشخصية المشهور من مذهب الحنابلة" [31] .(39/342)
لقد كان تحقيق العدل ونشر التعليم وإنفاذ الأحكام الشرعية وبسط رواق الأمن ديدن الملك عبد العزيز وهاجسه وهو يرنو ببصره إلى امتداد رقعة الوطن، فقد أرسى قواعد القضاء الشرعي، وأمر بإعداد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشكل مجلس الشورى، ونشر مدارس للتعليم على طول رقعة البلاد وعرضها، وأمر بتوطين البدو وإقامة الهجر، وأمر باتخاذ كل وسيلة عصرية في تحقيق ما يصبو إليه، كل ذلك وغيره لتتضافر أجهزة الدولة على إرساء العدالة ومحاربة الجهل والمرض والفقر.
قال رحمه الله: "إن خطتي التي سرت عليها - ولا أزال أسير عليها - هي إقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى أن من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف" [32] .(39/343)
ومن سيرته مع شعبه قوله رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في الحجاز في بلاغ عام: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى إخواننا أهل الحجاز سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أحمد الله الذي صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وأهنئكم وأهنئ نفسي بما من الله به علينا وعليكم من هذا الفتح الذي أزال الله به الشر وحقن دماء المسلمين وحفظ أموالهم، وأرجو من الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه ومتبعي هداه [إلى أن قال] لقد مضى يوم القول ووصلنا إلى يوم البدء في العمل، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباع مرضاته والحث على طاعته، فإنه من تمسك بالله كفاه ومن عاداه والعياذ بالله باء بالخيبة والخسران، إن لكم علينا حقوقا ولنا عليكم حقوقا، فمن حقوقكم علينا النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم وأعراضكم وأموالكم إلا بحق الشريعة، وحقنا عليكم المناصحة والمسلم مرآة أخيه، فمن رأى منكم منكرا في أمر دينه أو دنياه فلينا صحنا به فإن كان في الدين فالمرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان في أمر الدنيا فالعدل مبذول منا إن شاء الله للجميع على السواء. ." [33] .
ومن هذا البلاغ التاريخي يُستشف شمولية المنهج الذي تحض عليه الشريعة الغراء وتأمر به، وأن القرآن العظيم والسنة المطهرة من الشمولية والعمق بحيث يستوعبان أحداث كل عصر ومصر، نصا أو استنباطا أو قياسا أو اجتهادا على نحو ما يفصله علماء أصول الفقه، وقد كان فقه هذه الشمولية في عقل الملك عبد العزيز وقلبه وهو من هو في خدمة الشرع.(39/344)
يقول الزركلي: "كان الملك عبد العزيز كلما سئل عن دستور بلاده أجاب: دستورنا القرآن وهو يعني تقيده هو ومملكته بأحكام الشرع الإسلامي المستمدة من معاني القرآن، وما لم يكن فيه فمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه وسيرتهم، وما لم يكن فمن نهج أهل العدل والعقل والسيرة الحسنة من سلف الأمة، وما لم يكن ففي النظم ما قد يقوم مقام التشريع" [34] .
وجوانب الإصلاح التي تحض عليها الشريعة كثيرة لا يتأتى حصرها في هذا المقام مما حفلت به سيرة الإمام الملك عبد العزيز كالتنظيمات الداخلية للدولة، وعلاقاتها الخارجية، وأقتصر في هذا المقام على بعض تلك الجوانب ومنها:
1 العلم والتعليم:
"وجه الملك عبد العزيز عنايته واهتمامه بالتعليم ففتح المدارس النظامية والمعاهد، ووزع الكتب الدراسية، ووزع مساعدات مالية على الطلاب تشجيعا لهم على مواصلة تعليمهم، واستقدم المدرسين من خارج البلاد، وأرسل البعثات إلى الخارج، وأسس المكتبات العامة، وشجع طباعة الكتب وبخاصة الكتب الدينية والكتب التي تفيد في تدريس اللغة العربية وفهمها ووزع كل ذلك دون مقابل" [35] .
لقد واكب العلم والتعليم مسيرة البناء منذ فجر الدعوة الإصلاحية، وعلى سبيل المثال ففي أيام الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (ت 1229هـ) وهو من تلاميذ شيخ الإسلام كان يقرأ في مجالسه تفسير ابن جرير الطبري، وابن كثير، ورياض الصالحين، وصحيح البخاري، وغيرها من كتب العلم [36] .
وعلى هذا المنوال كان باقي الأئمة رحمهم الله.(39/345)
وفي الحقيقة فإن العلوم الشرعية على تعدد أبوابها واختلاف مدارسها يجب أن يتصدى لها فريق من الأمة تعلما وتعليما كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" [37] .
وأيضا فإن قدرا من العلوم الشرعية لا يسع المسلم جهله مما هو معدود في الثقافة الشرعية يجب أن يتعلمها العامي ليؤدي فرائض دينه ويعرف الحلال والحرام ويقوم بالحقوق والواجبات تجاه الآخرين، لا سيما علم التوحيد والعقيدة وفي هذا يقول ابن بشر: "إن مسائل التوحيد ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها أوتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل، والمحرم والحل والذكر والأنثى" [38] .
وهذا الأمر في الحقيقة جدير بأن يهتم له كل معلم ومربي وداعية وسائس وغيرهم من علماء المسلمين وولاتهم وعامتهم.
وقد نبه إلى ذلك أهل العلم كما في قول الشيخ محمد رحمه الله في مفتتح كتابه الأشهر الأصول الثلاثة: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل (الأولى) العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. (الثانية) العمل به. (الثالثة) الدعوة إليه. (الرابعة) الصبر على الأذى فيه.."إلى آخر كلامه رحمه الله.(39/346)
وسيرة الملك عبد العزيز رحمه الله حافلة بالعلم والتعلم والتعليم، فإن مجالسه العامرة لم تكن لتخلو من العلماء ومن المسائل العلمية التي كانت تحظى باهتمامه في مجالسه، وكانت نفسه الكبيرة تتوق إلى مزيد من العلم، فها هو يقول: "إن الحروب شغلتني عن التبحر في العلوم والتوسع في الدراسة، أما الذي استوفى نصيبه منها فهو هذا، ويشير إلى سمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن أخي جلالته حيث كان في مجلسه بجواره" [39] .
وهذا تواضع منه رحمه الله وإلا فإن مداومته للاستماع إلى الكتب تقرأ بين يديه أزمنة مديدة ومناقشاته العلمية تركت في شخصه الكريم - ولا شك - آثارا علمية مرموقة.
يقول ابن مانع: "وكانت معرفة الملك بالدين وإخلاصه للإسلام من الأمور التي جعلته يعتبر من أعظم قادة المسلمين عبر التاريخ، وكان قادرا على شرح القرآن وتفسيره بطريقة ممتازة مفهومة لدى أبسط رجال البادية، وفي اعتقادي أنه قدم للعقيدة الإسلامية خدمة لم يقدم مثلها أي رجل في هذا الزمن" [40] .
ويذكر معاصروه أن اهتمامه بالعلم كاهتمامه بالاطلاع على الأحداث التي تجري في العالم، فقد كان يصغي إلى فصول تقرأ بين يديه من كتاب أو معلومة يسمعها من أجهزة الإعلام، ولتحقيق ذلك بانتظام يتقيد بمواعيد حياته اليومية، وكان ذلك جزءا من برنامجه اليومي.(39/347)
يقول العقاد: "وجلالته يبكر في الإفطار ويأمر بالغداء في الساعة الثانية عشرة ظهرا ولا يتأخر عشاؤه عن الساعة السادسة في المساء، ومواعيده في النوم واليقظة منتظمة في جميع المواسم والأوقات، فيستيقظ قبل الفجر ويقضي نحو ساعة في التهجد وقراءة القرآن ويصلي الفجر حاضرا، ثم يحيل بعض خاصته لإطلاعه على مهام الأمور التي تتطلب التعجيل ثم يغفي قليلا ويخرج للناس ومن عاداته بعد العشاء أن يصغي إلى فصول من كتب التفسير والحديث، أو كتب الأدب والتاريخ ثم تلقى عليه أخبار الإذاعة التي يتلقاها الموظف المنوط بها من أهم المحطات العربية والشرقية فيعقب عليها أحيانا تعقيبا موجزا يدل على بعد النظر وتتبع الأحوال السياسية في مشارق الأرض ومغاربها" [41] .
ويقول أيضا: "أربعة وخمسون عاما عاشها في المملكة لم يختلف في يوم منها برنامجه ونظامه إلا لطارئ من طواري الزمن، أربعة وخمسون عاما يتلى بين يديه ساعة معنية كل يوم منها فصل من التفسير، وفصل من التاريخ يختم على الأكثر بالمناقشة في أهم ما اشتمل عليه " [42] .
وهذا البرنامج العلمي طيلة هذه السنون - ولا شك - كان كافيا لقراءة عشرات الكتب بين يديه في مختلف العلوم والفنون، وأضفى ذلك على شخصه المهيب مزيدا من الفضل والتبصر والحكمة.
والألطف والأعجب من هذا أن الملك عبد العزيز كان حتى في أسفاره قبل استعمال السيارات على هذا النهج - إذ كانوا يسافرون على الإبل والخيول - شديد الحرص على اصطحاب العلماء ليقرءوا عليه فصولا ضافية من كتب التراث الإسلامي، فمما يرويه سمو الأمير طلال بن عبد العزيز قال: يسيح الأربيون فيحملون في حقائبهم الكتب التي تروق لهم مطالعتها في ساعات السفر، وكذلك كان موكب والدي وهو يقطع تلك الفيافي ومعه الكتب الدينية والأدبية والتاريخية يطالعونها في النهار وفي الليل، أجل تراهم يسمرون في السرى فإذا ما طال الليل سمع عبد العزيز ينادي:(39/348)
"العجيري" [43] .
وقد يكون "راوية نجد"معتزلا الركب كما هي عادته فيكرر أحد الرجال قول الوالد "يا عجيري تقدم"فيحث الراوية راحلته ويدنو من الوالد فيسلم ويشرع يقرأ، أجل إنك إن كنت لا تراه تظنه يقرأ كتبا من كتب الأدب أو الشعر، ولكن العجيري لا يحمل كتابا، العجيري يحمل في رأسه الأغاني والكامل والبيان والتبيين وغيرها من الكتب، وبضعة دواوين من الشعر، وله صوت منشد يحسن مده حين يرفعه بالإنشاد والإلقاء.
العجيري: ماذا يبغي الإمام؟ فصلا في مكارم الأخلاق؟ أم فصلا في الشجاعة والإقدام؟ أم فصلا في البر والتقوى؟ أم فصلا في نوادر الملوك؟ وإذا ما أخذ في القراءة أفاض.. وفي ساعات الإدلاج بعد أن تسري الحملة وأمامها العلم، وبجانبه راكب يحمل قنديلا يسمع الصوت ينادي:
العجيري.
فيدنو الراوية من عبد العزيز ويطفق يرتل طائفة من آي الذكر الحكيم ترتيلا جميلا متأنيا تكاد تعد معه حروفه.. ثم يؤذن المؤذن لصلاة الصبح، وبعد الصلاة تأتي القهوة ويستأنف الموكب السير، فينادي الوالد:
أين الشيخ؟
فيلبيه أحد العلماء، ويشرع يتلو ما تيسر من القرآن، وعند الضحى يدعو ثانية أو يدعو غيره من العلماء، قارئ الرحلة مثلا، فيسلم هذا زمام راحلته إلى خادم يقودها ويتناول من حقيبته "السيرة النبوية"أو "تاريخ ابن الأثير"أو "الترغيب والترهيب" فيأخذ في القراءة ساعة أو ساعتين بصوت عال يسمعه المتقدمون والمتأخرون في الموكب.
ويظل الموكب يسير بنظام لا يخرج عليه متضامين متآزرين، كوكبة من الفرسان تتقدمه وتكاد أحيانا تغيب عن الأنظار تستكشف.." [44] .(39/349)
وكان من حرص الملك عبد العزيز على العلم والتعليم أنه كان يرسل "المطاوعة"إلى البادية وإلى الهجر التي أنشأها لتوطين البدو ليقوموا بمهمة التعليم والإرشاد، وكان ذلك جزءاً أساساً في مكافحة الجهل والأمية وتأصيل التدين بتجنيبه داء التطرف والغلو، والارتقاء في سلم التحضر والعلم [45] .
ويمكننا القول بعد هذا أن الاحتفاء بالعلم والعلماء جزء من مسيرة البناء في سيرة الملك عبد العزيز، وأن السياسة التعليمية في المملكة منذ تأسيسها اتسمت بالخصائص التالية:
1 الاهتمام بالعلوم الشرعية لا سيما علم التوحيد في مختلف مراحل التعليم.
2 الاهتمام بالقرآن العظيم وحفاظه وهو ما تجلى فيما بعد في مدارس تحفيظ القرآن العظيم التابعة لوزارة المعارف وأيضا التابعة للرئاسة العامة لتعليم البنات، وحلق تحفيظ القرآن الكريم التي تشرف عليها وزارة الشئون الإسلامية.
3 الاهتمام بالعلوم النظرية والتطبيقية المتعددة لمواكبة العصر، وكان من مظاهر ذلك البعثات التحضيرية للدراسة بالخارج والاستفادة من الخبرات العلمية والعملية، وأيضا استقدام العلماء للتدريس في المدارس المستحدثة بالمملكة، يوم كان هذا النوع العصري من الدراسة جديدا لم يعرفه المواطنون قبل عهد الملك عبد العزيز.
4 تشجيع مختلف العلوم والفنون النافعة والتخصصات التي تخدم الإنسان وتعلي شأن الوطن.
ومما يذكره التاريخ من بدايات التعليم النظامي في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله:
· أنه أسس مديرية المعارف العامة عام 1344 هـ / 1926م.
· أول بعثة تعليمية للطلاب السعوديين إلى الخارج كانت عام 1346 هـ / 1927م.
· إنشاء معهد الرياض العلمي سنة 1370 هـ / 1950م وكلية العلوم الشرعية بالرياض سنة 1373هـ / 1953م وكان المعهد والكلية نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فيما بعد [46] .(39/350)
ولا بد من وقفة للإشادة والتنويه بخاصية تكاد تنفرد بها السياسة التعليمية في المملكة من بين كثير من الدول العربية الإسلامية - وتعد من العوامل الأساسية لاستقرار المملكة - وهي خاصية التعليم الديني الشرعي الذي أرسى دعائمه الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، فلقد أثمر ذلك ثمارا يانعة، إذ يلقن الطالب منذ صباه أساس العقيدة الإسلامية، فيدرس الأصول الثلاثة التي لا يسع المسلم جهلها: معرفته ربه عز وجل، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ودينه، وذلك منذ السنة الأولى من المرحلة الابتدائية ثم يترعرع في رياض التوحيد والعقيدة الصحيحة على اختلاف مراحل التعليم إلى المستويات العليا فينشأ نشأة دينية سوية، لا مكان فيها للتطرف الناشئ من العلم الناقص والتعلم الديني العشوائي، والزيغ المنبعث من التصورات المنحرفة لمفاهيم الدين الحنيف وأسسه ومقاصده.
فالسياسة التعليمية في المملكة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإن لهذه التربية الدينية القويمة التي تتسم بالأصالة والوضوح آثارها العاجلة والآجلة، فمن ذلك ومما ينبغي هنا أن يذكر فيشكر أن المملكة تخلو - بفضل الله ثم بفضل سياسة التعليم الديني - من الغلو في الدين ومن العنف وتلقف المبادئ الحزبية المناوئة لمنهج الاعتدال والوسطية في الإسلام.
إن خلو المجتمع من هذه الآفات ثمرة طبيعية للتنشئة الدينية السوية منذ المراحل المبكرة فيشب الطالب وقد عرف أسس دينه وأصول الحقوق التي تجب عليه تجاه خالقه، وتجاه نفسه، ومجتمعه وأمته، وذلك بفضل الله أولا ثم بفضل التعليم الديني الشرعي الأصيل الصافي النابع من الكتاب والسنة بعيدا عن التحريف والغلو ومنذ سن مبكرة، وهذه من مآثر الملك عبد العزيز رحمه الله ومآثر سلفه أجزل الله مثوبتهم وكتب ذلك في صحائفهم.(39/351)
يقول الدكتور فؤاد فارسي: "أما واضعو السياسة التعليمية السعودية فقد تدبروا النظام التعليمي السعودي من منظور آخر، فاستطاعوا التصدي لمشكلة مهمة تسود في بلدان أخرى ألا وهي مشكلة الثغرة الثقافية الناجمة عن التأكيد الشديد على التعليم العام من ناحية وإهمال التعليم الديني من ناحية أخرى، فبفضل الثقافة الإسلامية المتغلغلة في المملكة العربية السعودية استطاع النظام التعليمي السعودي تفادي المشكلة الملحة المتمثلة في صبغ التعليم بالصبغة العصرية على حساب الدين، لأن الدين يدرس في جميع المراحل التعليمية.
ويلحظ في مصر - مثلا - أن دروس الدين في مراحل التعليم الثانوي والجامعي محدود جدا، بل إن الطلاب في آخر مراحل التعليم الثانوي يدرسون الدين ولكنهم لا يمتحنون فيه ضمن الامتحانات النهائية، فترتب على ذلك إهمال الطلاب لدروس الدين وعدم الاحتفال بها، أما في المستوى الجامعي فالدين لا يدرس إلا لطلاب الجامعة الأزهرية.
والوضع في المملكة العربية السعودية يختلف عن ذلك تماما إذ يدرس الدين في مرحلة التعليم الثانوي بكل الجدية، ويعامل بما له من منزلة عليا، أما في المرحلة الجامعية فيتم تدريس الدين بقدر معقول إلى جانب الدروس الأخرى في جميع سني الدراسة، وبالنسبة لجميع الطلاب.(39/352)
والدين والثقافة الإسلامية للجميع من متعلمين وغير متعلمين لأنه منهاج حياة، ولأنه يمنح الناس طمأنينة نفسية وسكينة قلب متى عرف طريقه إلى أرواحهم، وعندئذ يهون عليهم تأدية أي نشاط والتركيز التام على إنجازه، والمسلم الصحيح يبقى عميق الإيمان بدينه على الدوام، حتى ولو بلغ أعلى مراتب التعليم في الميادين المختلفة، وينبغي لنا أن نلحظ أن معظم النُّظم التعليمية في بلدان الشرق الأوسط إن لم تكن كلها هي نظم نقلت من تجارب استعمارية سابقة وهو ما يغل يد السياسات التعليمية في تلك البلدان، ولو أرادت أن تتكيف تكيفا يتفق مع احتياجاتها الوطنية لاقتضى ذلك إجراء تغيير واسع ومضن في الأوضاع والمؤسسات التعليمية، ولكن الحال في المملكة العربية السعودية مختلف من حيث أن النظام التعليمي السعودي قد استطاع تجنب كل هذه السلبيات منذ البداية الأولى، فأتاح لواضعي السياسة السعودية فرصة عظيمة لتوجيه احتياجات النظام التعليمي إلى تحقيق مطالب البلاد، هذا مع الاسترشاد بمعظم النظم التعليمية المتقدمة في العالم [47] .
وهذه بعض أسس ومحاور السياسة التعليمية:
· الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
· التصور الإسلامي الكامل للكون والإنسان والحياة، وأن الوجود كله خاضع لما سنه الله تعالى ليقوم كل مخلوق بوظيفته دون خلل أو اضطراب.
· الحياة الدنيا مرحلة إنتاج وعمل، يستثمر فيها المسلم طاقاته عن إيمان وهدى للحياة الأبدية الخالدة في الدار الآخرة، فاليوم عمل وحساب وغدا حساب ولا عمل.
· الرسالة المحمدية هي المنهج الأقوم للحياة الفاضلة التي تحقق السعادة لبني الإنسان وتنقذ البشرية مما تردت فيه من فساد وشقاء.
· طلب العلم فرض على كل فرد مسلم، ونشره وتيسيره في مختلف المراحل واجب على الدولة بقدر وسعها وإمكاناتها.(39/353)
· العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي بفروعه، والثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم العالي.
· الثقة الكاملة بمقومات الأمة الإسلامية وأنها خير أمة أخرجت للناس، والإيمان بوحدتها على اختلاف أجناسها وألوانها وتباين ديارها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
· التضامن الإسلامي في سبيل جمع كلمة المسلمين وتعاونهم ودرء الأخطار عنهم.
· شخصية المملكة العربية السعودية متميزة بما خصها الله به من حراسة مقدسات الإسلام وحفاظها على مهبط الوحي، واتخاذها الإسلام عقيدة وشريعة ودستور حياة، واستشعار مسئوليتها العظيمة في قيادة البشرية وهدايتها للخير.
· الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بالحكمة والموعظة الحسنة من واجبات الدولة والأفراد وذلك هداية للعالمين، وإخراجا لهم من الظلمات إلى النور وارتفاعا بالبشر في مجال العقيدة إلى مستوى دين الله القويم [48] .
2 القضاء:
العدالة ثمرة الإيمان، والأمن - كذلك - ثمرة العقيدة إذ يذعن الجميع لحكم الله ويسلمون لأحكام شرعه وينقادون لأمره ونهيه، وهذه خاصية ينفرد بها القضاء في الإسلام، فالعدالة في المجتمع الإسلامي مطلب شرعي قبل أن يكون ضرورة حياتية.
وقد عبر الملك عبد العزيز رحمه الله عن هذا المطلب الأسنى بقوله: "لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم، ألا قد بلغت اللهم فاشهد " [49] .
والمتتبع لتاريخ القضاء يجد أن التنظيم القضائي بدأ مبكرا إذ واكب تأسيس المملكة، فقد وضع الملك عبد العزيز قواعد النظم القضائي في المملكة بإصدار المرسوم الملكي بتاريخ صفر سنة 1346 هـ الموافق 12 أغسطس 1927م بتشكيل المحاكم في الحجاز على ثلاث درجات هي:(39/354)
محاكم الأمور المستعجلة "محاكم جزئية".
محاكم كبرى ومحاكم ملحقة وهي عبارة عن "محاكم عامة ".
هيئة المراقبة القضائية "محكمة التمييز"ولكل محكمة اختصاصاتها [50] .
ونصت قواعد النظام القضائي على:
1 مبدأ الالتزام بالأحكام الشرعية.
2 مبدأ الاستقلال القضائي.
3 مبدأ القاضي الفرد وتعدد القضاة.
4 مبدأ إجازة الحكم بالأغلبية.
5 مبدأ تحديد الحكم بالنوع وبالأشخاص.
6 مبدأ استئناف الحكم إلى محكمة أعلى.
7 مجانية القضاء [51] .
والقضاء في المملكة متميز بخصائصه الإسلامية إذ ينبثق من أحكام الدين الحنيف ويستمد استقلاله وأحكامه وسائر مبادئه من الشرع المطهر، فلا تحاكم إلى غير شرع الله، ولا مجال للقوانين الوضعية لا في الأحوال الشخصية ولا في المعاملات الأخرى ولا في غيرها من مجالات الحياة، وهذه بفضل الله ثم بعزيمة الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده صفحة إسلامية مشرقة في تاريخ المسلمين المعاصر.
قال رحمه الله: "أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة، أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب بين أيديكم فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة" [52] .
3 الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] مع التمكين في الأرض يقوم عباد الله الصالحون بشعيرة الحسبة على الوجه المرضي، ويتواصون بها صونا لسنن الإسلام من الاندراس وإقامة لشعائر الدين ورفعا من شأنه بتقوية وازع الدين والضمير وبالاستعانة بهيبة السلطان.(39/355)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث:
أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه.
ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه.
صابرا على ما جاءه من الأذى.
وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه، وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه" [53] .
فالشيخ - رحمه الله - بهذه الكلمات القليلة يشير إلى ما قاله علماء الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروط من يتصدى لذلك، وأصول تغيير المنكر ومقاصده، هذا ما يتعلق بالحسبة. وكذلك الدعوة إلى الله تعالى فإن رسالة المسلم في الحياة إيصال الخير للغير والعمل على إعلاء كلمة الله بالأسلوب الحكيم والسمت الرزين، وسبيل الدعوة إلى الله تعالى بين واضح فمقصد الدعوة الأجلّ: تحقيق العبودية لله تعالى، فلا يعبد في أرضه غيره، ولا يتبع في عباده غير شرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا ما كان في بؤرة اهتمام الملك عبد العزيز وهو ينهض بواجب الدعوة ويأمر بإنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكّر المسلمين أن الدعوة إلى الله هي طريق الصحوة ونهضة الأمة.(39/356)
قال رحمه الله: "إنني أدعو المسلمين جميعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع للعمل بما كان عليه السلف؛ الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بما كان عليه السلف الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، إن المسلمين لا يرقون ولا ينهضون بالبهرجة والزخارف، إن سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص والخروج من أسر البدع والضلالات والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله الكريم" [54] .
ويمكننا استشفاف بعض المعالم لمنهج الملك عبد العزيز في الدعوة إلى الله من خلال قوله رحمه الله: "أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع بشأنه إلى أقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين" [55] .
* فالبدء بالعقيدة التي لها الأولية والأهمية في سلم التدرج مرتكز الدعوة ومقصودها الأول والأجلّ.
* وتوحيده تعالى في العبادة هو الأصل والأساس فلا إله غيره ولا رب سواه.
* والعودة إلى المعين الصافي والحياة الإسلامية السوية كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم مطلب شرعي، ويقتضي ذلك طرح البدع، وما زيد في الدين وليس منه مما أبانه الأئمة المهديون والعلماء الربانيون.
ومن سمات منهجه - رحمه الله - في الدعوة إخلاصه لدينه وأمته وتفانيه في خدمة هذا المبدأ العظيم، قال رحمه الله: " إنني أفخر لكل من يخدم الإسلام ويخدم المسلمين وأعتز بهم بل أخدمهم وأساعدهم وأؤيدهم، إنني أمقت كل من يحاول الدس على الدين وعلى المسلمين ولو كان من أسمى الناس مقاما وأعلاهم مكانة" [56] .(39/357)
ولم تكن الشواغل مهما كانت تصده عن الجهر بكلمة الحق لا سيما ما يتعلق بالعقيدة فالملك صاحب رسالة، ومن الأمثلة الكثيرة الدالة على غيرته الدينية، ما يذكره في اجتماع الملك عبد العزيز بالملك فيصل بن الحسين، أراد فيصل تأكيد أمر فقال وحياة رأسك، فنظر إليه الملك عبد العزيز وقال: قل والله [57] .
وفي مضمار إعداد الدعاة وتأهيلهم وهو باب من أبواب الدعوة التي نهض الملك عبد العزيز بأعبائها تجدر الإشارة إلى اهتمامه بأبناء العالم الإسلامي، والأقليات حيثما وجدت، وبشتى الوسائل المستطاعة.
ولعل من أبرز ما تجدر الإشارة إليه إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية التي يدرس بها أبناء العالم الإسلامي من أكثر من مئة دولة من كل أنحاء العالم، بدءا بالمرحلة الجامعية والدراسات العليا "الدبلوم والماجستير والدكتوراه "إضافة إلى المعاهد التابعة للجامعة، وقد أنشئت هذه الجامعة المباركة عام 1381 هـ فهي امتداد لجهوده في هذا المضمار.
وهذا عمل مبرور – ولا ريب – من أعماله الإسلامية الجليلة الأخرى التي تكتب في صحائف أعماله رحمه الله، وصحائف أبنائه الملوك البررة الذين ساروا على دربه: سعود وفيصل وخالد رحمهم الله جميعا، وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بارك الله في عمره ومتع به المسلمين آمين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا" عن أبي هريرة رضي الله عنه [58] .
وعودا على بدء "فإن الملك عبد العزيز رحمه الله اهتم بالدعوة الإسلامية وحارب البدع والخرافات وكان ذلك هو الخط المتواصل الذي نهجته الدولتان السعوديتان الأولى والثانية" [59] .
الأصل الثالث - الوحدة:(39/358)
وحدة المجتمع وتماسكه ثمرة من ثمار العقيدة الوازعة والشريعة الحافزة، وفي ظل أحكام الشريعة الغراء تذوب العنصريات وتتلاشى النعرات الجاهلية، وينقاد الجميع لسلطان الدين، وتتوافر إثر ذلك العزائم والهمم وتتوجه نحو البناء والتكامل والتعاضد.
ذلك ما كان يصبو إليه الملك عبد العزيز وهو يعمل في إخلاص لتوحيد أجزاء البلاد، ولينعم المسلمون كافة بالأمن الوارف والعيش الرغيد والعون المتواصل وهم ييممون وجهتهم صوب الحرمين الشريفين للحج أو العمرة أو الزيارة..
يقول سمو الأمير طلال بن عبد العزيز:
"كانت أعمال عبد العزيز بعد توحيد الكلمة في نجد توجه بها إلى توسعة النهضة لتشمل سائر أرجاء البلاد وليس ذلك بقليل، بيد أن الدوائر السياسية التي كانت تسود الحجاز في ذلك العهد لم تكن على علم بالإصلاح الاجتماعي الكبير الذي تنطوي عليه نفس عبد العزيز الطامحة، أما هو فيعرف ما يريد، إنه كان قد خطط له وعزم على تنفيذه منذ أن فتح مدينة الرياض: جمع هذه الأمة تحت لواء واحد وإعادة الإسلام إلى جوهره الناصع وروحه الصافية، ففي أوائل ربيع الثاني سنة"1343هـ"كان عبد العزيز يتأهب لمسيرته إلى الحجاز، وكان يتحدث إلى مودعيه ويقول: "ما أنا ذاهب للتسلط على البلاد وأهلها، لأن البلاد بلادي والأهل أهلي، وما أنا بينهم إلا داعيا بالأعمال قبل الأقوال، داعيا إلى توحيد الكلمة وجمع الصفوف ولم الشعث وإعادة الناس إلى فطرة الإسلام الصافية ومثلها العليا، وهذه البلاد بلاد مقدسة وهي لجميع المسلمين مفتوحة الأبواب لا فرق فيها بين مسلم ومسلم" [60] .
ومن ثم فإن وحدة البلاد أساس وطيد من أسس النهج الراشد الذي سلكه الملك عبد العزيز، ومما يذكره في الوحدة الوطنية تسمية المملكة بعد توحيد أجزائها بـ "المملكة العربية السعودية"بموجب المرسوم الملكي في 17/5/1351 هـ[61] .(39/359)
وعمل بذلك اعتبارا من 21/5/1351هـ الموافق 22 سبتمبر 1932م وهو اليوم الوطني للمملكة، وكانت من قبل تعرف ب "المملكة الحجازية النجدية وملحاقتها" [62] .
الأصل الرابع - البيعة:
في الحديث النبوي الشريف: "الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه" [63] .
البيعة والإمامة لا بد منهما كي تستقيم الحياة ويستتب الأمن وتنهض العزائم للعمل والبناء، وقبل ذلك كي تستمكن العقيدة وتطبق الشريعة وتؤازر الدعوة، وتتحقق الوحدة، وتتحقق المصالح الدينية والدنيوية.
قال الإمام الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع" [64] .
وقال ابن حزم في كتابه الفصل وهو كتاب في العقائد: "اتفق جميع أهل السنة على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة" [65] .
ولقد كانت البيعة للإمام على الطاعة والولاء والوفاء عقدا شرعيا منذ أن أسس النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .
قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع الطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" [66] .
وعلى هذه البيعة مضت الخلافة الراشدة ومن جاء من بعدهم لتحقيق مناط البيعة وهو تحكيم الشريعة الإسلامية.(39/360)
إن وجوب البيعة ووجوب الوفاء بها من مبادئ النظام السياسي في الإسلام، وهو أمر بدهي لانتظام شئون الدولة الإسلامية وقيام الميثاق والعهد بين الحاكم وشعبه، وهذا نموذج للبيعة التي أحياها الملك عبد العزيز وسارع إليها شعبه في محبة وولاء:
تسلم الملك عبد العزيز مقاليد الحكم والإمامة بعد أن تنازل والده الإمام في اجتماع كبير عقد بالمسجد الكبير بالرياض بعد صلاة الجمعة عام 1320 هـ / 1902م وظل الأب يشرف على أعمال ابنه طوال حياته، وظل الابن يجل والده ويقدر آراءه ويحترمها [67] .
"وفي يوم الجمعة 23 جمادى الثانية 1344هـ الموافق 8 كانون الثاني سنة 1926م تجمع الناس حول باب الصفا خارج المسجد الحرام وداخله، حيث أعد المكان الخاص لتلاوة نص البيعة، وبعد صلاة الجمعة أتى ابن سعود المكان المذكور ثم ألقى فضيلة الشيخ عبد الملك بن مرداد على الجماهير المحتشدة هذه الكلمة:
"أحمد الله رب هذا البيت المعظم، وأشكره على ما أنعم به وتكرم، فقد من علينا بنعم لا تحصى، ومنن لا تستقصى، حيث أبدل خوفنا أمنا وشدتنا رخاء.
توحدت الكلمة وأجمع الرأي على بيعة عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود بالملك علينا، وتفضل بقبول هذه منا بعد أن طلبنا منه ذلك، وإني أتلو عليكم أيها الإخوان الحاضرون نص وثيقة البيعة التي جرى الاتفاق عليها:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على أن تكون ملكا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله".(39/361)
وبعد أن أتم فضيلة الشيخ تلاوة هذه البيعة وتقبلها جلالة الملك تقدم الحاضرون من الناس أفرادا وجماعات عن جميع المملكة إلى جلالته يبايعونه بالملك ويعاهدونه على السمع والطاعة [68] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مع عاهل الجزيرة العربية ص 19 والملك الراشد ص 366.
[2] المرجع السابق ص 20.
[3] الوجيز ص 217.
[4] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث (25) ومسلم في كتاب الإيمان حديث رقم (22) .
[5] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب العلم (129) ، ومسلم في كتاب الإيمان (32)
[6] الأصالة والمعاصرة ص 40-41 لمعالي الدكتور فؤاد عبد السلام الفارسي ط: شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر - جدة، والملك الراشد ص 369 والوجيز ص 217.
[7] مجموع الفتاوى 2 / 72
[8] انظر في مذهب الخوارج: الفرق بين الفرق ص 72 فصل في بيان مقالات فرق الخوارج للبغدادي ط: دار المعرفة تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
[9] ابن سعود - ص 155: كنث وليمز ط: 1352هـ / 1934 م، والملك الراشد ص 50 مرجع سابق
[10] هذا الحديث مشهور لكني لم أجده في الصحاح الستة وقد أورده السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ص 206. باب (ل) ، وضعفه الألباني في ارواء الغليل 2/251 حديث رقم (491) ط: المكتب الإسلامي، وقال ابن قدامة في المغني: لا نعرفه إلا من قول على نفسه، كذلك رواه سعيد في سننه، والظاهر أنه إنما أراد الجماعة، وعبر بالمسجد لأنه محلها، ومعناه: لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة، وقيل المراد به الكمال والفضيلة، فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غيره جائزة: المغني 3 / 9 تحقيق د. عبد الله التركي وزميله ط: 1407 هـ / 1987 م القاهرة.(39/362)
[11] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الأذان (644) ، ومسلم في كتاب المساجد (651) .
[12] الحديث رواه مسلم في كتاب المساجد (654) ، وأبو داود في كتاب الصلاة (463) ترقيم عزت دعاس، وابن ماجة في كتاب المساجد (777) ترقيم عبد الباقي، وأحمد في مسند المكثرين (3440) ترقيم الموسوعة الالكترونية (صخر) .
[13] عنوان المجد في تاريخ نجد 2 / 57
[14] عنوان المجد 2 / 66 و2 / 172.
[15] الوجيز ص 158 – 159.
[16] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجمعة (1130) ، ومسلم في كتاب صفة القيامة (2819) .
[17] تاريخ نجد 1/84 لحسين بن غنام.
[18] عنوان المجد 1 / 95
[19] عنوان المجد 1 / 126
[20] الوجيز ص 181 - 182
[21] الرحلات الملكية: د. مدحت شيخ الأرض ص87 ط: دارة الملك عبد العزيز 1416هـ الرياض.
[22] انظر ص335 من هذا البحث.
[23] الرحلات الملكية د. مدحت شيخ الأرض ص 132.
[24] فيلبي في كتابه تاريخ نجد ص 279، وكنث وليمز في كتابه ابن سعود ص 49 وغيرهما.
[25] الوجيز ص 367.
[26] مع عاهل الجزيرة ص 54.
[27] الوجيز ص 86
[28] تاريخ نجد - فلبي ص 400 – 401.
[29] تاريخ نجد ص 404
[30] مع عاهل الجزيرة ص 51.
[31] الموسوعة العربية العالمية 16 / 96.
[32] الوجيز ص 215
[33] الوجيز ص 189.
[34] الوجيز ص 90
[35] الموسوعة العربية العالمية 16 / 96.
[36] عنوان المجد 1 / 171 – 172.
[37] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب العلم حديث (71) ، ومسلم في كتاب الزكاة (1037) .
[38] تاريخ نجد 2 / 139 لحسين بن غنام.
[39] مع عاهل الجزيرة ص 49 و 57.
[40] توحيد المملكة ص 318
[41] مع عاهل الجزيرة ص 52
[42] مع عاهل الجزيرة ص 43.(39/363)
[43] هو عبد الله بن أحمد العجيري توفى سنة 1352 هـ له ترجمة في جريدة أم القرى عدد 456 الجمعة 18/5/1352 هـ وانظر أيضا الرحلات الملكية ص62 وما بعدها.
[44] صور من حياة عبد العزيز ص44 يرويها سمو الأمير طلال بن عبد العزيز، إعداد كمال الكيلاني ط 1411 هـ /1990 م ط: دار الشواف للنشر - الرياض.
[45] انظر الوجيز ص 172 وابن سعود لكنت وليمز ص 67 مرجعان سابقان.
[46] انظر الموسوعة العربية العالمية 10 / 503 – 504.
[47] الأصالة والمعاصرة ص 366
[48] الملك عبد العزيز: د. التركي ص 111 ملخصا.
[49] الوجيز ص 189.
[50] الملك عبد العزيز ووضع النظم القضائي في المملكة: د. سعود الدريب ص 55 نقلا عن جريدة أم القرى العدد 64 في 5/9/1344 هـ.
[51] انظر المرجع السابق ص 64 – 66.
[52] الوجيز ص217.
[53] تاريخ نجد 2 / 207.
[54] مع عاهل الجزيرة العربية ص 19.
[55] الملك الراشد ص 371 ومع عاهل الجزيرة العربية ص 19.
[56] مع عاهل الجزيرة العربية ص 19.
[57] الوجيز ص 185.
[58] رواه مسلم في كتاب العلم (2674) والترمذي في كتاب العلم (2674 ترقيم أحمد شاكر، وأبو داود في كتاب السنة (3993) وأحمد في مسند المكثرين (8795) .
[59] الموسوعة العربية العالمية 16 / 97.
[60] صور من حياة عبد العزيز ص 41 – 51.
[61] الموسوعة العربية العالمية 10 / 500.
[62] المرجع السابق 16 / 96 والوجيز ص158.
[63] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجهاد (2957) ومسلم في كتاب الإمارة (1841) .
[64] الأحكام السلطانية ص 5 ط: مكتبة البابي الحلبي 1393هـ/ 1973م.
[65] الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل 4 / 87 ط: الخانجي 1321 هـ مصر.(39/364)
[66] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الفتن (7056) ، ومسلم في كتاب الإمارة (1709) واللفظ للبخاري.
[67] الموسوعة العربية العالمية 16 / 95.
[68] الملك عبد العزيز: د. التركي ص 55 نقلا عن الملك الراشد ص 43 – 44.(39/365)
تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز
المعاصرة في سيرة الملك عبد العزيز:
المعاصرة صنو الأصالة، ذلك أن الدين الحنيف في شموله وكماله وخلوده غير مقيد بحد زماني أو جغرافي أو عرقي، وعلى هذا فالمعاصرة من لوازم ذلك، وان إبراز هذا الجانب المشرق من خصائص الدين الحنيف في عصرنا خاصة أمر يتطلبه البحث العلمي ذو الصلة بتاريخ الدول الإسلامية المعاصرة، وإن وعي هذه الحقيقة الخالدة من أصالة الفكر السياسي المعاصر وهو ما كان ماثلا في ضمير الملك عبد العزيز وجهاده ومنهجه.
وما من ريب أن في نموذج المملكة العربية السعودية مثالاً يحتذى للدولة الإسلامية المعاصرة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، إذ تأخذ من دينها العقيدة والشريعة، ومنهج الحكم، والقيم والآداب، وكل ما تتطلبه الحياة الإنسانية السعيدة السوية، وفي الوقت ذاته ترحب بكل ما أنتجته الحضارات المعاصرة مما يعود على المجتمع بالفائدة والنفع ولا يضره في عقله وأخلاقه ودينه.
قال رحمه الله: "إن تقدم المسلمين ونهوضهم من الأمور التي ما برحنا ندعو إليها إن شاء الله، ولا نهوض للمسلمين بغير الرجوع إلى دينهم والتمسك بعقيدتهم الصحيحة، والاعتصام بحبل الله، والطريق إلى ذلك واضح معبد لمن أراد سلوكه وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد الخالي من الشرك والبدع، والعمل بما أمرنا به الدين لأنه لا فائدة من قول بلا عمل" [1] .
ولعله من المناسب هنا إيراد الحوار الصحفي التالي ذي الدلالة الواضحة على قضية المعاصرة في منهج الملك عبد العزيز وفكره النيّر:
الكاتب الإنجليزي "دوم لا ندو"كتب لقومه هذا الحوار:
* هل تجدون جلالتكم أن من الممكن الاستمرار بإجراء معاملاتكم السياسية على أساس معتنقاتكم الدينية؟.(39/366)
نعم. إنني لا أعتقد أن بإمكان المرء أن يحكم دولة من دون أساس ديني، لقد التزمت بذلك طيلة حياتي، وهذا ما أرجوه على الأقل، وسوف أبذل جهدي للاستمرار في هذا الالتزام مستقبلا.
* ولكن أليست هناك حالات كثيرة لا يمكن فيها التوفيق بين الإسلام والسياسة التي تقتضيها الظروف المتغيرة في زماننا الحاضر؟.
في كثير من الأحيان توجد لدى الأجانب فكرة خاطئة عن الإسلام، إن الإسلام ربما كان أكثر الأديان عملية، إن الإسلام يسمح لك بأن تدخل مبتكرات مثل السيارات أو الراديو [وهنا رفع الملك صوته وتكوّن لديّ انطباع بأنه لم يكن يتكلم إليّ وحدي، بل أيضا إلى الذين كانوا يجلسون في مؤخرة الخيمة ولم أستطع تبين شخصية أولئك الجالسين، وربما كانوا من أبناء الملك أو الوزراء أو علماء الدين، ولكن كان من الواضح أنه يستغل المناسبة للحديث إليهم بصورة غير مباشرة] .
واستطرد الملك قائلا: إن الإسلام يعترف بكل شيء يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة طالما أن هذه التحسينات لا تؤدي إلى القضاء على التعاليم الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم إن الإسلام يؤيد مثل هذه المبتكرات، لأن الإسلام يعمل على تحسين حياتنا الجسدية والروحية في آن واحد [استخدم الملك هنا كلمة "دينية"وليس كلمة "روحية "ولكنني تعلمت بالتجربة المعنى المقصود] .
* وكيف تقومون جلالتكم بتحديث الحياة العربية على النمط الغربي دون إضعاف الروح الدينية في البلاد؟.(39/367)
إننا لا نقبل من الغرب أي شيء غير المنافع المادية لحضارته، لا تنس أن الشرق لا يؤمن بالنواحي الروحية في الحضارة الغربية، والشرق في الواقع لا يؤمن بأن هذه الحضارة تجسد أي قيم روحية على الإطلاق، وهكذا فإننا نكتفي بقبول تلك الأشياء الضرورية لتحسين حياتنا الخارجية، ويجب علينا بالطبع التزام الحرص من أجل حماية ثقافتنا كي لا تتأثر بالنفوذ الغربي، إن قبول السينما – على سبيل المثال – لا يعني قبول تلك الأفلام الضارة التي ينتجها الغرب، وسيتعين علينا الاقتصار على الأفلام التعليمية والأفلام التي تدعو إلى القيم الأخلاقية.
* ما هي الوسائل التي تنوون استخدامها في الحفاظ على الروح الدينية للجيل الصاعد في المملكة العربية السعودية؟.
عن طريق التعليم، إن ثقافتنا ومعرفتنا تقومان على أساس الإسلام، وعندما نقدم المعرفة للناس فإننا نملؤهم أيضا بروح الدين.
* هل ينطبق ذلك أيضا على أبناء جلالتكم؟.
بالطبع، وإلى جانب التعليم الصحيح يجب أن يتعلموا أيضا عن طريق المثل الصالح، لقد رأى أبنائي منذ بداية طفولتهم مدى أهمية الدين في حياة والدهم، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تصبح قوة الدين متأصلة في نفوسهم أيضا.
* هل تجدون أن الإسلام متمم للعمل السياسي وأنه ليست هناك ضرورة للفصل بين الدين والسياسة، وبين الأخلاق والسلوك السياسي؟.
إن السياسة الصحيحة يجب أن تقوم على أساس الدين وإلا فإن هذه السياسة ليست صائبة، ولا يمكن الفصل بين السلوك السياسي والسلوك الأخلاقي، إنني لا أعتقد أن هناك ضرورة للفصل بينهما على الإطلاق، كما أنني لم أر مطلقا كيف يمكن فصلهما، إن الإسلام قوة كبيرة للغاية في حياتنا وفي سياستنا.
* وماذا بشأن التجارب التاريخية السابقة، ألم يكن هناك حكام مسلمون كثيرون يدعون أن مقاييسهم تقوم على أساس القرآن، ولكنهم كانوا يتصرفون بصورة غير دينية وغير أخلاقية؟.(39/368)
يجب عليك أن لا تنسى أن الإسلام أسيء استخدامه على مدى مئات السنوات، وأضيفت إليه بدع ليس له علاقة بها على الإطلاق أو بعيدة عن التعاليم الأصلية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إن كثيرين من الحكام المسلمين أدخلوا تفسيرات تتفق مع أهدافهم السياسية، وبذلك تؤدي إلى تبرير أفعالهم السيئة وهكذا تدهور الإسلام، وكل ما فعلته هو أنني عدت إلى التعاليم الأصلية كما وردت في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما الأساس الذي نقيم عليه حياتنا في المملكة العربية السعودية، إن العقيدة نفسها لا يمكن أن تكون لها قوة كبيرة – مهما بدت صائبة – إذا لم يمارسها الداعي إليها في حياته اليومية، والشيء الذي أحاول اتباعه في حياتي هو مثال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتبع فيها تعاليم القرآن الكريم.
* وهل تعتبرون جلالتكم أن مهمة المملكة العربية السعودية هي أن تكون جسرا بين روحية الشرق ومادية الغرب؟ وإذا كان الأمر كذلك ما هي الوسائل التي يمكن استخدامها في تحقيق هذه الغاية؟.
لدى الدول الإسلامية كلها مهمة من هذا القبيل، ويعتمد النجاح في تنفيذ هذه المهمة على مدى التعاون مع الغرب، لأننا لا نستطيع تنفيذها إلا بفتح أعيننا على حقيقة الإسلام، وجعلكم تدركون المزيد بشأن أنفسنا وبلادنا، ومن ناحية أخرى يجب علينا أن نتعلم المزيد عنكم وعن أسلوب حياتكم، إن الأمر يعتمد على التفاهم المشترك، ولدينا في الوقت الحاضر الكثير من الأفكار الخاطئة عن الغرب، كما أن لديكم الكثير من الأفكار الخاطئة عنا وعن الإسلام، وبالمعرفة المتبادلة وحدها يمكن للعالم الإسلامي أن يقيم الجسر المطلوب للتعاون والتفاهم.(39/369)
* ولم أكن أنوي أن أوجه إلى الملك أسئلة لها اتصال مباشر بالموضوعات السياسية، ولكنه كان يشبع فضولي بمزيج من السماحة والصبر، ولذلك وجدت في نفسي الشجاعة لكي أسأله عن القضية التي تشغل بال العالم الغربي وهو ينظر في مستقبل الشرق الأدنى، ألا وهي قضية العروبة والقومية العربية، وسألت جلالته عن موقفه من هذه المسألة.
رد الملك قائلا: إن العروبة أمر أساس، وربما تكون الصورة المرغوبة للقومية العربية مشابهة لما هو سائد في الولايات المتحدة الأمريكية، في داخل هذا الاتحاد الفيدرالي سوف تحتفظ كل دولة عربية بحاكمها الخاص وصورتها الخاصة في الحكم والإدارة، ومع ذلك يجب أن يكون هناك جهاز مركزي ينسق بين الجهود الفردية للدول المختلفة وبهذا الطريق وحده ستحصل هذه الدول على القوة التي تفتقدها، وليست هناك أهمية كبيرة للشكل الخارجي لهذا الاتحاد، كما أنه ليس المهم من سيكون رئيسه أو أين ستكون سلطته المركزية، في بغداد أو في فلسطين، أو في أي مكان آخر، الشيء المهم هو أن العروبة يجب أن تصبح واقعا، إن الذين يعتبرونها مجرد خيال مخطئون وسوف تتحقق إن عاجلا أو آجلا إن شاء الله.
ومرة أخرى توقف الملك عن الحديث ورفع يده، وهنا جاء خادم بالشاي في أكواب سميكة وصغيرة، واحتسى الملك الشاي خلال عدة ثوان وأشار إلى الخادم بالانصراف وبعد ذلك استدار إليّ وطلب مني الاستمرار في الأسئلة.
* إذا واجهتكم مشكلة تتطلب الاختيار بين التزامكم بمبادئكم الدينية وبين القيام بعمل يمكن أن يؤدي إلى نجاح سياسي أو إلى تحقيق الازدهار لرعاياكم ولكنه لا يتفق مع القرآن الكريم، ما هو الطريق الذي ستختارونه في هذه الحالة؟.
سأختار بالطبع الطريق الذي يتفق مع عقيدتنا، لقد واجهت أكثر من مرة معضلات من هذا النوع ومع ذلك حاولت أن أعمل دائما وفقا لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان ذلك يعني خسارة سياسية في ذلك الوقت.(39/370)
* حتى إذا عانى شعبكم من مثل هذا العمل؟.
نعم حتى في هذه الحالة، لقد وجدت أن الطريق الديني يؤدي على المدى الطويل إلى النجاح السياسي باستمرار، ولا تنس مرة أخرى أنني لا أقوم بأعمالي على أساس أقوال الرسول وحدها ولكن أيضا على أساس ما فعله في حياته أيضا.
ومرة أخرى رفع الملك صوته وكأنه يخاطب الجالسين في مؤخرة الخيمة، واستطرد قائلا: لا شك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المصدر الأكبر لإلهامي، وإذا تصرفت وفقا لمثل هذا المثال فلابد أن أنجح في النهاية، وإذا كنت أحاول أن أكون عادلا، وغير منحاز، كحاكم فإنني أفعل ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عادلا وغير منحاز.
وسألني وقد عادت إلى وجهه الابتسامة التي كانت تضيئه عند بداية الحديث: إلى أين ستذهب من هنا؟ وعندما أخبرته بالزعماء الآخرين الذين آمل في مقابلتهم في الشرق ثم في أوربا بعد ذلك، قال لي: إنني متأكد أنك ستجد في هؤلاء الرجال كلهم قناعات أخلاقية عميقة، والتزاما بدينهم مشابها للالتزام الذي يحكم أعمالنا في هذه الدولة.
وأدهشتني هذه الكلمات التي نطق بها الملك إلى حد ما، وخصوصا لأنني ذكرت دولة تسود فيها نظريات معينة جديدة تحل محل الإيمان بالله، ومع ذلك كان الملك جادا وكانت نبرة الإقناع المتعاطف في صوته تشير إلى فلسفته الواضحة لا تسمح بوجود أي معتقدات سوى المعتقدات التي ذكرها للتو، ومن وجهة نظري ربما كانت سياسته تعكس التعقيد الذي يرتبط بالشرق ولكن لم يكن هناك أي تعقيد في إيمانه بالله تعالى" [2] .
ويُستنتج من هذا الحوار العلمي التاريخي عدد من أسس المعاصرة على ضوء الأصالة، وهي - أيضا - عوامل الاستقرار الشامل للدولة الإسلامية العصرية من خلال الفكر السياسي للملك عبد العزيز ومنهجه - طيب الله ثراه - يتخلص في الفقرات التالية:(39/371)
1 - الدين الحنيف أساس النُّظُم الإسلامية بما فيها النظام السياسي، ولا ضرورة للفصل بين السياسة والدين، ولا بين السياسة والأخلاق، بل لا يمكن ذلك من الناحية الدينية، لشمولية الدين وكماله وخلوده.
2 - الاعتزاز بالعقيدة وتأصيل كافة شئون الحياة عليها أمر مطرد لدى كل المجتمعات، وهو في المجتمع الإسلامي ألزم وأوجب، ومن لوازمه ترسيخ ذلك وتعميقه في نفوس المسلمين عن طريق التعليم والتثقيف وكل الوسائل المشروعة.
3 - الدعوة إلى تأسيس العمل الإسلامي على قواعد العقيدة وثوابتها مسئوليات الدول الإسلامية، وهو مطلب حضاري وضرورة حياتية لحل المشكلات ونهضة المجتمعات ولتحقيق السعادة واستتباب الأمن بمفهومه الشامل.
4 - الأخذ بكل نافع مفيد من أي مصدر كان أمر لا مندوحة عنه ولا غبار عليه ما دام لا يعارض الثوابت العقدية ولا يصادم المقاصد الشرعية.
5 - ضرورة التمييز بين واقع المسلمين ومصادر الإسلام، فالواقع التاريخي ليس مصدراً للتشريع حاشا عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، أما مصادر الإسلام فهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع الأمة، وفق فهم السلف رضوان الله عليهم.
ولنتأمل مقتطفات من أسلوب الملك عبد العزيز رحمه الله في تصحيح مفاهيم الناس في قضايا المعاصرة من خلال المبتكرات التي تعد من لوازم الحياة..(39/372)
قال المستشرقون: "قال الرجعيون [3] عن اللاسلكي إنه نوع من السحر، وأنه من عمل الشيطان، وقال ابن سعود يؤيده الإخوان الذين يفهمون غير هذا الفهم قولا غير هذا، وأصرّ ابن سعود على رأيه ووقف يخطب فيقول: ليس في الشريعة الإسلامية ما يمنعنا من الانتفاع بطريق المواصلات الحديثة والتمشي مع التقدم العلمي، ومع هذا فإني أترك هذه الأمور للعلماء والتفت إلى العلماء وقال: هل تجدون في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارض الانتفاع بهذه المخترعات الحديثة؟ وكان العلماء قد فكروا في هذا الموضوع وقتلوه بحثا فأجابوا: كلا! " [4] .
وموقف آخر: "حينما دخل المذياع المملكة اعترض بعض المحافظين المتشددين وأنكروا على جلالته استماعه للراديو واستعانته باللاسلكي والتليفون لأنهم يظنون أن بها شياطين تنقل الحديث، فسألهم جلالته يوم ذاك هل الشيطان يطيق كلام الله؟! فأجابوا بالنفي. قال: اسمعوا فإذا الراديو يذاع منه القرآن الكريم بصوت عذب رخيم تعد حروفه، وأمر بعض أتباعه بأن يسمع المعترضين في التليفون بعض آي الذكر الحكيم فدهشوا وأيقنوا أن لا شيطان ولا سحر!! " [5] .
عوامل استقرار المملكة:
لقد كانت - ولا ريب - للمنهج الإسلامي الأصيل الذي أقام عليه الملك عبد العزيز هذا الكيان الإسلامي الكبير آثار استراتيجية في استقرار أمن المنطقة خاصة والاستقرار العالمي بوجه عام، وعلى الأخص الاستقرار الداخلي الشامل على اختلاف محاوره، وهو ما ينعم به مجتمع المملكة العربية السعودية من مواطنين ومقيمين ووافدين.
ولعل من أهم عوامل هذا الاستقرار الشامل:
أ - التدين العام:??(39/373)
وهو التمسك بالدين الحنيف تمسكا وسطا بينّا بين الإفراط والتفريط، وبين التساهل والغلو، والتدين حين يسري في الناس على هذه المثابة من الرشد يستتب الأمن ويعم الرخاء، وينشر التآلف جناحيه على المجتمع، فتؤدى الحقوق ديانة وأمانة ووفاءً، ويقوم المسلمون بواجباتهم بدوافع الرقابة الذاتية، إذ الدين الحنيف في مكنونه حث على أداء الحقوق واتقاء الحرمات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] .
وقد دلت تجارب الأمم أن التدين في الناس يُسلس قيادهم، إذ لا ينقاد الناس لشيء كانقيادهم للدين، بفعل ما يولده من قناعة ذاتية وباعث ذاتي في الالتزام بالأوامر والانكفاف عن الزواجر، وهذا الانقياد للدين والاستسلام له ليس مقتصرا على العرب فحسب كما يراه ابن خلدون حيث قال: "فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية"قال: والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والمُلك " [6] .
والصحيح أنه يشترك في هذه الخصائص وذاك التأثر والانقياد الذاتي لسلطان الدين كل البشر لما للدين من هيمنة وسلطان على النفوس لا يدانيه أي عامل آخر في ذلك.(39/374)
ولقد كان الملك الإمام عبد العزيز رحمه الله يدرك هذه القوة النافذة الفذة للدين، وسلطانه على النفوس، وهو يريد إعادة البناء الوجداني لشعبه إثر ما اعتراهم من بدع وضلالات وجهالات ومحن وبعد عن أنوار التوحيد.
ويصور لنا تلك النقلة الهائلة من التشتت إلى القوة أحد معاصريه فيقول:
"لقد كانت الديار النجدية هملا برهة من الزمن، لا وازع ولا سلطان ولا جامعة ولا غاية ولا مبدأ ولا هدف، ولكن لما قام جلالة الملك نبه فيهم روح الدعوة إلى الله وتوحيده الخالص، وتعهد تلك النفوس بما يوقظ فيها هذا الحس العالي، واستعمل للوصول إلى هذا الطريق المؤدية إليها:
دعوةً بالتي هي أحسن، ثم إحسان وإكرام، ثم تنبيه وزجر، ثم تأديب وقهر، وهكذا سبع وعشرون سنة راض فيها الأمور فطاعت، وضرب العاصي العاتي من الغايات فذلت له أعناقها وانقادت، وأصبح ذلك البدوي الجافي القاسي القلب تفيض عيناه من الدمع إذا ذُكّر بأمر الله واتباع ما أمر به، بل صار ذلك العاتي الذي لم يكن قلبه ليلين لأبلغ العبر لا يرى له حياة إلا بطاعة الله واتباع ما أمر به، وإلا لكانت الحياة عذابا عليه، فهو عندما يرى أعز الناس عليه لم يجد له من الألفاظ التي يكرمه بها إلا أن يدعو الله أن يعزه بطاعته لأن العمل بما فيه طاعة الله عز، والعمل في معصية الله ذل وموت وخسران للدنيا والآخرة. فالحياة ولذتها، معناها ينبغي أن تكون غايتها طاعة الله وفي سبيل الله، ذلك شعور يفيض في نفس أهل نجد بدوهم وحضرهم غنيهم وفقيرهم، وقد تجلى للناظرين في استقبالهم لأعز من يعزون" [7] .
ب - الأخلاق الإسلامية:
وهي من ثمرات العقيدة ولوازمها، ومن المعروف ما يشتهر به المسلمون من أخلاق كريمة وسجايا شريفة هي من خصائصهم غرسها فيهم الدين الحنيف وعرفوا بها منذ فجر الإسلام، كالأمانة والشجاعة والصدق والكرم ومراعاة الذمم وجميل المعشر..(39/375)
قال الملك عبد العزيز: "الإنسان يقوم على ثلاث فضائل: الدين، والمروءة، والشرف، وإذا فقد واحدة من هذه سلبته معنى الإنسانية" [8] .
والتميز الأخلاقي حقيقة جلية يجدها الناظرون في صفحات التاريخ وفي معاملات المسلمين الذين أنعم الله عليهم بنعمة التوحيد، والخلوص من الشرك والتحرر من البدع والخرافات والدجل وكل ما يشين المسلم في دينه وعرضه ومروءته، وذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل ما يسكبه صحة المعتقد وسلامة التدين من استقامة السريرة ونقائها.
ومن عشرات الأمثلة على ذلك ما قاله مستشرق يتحدث عن أخلاق المسلمين في الجزيرة العربية في أوائل القرن الرابع عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي قال:
"ولدى الوهابيين [كذا] خصال حميدة، فهم لا يسرقون قط لا عن طريق القوة ولا عن طريق الحيلة، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه وأجور كل الخدمات التي تقدم لهم بالعملة التي لديهم، يطيعون زعماءهم طاعة عمياء، ويتحملون صامتين كل أنواع المشاق وهم على استعداد لأن يتبعوا قادتهم إلى أقصى أنحاء المعمورة.
إن الحقيقة تفرض عليَّ أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال، وقد استيقنت منهم كل المعلومات التي أوردها عن مذهبهم، ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تتملك الرجفة قلوبهم، ولا يتلفظون به إلا همسا، لذا فإن الناس يهربون منهم ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان، وكلما أردت التحدث إليهم كان عليّ أن أتغلب على كثير من الصعوبات التي يخلقها لي من يحيطون بي، والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات، وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من العبادة التي لا تجب إلا لله وحده" [9] .(39/376)
ومع تحفظنا على بعض ما ورد في تعبير هذا الرحالة الغربي كوصفه الوهابية بأنها مذهب وأن المؤمنين يجلون الأضرحة.. مما يدل على قلة معرفته بجوهر الإسلام وحقيقته، إلا أنه ومن منظوره الشخصي قدم صورة دقيقة عما عاينه ولمسه من سمة الاعتدال والتوسط لدى سلفنا في القرنين المنصرمين، وما تمتعوا به من أخلاق الإسلام الخالدة: الصدق، الأمانة، الوفاء، المروءة، رعاية الذمة ... الخ.
وهذه الأخلاق في الحقيقة هي عوامل أساسية لتحقيق الاستقرار العام واستتباب الأمن بكل أنواعه، إذ ينعدم التجاحد، والتظالم أو يندر فتؤدى الحقوق والأمانات، وترعى الذمم ويخشى الناس ربهم وخالقهم جل وعلا قبل أن يخشوا عقاب السلطان، وتبعات الجناية.
جـ - الأمن العام وأمن الحج:
الأمن بمفهومه الشامل ثمرة العقيدة الإسلامية الصافية، ولازم من لوازم تطبيق الشريعة، إذ تزرع العقيدة في نفوس معتنقيها الرغبة في الخير للغير، وتهذب الشريعة السلوك النابي، وتهدي للتي هي أقوم من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات، رغبا ورهبا.
وإذا طوينا - اختصارا - القرون المفضلة وما تلتها من أحقاب التاريخ إلى بداية ظهور الدعوة الإصلاحية التي صدع بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري "1115 - 1206 هـ"نجد أن الأمن على اختلاف محاوره وعمق مدلوله ارتبط في الجزيرة العربية بالحكم السعودي في كل المراحل منذ الدولة السعودية الأولى إلى يومنا هذا فكان يستتب كلما بسط الأئمة من آل سعود سلطانهم ونعم الناس بظلهم فيهنأ بهم المجتمع ويكون ذلك حديث الناس في الأفاق، وهذه حقيقة تاريخية تتجلى في عهد كل إمام من أئمة آل سعود رحمهم الله، سواء في ذلك أمن الحج والحجاج أو الأمن العام.(39/377)
ولكي تكون حلقات البحث متكاملة فلا بد من التنويه بهذه الحقيقة التاريخة التي طالما قرأها المتأملون في صفحات التاريخ الغابر وهي كذلك ماثلة في وقائع الحياة المعاصرة، وهي أن الحكم السعودي واستتباب الأمن الشامل صنوان متلازمان.
ودونك نماذج مقتبسة من مراحل الحكم السعودي:
يقول ابن بشر في تاريخ الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله "المتوفى سنة 1218هـ ":
"كان الحجاج والقوافل وجباة الغنائم والزكاة والأخماس وجميع أهل الأسفار يأتون من البصرة وعمان وبلد العجم والعراق وغير ذلك إلى الدرعية ويحجون منها ويرجعون إلى أوطانهم لا يخشون أحدا في جميع البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة لا بحرب ولا سرق وليس يؤخذ منهم شيء من الخاوات والقوانين التي تؤخذ على الحجاج، وبطل جميع الأخاوات والجوائز على الدروب التي للأعراب أحيوا بها سنن الجاهلية، ويخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان وأنقرة والشام لا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء " [10] .
وقال التاريخ أيضا: "الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله كانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة في عيشه هنية وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاءً أو صيفاً يمنا وشاما شرقا وغربا في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقا ولا مكابرا وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مراعي بل إذا عطشت وردت على البلدان ثم تصدر إلى مفاليها حتى ينقضي الربيع أو يحتاجون لها أهلها لسقي زروعهم ونخيلهم وربما تلقح وتلد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها" [11] .(39/378)
وكذلك الحال في عهد ابنه الإمام سعود بن عبد العزيز "ت 1229هـ" [12] .
ولعله من تحصيل الحاصل الحديث عن الأمن في المملكة العربية السعودية وهي مضرب المثل في هذا منذ عهد الملك عبد العزيز وإلى يومنا هذا، وما من إنسان مقيم أو مواطن أو وافد حاجا أو معتمرا أو زائرا إلا وشاهد وعاين ونقل عن الأمن الأعاجيب.
ومن نافلة القول أن أهم عوامل تحقق الأمن الشامل بمفهومه العميق في المملكة تطبيق الشريعة الإسلامية لا سيما الحدود الشرعية كحد القصاص وحد الحرابة وحد القذف وحد السكر وحد ترويج المخدرات وغيرها، ولتطبيق هذه الحدود آثار ملموسة في تقلص الجرائم واستتباب الأمن تحقيقا لقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
والحياة المذكورة في الآية هي حياة الأمن والاستقرار وتطهر القلوب من الأحقاد والضغائن التي يورثها حب الانتقام والأخذ بالثأر، والاضطهاد والاستبداد وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي تنجم في غيبة سلطان الشرع.
وهذا الذي يذكره ابن بشر وغيره من المؤرخين نجده وأكثر منه في كتابات المستشرقين الذين جابوا الجزيرة العربية في فترات مختلفة من العهد السعودي، فمن ذلك:(39/379)
ما ذكره المستشرق فلبي قال: ".. وأقل ما يقال إن الحجاج الذين زاروا الحجاز آنذاك وفيما بعد خلال السنوات القليلة التي سبقت التدهور الاقتصادي المريع في أوائل سنة الثلاثين [الميلادية] لم يجدوا أي سبب يدعوهم للشكوى أو التذمر من الأخطار أو عدم تأمين سلامتهم، هذا علاوة على أن الإجراءات التي اتخذت تحت إشراف ابن سعود شخصيا في المحافظة على صحة الحجاج جديرة بالتقدير، خصوصا إذا عرفنا أنه خلال السبعة والعشرين حجا التي احتفل بها في عهده لم تقع أية حادثة كبيرة على الإطلاق، وبالإضافة إلى هذا فإن قرار ابن سعود أن يمنح الحجاج مختلف التسهيلات التي كانت ممنوعة عليهم قد زادت في راحتهم إلى حد كبير جدا، فتشجيعه استعمال وسائل النقل الآلية قد قلب الأحوال رأسا على عقب، هذه الأحوال التي يواجهها آلاف الحجاج الوافدين من الخارج، فاليوم وبعد أن استعملت الطائرات كوسيلة جديدة من وسائل نقل الحجاج لم يعد الحج بالعملية المتعبة على الإطلاق، وحتى هذا التحول المدهش لم يكن كل ما تميزت بها إدارة ابن سعود، واستحقه من تقدير في الحرص على راحة الحجاج ومصلحتهم بعد أن كانوا يجأرون بالشكوى بسبب الرسوم الكبيرة التي كانت تجمعها الحكومة منهم، مع العلم أن الاحتياطات المتخذة لتأمين سلامتهم وراحتهم تكلف الدولة كثيراً من المال..
ومهما يكن من أمر فليس للحجاج اليوم ما يشكون منه، فقد ألغيت رسوم الحج بأمر من الملك لما ازدادت عائدات الحكومة من البترول والموارد الأخرى التي جعلت بالإمكان منح الامتيازات، تلك الامتيازات التي مكنت الحكومة من تحمل كافة تكاليف التسهيلات المتزايدة التي خصصت لمنفعة جميع قاصدي الحج كطرق لسيارات الشحن الكبيرة التي تسير على المازوت وعلى شبكة من الخطوط كتلك التي بين مكة وعرفات" [13] .(39/380)
وقال المستشرق كنث وقد ألف كتابه نحو سنة 1950 م: "لقد عني ابن سعود بصحة الحجاج أقصى عناية، وكان لاهتمامه بتحسين مياه الشرب والشئون الصحية والمستشفيات وما إلى ذلك مما تراه اليوم في المدن الحجازية كمكة وجدة أكبر الأثر في تخفيض عدد الوفيات بين الحجاج" [14] .
وقال أيضا: "بعد دخول الوهابيين [كذا] لمكة صرح ابن سعود وهو في الرياض بيانا على العالم الإسلامي قال فيه: لقد دخلت جيوشنا مكة في الرابع من تشرين الأول سنة 1924م، وإننا مغتبطون أشد الاغتباط للاحترام الذي بدا نحو الأماكن المقدسة، وكان بمقدور الفاتحين لو أرادوا أن يشقوا لهم طريقا بالقوة ويدخلوا البلاد عنوة، ولكنهم أبوا إلا احترام الأماكن المقدسة فلم يسفكوا دماء أحد احتراما لتراثنا المقدس، ولقد قضينا على الظلم ونشرنا العدل في ربوع البلاد، وليس أشهى إلى قلوبنا من إقبال المسلمين على الحج من أنحاء العالم الإسلامي، الطرق مفتوحة في وجوهكم أيها المسلمون، ولن يعترض أحد لكم بسوء فاطمئنوا كل الاطمئنان، ونحن أنفسنا سنذهب إلى مكة لنجتمع بالوفود الإسلامية التي نرحب بها، وقد آلينا على أنفسنا أن نعيد إلى الحج ازدهاره ومجده القديم" [15] .
لقد كان لتطبيق شرع الله عز وجل في جميع مناحي الحياة لا سيما الحدود الشرعية لقمع المجرمين العتاة الأثر العميق في استتباب الأمن في الحج وغيره، الأمن بكل محاوره: الأمن الغذائي والأمن الفكري والأمن النفسي والأمن الاجتماعي والأمن العام.
وإن الانقياد لشرع الله - مهما نعق أهل الأهواء - له الأثر البالغ في تحقيق الاستقرار الشامل الذي نتفيأ ظلاله.(39/381)
قال المستشرق كنث: "وتظهر الأحكام السعودية قاسية كقطع يد السارق مثلا، ولكن هل يدري القارئ أنه منذ قرن كانوا يشنقون الرجل في انكلترا إذا سرق خروفا! ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن قسما كبيرا من رعايا ابن سعود لا يزالون يعيشون على الفطرة بعيدين كثيرا عن حالة العمران، بل إن القبائل التي تقيم في الجانب الجنوبي من الصحراء المشهور باسم "الربع الخالي"والذي كان أول أوربي وصل إليه هو المستر "برترام توماس"في سنة 1931م ثم توغل فيه المستر "جون فلبي"في سنة 1932م لا يفرقون كثيرا عن المتوحشين، فإذا استعمل ابن سعود الرحمة معهم فلا شك أنهم يسيئون فهمها ولا يقدرون قيمتها، ولهذا لا يفيدهم إلا الحاكم الجبار الذي يحكمهم بيد من حديد. وابن سعود شخصيا لا يحب القسوة، وهو ليس بالرجل الخشن القاسي في أحكامه، بل هو أحيانا يظهر اللين في غير موضعه!.
ولكنه لا يرحم أحدا إذا خالف الشريعة الإسلامية المقدسة، أو حاول الإخلال بالنظام، وكل نظام ديمقراطي سابق لأوانه قبل أن يتمكن من اخضاع امبراطوريته الشاسعة لإرادته وقبل أن يكون في وسع الإنسان أن يسير مطمئنا بمفرده دون أن يعترضه اللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا فيما مضى لا يعرفون غير قطع رقاب المسافرين وسلبهم [16] .
د - الأمن الاجتماعي:
من الأعمال الجليلة التي قام بها الملك عبد العزيز في سبيل تحقيق الأمن الاجتماعي توطين البدو بمختلف السبل لتأليفهم تارة، وبالإكثار فيهم من المطاوعة بتعليمهم تارة، وبإنشاء الهِجَر تارة، وبربطهم بأسباب التحضر والتمدن تارة، "فبعد أن أخضع "جبل شمَّر""والإحساء" انبرى لمواجهة مشكلة البدو المزمنة وما درجوا عليه من شن الغارات على جيرانهم وعلى عابري السبيل والتنقل من مكان إلى مكان حسب مشيئتهم، وهو أسلوب للحياة ينعدم معه الأمن والاستقرار فعقد عبد العزيز العزم على وضع حد لهذا الأسلوب.(39/382)
وإدراكا منه بأن أية محاولة لإقامة نظام سياسي مستقر في البقاع التي تم فتحها سوف تصطدم حتما بالولاء القبلي الذي هو أكثر رسوخا وأبعد عمقا من الولاء للأسس والمضامين السياسية والإدارية الجديدة التي يريد إقامتها، فقد وضع عبد العزيز خطة ذكية ذات مرحلتين، تتمثل أولاهما في إيفاد دعاة إلى القبائل المختلفة لتعليمها مبادئ الإسلام الأساسية وتشجيعها على الاشتغال بالأعمال الزراعية، أما المرحلة الثانية فتتمثل في توطين البدو في مستوطنات زراعية "تعرف بالهجر"أقيمت في نجد، وقد نجح أول هذه المشروعات وتلته مشروعات أخرى كثيرة "60 مشروعا" [17] .
ويذكر الزركلي أنها بلغت 153 هجرة [18] .
وقد أثمرت هذه الخطة الإصلاحية إذ تحول معظم البدو من البداوة إلى المدنية وسلكوا سبيل العلم والعمل وبرّز منهم العديد في مختلف مجالات الحياة، وهذه منة من الله سبحانه وتعالى، إذ التحضر والتمدن من نعم الله على الإنسان ومن أهم عوامل استقرار مجتمعه لذا كان ذلك من مقاصد الدين، قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] فجعل التحول من البداوة نعمة.
وعودا على بدء:
فلا جرم أن للدولة الإسلامية المعاصرة أهمية قصوى على اختلاف المحاور التاريخية والواقعية، وهي أهمية استراتيجية تتنامى في ظروف التحديات الثقافية التي يعيشها جيلنا، والملاذ بعد الله تعالى ديننا الحنيف الذي ارتضاه لنا.
قال الملك عبد العزيز: "كل حرية باطلة إلا حرية الإسلام، والإنسان لا ينفع إلا بالدين، ونحن لا نبغي محاربة أوربا، وإنما نطلب حقوقنا باتحادنا فنعتصم بالله، والإسلام أكبر وسيلة وأكبر حصن، هو أكبر من مزايا الحسب والنسب فيجب على المسلم محبة دينه وشعبه ووطنه" [19] .(39/383)
وبعد: فإن المملكة العربية السعودية شخصية مستقلة في قيادتها وأرضها وأهلها ودعوتها ورسالتها، فهي على رسم منهاج النبوة لا غير.
وقد هيأ الله تعالى حفظا لدينه ورعاية لبيته الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه وسلم للمملكة قيادة تعمل دائبة على تميز هذه البلاد بتلك الخصائص حفظا لمعالم الدين القويم من الاندراس، وحماية لبيضة الإسلام، ورفعا لراية التوحيد ما بقيت في الأرض حياة، وتلك نعمة امتن الله بها على المجتمع السعودي خاصة وعلى المسلمين عامة.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 55] .
رحم الله الملك عبد العزيز وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، ونسأله تعالى أن يديم علينا وعلى المسلمين جميعا نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام والتوحيد والتأييد، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع
أولا - القرآن العظيم.
ثانيا - من المراجع العامة "مرتبة على حروف المعجم".
- ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز تأليف كنث وليمز، تعريب كامل صموئيل. ط1352هـ /1934م المطبعة الأدبية – بيروت.
- الأصالة والمعاصرة، المعادلة السعودية د. فؤاد عبد السلام الفارسي. ط: شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر جدة.
- تاريخ نجد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، تأليف سنت جون فيلبي. تعريب: عمر الديراوي، منشورات المكتبة الأهلية – بيروت.(39/384)
- تاريخ نجد "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعدد غزوات ذوي الإسلام"حسين بن غنام. تحقيق د. ناصر الدين الأسد ط1403هـ الرياض.
- تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين د. مديحة أحمد درويش. ط: دار الشروق 1410 هـ /1990م جدة.
- تفسير ابن كثير ط: دار السلام 1413هـ/1992م – الرياض.
- توحيد المملكة العربية السعودية ألفه بالإنجليزية محمد المانع، نقله إلى العربية: د. عبد الله العثيمين - ط 1402هـ.
- الجامع الصحيح "صحيح البخاري"محمد بن إسماعيل البخاري "مع فتح الباري"ط المطبعة السلفية 1380هـ مصر.
- جريدة أم القرى – عدد الجمعة 3 ربيع الأول 1345 هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م. وأعداد أخرى سبقت الإشارة إليها في هوامش البحث.
- الدرر السنية: عبد الرحمن بن قاسم القحطاني، ط: 1385هـ / 1965م.
- الرحلات الملكية: د. مدحت شيخ الأرض وزملاؤه، إصدار دارة الملك عبد العزيز ط 1416هـ.
- سنن أبي داود السجستاني، ترقيم عزت عبيد دعاس، ط: 1388هـ سورية.
- سنن ابن ماجة القزويني ترقيم: محمد عبد الباقي.
- سنن الترمذي، ترقيم: أحمد محمد شاكر ط: دار الكتب العلمية، بيروت.
- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، ترقيم: محمد عبد الباقي "مع شرح النووي"ط: دار القلم 1407 هـ/1987م بيروت.
- صور من حياة عبد العزيز – يرويها طلال بن عبد العزيز – إعداد كمال الكيلاني ط 1411هـ/1990م دار الشواف للنشر والتوزيع – الرياض.
- عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي - د. صالح بن عبد الله العبود - ط: الجامعة الإسلامية 1408هـ.
- عنوان المجد في تاريخ نجد – عثمان بن بشر النجدي ط: مكتبة الرياض الحديثة.(39/385)
- قدسية الحرمين الشريفين - إعداد مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية ط: 1408هـ/ 1988م هجر للطباعة والنشر - القاهرة.
- مجلة اليمامة - العدد 1473 السبت 19 جمادى الأولى 1418 هـ / الموافق 20 سبتمبر 1997م.
- مسئولية الدول الإسلامية في الدعوة ونموذج المملكة العربية السعودية - د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ط 1416هـ وزارة الشئون الإسلامية – الرياض.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - الموسوعة الإلكترونية - صخر، مصر.
- المعاصرة في إطار الأصالة - أنور الجندي ط 1407هـ/1987م دار الصحوة للنشر والتوزيع القاهرة.
- مع عاهل الجزيرة العربية: عباس محمود العقاد، ط: المكتبة العصرية بيروت.
- مقدمة ابن خلدون ط: دار الكتب العلمية - بيروت 1413هـ / 1992م.
- الملك الراشد: عبد المنعم الغلامي - ط: دار اللواء للنشر - الرياض.
- الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية المنهج القويم في الفكر والعمل: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ط: الزهراء للإعلام العربي 1409هـ/ 1989م - القاهرة.
- الملك عبد العزيز ووضع قواعد النظم القضائي في المملكة - د. سعود الدريب ط: 1408هـ/ 1988م دار المطبوعات الحديثة – جدة.
- الموسوعة العربية العالمية – نشر مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ط: 1416هـ/1996م الرياض.
- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: خير الدين الزركلي ط: دار العلم للملايين 1984م بيروت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مع عاهل الجزيرة العربية ص 20.
[2] الحوار منشور في مجلة اليمامة - العدد 1473 ص 44-48.(39/386)
[3] الرجعيون والأصوليون والمتطرفون: اصطلاحات غربية كثيرا ما يجدها القارئ في كتابات المستشرقين، وهي في الأصل وصف لفئة تتسم بالقصور في فهم الدين وفي أسلوب الدعوة إليه، كما هو هنا في هذا السياق، لكن مدلول هذه الاصطلاحات من الوجهة الاستشراقية المعادية على الأغلب الأكثر تعم المجتمعات الإسلامية! ولا يخفى ما في ذلك من تجاوز للموضوعية والحقيقة، ولا يخفى ما تحمله تلك النظرة القاصرة من موروثات عدائية.
[4] ابن سعود: كنث ص 186 وانظر مع عاهل الجزيرة ص74 والوجيز ص116.
[5] مع عاهل الجزيرة العربية ص 64.
[6] تاريخ ابن خلدون 1 / 159 (فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية) ط: دار الكتب العلمية 1413هـ/ 1992م بيروت.
[7] الرحلات الملكية - د. مدحت شيخ الأرض ص 128-129
[8] الوجيز ص 48.
[9] جاكلين بيرين: اكتشاف جزيرة العرب ص 202 تعريب قدري قلعجي، تقديم حمد الجاسر ط: منشورات الفاخرية، الرياض (دون تاريخ الطبع) .
[10] عنوان المجد 1/128.
[11] عنوان المجد 1 / 126.
[12] المرجع السابق 1 / 174.
[13] تاريخ نجد ص353 - 354: سنت جون فلبي، تعريب عمر الديراوي ط: بيروت (دون تاريخ) .
[14] ابن سعود - كنث ص 18.
[15] ابن سعود - كنث ص 146 – 147.
[16] ابن سعود - ص 18 – 19.
[17] الأصالة والمعاصرة ص 37.
[18] الوجيز ص 169 – 170.
[19] الوجيز ص 217(39/387)
جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن
وأثره في حفظ مقومات المجتمع السعودي
وتنميته وازدهاره
الدكتور / عبد الرحيم بن محمد المغذوي
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين
الجامعة الإسلامية المدينة المنورة
المقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [2] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً} [3] [4] .
أمَّا بعد:
فإنَّ للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود جهوداً عظيمة في توحيد المملكة العربية السعودية، وانتشال مجتمعها المتعدِّد والمترامي الأطراف مِمَّا كان فيه من انقسامات وخلافات وعداوات وحروب، إلى مجتمعِ الأخوة والتراحم والتعاطف.
ولا شكَّ أنَّ أي باحث منصف يحق له أن يعتبر الملك عبد العزيز ظاهرة تاريخية في العصر الحديث، جديرة بالتأمُّل والدراسة والتحليل في جوانب عِدَّة، ومجالات متنوعة.(39/388)
ومن هذه الجوانب المتعددة الهامَّة التي أولاها الملك عبد العزيز عنايته ورعايته المسألة الأمنية والحفاظ عليها وتقريرها في هذه البلاد المقدَّسة.
ومن هنا، ولِمَا للأمن من أهمية بالغة في أي مجتمع، ولِمَا أكَّدته الدعوة الإسلامية على هذا الأمر، ارتأيت الكتابة في هذا الموضوع وأسميته: (جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن، وأثره في حفظ مقوّمات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره) .
خطة البحث:
يشتمل البحث على مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، وفهارس. وذلك على النحو التالي:
المقدمة: وفيها الحديث عن أهمية الموضوع، وسبب اختياره، والخطة بالتفصيل، ومنهج البحث المستخدم.
الفصل الأول: الأمن: مفهومه، أهميته، دواعيه، وضرورته في المملكة
العربية السعودية. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الأمن لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.
المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية.
الفصل الثاني: نشأة الملك عبد العزيز، وأبرز جهوده في توحيد المملكة العربية السعودية، وسبل تحقيق الأمن في عهده.
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز والعوامل المؤثرة في شخصيته.
المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها.
المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية، ونشر الأمن فيها.
المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز.
الفصل الثالث: آثار جهود الملك عبد العزيز الأمنية في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: آثاره في حفظ مقوّمات المجتمع.
المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع.
الخاتمة: وفيها خلاصة البحث والتوصيات.(39/389)
الفهارس: وهي مشتملة على بعض الفهارس الفنية المختصرة، مثل:
1 - فهرس الآيات القرآنية الكريمة.
2 - فهرس الأحاديث النبوية.
3 - فهرس المصادر والمراجع.
4 - فهرس الموضوعات.
منهج البحث:
استخدمت في كتابة هذا الموضوع، منهج البحث التاريخي، والتحليلي مع مراعاة الأمور التالية:
1 - أنَّ الموضوعات التي تناولها هذا البحث لا تشمل كل ما قام به الملك عبد العزيز - يرحمه الله - من جهود عديدة سواء داخلية أو خارجية في حفظ الأمن وترقية المجتمع السعودي، وإنَّما تناولت أبرز تلك الجهود، وأهم ما قام به في هذا المجال.
2 - عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى أماكنها، وخرَّجت الأحاديث من مظانها، وأثبتُّ حكم العلماء عليها.
3 - تحديد البحث ضمن فصول ومباحث ومطالب جزئية، تسهل السير فيه، وتحدد اتجاهه، ومِنْ ثَمَّ نتائجه.
وبعد: فهذا ما يسر الله تعالى به، وما أحببت أن أدونه وأُبيِّنه، وذلك وفاءً لِمَا للملك عبد العزيز - يرحمه الله - من فضلٍ - بعد الله تعالى - على أبناء هذه البلاد، ولِمَا قام به يرحمه الله من جهودٍ مضنية في سبيل راحتهم وتوطيد أمنهم، ولِمَا قام به من خدمةٍ واسعةٍ جليلةٍ للإسلام والمسلمين، فجزاه الله خيراً ورحمه رحمةً واسعة، ووفق الله تعالى أبناءه لكُلِّ خير، الذين ساروا على دربه، واقتفوا أثره ومنهجه، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.
وكتبه: د / عبد الرحيم بن محمد المغذوي
الأستاذ المشارك بقسم الدعوة، كلية الدعوة وأصول الدين
الجامعة الإسلامية - بالمدينة المنورة
ضحى الاثنين 22/1/1419هـ
الفصل الأوَّل
الأمن - مفهومه، أهميته، دواعيه
وضرورته في المملكة العربية السعودية
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الأمن لغةً واصطلاحاً.
المبحث الثاني: مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.(39/390)
المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية.
المبحث الأول: تعريف الأمن لغةً واصطلاحاً
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الأمن لغةً:
للأمن تعاريف عِدَّة في لغة العرب، فمن ذلك:
قول ابن فارس: "الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق..
قال الخليل: الأَمَنَةُ من الأمن. والأمان: إعطاء الأَمَنَة، والأمانة ضد الخيانة.
يقال: أمِنْتُ الرَّجُل أَمْناً وَأَمنةً وَأَماناً، وآمنني يُؤْمنني إيماناً.
والعرب تقول: رجلٌ أُمَّانٌ، إذا كان أميناً. قال الأعشى:
ولقد شهدتُ التَّاجِرَ الأُمَّانَ مَوْرُوداً شرابُهُ" [5] .
وقال الجوهري: "الأمان والأمانة بمعنىً. وقد أمنتُ فأنا آمن، وآمَنْتُ غيري من الأمن والأمان.
وأصل آمن: أَأْمَنَ بهمزتين، لُيِّنَت الثانية. والأمن: ضد الخوف" [6] .
وقال الفيروزآبادي: "الأمْنُ والآمِن: كصاحب، ضِدّ الخوف، أَمِنَ كفرح أمناً وأماناً بفتحهما وأمناً وأَمَنَةً محرَّكتين، وإِمناً بالكسر، فهو أَمِنٌ وأمينٌ كفرح وأمير، ورجلٌ أُمَنَةٌ كهمزة ويُحَرَّك يأمنه كُلّ أحد في كُلِّ شيء" [7] .
وقال الزمخشري: "فلان أَمَنَةٌ أي يأمَنُ كُلَّ أحد ويثق به، ويأمنه الناس ولا يخافون غائلته" [8] .
ومِمَّا ذكره ابن منظور: "الأمان والأمانة بمعنى، وقد أَمِنْتُ فأنا أمِن، وآمنت غيري من الأمن والأمان. والأمن ضد الخوف، والأمانة ضد
الخيانة..
والمأمن: موضع الأمن، والآَمِنُ: المستجير ليأمن على نفسه" [9] .
ومن خلال ما تقدَّم من كلام وأقوال أهل اللغة وأرباب البيان يتَّضِح أنَّ للأمن في لغة العرب إطلاقات عِدَّة، فهو يعني:
"الطمأنينة وعدم الخوف، والثِّقة وعدم الخيانة".
المطلب الثاني: تعريف الأمن اصطلاحاً:(39/391)
للأمن تعاريف عِدَّة في اصطلاح العلماء والكتاب، وذلك لتنوع النظرة واختلاف التصور، وتباين المشارب، وإن اتَّفقت على بعض وظائفه وأهدافه.
وقبل أن نعطي تعريفاً للأمن يجدر بنا أن نسوق طائفة متنوعة من التعاريف الدَّالَّة عليه.
فقد عرَّفته موسوعة السياسة بأنَّه: "تأمين سلامة الدولة ضد أخطار خارجية وداخلية قد تؤدي بها إلى الوقوع تحت سيطرة أجنبيَّة نتيجة ضغوط خارجية أو انهيار داخلي" [10] .
وعرَّفه اللواء عدلي حسن سعيد بأنَّه: "تأمين الدولة من الداخل ودفع التهديد الخارجي عنها بما يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له استغلال أقصى طاقاته للنهوض والتقدم والازدهار" [11] .
ويعرِّفه الدكتور علي الدين هلال بأنَّه: "تأمين كيان الدولة والمجتمع ضد الأخطار التي تتهدَّدهما داخلياً وخارجياً، وتأمين مصالحهما وتهيئة الظروف المناسبة اقتصادياً واجتماعياً لتحقيق الأهداف والغايات التي تعبر عن الرضاء العام في المجتمع" [12] .
وقيل أيضاً بأنَّ الأمن هو: "الجهد اليومي المنظم الذي يصدر عن الدولة لتنمية ودعم أنشطتها الرئيسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودفع أي تهديد أو تعويق أو إضرار بتلك الأنشطة" [13] .
كما يذكر الدكتور ممدوح شوقي أنَّه: "قد جرى العمل على أنَّ المقصود بالأمن في مفهومه الواسع هو تحقيق الأمن على المستويين الداخلي والخارجي [14] .
وأخيراً يذكر الدكتور عبد الله القبَّاع أنَّ الأمن لأي دولة يتكون من ثلاث مستويات: داخلية، وإقليمية، وخارجية" [15] .
ومن خلال التعاريف السابقة نلاحظ أنَّها تركز على - أمن الدولة - أو ما يعرف بالأمن الوطني National Security وتناست المفهوم الشامل للأمن في الإسلام والذي يتناول أمن الفرد دنيوياً وأخروياً، وأمن الدولة داخلياً وخارجياً، بل ويتعدَّى ذلك إلى أمن العالم والكون بعضه إلى بعض.(39/392)
فالإنسان - في نظر الإسلام - هو جوهر العملية الأمنية، وهو محور الأمن الداخلي والخارجي، لأنَّه مناط التكليف في هذه الحياة الدنيا دون غيره من سائر المخلوقات.
وهنا يمكن لنا أن نعطي تعريفاً للأمن في مفهوم الإسلام فنقول بأنَّه يعني: السلامة الحِسِّيَّة والمعنوية، والطمأنينة الداخلية والخارجية، وكفالة الحياة السعيدة للفرد والمجتمع والدولة.
فهذا التعريف كما هو ملاحظ يركز على الفرد لأنَّه اللبنة الأساسية والخليَّة الأولى، والذي يتكون منه المجتمع ومن ثَمَّ الدولة بمفهومها الواسع.
ويتناول هذا التعريف عِدَّة أمور هامَّة هي:
أولاً: سلامة الفرد والمجتمع والدولة حِسِّياً ومعنوياً.
ثانياً: الطمأنينة وعدم الخوف أو الفزع والهلع.
ثالثاً: أنَّ التعريف يتناول الأمن الداخلي للفرد والمجتمع والدولة، وكذا الأمن الخارجي.
رابعاً: أنَّ الأمن يكفل الحياة السعيدة - بإذن الله تعالى - للفرد والمجتمع المسلم في هذه الحياة الدنيا، لأنَّه يوفِّر البيئة الصالحة والظروف الملائمة لعبادة الله تعالى وتوحيده، والإيمان به، والتعاون الفاعل المثمر البناء في مختلف المجالات والميادين.
خامساً: أنَّ المسلم حينما يأمن في هذه الحياة الدنيا ويقوم بعبادة ربه تبارك وتعالى ويوحده، فإنَّه ولا شك سيفوز بمرضاته ودار كرامته في الحياة الآخرة، وذلك تحقيقاً لوعده تعالى حينما قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [16] .(39/393)
وقوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [17] .
سادساً: أنَّ التعريف يتناول ويشمل عِدَّة أنواع للأمن كالأمن العقدي، والدعوي، والفكري، والعقلي، والعلمي، والاقتصادي، والبيئي، والزراعي، والعسكري، والسياسي، وغيرها [18] .
المبحث الثاني: مشروعية الأمن، وأهميته في الإسلام
دين الإسلام هو دين الفطرة السوية، والمتأمل في الشريعة الإسلامية وما دعت إليه، يجد أنَّها تلبي احتياجات الفطرة البشرية وتنميها، وترعاها وتوجهها لكل ما فيه خيرها وسعادتها.
قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [19] .
ولا شكَّ أنَّ من دواعي الفطرة الإنسانية ومتطلباتها الاجتماع، وتقارب الناس بعضهم مع بعض في مجتمعاتٍ وتكويناتٍ بشرية عديدة.
ولا ريب أنَّ هذه المجتمعات وتلك التكوينات لا يمكن لها أن تنتظم وتستقر دون أمن يخيم عليها، ودون أمان يظللها ويلقي بجناحه عليها.
ومن هنا جاءت النصوص وتضافرت في التأكيد على مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.
ومن الملاحظ أنَّ تلك النصوص الكريمة قد أوضحت مفاهيم أوسع للأمن، وأكَّدت أهدافاً حقيقية كبرى له، سواء في هذه الحياة الدنيا أو في الحياة الآخرة.
فمن نصوص القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [20] .(39/394)
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [21] .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [22] .
وقال تعالى موضِّحاً أنَّ الأمن الحقيقي للذين آمنوا به واعتقدوا بوحدانيته وقيوميته على خلقه، ولم يشركوا به شيئاً، وكان ذلك على لسان إبراهيم عليه السلام حينما حَاجَّه قومه. يقول تعالى موضِّحاً ذلك: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [23] .
كما يؤكِّد المولى جلَّ وعلا هذه الحقيقة وهذا الوعد الإلهي الكريم للذين آمنوا به ووحَّدوه ولم يشركوا به، أن يمكِّنَ لهم في الأرض، وأن يبسط لهم الأمن ويُذْهِب عنهم الخوف والروع.
يقول تعالى في ذلك: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [24] .(39/395)
يقول الحافظ ابن كثير في إيضاح المقصود بهذه الآية الكريمة: "هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنَّه سيجعل أُمَّته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة" [25] .
كما يرشد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين في موضع آخر من كتابه الكريم أنَّ الأمن والطمأنينة نعمة عظيمة من نعمه سبحانه على خلقه، يجب على عباده أن يشكروه عليها، وأن يبتغوا السُّبُل في المحافظة على دوامها واستمرارها، وأن يحذروا الكفر والشرك بالله تعالى والتنكُّب لشرعه، لأنَّ ذلك إيذانٌ بوقوع العذاب وانتزاع الأمن وذهاب الطمأنينة وشيوع الخوف بدلاً منهما والعياذ بالله.
يقول الله تعالى موضِّحاً ذلك: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [26] .
والمتأمِّلُ في كتاب الله تعالى يجد أنَّ هنالك عوامل كثيرة قد كفلت الأمن في المجتمع المسلم، وآذنت بتحققه إذا ما التزم الناس بها، كالعقيدة الصحيحة، ودفع ما يؤذي المجتمع من الأقوال والأفعال، وردع المجرمين، ومنع المعصية والمنكر، من التفشي بين الناس، وحثِّ أفراد المجتمع على التحلِّي بالأخلاق الإيمانية الكريمة، ومعرفة أقدار الناس، وإنزالهم مواضعهم اللائقة بهم، وعدم امتهانهم أو التعدِّي عليهم.
كذلك رتَّب الإسلام قاعدة هامَّة بين الحاكم والمحكوم، أو الراعي والرعيَّة، تقوم على تنظيم الحقوق والواجبات بين الطرفين، أساسها الإيمان، وقوامها الثقة، ولحمة سداها الشعور بالمسؤولية المشتركة، المؤدية لخير المجتمع وأمنه واستقراره.(39/396)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [27] .
وإنَّ الناظر في أحوال الجاهلية، وما كانت عليه من تفرُّق وعدم اجتماع على كلمةٍ واحدة، أو ما حدث في المجتمعات عبر التاريخ، أو ما يحدث في بعض المجتمعات اليوم من زعزعة في الأمن وعدم طمأنينة واستقرار، إنَّما مرده إلى عدم الأخذ بلوازم الأمن وأسباب تحقيقه، ومن ذلك عدم اجتماع الكلمة، وعدم الطاعة لأولي الأمر، أو التمرُّد عليهم وعصيانهم، وهذا من السُّوء والمنكر الذي حذَّرنا الله تبارك وتعالى منه.
وإنَّ ما ينعم به مجتمعنا في المملكة العربية السعودية من أمنٍ وارف، وطمأنينة تامَّة، وهدوء واستقرار كامل، إنَّما هو فضل من الله تبارك وتعالى ونعمة وإحسان منه، ثُمَّ بفضل التمسُّك بعقيدتنا الإسلامية وطاعة لأولي الأمر واستجابة لهم، الأمر الذي جعل هذه البلاد مضرب المثل في الأمن والاستقرار في العالم بأجمعه والحمد لله.
وأمَّا النصوص التي تحدَّثت عن الأمن وأكَّدته ودعت إليه من السُنَّة المطهرة فعديدة، ولسنا بصدد استقصائها أو الإحاطة بها، ولكن نذكر بعضاً منها على سبيل الاستشهاد والدلالة.
فقد أخرج الترمذي في سننه: عن سلمة بن عبيد الله بن مُحصِنٍ الخطمي عن أبيه - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزت له الدنيا" [28] .(39/397)
يقول الإمام العلاَّمة الحافظ المباركفوري في شرح المقصود بهذا الحديث ما ملخَّصه: "من أصبح منكم - أي أيها المؤمنون - آمناً - أي غير خائف من عدو - في سربه - أي في نفسه، وقيل في جماعته، أو في أهله وعياله، وقيل سَربه - بفتح السين - أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين - أي في بيته، كذا ذكره القاري عن بعض الشُّرَّاح. وقال التوربشتي - رحمه الله - أي بعضهم إلاَّ السَرَب - بفتح السين والراء - أي في بيته، ولم يذكر فيه رواية. ولو سلم له قوله أن يطلق السرب على كُلِّ بيت كان قوله هذا حريّاً بأن يكون أقوى الأقاويل، إلاَّ أنَّ السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. وفي القاموس: السَّرْب الطريق، وبالكسر الطريق، والبال، - والقلب، والنفس، والجماعة، وبالتحريك جحر الوحش والحفير تحت الأرض". اهـ.
ثُمَّ علَّق الحافظ المباركفوري قائلاً: "فيكون المراد من الحديث المبالغة في حصول الأمن ولو في بيتٍ تحت الأرض، ضَيِّق كجحر الوحش، أو التشبيه به في خفائه وعدم ضياعه"ا. هـ[29] .
وهنالك العديد من السنن والتوجيهات والاحتياطات النبوية الكريمة لجناب الأمن في حياة الفرد والمجتمع المسلم حتى يعيش الناس في وفاق وأمان واطمئنان.
ومن أجل ذلك فقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى كُلِّ عملٍ يبعث الأمن والاطمئنان في نفوس المسلمين، ونهى عن كُلِّ فعلٍ يبث الخوف والرعب في جماعة المسلمين، حتى ولو كان أقل الخوف وأهونه، باعتبار الأمن نعمة من أجَلِّ النعم على الإنسان [30] .
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لمسلمٍ أن يروع مسلماً" [31] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنَّه لا يدري أحدكم لعلَّ الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار" [32] .(39/398)
وعن عبد الله بن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن جده أنَّه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً" [33] .
فكل تلك الأمور التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها أمور تنقض الأمن وتوقظ العداوة وتثير الشحناء بين الناس، حريٌّ بكل مسلمٍ أن يتجنبها ويبتعد عنها.
وهكذا دعوة الإسلام الحنيفية السمحة، ما من أمرٍ فيه خير إلاَّ ودلَّت الناس عليه، وما من أمرٍ فيه شر أو بوادر شر، أو من شأنه إثارة الشر وتبديل الأمن إلاَّ وحذَّرت الناس منه ونهتهم عنه.
ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم السَّتر وطلب الأمن وعدم الذعر أو الخوف لأنَّ هذا من أُسُس ومتطلبات الحياة الإنسانية الطبيعية الآمنة.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي" [34] .
والمتأمل بعد ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما قام به من أعمالٍ جليلة وتصرُّفات حكيمة ومسالك قيِّمة عظيمة، يدرك على الفور مدى ما كان يتمتَّع به المجتمع المسلم - آنذاك - من أمنٍ واطمئنان وسكينةٍ ووقار، لم تتوفر في أي مجتمعٍ آخر. وهكذا كان حال المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، وفي معظم العهود الإسلامية المتلاحقة يفوق غيره من المجتمعات البشرية الأخرى في أمنه واطمئنانه.
يقول الله تعالى ممتناً على هذه الأُمَّة الإسلامية بإخراجها من ظلمات الشرك والخوف إلى نور الإيمان والتوحيد والأمان: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [35] .(39/399)
وقال تعالى أيضاً عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [36] .
كما يُذَكِّرُ المولى جلَّ وعلا الأُمَّة كيف كانت قبل مبعث الرسول المصطفى والنبي المجتبى محمَّد صلى الله عليه وسلم في عداوات وإحن وحروب وخوف وعدم اطمئنان في كُلِّ شيء، وما هي عليه بعد مبعثه ودعوته صلى الله عليه وسلم من ألفة وأخوة ومحبة، وما يجب عليهم من الاعتصام والتمسك بحبل الله المتين.
يقول تعالى موضِّحاً ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [37] .
يقول الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في المقصود بالآية الكريمة ما ملخَّصه: "تمسَّكوا أيها المؤمنون بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه الكريم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله تعالى، ولا تتفرَّقوا عن دين الله تعالى ولا تعادوا عليه وكونوا عليه إخواناً. واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حيث كنتم أعداءً في شرككم، يقتل بعضكم بعضاً عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألَّف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعضٍ إخواناً بعد إذ كنتم أعداءً، تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه.(39/400)
فهنا يذكرهم جلَّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا عليه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخواناً" [38] . فلله تعالى الحمد والمنة.
المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية
بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للناس هدايةً ورحمة، وجعل مبعثه في مكَّة المكرَّمة في جزيرة العرب، التي كانت تنتابها المحن والقلاقل والفتن وعدم الأمن، سوى أهل مكة بلد الله الحرام الذين امتن الله تعالى عليهم بالأمن وعدم الخوف كما قال سبحانه: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [39] .
ولقد تعاقبت على جزيرة العرب عهود تاريخية كثيرة، وأحداث جسيمة ألقت بظلالها عليها، الأمر الذي أدَّى إلى عدم الاستقرار وتضعضع الأمن وفشو الخوف بين الناس، وتوجس الشر في كثيرٍ من الأحيان. ناهيك عن انتشار البدع والخرافات وتعلُّق الناس بالأوهام، وانصرافهم عن العقيدة الإسلامية الصحيحة في كثيرٍ من الأوقات، وعدم فهمهم لدعوة الإسلام الخيرة النافعة للإنسان في آخرته ودنياه [40] ، وخاصَّة في العهود الإسلامية المتأخرة.(39/401)
حتى امتن الله تعالى على الناس في هذه الجزيرة بدعوة الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - داعية التوحيد، ومجدِّد ما اندرس من عقيدة الإسلام في العصور الحديثة [41] ، وساعده ووقف بجانبه الإمام محمد ابن سعود أمير الدرعية، بل يمكن لنا القول أنَّ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لم يكن لها أن تصمد وتنتشر ويكتب لها النجاح لولا توفيق الله تعالى وحفظه وتأييده، ثُمَّ وقفة الأمير محمد بن سعود لها وجهاده من أجلها.
وتتابع الأئمة من آل سعود في احتضان ورعاية الدعوة السلفية والعناية بها، وتكبدوا في سبيل ذلك المشاق والأهوال، بل وتحمَّلوا المحن التي رانت على دولتهم في بعض عهودها من أجل هذه الدعوة المباركة ومن أجل بقائها.
حتى كان العصر الحاضر، وفي عهد الإمام المؤسِّس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الذي وحَّد الجزيرة بعد شتات، ولَمَّ شعثها بعد طول سبات، فانتشرت على يديه المباركتين دعوة التوحيد، وراجت كتبها، وتعدَّدت مؤسساتها العلمية، وانتفع الناس بها في الداخل والخارج. كذلك ساد الأمن، وألقت الطمأنينة بظلالها الوارفة، وعمَّت السكينة أرجاء البلاد بعد طول شتات وفرقة وخلاف، فلله الحمد والمنة.
ومِمَّا سبق وتأسيساً عليه يمكن لنا أن نذكر ونسجِّل بعض الأمور التي تستدعي الأمن وتتطلبه، بل وتؤكِّد عليه وتجعله ضرورة هامَّة في هذه البلاد المباركة، ومطلباً حيوياً فيها وهي:
أولاً: أنَّ المملكة العربية السعودية تشغل معظم جزيرة العرب موطن دعوة الإسلام، ومبعث النور والضياء إلى الإنسانية بأجمعها، فكان حريّاً بها أن تكون واحة الأمن والاستقرار.(39/402)
ثانياً: وجود الحرمين الشريفين في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنورة، وكذا بقية الأماكن والمشاعر المقدَّسة التي يهوي إليها المسلمون لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج، أو ما يكون بقصد العمرة والزيارة والصلاة.
ولا شكَّ أنَّ الأمنَ لازمٌ لكي يقوم المسلمون بتأدية عباداتهم تلك وإتمام ما أتوا من أجله في راحةٍ واطمئنان، ومن هنا فقد أمر الله تعالى بأن يكون حرمه آمناً، وبيته ملاذاً للطمأنينة، ومستقراً للسكينة منذ أن أمر جلَّ شأنه ببنائه على يد إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [42] .
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مؤكِّداً على حرمة مكَّة والمدينة: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكَّة ودعا لأهلها، وإني حرَّمتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكَّة، وإني دعوت في صاعها ومدِّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكَّة" [43] وعن سهل بن حُنيفٍ قال: أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: "إنَّها حرمٌ آمن" [44] .(39/403)
ثالثاً: وفود المسلمين في كُلِّ عام إلى الديار المقدَّسة لأداء العمرة والحج، وبأعداد هائلة، ومن بلدان ومجتمعات مختلفة، وتنقُّلهم في مشاعر عديدة كمنى وعرفات ومزدلفة، وفي أوقات وأزمنة محدَّدة، وبكيفيةٍ معتبرة، كل ذلك يجعل من الأمن مطلباً هامّاً لهذه الجموع المسلمة حتى تؤدي عبادتها ونسكها على أفضل وجه.
رابعاً: إنَّ طبيعة هذه البلاد وموقعها الجغرافي بين عِدَّة أماكن ونقاط التقاء برية وبحرية واحتوائها على ثروات عديدة، جعل من الأمن ضرورة هامَّة لها.
خامساً: نهضة المملكة العربية السعودية والتنمية الشاملة في جميع المجالات والميادين الاقتصادية والزراعية والتعليمية والاجتماعية، والرخاء الذي تنعم به، والأهمية المنوطة بأجهزتها تجاه المحافظة على تلك المكتسبات جعل من الأمن مطلباً هامّاً لها.
سادساً: احتواء المملكة العربية السعودية العديد من الأجهزة والمنظمات والهيئات الإسلامية العالمية، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي، والأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وغيرها من المنظمات والهيئات والسفارات والبعثات الدولية، كُل ذلك يضاعف من مسؤوليتها الأمنية تجاه المحافظة على تلك الهيئات.
سابعاً: مجالات العمل والإنتاج المتعددة التي تشهدها المملكة العربية السعودية وتعيشها في عدة ميادين ومناشط، جعل من الأمن مطلباً هامّاً لتحقيق هذه المطالب الهامة، وتوفير الحماية والأمان اللازم لعناصرها.
ثامناً: علاقات المملكة العربية السعودية مع غيرها من الدول العربية والإسلامية والدولية، وارتباطها بهيئات ومنظمات ومواثيق دولية، جعل من الأمن مطلباً هامّاً كذلك.(39/404)
تاسعاً: وهذا أمر وعنصر هام، وهو أنَّ تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز – رحمه الله تعالى - جاء على فترة من الخوف وانقطاع السبل وتفشي الرعب بين الناس في هذه الجزيرة، فكان توحيده لها على أساسٍ من العقيدة الإسلامية وجعل الأمن أصلاً من الأصول التي ترتكز عليها هذه الدولة حتى يقطع دابر الفتن ويستأصل شأفة الخلاف بين أرجائها.
وكان جهاده - رحمه الله تعالى - في توطيد الأمن في ربوع هذه البلاد مضرب المثل بين سائر البلدان ومختلف المجتمعات، وأصبح كثيرٌ من المجتمعات يتمنى بعضاً ممَّا وصلت إليه هذه البلاد المباركة في إيمانها وأمنها واستقرارها.
كما كان لجهود الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - في بسط الأمن آثاراً عظيمةً في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره في جميع المجالات والميادين، وسلك في سبيل تحقيق ذلك مسالك عديدة متنوعة أثمرت عن كُلِّ خيرٍ ولله الحمد والمنة. وهو ما سوف نتعرَّف على بعضٍ منه في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
الفصل الثاني
نشأة الملك عبد العزيز
وأبرز جهوده في توحيد المملكة العربية السعودية
وسبل تحقيق الأمن في عهده
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز والعوامل المؤثرة في شخصيته.
المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها.
المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية ونشر الأمن فيها.
المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز.
تمهيد(39/405)
إنَّ المتأمِّلَ في حياة الملك عبد العزيز ونشأته - يرحمه الله - والعوامل التي أثَّرت في شخصيته، يدرك على الفور مدى ما كان لتلك الأمور من أثر كبير وفاعلية هامَّة في مسيرته وجهاده العظيم في توحيد المملكة العربية السعودية، ونشره للأمن والأمان فيها، وسلوكه السبل الصحيحة المعينة على تحقيق ما كان يصبو إليه.
فالملك عبد العزيز - يرحمه الله - لم يأتِ من فراغ، ولم يصعد سُلَّم المجد، ويَتَسَنَّم ذرى البطولة دون تربية ونشأة سليمة، وعوامل هامَّة أثَّرت في حياته وطريقة تفكيره وتقديره للأمور، صَقَلَت شخصيته وأنضجتها وأعطتها الدربة الكافية لمواجهة الأحداث التي قد يتعرَّض لها بعد ذلك. وهذا ما نجده واضحاً في جهاده - يرحمه الله - وطريقة توحيده للمملكة العربية السعودية، وبسطه للأمن في ربوعها وبين جنباتها.
وإنَّ المتمعِّن في حال الجزيرة العربية قبل توحيدها يدرك ما كانت تعانيه وتفتقر إليه من أمن وأمان واستقرار واطمئنان وراحة بال، ومقومات هامة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ناهيك عن الناحية العقدية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بين أفرادها.
وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد هذه البلاد بعد طول شتات وفرقة ونزاعات، وطَّد الأمن في ربوعها، وزرع السكينة بين جنباتها، وجمع الناس - بفضل الله تعالى - على العقيدة الصحيحة والشريعة العادلة والألفة والمودَّة والمحبَّة بين الناس، فللَّه تعالى الحمد والمنَّة..
المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز، والعوامل المؤثرة في شخصيته
ينتسب الملك عبد العزيز إلى أسرة آل سعود، وهي أسرة معروفة وعريقة ومن أفضل قبائل جزيرة العرب.
فهو: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي [45] .(39/406)
وكان مولد عبد العزيز في قصر الإمارة بالرياض سنة 1293هـ/ 1876 م [46] . وعهد به أبوه - الإمام عبد الرحمن - إلى القاضي عبد الله الخرجي من علماء الخرج، فتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ سوراً من القرآن الكريم، وقرأه كاملاً على الشيخ محمد بن مصيبيح، ثُمَّ تلقى بعض أصول الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في كراسة صغيرة أعدها خصيصةً له [47] .
وفي الرياض علَّمه أبوه الإمام عبد الرحمن مبادئ الفروسية لإعداده للمشاركة في الأحداث التي تمر بها الأسرة، فأقبل عبد العزيز على ذلك بشغفٍ فتعلَّم استخدام البندقية والسيف وركوب الخيل والإبل [48] .
وعاش عبد العزيز في كنف أبيه في الرياض وهو يسمع ويشاهد الصراعات والخلافات تعصف بالبيت الأمر الذي أدى إلى رحيل أسرة الإمام عبد الرحمن إلى الكويت، وكان عمر عبد العزيز إذ ذاك إحدى عشرة أو اثنتى عشرة سنة.
وفي الطريق إلى الكويت مرَّت أسرة الإمام عبد الرحمن بمحن عدة، حيث خرجت وهي تهيم على وجهها في الصحراء حيث عاشت مع قبائل مرة والعجمان، ولكن الأسرة لم تحتمل حياة البادية وغلظتهم وجفاءهم، فأرسل الإمام عبد الرحمن ابنه عبد العزيز إلى البحرين يستأذن الشيخ عيسى بن خليفة حاكم البحرين في بقاء النساء والذرية في جواره، فوافق أمير البحرين، وعاد عبد العزيز بعد ذلك إلى مضارب أبيه في الصحراء [49] .
وكان الإمام عبد الرحمن قد قام بمحاولة لاسترداد الرياض بعد
رحيل الأسرة، وتجميع بعض الأنصار، وكان ذلك سنة 1309 هـ، فاستولى على الدّلم وطرد مَنْ كان فيها مِنْ أتباع ابن رشيد. ثُمَّ دخل الرياض مسالماً، ثُمَّ سار منها إلى المحمل، ونزل في حريملاء على مرحلتين من شمالي الرياض.(39/407)
ووصلت أخباره إلى ابن رشيد وهو في حائل فأسرع بجيشه، فكانت المعركة في حريملاء، وانهزم جمع الإمام عبد الرحمن، وقتل عدد من رجاله وأنصاره، لعدم تكافؤ الجيشين أو الفريقين، وكذلك لعدم تمكُّن الإمام عبد الرحمن من الإحكام والسيطرة على مجريات الأمور.
ونتيجةً لذلك دخل ابن رشيد الرياض، وقفل الإمام عبد الرحمن عائداً إلى مخيَّمه في البادية، فأدركه ابنه عبد العزيز في أطراف منازل العجمان [50] .
ومن ثَمَّ أرسل الإمام عبد الرحمن ابنه عبد العزيز إلى الأحساء يطلب إيواءه هو ورجاله، ولكن لم يوافق الترك على ذلك، لأنَّ الأحساء كانت تابعة للدولة العثمانية.
ومكث الإمام عبد الرحمن مع ابنه عبد العزيز ومن معهما بين قبائل مرَّة والعجمان على أطراف الربع الخالي في صحراء الدهناء فترة قدرت بسبعة أشهر [51] .
وبدأ عبد العزيز يألف البادية، ويتحمَّل مشاقّها، ويتعرَّف على طباع أهلها، ويجاري أبناءها في احتمال مكاره العيش، واعتياد خشونة الحياة.
وفرج الكرب عن الأسرة بعد مكاتبة الإمام عبد الرحمن لشيخ قطر قاسم ابن ثاني وموافقته على استضافته، فانتقل الجمع إلى قطر، ولحقت بالإمام عبد الرحمن أسرته التي كانت في البحرين.
وبعد ذلك قصد الإمام عبد الرحمن الكويت بعد تسهيل الدولة العثمانية وقبول ابن صباح حاكم الكويت لذلك، فانتقلوا إليها من قطر سنة
1310 هـ[52] .
وفي الكويت تعلَّم عبد العزيز فنون السياسة، واختلط بأربابها، حيث كانت الكويت ميداناً للصراع السياسي، والتَّسابق الدولي إليها آنذاك.
وتابع عبد العزيز أخبار الصراع القائم في منطقة الخليج العربي
بين الإنجليز والألمان والروس والعثمانيين، وتتبع باهتمام مساعي الروس للوصول إلى مياه الخليج العربي، ومحاولات الألمان الوصول عن طريق
اتفاقهم مع العثمانيين إلى مدِّ سيطرتهم على البلاد العربية عن طريق إنشاء(39/408)
خط حديدي يصل من برلين إلى بغداد، ومِنْ ثَمَّ تعطيل مصالح الإنجليز
في الخليج، والحد منها في الهند، حيث كان العثمانيون والألمان يتطلعون
إلى إنهائه في الكويت، بينما كان الإنجليز يعملون لتمكين سلطانهم في إمارات ومنطقة الخليج العربي، ويعارضون بشدَّة مدّ الخط الحديدي إلى الكويت [53] .
ومن ذلك ندرك مدى الأهمية الدولية التي كانت تتمتع بها الكويت والتي جعلت منها ميداناً للتصارع والتنافس الدولي إلى حين [54] .
وكان يحكم الكويت آنذاك أميرها الشيخ مبارك الصبَّاح، وكانت أيامه مليئة بالمناورات والمحاورات مع وفود الدول ومحاولته البعد ببلده عن صراع تلك الدول وأطماعها، بدهائه السياسي، والذي ما لبث أن انتهى بتوقيع معاهدة حماية سرية مع الإنجليز سنة 1316هـ/ 1899م وأعلنها بعد عامين [55] .
وكان عبد العزيز يرى كل ذلك ويرقبه ويتعلَّم منه، حيث كان الشيخ مبارك يرى في عبد العزيز علامات النجابة ويتوسم فيه الذكاء والألمعية وصفات العبقرية، فقرَّبه منه، وأجلسه بجواره، وتوقَّع له مستقبلاً كبيراً.
ومِمَّا سبق بيانه، وتأسيساً عليه يمكن القول أنَّ هنالك جملة من العوامل الهامَّة التي أثَّرت في شخصية الملك عبد العزيز ومجريات حياته وهي:
أولاً: العقيدة الإسلامية الصحيحة التي آمن بها، وتربَّى عليها وتخلَّق بها، فأثمرت فيه بوادر الخير والحرص على نفع الناس، ولمِّ شعث الأُمَّة وتوحيدها من جديد.
ثانياً: تلقيه بعض العلوم النافعة المفيدة، كدراسة القرآن الكريم، وبعض مبادئ الشريعة الإسلامية من توحيد وفقه.
ثالثاً: تربيته على معاني الرجولة، وتعليمه العادات العربية الأصيلة كركوب الخيل، واستعمال السلاح.
رابعاً: الظروف العصيبة التي مرَّت بها أسرته، وتنقلاته من الرياض إلى الدهناء، وعيشه بين القبائل، ثُمَّ سفره إلى البحرين فقطر، ومِنْ ثَمَّ استقراره في الكويت.(39/409)
خامساً: عوَّدته الحياة على الصبر والتيقظ وعدم الغفلة والركون لأحد، ومُلِئ قلبه بأحاسيس العودة وتحرير الوطن.
سادساً: مشاركاته السياسية المبكرة، ويبدو أنَّ والده الإمام عبد الرحمن كان حريصاً على إعداد ابنه للمهمات السياسية بجانب المهمات العسكرية، ولهذا نجده يرسله مندوباً عنه مع آخرين لمفاوضة ابن رشيد إبان حصاره الرياض سنة 1307 هـ، مع أنَّ عمره لم يتجاوز الرابعة عشر، وكذلك نراه يرسله بعد سنوات قليلة إلى أمير البحرين ومتصرِّف الأحساء [56] برغبة الانتقال إليها.
ولا ريب أنَّ مثل هذه المهمات والمفاوضات السياسية جعلت منه رجل المهمات السياسية الكبرى في مقتبل أيامه [57] .
سابعاً: مدرسة الكويت السياسية، وقربه من الشيخ مبارك الصبَّاح، واطلاعه على خبايا الساسة، وسماعه لوفود الدول، وما كان بينها من صراعات على منطقة الخليج العربي، وبالذات الكويت، كُلّ ذلك أكسب عبد العزيز أفقاً سياسياً عالمياً، وأعطته دربة وتعليماً وحنكة في التعامل مع الناس، وتحقيق ما يصبو ويتطلَّع إليه.
ثامناً: حالة الهلع، والفزع، والخوف، والذعر، وعدم الأمن والطمأنينة التي كان يحسها ويشاهدها عبد العزيز على وجوه الناس، وفي قسماتهم، وما كانوا يتعرَّضون له من محن وظروف معيشية صعبة، واحتياجهم فعلاً لمن كان يلم شتاتهم، ويؤلِّف جمعهم، ويشد من أزرهم، ويقرب بينهم، كل ذلك أيقظ في نفس عبد العزيز معاني ودوافع كثيرة.(39/410)
تاسعاً: وهذا أمرٌ هامّ، وهو أنَّ كُلَّ تلك الأسباب والمؤثرات ما كان لها أن تؤثِّر التأثير الإيجابي والمطلوب في شخصية الملك عبد العزيز لو لم يحالفها التوفيق من الله تعالى، ثُمَّ وجود وتوافر الاستعداد الفطري، والإحساس الذاتي، والتدفق العاطفي الصادق، المبني على الاقتناع العقلي المحض بأهمية وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه والتي كانت تنتظره وينتظرها، وكأن عبد العزيز كان على موعدٍ مع كل تلك الأحداث الجسام والتصاريف العظام وتدافعها بعضها مع بعض، ليحقق الله أمراً كان مفعولاً.
قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [58] .
المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد
الملك عبد العزيز لها
عاشت الجزيرة العربية قبيل توحيد الملك عبد العزيز لها حالات من الخوف وعدم الأمن والطمأنينة، وذلك لما ساد مجتمعات الجزيرة من انقسامات واختلافات كثيرة متنوعة آذنت باشتعال نار العداوة والفرقة والخلاف فيما بينها.
ويمكن لنا أن نوضِّح بعضاً من تلك الحالات غير الآمنة والتي سادت أقاليم الجزيرة العربية، في النقاط المختصرة التالية:
أولاً: الحجاز:
كان الحجاز يتبع الدولة العثمانية منذ مطلع القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، وكانت الإمارة فيه للأشراف، ولكنها لم تكن إمارة مطلقة، بل محدّدة وذات صلاحيات مقيَّدة من قبل العثمانيين.
ففي المدينة المنورة - مثلاً - كان هناك والٍ تركي، وكانت توجد معه حاميات تركية.(39/411)
وأمَّا في مكَّة المكرَّمة فكانت الإمارة فيها للأشراف، والتي تنصرف غالباً للشؤون المحلية.
وهكذا استقل الأتراك بحكم المدن وأهملوا مناطق وبوادي الحجاز الداخلية.
وكان هذا الحكم الثنائي المزدوج الذي خضع له الحجاز من أهم عوامل تأخره واضطراب أحواله، واختلال الأمن في ربوعه؛ بل وانعدامه في بعض الأمكنة والأزمان [59] .
ونتيجةً لذلك عمَّت المشكلات الداخلية، وساد الاضطراب بين
القبائل، وأغارت بعضها على بعض، وأوجدت الأعراف القبلية فيما بينها والتي لم تستند على أصول شرعية أو قواعد فقهية معتبرة؛ بل استندت في مجملها إلى ما استحسنته عقولها البدوية القاصرة، فلم ترو عطش الناس إلى العدل، ولم تشبع نفوسهم المتطلعة إلى الحق، ولا قلوبهم المشرئبة إلى الأمن والطمأنينة.
كذلك كان الحال بالنسبة للحجاج الذين يفدون من كل حدب وصوب لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، كانوا لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم وأمتعتهم في كثيرٍ من الأحيان.
يقول حسين نصيف موضِّحاً حالة الأمن في الحجاز في عهد الشريف حسين المدعوم من الدولة العثمانية والحاكم باسمها:
"إنَّ الأمن في عهد الحسين لم يكن شيئاً إلاَّ في جهات قليلة من جدَّة بحراً، فالسواحل الحجازية، وبرّاً من جدَّة إلى مكَّة، فمنى، فعرفة، فمزدلفة إلى الطائف. أمَّا طرق المدينة فالكل يعلم أنَّه غير قادر على أن يقيم الأمن فيها وذلك بتعدِّي – بعض – القبائل على الطريق وأخذ الضرائب من الحجَّاج، ورجوع القوافل الزائرة مرَّات عديدة منكصة على أعقابها إلى مكَّة، وكان الأمن في أيام تركيا كما كان عليه أيام الحسين إن لم يكن أقل من ذلك" [60] .
ويزيد الأمر وضوحاً رابح لطفي جمعة بقوله:(39/412)
"كان الحجاز تحت حكم هذا الشريف - أي الشريف حسين - مرتعاً خصباً للنهب والسلب والقتل وقطع الطريق والاحتيال والنصب بمختلف الطرق الملتوية وأساليب الدجل والشعوذة. وكان الحج في عهده سلسلة من المشقات، بل كان نوعاً من المغامرة والمجازفة، بعد أن انتشرت جرائم الحرامية [61] وعصابات قطع الطريق على حجاج بيت الله الحرام، وكان الناس يُحَذِّرون المسافرين من أخطار الطريق، وكان مَنْ يُريدُ الحجّ يودِّع أهله وداع مفارق لا عودة له بسبب سوء حالة الأمن واضطرابه، وكانوا يقولون: "الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود" [62] .
ويقول حسن عبد الحي قزاز، موضِّحاً جوانب أخرى من حالات انعدام الأمن في الحجاز:
"باتت السرقة الفردية أمراً شائعاً وبخاصة في أراضي الحجاز، حيث كانت السرقات، وقطع الطرق، تمتد إلى البحر، فتضاف إليها القرصنة أيضاً.
ولا عجب في ذلك.. فسلطة الدولة العثمانية - وكذا الأشراف - ضعيفة إلى درجة العدم، والفقر يعض الناس بأنيابه الحادَّة، والمراكب المحمَّلة بالبضائع على شواطئ البحر الأحمر وقوافل حجاج بيت الله الحرام ما بين مكَّة المكرَّمة والمشاعر المقدَّسة والمدينة المنورة، كُلُّ ذلك كان سبباً
في انفلات حبل الأمن انفلاتاً تامّاً، وفي اتخاذ اللصوص أماكن آمنة في
مكَّة المكرمة ذاتها، فكان هناك جبل للصوص يلجأون إليه عندما يريدون تصفية حساباتهم.
وكانت القبائل - من جهتها - تحاول أن تحمي السارقين من أبنائها، بأن تجمع مالاً يعطى لصاحب الحق كي يتنازل عن حقه، أو تصالحه على التنازل عن بعضٍ منه..
إلى أن قال:
ويمكن إيجاز الوضع حتى عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله -
كما يلي:(39/413)
- لا أمن في البوادي على الإطلاق، والمغازي متبادلة بين القبائل، وصارت البندقية غالباً بديلاً عن السيف، وكان هَمُّ كُل قبيلة أن تحمي نفسها وأبناءها بالقوة حيناً، وبالمصالحة حيناً آخر، وبالمهادنة في بعض الأحايين.
- وكانت القرى البعيدة عن المدن هدفاً دائماً للغزاة من بعض البدو، ولذا فقد كان القرويون يبذلون جهودهم لحماية أنفسهم بإمكاناتهم الذاتية، ولكن الغلبة تكون أكثر الأحيان للغزاة؛ فلا أمان في الريف أيضاً.
- أمَّا في المدن؛ فقد كان الحال أفضل قليلاً، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعل الناس يشعرون بالأمان، فالأجهزة الأمنية محدودة، وقليلة الخبرة، وعديمة الاكتراث..
وبوجهٍ عام عادت كل تقاليد الجاهلية في العلاقات بين القبائل، والريف، والحضر، ولكن تطبيقها بات يخضع لمفاهيم أخرى في معظم الأحيان.. وكانت الفوضى تضرب أطنابها، والرعب يسيطر على الجميع، والخوف هو السائد" [63] .
هكذا كان حال الحجاز، وهكذا كان حال الأمن فيه: خوف، ورعب، وهلع، وعدم اطمئنان بين الناس، وانتشار لبعض العادات السيئة والمحرَّمة بينهم، كقطع الطريق، والسرقة، وغارة القبائل بعضها على بعض، وانتهاب الأموال، وعدم مراعاة حرمة الناس التي أمر الله تعالى بها.
كذلك ساد الخوف بين الحجَّاج، وخاصَّةً في الطرق المؤدِّية إلى مكَّة المكرَّمة؛ حيث كان بعض أبناء القبائل يمتهنون إيصال الحجَّاج إلى مكَّة، وتأمين الطريق لهم نظير مبلغ من المال، ولكن كان الأمن ينفلت من أيديهم لأسبابٍ كثيرة لعلَّ منها عدم قدرتهم على تأمين الطريق كاملاً، وكذا عدم إيفاء حقوقهم المالية المتفق عليها من قبل العثمانيين، أو الأشراف أو المطوفين في بعض الأحيان، أو من قبل الحجاج أنفسهم في أحيان أخرى.
ثانياً: نجد:
لم تكن نجد أحسن حالاً من الحجاز، فقد كانت تخضع لحكم
آل الرشيد بعد زوال حكم آل سعود فترة من الزمن عنها.(39/414)
وكان عبد العزيز بن متعب آل الرشيد معروفاً بالظلم والقسوة والجور والشِّدَّة، فعانى الناس من حكمه الويلات، وخاصّةً كثرة الضرائب، ومع ذلك لم تأمن في عهده السبل؛ بل عانت من اضطرابات أمنها، وتدهور في اقتصادها، وضعف في دينها وعقيدتها، وانتشارٍ للجهل والخرافات.
يقول الدكتور محمد عبد الله السلمان، مصوراً الحالة التي كانت تعيشها منطقة نجد وما كانت تعاني منه من انقسامات وتأخر وانعدام للأمن فيها:
"لقد كانت نجد في فترة ظهور الملك عبد العزيز في حالة سيئة، منها انعدام الأمن والرخاء، وعدم استقرار الأحوال في البادية والحاضرة على السواء، فعلى الرغم من تلك الوحدة السياسية - المؤقتة - التي حصلت في نجد على يد محمد بن عبد الله بن رشيد - إثر انهيار حكم آل سعود فيها نتيجة تكالب عوامل عديدة عليهم - إلاَّ أنَّ سياسة عبد العزيز بن متعب بن رشيد خلخلت هذه الوحدة - المزعومة - والتي كانت قبل عِدَّة سنوات عبارة عن عِدَّة إمارات إقليمية في الحاضرة، حيث تشمل إمارة الجوف، وإمارة تيماء في شمال نجد، وإمارة حائل، وإمارة بريدة، وإمارة عنيزة، وإمارة الرياض وتوابعها. وفي البادية كانت توجد عِدَّة وحدات قبلية، تصل إلى حوالي عشرين وحدة قبلية، وكل واحدة من الوحدات الإقليمية والقبلية لها من النفوذ والسلطان، وبينها من النزاع والخلاف والحروب الشيء الكثير.(39/415)
وكانت سياسة عبد العزيز بن متعب بن رشيد سبباً في عودة بعض هذه الوحدات إلى ما كانت عليه من نزاع واضطراب وثورات، وكانت القوافل التجارية بين مدن نجد وقراها تحمى بمجموعة من الرجال يحملون السلاح، كما كانوا أيضاً يصطحبون معهم رجلاً من كُلِّ قبيلة من القبائل التي يجتازون أرضها، ويُسَمَّى: "الرفيق"أو "رفق"، ويدفعون له مالاً يُرْضيه، ومع ذلك فإنَّ هذه الاحتياطات قد توفر لهم نوعاً من الوقاية والنجاة، ولكنها لم تكن ضامنة لسلامتهم ضماناً تامّاً، بل تظل أموالهم عرضة للنهب، وحياتهم مهدَّدة بالقتل، وذلك إذا اصطدموا بغزاة لا تفيد معهم الأسباب التي اتخذوها، إمَّا لقوَّتهم أو لكثرة عددهم، أو لأسباب أخرى عديدة. ووجد من بعض العشائر مَنْ يقوم بحماية القاتل علانيةً وتفتخر بهذا العمل.
وكانت عادة الغزو بين القبائل متأصلة في نفوس أفرادها حتى إنَّ الذي لا يشارك في الغزو والسلب والنهب لا يستحق الاحترام من أفراد القبيلة.
وهكذا كان لسوء الحالة الأمنية في نجد قبيل عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - الأثر الكبير في تدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية بسبب عدم توفر السلطة المركزية القوية العادلة المطبقة لشريعة الله تعالى بين الناس" [64] .
ثالثاً الأحساء:
كانت الأحساء قبيل ظهور الملك عبد العزيز تابعة للدولة العثمانية، وذلك منذ العام 1288هـ، وكانت حالتها الأمنية والسياسية والاجتماعية سيئة جداً، ولا تقل عن الحالة في الحجاز أو نجد. فقد كانت الحامية التركية في المنطقة تحكم حكماً يتَّسِم بالظلم والجَوْر وعدم مراعاة الحق والعدل بين الناس، مع زيادة الضرائب على الأهالي وإرهاقهم مع محدودية دخولهم، الأمر الذي جعل الناس يضيقون ويتبرَّمون ويشتكون من مظالم الولاة العثمانيين.(39/416)
أضف إلى ذلك كله أنَّ هيبة الحامية التركية أخذت في الضعف والانحدار مِمَّا جعل الأمن غير مستتب في المنطقة، الأمر الذي أدَّى إلى عجز العثمانيين عن تأمين المنطقة ودروبها من اللصوص وقُطَّاع الطرق، كما عجزوا عن تأمين أرواح الناس وأموال المسافرين وتجاراتهم في الطُّرُق الصحراوية.
ونتيجةً لذلك كله فقد أصبح سلطان العثمانيين محدوداً في مدن منطقة الأحساء، وفقدوا السيطرة على بقية المنطقة، وانشغل العثمانيون بمشاكلهم العسكرية حينذاك في آسيا.
ومن خلال ذلك كله تتضح الحالة التي كانت تعاني منها منطقة الأحساء، ومدى كرههم للحكم التركي، وما جرَّه عليهم من مشكلات وويلات لا قبل لهم بها، مِمَّا حدا بالبادية إلى التمرُّد على السلطة العثمانية، وخاصة قبائل العجمان وآل مرّة، وكان رؤساء القوافل التجارية يضطرون إلى دفع الإتاوات إلى رؤساء هذه القبائل التي يمرون بمواطنها، وكانوا يصطحبون معهم قوة عسكرية - أحياناً - لتأمين القافلة ضد قُطَّاع الطرق، وفي أحيان أخرى كان التاجر يضطر إلى دفع - الإخاوة - وهي مثل الإتاوة للقبائل التي تمر بها تجارته أو قافلته [65] .
رابعاً: منطقة عسير وجيزان:
لم تكن عسير وجيزان وبقية مناطق جنوب الجزيرة العربية بأحسن حالاً من بقية المناطق الأخرى.
فمثلاً منطقة عسير كانت تحت حكم العثمانيين، ثُمَّ استقلَّ بها حسن آل عائض، ودارت بينه وبين الأدارسة معارك وصراعات عنيفة منذ عام 1337هـ، والذي انتهى بهزيمة الأدارسة.
وكانت عسير في كلا العهدين التركي وآل عائض، غير مستقرة
ولا آمنة، فالطرق مخوفة، والجهل سائد، والفتن والحروب قائمة بين القبائل.(39/417)
كذلك الحال كان بالنسبة لجيزان وما جاورها من مناطق أخرى ترزح تحت نير الحروب بين الأتراك والأدارسة بقيادة محمد علي الإدريسي، والذي لم تستقر له الأمور إلاَّ في عام 1337 هـ. ونتيجةً لذلك كله فقد عمَّت الفتن والحروب بين قبائل المنطقة، وساءت الحالة الأمنية بين الناس، وتعرَّضت الطرق للقطع والنهب والسلب [66] .
وهكذا تتضح صورة الحالة الأمنية في الجزيرة العربية قبيل عهد الملك عبد العزيز، ومدى ما كانت تعانيه من خوف وهلع وعدم أمن، ونهب وسلب للأموال والممتلكات، الأمر الذي أدَّى إلى تأخر أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وذلك راجعٌ إلى عدم وجود مَنْ يقوم على أمر الناس، ويلم شعثهم، ويوحِّد كلمتهم، ويطبِّق شريعة الله تعالى بينهم، حتى أذن الله تعالى ووفَّق عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود لتوحيد هذه البلاد، ولَمِّ شملها، ورأب صدعها، وتجميع قوتها في كيانٍ واحدٍ هو المملكة العربية السعودية، مضرب المثل في الأمن والأمان والاستقرار في هذا العالم.
فكيف تمَّ للملك عبد العزيز كُلّ ذلك؟
وكيف قام بتوحيد تلك المناطق والبلدان البعيدة والنائية بعضها عن بعض، والتي كانت مضرب المثل في الخوف وعدم الأمن؟
وكيف أسهمت تلك الوحدة في إرساء قواعد الأمن بين الناس وجعلته مطلباً هامّاً وضرورةً ملحّة لكلّ فرد من أبناء هذه البلاد يحافظ عليه ويدعمه ويدعو الله تعالى أن يديمه ويوفق القائمين عليه؟
هذا ما سوف نتعرَّف عليه في الصفحات التالية بإذن الله تعالى.
المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية ونشر الأمن فيها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فتح الرياض:(39/418)
بعد استقرار الملك عبد العزيز في الكويت مع أبيه وأسرته، وضياع سلطانهما، وتشريدهما من قبل محمد بن رشيد، عمَّت الفوضى في نجد، وأغارت القبائل بعضها على بعض، ولم يأمن أحد الآخر. وكانت جزيرة العرب عبارة عن إمارات أو بمعنى أصح قبائل تتخذ صفات وأشكال الإمارة أو الدولة، وكانت كل إمارة تتطلع إلى ضم الأخرى إليها ولو بالقوّة، ولذا عمَّت المشكلات وازدادت الحروب في داخل الجزيرة العربية، وطمع فيها الطامعون.
وكان عبد العزيز يرقب كل هذا وهو في الكويت ويتحين الفرصة المواتية لتوحيد الجزيرة ولَمِّ شعثها وجبر كسرها من جديد.
وفي تلك الأثناء توفي محمد بن رشيد أمير حائل وما تبعها، وتولَّى الإمارة بعده ابن أخيه عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي كان يطمع في ضم الكويت إلى إمارته وتوسيعها إلى حدود البحر، وكانت الدولة العثمانية تدعمه في تحقيق هذا الحلم التوسعي وتمده بالمال والعتاد لِمَا رأت من تقارب أزعجها بين الشيخ مبارك الصبَّاح أمير الكويت وبين الحكومة البريطانية الذي ما لبث أنْ تأكَّد وتوج بمعاهدة حماية أصبحت بموجبها الكويت محمية بريطانية إلى حين [67] .
ونتيجةً لذلك كله عنَّ للشيخ مبارك الصبَّاح أن يغزو ابن رشيد في عقر داره، فجمع من أجل تحقيق هذا الهدف قوة بلغت عشرة آلاف مقاتل وسار بهم في سنة 1318هـ- 1900م وبرفقته الإمام عبد الرحمن وابنه عبد العزيز الذي اقترح عليه أن ينحاز بفرقة من الجيش ويذهب بها إلى الرياض لاقتحامها، وفتحها وتخليص أهلها، وفي ذلك أيضاً إشغال لابن رشيد وتشتيت ذهنه وقوته بين جبهتين، وفي هذا إضعافٌ له.(39/419)
وفعلاً سار عبد العزيز على رأس قوة صغيرة ودخل الرياض، وحينما كان يحاول الاستيلاء على المصمك بلغه هزيمة الشيخ مبارك الصبَّاح في موقعة الصريف على يد ابن رشيد في القصيم يوم 17 ذي القعدة 1318 هـ، وحينئذٍ دعاه أبوه للعودة إلى الكويت، فأجابه لذلك، وانصرف إليها بمن معه بعد أن عرف الرياض وأحوال أهلها وترحيبهم له [68] .
وبعد رجوع عبد العزيز إلى الكويت لم يطب له المقام فيها بعد أن كان قاب قوسين من النصر أو أدنى، ففاتح أباه والشيخ مبارك برغبته في تكرار محاولته فتح الرياض مرَّة ثانية، فخاف الشيخ مبارك من مغبة هذا الأمر على بلده الكويت، ولم يجبه أبوه بغير الصدِّ والرفض [69] .
وفي العام التالي أعاد عبد العزيز على مسامع أبيه والشيخ مبارك طلبه وألحَّ في ذلك حتى حصل له ما أراد وأمدَّه الشيخ مبارك ببعض المال والسلاح [70] .
سار عبد العزيز من الكويت على رأس قوة صغيرة في نحو ستين راكباً من خلص آل سعود وأتباعهم ومواليهم، وكان ذلك في شعبان من سنة 1319هـ، وسلك بهم طريقاً غير مألوف إمعاناً في إخفاء أمرهم والتمويه على عدوهم.
وهنا يذكر بعض المؤرخين أنَّه التحق بعبد العزيز في طريقه إلى الرياض بعض أبناء القبائل وطالبي المغانم حتى وصل عددهم قرابة الألف رجل، وقام بالإغارة على بعض مضارب البادية من قحطان ومطير، الأمر الذي أقلق ابن رشيد المعسكر في الحفر وجعله يطلب نتيجةً لذلك الإمدادات المالية والعسكرية من الأتراك [71] .
وعندما سار عبد العزيز إلى الرياض وقارب على وصولها لم يبق معه سوى ستين رجلاً وهم الذين خرج بهم من الكويت.
تفقَّد عبد العزيز رجاله، ووضع خطة حربية محكمة لدخول الرياض، واقتحام حصن المصمك الذي يحتمي فيه عجلان عامل ابن رشيد [72] .
وفعلاً نفَّذ عبد العزيز خطته الجريئة التي تدلّ على عبقريته وحنكته وشجاعته وتقديره للأمور.(39/420)
وكانت خطته تقضي بتقسيم مَنْ معه إلى ثلاثة أقسام:
قسم أبقاه خارج المدينة للاحتياط، وقسم رديف، وقسم سار به إلى داخل المدينة، حيث استطاع بهم دخول أحد بيوت عجلان بن محمد العجلان عامل ابن رشيد على الرياض عن طريق بيت مجاور له.
وتبين لعبد العزيز بعد ذلك أنَّ عجلان لا ينام في البيت وإنَّما في داخل الحصن، ولا يخرج إلى البيت إلاَّ بعد صلاة الفجر.
وهنا وضع عبد العزيز خطة لاغتيال عجلان حين خروجه من الحصن، وكانت هنالك بضع ساعات حتى يحين شروق الشمس ويخرج عجلان من الحصن، فأمضاها عبد العزيز وصحبه بأكل بعض ما يحملونه من تمر وبشرب القهوة وأداء صلاة الصبح والتداول في أمرهم.
وما أن فتح باب الحصن وخرج عجلان وعشرة من رجاله إلاَّ واندفع عبد العزيز مع بعض رجاله الأشاوس للفتك بعجلان ومَنْ معه، تاركين وراءهم أربعة منهم داخل البيت ليساعدوهم ويحموهم بنيرانهم.
ارتدَّ رجال عجلان إلى داخل الحصن حينما رأوا الصقور الجارحة تنقض عليهم، تاركين خلفهم عجلان وحده خارج بوابة الحصن. صوَّب عبد العزيز بندقيته وأطلقها تجاه عجلان، ولكنه أصابه في غير مقتل، فسقط السيف من يده، وانفتل [73] راجعاً يريد باب القصر. وعدا عبد العزيز وراءه فأدركه وهو يقفز داخلاً، فأمسك برجليه يجرهما، وتعلَّق عجلان بيديه في الداخل، ورماه فهد بن جلوي بحربة أخطأته واستقرَّت في الباب إلى اليوم. وتمكَّن عجلان من استجماع قوته ولبط [74] عبد العزيز في بطنه، مِمَّا ساعده على الفرار إلى داخل الحصن، وعندها لحق به عبد الله بن جلوي فقضى عليه.
ودارت معركة شرسة داخل الحصن انتهت بانتصار عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، والمناداة باسمه في أعلى برج في القلعة: أن الحكم لله ثُمَّ لعبد العزيز بن سعود.(39/421)
وكان ذلك اليوم إيذاناً بفتح عظيم في جزيرة العرب تحقق فيه ما كان ينشده الناس من أمنٍ وأمان وطمأنينة واستقرار. وقد تمَّ ذلك في الخامس من شهر شوال سنة 1319هالموافق 12 كانون الثاني 1902 م [75] .
ومنذ ذلك اليوم ابتدأت انتصارات عبد العزيز تتلاحق، فاستمرَّت أكثر من ثلاثين عاماً حتى استطاع توحيد أقاليم جزيرة العرب ويقيم فيها المملكة العربية السعودية واحة الأمن والأمان، ويمكن لنا أن نجمل النتائج المهمة التي تمخَّضت عن استرداد الملك عبد العزيز للرياض فيما يلي:
أولاً: يمثل فتح الرياض البداية الحقيقية لانطلاقة عبد العزيز نحو توحيد المملكة العربية السعودية عامَّة.
ثانياً: بدأت تعود للرياض أهميتها وثقلها السياسي وأمنها واستقرارها.
ثالثاً: يعتبر استرداد الرياض بداية نهاية حكم آل الرشيد لعامَّة نجد والذي بدأ بعد موقعة حريملاء عام 1309 هـ، وقبلها بشهور موقعة المليدا عام 1308 هـ، وبذلك استمر عشر سنوات فقط.
رابعاً: ابتداء ظهور شخصية الملك عبد العزيز وأهميته وفاعليته السياسية في الداخل والخارج.
خامساً: استبشار الناس بفتح الرياض، سواء في داخل نجد، أو خارجها، وكذلك الشيخ مبارك الصبَّاح الذي رأى فيه ردّاً لاعتباره في موقعة الصريف.
سادساً: كما كان لاسترداد الرياض صداه الطيب داخل الجزيرة العربية وخارجها، ومن ذلك ما حصل عند الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى - الذي كتب محييا انتصار عبد العزيز آل سعود، على صفحات مجلته الشهيرة المنار التي كانت تصدر في القاهرة بمصر، وواصفاً إياه بأنَّه أعلم وأرحم، أمَّا ابن رشيد فهو أجهل وأظلم [76] .
وخلاصة القول:(39/422)
أنَّ فتح الرياض واستردادها يمثل بداية صفحات جديدة من الجهاد والأمن والتوحيد المضني الذي قام به الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - لأجزاء ومقاطعات جزيرة العرب المترامية الأطراف، والمتباعدة الأماكن، والمختلفة الانتماءات والتوجهات، حيث كان آل الرشيد في حائل ومعظم نجد، والأتراك في الأحساء، والأشراف في الحجاز، وآل عائض والأدارسة في عسير وتهامة. أضِف إلى ذلك تنامي أطماع الدول في المنطقة وتطلعها إليها: كبريطانيا، وألمانيا، وروسيا، وغيرها.
ولكن مع كُلِّ تلك الاعتبارات والمصاعب والتحديات، حمل الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - على عاتقه أمانة توحيد تلك الأجزاء، ونشر الأمن فيها، وبذل في سبيل ذلك النفس والنفيس، حتى أفنى زهرة شبابه وسني كهولته في سبيل تحقيق ذلك الحلم، والتي كانت بدايته ومنطلقه فتح الرياض.
المطلب الثاني: توحيد نجد والأحساء:
أولاً: توحيد نجد والقصيم وحائل:
انطلق الملك عبد العزيز بعد استرداده للرياض في توحيد المقاطعات النجدية، حيث ضم مناطق جنوب نجد كالخرج والأفلاج والحوطة والحريق ووادي الدواسر، دون معاناة تذكر، لأنَّه وجد ميلاً وترحيباً من الناس هناك، وتَمَّ كُلّ ذلك في ظرف ستة شهور، وتوطَّد سلطان عبد العزيز في تلك المناطق [77] .
أمَّا عبد العزيز بن متعب بن رشيد فكان معسكراً في الحفر، وعلم بسقوط الرياض، ولكنه كان يمني نفسه بالاستيلاء على الكويت، لأنَّه كان يراها أصلاً والرياض فرعاً، فإذا قضى على الأصل المموِّن سقط الفرع المموَّن.
وهكذا صارت أحلام ابن رشيد هباءً منثوراً، ولم يستفق إلاَّ على الانتصارات المتوالية التي تؤكِّد سلطان عبد العزيز وتقويه في نجد.(39/423)
حينئذٍ سار ابن رشيد على رأس جيشه متوجهاً إلى الرياض، والتقى مع عبد العزيز في معركة الدلم وبين أشجار النخيل في منتصف عام 1320 هـ، والتي انتهت بانسحاب ابن رشيد إلى حائل ورجوعه معسكراً في الحفر [78] .
وحصل أن طلب الشيخ مبارك الصبَّاح النجدة من عبد العزيز آل سعود في نجدته ضد هجمات ابن رشيد على عربان وبوادي الكويت، ولبَّى عبد العزيز تلك النجدة وسار إليه على رأس قوة يقودها بنفسه. ولكن ما أن وصل عبد العزيز إلى الكويت لنجدة آل الصبَّاح إلاَّ وتنامت الأخبار إليه بهجوم ابن رشيد على الرياض، ولكنه كان هجوماً فاشلاً، وذلك بسبب صمود الإمام عبد الرحمن مع قوة كبيرة داخل الرياض [79] .
ونتيجةً لذلك عقد عبد العزيز العزم على ضم القصيم، وتوطيد الأمن فيها بعد طول نزاع وخوف وتناحر، فسار لتحقيق هذا الهدف الهام، ولِمَا كان يمثله القصيم آنذاك من ثقل وترجيح لميزان القوى العسكري، والتأييد الشعبي.
استطاع عبد العزيز آل سعود من هزيمة سرية لابن رشيد في منطقة السِّر يقودها - حسين بن جراد - والذي قتل في المعركة سنة 1321 هـ[80] .
وهكذا وصلت حدود عبد العزيز إلى منطقة القصيم فقوي شأنه. وفي تلك الفترة وصل أمراء بريدة - آل مهنا، وأمراء عنيزة - آل السليم من الكويت، فقوى بهم عضده وبمن كان معه من أتباع، وسار بهم إلى عنيزة واستولى عليها بعد هزيمة قوات ابن رشيد فيها، وذلك في 5 محرم 1322هـ.
وواصل ابن سعود تقدمه في القصيم، فدخل بريدة بسهولة، ولكنها لم تسلَّم له كلياً إلاَّ في أوائل ربيع الأول 1322 هـ[81] .
وفي خضم تلك الأحداث استنجد ابن رشيد بالدولة العثمانية فأمدته بالمال والرجال، وزحف بجموعه والتقى مع عبد العزيز في معركة البكيرية المشهورة في ربيع الآخر عام 1322هوالتي انتهت بتفوق ابن رشيد وانحسار جيش عبد العزيز، وذلك راجعٌ لعدم تطبيق بعض فئات الجيش خطة عبد العزيز في المعركة [82] .(39/424)
ولكن هكذا الحرب، وهكذا القتال والنزال، كرٌّ وفرّ، إلى أن تثبت الأقدام، وهذا ما حصل مع عبد العزيز آل سعود حينما لَمَّ شعثه، ورتَّب جنده، وتفقَّد أتباعه، ووثق منهم، فجاءت معركة الشنانة بينه وبين ابن رشيد في غرب الرس في 18 رجب 1322هلتمسح آثار هزيمة البكيرية، وتعيد النصر لابن سعود [83] .
بعد موقعة الشنانة، توقف القتال في نجد، وأخذت الدولة العثمانية تعيد النظر في موقفها من ابن سعود ومن دعمها اللامحدود لابن رشيد، فحاولت مفاوضة ابن سعود وعقد صلح بينه وبين ابن رشيد، يقضي بأن تبقى منطقة القصيم محايدة تحت سلطة الدولة العثمانية مباشرةً، وما كان شمالها تابعاً لابن رشيد، وما كان جنوبها تابعاً لعبد العزيز آل سعود، ولكن هذا العرض لم يرضِ ابن سعود فتوقَّفت المفاوضات.
وفي تلك الأثناء هَبَّ عبد العزيز آل سعود إلى نجدة حاكم قطر الشيخ قاسم آل ثاني لإخماد فتنة داخلية في بلاده.
استغل عبد العزيز بن متعب بن رشيد فرصة غياب ابن سعود عن نجد فأراد أن يهاجم منطقة القصيم وينكل بأهلها ويثأر منهم، وجاء بجيشه فعسكر في روضة مهنا شرق بريدة، وحينما عاد عبد العزيز آل سعود من قطر سمع بذلك التجمُّع فنظَّم قواته ووحَّد صفوفه، والتحم مع ابن رشيد في موقعة روضة مهنا الشهيرة، والتي انتهت بمصرع ابن رشيد وهو ينادي في ظلمة الليل على حامل رايته من هان يا لفريخ، من هان يا لفريخ، وكان له من العمر خمسون عاماً، وتدعى هذه الموقعة أيضاً عند بعض المؤرخين بذبحة ابن رشيد، وكان ذلك في ليلة 18 صفر 1324 هـ[84] .
وبعد مصرع ابن رشيد ضعف حكام حائل من آل الرشيد، ودبَّ الخلاف والنزاع بينهم، وقتل بعضهم لبعض، مع حدوث معارك بينهم وبين عبد العزيز آل سعود، حتى انتهى الأمر إلى تجريد ابن سعود بعض الجيوش لمحاصرتها، والتي انتهت بدخول حائل وضمها للدولة السعودية في 29صفر1340 هـ[85] .
ثانياً: ضم الأحساء:(39/425)
في أوائل عام 1331هوجد عبد العزيز آل سعود أنَّ الوقت ملائمٌ جداً لضم الأحساء وإرجاعها إلى دائرة الدولة السعودية، حيث كانت الدولة العثمانية تغوص في مشاكل عِدَّة، والظروف الداخلية مناسبة، فسار متخفِّياً ومموهاً على قبائل العجمان وبني مرّة سيره حتى لا يعترضوه في طريقه حتى وصل إلى الهفوف قاعدة الأحساء بستمائة من رجاله، ووضع خطة حربية تقوم على اقتحام سور (الكوت) [86] وإعلان الحكم لابن سعود.
وحينئذٍ فوجئت الحامية التركية بذلك فسلَّمت في اليوم التالي. وهكذا سقطت الهفوف ومن بعدها القطيف، وغادر بذلك الجنود الأتراك الأحساء إلى العراق عن طريق البحر [87] .
وكان من نتائج توحيد الملك عبد العزيز لمناطق نجد والقصيم وحائل والأحساء استتباب الأمن فيها بعد أن كان شبه مفقود، وترك القبائل عادة النهب والسلب وشن الغارات بعضهم على بعض، وهذا من أهم المكاسب التي جنتها تلك المناطق في دخولها دائرة الدولة السعودية، الأمر الذي مكَّنها بعد ذلك من النهوض والارتقاء وتحسين مستوى المعيشة والدخل والتنمية في جميع المجالات.
المطلب الثالث: ضم الحجاز وعسير وتهامة:
أولاً: ضم الحجاز:
كان يحكم الحجاز قبل الملك عبد العزيز الشريف حسين من قبل الدولة العثمانية، وكانت للشريف حسين بعض المطامع والتطلعات والتحالفات مع بعض الدول لتقوية جانبه وتعزيز مركزه في البلاد العربية.
كذلك لم يهتم الشريف حسين بالأوضاع الداخلية في الحجاز حيث كان الجهل وانتشار بعض البدع وانصراف كثير من الناس عن فهم
الإسلام وعقيدته الصافية، وشيوع الخوف وعدم الأمن في مضارب وبوادي الحجاز.
ولم تكن العلاقة حسنة بين عبد العزيز آل سعود وبين الشريف حسين لتحرُّشات الشريف بالبلاد النجدية ومهاجمته أطرافها، وأسره لسعد بن عبد الرحمن آل سعود شقيق الملك عبد العزيز، وفداؤه بعد ذلك منه [88] .(39/426)
وحينما قامت الحرب العالمية الأولى عملت بريطانيا دوراً كبيراً، وولَّدت وهماً عريضاً لدى الشريف حسين بأنَّه سيصبح وريث الدولة العثمانية في حكم العرب، وسوف يتوج ملكاً عليهم، وزاد من هذا الوهم عند الشريف ما تحصل عليه من عتاد عسكري من الحامية التركية في المدينة المنورة بعد أن أعلن عن ثورته على الأتراك [89] .
وبدأ الخلاف بين الشريف حسين وعبد العزيز آل سعود على ترسيم الحدود وتفاقم الخلاف بينهما حتى كانت موقعة تربة والتي انتصر فيها عبد العزيز على قوات الشريف حسين انتصاراً ساحقاً بقيادة خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد، وكان ذلك ليلة 25 شعبان 1337 هـ، وسقط جيش الشريف بأكمله بقيادة ابنه عبد الله، ودكَّت قوته ولم تقم له بعد ذلك قائمة [90] .
وتنازل الشريف حسين لابنه علي عن الحكم بعد ذلك رغبةً في إيقاف عبد العزيز عن التقدم إلى الحجاز وطلب المدد من الخارج، ولكن كل ذلك لم يفد، حتى دخل الجيش السعودي مكة المكرمة ظافراً منتصراً دون قتال ومحرمين بالعمرة في 17 ربيع الأول 1343 هـ، ثُمَّ وصل السلطان عبد العزيز إلى مكة المكرمة في 7 جمادى الأولى 1343 هـ، وبعد ذلك حاصر عبد العزيز الشريف علي بن الحسين في جدة، وبعد عام طلب الصلح وسلَّمه المدينة ورحل عنها.
كما حاصرت القوات السعودية المدينة المنورة حتى سلمت الحامية العسكرية فيها للأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود في 19 جمادى الأولى سنة 1344 هـ[91] .
وهكذا تمَّ للسلطان عبد العزيز ضم الحجاز إلى مملكته الفتيَّة، وكان من نتائج ذلك استتباب الأمن في تلك المناطق، وخلود الناس إلى السكينة والهدوء بعد أن كانت تموج بالفتن والاضطرابات.
كذلك كان من نتائج ضم الحجاز أن بايع أهله السلطان عبد العزيز فأصبح لقبه ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاته.(39/427)
وفي 25 رجب 1345هغير لقب السلطان إلى ملك، فأصبح لقبه ملك الحجاز ونجد وملحقاته، وأبلغ الملك عبد العزيز ذلك التغيير إلى الدول الأجنبية فاعترفت به [92] .
كذلك كان من نتائج ضم الحجاز أن عقد الملك عبد العزيز أول مؤتمر إسلامي عام في مكة وحضره وفود عدة دول إسلامية سنة 1344 هـ، وفي ذلك تقوية لمركز الملك عبد العزيز وتأكيد الاعتراف به، ورفعة مكانته بين الدول الإسلامية [93] .
ثانياً: ضم عسير وبقية مناطق الجنوب:
كانت عسير ضمن حدود الدولة السعودية الأولى، ولكن بعد سقوطها على يد والي مصر محمد علي باشا أصبحت تابعة له، ثُمَّ تبعت الدولة العثمانية حتى استطاع - عائض بن مرعي - تكوين إمارة مستقلة وأخرج الأتراك منها، والذين ما لبثوا أن عادوا عام 1288 هـ، وصارت تابعة لهم. ولما هزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى استقل حسن بن علي آل عائض بتلك المنطقة، وكان يميل إلى الشدَّة مع الناس الذين تطلعوا بعد ذلك إلى الملك عبد العزيز ليمنع الحسن من ظلمهم، فأرسل له الملك عبد العزيز وفداً من العلماء لتقديم النصح والإرشاد لما ينبغي أن يكون عليه في معاملة الناس، ولكن حسن آل عائض فسر ذلك على أنَّه تدخل من الملك عبد العزيز في شؤونه، بل وهدد باحتلال بيشة، كل ذلك أدى بالملك عبد العزيز إلى تجهيز جيش بقيادة ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي، الذي التقى بحسن آل عائض، وهزمه في معركة وأسر فيها [94] ، ودخل ابن جلوي عسير وقاعدتها أبها وأكمل احتلال إمارة آل عائض حتى حدودها مع الأدارسة وذلك في شعبان 1338 هـ[95] .(39/428)
وعامل الملك عبد العزيز حسن آل عائض معاملةً طيبة وعرضَ عليه أن يبقى أميراً على منطقته تحت سلطة الدولة السعودية، ولكنه رفض وبقي مع أسرته برواتب سخيَّة. ولكن لم يلبث أن انتقض الحسن وقام بحركة عسكرية استولى بها على أبها من جديد وبتحريض من الشريف حسين آنذاك. وحينئذٍ أرسل عبد العزيز آل سعود ابنه فيصل على رأس قوة كبيرة هزمت حسن آل عائض في منطقة حصينة تُسَمَّى - حرملة - وأعادته إلى الطاعة من جديد، وبذلك دخلت عسير في إمرة الدولة السعودية، وكان ذلك سنة 1340 هـ[96] .
أمَّا عسير الجنوبية أو ما يطلق عليه المخلاف السليماني والذي يشمل عِدَّة مدن وقرى تابعة لها كصبيا وجيزان وأبو عريش، فقد كانت الإمارة فيها للأدارسة [97] .
وقبيل قيام الحرب العالمية الأولى تحالف محمد بن علي الإدريسي مع إيطاليا وأسَّس في المنطقة إمارة مستقلة يحكمها سنة 1332 هـ، ثُمَّ عقد معاهدة مع بريطانيا سنة 1333 هـ، ثُمَّ تعرَّضت إمارته لتهديدٍ من الإمام يحيي والشريف حسين مِمَّا دعاه إلى توقيع حماية مع الملك عبد العزيز، وذلك في عام1338هـ[98] .
ثُمَّ توفي محمد بن علي الإدريسي عام 1341 هـ، فتولَّى بعده ابنه علي، ولكنه كان ضعيفاً، فتولَّى مكانه عمه الحسن بن علي الإدريسي، الذي عقد معاهدة مع عبد العزيز عام 1345هليحفظ بها بلاده من هجوم الإمام يحيي إمام اليمن آنذاك، وأطماعه التوسعية، وترك الملك عبد العزيز للحسن الإدريسي إدارة الشؤون الداخلية لبلاده مع مندوب سعودي، ولكن لم يطل الأمر كثيرا لعدم نجاح الحسن في إدارته وضبط الأمن فيها، مِمَّا اضطره إلى أن يرسل للملك عبد العزيز في 17 جمادى الأولى عام 1349همتنازلاً له عن الإمارة، فقبل منه الملك ذلك في 29 جمادى الآخرة من عام 1349 هـ، ولكنه انتقض ثُمَّ رحل إلى اليمن مع أسرته بعد فشل محاولاته [99] .(39/429)
وبذلك أصبحت عسير والمخلاف السليماني وما تبعها من مناطق، جزءاً لا يتجزَّأ من الدولة السعودية الفتيَّة. وبذا عَمَّ فيها الأمن وانتشرت السكينة وأمن الناس بعضهم بعضاً، وانقطعت أطماع الدول الأخرى التوسعية فيها.
وبعد توحيد الملك عبد العزيز لأجزاء ومناطق معظم جزيرة العرب، صدر مرسوم ملكي كريم بإطلاق اسم جديد على المملكة الفتية وإلغاء الألقاب والأسماء السابقة، وجعلها تحت مسمَّى واحد جديد هو - المملكة العربية السعودية - وكان ذلك في جمادى الأولى عام 1351هالموافق 23 سبتمبر 1932م، والمصادف لليوم الأول من برج الميزان من عام 1310 من السنة الهجرية الشمسية، ولله الحمد والمنة [100] .
ونتيجة لكُلِّ تلك الجهود الجبارة والمضنية من الملك عبد العزيز في سبيل توحيد المملكة العربية السعودية ولَمِّ شتاتها ورأب صدعها، استتب الأمن فيها وعمَّت الطمأنينة والهدوء، وأصبح التنقل ميسوراً بين المناطق بعد أن كان محفوفاً بالمخاطر والمكاره.
كذلك انتعشت الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت تظهر علامات الارتقاء والتحضر الاجتماعي.
أيضاً انتشرت العقيدة الإسلامية الصحيحة - بحمد الله تعالى - وعرف الناس العلم الصحيح المستفاد من مصادره الصحيحة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وما أثر عن السَّلف الصَّالح وعلماء وفقهاء الإسلام في شتَّى أنواع العلوم والمعارف.
وهكذا حينما تكون الإرادة صحيحة والنوايا سليمة ويحملها رجال أكفاء أصحاء، تكون النتائج بإذن الله تعالى صحيحة ومثمرة وطيِّبة نافعة، كما قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُو} [101] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] آل عمران: 102(39/430)
[2] النساء: 1
[3] الأحزاب: 70 - 71
[4] هذه تُسَمَّى خطبة الحاجة، وهي تشرع بين يدي كُلِّ ذي أمرٍ هامٍّ.
انظر: سنن الترمذي 3/404 كتاب النكاح، باب: ما جاء في خطبة النكاح. وقال: صحيح.
[5] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 1/133
[6] الصِّحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري 5/2071
[7] القاموس المحيط، للفيروزآبادي 4/197
[8] أساس البلاغة، لجار الله الزمخشري ص 10
[9] لسان العرب المحيط، لابن منظور 1/107
[10] موسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون 1/331
[11] الأمن القومي العربي واستراتيجية تحقيقه، لواء عدلي حسن سعيد ص 11
[12] الأمن القومي العربي: دراسة في الأصول، د. علي الدين هلال، مجلة شؤون عربية، عدد 35 ص 12.
[13] الأمن القومي، عبد الكريم نافع ص 65.
[14] الأمن القومي والأمن الجماعي الدولي، د. ممدوح شوقي ص 34
[15] انظر: الاستراتيجية الدولية وقضايا الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية،
د. عبد الله القبَّاع، ص 354
[16] سورة الأنعام، آية 82
[17] سورة يونس، آية 9 – 10
[18] انظر أكثر عن أنواع الأمن في كتاب: الأمن الذي نعيشه، لحسن عبد الحي قزاز 2/475 – 520 – 595 – 625 – 665 – 675 – 701 – 759 – 774- 862 - 892
[19] سورة الروم، آية 30
[20] سورة آل عمران، آية 97
[21] سورة العنكبوت، آية 67
[22] سورة البقرة، آية 126
[23] سورة الأنعام، آية 80 - 81 - 82
[24] سورة النور، آية 55
[25] تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير 3/300
[26] سورة النحل، آية 112
[27] سورة النساء، آية 59(39/431)
[28] سنن الترمذي 4/574 كتاب الزهد، باب 34 وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب ورواه ابن ماجه في سننه 2/1387 كتاب الزهد، باب القناعة، رقم 4141 وقال الشيخ الألباني: حسن. انظر: صحيح سنن الترمذي، للألباني 2/274 رقم الحديث 2463.
[29] ستحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري 7/9 - 10
[30] الأمن في حياة الناس، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ص 24
[31] سنن أبي داود 5/274 كتاب الأدب، باب مَنْ يأخذ الشيء على المزاح. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/1268 رقم 7658
[32] صحيح البخاري 4/315 كتاب الفتن، باب من حمل علينا السلاح فليس منا، رقم 7072. وصحيح مسلم 4/2020 كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، رقم 2617.
[33] سنن أبي داود 5/273 كتاب الأدب، باب مَنْ يأخذ الشيء على المزاح. ورواه الترمذي في سننه 4/462 كتاب الفتن، باب ما جاء لا يحلّ لمسلمٍ أن يُرَوِّع مسلماً، رقم 2160، واللفظ لأبي داود وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/1257 رقم 7578
[34] رواه الإمام أحمد في مسنده 2/25، وأبو داود في سننه 5/315 كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، رقم 5074، وابن ماجه في سننه 2/1273 كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل، رقم3871. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن ابن ماجه 2/332 رقم 3121
[35] سورة إبراهيم، آية 1
[36] سورة المائدة، آية 16
[37] سورة آل عمران، آية 103
[38] انظر: تفسير الطبري 3/378 - 381 ملخصاً.
[39] سورة قريش بكاملها.
[40] للتوسع حول الموضوع انظر: روضة الأفكار والأفهام، لحسين بن غنام 1/137، وعنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر 1/6(39/432)
[41] انظر حول ذلك: كتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، لمعالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود ص21، وكذلك انظر الصفحات من 501 – 511.
[42] سورة البقرة، آية 125 - 126
[43] صحيح مسلم 2/991 كتاب الحج، باب فضل المدينة رقم1360، وصحيح البخاري 2/97 كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومُدِّه، رقم 2129، واللفظ لمسلم.
[44] صحيح مسلم 2/1003 كتاب الحج، باب فضل المدينة رقم 1375، ورواه أحمد في مسنده 3/486 رقم 16019.
[45] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 9
[46] انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/58
[47] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 17
[48] خمسون عاماً في جزيرة العرب، لحافظ وهبة ص 27
[49] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 18
[50] انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/64
[51] انظر: المصدر السابق 1/65
[52] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 20
[53] انظر: معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 45 - 46
[54] راجع: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 2/225
[55] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 22، والجدير بالذكر أنَّ هذه المعاهدة ألغيت في 4 محرَّم 1381هالموافق 19/6/1961م حيث اعترفت بريطانيا باستقلال دولة الكويت. هامش الوجيز ص 22 رقم 1.
[56] متصرِّف الأحساء: أي واليها من قبل السلطان العثماني.
انظر التعريف بالمصطلح الشريف للقاضي ابن فضل الله العمري، حيث ذكر أنَّ من
عُدد الملوك والسلاطين: الولاة والنواب والمتصرِّفين ... ص 115(39/433)
[57] انظر: أثر قوة إرادة الملك عبد العزيز في تكوين المملكة، د. عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، وذلك ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز سنة 1406هـ.
[58] سورة الحج، آية 40
ومِمَّا قاله ابن كثير في تفسير الآية: "لولا أنَّه يدفع بقومٍ عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض ولأهلك القويُّ الضعيفَ" تفسيره 3/226
[59] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 211-212
[60] ماضي الحجاز وحاضره، لحسين نصيف ص 100 ـ 101.
[61] هكذا في الأصل. ولعلَّه يقصد اللصوص أو السرّاق.
[62] حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 42
[63] الأمن الذي نعيشه، لحسن عبد الحي قزاز 1/26-27
[64] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان، من ص 209- 210 بتصرف يسير.
[65] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان، من ص209 - 210 بتصرف يسير. وانظر كذلك: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز لرابح لطفي جمعة ص49.
[66] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 216 بتصرف يسير.
[67] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 22، وصقر الجزيرة لأحمد عبد الغفور عطار 2/231، وجزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبة ص 243، وشبه الجزيرة لخير الدين الزركلي 1/72.
[68] انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/76، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 20 -23
[69] شبه الجزيرة لخير الدين الزركلي 1/77 - 80
[70] تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 121 - 122، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/80.(39/434)
[71] انظر: تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 121 - 122، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/80، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 23
[72] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 25
[73] انفتل: الفَتْلُ: اللَّيُّ، والانصراف، والدوران من وراء.
انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/472، ولسان العرب لابن منظور 2/1048
[74] لَبَطَ: سقط وصرع وضرب. انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/230، والصحاح للجوهري 3/1155، ولسان العرب لابن منظور 3/336
[75] انظر القصة كاملة في الكتب التالية: تاريخ الدولة السعودية، لأمين سعيد 2/28، شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/87، جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص243، وصقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/231.
[76] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 25
[77] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 31، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 282.
[78] تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 130.
[79] انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/140، وتوحيد المملكة العربية السعودية د. محمد عبد الله السلمان ص 30
[80] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 35
[81] انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/147 - 148، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 30
[82] انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/361
[83] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 37
[84] انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/170، وصقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/375
[85] توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 37(39/435)
[86] الكوت: القلعة كلمة برتغالية كثر استعمالها بعد دخول البرتغاليين الخليج واستيلائهم على بعض الأماكن فيه. انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص64 هامش رقم 1.
[87] انظر: كتاب عبد العزيز آل سعود، لبنوا ميشان ص 112، والوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 56
[88] انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/417
[89] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 79
[90] صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/437
[91] انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/333-341-343-346، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 45 - 47
[92] قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة ص 394
[93] انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص 275
[94] لم تذكر كتب التاريخ اسماً للمعركة، وإنَّما الذي ذكرت أنَّ التقاء الجيش السعودي مع قوة حسن آل عائض تمَّ في مكان يُسَمَّى - حجلة - وفي أرضها جرت المعركة.
انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 3/473، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 49
[95] تاريخ الدولة السعودية، لأمين سعيد 2/95
[96] انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عطار 3/467
[97] انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 153، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 50
[98] انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 5/1095، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 51
[99] انظر تفصيل ذلك في: شبه الجزيرة العربية، لخير الدين الزركلي 2/535، ودراسة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، د. محمد عبد الرحمن برج ص 308(39/436)
[100] انظر: قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص 365، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 2/561 – 566.
[101] سورة الأعراف، آية 58.(39/437)
تابع لجهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن
المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز:
بعد أن وحَّد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله تعالى - المملكة العربية السعودية، وتوطَّدت أركان الدولة، وانتشر الأمن، وعمَّت السكينة في أرجائها، وأصبح المجتمع السعودي مضرب المثل في أمنه وأمانه، يمكن لنا القول أنَّ هنالك عِدَّة سبل ووسائل وعوامل تضافرت في تحقيق ذلك الأمن، ولعلَّ من أهمها:
1 - التمسُّك بالعقيدة الإسلامية.
2 - تطبيق الشريعة الإسلامية.
3 - إقامة الحدود الشرعية.
4 - العدل بين الناس.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6 - الاستقرار السياسي.
7 - توطين البادية وإنشاء الهجر.
8 - نشر العلم الصحيح بين الناس.
9 - تحسُّن الأحوال المعيشية والاقتصادية.
10- وجود الأجهزة الأمنية الحكومية المنظَّمة.
وفي الصفحات القادمة سوف نتناول - بإذن الله تعالى - وبشيءٍ من الإيجاز السُّبُل والوسائل الرئيسة السابقة التي عملت وتضافرت في تحقيق الأمن وبسطه في المجتمع السعودي.
أولاً: التمسُّك بالعقيدة الإسلامية:
لا شكَّ أنَّ للدين أثره العظيم والواضح في سلوك الإنسان وتهذيبه وتقويمه، وإرشاده إلى ما فيه الأصلح له في دينه ودنياه وآخرته. وحينما قام الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى بنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة المستقاة من مصادرها الأصلية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اجمعت عليه الأمَّة وسار عليه السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - كان لتلك العقيدة أثرها العظيم في إرجاع الناس إلى جادَّة الحق والصواب، وترك الابتداع في الدين، وكذا ترك العادات والتقاليد المخالفة والمنافية للشريعة الإسلامية الغرَّاء.(39/438)
أيضاً كان لنشر الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى العقيدة الإسلامية في مجتمع المملكة العربية السعودية أثره الواضح في استشعار الناس الخوف من الله تعالى، وعبادته، ومراقبته سبحانه وتعالى، ومعرفة أنَّه مطَّلِع على الإنسان أينما كان وحيثما حلَّ أو ارتحل، وأنَّ الله تعالى محصٍ عليه جميع أقواله وأعماله كما قال سبحانه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [1] .
كُلُّ ذلك أدَّى إلى حفظ الأمن بمعناه الواسع والشامل في حياة المجتمع السعودي ولله الحمد والمنة.
ثانياً: تطبيق الشريعة الإسلامية:
إنَّ المتأمِّل في أحكام الشريعة الإسلامية وما اشتملت عليه من قواعد وأصول وعبادات وأحكام وأخلاق، يدرك أنَّها الشريعة الكاملة الخيِّرة النافعة للإنسان في هذه الحياة. ولذا أوجب الله تعالى التحاكم إلى هذه الشريعة وتطبيقها والعمل على اتباعها وعدم الإعراض عنها.
قال تعالى: {ِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [2] .
وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [3] .
وقال جلَّ شأنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [4] .
وقال عزّ من قائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [5] .
ولا ريب أنَّ أحكام الشريعة الإسلامية قد كفلت للمسلم: دينه ونفسه، وعقله، وماله، ونسله، وما يحتاج إليه وتستقيم وتتحسَّن به حياته وأحواله.
يقول الإمام ابن قيِّم الجوزية - رحمه الله تعالى -:(39/439)
" إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها " [6] .
وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد المملكة العربية السعودية وبسط الأمن فيها، ونشر الطمأنينة بين أرجائها، استشعر أنَّ أهمَّ عامل وسبيل يعينه - بعد الله تعالى - على إتمام هذا الأمر، إنَّما هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وإلزام الناس بها في جميع تصرفاتهم وشؤونهم.
يقول رحمه الله عندما أراد دخول مكَّة المكرَّمة سنة 1343هـ:
" إني مسافر إلى مكَّة لا للتسلط عليها؛ بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله. إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها فلن يكون هناك سلطان إلاَّ للشرع " [7] .
ويقول - رحمه الله - في موضعٍ آخر، موصياً العلماء والقضاة بتطبيق الشريعة، وإقامتها وتحكيمها بين الناس:
" إنَّ كتاب الله - تعالى - ديننا ومرجعنا، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلنا، وفيها كل ما نحتاجه من خيرٍ ورشاد، ونحن من جانبنا سنحرص - إن شاء الله - كل الحرص على إقامته، واتباعه، وتحكيمه في كُلِّ أمر من الأمور " [8] .
وقال رحمه الله مخاطباً الناس في المدينة المنورة:
" وإن خطتي التي سرت ولا أزال أسير عليها، هي إقامة الشريعة السمحة " [9] .
ونتيجةً لتطبيق الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لأحكام الشريعة الإسلامية والعمل والقضاء بها، ساد الأمن وتوطَّد الأمان بين الناس، وشاعت السكينة، وعرف الناس معنى الحياة الآمنة.(39/440)
ثالثاً: إقامة الحدود الشرعية:
لعلَّ من لوازم تطبيق الشريعة الإسلامية، والعمل بها إقامة ما تقتضيه من حدود شرعية على مَنْ يقوم بمخالفتها، أو من يرتكب جرماً معيّناً في حقِّ الآخرين.
ولا شكَّ أنَّ الجريمة قد انتشرت وعمَّت في أرجاء شبه جزيرة العرب قبل توحيد الملك عبد العزيز لها، وتنوعت أشكالها وتعددت بواعثها ودواعيها [10] .
ولا ريب أنَّ تلك الجرائم كالقتل، والسرقة، والحرابة وغيرها كانت من أعظم خوارم الأمن وترويع الناس وبثّ الرعب فيما بينهم، ولم يكن هنالك مَنْ يردع الظالم عن ظلمه، والباغي عن بغيه، والمعتدي عن عدوانه، فاستشرى الفساد وعمَّت البلوى وكثرت إلى الله الشكوى.
وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد المملكة العربية السعودية، استشعر أهمية تطبيق الحدود الشرعية وإقامتها بين الناس، وأنَّ ذلك من خصال الإيمان ومقتضيات العقيدة الصحيحة، وتأكيد لمعنى الحياة وأهميتها بين الناس كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [11] .
فكان من نتائج تطبيق الحدود الشرعية أنْ صلحت أحوال الناس، واستقامت أمورهم، وشاع الأمن، وعمَّت السكينة فيما بينهم.
رابعاً: العدل بين الناس:
أمر الله تعالى بالعدل في كتابه الكريم، وحضَّ عليه بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [12] .(39/441)
كما أمر سبحانه بإقامة العدل ولو كان مع الأعداء، وأنَّ ذلك من علامات التقوى، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [13] .
وما من شك أنَّ أي مجتمع يسود فيه العدل سوف ينعم أفراده بالأمان والاستقرار وراحة البال، وهذا ما حدث لمجتمع المملكة العربية السعودية حينما وحَّده الملك عبد العزيز - يرحمه الله - وأشاع فيه العدل والمساواة، ولَمْ يفرّق بين الناس، وحارب الظلم بشتى أنواعه وأشكاله.
يقول - رحمه الله - في خطبةٍ له موضِّحاً تقريره للعدل والمساواة بين الناس:
" إنَّني اعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألِّفوا بين قلوبكم لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقنا ... إنَّني خادم في هذه البلاد العربية؛ لنصرة هذا الدين، وخادم للرعيَّة، الملك لله وحده، وما نحن إلاَّ خدمٌ لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم، فنكون قد خُنّا الأمانة المودعة إلينا ... إنَّنا لا تهمنا الأسماء ولا الألقاب، وإنَّما يهمنا القيام بحق الواجب لكلمة التوحيد، والنظر في الأمور التي توفّر الراحة والاطمئنان لرعايانا " [14] .
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأصول العظيمة والأسس الرفيعة التي أمرت بها الدعوة الإسلامية وأكدتها، وأجمعت الأمة على أهمية القيام بهذا الواجب.
يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [15] .(39/442)
وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [16] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " [17] .
ويقول الإمام النووي رحمه الله: " وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب، والسُنَّة، وإجماع الأُمَّة " [18] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّ جميع الولايات الإسلامية إنَّما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " [19] .
وما من شك أنَّ الأمَّة الإسلامية قد قامت بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان ذلك عنواناً لخيريتها، ودليلاً على صلاحها واستقامتها.
ومن الجوانب الهامَّة الدالة على تطبيق الأمة الإسلامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيجاد هيئة أو وظيفة تختص بهذا الواجب الهام، وتنفيذه عملياً بين الناس، ألا وهي: الحِسْبة، وهي كما عرَّفها العلماء: " أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله " [20] .
وبذا يتَّضِح أنَّ الحكمة من تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد هيئات الحِسْبة في المجتمع، إنَّما هو من أجل إعلاء كلمة الله تعالى وتوحيده ونصرة دينه وإظهار شرعه وإبطال المنكرات والمبتدعات وكُلُّ ما يخل بأمن المجتمع واستقراره وطمأنينته.(39/443)
وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد كيان المملكة العربية السعودية أوجد وأسَّسَ هيئة تُعْنَى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك سنة 1343 هـ؛ بل إنَّ كثيراً من المؤرِّخين يرجع بداية تنظيم الملك عبد العزيز لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين دخوله الرياض سنة 1319هـ، وبعد استتباب واستقرار الأمور له، وإيكال أمر الهيئة والاحتساب على الناس إلى رجلٍ مهيب الجانب هو الشيخ عبد العزيز ابن عبد اللطيف آل الشيخ، وقام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتزويد رجال الحِسْبة ببعض الأعوان والجنود، وما يحتاجون إليه في تأدية أعمالهم المنوطة بهم [21] .
واتَّسعت بعد ذلك هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتشمل معظم مدن المملكة وقراها، واتسع نطاقها لتشمل جوانب هامَّة عديدة في المجتمع، الأمر الذي ساعد على حصول الأمن والأمان وحراسة المجتمع من كُلِّ ما يعكره أو يكدر صفوه [22] .
سادساً: الاستقرار السياسي:
يقرر علماء الاجتماع أنَّ الإنسان مدني بطبعه [23] ، وأنَّه يألف بني جنسه، ويعيش معهم في مجتمعات وتكوينات بشرية.
كذلك لابدَّ لتلك المجتمعات والتكوينات البشرية من قائد وموجه لها، وولي أمر يهتم بشأنها وبما يصلحها ويدرأ عنها ما يسوؤها.
وحينما تتنازع المجتمع عِدَّةُ قيادات، فإنَّه بلا شك سوف يحتار ويختل نظامه، وينعدم أمنه، ويتحزَّب أفراده {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [24] .
ولذا أكَّد الإسلام على وجوب الاستقرار والطاعة لولي الأمر كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [25] . والتاريخ مليء بالشواهد والبراهين التي تؤكِّد صحة ذلك.(39/444)
والمجتمع الذي وحَّده الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - كان كغيره من المجتمعات يعج بالفتن والاضطرابات، والانقسامات السياسية التي كانت تكيد لبعضها كيداً عظيماً، وتشن الحروب والغارات على بعضها البعض مِمَّا أسفر عنه انعدام الأمن بين الناس [26] .
ولكن وحينما توحَّد معظم أرجاء جزيرة العرب تحت قيادة سياسية واحدة مستقرة، تحكم بشريعة الله، وتنفذ أحكامه سبحانه بين الناس، وتراعي الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، مع السهر على ما يحقق مصالحهم ويجلب الخير والنفع لهم، ويدرأ الشر عنهم، حينئذٍ أدرك الناس فوائد وثمرات الاستقرار السياسي، وما يمكن أن يحققه لهم من أمن وأمان وطمأنينة في حياتهم ومعيشتهم، فجنوا الخير العميم من وراء ذلك، وازدهرت أحوالهم، وتحسَّنت ظروفهم الاجتماعية، وأَمِنَ الناس على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
سابعاً: توطين البادية وإنشاء الهجر:
تقوم حياة البادية على الولاء القبلي وتحكيم العادات، والتقاليد المتوارثة المتعارف عليها وعدم التهاون فيها، واعتقاد بعضهم جهلاً أنَّ الحياة تقوم على مبدأ القوة، وتنفيذه بوسائل عديدة كالغزو والنهب والسلب، وما إلى ذلك.
هذا ما أدركه الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - عندما كان يعيش بين أبناء القبائل في البادية حينما خرج من الرياض مع والده الإمام عبد الرحمن متوجهين إلى الكويت.
ونظراً لما كانت تمثله حياة البادية آنذاك من عدم استقرار، ومن قوى متحرِّكة لها ثقلها ووزنها، قام الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بمشروعه الكبير بتوطين البادية، وذلك بإنشاء الهجر لهم، وتعويدهم على مفهوم التعاون والتكافل فيما بينهم وترك عادات الغزو والنهب والسلب والفوضى الأمنية والاجتماعية.(39/445)
" وكان عام 1328 هـ - 1910 م هو بداية التفكير بهذا المشروع الهام وذلك عندما استشار الملك عبد العزيز والده الإمام عبد الرحمن، وأركان العائلة السعودية، وبعض العلماء، فلمَّا كان عام 1330 هـ - 1912 م بدأ بوضع برنامج مشروعه موضع التنفيذ " [27] .
وكان لمشروع إنشاء الهجر وتوطين البادية فيها أهداف عديدة: دينية، وسياسية، واجتماعية، وعسكرية [28] .
وقد سلك الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى عِدَّة مسالك، واتخذ مجموعة من الوسائل في سبيل إنجاح برنامجه الطموح بتوطين البادية، كإقامة القبيلة عند مورد للماء، وإنشاء مسجد فيها، وإقامة بعض البيوت وإرسال مرشد وواعظ ديني يعلمهم أحكام الإسلام، وغير ذلك من الوسائل [29] .
وأقام الملك عبد العزيز في حياته ما ينوف عن مائة واثنتين وعشرين هجرة، وكانت أولها هجرة الأرطاوية لقبيلة مطير، وهجرة الغطغط لقبيلة عتيبة [30] .
ولا شك أنَّه كان لذلك المشروع الحيوي الهام أداته ووظيفته في حفظ الأمن بين الناس، وتعميق مفهوم الأمان الاجتماعي وإبراز فوائده بين أبناء القبائل.
ثامناً: نشر العلم الصحيح بين الناس:
لا شكَّ أنَّ للعلم أثره الواضح في الارتقاء بسلوك الإنسان وتهذيبه، وإكسابه معارف وخبرات لم تكن متاحة لديه.
كذلك يمدّ العلم الإنسان بآفاق جديدة في حياته تعرِّفه بوظيفته، وحقوقه، وواجباته، وما ينبغي عليه القيام والالتزام به.
وأُمَّة الإسلام أُمَّة العلم والمعرفة الحقيقية، فمنذ بدء الدعوة الإسلامية والآيات تترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيدة بالعلم وأهله، ومنوِّهة بفضله، ورفعة مكانتهم.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [31] .(39/446)
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [32] .
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كُلِّ مسلم " [33] .
وجزيرة العرب هي منطلق الإسلام والدعوة إليه قد توالت عليها الأحداث حتى خيم عليها الجهل والخرافة في كثيرٍ من مواقعها وأجزائها.
وحينما وحَّد الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى هذه البلاد ورأى ما فيها من جهل، أدرك ببصيرته النفَّاذة أنَّ لكُلِّ داءٍ دواء، ولِكُلِّ عِلَّةٍ ترياق، وأنَّ دواءَ الجهل هو العلم الصحيح، فبدأ بنشره وتعميمه على كافَّة المدن والقرى والهجر.
وكان ابتداء التعليم الحديث بعد ضم الملك عبد العزيز الحجاز وأمره بإنشاء مديرية المعارف في رمضان 1344 هـ[34] .
ومنذ ذلك التاريخ ابتدأ التعليم في الانتشار، فأنشئت المدارس والمعاهد وبعض الكليات الشرعية في مكَّة المكرَّمة والرياض، إضافةً إلى حلق العلم في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف [35] .
وحينما انتشر العلم في أرجاء المملكة عرف الناس، وتربَّت الناشئة على الفهم الصحيح للحياة، وما يجب عليهم تجاه ربهم وأنفسهم ومجتمعهم، فأثمر ذلك عن توطيد للأمن، واستشعار لأهميته وضرورته في الحياة، وقضاء على العادات والتقاليد الجاهلة والسيئة في المجتمع.
تاسعاً: تحسُّن الأحوال المعيشية والاقتصادية:
عانى المجتمع في المملكة العربية السعودية من حالة الفقر والعوز الشديدين؛ وذلك لمحدودية الإنتاج والإمكانات الاقتصادية المتاحة قبل توحيدها، واكتشاف البترول فيها.
ولذا تفشَّت في بعض أفراد المجتمع آنذاك عادات سيئة كثيرة تهدف في مجملها إلى تحصيل المال والأرزاق بأي شكلٍ كان.(39/447)
ولكن عندما توحَّد المجتمع وآثر حياة الألفة والاستقرار والإخاء، فتح الله تعالى عليه أبواب الرزق والخير، فاكتشف البترول في المنطقة الشرقية من المملكة عام 1357 هـ - 1938 م [36] .
وترتب على اكتشاف البترول بداية نهضة اقتصادية وتحولات نوعية في أحوال الناس المعيشية؛ لِمَا صاحب ذلك من توفر للأموال وفرص العمل والوظائف المتعددة.
وكان من المشاريع البترولية العملاقة في عهد الملك عبد العزيز إنشاء خط أنابيب لنقل النفط ومنتجاته من "أبقيق "الواقعة على ساحل الخليج العربي غرب المملكة إلى ميناء الزهراني جنوب صيدا بلبنان، ماراً بالأردن وسوريا، وبلغ طوله 1721 كيلاً من الأمتار.
وتمَّ شحن أول ناقلة نفط منه في صفر عام1370 هـ، وهكذا زاد الدخل السعودي من إنتاج البترول إلى ملا يين الدولارات، وتدرَّج في الزيادة من 4ر10 ملايين دولار أمريكي عام 1366 هـ إلى 2ر212 مليون دولار عام 1372 هـ[37] .
والحقيقة أن تحسُّنَ الاقتصاد والناتج المحلي للبلاد، وظهور بواكير الخير قد أضفى على الإنسان في المملكة العربية السعودية صفات ومفاهيم عديدة، وجعله يتطلَّع إلى الأمن وضرورته في الحفاظ على مكاسبه ومدخراته، وهذا ما زاد من تعميق الشعور بأهمية الأمن بين أفراد المجتمع والنظر إليه كوسيلة، وضرورة من ضرورات الحياة لا غنى لأحد عنها.
عاشراً: وجود الأجهزة الأمنية الحكومية المنظمة:
بعد توحيد الملك عبد العزيز للمملكة العربية السعودية، اهتمَّ بالإصلاحات الداخلية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
ومن جملة ذلك كان اهتمامه - رحمه الله تعالى - بالتنظيم الإداري للأجهزة الأمنية المتعدِّدة الأغراض والمهام في البلاد.(39/448)
وقد بدأ هذا الاهتمام بعد ضم الحجاز عام 1344هـ لاشتماله على شيء من التنظيم الإداري والأمني، فأمر الملك عبد العزيز في ذلك العام بإنشاء مديرية للشرطة في مكَّة المكرَّمة، بالإضافة إلى إنشاء عدد آخر من مديريات الشرطة في مدن المملكة الرئيسة الأخرى، كالمدينة المنورة، والرياض، والطائف.
وفي عام 1349 هـ صدر أمر ملكي بتوحيد إدارات الشرطة في المملكة تحت رئاسة واحدة يكون مقرها مكَّة المكرَّمة، فأنشئت المديرية العامَّة للشرطة، ومقرَّها مكَّة المكرَّمة.
وفي عام 1359 هـ حوِّلَت مديرية الشرطة إلى مديرية عامَّة للأمن حيث أوجدت فيها بعض الأقسام الجديدة كمدرسة الشرطة، والمطافئ، واستقدم لها عدد من الخبراء من الدول العربية، كما أرسل عدد من الشباب السعودي للخارج، للتخصص في شؤون الشرطة، وعلوم الأمن.
وفي عام 1369 هـ صدر نظام جديد للأمن العام تضمَّن واجباته وتشكيلاته الجديدة، ومنها إنشاء إدارة خاصَّة للسجون باسم (إدارة مصلحة السجون) ، وكذلك ضم (إدارة المطافئ) التي أنشئت عام1366هـ إلى مديرية الأمن العام، فأصبحت من أقسامها الجديدة. كما شمل ذلك النظام إنشاء (قسم للمرور) ، كذلك أنشئت مصلحة (خفر السواحل) عام 1344 هـ لمراقبة سواحل المملكة الطويلة على البحر الأحمر، والخليج العربي، والتي تمتد لأكثر من ألف ميل.
وأخيراً أنشئت وزارة الدفاع عام 1365 هـ[38] ، التي تولَّت مهام أمنية عديدة. وبلا شك فإنَّ إنشاء وقيام تلك الأجهزة الأمنية المتعددة في المملكة العربية قد ساهم في دعم الأمن وتوطيده في ربوعها، وبسطه بين أفرادها ومجتمعها.
الفصل الثالث
آثار جهود الملك عبد العزيز الأمنية
في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: آثاره في حفظ مقوِّمات المجتمع.
المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع.(39/449)
المبحث الأول: آثاره في حفظ مقومات المجتمع
لقد كان لجهود الملك عبد العزيز الأمنية آثارها العظيمة والواضحة في حفظ مقومات المجتمع السعودي، والمحافظة عليه، ويمكن لنا أن نوضِّح ذلك في النقاط الرئيسة الهامة التالية:
أولاً: حفظ الدين:
كان مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز له، ولعوامل عديدة يغط في سباتٍ عميقٍ من الجهل، والخرافة، وعدم فهم الدين الفهم الصحيح، والقيام بما يقتضيه من التوحيد الخالص والعبادة الحقَّة، والمعاملات الصحيحة [39] ، ولكن وبعد أنْ مَنَّ الله تعالى بفضله على هذه الجزيرة بعبد العزيز آل سعود، الذي قام بتوحيدها ونشر الأمن والأمان بين أهلها وفي ربوعها، أثمر ذلك عن حفظ ورعاية أهم مقوم للمجتمع، ألا وهو الدين.
ولقد بذل الملك عبد العزيز - يرحمه الله - الجهد الوافر في سبيل الدعوة إلى الدين الصحيح، وكفالة الظروف المعينة على تحقيق ذلك، مع ما لاقاه من عنتٍ ومشقةٍ كبيرين.
يقول رحمه الله واصفاً ذلك: " لقد أوذينا في سبيل الدعوة إلى الله وقوتلنا قتالاً شديداً، ولكنا صبرنا وصمدنا " [40] .
ولم يكن الملك عبد العزيز - يرحمه الله - من الذين يتهاونون في الدين أو يساومون عليه، بل كان حارساً أميناً وخادماً وفياً له، وكان يرى أنَّ مهمته الكبرى تكمن في حفظ الدين نقياً صحيحاً.
يقول رحمه الله في ذلك: " عندي أمران لا أتهاون في شيءٍ منهما، ولا أتوانى في القضاء على مَنْ يحاول النيل منهما، ولو بشعرة:
الأول: كلمة التوحيد (لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله) اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك عليه، إني والله، وبالله، وتالله، أقدِّم دمي، ودم أولادي، وكُلّ آل سعود فداءً لهذه الكلمة، ولا أضن بها.(39/450)
الثاني: هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة، وأعزَّهم به بعد الذلة، وكثَّرهم بعد القِلَّة، فإنِّي كذلك لا أدَّخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه " [41] .
كما كان رحمه الله يوصي العلماء والقضاة والدعاة بالحرص على التمسك بالدين واتِّبَاعَهُ كما هو حاله وشأنه قائلاً لهم: " إنَّ كتاب الله ديننا ومرجعنا، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم دليلنا، وفيها كُلّ ما نحتاجه من خيرٍ ورشاد، ونحن من جانبنا سنحرص إن شاء الله كُلّ الحرص على إقامته واتباعه وتحكيمه في كُلِّ أمرٍ من الأمور " [42] .
وكان من حرص الملك عبد العزيز على حفظ الدين، أنَّه كان يوضِّح للناس في أي مناسبة تتاح له حقيقة العقيدة التي يؤمن بها، والدين الذي ينشره ويدعو إليه. ومن كلامه في ذلك:
" أنا مبشِّر أدعو إلى دين الإسلام، ولنشره بين الأقوام ...
أنا داعية لعقيدة السلف الصالح. وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الخلفاء الأربعة ... " [43] .
والحقيقة إنَّ المتتبِّع لسيرة وحياة الملك عبد العزيز يدرك أنَّه رحمه الله قد قام بحركة إحياء حقيقية لما اندرس من أصول الدين وأحكامه وشرائعه، وسلك في سبيل ذلك عِدَّة مسالك وطرق هامَّة، كتوضيح حقيقة الدين الإسلامي، والعقيدة الصحيحة، وتطبيق أحكام الشريعة، وإظهار العبادات الإسلامية صحيحة نقية خالية من البدع والخرافات، وكذلك بعث الدعاة والعلماء والوعاظ في كُلِّ مكان، ولكن ما كان ليتم للملك عبد العزيز كُلّ ذلك لولا توفيق الله تعالى له، ثُمَّ لِمَا قام به من بسطٍ للأمن، ونشرٍ للطمأنينة والهدوء بين الناس.
ثانياً: حفظ الأنفس:(39/451)
لا شكَّ أنَّ للنفس البشرية حرمتها في ديننا الإسلامي الحنيف، ولقد تضافرت النصوص على تأكيد تلك الحرمة وبيانها، وعدم جواز التعدي عليها إلاَّ بوجهٍ مشروع، وفي حالات محدودة شرعاً وعن طريقٍ مشروع، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [44] .
كما نهى الله تبارك وتعالى الإنسان من الاعتداء على نفسه، أو إيذاء جسده، كما قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [45] .
كما أكد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على حرمة دم المسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: " كُلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " [46] .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أهمية هذا الأمر. وإنَّ المتصفِّح لحال مجتمع الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز آل سعود له يدرك خطورة ما كان عليه المجتمع آنذاك من قتل للأنفس وإزهاق للأرواح دون وجه حق، وسيادة العرف القبلي على المنهج الشرعي.
وتبعاً لذلك فقد استشرت في المجتمع العادات الجاهلية المحرَّمة والفاسدة كالأخذ بالثأر، والقتل غيلة، والغارات على الناس، والحَمِيَّة القبلية، والتعصُّب لها والدعاء بدعواها، والانتصار لها ولو كانت على باطل.
ولكن حينما وحَّد الملك عبد العزيز - رحمه الله - المجتمع وبسط الأمن عليه، اقتلع تلك العادات الذميمة، وزرع مكانها الأُخُوَّةَ الإسلامية، التي تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التعدي على أحد، وتحقيق الشرع وأحكامه بين الناس.
ثالثاً: حفظ الأموال:
يعتبر المال في نظر الاقتصاديين، عصب الحياة، لأنَّ عليه تقوم المبادلات والمنافع بين الناس.(39/452)
والمال في نظر الإسلام هبة من عند الله تعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، وفق حكمته ومشيئته، ثُمَّ لاجتهاد الإنسان واستثماره لوقته وعمله. كما قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [47] .
كما ندب الإسلامُ الناسَ إلى العمل المثمر النافع المشروع، والسعي في مناكب الأرض؛ طلباً للرزق الحلال، وعدم التواكل أو التكاسل. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [48] .
والتشريع الإسلامي قد وضَّح كُلَّ ما يهم المسلم معرفته في المال، من حيث اكتسابه، وإنفاقه، وادخاره، وما يترتب على سيره من حقوق وواجبات.
ومجتمع الجزيرة العربية عاش فترة عصيبة قبل توحيده على يد الملك عبد العزيز في العصور الحاضرة؛ وذلك لِمَا ساد في المجتمع آنذاك من مفاهيم وعادات وتقاليد خاطئة في جمع المال وتحصيله بأي وسيلة كانت [49] .
ولذا لَمْ يأمن الناس على ممتلكاتهم وأموالهم وزروعهم وتجاراتهم، فساد الخوف، وحلَّت البطالة، وقلَّ الانتاج.
ولكن بفضلٍ من الله تعالى، ثُمَّ بجهود الملك عبد العزيز الموفَّقة في توحيد الجزيرة العربية وبسطه الأمن فيها، التفت الناس إلى أعمالهم وتجاراتهم يغدون ويروحون، فعمَّ الخير، وزاد المال، وكثرت في المجتمع الأعمال المفيدة النافعة.
رابعاً: حفظ وحدة المجتمع وتماسكه:(39/453)
عاش مجتمع الجزيرة العربية رَدْحاً من الزمن في حالةٍ يرثى لها من التفكُّك والانقسام والخلاف، وذلك لِمَا أصاب الناس من وهن في عقيدتهم وبعدهم عن التمسُّك بحبل الله المتين، وبصراطه المستقيم، وما شاع بينهم من فرقة وتمزُّق وعصبيَّة قبلية جاهلية، أو التكالب على الرئاسة، والتنازع على فُتَات الحياة الدنيا الفانية، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى عدم استتباب الأمن وشيوع الفوضى العارمة في أرجاء جزيرة العرب مِمَّا أخَّرها قروناً طويلة.
وحينما قَيَّض الله تعالى لهذه البلاد مَنْ يوحدها، ويلم شعثها، ويرأب صدعها، ويحفظ لها وحدتها، ويبسط لها أمنها، انصلح حالها، وتغيَّر وضعها من الجهالة إلى العلم، ومن التمزق إلى الوحدة، ومن الضعف إلى التماسك والقوة.
وحقَّق الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بذلك الوحدة الحقيقية بين أفراد المجتمع، وذلك بعد تقريره للأمن وتشييده لعُرَاه بين الناس.
يقول المانع: " لقد كان من أعظم مشكلات ابن سعود في بناء دولة مستقرة، تلك المشكلة التي واجهت كُلّ زعيم في الصحراء، وهي نزعة رجال القبائل الحادَّة إلى الاستقلال، وحبهم للحرب، وسرعة تغيير ولاءاتهم " [50] .
وأصبح المجتمع اليوم - بحمد الله تعالى - في المملكة العربية السعودية المجتمع الواحد الذي يعطف فيه الكبير على الصغير، والغني على الفقير، وكأنَّهم أخوة يشعر كُلُّ واحد بأخيه، ويهمه حاله، وهذا فضل من الله تعالى وإحسان وتوفيق منه وامتنان، ثُمَّ لِمَا قام به الملك عبد العزيز - رحمه الله - من جهودٍ عظيمة في توحيد هذه البلاد وإرساء قواعد الأمن فيها.
المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع(39/454)
لقد كان من آثار ونتائج جهود الملك عبد العزيز الأمنية تنمية مجتمع المملكة العربية السعودية وازدهاره في مختلف المجالات العلمية والعملية، والاقتصادية، والزراعية، والعمرانية والحضارية، والنهوض بالمجتمع السعودي في جوانب الحياة المختلفة، وتحقيق كُلّ ما من شأنه رفعة المجتمع والسمو به في مدارج التقدُّم والرقي.
ومن الأمثلة على ذلك:
أولاً: التعليم:
حيث نجد أنَّ الملك عبد العزيز قد اهتم به اهتماماً بالغاً، فقد بدأ عهده بالكتاتيب، ولم ينته حتى كان التعليم الجامعي قد ظهر في مكَّة المكرَّمة، والرياض، حيث تمَّ إنشاء كليات للشريعة وللمعلِّمين، وكانت الدراسة والكتب فيه مجَّانية، بل إنَّ الدولة قد خصَّصت رواتب لطلاب بعض المدارس كالمعاهد العلمية، ودار التوحيد، والكلِّيات، وذلك تشجيعاً للطلاب على مواصلة مسيرتهم العلمية. وقد بلغت ميزانية مديرية المعارف آنذاك عشرين مليوناً من الريالات، وكان ذلك في عام 1373 هـ[51] ، وهو مبلغ كبير يدل على اهتمام الملك عبد العزيز البالغ بالعلم وأهله، والسير بالمجتمع في طريقه الصحيح.
ثانياً: وأمَّا في مجال الصحة:
فقد كان المجتمع يعاني كثيراً من الأمراض والأوبئة لعدم وجود الرعاية الطبيّة وعدم توفر العناية الصحية المطلوبة كالمستشفيات والأطباء والأدوية، وذلك لما كانت عليه الحال في الجزيرة من انقسامات ومشكلات عديدة مختلفة، ولكن وبعد أنْ توحَّد المجتمع تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، ابتدأ النهوض، وخاصَّة بعد ضم الملك عبد العزيز للحجاز الذي كان فيه بعض الاهتمام والرعاية الصحية المحدودة.
ولذا نرى الملك عبد العزيز يهتم بالجانب الصحي، ومن ذلك استدعاؤه للطبيب الأمريكي (لويس دامي) الذي جاء إلى نجد سنة 1342هـ وزار بعض مدنها الكبيرة، وعالج كثيراً من المرضى، كما أجرى بعض العمليات الجراحية، وخاصَّة في الرياض، وبريدة، وعنيزة، وشقراء [52] .(39/455)
وفي عام 1344 هـ أنشأ الملك عبد العزيز مصلحة الصحة العامَّة في مكَّة المكرَّمة، وأعقبها بإقامة إدارة للصحة البحرية والمحجرية في جده، واستقدام الأطباء والصيادلة والممرضين وأنشئت المراكز الصحية في طرق الحج بين مكة المكرَّمة والمشاعر، وبين مكة وجده، وبين جده والمدينة المنورة. كما أنشئت مستشفيات أو مستوصفات في كبريات المدن، وقسمت البلاد إلى ست مناطق صحية في مكَّة، وجده، والمدينة، والرياض، والأحساء، وأبها، تتبعها مستشفيات ومستوصفات ومراكز صحية بلغت في أواخر عام 1368هـ 11 مستشفى و 25 مستوصفاً و 34 مركزاً صحياً.
وفي عام 1350 هـ انضمت المملكة إلى المكتب الصحي الدولي. وفي عام 1353 هـ أسست جمعية الإسعاف السعودية، وعندما تأسست منظمة الصحة العالمية عام 1367 هـ كانت المملكة من بين المنتسبين إليها. وكان علاج الناس في المملكة بالمجان، وصرف الدواء بدون مقابل - ولا زال كذلك - ثُمَّ توسَّع نشاط إدارة الصحة العامَّة حتى توج ذلك النشاط بتحويلها إلى وزارة للصحة في أواخر عهد الملك عبد العزيز وذلك سنة 1370 هـ[53] .
ثالثاً: وأمَّا في الجانب الزراعي:
فكان اهتمام الملك عبد العزيز - رحمه الله - كبيراً بهذا الجانب، وذلك لِمَا يمثله من أهمية وتأمين لغذاء وقوت الناس، وخاصَّة بعد استقرار الدولة وبسط الأمن والنظام فيها.
ومن الأمثلة الدالة على اهتمام الملك عبد العزيز بالجانب الزراعي أنَّه أمر معتمديه في العراق، وسوريه، ومصر باختيار عدد من المهندسين الزراعيين ومساعديهم، وإرسالهم للعمل في بعض المناطق الزراعية بالمملكة كالقصيم، والأحساء، والقطيف، والمدينة المنورة، والخرج، وعسير.(39/456)
كما اهتم - رحمه الله - بتأمين الماء للناس على حسب الإمكانيات المتاحة والجهد المستطاع آنذاك، ولهذا نجده يطلب من الثري الأمريكي (كراين) إرسال بعثة للتنقيب عن الماء في الحجاز خاصَّة. وجاءت البعثة برئاسة المهندس الجيولوجي الأمريكي (تويتشل) عام 1349 هـ، وقدَّمت للملك عبد العزيز تقريراً بعد نهاية عملها.
وفي عام 1358 هـ ابتدأت عملية حفر الآبار الارتوازية؛ لتوفير المياه للمزارعين، وكان لها فوائد عظيمة، وقدَّمت الحكومة بأمر من الملك
عبد العزيز إعانة للمزارعين في جلب الماكينات لتلك الآبار، وتقسيط أثمانها عليهم.
وفي عام 1367 هـ أنشئت مديرية الزراعة وتوسَّعت في إقراض المزارعين، وتَمَّ إنشاء المزارع النموذجية بمناطق ومدن المملكة، واستيراد بعض أشجار الفواكه والخضروات وتوزيعها على المزارعين مجَّاناً [54] .
وقد بلغت ميزانية المديرية آنذاك في عام 1369هـ أكثر من 30 مليون ريال، وكانت تتبع لوزارة المالية، ثُمَّ بعد وفاة الملك عبد العزيز عام 1373هـ صار لها وزارة خاصة بها سُمِّيَت وزارة الزراعة، وكان الأمير سلطان بن عبد العزيز أوَّل وزير لها [55] .
رابعاً: وأمَّا في مجال المواصلات:
فقد كان للملك عبد العزيز - رحمه الله - اهتمام واضح بها وذلك لما تمثله المواصلات بأنواعها من حيوية وأهمية في النهوض بأي مجتمع.(39/457)
وكانت طرق المواصلات في أول عهد الملك عبد العزيز هي الطرق البرية التي كانت تسلكها قوافل الإبل التجارية، أو قوافل الحج، ومضى رَدْح كبير من الزمن وهذه الطرق على حالها، وتعتبر شريان الدولة مع ما يصاحبها من متاعب مثل قلة المراكز الحضارية عليها، وطول المدة التي تستغرقها القافلة للسفر، وكذلك انعدام الأمن وكثرة قطاع الطرق في كثيرٍ من أجزائها، وذلك قبل توحيد البلاد على يد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - وكانت وسائل النقل على هذه الطرق هي الإبل، ثُمَّ الخيل، ثُمَّ الحمير في بعض الأحيان للمسافات القصيرة.
وبعد توحيد المملكة وتقرير الأمن وبسطه بين ربوعها وأجزائها، ابتدأ عهد المواصلات الحديثة، وذلك بظهور السيارات في أراضيها وانتشارها بين أيدي الناس، ومن هنا بدأ الملك عبد العزيز بتعبيد الطرق البرية لحاجة الناس إليها، فتمَّ في عهده تعبيد طريق مكة جده وطوله 73 كيلاً، ومكة عرفات منى وطوله 20 كيلاً، والطائف الحوية وطوله 30 كيلاً، وطريق الهفوف عين دار، والبدء في تعبيد طريق مكة الطائف، وطريق جده المدينة، وطريق الرياض الطائف مكة، وطريق الرياض الهفوف الظهران القطيف الجبيل.
كما ظهرت في عهده - يرحمه الله - طرق حديثة قامت بتنفيذها شركة أرامكو، مثل تعبيد طريق الظهران الدمام الخبر بطول 40 كيلاً، وتعبيد طريق يربطها برأس تنورة 80 كيلاً، وتعبيد طرق تربط بين حقول الزيت المختلفة. وكذلك تمهيد طريق جده منجم الذهب، وقد أقامته شركة التعدين السعودية، كما عُبِّدت طرق داخلية في مكة، والمدينة، وجده، والرياض [56] .
كما أنشأ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - سكة حديد تربط بين الرياض والهفوف والدمام، وافتتحت عام 1371 هـ.(39/458)
كذلك اهتم الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بالمواصلات البحرية، حيث قام بإنشاء موانئ على الخليج العربي، والبحر الأحمر، وبدأ في تكوين قوة بحرية سعودية تتكون من بعض السفن الصغيرة لخفر السواحل، ثُمَّ أُنْشِئَت مديرية مصلحة خفر السواحل عام 1350 هـ.
كما ظهرت المواصلات الجوية في عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - ويتمثَّل ذلك بإنشائه لإدارة تعنى بالخطوط السعودية باسم مصلحة الطيران عام 1368 هـ، وتمَّ خلال ذلك شراء بعض الطائرات، وإقامة بعض المطارات في جده، والمدينة، والحوية، والرياض، والظهران [57] .
خامساً: البرق والبريد والهاتف:
وهو ما يطلق عليه أحياناً بالمواصلات السلكية واللاسلكية، وإن وجدت بعض المعارضة من ذوي الأفهام والعقول القاصرة، إلاَّ أنَّه سرعان ما أقنعهم الملك عبد العزيز بطريقته الخاصة وحنكته المعروفة.
وكان البرق (أو التلغراف) يعتبر أول وسيلة مواصلات حديثة تدخل المملكة؛ لقناعة الملك عبد العزيز بأهميتها في ربط البلاد المترامية الأطراف، فاستقدم الآلات اللازمة، وأنشأ المدارس لتعليمها في مناطق ومدن كثيرة كالرياض، ومكة، والمدينة، وجده.
ثُمَّ ظهر البريد في المملكة بعد ضم الحجاز في عام 1344 هـ، وانتشرت مكاتبه ومراكزه في العديد من المناطق حتى بلغت مائة مركز.
أمَّا الهاتف فقد كان موجوداً إبَّان دخول الملك عبد العزيز للحجاز، وقد وجد معارضة كالتي حصلت عند إدخال الخدمة البرقية من ذوي العقول القاصرة، والتي لم تقف أبداً في طريق الملك عبد العزيز الرامي إلى تحضير بلاده، وإلحاقها بركب التقدُّم والرقي الحضاري.
وكان عام 1351 هـ بداية تأسيس للهاتف في الرياض ومكة المكرَّمة، وشهد أول محادثة فيهما بين الملك عبد العزيز في مكة وولي عهده الأمير سعود في الرياض [58] .
سادساً: الدفاع:(39/459)
كان الجيش السعودي في بدايته يتكون من فئات وقبائل متعددة، وينتظم في فرقتين كبيرتين هما: (جيش الجهاد) والذي يتكون من حاضرة نجد وقراها، و (جيش الإخوان) والذي يتكون من رجال القبائل البدوية.
ولكن ومنذ العام 1348 هـ ابتدأ تنظيم الجيش، وأمر الملك عبد العزيز بالاهتمام والعناية به، فظهر ما يُسَمَّى (إدارة الشؤون العسكرية) والتي أنيط بها كل ما يتصل بشؤون الدفاع.
وفي عام 1354 هـ طورت تلك الإدارة إلى (وكالة للدفاع وإدارة الأمور العسكرية) ، وأصبح الجيش على أساس كتائب وأَلْوِية، ووُزِّع على خمس مناطق في المملكة، في الوسط، والشمال الغربي، والشمال الشرقي، والجنوب الغربي، والجنوب الشرقي.
وفي عام 1359 هـ حولت مديرية الأمور العسكرية إلى رئاسة الأركان الحربية، ثُمَّ توجت أخيراً بإنشاء وزارة الدفاع في ربيع الآخر عام 1365هـ، وعين الأمير منصور بن عبد العزيز أول وزير للدفاع فيها، والذي قام بجهد كبير في سبيل الارتقاء بها من حيث التنظيم واستيراد السلاح وإنشاء المدارس العسكرية وإرسال البعثات للخارج، والتدريب. كما أنشأت الوزارة مصنعاً للذخيرة في مدينة الخرج، ومدرسة للطيران بالطائف، كما وضعت نواة كلية الملك عبد العزيز الحربية في الرياض.
وبعد أن تُوفِّىَ الأمير منصور تولَّى الوزارة أخوه الأمير مشعل، ثُمَّ فهد ابن سعود، ثُمَّ محمد بن سعود، وأخيراً الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي تولاها من عام 1381 هـ وإلى الآن [59] .
سابعاً: الاقتصاد والنقد:
عاش مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها، وبسطه الأمن فيها، على الكفاف وضيق ذات اليد، وذلك لفقر موارد المجتمع، ومحدودية الإنتاج، وانشغال الناس في الحروب والمنازعات.(39/460)
ولكن حينما أراد الله تعالى لهذه البلاد الخير والنعمة والفضل، هيأ لها من يضم أجزائها، ويوحِّد كلمتها، ويؤلِّف فيما بينها، فعمَّ بذلك الخير، وفاضت النِّعَم على الناس.
وفي بداية الأمر، وقبل اكتشاف النفط (البترول) كانت الموارد محددة وتعتمد على: الزكاة الشرعية، وبعض الإعانات، والرسوم الجمركية، وغير ذلك مِمَّا يعتبر غير كافٍ للنهوض باقتصاد بلاد مترامية الأطراف كالمملكة العربية السعودية.
كذلك لم يكن للمالية إدارة أو صفة محدَّدة أو تشكيل معلوم، إلى أن بَدأ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بإنشاء إدارة للجباية في كُلِّ بلدٍ مرجعها لأمير البلد نفسه، ثُمَّ رُبِطَت هذه الإدارات في عام 1346 هـ بمديرية المالية العامَّة بمكَّة المكرَّمة، ثُمَّ جرى تحويل هذه المديرية إلى وكالة للمالية عام 1348 هـ. وبعد ذلك تطورت الوكالة، وتحسَّن وضعها الإداري إلى أن أصبحت (وزارة المالية) عام 1351 هـ، وكان الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان أول وزير لها، ويرتبط معه عِدَّة إدارات ومصالح حكومية أخرى قبل تنظيمها، مثل الحج، والزراعة، والأوقاف، والأشغال العامة، والخارجية.
وعندما اكتشفت المعادن في البلاد كالنفط، والذهب، أُنْشِئَت في الوزارة إدارة تُعْنَى بها هي (إدارة المعادن) [60] .
وأمَّا ما يتعلَّق (بالنقد) فلم يكن هنالك عملة موحدة في الجزيرة العربية قبل المملكة العربية السعودية، بل كانت هنالك عملات عديدة، تبعاً لنوعية اختلاف كُلّ إقليم واتجاهه السياسي، وإن كان الغالب على العملات آنئذ (العملة التركية النحاسية، والفضية، والذهبية، وكذلك الدولار النمساوي المسمَّى الريال الفرنساوي) .
وبعد أن أتمَّ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - توحيد المملكة، ابتدأ في الاهتمام بالعملة النقدية وتوحيدها على حسب المراحل والخطوات التالية [61] :(39/461)
1 - العملة النحاسية - أو ما يطلق عليه (التفاريق) : وكانت تستعمل في ذلك عملة تركية، وبعد دخول الملك عبد العزيز الحجاز أمر بسك نقود نحاسية سعودية، وقامت بذلك بلدية مكَّة المكرَّمة، فظهر القرش السعودي، ونصفه، وربعه.
2 - العملة الفضية: حيث كان المستعمل في أكثر أقاليم الجزيرة العربية قبل توحيدها هو الدولار النمساوي (ماريا تريزا) والذي كان يعرف بالريال الفرنساوي. وقد شاع استعمال هذه العملة في أكثر البلاد العربية منذ الحملة الفرنسية الصليبية على مصر عام 1313 هـ، ولكن الملك عبد العزيز أمر بسك ريال سعودي فضي بديلاً عنه عام1347هـ، وكان تقبل الناس له بالتدريج.
3 - العملة الذهبية: كانت تستعمل في كثيرٍ من الأقاليم الجنيه الذهبي الإنجليزي، وكذلك الليرة العثمانية الذهبية، ولكن الملك عبد العزيز أمر بسك جنيه ذهبي سعودي وقيمته الرسمية 40 ريالاً سعودياً.
4 - العملة الورقية: وذلك حينما شاعت الأوراق النقدية في العالم وكثر التداول بها، أمر الملك عبد العزيز بإصدار عملة ورقية سعودية، وكانت أولاً من فئة 10 ريالات، ثُمَّ توالى إصدار الفئات الورقية الأخرى.
وأمَّا ما يتعلَّق بميزانية الدولة فلم تتقرَّر وتتضح إلاَّ عام 1353 هـ ومنذ ذلك التاريخ وهي تمر بمراحل قوة وضعف حسب الواردات والمصروفات والأحداث العالمية إلى أن استقرَّت وتحسَّنت بعد الحرب العالمية الثانية، وتصدير البترول السعودي بكميات تجارية [62] .
ثامناً الإعلام:
لا شكَّ أنَّ للإعلام أهميةً كبرى في أي مجتمع، فهو الذي يعني بتزويد الناس بالحقائق والمعلومات الصادقة الصحيحة، والعمل على خدمة المجتمع وتثقيفه وتبصيره في مختلف المجالات والميادين [63] .
كذلك يسهم الإعلام في تقوية الرابطة الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، وإبطال كُلّ المحاولات الرامية إلى توهين المجتمع، أو إضعافه والنيل منه.(39/462)
أيضاً للإعلام وظيفة هامَّة جدّاً في توضيح العقيدة الإسلامية، وإبراز محاسن الدعوة الإسلامية، وما اشتملت عليه الشريعة من أحكام وتوجيهات نافعة قيمة للإنسان في دنياه وآخرته [64] .
ومن هنا كان للإعلام أهميته عند الملك عبد العزيز - يرحمه الله - حيث أدرك بثاقب نظره الوظائف والأدوار الاجتماعية الهامة التي يمكن أن يقدمها الإعلام في أي مجتمع، وخاصَّة في مجتمع المملكة المتعدد والمترامي الأطراف.
ومن صور اهتمام الملك عبد العزيز بوسائل الإعلام المتاحة في عهده مايلي:
أولاً: الصحافة:
لم تكن الصحافة معروفة في الجزيرة العربية إلاَّ في منطقة الحجاز إبان العهد العثماني أو الهاشمي. ولَمَّا توحَّدت المملكة صدرت أول صحيفة سعودية وهي (أم القرى) وكانت تسمَّى قبل ذلك (بالقبلة) . وصدر أول عدد من صحيفة أم القرى في 15 جمادى الأولى عام 1343 هـ حيث اعتبرت الجريدة الرسمية للمملكة ولا زالت.
وفي 27 ذي القعدة عام 1350 هـ صدرت الصحيفة الثانية في منطقة الحجاز باسم (صوت الحجاز) وتوقَّفت لمدَّة سبعة أعوام بسبب ارتفاع أسعار الورق، ثُمَّ عادت للصدور باسم (البلاد السعودية) .
وفي عام 1356 هـ صدرت الصحيفة الثالثة باسم (المدينة المنورة) وكانت تصدر في المدينة، ثُمَّ انتقلت إلى جده [65] .
أمَّا المجلاَّت، فقد كانت أكثر إصداراً من الصحف، ففي منطقة الحجاز مثلاً، ظهرت مجلة (المنهل) في المدينة المنورة، ثُمَّ انتقلت إلى مكة المكرَّمة، وذلك عام 1355 هـ. كما ظهر في مكَّة المكرَّمة (مجلة الحج) وتصدرها إدارة الحج، وذلك في عام 1366 هـ. ثُمَّ ظهرت في مكَّة المكرَّمة بعض المجلات (كالإصلاح) عام 1347 هـ، و (النداء الإسلامي) عام 1356 هـ. وفي جده ظهرت مجلة (الغرفة التجارية) عام 1367 هـ، ولكن تلك المجلات لم تستمر طويلاً حيث توقفت بعد ذلك.(39/463)
وأمَّا في بلاد نجد فأول ما ظهر فيها من صحف (مجلة اليمامة) وذلك عام 1372هـ، وكانت شهرية.
وأمَّا في المنطقة الشرقية فكان أول إصدار صحفي فيها كان عام 1372هـ، حينما أصدرت شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) مجلة منوعة باسم (قافلة الزيت) [66] .
ثانياً: الإذاعة:
كان أوَّل يوم عرفت فيه المملكة العربية السعودية الإذاعة 9 ذي الحجة 1368 هـ، وذلك حينما افتتحت الإذاعة إرسالها في حج ذلك العام بكلمة من الملك عبد العزيز لحجَّاج بيت الله الحرام، ألقاها نيابةً عنه ابنه الأمير فيصل. وجعل مقر الإذاعة في جده، ثُمَّ أُنْشِئَت في مكة المكرمة عام 1371هـ محطة إذاعية أُخرى.
وقد جعل للإذاعة إدارة ترتبط بوزارة المالية، وقد شمل إرسال الإذاعة آنذاك بعض مناطق المملكة، وبعض الدول المجاورة، وكانت تركز على القرآن الكريم، والتوجيهات الإسلامية، وقراءة نشرات الأخبار [67] .
ثالثاً: طباعة ونشر الكتب والعلوم النافعة:
لقد بلغ اهتمام الملك عبد العزيز - رحمه الله - إفادة الناس وإعلامهم بما يحتاجون إليه مبلغاً عظيماً، ولم تثنه الخطوب العظيمة والأحداث الجسيمة عن هذا العمل الجليل. فقد أمر - يرحمه الله - بطباعة ونشر العديد من الكتب والرسائل العلمية الجامعة النافعة وتوزيعها على طُلاَّب العلم ومَنْ يحتاج إليها مجَّاناً. وكانت تلك الكتب تُطْبَع في خارج المملكة لعدم وجود مطابع جيّدة بالداخل. وقد اشتملت تلك الكتب على أنواع عديدة ككتب تفسير القرآن الكريم، والتوحيد، والفقه وأصوله، والفتاوى، وبعض كتب التاريخ والحديث والوعظ والأدب والشعر، حتى زاد عدد الكتب المطبوعة في عهده عن المائة. فكان لتلك الكتب أثرها العظيم في تعليم الناس وإرشادهم وتثقيفهم، وتزويدهم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وما يهمهم معرفته والعلم به من أحكام دينهم الإسلامي الحنيف [68] .
الخاتمة(39/464)
الحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات، وتزكو به الطيبات النافعات، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه ذوي الجود والمكرمات.
أمَّا بعد..
ففي ختام هذا البحث لا يسعني إلاَّ أنْ أشكُرَ الله تعالى وأحمده بما هو أهل له في الآخرة والأولى، وأسأله سبحانه المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه وتقواه.
ثُمَّ أودّ أن أُسَجِّلَ بعض النتائج والتوصيات التالية:
أولاً: أنَّ للأمن أهمية كبرى في الإسلام، وآثاراً عظيمة في حياة الفرد والمجتمع المسلم، ويستبين ذلك من خلال العديد من النصوص والآثار والتطبيقات الدالَّة عليه، والتي من خلالها يتأكَّد لنا أنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي رعى الأمن وشرعه، وأكَّده، وحضَّ عليه، وجعله لازماً من لوازم الحياة لاغنى لأحد عنه.
ثانياً: أنَّ للمملكة العربية السعودية خصائص وضروراتٍ تجعل من الأمن مطلباً حقيقياً لها، ومن ذلك كونها حامية وراعية للديار المقدسة، قبلة الإسلام والمسلمين، ومقصدهم كل حين ووقت، وكونها أيضاً منطلق الدعوة ومبعث الرسالة إلى الخلق أجمعين.
ثالثاً: كشَفَ البحث عن الجهود العظيمة والمضنية التي قام بها الملك عبد العزيز - يرحمه الله - في سبيل توحيد هذا المجتمع وبسط الأمن في ربوع هذه البلاد، ونشره بين أجزائها المترامية الأطراف.
رابعاً: سَلَك الملك عبد العزيز سبلاً هامَّة، واستخدم وسائل مؤثرة وناجعة في تقريره للأمن بين الناس.
خامساً: كما أثبتَ البحث وأكد أنَّ هنالك نتائج عظيمة، وفوائد قيِّمة نافعة عادت على مجتمع المملكة العربية السعودية من خلال بسط الملك عبد العزيز للأمن، ودعوة الناس للالتزام به.(39/465)
سادساً: وفي مجال التوصيات يوصي الباحث بضرورة الاهتمام بالجانب الأمني في حياة المجتمع بمعناه الواسع، سواء أكان الأمن العقدي، أو الفكري، أو الحسي، أو المعرفي والثقافي، أو الاقتصادي والاجتماعي، أو البيئي، أو المائي والزراعي، وغير ذلك مِمَّا يحتاجه الفرد والمجتمع، وذلك بعقد الندوات وإقامة المحاضرات، واستكتاب الباحثين فيه، وإعلام الناس وإقناعهم بأهمية ذلك، وضرورة مشاركة كل إنسان حسب جهده وطاقته.
سابعاً: يوصي الباحث بتخصيص أسبوع معين في السنة يسمَّى (الأسبوع الأمني) تجدد فيه أهمية الأمن، ويُذَكَّر فيه الناس بما يجب أن يكونوا عليه بعد أنْ مَنَّ الله تعالى عليهم بنعمة الأمن والاستقرار.
ثامناً: يوصي الباحث الجهات الأمنية المعنية وغيرها، كدارة الملك عبد العزيز بتخصيص جائزة سنوية لأفضل بحث مستكتب عن (الأمن في المملكة العربية السعودية) بمعناه الواسع والشامل.
تاسعاً: كما يوصي الباحث تضمين المناهج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة موضوعات عن الأمن وأهميته وفوائده للفرد والأسرة والمجتمع ومخاطر التهاون في ذلك.
وفي الختام أضرع إلى الله تعالى أن يحفظ لنا ديننا الذي فيه عصمة أمرنا، وسعادتنا في دنيانا وأخرانا، كما أسأله تعالى أن يحفظ لنا وحدتنا وأمننا واستقرارنا، وأن يوفق ولاة أمرنا لما يحبه ويرضاه، ولِمَا فيه الخير للإسلام والمسلمين، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية: لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (دار الكتب العلمية، بيروت، 1402 هـ) .(39/466)
2 - أثر قوة الملك عبد العزيز في تكوين المملكة: للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (وذلك ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1406 هـ) .
3 - أساس البلاغة: لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق الأستاذ عبد الرحيم محمود (دار المعرفة، بيروت) .
4 - الاستراتيجية الدولية، وقضايا الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية: للدكتور عبد الله سعود القباع (ط 2، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض 1410هـ) .
5 - الإعلام الإسلامي (الأهداف والوظائف) : د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي (ط 1، دار عالم الكتب، الرياض، 1411هـ) .
6 - الإعلام في ضوء الإسلام: د. عمارة نجيب (ط 1، مكتبة المعارف الرياض، 1400هـ) .
7 - إعلام الموقعين عن رَبِّ العالمين: للإمام ابن قَيِّم الجوزية، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (ط2، دار الفكر، بيروت، 1397هـ) .
8 - الأمن الذي نعيشه: جزءان - لحسن عبد الحي قزاز (ط 1، مطابع شركة دار العلم للطباعة والنشر، جده، 1409 هـ) .
9 - الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام: لمعالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي (ملتزم الطبع والنشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية) .
10 - الأمن القومي: لعبد الكريم نافع (مطبوعات دار الشعب، القاهرة، 1975م) .
11 - الأمن القومي العربي، واستراتيجية تحقيقه: للواء عدلي حسن سعيد (الدار القومية، القاهرة، 1977م) .
12- الأمن القومي والأمن الجماعي الدولي: للدكتور ممدوح شوقي مصطفى كامل (دار النهضة العربية، القاهرة، 1985م) .
13- تاريخ الدولة السعودية: لأمين سعيد (طبع دارة الملك عبد العزيز بالرياض) .
14- تاريخ نجد الحديث: لأمين الريحاني (ط 1، بيروت، بدون) .(39/467)
15- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للإمام الحافظ أبي العُلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (دار الكتب العلمية، بيروت) .
16- التعريف بالمصطلح الشريف: للقاضي ابن فضل الله العُمَري، بتحقيق محمد حسين شمس الدين (ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت 1408 هـ) .
17- تفسير الطبري (المسمى جامع البيان في تأويل القرآن) : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1412هـ) .
18- تفسير القرآن العظيم: للحافظ إسماعيل بن كثير القرشي (دار المعرفة، بيروت، 1402 هـ) .
19- توحيد المملكة العربية السعودية: لمحمد المانع (ط 1، بدون، 1402هـ) .
20- توحيد المملكة العربية السعودية، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي: للدكتور محمد عبد الله السلمان، باعتناء الأمانة العامة لجائزة المدينة المنورة (ط 1، مطابع مؤسسة المدينة للصحافة، جده، 1416هـ) .
21- جزيرة العرب في القرن العشرين: لحافظ وهبة (ط5، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1387 هـ) .
22- حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز: لرابح لطفي جمعة (مطبوعات دارة الملك عبد العزيز - 23 - الرياض، 1402 هـ) .
23- الحِسْبة في الإسلام: لشيخ الإسلام ابن تيمية (دار الكتاب العربي، بدون) .
24- الحياة العلمية والثقافية والفكرية في المملكة العربية السعودية: لعبد الله العثيمين (بحث أُعِدَّ بمناسبة الأسبوع الثقافي السعودي في الجزائر، 1404هـ) .
25- خمسون عاماً في جزيرة العرب: لحافظ وهبة (ط 1، بدون 1380هـ) .
26- دراسة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر: للدكتور محمد عبد الرحمن برج (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1974م) .
27- الدعوة في عهد الملك عبد العزيز: للدكتور محمد ناصر الشثري (ط1، بدون، 1417 هـ) .(39/468)
28- روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام: للشيخ حسين بن غنام (ط1، على نفقة الشيخ عبد المحسن بن عثمان أبابطين، مطبعة الحلبي بمصر، 1368هـ) .
29- سنن ابن ماجه: للحافظ محمد بن يزيد القزوينى، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي (دار الريان للتراث، القاهرة) .
30- سنن أبي داود: للإمام الحافظ أبي سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد (ط 5، دار الحديث، بيروت، 1388 هـ) .
31- سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، بتحقيق وتعليق إبراهيم عطوة عوض (شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه القاهرة) .
32- سنن النسائي (المجتبى) : للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي (ط 1، شركة مصطفى الحلبي وأولاده، القاهرة، 1383هـ) .
33- شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي (ط 5 دار العلم للملايين، بيروت، 1992م) .
34- الصحاح: لإسماعيل بن حمَّاد الجوهري، بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار (ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1404هـ) .
35- صحيح البخاري (المسمَّى الجامع الصحيح المسند من حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) : لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بشرح محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر ومراجعة قصي محب الدين الخطيب (ط 1، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1400 هـ) .
36- صحيح جامع بيان العلم وفضله: للحافظ ابن عبد البر، أعدَّه واختصره: أبو الأشبال الزهيري (ط 1، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1416هـ) .
37- صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) : للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406هـ) .(39/469)
38- صحيح سنن ابن ماجه: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض (ط 1، توزيع المكتب الإسلامي، بيروت، 1409هـ) .
39- صحيح سنن الترمذي: للشيخ محمد ناصر الدين الألبانى، بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض (ط1، المكتب الإسلامي بيروت، 1408هـ) .
40- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري بتحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي (مطبعة دار إحياء الكتب العربية، القاهرة) .
41- صقر الجزيرة: لأحمد عبد الغفور عطار (ط 4، توزيع وزارة الإعلام، 1397 هـ) .
42- ظاهرة الأمن في عهد الملك عبد العزيز: لعبد العزيز الأحيدب (ط 1، بدون) .
43- عبد العزيز آل سعود: سيرة بطل ومولد مملكة: لبنوا ميشان (دار الكاتب العربي، بيروت) .
44- عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي: لمعالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود (ط1، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك ضمن سلسلة إحياء التراث الإسلامي، رقم - 17 - 1408 هـ) .
45- عناية الملك عبد العزيز بنشر الكتب: لعبد العزيز الرفاعي (ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1406 هـ) .
46- عنوان المجد في تاريخ نجد: لعثمان بن عبد الله بن بشر، بتحقيق وتعليق عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (ط 1، بعناية وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية، 1394 هـ) .
47- القاموس المحيط: للفيروزآبادي (دار الفكر، بيروت، 1403هـ) .
48- قلب جزيرة العرب: لفؤاد حمزة (ط 2، مكتبة النصر الحديثة، الرياض 1388 هـ) .
49- لسان العرب المحيط: للعلاَّمة محمد بن مكرم بن منظور، إعداد وتصنيف يوسف خياط (دار لسان العرب، بيروت) .(39/470)
50- لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة العربية السعودية: لعبد العزيز عبد الله آل الشيخ (ط 1، بدون، 1412 هـ) .
51- ماضي الحجاز وحاضره: لحسين نصيف (ط 1، 1349هـ) .
52- مسند الإمام أحمد بن حنبل: (مؤسسة قرطبة، القاهرة) .
53- معجزة فوق الرمال: أحمد عَسَّه (ط 2، المطابع الأهليه اللبنانية، بيروت 1386 هـ) .
54- معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، بتحقيق: عبد السلام محمد هارون (دار الكتب العلمية، إيران) .
55- مقدمة ابن خلدون: (ط 4، نشر دار الباز، بمكة المكرمة، 1398هـ) .
56- موسوعة السياسة: للدكتور عبد الوهاب الكيالي وآخرين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979 م) .
57- نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية: د. محمد عبد الرحمن الشامخ (ط 1، بدون، 1402هـ) .
58- نشأة وتطور الإذاعة في المجتمع السعودي: لبدر أحمد كريِّم (ط 1 دار عكاظ للطباعة والنشر، جده، 1402 هـ) .
59- نظام الحِسْبة في الإسلام: لعبد العزيز بن محمد المرشد (اعتناء ونشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) .
60- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي (ط 4، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م) .
مجلاَّت ودوريات:
61 – شؤون عربية: العدد 35، 1984 م، مقال بعنوان: الأمن القومي العربي دراسة في الأصول: للدكتور على الدين هلال.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة ق، آية 18
[2] سورة المائدة، آية 48
[3] سورة الجاثية، آية 18
[4] سورة المائدة، آية 50
[5] سورة الأحزاب، آية 36
[6] إعلام الموقعين، للإمام ابن قَيِّم الجوزية 3/14
[7] حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 83(39/471)
[8] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/197
[9] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 215
[10] انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/209-213
[11] سورة البقرة، آية 179.
[12] سورة النحل، آية 90.
[13] سورة المائدة، آية 8.
[14] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 215
[15] سورة آل عمران، آية 104
[16] سورة آل عمران، آية 110
[17] صحيح مسلم 1/69 كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم 49، وسنن أبي داود 1/677 كتاب الصلاة، رقم 1140، وسنن الترمذي 4/469 كتاب الفتن، رقم 2172، وسنن النسائي 8/96 كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، وسنن ابن ماجه 1/406 كتاب إقامة الصلاة، رقم 1275
[18] شرح النووي على صحيح مسلم 2/22
[19] الحسبة في الإسلام، للإمام ابن تيمية ص 6
[20] الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن الماوردي ص 240
[21] انظر الكتب التالية: نظام الحسبة في الإسلام، لعبد العزيز المرشد ص 15
والدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/323
[22] انظر: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 96
[23] انظر: مقدمة ابن خلدون ص 41
[24] سورة الروم، آية 32
[25] سورة النساء، آية 59
[26] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 207
[27] معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 61
[28] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 271
[29] انظر: معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 62 - 65
[30] انظر: قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة ص 99
[31] سورة الزمر، آية 9
[32] سورة المجادلة، آية 11(39/472)
[33] سنن ابن ماجه 1/81 المقدمة.
وانظر: صحيح جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر ص 8 وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/727 رقم 3913
[34] انظر: لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة، لعبد العزيز عبد الله آل الشيخ ص 15.
[35] انظر: الحياة العلمية والثقافية والفكرية في المملكة العربية، لعبد الله العثيمين ص10-15.
[36] جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص 137
[37] توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 91
[38] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 253.
وكذلك راجع: ظاهرة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لعبد العزيز الأحيدب ص140 وما بعدها.
[39] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 161
[40] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد ناصر الشثري 1/170
[41] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد ناصر الشثري 1/138
[42] المصدر السابق 1/197
[43] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 216
[44] سورة الإسراء، آية 33
[45] سورة النساء، آية 29
[46] رواه مسلم في صحيحه 4/1986 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم 2564 واللفظ له.
ورواه الترمذي في سننه 4/325 كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، رقم 1927
وابن ماجه في سننه 2/1298 كتاب الفتن، باب حرمة دم المؤمن وماله، رقم 3933
وأحمد في مسنده 2/277
[47] سورة النور، آية 33
[48] سورة الجمعة، آية 9 - 10
[49] انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/48
[50] توحيد المملكة العربية السعودية، لمحمد المانع ص 71(39/473)
[51] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 72
[52] توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 81
[53] انظر: الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 97
[54] انظر: عبد العزيز آل سعود، لبنوا ميشان ص 220
[55] شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1015
[56] انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 75.
[57] المصدر السابق ص 75-77.
[58] انظر: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/415، وتوحيد المملكة، لمحمد المانع ص 276
[59] انظر: الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 201، وتوحيد المملكة د. محمد السلمان ص78
[60] توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 89.
[61] انظر: المصدر السابق ص 93.
[62] الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 205
[63] انظر عن مفاهيم الإعلام، كتاب: الإعلام في ضوء الإسلام، د. عمارة نجيب ص16
[64] انظر أكثر عن وظائف الإعلام في كتاب: الإعلام الإسلامي (الأهداف والوظائف) د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي ص7
[65] نظر: نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الرحمن الشامخ ص100.
[66] نظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1024.
[67] للتوسع في الموضوع انظر: نشأة وتطور الإذاعة في المجتمع السعودي، لبدر أحمد كريم ص 35 وما بعدها.
[68] انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1029، وعناية الملك عبد العزيز بنشر الكتب، لعبد العزيز الرفاعي. ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز.(39/474)
الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام
في عهد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -
الدكتور عبد العزيز محمد نورولي
كلية الدعوة وأصول الدين
قسم التاريخ
مقدّمة
إِنَّ اْلْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَاْلِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اْللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَاْدِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اْللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وبعد:
تحتفل المملكة العربية السعودية في هذا العام بمرور مائة عام على قيام الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبد العزيز - رحمه الله -، ورغبة مني في المشاركة بهذا الاحتفال بما يتناسب مع هذا الحدث العظيم أحببت أن تكون مشاركتي هذه بتسجيل أحد إنجازات مؤسس هذا الكيان العظيم.
ولما كان التاريخ الحضاري هو من الجوانب المهمة التي برزت من خلالها عبقرية الملك عبد العزيز - رحمه الله - أحببت أن أسجل جانبا من جهوده في هذا الجانب الذي لم يقتصر أثره على أهل هذا البلد الكريم بل تعداه ليشمل جميع الشعوب الإسلامية، وذلك من خلال حرصه على الوافدين من تلك الشعوب الإسلامية إلى الحرمين الشريفين لأداء فريضة الحج، فكان موضوع بحثي هذا هو:
" الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد الملك عبد العزيز
آل سعود - رحمه الله - "
وقد قسمت البحث إلى مباحث، فبعد هذه المقدمة يأتي:
التمهيد.
المبحث الأول: وضع العناية الصحية في مكة قبل الحكم السعودي.
المبحث الثاني: اهتمام الملك عبد العزيز بالحج.
المبحث الثالث: التنظيمات الصحية للعناية بالحجاج.
المبحث الرابع: إنشاء المحاجر الصحية.(39/475)
المبحث الخامس: إنشاء المراكز الطبية على طرق الحج والاستفادة من الخبرات الأجنبية.
المبحث السادس: منظمة الصحة العالمية والحج والتعليم الصحي.
والخاتمة بالإضافة إلى فهرس المصادر والمراجع، ومحتويات البحث.
وقد حرصت في هذا البحث على إبراز معظم ماسطرته المصادر حول موضوعي هذا، ولقد كان لقلة المصادر التي تناولت هذا الجانب الهام من جوانب تاريخ المملكة العربية السعودية - وذلك لكون الدولة السعودية ما تزال في تلك الفترة الزمنية في طور الانشاء - أثره في صغر حجم البحث، ومع ذلك فقد ضمّ - والحمد لله - معلومات جيدة في موضوعه.
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أشكر معالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود مدير الجامعة الإسلامية الذي أتاح لي هذه الفرصة بالكتابة حول هذه المناسبة العظيمة، كما أشكر مجلة الجامعة على اختيارها موضوعي كأحد المواضيع المناسبة والصالحة للنشر، وأشكر كل من ساهم في إبراز موضوعي بالشكل المناسب، وأدعو الله للجميع بالتوفيق والسداد.
تمهيد
قال الله تعالى: {وأذّن في النَّاسِ بالحَجِّ يأْتوكَ رجَالاً وعلى كُلِّ ضامرٍ يأْتينَ من كُلِّ فجٍّ عميقٍ ليشهدُوا منافِعَ لهُمْ ويذكروا اسْمَ الله في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهُمْ من بهيمَةِ الأنْعامِ فكُلُوا منها وأطْعِمُوا البآئسَ الفقِيرَ ثُمّ ليقْضُوا تفثهُمْ ولْيُوفوا نُذُورَهُم ولْيطَّوّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ} [سورة الحج آية 27-29] .
أمر الله نبيه إبرهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - بأن ينادي في الناس بالحج إلى بيت الله الحرام [1] ، ومنذ ذلك الوقت، والناس يفدون إلى البيت العتيق للحج.
وقد فرض الحج في الإسلام في العام السادس الهجري، وجاءت الأقوال بأنه أختلف في سنته: فالجمهور على أنه في العام السادس وقيل: في الخامس الهجري [2] وقيل: التاسع الهجري [3] .(39/476)
وحج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر الهجري ودعا الناس لموافاته في الحج فاستجاب له أربعون ألفا [4] .
ومنذ ذلك الوقت والناس يفدون إلى الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، وقام ولاة الأمر منذ ذلك الوقت برعاية الحجيج والاهتمام بشؤونهم، وتفاوت هذا الاهتمام على مرّ السنين والأعوام بحسب طبيعة الدولة التي تقع مكة والمدينة تحت ظلها.
المبحث الأول
وضع العناية الصحية في مكة قبل الحكم السعودي
كانت مكة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري تعاني من ضعف العناية الصحية، ولم يكن التداوي يعرف بين أهلها إلا بالطرق القديمة والعقاقير النباتية البسيطة، وكان أفراد من أهل الهند يمارسون هذه الصناعة بمكة، كما كان نفر من البدو يعالجون الكسور بالتجبير، ويعالجون بعض الأمراض بالكي، ولم يكن في مكة في ذلك الوقت إلا مستشفى واحد تأسس قديما على نفقة إحدى كريمات السلاطين العثمانيين، وكان فيه طبيب واحد، وصيدلي واحد، ومعاون لتضميد الجراحات الخفيفة [5] ، وكانت العناية بالمستشفيات غير كافية لأهل مكة أنفسهم فكيف غيرهم من الحجاج الوافدين على مكة؟
وفي ولاية عثمان نوري باشا [6] في أوائل ذلك القرن تأسست دائرة الصحة في أجياد [7] : مكونة من طبيب، وصيدلي، ومضمد للجراح، ولم تكن هذه الدائرة تستطيع أن تفعل شيئا إذا وقع أي وباء بين الحجيج حيث إنه لم تكن وسائل الاحتياطات والوقاية معروفة في ذلك الوقت - ولله الأمر من قبل ومن بعد - كما حصل في عام 1310هـ حيث اجتاح وباء الكوليرا مكة فمات من جراء ذلك خلق كثير يعدون بالآلاف، بل اضطر آلاف الحجيج أن ينقطعوا عن إتمام المناسك ويغادروا منى في أول أيام النحر، ولم تنفع جهود الدولة العثمانية في التخفيف عن الناس من ذلك الوباء بل زادت معاناتهم، واستمر الحال كما هو في عام 1319هـ حينما اجتاح وباء آخر مكة [8] .(39/477)
وفي عام 1330هـ جلبت الدولة العثمانية عددا من الأطباء للعناية بشؤون الحج، ولم يكن لذلك كبير أثر، كما وسعت إدارة الصحة وافتتح خلفها مكان لتنويم المرضى ومعالجتهم [9] .
وفي عام 1334هـ قام الشريف حسين [10] بتزويد دائرة الصحة بأربعة أطباء من الشام إضافة إلى الطبيب المقيم فيها أصلا، وأضيف إلى مهمات مدير الصحة تحديد عدد الحجاج في الغرف التي يسكنونها، ومعاقبة المطوفين المخالفين للعدد المقرر [11] .
وأحيانا كان للسياسة أثرها في إضعاف العناية الصحية بالحجاج، كما حدث في عام1341هـ حيث أرفقت الحكومة المصرية مع حجاجها المصريين هيئة طبية للعناية بهم، وتبقى هذه الهيئة على نحو دائم في مكة، ولما لم يسبق استئذان الشريف حسين في أمرها أبى أن يسمح لها بالنزول إلى جدة، فما كان من الحكومة المصرية إلا أن أمرت بإرجاع الباخرة بما عليها [12] .
وعموما فإن مكة قبل الحكم السعودي كانت تعاني من ضعف الرعاية الصحية وكان لهذا أثر سلبي حتى على حجاج بيت الله الحرام.
المبحث الثاني
اهتمام الملك عبد العزيز بالحج
دخل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مكة في 8 جمادى الأولى [13] ، ودخل جدة في 8 جمادى الثانية عام 1344هـ الموافق 24 كانون الأول ديسمبر عام 1925م، وتم إقرار مبايعة الملك عبد العزيز ملكا على الحجاز في 25 جمادى الثانية من العام نفسه الموافق 8 كانون الثاني يناير [14] ، وفي 21 جمادى الأولى سنة 1351هـ الموافق 22 سبتمبر سنة 1932م صدر مرسوم ملكي بتوحيد أجزاء الدولة جميعها، فأصبحت مملكة واحدة باسم: المملكة العربية السعودية [15] .(39/478)
أخذت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله - على عاتقها رعاية حجاج بيت الله الحرام، وقد أدت هذه الأمانة بكل أمانة وإخلاص، ومن بين الجوانب التي اهتمت ب-ها للقيام برعاية الحجيج، الجانب الصحي الذي أولته اهتماماً كبيراً جداً، وأنفقت عليه آلاف الملايين من الريالات [16] .
لقد كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - من قبل دخوله الحجاز من أعرف الناس بما يشكوا منه المسلمون كلما أتوا لأداء فريضة الحج، وليس أدل على ذلك من انسحابه بجنده أثناء حصاره لجدة من جبهة القتال أيام الحج [17] ؛ ولذلك اهتم بنفسه منذ دخوله الحجاز في وضع النظام الجديد للحجيج الذي يضمن سلامتهم وأمنهم وطمأنينتهم وأموالهم، واتخذ التدابير اللازمة بما يمنع استغلالهم، واستمر الملك عبد العزيز طوال فترة ملكه حتى وفاته - يرحمه الله - في 2ربيع الأول 1373هـ الموافق 8 تشرين الثاني نوفمبر عام 1953م [18] قائما بكل مسؤولياته الملقاة على عاتقه في جانب رعاية الحجيج على أكمل وجه رغم ضعف الإمكانيات المادية والمعنوية التي كانت تواجهها الدولة في بداية عهدها، لأنه في تلك الفترة لم يكن جهاز الدولة قد شكل بعد، والوضع المالي للبلد لم يكن مسعفا [19] ، ووسائل النقل الآلي لم تنتشر في الحجاز [20] ، والاتصالات اللاسلكية لم تكن معروفة في هذا الجزء من العالم، والاتصالات السلكية الموروثة من العهد العثماني كانت بدائية للغاية، ورغم أن عدد الحجاج قد بلغ - في السنة الأولى التي تولى فيها الملك عبد العزيز ملك الحجاز - زهاء مائة ألف حاج، وكان هذا العدد يعدّ رقما قياسيا في تلك الفترة من التاريخ [21] .(39/479)
ولا يخفى على كل من يهتم بشؤون الحجيج أهمية هذا الجانب، وبخاصة أن عدد الحجيج يتزايد في كل عام [22] ، حتى وصل إلى أكثر من مليون حاج، بل فاق المليوني حاج في بعض الأعوام، يأتون من مختلف بقاع الأرض، كما لا تخفى علينا الصعوبات الجمة التي تواجهها المملكة العربية السعودية في هذا الجانب بالذات.
ولإحساس مؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز - رحمه الله - بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق دولته في هذا الجانب، أمر - رحمه الله - بعد توحيده لمنطقة الحجاز مباشرة بإنشاء "مصلحة الصحة العامة في مكة"وذلك عام 1344هـ[23] ، وكان أول مدير لها الدكتور محمود حمدي (طبيب جلالة الملك الخاص) ، كما صدر أمر ملكي بالتصديق على ميزانية دائرة الصحة العامة، لتقوم بتأسيس مستشفيات ومستوصفات في مكة والمدينة وجدة وينبع والطائف [24] .
لقد كانت هذه المصلحة منذ إنشائها تمثل واجهة حضارية تدل على عمق إدراك الملك عبد العزيز بضرورة الاستفادة من النظم الحضارية المتقدمة في هذا الجانب والجوانب الأخرى، رغم عدم تقبل المجتمع البدوي الذي كانت تعيشه المملكة آنذاك لهذه النظم، فقد قام بتعيين رئيس للمصلحة، ويتبع هذا الرئيس معاون له، ومفتش عام، ورئيس للصيادلة يساعده صيدليان قانونيان، ومساعدو صيادلة، وبضعة موظفين، يضاف إلى هذا ديوان يشتمل على رئيس وسكرتير ومترجم وكتّاب الخ، وترتبط بالإدارة العامة شعب المحاسبة والسجل والإحصاءات والمستودعات [25] .(39/480)
وعلى إثر قيام هذه المصلحة صدر أمر ملكي رقم 425 وتاريخ 21 من ذي القعدة 1344هـ (2 يونيو 1926م) بالموافقة على الترتيبات الصحية لموسم ذلك العام، وقد تضمنت هذه الترتيبات تأسيس مراكز للإسعاف في منى وعرفات ومزدلفة، وتوفير المياه النظيفة، ووضع شروط للمساكن المخصصة للحجاج يراعى فيها ضمان سلامتهم وأمنهم وراحتهم، وحيث إنه لم تتوفر في تلك الفترة البرادات الضخمة التى يمكن من خلالها حفظ الأضاحي، حفرت الحفر من أجل دفن الأضاحي منعاً لتعفنها [26] .
المبحث الثالث
التنظيمات الصحية للعناية بالحجاج
صدر الأمر الملكي في 14 رجب 1345هـ (18 يناير 1927م) بالموافقة على نظام مصلحة الصحة العامة، الذي أوجب على رؤساء وأطباء الصحة مراقبة نظافة البيوت التي يسكنها الحجاج، ومنع الازدحام فيها، وعليهم نقل المصابين بالأمراض المعدية إلى المستشفى لمعالجتهم بما يلزم لهم، والانتباه على نظافة المياه، وإزالة كل ما من شأنه الإضرار بصحة الحجاج والأهالي، كما طالب رئيس أطباء مكة ضرورة تأمين كل الاحتياجات بمنى وعرفات ومزدلفة، وإرسال الأدوية وغيرها إليها قبل الخروج إلى الحج ببضعة أيام، وكلف النظام أطباء الصحة بتفتيش منازل الحجاج يومياً للتحقق من عدد الحجاج في تلك المنازل بالنسبة للمقدار المقرر، ومنع أي مخالفة في ذلك بتكليف الموظفين بضرورة مراعاة التعليمات الخاصة بذلك ورفع تقرير عن ذلك لمرجعهم [27] .
كما تضمن هذا النظام قيام الشرطة الصحية بمنع إسكان الحجاج في المنازل بأكثر مما تستوعبه، ومراقبة نظافة هذه المنازل، ومنع بيع المأكولات والمشروبات الضارة، والمحافظة على نظافة المياه من التلوث، وإرسال المرضى إلى المستشفيات، والإشعار عن الأمراض الوبائية إذا ظهرت، ودفن الأضاحي في منى لمنع التلوث، وعدم السماح للحجاج بالنوم في الطرقات، لما يترتب على ذلك من مشكلات مختلفة منها مايتعلق بالصحة العامة للحجاج [28] .(39/481)
وكانت مسؤولية مصلحة الصحة العامة الإشراف على تنظيم الشؤون الصحية في داخل البلاد، والنظر في المسائل الصحية الدولية، وقد قامت المصلحة بافتتاح فروع لها في مدن المملكة الكبيرة حتى بلغ عدد المناطق الصحية التابعة لها ست مناطق، من بينها مكة والمدينة وجدة، كما طورت المستشفيات والمستوصفات الموجودة من قبل، وافتتحت عدة مستشفيات جديدة: منها مستشفى أجياد في مكة الذي تم توسيعه، ومستشفى باب شريف في جدة، وحوّل مستوصف المدينة إلى مستشفى.
ولقد جندت الدولة أكبر عدد ممكن من المتخصصين والإداريين كل موسم حج، ليقدموا مايستطيعون تقديمه من خدمة صحية لأولئك الحجاج، علاجاً، وإمدادا بالأدوية مجانا [29] ، وقامت بإرسال بعثة طبية إلى منى قبل الخروج إلى عرفات لمراقبة المياه واتخاذ اللازم لعدم تلوثها حرصا على صحة الحجاج [30] .
ومن الترتيبات الخاصة التي أقامتها الدولة بين مكة وعرفات لتوفير العناية الصحية للحجاج، أقامت الدولة مستشفى في منى، ومستشفى سياراً في عرفات، ومستوصفات في كل من: المنحنى [31] ، ومجر الكبش [32] ، والمجزرة [33] ، والأخشبين [34] ، ووادي النار [35] ، وبين الأخشبين، ومزدلفة، وبُرك عرفات، والبازان [36] ، وتقاطع الإسفلت، ومسجد نمرة، وأقيمت في كل مركز صحي مظلة مبنية بالاسمنت لاستراحة الحجاج، ومزودة بالماء [37] ،كما وُفِّر لكل مركز صحي طبيب وعدد كافٍ من الشرطة الصحية، وسائر الموظفين للقيام بالإجراءات الاحتياطية اللازمة، ويقوم كل مركز إلى جانب تقديم الإسعافات الأولية باتخاذ التدابير اللازمة لدفن الموتى بعد فحصهم وتسجيلهم، وإرسال المرضى إلى المستشفيات إذا تعذر علاجهم في المستوصف، كما يقوم موظفوا الصحة بمنى وعرفات بإبلاغ أقرب مركز من هذه المراكز عن أي حادثة يشتبه بأنها مرض وبائي [38] .(39/482)
وتخصيص عرفات بالمستشفى لتسهيل الإقامة للحجيج المرضى الذين تقتضي حالتهم الصحية أن يكونوا تحت الرعاية الصحية، كما تقوم كل المراكز الصحية بإجراء الإسعافات بالإضافة إلى توفير العلاج اللازم للمرضى.
وتقوم سيارات الإسعاف الخيري وسيارات الصحة بنقل الحجاج إلى عرفات يوم التاسع من ذي الحجة ليشهدوا الحج ممن لاتساعدهم حالتهم الصحية من الانتقال بأنفسهم إلى عرفات، فتقوم تلك السيارات بنقلهم وإعادتهم إلى مكة [39] .
ولم تكتف الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - بتلك الجهود رغم ضخامة العمل الذي قامت به، بل أمدَّت حجاج بيت الله الحرام بالنصائح والإرشادات الطبية التي تكفل وقايتهم من الأمراض والتعرض لضربات الشمس المباشرة، كما نصحتهم بضرورة مراجعة المراكز الصحية حال وجود أي مرض [40] .
كما وفرت مراكز صحية في الطرق بين مكة وجدة والمدينة، كمستوصف بحرة [41] ، ومستوصف رابغ [42] ومستوصف المسيجيد [43] .
هذا بالإضافة إلى الوحدات الصحية المتنقلة والتي ترابط في الأماكن والطرق التي يكثر فيها عدد الحجاج أو يمرون منها، لتقدم الإسعافات الأولية العاجلة لكل من يفاجئه المرض وهو يؤدي هذا المنسك العظيم [44] .
المبحث الرابع
إنشاء المحاجر الصحية
إن أحد أهم الجوانب التي تتركز عليها العناية الصحية هو محاربة الأوبئة التي تنتشر بين الحجاج، والتي كثيراً ما تؤدي إلى الفتك بأعداد هائلة من الحجيج قد يصل عددهم إلى الآلاف كما حدث في عام 1246هـ[45] ، وعام 1247هـ[46] .(39/483)
ولما كان قدوم الحجيج من بقاع مختلفة في العالم يكثر في بعضها انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، كان لابد من إنشاء المحاجر الصحية أو ما يسمى بالكورنتينات، وقد أنشأت الحكومة المصرية سنة 1858م أول محجرٍ صحيٍ للحجاج في طريق الحاج بين مصر والبقاع المقدسة، وقد أقيم هذا المحجر في عجرود غربي السويس وذلك إثر انتشار الكوليرا في الحجاز، ثم تلاه محجر آخر في الوجه لحجاج القوافل، وفي الطور أو عيون موسى لحجاج البحر [47] ، أما أول كورنتينة أنشئت في مكة فكانت سنة 1288هـ بمنطقة الزاهر [48] ، عندما انتشر وباء الكوليرا بالمدينة المنورة، ولكن هذه الكورنتينة كانت بصورة مؤقتة [49] .
اهتمت المملكة العربية السعودية بالمحاجر الصحية فأنشأت إدارة خاصة بالمحاجر الصحية مركزها جدة، ويتبعها محاجر متعددة، وأكثر من اثني عشر مركزا صحيا في بلدان ساحل البحر الأحمر وحده [50] ، كما حرصت المملكة على التعاون مع الهيئات العالمية والاستفادة من خبراتها وبخاصة في ميدان الوقاية من الأوبئة [51] .
كما وجه الملك عبد العزيز - رحمه الله - بضرورة العناية بالمحاجر الصحية وإصلاحها إصلاحا كاملا بأسرع وقت ممكن [52] .
وقد قامت إدارة الصحة العامة بمراقبة الطائرات والبواخر قبل السماح لركابها من الحجاج وغيرهم من النزول إلى جدة، وتقوم بفحصهم فحصا طبيا، وتلقيح من لا يحمل وثائق التلقيح الدولية، وفي حالة وجود مصابين بأحد الأمراض المعدية، أو مشتبه في إصابتهم، تنقل جميع الركاب إلى جزيرة "أبي سعد"قرب جدة، والتي أصلحت وجهزت بآلات تقطير وماكينة كهرباء، لتكون مستعدة لقبول الحجاج، ويحجزون في الجزيرة تحت الملاحظة [53] ، وينقل المرضى العاديون إلى المستشفيات لعلاجهم [54] .(39/484)
وقد حرصت الدولة السعودية أن تكون هذه المحاجر وفق المعايير الدولية، لذلك قام الدكتور محمد بك صالح مندوب مصلحة الكرنتينات العامة للحكومة المصرية بزيارة للدولة السعودية في عام 1344هـ قدّم خلالها صورة للاتفاقات الدولية العائدة للكرنتينات، والتقى بجلالة الملك عبد العزيز - رحمه الله -، كما قام بزيارة كرنتينة جدة مع الدكتور محمود حمدي مدير دائرة الصحة العامة، وتشاورا معا فيما يلزم كرنتينة جدة ذلك العام [55] .
ثم عندما أُنشأ المحجر الصحي في جدة طلبت الدولة السعودية من خبراء منظمة الصحة العالمية بوضع مخطط هذا المحجر، ثم تحملت المملكة العربية السعودية تكاليف إنشائه [56] .
المبحث الخامس
إنشاء المراكز الطبية على طرق الحج والاستفادة من الخبرات الأجنبية
أنشأت المملكة العربية السعودية مراكز طبية في الجوف والقريات لمراقبة الواردين من الشمال، وفي قرية للواردين من الشرق، وفي ظهران الجنوب لمراقبة حجاج اليمن، وكذلك في جازان وفقا للأنظمة الصحية المحلية المستمدة من الأنظمة الدولية في هذا الشأن [57] .
ولم تقتصر الجهود المبذولة في ميدان الخدمات الصحية على المنشآت العلاجية، تطويرا وإنشاءً، بل شملت استقدام الأخصائيين والخبراء للعمل في البلاد، وابتعاث الأطباء الموجودين فيها إلى الدول المتقدمة علميا ليطّلعوا على ما هناك من تطور وتقدم، ويعمقوا معارفهم وخبراتهم [58] .(39/485)
وقد أشرنا فيما سبق كيف أن الشريف حسين منع هيئة طبية قادمة من مصر بالنزول إلى جدة، ولكن الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه- حرص أشد الحرص على الاستفادة من الخبرات الأجنبية، لذلك سمح - من حين دخوله مكة وتوحيده للمملكة العربية السعودية - للدول الإسلامية بإرسال بعثات طبية مرافقة لحجاجها للاهتمام بهم وعلاجهم، وكان لهذا أثر في تخفيف الضغط على المستشفيات من جانب [59] ، ومساعدة الحجاج؛ بإيجاد صورة لتفاهم أكبر بينهم وبين المستشفيات السعودية من خلال تلك البعثات من جانب آخر.
وفي 2/9/1370هـ حُوِّلت "مصلحة الصحة العامة"إلى وزارة، وعُيّن الأمير عبد الله الفيصل وزيرا للصحة [60] ، فتقدمت الرعاية الصحية أكثر من قبل، وازدادت المستشفيات والمستوصفات ازديادا ملحوظا، وزودت بمعدات وأجهزة أكثر حداثة وتقدما.
ومن بين المستشفيات التي أنشئت بعد تحول مصلحة الصحة إلى وزارة: مستشفى في مكة، وهو مستشفى الملك عبد العزيز بالزاهر الذي أمر الملك عبد العزيز بإنشائه سنة 1373هـ، ويعدّ أول مستشفى عام بالمملكة تقيمه وزارة الصحة [61] .
كما أعادت وزارة الصحة إعداد مستشفى أجياد العام وتجهيزه بما يتلاءم مع موقعه القريب من المسجد الحرام [62] .
المبحث السادس
منظمة الصحة العالمية والحج والتعليم الصحي
لقد أدلى المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بشهادته قائلا في اجتماع عام عقدته المنظمة: "وإن الخدمات الصحية تمتد الآن إلى كل مكان، وإن منظمة الصحة العالمية لتذكر بصورة خاصة المجهودات الكبيرة التي تبذلها الحكومة السعودية في تأمين راحة الحجاج الذين يفدون إلى المملكة ويتمتعون فيها بأكبر الخدمات وأوفر التسهيلات، حتى أصبحت مواسم الحج مضرب المثل في العالم في النظافة الصحية" [63] .(39/486)
إن منظمة الصحة أقرت رفع الرقابة الصحية الدولية عن الحج بعد أن دامت هذه الرقابة أكثر من مائة سنة بموجب اتفاقات دولية؛ لأن المنشآت الصحية السعودية غدت مؤهلة لحمل هذه المسؤولية كاملة [64] .
أما عن التعليم الصحي، فقد حرصت المملكة العربية السعودية منذ صدور نظام مصلحة الصحة والإسعاف في عام 1345هـ وتشكيل أول مجلس له بالتوصية بإيجاد الكوادر الوطنية الفنية للعمل في الخدمات الصحية [65] .
وقد نصت المادة (44) من نظام مصلحة الصحة العامة والإسعاف "على أن يقوم أطباء الصحة بإعطاء الدروس المقررة لطلاب مدرسة التمريض حسب أمر مدير الصحة [66] ".
وقد ارتبط التعليم الصحي بالحج في بداية الأمر حيث إنه عندما أنشئ مستشفى منى العام في عام 1356هـ، ولوحظ أن عمله يقتصر في فترة الحج أنشئ فيه أول معهد صحي في المملكة العربية السعودية، وقام هذا المعهد بإقامة دورات تأهيلية وبرامج منهجية ومحاضرات تعليمية وتدريب عملي، ومنح خريجوه شهادات الدبلوم في العلوم الصحية [67] .
الخاتمة
بعد هذا العرض الذي قدمناه عن الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد جلالة الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه - يظهر لنا بكل وضوح أن الملك عبد العزيز كان رائدا من رواد هذا المجال، وتميّز - رحمه الله - ببعد النظر.
فالملك عبد العزيز آل سعود لم يقبل بأن تكون رعاية الحجيج الصحية تعتمد على جهود فردية، بل حرص على تنظيم تلك الجهود ووضع الخطط والمعايير التي تُقَوِّمها وترفع من مستواها لتتواكب مع متطلبات هذه الشعيرة العظيمة من جانب، وتساير أحدث ما وصل إليه العلم والعالم من جانب آخر.(39/487)
ورغم أن الملك عبد العزيز لم يقطف كل ثمار تلك الجهود في حياته، فكثيرا من تلك الثمار ظهرت يانعة بعد وفاته - رحمه الله - إلا أنه قد وضع كل أسسها بحيث جاء من بعده من أبنائه الأخيار ليكملوا مسيرته بكل أمانة، ولا نملك اليوم إلا أن ندعو الله بأن يجزل المثوبة لذلك القائد الملهم، ولأبنائه البررة الذين ساروا على دربه، وأن نسطر ونسجل للتاريخ ما قام به مؤسس هذا الكيان العظيم من أعمال جليلة لتقرأها الأجيال التالية وتعرف من خلالها عِظَم هذا الكيان وعِظم رجاله.
المصادر والمراجع
1- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
2- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1400هـ 1980م، مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر.
3- ابن كثير: اختصار علوم الحديث، الطبعة الثالثة، 1399هـ 1979م، دار التراث، القاهرة.
4- ابن كثير: البداية والنهاية، الطبعة الأولى، 1405هـ 1985م، دار الكتب العلمية، بيروت.
5- أحمد السباعي: تأريخ مكة، الطبعة السابعة، 1414هـ، مطبوعات نادي مكة الثقافي.
6- أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1982م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
7- أحمد عسة: معجزة فوق الرمال، الطبعة الثالثة، 1392هـ 1972م، المطابع الأهلية اللبنانية.
8- جيمس موريس: الملوك الهاشميون، المكتب العالمي للتأليف والترجمة، بيروت.
9- حماه الله ولد السالم: مراجعات أولية حول أوضاع الحجاز في الرحلات الحجية الشنقيطية، مجلة الدارة، العدد الرابع - شوال 1417هـ السنة الثانية والعشرون، الرياض.
10- خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، الطبعة الخامسة، 1992م، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.
11- خير الدين الزركلي: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، الطبعة الرابعة، 1984م، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.(39/488)
12- عاتق بن غيث البلادي: معالم مكة التأريخية والأثرية، الطبعة الثانية، 1403هـ - 1983م، دار مكة.
13- عاتق بن غيث البلادي: على طريق الهجرة رحلات في قلب الحجاز، الطبعة الأولى، دار مكة.
14- سيد عبد المجيد بكر: الملامح الجغرافية لدروب الحجيج، الطبعة الأولى، 1401هـ، مكتبة تهامة، جدة.
15- عادل محمد نور غباشي: نقش كتابي يؤرخ لعمارة بازان بمكة المكرمة في عصر الملك عبد العزيز، مجلة الدارة، العدد الأول، السنة الحادية والعشرون، شوال - ذوالقعدة - ذوالحجة 1415هـ.
16- عبد الله الصالح العثيمين: تاريخ المملكة العربية السعودية، الطبعة السادسة، 1416هـ 1995م.
17- فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب، الطبعة الثانية، 1388هـ 1968م، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
18- لطيفة عبد العزيز السلوم: التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، الطبعة الأولى، 1416هـ.
19- محمد عمر رفيع: مكة في القرن الرابع عشر الهجري، الطبعة الأولى، 1401هـ 1981م، نادي مكة الثقافي.
20- محمد محمد حسن شراب: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، الطبعة الأولى، 1411هـ 1991م، دار القلم والدار الشامية، دمشق - بيروت.
21- نهاد الغادري: التحدي الكبير، الطبعة الثانية، 1966م.
22- هاني ماجد فيروزي: الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، مجلة العاصمة المقدسة، الإصدار الخامس 1418هـ، إصدار أمانة العاصمة المقدسة بمكة المكرمة.
23- جريدة أم القرى: السنة الأولى، العدد 63، 27/8/1344هـ، والعدد 65، 12/9/1344هـ، السنة الثانية، العدد 74، 23/11/1344هـ، السنة الثالثة، العدد 113، 8/8/ 1345هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 3/216.(39/489)
[2] ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري: 3/378.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية: 5/99.
[4] ابن كثير، اختصار علوم الحديث عن أبي زرعة الرازي: 157.
[5] مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع: 227.
[6] عثمان نوري باشا التركي تولى ولاية مكة في شعبان سنة 1299هـ من قبل الخلافة العثمانية، وبقي في الولاية حتى سنة 1304هـ. (انظر تاريخ مكة لأحمد السباعي: 549-550) .
[7] جياد هكذا تقوله الناس والأصح أجياد كأنه جمع جواد وكان يطلق على شعبين كبيرين من شعاب مكة، ويلتقي الشعبان عند المسجد الحرام من الجنوب ويدفعان في وادي ابراهيم، وقد أصبحا اليوم مأهولين بأحياء عديدة منها حي جياد وهو المراد هنا وهو الذي يقع قرب المسجد الحرام. (معالم مكة التأريخية والأثرية، لعاتق بن غيث البلادي: 14) .
[8] مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع: 228.
[9] نفسه: 228.
[10] هو الشريف الحسين بن علي تولى إمارة مكة في ذي القعدة سنة 1326هـ، وأعلن الثورة ضد الأتراك سنة 1334هـ وانضم إلى الإنجليز. (انظر: تاريخ مكة لأحمد السباعي: 561-562، الملوك الهاشميون لجميس موريس: 23-35) .
[11] مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع: 229.
[12] المصدر السابق: 229.
[13] تاريخ المملكة العربية السعودية للعثيمين: 2/194.
[14] معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة: 97.
[15] موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي: 7/174، قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة: 393، 394.
[16] انظر معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة: 838، 839.
[17] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، خير الدين الزركلي: 355.
[18] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 4/1437.(39/490)
[19] لم تتعد موارد الدولة السنوية بضعة ملايين من الجنيهات كل عام ولم ترتفع إلى 25 مليونا إلا في عام 1370هـ 1950م. (معجزة فوق الرمال: 136)
[20] منع الشريف حسين استعمال السيارات بالحجاز رغم أنه أصبح معروفا في العالم، بدعوى أنه سيعطل وسائل النقل بالجمال وستتضرر البادية من ذلك، لأن مدار نقل الحجاج كان على جمالهم، ولم يتيسر التنقل بالسيارات لمكة إلا بعد دخول الحجاز في حكم الدولة السعودية عام 1345هـ. (مكة في القرن الرابع عشر الهجري: 117) .
[21] معجزة فوق الرمال: 104-105.
[22] شيه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 4/1337
[23] تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/347.، ولا يخفى على القاريء أنه في تلك الفترة كان معظم الأطباء إن لم يكن كلهم، وكل الممرضات ومساعدي الأطباء والصيادلة من المتعاقدين، حيث إنه لم تفتتح في تلك الفترة كليات الطب التي توفر الأطباء السعوديين وهذا لاشك كان يكلف الدولة أموالا طائلة، ومع ذلك فقد وفرت العلاج المجاني للحجاج. (انظر معجزة فوق الرمال: 836، 837) .
[24] جريدة أم القرى، السنة الأولى العدد 63، 27/8/1344هـ
[25] شيه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 2/402.
[26] التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 159-160.
[27] المصدر السابق: 160-161.
[28] المصدر السابق: 160-161.
[29] تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/348.
[30] التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 161.
[31] المنحنى: هو موضع يقع في منى (انظر معالم مكة التأريخية والأثرية: 30، 252) .(39/491)
[32] مجر الكبش: هو مابين جمرة العقبة الكبرى إلى حي الششة من جهة مكة. (معالم مكة التأريخية والأثرية للبلادي: 319) .
[33] كانت المجزرة تقع في الجانب الغربي من جبل الحجون. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 274) .
[34] يطلق على عدة مواقع والظاهر أن المقصود هنا الجبلان المشرفان على المزدلفة من الشرق. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 21) .
[35] وادي النار أو محسِّر وهو الحد بين منى ومزدلفة. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 248-249) .
[36] يطلق أهل مكة البازان على الموضع الذي يأخذ ماءه من قنوات العيون ومنه يستقي الناس الماء، وهناك موضعين في مكة يطلق عليهما هذا الاسم أحدهما بالمزدلفة والآخر بالصفا، وقد بنى الملك عبد العزيز بازان بمكة في عام 1348هـ قرب المسجد الحرام، وأزيل مع ماأزيل في منطقة مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير. (انظر نقش كتابي يؤرخ لعمارة بازان بمكة المكرمة في عصر الملك عبد العزيز للدكتور عادل محمدنور غباشي، مجلة الدارة، العدد الأول 1415هـ: ص 116-117) ، ويظهر لي أن المقصود بالبازان هنا الأول الذي في المزدلفة، لأن الموضع الآخر يوجد بقربه مستشفى أجياد، والله أعلم.
[37] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/405-406.
[38] التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 161.
[39] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/406.
[40] التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 161.
[41] بحرة قرية بين مكة وجدة وهي في منتصف المسافة بينهما تقريبا، وعلى بعد 36 كيلا من مكة. (على طريق الهجرة لعاتق بن غيث البلادي: 262) .(39/492)
[42] بلدة حجازية ساحلية بين جدة وينبع، على مسافة 155 كيلا شمال جدة، وعلى بعد 195 كي جنوب ينبع. المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد محمد حسن شراب: 123) .
[43] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/406.
والمسيجيد: تبعد ثمانين كيلا عن المدينة في طريق بدر، وكانت تعرف بالمنصرف. (المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد محمد حسن شراب: 274) .
[44] معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة: 842.
[45] تاريخ مكة لأحمد السباعي: 519.
[46] مراجعات أولية حول أوضاع الحجاز في الرحلات الحجّية الشنقيطية لحماه الله ولد السالم (مجلة الدارة، العدد 4 شوال 1417هـ: ص37.
[47] الملامح الجغرافية لدروب الحجيج لسيد عبد المجيد بكر: 215-216.
[48] حي الزاهر يقع شمال مكة ومن أوائل الأحياء التي يقابلها القادم من المدينة المنورة (راجع خريطة مكة المكرمة للمهندس زكي محمد علي فارسي) ، وكان يعرف قديما بوادي فخ (معالم مكة التأريخية والأثرية للبلادي: 13) .
[49] تاريخ مكة لأحمد السباعي: 538.
[50] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404.
[51] تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/349
[52] جريدة أم القرى، العدد 74، السنة الثانية، 23 ذي القعدة 1344هـ، ص 3.
[53] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404.
[54] التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 161.
[55] جريدة أم القرى، السنة الأولى، العدد 65، 12/9/1344هـ.
[56] معجزة فوق الرمال: 841.
[57] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404-405.
[58] تاريخ المملكة العربية السعودية للعثيمين: 2/349.(39/493)
[59] الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي، مجلة العاصمة المقدسة، الإصدار الخامس 1418هـ: 55.
[60] شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، للزركلي: 3/999.
[61] الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي: 55.
[62] نفسه.
[63] معجزة فوق الرمال: 843-844.
[64] المصدر السابق: 841.
[65] الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي: 58-59.
[66] جريدة أم القرى، العدد 113، السنة الثالثة، 8 شعبان 1345هـ ص 4.
[67] الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي: 58-59.(39/494)
الملك عبد العزيز آل سعود
وفقه الدعوة
للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، يعتبر من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي كله، ومن أعظم ملوك المسلمين في العصر الحديث، فقد أقام ملكاً، وأسس دولة، ووحد شعباً في شبه الجزيرة العربية، وإذا كان الملوك والسلاطين والرؤساء يقودون بلادهم، فإن القلة النادرة منهم من يقيم الدول، ويؤسس الممالك، كما فعل الملك عبد العزيز، ولم يكن الأمر هيناً، أو يسيراً أمامه في العصر الحديث بالذات، وفي مواجهة قوىً دولية كبرى، ومذاهب وتيارات شتى في الحكم والسلطان، نشأت وظهرت في هذا العصر، وأثرت في القادة والشعوب، ولكن الملك عبد العزيز استطاع أن يحقق إنجازاته الكبيرة من أجل دينه وأمته وشعبه، بعيداً عن كل المؤثرات التي تبعده عن غاياته، أو تثير لديه الشك في قدرته على تحقيق أهدافه.
لقد كانت المؤثرات والأحداث في القرن الرابع عشر، شديدة الوَقْع والتأثير في كثير من الحكام المسلمين، ملوكاً وقادة، فغيرت من تفكير بعضهم، وزرعت اليأس في قلوب الكثيرين.
ففي هذا القرن كانت الهجمة الكبرى على البلاد الإسلامية في المشرق والمغرب، وهي محنة الاستعمار بما يحمله من خراب للعامر من ديار الإسلام، ومن إفساد للعقول والنفوس بين شعوب الأمة الإسلامية.(39/495)
في هذا القرن كان أمير عربي من آل سعود، يشق طريقه إلى غاياته الكبرى في خدمة دينه وأمته، كان في بداية جهاده حين دخل عاصمة ملكه الرياض سنة 1319هـ، وبدأت مهمته الكبرى، وفاء لشعب الجزيرة العربية، ودفاعاً عن أرض الحرمين الشريفين، وحقها في الوحدة السياسية، وعن حقوق أمته الإسلامية وآمالها، وكان مهيأ لأداء هذه المهمة الكبرى، في شبه الجزيرة، بعد أن ران عليها التخلف الديني والدنيوي عشرات السنين، ولم تقم فيها سلطة سياسية موحدة، فاختلّ الأمن، وتبددت الآمال في عودة أرض الحرمين الشريفين إلى عهدها الزاهر، في نشر الدين، واستقبال المسلمين من الحجيج والمعتمرين، فقد قامت في العصر الحديث دول في المشرق والمغرب العربي، وظلت شبه الجزيرة بعيدة عن التطور السياسي، يتنازع السلطان في قبائلها ومناطقها أمراء يتقاتلون على المغانم.
وفي هذه الأجواء بذل أمراء آل سعود جهدهم في جمع القبائل، والمناطق عوضنا عن التشرذم، والتشتت الذي حرم شبه الجزيرة من سلطة موحدة، تخدم مصالح أهلها، وظهر من آل سعود أمراء كان لهم جهدهم وإسهامهم الكبير في طريق الوحدة السياسية، منهم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود المتوفى سنة (1250هـ - 1834م) الذي دخل الرياض، وأدخل "في طاعته"معظم أنحاء نجد.
وكان قد سبق في هذا الجهد أحد أمراء آل سعود الكبار، وهو سعود الكبير، الذي امتدت بلاده من عُمان إلى اليمن، وإلى قرب دمشق، وقد توفي - رحمه الله - عام (1229هـ - 1814م) بعد جهاد ومعارك حالفه في أكثرها النصر، وهو يقف في مواجهة الدولة العثمانية، ومن يعمل باسمها من الولاة في مصر وغيرها.(39/496)
إن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، سليل الأسرة العربية التي قوي شأنها في نجد، وعملت على توحيد شبه الجزيرة، وقاومت كل من أراد التسلط عليها من غير أهلها، عمل منذ شبابه الباكر على تحقيق الوحدة في شبه الجزيرة، وتزود بتجارب أجداده العظام، فكان مهيأ لتوحيد شعبه، وخدمة أمته الإسلامية، ولقد كتب الكثيرون من العرب والمسلمين، وغيرهم عن عبد العزيز آل سعود، وعن تاريخ حياته ومعاركه التي خاضها من أجل توحيد شبه الجزيرة، وإقامة ملكه، وإحياء الإسلام في ربوع دولته، كتب الكثيرون عن سيف عبد العزيز، وعن انتصاراته، وعن سياساته في مواجهة القوى الدولية الكبرى في عصره، وعن مواجهته لأهل الفرقة، والتشرذم في شبه الجزيرة، حتى أتم الله عليه نصره، فوحد شبه الجزيرة، وأقام ملكه، وأسس دولته على هدي القرآن، وبقوة السلطان.
لم يكن سيف الملك عبد العزيز - رحمه الله - على مضائه إلا آخر أدواته التي يلجأ إليها حين يعرض خصومه عن دعوة الحق أو صوت العقل، أما سلاحه الأعظم في كفاحه من أجل دينه وأمته، فهو كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد خاض الملك عبد العزيز - رحمه الله - أعظم معاركه، ونال انتصاراته بفضل هدي القرآن، قبل أن يكون ذلك بسيف القوة أو السلطان، هذا الجانب من شخصية الملك عبد العزيز، الغني بالميزات، والثري بالمواهب والخصائص، هو الذي نتناوله حينما نتحدث عن الملك وفقه الدعوة.(39/497)
لقد أعاد الملك في القرن الهجري الرابع عشر، سيرة ملوك المسلمين الصالحين وسلاطينهم، فقد كان كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أساس ثقافته منذ بداية حياته، ووجه الأصلان "العظيمان"في الإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية، مقاصده وغاياته، وحكمت الشريعة أعماله وتصرفاته، ولا نجد ملكا أو قائدا لبلد إسلامي في العصر الحديث كله، يقترب من هذه المنزلة العظيمة التي بوّأه الله إياها طيلة حياته، بفضل وقوفه دائما تحت رايته وخضوعه دائما لحكمه.
يبدو الخطاب الديني والدعوي في حديث الإمام الملك عبد العزيز آل سعود العام، والخاص ظاهرا، ويبدو الالتزام بشرع الله في أعماله، وتصرفاته واضحاً، فقد تميز خطابه الديني والدعوي بالصدق والإخلاص لله، كما تميز بفهم دقيق للإسلام، وإدراك كبير لمقاصد الشريعة وأحكامها، فقد كان لديه من فقه الدعوة ما يغيب أحيانا عن بعض الدعاة.
والنظر إلى مجمل خطب الملك، وأحاديثه، ورسائله التي وجهها إلى عامة الناس، أو إلى الخاصة من أبنائه، وأتباعه، وعماله يكشف لنا عن الداعية المسلم الصالح في ثياب ملك، فقد اجتمع له هدي القرآن، وقوة السلطان، وحقق الله له ما أراد من هداية العباد، وتوحيد البلاد، والتمكين في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} . [النور 55] .
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105] .
فقه الدّعوة والدّاعية عند الإمام الملك عبد العزيز(39/498)
بين الله تعالى في كتابه الكريم: أن الغاية من وجود الإنسان، وخلقه، هي إفراد الله تعالى بالعبادة، وإخلاص الوجه، والعمل له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56] .
وأن تلك الغاية الجليلة، هي جوهر الرسالات الإلهيّة، ولب دعوة كل الأنبياء قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء 25] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل 36] .
وجميع الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله - تعالى - إلى البشر، وفي كل الأمم جاهدوا في الله حق جهاده، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وبلغّوا رسالات ربهم، وكانوا هداة معلمين، ولاقوا في سبيل ذلك العناد والكفر والشطط في القول، والتجاوز في الفعل، وغير ذلك، مما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته، حتى إذا كانت رسالة الإسلام الخالدة، ظل الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والأسلاف، ويزكي نفوس القلة التي آمنت معه، ولقي من الأذى، والعنت والظلم ما ورد ذكره في القرآن الكريم، وما تحفل به كتب السيرة، حتى إذا كتب الله له النصر بعد هجرته إلى المدينة النبوية، وقيام دولة الإسلام الأولى، بدأ الإسلام ينشر رايته في داخل شبه الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
كانت المدينة النبوية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هي منارة الدعوة، وحاضرة الدولة، وخلال عشر سنوات، وقبل انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى تأسست الدولة، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية والتقريرية أسس الدعوة إلى الله عز وجل.(39/499)
ومن آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالدعوة، وأهدافها، ومقاصدها وأساليبها، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الحق، وهدايتهم إلى الرشد بالكلمة، والقدوة والأسوة الحسنة، تكوّن فقه الدعوة، وعلى قدر معرفة الداعي إلى الله بالهدي الإلهي، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والبلاغ، يكون نجاحه في مهمته، وشدة تأثيره فيمن حوله.
قد ينجح في الدعوة إلى الله دعاة من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، أو في تعليمها للناس، وإن كان يلزم الداعي إلى الله أن يكون عالما بأركان الإسلام، وفرائضه، وعارفاً بمقاصده، ومتخلقا بأخلاقه بين الناس.
فالدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالقدوة الحسنة تؤتي ثمارها بين المدعوين، أكثر مما يؤتي كثير العلم إذا فاتت الحكمة، أو غابت الموعظة الحسنة، أو القدوة الماثلة أمام الناس.
إن الهدف الأول من الدعوة هو هداية المدعو إلى الحق، ويأتي بعد ذلك تزكية نفسه، حتى يصير في خلقه وسلوكه مسلما مكتمل الإيمان، وقد تضمن القرآن الكريم مع تعدد المقاصد، وتنوع الأساليب، إحاطةً كاملة بمضمون الدعوة إلى الله، إن المضمون يشمل إعداد المسلم على نحو متميز، والترقي به في نفسه، وفي خلقه بحيث تظهر فيه كرامة الإنسان التي منحه الله إياها.
وفي القرآن الكريم توجيه للإنسان إلى قواعد السلوك التي تضمن سعادته في دنياه، وفوزه في الآخرة؛ ولذلك فإن الخطاب الدعوي يجب أن يتضمن كل ما يؤثر في عقل الإنسان وثقافته، وفي نفسه وفي مشاعره، وفي ملكاته جميعاً، باعتباره كياناً واحداً.(39/500)
إن الدعوة إلى الله موجهة إلى الإنسان باعتباره أكرم مخلوقاته، كرمه الله في خلقه، فسواه فعدله، ونفخ فيه من روحه، يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء 70] وسخر الله له ما في السموات والأرض جميعاً.
هذا هو المدعو إلى الله، والداعي مثله، وقد يزيد بعلمه، وبفقهه، وخطابه للناس.
فالداعية إلى الله ليس مجرد معلم يلقي إلى المتعلم بمعارف لا علم له بها، ولا يكفي أن يكون موجهاً إلى السلوك والطريق المستقيم في جانب واحد، أو وقت واحد، بل تمتد رسالة الداعي إلى الله إلى تكوين شخصية المسلم التي يعيش بها طوال حياته، ويتميز بها في عقله، وثقافته، وفي نفسه، وخلقه، وسلوكه عن غيره.
ولا يكفي في الداعي إلى الله، أن يحترف هذا العمل، بحيث لا يجاوزه إلى غيره، كما يحترف المعلم التعليم؛ لأن تأثير الداعي إلى الله في المدعوين، يتوقف إلى حد كبير على ميزاته النفسية، وقدراته الشخصية، بعد استعداده العلمي في علوم الإسلام وأحكامه، ولذلك فإن الدعاة إلى الله، ليسوا طائفة من المعلمين فحسب، وقد يوفق أحد الدعاة بسبب ميزاته النفسية، وقدراته الشخصية، أكثر مما يوفق العالم بأحكام الشرع، أو الفقيه المتمكن في فروع الفقه ومسائله.(40/1)
ولم يكن الإمام الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - من علماء الفقه المتخصصين، ولكنه بعد أن تعلم في صباه فرائض الإسلام، وبعد أن جالس العلماء، وجلسوا معه سنوات طويلة، تكوّن لديه إدراك عميق لجوهر الدين، ومقاصده العليا، بحيث أصبح يتميز عن بعض الدعاة في عصره، بأسلوب فريد في الدعوة إلى الله، ينصرف فيه الاهتمام الأكبر إلى دعوة الناس لتحقيق المقاصد العليا للإسلام، وإلى تعليم الناس جوهر الدين ومبادئه، في العقائد والأخلاق، ولعل ذلك هو الذي هيأ له أن يكون ملكاً، وداعية إلى الله، وأن يكون معلماً، ووليا لأمر المسلمين، ويسر له أن يجمع بين أمانة الناصح، وحزم المُلك والسلطان، وبهذا تميز عن ملوك عصره، فلم يكون في عصر الملك عبد العزيز من الملوك أو الأمراء أو الرؤساء والقادة، من اهتم بالخطاب الديني والدعوي مثل اهتمامه، ولا يوجد لأحدهم من له خطاب ديني ودعوي يمثل جانباً كبيراً من جوانب شخصيته، وقد انصرف جهد كثير من الدعاة في عصر الملك عبد العزيز إلى تعليم الناس أحكام الشرع في العقائد والعبادات والمعاملات، بسبب شيوع الجهل بالكثير من أحكام الشرع ومسائله، فضلا عن أن مسؤولية السلطان، وولي الأمر، أعم وأشمل من مسؤولية الداعية، فالدعوة إلى الله أحد جوانب الإمامة الكبرى في الإسلام، يُسأل عنها الإمام، حتى ولو لم يكن يؤديها بنفسه؛ لأنه مسؤول عن الرعية وما يشغلها في حياتها من أمور دينها ودنياها، كما ورد في الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"متفق عليه.(40/2)
وسنستعرض نماذج من الخطاب الديني والدعوي للملك عبد العزيز - رحمه الله - ونراعي في تلك النماذج أن تكون من أقوال الملك، وخطاباته في مراحل حياته، وأن تكون من أحاديثه وخطابه العام، وأحاديثه وخطابه لخاصته من الأبناء والجنود والأتباع أو الوافدين عليه، كما نراعي في الاختيار الأماكن التي وجه فيها الملك خطابه الديني والدعوي، والمناسبة التي صدر فيها الخطاب، ذلك أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - كان يدعو إلى الله من خلال ولايته لأمور المسلمين، وإمارته عليهم، ومن خلال موقعه الديني، والسياسي، باعتباره ملكاً للملكة العربية السعودية، ونتيجة لذلك كانت دعوته غير محدودة في مكان أو مناسبة دينية، ولا كانت بصفة درس يلقى على الناس، ولكن كان الملك يدعو إلى الله في خطابه العام أو الخاص أيا كان موضوع الخطاب، ومناسبته، وعلى اختلاف المكان، وتنوع فئات المخاطبين، وكان موقعه الديني، وموقعه السياسي، يتيح انتشار خطابه الديني والدعوي في كل مكان من شبه الجزيرة، وخارجها، وإلى كل المسلمين في العالم الإسلامي.
ومن خلال النماذج المختارة من الخطاب الديني والدعوي للملك، نضع أيدينا على الخصائص، والمميزات التي تميز بها هذا الخطاب، والتي تدل على إدراك الملك - رحمه الله - لفقه الدعوة، ومقاصدها، أو بعبارة أدق، لمقاصد الإسلام، واستخدامه الوسائل المناسبة الصحيحة التي يحقق بها هذه المقاصد بين شعبه في المملكة، وبين المسلمين جميعاً.
المقاصد العليا للإسلام
في خطاب الإمام عبد العزيز
أولا: قضية التوحيد:
إن الملك عبد العزيز - رحمه الله - هو سليل الأسرة السعودية التي أقامت حكمها في نجد وسط الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري.(40/3)
وفي عهد الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - (1139 - 1179هـ) بدأت الإمامة في أسرة آل سعود؛ لأن إمارته كانت ذات صبغة دينية ظاهرة، فقد ناصر الإمام محمد بن سعود دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأكرمه حين لجأ إلى الدرعية عام 1158هـ 1745م وأيده، وعاونه على إقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال الشوكاني رحمه الله: "قام محمد بنصر العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد، المنكر على المعتقدين في الأموات، ومازال يجاهد من يخالفه وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور جاهلية، وصار الإسلام فيها غريباً".
ولا يخفى ما قام به آل سعود من جهاد في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا مجال للتفصيل في شأن ذلك، فقد تناوله المؤرخون والعلماء والكاتبون لسيرة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
ولاشك أن الملك عبد العزيز كان يدرك أن دولة آل سعود، قامت بنصرة دعوة التجديد التي ظهرت في عهد جده الأعلى الإمام محمد بن سعود، وأن دولة آل سعود كانت مزاجاً متآلفاً من هدي القرآن وقوة السلطان.
كان الملك يعرف منذ شبابه الباكر، وقبل أن يدخل إلى عاصمة ملكه الرياض عام 1319هـ - 1902م أنه سليل أسرة قامت دولتها، واستقام أمرها على حماية الدين وأهله، والدعوة إليه في بلاد شبه الجزيرة.
وكان أهم ما يميز دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو الدعوة إلى تحقيق التوحيد في شبه الجزيرة العربية، بوصفه جوهر الدين وأصل فرائضه، وشعائره، وقد أدرك ذلك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فتميز خطابه الديني والدعوي بالاهتمام بالمقصد الأول، والهدف الأعظم من الدعوة إلى الله، وهو إخلاص العبادة له عز وجل، ذلك أن عقيدة التوحيد الخالص تأصلت في قلب الملك، فكان شديد المراقبة لنفسه في اتباع التوحيد الخالص من كل شائبة، والدعوة إليه.(40/4)
وكان من عادة الملك أن يتكلم عن التوحيد الخالص في أحاديثه الخاصة والعامة، رغبة منه في أن يشرح للناس حقيقة التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، وكان يحدّث بذلك في المجالس الخاصة في حضور العلماء، وفي المحافل العامة، وفي مواسم الحج أمام الضيوف والوفود.
يقول الملك - رحمه الله - في خطبة له في المأدبة الكبرى التي أقيمت بالقصر الملكي في 7/12/1345هـ:
"المسلم لا يكون إسلامه صحيحا، إلا إذا أخلص العبادة لله وحده، يجب أن يتدبر المسلمون معنى: لا اله إلا الله، فإن لا إله إلا الله نفي لكل معبود سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده، فيجب على الإنسان ألا يشرك مع الله في عبادته نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، ويجب أن يُتبع المسلمون القول بالفعل، أما القول المجرد فلا يفيد، ما الفائدة في رجل يقول: لا إله إلا الله، ولكن يشرك مادون الله في عبادته: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء 48] .
هذا الخطاب الدعوي خير ما يمثل الدعوة إلى التوحيد، وفيه من البيان مع الإيجاز ماينفع العالم والمتعلم، كما أن فيه بياناً لحقيقة التوحيد، وتحذيراً من الشرك أياً كانت مظاهره، وتنبيهاً إلى وجوب العمل بمقتضى التوحيد الخالص، وعدم الاكتفاء بالقول المجرد.
ويقول الملك في نفس الخظاب:
"ومن أعظم الأوامر، توحيد الله - جل وعلا - توحيداً منزهاً عن الشرك، إن الله لم يجعل بينه وبين أحد من خلقه واسطة، فهو يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر 60ٍ] ويقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق16] .
وفي موسم حج 1348هـ أقام الملك مأدبة للحجاج، تحدث فيها إلى الوفود والضيوف، فقال في التوحيد:(40/5)
"من ٍالمسائل التي يجب أن نعمل بها في هذا الشأن، وتعد في طليعة خدمة الدين الحنيف، أن نطهر الإسلام من الأدران والخرافات التي علقت بالدين، وهو بريء منها، وإنما ألصقها فيه أناس يبتغون من وراء ذلك النفع المادي".
وهذا الخطاب عند تحليله، وبيان هدفه، يشير إلى الشرك الظاهر والخفي، إن الملك يدعو إلى تطهير عقيدة التوحيد من الخرافات والأدران التي علقت بالدين، ويبين أن من أحدثوا تلك البدع والخرافات في الدين لم يحدثوها اجتهادا، وإنما أحدثوها للنفع العاجل، دون خوف من العذاب الآجل، وفي ذلك بلا شك لفت النظر وتوجيه الفكر لدى العامة والخاصة، إلى أن الابتداع في الدين، له أسبابه الدنيوية، وليس فيه من خدمة الدين شيء.
وفي خطاب الملك الذي تناول فيه ما سبق أمامه من أقوال لبعض الحاضرين في موسم حج 1349هـ يقول الملك الذي يدعو إلى التوحيد الخالص في كل مناسبة يجتمع فيها الناس، لاسيما في أيام الحج:
"إني والله لا أحب إلا من أحب الله حبا خالصا من الشرك والبدع، وإني والله لا أعمل إلا لأجل ذلك".
ويقول الملك: "إن سبيل رقي المسلمين، هو التوحيد الخالص، والخروج من أسر البدع والضلالات".
دعوة حكيمة لتوحيد الله، عز وجل، ودعوة تفيض بالمودة وبالحب من الداعي للمدعوين، ومؤيدة باليمين حتى تجتمع القلوب على التوحيد الخالص، قلوب الرعية مع قلب ولي الأمر، والإمام الملك، ولاشك أن المدعوين يسرهم أن يبذل لهم الملك الحب ماداموا محبين لله ورسوله، ويبين الداعي أن الحب الخالص هو ما خلا من البدع والشرك، ويبين الملك لرعيته أن سبيل رقيهم، ورقي المسلمين جميعاً هو التوحيد الخالص، ويدعوهم إلى الخروج من أسر البدع والضلالات، وفي حديث الملك بلاغة في التعبير عن أثر البدع والشرك، وأنه مثل أثر السجن، والأسر على عقل المسلم وقلبه.(40/6)
وفي اجتماع حاشد في شهر المحرم من عام 1351هـ يقول الملك في وضوح: "أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد الخالص، والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة، ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي، فذلك من فضل الله".
إذن: هدف حياة الملك هو إعلاء كلمة التوحيد، وفي إعلائها الخير كله له ولرعيته، ويعبر الملك عن فرط حبه وتمسكه بهذا الهدف بأنه لو تحقق على يد أعدائه لما كان لذلك أثر في نفسه، فالهدف الشريف الكبير ينبغي أن يتحقق، وعندئذ لا عبرة بشخص من يحققه، وهو يتمنى أن يكون إعلاء كلمة التوحيد على يده حتى ينعم بفضل الله، وقد كان ذلك - والحمد الله - ويؤتي الله فضله من يشاء.
حتى النصر في ميادين القتال أو النصر السياسي، سببه عند الملك عبد العزيز قوة الإيمان، وقوة التوحيد، وهو يدعو المسلمين، ويبشرهم بالخير كله إذا اتفقوا، وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله، ودعوا إلى التوحيد الخالص.
فمن خطبة للملك تناول فيها حقيقة الدعوة السلفية في شهر ذي القعدة سنة 1351هـ.
يروي الأستاذ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، وهو من علماء الأزهر، في كتابه عن أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها، أنه سمع الملك - رحمه الله - يقول بعد إطفاء فتنة الدويش:
"عندي أمران، لا أتهاون في شيء منهما، ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما بشعرة: الأول كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة، ولا أضن به.
والأمر الثاني: هذا الملك الذي جمع شمل العرب بعد التفرقة".(40/7)
إلى هذا الحد كانت دعوة الملك إلى التوحيد، كان إدراكه - رحمه الله - عميقاً أشد العمق لأثر هذه الكلمة في نفس الإنسان المسلم وقدرتها على توجيه عمله، وضبط سلوكه في الحياة؛ ولذلك لم يكن الملك يلقي درسا نظرياً في العقيدة، ولا يفيض في بيان الأدلة والحجج بقدر ما كان يدعو الإنسان المسلم إلى العمل بمقتضى عقيدة التوحيد، بعد أن يترسخ في نفسه مفهوم التوحيد الصحيح، وليس ذلك غريباً على سليل أسرة آل سعود، التي أيد أميرها محمد ابن سعود - رحمه الله - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد في شبه الجزيرة، ونجد تأثر الملك بهذه الدعوة الإسلامية في كلمته التي ألقاها بمكة المكرمة بمحلة أجياد في 20 من ذي القعدة سنة 1351هـ:
"نحن لسنا أصحاب مذهب جديد وعقيدة جديدة، عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح".
ثم يقول الملك:
"هذه هي العقيدة التي قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، هذه هي عقيدتنا مبنية على توحيد الله - عزّ وجل - خالصة من كل شائبة، منزهة عن كل بدعة".
هذه نماذج من أقوال الملك الدعوية، وخطبه ومواعظه التي تنصب على التوحيد، والدعوة إليه بمفهومه الصحيح، وحث الناس على العمل بمقتضاه.(40/8)
ويتبين من تحليلها وضوح الهدف، وهو الدعوة إلى أول ركن من أركان الإسلام، وهو إقامة التوحيد في القلوب والنفوس، وإظهار أثره في الأعمال، كما يتضح فيها أن الملك - رحمه الله - كان يخاطب المدعوين بما يسهل عليهم فهمه، دون إغراق في الشرح والتفصيل وبيان الحجج والأدلة، فذلك مما يخاطب به الخاصة، أو يناقش فيه العلماء، أما الداعية حين يكون وليا للأمر، وقائماً على إرشاد الناس في دينهم، فإن ما يناسب دعوته، أن تكون موجهة إلى رعيته كلهم، وأن تكون واضحة وخالية من التفصيل، وأن تتوجه مباشرة إلى المطالبة بالعمل بمقتضاها، وليس مجرد العلم، أو الاقتناع بها، فإن فائدة العلم الكبرى هي في العمل به، وهكذا كانت دعوة الملك إلى عقيدة التوحيد.
وثمة أمر يتصل بجهد الإمام الملك عبد العزيز آل سعود في الدعوة إلى التوحيد، وهو أن الملك أمر بطبع ونشر كتب عديدة، تتصل بالتوحيد، الذي هو قوام الدين وجوهره، فقد أمر بطبع العديد من الكتب الدينية على نفقته الخاصة، منها كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والقواعد الأربع في التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومجموعة التوحيد، وهي مجموعة رسائل كبرى طبعت ثلاث مرات، وعددها إحدى وثلاثون رسالة ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ سليمان حفيد الشيخ محمد، وغيرهم.
ويقول عبد الحميد الخطيب في كتابه الإمام العادل في الجزء الثاني منه: "فإخلاص العبادة لله، وتوحيده الخالص، واتباع آثار السلف الصالح، هو ديدن جلالته، والشيء الذي امتاز به".
ويقول: "لقد شغلت هذه العقيدة، وهذا الإيمان لبه، فأصبح قوامه بها، واستناده عليها، ومنشؤه فيها، هي غايته، وهي مناه في غدواته وروحاته، وفي مجالسه وخلواته".
ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(40/9)
يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التكاليف المفروضة على الأمة الإسلامية، وهو واجب كفائي، ينبغي أن تقوم به طائفة من الناس في كل مجتمع إسلامي، حتى تقوم الأمة بهذا الواجب، وتبرأ ذمة الحاكم والمحكوم منه، يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران104] .
وهذا الأصل القرآني هو أفضل ضمان لصلاح المجتمع الإنساني والمجتمع المسلم بالذات، ذلك أن أتباع أحكام الدين والنهج القويم، في حياة المجتمع، يحتاج إلى التذكير به، والعمل من أجل بقائه، حتى لا يضعف الاتباع، أو يظهر الابتداع، دون أن يتنبه له القائمون على أمر المجتمع، فيشيع المنكر، أو تظهر المخالفة، فلا تنكر من الناس، وهذا الأصل القرآني له من الصور والوسائل في إقامته، ما يكفل قيام المجتمع الإسلامي بهذا الواجب، ويضمن أن يستمر الإصلاح والتقويم في المجتمعات الإسلامية، بما يمنع من شيوع المنكر، واختفاء المعروف بفعل الابتعاد عن التذكير والنصيحة من العلماء والأمراء، وبفعل ما يطرأ على المجتمعات الإسلامية من التغيير، نتيجة اختلاط المسلمين بغيرهم، وسهولة الانتقال والاتصال بين البلاد الإسلامية وغيرها.(40/10)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتولاه الأمراء والعلماء، وحتى أفراد الناس لهم نصيب في إقامة هذا الواجب، ولو بمجرد الإنكار القلبي، فالأمراء بما يملكون من ولاية وسلطة يستطيعون الأمر بالمعروف وحمل الناس عليه، والنهي عن المنكر، والإنكار على فاعليه وعقابهم، طبقاً لأحكام الشرع، والعلماء هم أقدر الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتحذير منه، وبيان عقوبة الشرع، والتحذير من التعرض لها من ولاة الأمور، وكل فرد من المسلمين يستطيع تغيير المنكر بيده إذا كان مسؤولاً عن ذلك شرعا، كالأب والزوج، ويستطيع أن ينصح أو يلزم من يكون مسؤولا عنهم، وعن رعايتهم بحكم الشرع، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى فضل علم، فإن مرد ذلك إلى العلماء، وإذا احتاج الأمر في النهي عن المنكر إلى العقوبة، كان مرد ذلك إلى الأمراء، وإلى أولي الأمر.
وهذا الواجب الكفائي بحث العلماء أدلته من القرآن والسنة المطهرة، وتكلموا عن حكمه ومراتب وجوبه، وما يتحلى به القائم به، والأساليب التي تستخدم في إقامة هذا الواجب في المجتمع الإسلامي، وذلك مبسوط في كتب الفقه وأقوال العلماء.
وإذا نظرنا إلى موقف الملك عبد العزيز - رحمه الله - من هذه الفريضة وجدناه قد قام بها على الوجه الذي يرضي الله تعالى، ويتجلى ذلك في أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: حرصه على إقامة الحدود الشرعية، وإنفاذ حكم الله تعالى في عباده، مما كان له عظيم الأثر في اختفاء كثير من المنكرات، ونقصان كثير من المخالفات، كالسرقة، والنهب والسطو، وغير ذلك، فحل الأمن والطمأنينة محل الخوف والوجل، وأمن الناس على أموالهم، وأعراضهم، وقد كان - رحمه الله - أنموذجاً فريداً في إنفاذ حكم الله، ولو على نفسه، أو أقرب المقربين إليه.(40/11)
فقد ادعى شخص أن الإمام عبد الرحمن - رحمه الله - توفي، وعليه في ذمته مبلغ من المال، وطالب الملك عبد العزيز بالوفاء عن والده، وذهب معه بعد صلاة الفجر إلى منزل القاضي سعد بن عتيق، ولما عرف القاضي أن بينهما دعوى، لم يدخلهما منزله، بل أجلسهما على الأرض أمام المنزل، وبعد أن انتهى الحكم لصالح المدعي، انصرف راضياً، وعندها أدخل القاضي الملك عبد العزيز إلى منزله، وقال: أنت الآن ضيفي.
وإن المرء ليقف متحيراً أمام هذا الموقف العظيم، من الملك العظيم، أيعجب من تواضعه والجلوس مع الخصم على الأرض؟ أم يعجب من إنفاذ حكم القاضي، أم يعجب من دقة اختياره رجالاً لا يقدمون على الحق شيئاً ولا يحابون أحداً، ولو كان الملك نفسه، مما يدل على أنهم كانوا يعلمون ذلك من الملك، وأنه لا يقدم على حكم الله شيئاً، وهذا استجابة لقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور51] .
وكان - رحمه الله - يرى أن من أجلّ وجوه المعروف إنفاذ حكم الله، وأن من أسوأ وجوه المنكر الحيلولة دون ذلك.
فقد حكم أحد القضاة على امرأة بالرجوع إلى بيت زوجها، ولكنها هربت إلى منزل أحد الأمراء طلباً للحماية.
ولاشك أن عدم إنفاذ حكم الشرع من أعظم المنكرات التي تجر على المجتمع المسلم من المفاسد، والفوضى مالا يعلمه إلا الله تعالى.
فماذا كان موقف الملك عبد العزيز من ذلك؟
لقد أمر بإنفاذ حكم الله تعالى، وإلا فإنه سيقوم شخصياً بدخول المنزل، وإخراج المرأة، لتنفيذ الحكم.
إنه الأمر بالمعروف في أبهى صوره، وإنه النهي عن المنكر في أبلغ وجوهه.
الثاني: إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(40/12)
لا ريب في أن الملك لا يستطيع القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفرده، لاتساع رقعة الدولة، وامتداد أطرافها، ونظراً إلى أن الملك يدرك تمام الإدراك، أن هذه الوظيفة تمثل صمام الأمان للمجتمع المسلم، وحصنه من تفشي المنكرات، وشيوع الرذائل، فقد أصدر أوامره بإنشاء مراكز حكومية، تكون وظيفتها القيام بهذه المهمة الجليلة.
فأنشأ إدارة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض عام 1336هـ، وتولى رئاستها الشيخ عمر بن حسن رحمه الله عام 1345هـ، ثم أنشأ هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة عام 1344هـ، ثم تتابع تكوين الهيئات في مدن المملكة.
وعندما صدر نظام الهيئة في عام 1347هـ نص على تأسيس مراكز للهيئة في كل من مكة المكرمة، والمدينة النبوية، وجدة، والطائف، وينبع.
وتظهر عناية الملك بهذه الهيئات، وإدراكه لأهميتها، من خلال المهمات التي أوكلها إليها.
فمن ذلك حفظ الآداب العامة، ومنع المجاهرة بالمعاصي، ومحاربة البذاءة، والفحش، والبدع والخرافات، والإلحاد، وحث الناس على الصلاة، ومساعدة رجال الأمن في ضبط الخارجين عن الآداب العامة.
وهذا يدل على فقه واسع لأهداف الدعوة، وإدراك عميق لمقاصد الشريعة، واستيعاب تام للأسباب التي تحفظ على الأمة مصالحها، وتقيها بفضل الله تعالى ما يضعفها، ويحول دون رقيها وتطورها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.(40/13)
أما خطاب الملك الديني والدعوي، فقد اشتمل على جملة من الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد أمر الملك بالإخلاص في العبادة، ودعا إلى محاسن الأخلاق، ووجه خطابه إلى خاصته وعامة الناس، ونصح عماله الذين يتولون المصالح العامة لهم، ودعا إلى العلم والعمل الصالح، وحذر من تقليد غير المسلمين، فدعا إلى المدنية الصحيحة على هدي الإسلام، ونهى عن التباغض والتظالم والعدوان بين الناس، وخوّفهم عقوبة الدنيا والآخرة.
وهكذا اجتمع في خطاب الملك الدعوي، ما يسع العلماء والأمراء في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: حرص الملك على مصلحة المسلمين، واستعماله الحكمة والموعظة الحسنة:
لقد كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - حريصاً على المسلمين، وتحقيق ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، مشفقاً على شعبه أولاً بحكم مسؤوليته عنهم، فاتخذ الحكمة والموعظة الحسنة أسلوباً له.
ففي خطبة للملك - رحمه الله - في مكة المكرمة في شهر ذي القعدة 1345هـ دعا الملك أهل مكة إلى شكر النعم، ونبههم إلى أن نعيم الدنيا زائل، وقد يكون فتنة وابتلاء للإنسان، وأن نعمة الإسلام والإيمان هي النعمة الكبرى الدائمة، وذكر الإمام الداعية الناس من أهل مكة بأن الإنسان وولده وماله، كل ذلك يذهب، ولا يبقى للإنسان سوى العمل الصالح زاداً في الآخرة.
ولا يصدر هذا الخطاب الدعوي إلا من داعية يعرف ما يصلح المدعوين في دينهم ودنياهم، وتبدو في الخطاب الموعظة الحسنة من ملك يحرص على سعادة شعبه في الدارين، كما تبدو الموعظة الحسنة في خطبة أخرى للملك، تعرض فيها لتفسير فاتحة الكتاب، وذكر فيها المسلمين بما ورد في القرآن الكريم من آيات الترغيب في التوبة، وآيات التحذير من عاقبة العصيان، وحذر من الفرقة والتخاذل، ودعا إلى التعاون والتناصح.(40/14)
ولم يقتصر خطاب الملك الدعوي على الخاصة أو العامة، وإنما وجهه لطائفة من الناس بين أيديها مصالح الناس العامة أو الخاصة.
وفي خطبة للملك جمع لها كبار الموظفين في الدولة نصحهم - وهو ولي الأمر العام - بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، وذكرهم بمسؤولياتهم عن مصالح الناس، وأنهم خدم لهم، ولا تصح التفرقة بين الناس في تنفيذ أحكام الشرع أو الأنظمة المعمول بها، ثم طلب من عماله، أن يحافظوا على الصلوات، وأن يجتنبوا المحرمات، وألا يختلطوا بأشرار الناس، ثم وجه إليهم كلمة أخيرة استشرف فيها ما قاله من قبل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق عندما تولى الخلافة، قال الملك لعماله والموظفين الذين يأتمرون بأمره: " إذا عملنا بما أمر الله ورسوله به، فثقوا بنا، وإذا عملنا بما يخالف ذلك - لا سمح الله - فلا تثقوا بنا، والله الهادي إلى الصواب".
وفي تحذير للمسلمين من الانخداع بمظاهر المدنية الغربية البراقة، يقول الملك في إحدى خطبه:
"إذا درسنا حالة الأوربيين وجدنا أنهم يعتصمون بالحديد والنار والكهرباء، وما شاكل ذلك، أما نحن فنعتصم بحبل الله".
ويضرب لهم مثلاً بشخص إنجليزي أغرى أحد بدو العراق بمخالفة أحكام الشرع نظير مال يدفع له، ففعل البدوي ذلك، مما جعل من أغراه يواجهه بالحقيقة المرة، وهي أنه ما غلب الأجانب العرب، والمسلمين إلا بمخالفتهم لكتاب الله، طمعاً في عاجل الأجر من الناس دون خوف من حساب الآخرة.
وينعي الملك - في خطبة له أمام حجاج بيت الله الحرام سنة1349هـ - على بعض المسلمين: أنهم ظنوا أن طريق التقدم هو تقليد الأوربيين، مع أن هذا التقليد لم يكن فيما يعد سببا لتقدم الأوربيين وقوتهم، بل كان للأسف فيما لا يسوغ في الإسلام، ويتساءل الملك عن هؤلاء المقلدين، هل استطاع أحد منهم أن يصنع ما ينتجه الغرب من أدوات وأسلحة؟.(40/15)
لقد كان الملك من دعاة العصر الذين عرفوا أسباب تأخر الأمة الإسلامية، وعلموا بما يجلبه عليهم تقليد الغرب من مصائب في دينهم ودنياهم، ولم يكن الملك غافلاً عن مواطن قوة أعداء الأمة الإسلامية، فنبه إليها، وحذر من الانخداع بالبهارج، والزخارف التي تزينها المدنية الحديثة، ولا تعود على المسلمين بخير.
لقد اتسمت دعوة الملك بالحكمة والوسطية والاعتدال، فلا مانع لديه من أن نستفيد من غير المسلمين العمل الجدي، والاتجاه إلى تحصيل القوة من مصادرها الحقيقية، مع الابتعاد عن التقليد لغير المسلمين فيما يعد مخالفا لشرع الله، عزّ وجل.
لقد كان عصر الملك يموج بتيارات عديدة ثقافية، واجتماعية، غلب كثير منها على بلاد إسلامية عديدة في المشرق والمغرب العربي، مما جعل الدعوة إلى الإسلام عقيدة، ومنهجاً في الحياة، والاحتفاظ بالهوية الإسلامية، والعربية من أهم ما يشغل الملك، واختار لدعوته أنسب المواقف حين يستقبل حجاج بيت الله الحرام ووفود المسلمين؛ لأن المصيبة عامة، والنصح مطلوب للمسلمين جميعاً في كل أنحاء الأرض.
في خطبة للملك في شهر ذي الحجة سنة 1351هـ حمل الملك على دعاة التفرنج، ونعى على المسلمين التخالف والتخاذل، وذكّر وفود المسلمين بأن المصيبة جاءت من تقليد الغربيين في مظاهر حضارتهم، ونبه إلى أن الإسلام بمبادئه في المساواة بين الناس والتناصح، والتعاون، يكفل لنا مصادر القوة، والمنعة، وحذر من تفشي الجهل في الأمم الإسلامية، ومن الميل إلى تغليب الأهواء حتى من الحكام، والزعماء، ودعا إلى الأخذ بمدنية الإسلام، ودستوره، ونظامه، وأمام وفود الحجاج صرح الملك: بأنه لا يطلب خلافة على المسلمين، ولكن يريد جمع كلمة المسلمين، ولا يبغي العلو في الأرض، ولا الرياسة على الناس.(40/16)
إنها كلمات داعية، يعرف ما أفسد على الأمة الإسلامية في عصره مصالحها، وأضاع عزتها وكرامتها، إنه التخالف، والتخاذل، واتباع الأهواء حتى من الحكام، وتقليد غير المسلمين، ولا نظن أن ملكا من ملوك العرب أو رؤسائهم في عصر الملك عبد العزيز، كان يجرؤ على مصارحة المسلمين بهذه الحقيقة المرة، ولكنه - رحمه الله - كان يتكلم كلام داعية يبحث في أسباب ضعف المسلمين، ويواجه الناس بها في تجرد عن الهوى، أو طلب للعلو في الأرض بالملك، أو طلب الخلافة على المسلمين، ولقد كان أسلوب الملك في دعوته خير وسيلة؛ لكي يستقبل الناس حديثه برضاء النفوس، واقتناع العقول، واطمئنان القلوب.
وفي منشور للملك وجهه إلى مواطنيه سنة 1360هـ دعا الناس إلى سؤال العلماء في كل مايريبهم أمره، ودعا إلى عدم مخالفة الله - عز وجل - وإلى شكر النعمة، والتناصح بين الناس، وحذر من ارتكاب كبائر الذنوب، كشرب الخمر، والزنا واللواط، وذكر عقوباتها الشديدة في الشرع.
وكان الملك في مجمل خطبه - لاسيما أمام وفود الحجاج - يذكّر بالله، ويحث على الطاعات، ويبين الحلال، والحرام، ويحذر من الفرقة، واتباع الأهواء، ويضرب الأمثال، ويستشهد بالآيات من كتاب الله، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من مزايا حديثه وخطابه، أنه يتحدث إلى الناس بلغة سهلة، ولا يلجأ إلى التطويل والإطناب، وذكر الأدلة، والبراهين؛ لأنه ما كان يوجه خطابه جدلا أو انتصاراً لرأي معين، بل كان يدعو إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، أبناء شعبه، ووفود المسلمين من حجاج بيت الله الحرام.(40/17)
لا يملك الإنسان المنصف إلا الإعجاب بالملك باعتباره داعية للحق، والإعجاب بأسلوبه الدعوي لغة وموضوعا، ذلك أن خطابه الدعوي في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تناول كل ما يشغل الدعاة في المجتمع المسلم، من الدعوة إلى الإخلاص لله، عز وجل في عبادته، وإلى التخلق بأخلاق الإسلام، والتخلص من الرذائل، والمعاصي، وتذكير المخاطبين بما يصلح شأن الأمة الإسلامية، ويرفع عنها كثيرا من الأغلال، كالتخلف، والضعف، وابتعد أسلوب الملك - لاسيما حين يخاطب وفود الحجاج من البلاد الإسلامية - عن المساس بشعب آخر أو بحكام آخرين، وكان ذلك من الملك تمسكاً بأدب الدعوة والدعاة، مع أن الموضوع الذي يتناوله - وهو موضوع عام وله صبغة سياسية - تناوله بعض الدعاة بما يحرج أو يجرح، أو يتسبب في إيقاع الخلاف والفرقة بين البلاد الإسلامية، مما يزيد من تقدير أسلوب الملك، وهو يدعو إلى الله، ويعلم من موقعه المتميز كثيراً مما يستحق النقد والتجريح في بلاد إسلامية عديدة.
رابعاً: قضية وحدة الأمة الإسلامية:(40/18)
يُجمع الكتّاب العرب والمسلمون وغيرهم ممن تناولوا سيرة الملك عبد العزيز وإنجازاته الكبرى، على أن تحقيق الوحدة بين البلاد العربية، أو بين بلاد العالم الإسلامي، كان من أهم الأهداف التي سعى إليها، وعمل من أجلها طيلة حياته، ولم يكن دخول الملك عبد العزيز الرياض - عاصمة آبائه وأجداده - هو نهاية المطاف، بل كان البداية لتحقيق رغبته في توحيد شبه الجزيرة، فلم يكن يغيب عن حسه الديني أن شبه الجزيرة سبق أن توحدت سياسياً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وأن مكة المكرمة، والمدينة النبوية - في صدر الإسلام - كانتا ثمثلان حاضرة الإسلام الدينية، لم تكن قضية الوحدة غائبة، ولا كانت خافية إلا على بعض الأمراء الذين استولوا على بعض أطراف شبه الجزيرة، وكذلك على القوى الأجنبية عن المنطقة، والتي تريد استغلال تفرقها وانقسامها السياسي.
أما الملك عبد العزيز، ومنذ بداية كفاحه العسكري، والسياسي، فقد كانت وحدة شبه الجزيرة مقصده الأول، وكانت وحدة البلاد الإسلامية - والعربية بالذات - ضمن اهتماماته الكبيرة طيلة حياته.(40/19)
لذلك لم يكن غريبا أن تظهر قضية وحدة الأمة الإسلامية في خطاب الملك الدعوي ظهورا بيّناً، كما أن تحقيق هذه الوحدة كان من أهم مقاصد الملك الدينية، والسياسية، والخطاب الدعوي للملك في شأن قضية الوحدة - وحدة الأمة الإسلامية - يتميز عن خطاب الدعاة في عصره بشأن القضية نفسها، فالملك لم يكن يلقي دروساً في قضية دينية بمنأى عن الواقع، بل كان ولياً لأمر المسلمين في بلاده؛ ولذلك لم يكن همه أن يؤيد خطابه الديني والدعوي بالحجج العلمية أو النقول، وإنما كان يدخل مباشرة - كما نرى في تحليل خطابه - إلى السند القرآني أو الحديث الشريف، وكان يذكّر المسلمين بما يترتب على وحدة الأمة من خير للمسلمين جميعاً، وما يسببه التشرذم والانقسام من ضرر يعود على مجموع الأمة يبدد قواها، وتضمن خطاب الملك الدعوي تنبيهاً للأمة بما يحيط بها من مخاطر، إن هي أعرضت عن تحقيق الوحدة، ورضيت لنفسها التشتت والتفرق، والانقسام، ولاشك أنه كان في موقعه أدرى الناس بخطر التفرق بين المسلمين في عصره.(40/20)
سنذكر من خطاب الملك الديني، والدعوي في قضية وحدة الأمة، ما يشهد بتفرد الملك بين ملوك عصره، ورؤساء الدول الإسلامية في نظرته إلى وحدة الأمة الإسلامية، فقد كانت نظرة دينية وسياسية متكاملة، وهي في الوقت نفسه تخلو من التعصب لقومية معينة، ولا تعتز بالعروبة - باعتبارها جنساً - بقدر ما يعتز بها بوصفها قيما وأعرافا مستقرة، تتفق مع أصول الإسلام، وأخلاقه، وهذه النظرة تختلف في أساسها العقلي، عما ساد في عصر الملك من النزوع إلى الاتجاه القومي، بعيداً عن التأسيس الديني لقضية الوحدة، لقد كان الملك دون شك أعظم دعاة الوحدة في عصره، الوحدة بمعناها الديني، والسياسي، وليس الوحدة التي مبناها الجنس أو المصالح المؤقتة وحدها. وهي الوحدة الكاملة الشاملة، التي تشمل وحدة الصف، ووحدة القلوب، ووحدة الثقافة، والعمل من أجل رفع راية التوحيد، وخدمة الأمة الإسلامية.
يقول الملك عبد العزيز في خطبة له في 7/12/1353هـ أثناء موسم الحج:
"إن الله تعالى جعل اجتماع المسلمين في الحج الذي هو ركن الإسلام من جهة، وللتعارف والتآلف من جهة ثانية، وقد هدانا الله تعالى إلى الصراط السوي في أمور الدنيا، والآخرة، فقال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران103] .
ويقول الملك في نفس الخطاب:
"إن أحب الأمور إلينا أن يجمع الله كلمة المسلمين، فيؤلف بين قلوبهم، ثم بعد ذلك يجمع كلمة العرب، فيوحد غاياتهم ومقاصدهم؛ ليسيروا في طريق واحد، يوردهم موارد الخير، وإذ نحن أردنا ذلك فلسنا نروم إتمامه في ساعة واحدة، لأن ذلك إنما يكون مطلبا مستحيلاً، كما أننا لانرمي من وراء ذلك إلى التحكم في الناس".
إن الخطاب الدعوي للملك في شأن وحدة الأمة الإسلامية، ظاهر في كلمات الملك تمام الظهور.(40/21)
فهو يرمي إلى وحدة الأمة الإسلامية عن طريق تأليف القلوب، ثم وحدة الشعوب بتوحيد مقاصدهم، وغاياتهم.
والملك يعلم أن وحدة الشعوب، ووحدة الأمة، ليست مطلباً يسيراً أو شعاراً يلقى دون عمل وجهد في التحقيق، فالملك يعلم أن الأمر يحتاج إلى إعداد واستعداد، فصرح في خطابه: بأن تلك الوحدة مطلب عزيز، ولا يجوز أن تطلب في ساعة واحدة، وإلا كان ذلك مستحيلاً.
وينبّه الملك سامعيه: إلى أن الوحدة تورد البلاد العربية، والإسلامية موارد الخير.
ويضيف الملك في ذلك الخطاب:
"أكثر الناس يقولون: إن الأجانب هم الذين ضربونا في الصميم، ففرقوا بيننا".
وينكر الملك ذلك، مبيناً أن الضرر والخسران لم يأت إلا من أنفسنا، فنحن المسؤولون عن ذلك، نحن نسعى للتفرقة، ونحن نعمل للبغضاء.
إن الملك كما يتضح من خطابه يدعو المسلمين، والعرب إلى الوحدة، وحدة القلوب، ووحدة المقاصد والغايات، وليست وحدة الأشكال، والمظاهر، وهو ينبه إلى أهمية الوحدة، بل ويصرح بأن المسلمين، والعرب هم أول المسؤولين عن عدم تحققها.
ويقول الملك في خطاب له أثناء المأدبة الملكية التي أقامها لحجاج عام 1362هـ - 1943م: "نحمد الله على أن المسلمين نشأت فيهم روح طيبة، وهي روح تبشر بزيادة الخير بين المسلمين؛ لأنه ما بينهم تخالف، ولا تنافر، ولا تخاذل".
في ذلك الوقت (1362هـ/1943م) كانت دعوة الوحدة العربية، هي نداء الشعوب العربية، وقد قرنها الملك الداعية بوحدة المسلمين، وجعلها وحدة قلوب، ومقاصد وغايات، ولم يحولها إلى وحدة أشكال ومظاهر.
ويقول الملك في كلمة تعد دستوراً لكل من يتطلع إلى وحدة العرب والمسلمين:
"رسالة الوحدة العربية، هي رعاية لمصالح كل مسلم، وكل عربي، ولكن رأيي الذي أدين الله به: أنه لا يتم شيء في الدنيا إلا بالعمل الصالح".(40/22)
إن الملك الداعية هنا ينبه إلى حقيقة: أن الوحدة - وهي مطلب ديني وقومي – لا تكون إلا بالوسيلة المشروعة، وبالعمل الصالح.
ويقول الملك - رحمه الله - في خطاب له في السادس من شهر ذي الحجة عام 1364هـ:
"إن كل كلام لا يتبعه فعل فهو باطل، وإنه لا صلاح للمسلمين إلا باتحادهم واتفاق الكلمة على توحيد ربهم، وإن كل خلاف يجر إلى فرقة وانقسام، والدين يأمرنا بالتمسك بشريعة الله".
ليس غريبا أن يتناول الملك عبد العزيز في خطابه الدعوي قضية وحدة الأمة الإسلامية، فهي من الدعوة، حين تكون شاملة لمقاصد الإسلام العليا إلى جانب أحكامه في الشريعة، ولقد أراد الملك - رحمه الله - أن يرسخ لدى جمهور الناس قضية توحيد الأمة، ودعوة الملك في ذلك تتميز عن دعوة العلماء والدعاة؛ لأنه ولي الأمر، ولأنه هو المسؤول عن تحقيق ما أراده الله لهذه الأمة من وحدة وأخوة.
إن حياة الملك تمثل عملا دائبا من أجل الوحدة العربية، والإسلامية، فقد وحد غالب شبه جزيرة العرب، وقضى على ما فيها من تشتت، وتشرذم أوهن قوتها عشرات السنين، وهكذا تطابق قول الملك مع فعله، وتمثلت دعوته وخطابه الديني في أعماله وتصرفاته، وهذا ولاشك من فقه الدعوة؛ لأن القدوة والمثال أمام الناس أبلغ وأوضح من الكلمات، والشعارات، لاسيما إذا أدركنا أنه في مدة حكم الملك عبد العزيز، الذي امتد نحو نصف قرن من الزمان، لم يكن هناك صوت يعلو بالدعوة إلى وحدة العرب أو المسلمين، فقد كان العرب في هذه الفترة يدعون لاستقلال بلادهم التي استحوذ عليها الاستعمار، ولم تكن الوحدة العربية أو الإسلامية ضمن أولوياتهم الدعوية، ولكن توحيد البلاد العربية والإسلامية، والاهتمام بالمسلمين أينما كانوا، كان من أولويات الملك - رحمه الله - يقول في إحدى خطبه:(40/23)
"إن لنا في الديار النائية والقصية إخوانا من المسلمين، والعرب نطلب مراعاتهم، وحفظ حقوقهم، فإن المسلم أخو المسلم، يحنو عليه، كما يحنو على نفسه في أي مكان، وإنني أؤكد لكم أن المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً كالأرض الطيبة، كلما نزل عليها المطر أنبتت نباتاً حسناً".
كان ذلك في معرض كلام الملك عن حقوق المسلمين التي في عنق الدول الأجنبية، ويقول الملك في وضوح وبلسان العرب والمسلمين: "ولي الأمل الوطيد في أن الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد العربية، والإسلامية، لا تدخر وسعا في أداء ما للعرب، والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم".
هكذا يطلب الملك الداعية من دول العالم، أن ترعى حقوق كل العرب وكل المسلمين.
ولا نكاد نرى خطاباً لملك من الملوك العرب في عصر الملك عبد العزيز، يتكلم فيه باسم العرب، والمسلمين جميعاً في مواجهة دول العالم، ولكن الملك دعا إلى ذلك في خطاب عام، وأمام جماهير العرب، والمسلمين.
هكذا كانت الدعوة إلى وحدة العرب، والمسلمين في خطاب الملك عبد العزيز الديني، والدعوي، ولاشك أن كلماته كانت تكتسب قوة، وتأثيراً من موقعه الديني إماماً للمسلمين في المملكة العربية السعودية، ومن موقعه السياسي، ملكاً بين أقرانه من الملوك، والرؤساء العرب، والمسلمين في عصره.
خامساً: القدوة الحسنة:(40/24)
نعني بالقدوة الحسنة: أن يكون الداعية ذا سيرة منبثقة مما يدعو إليه، وصاحب سلوك مهتدٍ بما يرشد إليه، لتكون أعماله مزكية لأقواله، وأفعاله مؤيدة لدعوته؛ فإن ذلك من أعظم ملامح فقه الدعوة إلى الله، وأبرز معالم المنهج الذي سار عليه الأنبياء، والمرسلون، فقد كانوا - صلوات الله وسلامه عليهم - أحرص الناس على التمسك بما إليه يدعون، وأشد الخلق امتثالاً لما إليه يرشدون، فهؤلاء أهل مدين يتوعدون نبي الله إليهم شعيباً، والذين آمنوا معه بالإخراج، إن لم يعودوا في ملتهم، فيقول لهم نبيهم شعيبٌ عليه السلام:
{أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف88-89] .
ويقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود88] .
حتى إذا كان خاتم الأنبياء، والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، كان إمام الأولين والآخرين في الاعتصام بحبل الله تعالى، والتمسك بوحيه، والتخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، حتى كان خلقه القرآن، كما وصفته عائشة رضي الله عنها، وقال الله تعالى في وصفه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم4] .
فلا عجب أن أمر الله تعالى كل مؤمن ومؤمنة يرجو الله واليوم الآخر، أن يقتدي به، ويتأسى بشمائله العظيمة:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب12] .(40/25)
وقد أدرك الملك عبد العزيز - وهو الداعية المصلح، وولي الأمر - ما للقدوة الحسنة من أثر عظيم في نفوس المدعوّين، وأن الداعية الناجح هو الذي يهدي إلى الحق، ويدل عليه، وإن لم ينطق بلسانه، كما هداه فكره الثاقب، وفقهه الواسع، إلى أن القدوة الحسنة في حقه آكد، وأكثر تأثيراً، وأعمق نفعاً ذلك أن الناس مجبولون على مراقبة أفعال القادة، والكبراء، ومولعون بالاقتداء بهم، والتأسي بأعمالهم؛ لما لهم من المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة.
من أجل ذلك - وامتثالاً لأمر ربه تعالى - كان - رحمه الله - عاملاً بما يعلم قائما بما يدعو إليه، فكان نموذجاً حيا للمبادئ التي يؤمن بها، مما جعله في قدوته، وأفعاله أكثر تأثيراً، وأبلغ وعظاً منه في كلامه وخطبه.
دعا - رحمه الله - الناس إلى توحيد العبادة لله وحده لا شريك له، وإخلاص الوجه والعمل له - كما أسلفنا - وكان مع خاصة نفسه أحرص الناس إلى توحيد الله تعالى، وعدم صرف شيء من العبادة لغيره، ولم يكن يحابي أحداً، أو يجامله في هذا الأمر الذي يعد أصل الأصول، وجوهر الدين، ولبّ الإسلام، ولو كان من يخاطبه زعيماً من الزعماء، أو قائداً من القادة، فقد التقى يوما زعيماً عربياً، وفي أثناء الحديث أراد هذا الزعيم التوكيد على مسألة معينة، فقال: وحياة رأسك.
فرمقه الملك بعين لا تقر إلا بتوحيد الله تعالى، وقال له: قل والله؛ لأن الحلف بغير الله شرك.
ولم يكن شيء من الأفعال أبغض إليه مما يفضي إلى الإشراك بالله تعالى، أو المساس بمقام التوحيد، يقول علماء عصره الذين أدركوا ما كان عليه الأمر قبل ولايته من استفحال الشرور، وانتشار الشرك، وما صار إليه الأمر بعد ولايته، يقولون:(40/26)
"منّ الله في آخر هذا الزمان بظهور الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، وما منّ الله به في ولايته من انتشار هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، وقمع من خالفها، وإقبال كثير من البادية، والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة، وكذلك ما حصل بسببه من هدم القباب، ومحو معاهد الشرك، والبدع، وردع أهل المعاصي، والمخالفات، وإقامة دين الله".
دعا - رحمه الله - إلى التمسك بدين الله تعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وقد كان أسوة حسنة، وقدوة حكيمة في كل ذلك.
فقد كان وقته عامراً بذكر الله، وطاعته، يروي المؤرخون، ويتناقل معاصروه: أن الملك عبد العزيز كان يستيقظ قبل الفجر بساعة أو أكثر، يملؤها بقراءة القرآن، والتهجد، فإذا أذن الفجر أدى الصلاة في جماعة.
وبعد الفراغ من التسبيح، والأوراد يهجع إلى أن تشرق الشمس.
ويروي أحد من عاصره، وعمل معه، أن الملك عبد العزيز كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، فبعد صلاة العشاء يستمع إلى القرآن، وكان يقرأ عليه أحد المشايخ، وبعد انتهاء قراءة القرآن يذهب إلى المكتب في القصر نفسه، فيعمل ويصرف شؤون الدولة، وبعد ذلك يأوي إلى النوم حتى الثلث الأخير من الليل، ثم ينهض، ويمر في جوارنا - ونحن نيام - وهو ذاهب إلى مكان الوضوء، ثم يعود إلى غرفته؛ ليصلي صلاة التهجد، ويستمر حتى أذان الفجر، فيوقظنا للصلاة.
وكان من فقه الملك عبد العزيز، وسعة علومه: أنه كان حريصاً على دعوة الناس إلى المحافظة على الصلاة في أوقاتها مع جماعة المسلمين، وكان أحرص الناس على ذلك؛ ليقتدي به شعبه.
كان يفرغ من صلاة الفجر، ويلتفت يمينا ويساراً يتفقد المصلين، ويحصي من حضر ومن تخلف عن المسجد، وعندما يشك في غياب أحد دون عذر، يرسل إليه واحدا من حراسه لإحضاره، ويسأله عن عذره، فإذا جاء بشيء مقنع أخلى سبيله، وإلا أمر بمعاقبته، ثم يلتفت إليه قائلاً:(40/27)
"يا ولدي، الدنيا ليست بدار قرار، فلا تتهاون في صلاتك، ولا تتكاسل عنها، فالصلاة ركن الدين، وصلة الإنسان برب العالمين، من ضيعها ضيعه الله، وباء بغضبه ولعنته".
إنها كلمات فقيه داعية، امتزج فيها حزم ولي الأمر، برفق الوالد الرحيم، وموقف عظيم اجتمع فيه وعظ العالم، وقدوة الراعي، وأسوته، وما أخلق هذا الأسلوب، وأجدره أن يؤتي أكله، وينفذ، ليخالط بشاشة القلوب بدون استئذان.
كان - رحمه الله - حامل لواء الدعوة إلى توحيد صفوف المسلمين بعامة، والعرب بخاصة، فماذا كان موقفه العملي من ذلك؟
لقد كان - رحمه الله - قدوة عصره في ذلك، وأسوة زمانه، فمنذ أن استعاد الرياض عام 1319هـ، وهو يصل الليل بالنهار، ويقطع الفيافي والقفار، ويبذل النفس، والنفيس في سبيل توحيد شبه جزيرة العرب، ولم شعثها، وجمع شتاتها، في تصميم لا يكل ولا يمل، وعزيمة تفل الحديد، وتلين لها الجبال، ولقي في سبيل ذلك من الشدائد، والصعاب مالا يثبت له إلا صناديد الرجال، الذين يبتغون بجهادهم وجه الله تعالى، والدار الآخرة، حتى أتم الله له مراده، وحقق له غايته بتوحيد أغلب شبه الجزيرة تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فكان بذلك أسوة حسنة، وقدوة صالحة لكل داعية يروم وحدة الأمة، ولكل مصلح يدعو إلى توحيد المسلمين، واعتصامهم بحبل الله تعالى، ونبذ الفرقة والتشرذم، والشتات؛ ليعود للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وهيبتها.
الخاتمة
في الصفحات السابقة استعراض سريع لجوانب من جهد الإمام الملك عبد العزيز - رحمه الله - في الدعوة إلى الله، وحديث عن أهم ما شغل الملك في رسالته الدعوية، وهي قضايا بالغة الأهمية في حياة الأمة الإسلامية، بل إنها قضايا حياتها كلها في كل العصور.(40/28)
إن قضية التوحيد هي جوهر الأديان، ولب الملل، وأصل الإسلام، وهي ما تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم غير الإسلامية السابقة أو المعاصرة، وبعد ذلك تأتي قضية تزكية النفس، وتقويم السلوك بإقامة فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا الواجب هو الوسيلة العظيمة في الإسلام لإصلاح المجتمعات الإسلامية، ومراقبة تطورها إلى الأفضل في كل العصور.
ولم يكن الملك - رحمه الله - مجرد داعية من الدعاة إلى الله، بل كان ولي أمر المسلمين في المملكة العربية السعودية، وهي الولاية العامة، والإمامة العظمى؛ وكان اهتمامه بالأمة الإسلامية كلها، وبالمسلمين جميعاً في أنحاء الأرض، مما يجعل ضمن مهماته النظر في شأن الأمة الإسلامية كلها، وما ينوبها من أحداث؛ ولذلك تضمن خطاب الملك الدعوي: قضية وحدة الأمة الإسلامية، التي أمر الله بها في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران103] .
وهذه القضايا الثلاث: توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والتحذير من الشرك الأكبر، والأصغر، وقضية: تزكية نفوس المسلمين على هدي الإسلام، وقضية العمل على توحيد الأمة الإسلامية، وجمع كلمتها، هي التي استأثرت بجملة خطاب الملك الدعوي في مراحل جهاده كلها، والملك وإن كان ضمن مسؤولياته التوجيه، والإشراف على عمل الدعاة إلى الله، إلا أنه كان نمطاً فريداً من الملوك، والرؤساء، وأولي الأمر في العصر الحديث، حين جمع في قيادة شعبه، وتوجيهه بين أمر السلطان، ونصح الداعية والإمام، لقد فعل ذلك؛ لتميزه في النشأة الدينية الخالصة منذ الصغر، ولأنه سليل الأسرة السعودية التي أقامت دولتها على هدي القرآن منذ البداية، فلم يكن غريباً أن يتميز الملك عبد العزيز، رحمه الله، بين ملوك البلاد الإسلامية، وقادتها بخطابه الديني، والدعوي، وأن يتضمن هذا الخطاب أهم ما يشغل المسلم، الفرد والأمة.(40/29)
وقد هيأ الله للملك من الكياسة، وحسن السياسة، وفقه الدعوة ما جعله يخاطب في كثير من الأحيان وفود المسلمين، من عامة الناس وخاصتهم - لاسيما في مواسم الحج - فلا يخرج خطابه الدعوي عن الهدف الأصيل، وهو الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، غير ناظر إلى هدف آخر، يتصل بسلطانه أو بشخصه أو حتى بشعبه، فقد تجرد الملك كما مر في الكثير من أقواله عن كل هدف إلا الدعوة إلى الله، وإصلاح حال المسلمين، وإبداء النصح لهم، ولم ينتظر من خطابه الدعوي أجراً إلا من الله عزّ وجل، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [سبأ47] .
وهذا أول ما يميز الداعي إلى الله على بصيرة، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دعا الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى الله، وهو ملك، ويده هي العليا، فلا يكون أجره - كما نرجو - إلا من الله عزّ وجل.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
مصادر الأقوال التي نقلت من خطاب الملك الديني والدعوي
الكتب التي تناولت سيرة الملك المؤسس - رحمه الله - ومن أهمها:
- الإمام العادل الملك عبد العزيز. لعبد الحميد الخطيب.
- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز. لخير الدين الزركلي.
- الملك الراشد. لعبد المنعم الغلامي.
- توحيد المملكة العربية السعودية. لمحمد المانع - ترجمة عبد الله العثيمين.(40/30)
الدين. والشرف. والمروءة
في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله
إعداد
د/ عوض بن أحمد بن سلطان الشهري
أستاذ مساعد بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
بالجامعة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله القائل في محكم كتابه {… وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [1] والقائل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [2] .
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، بلغ الرّسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، القائل وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض" [3] .(40/31)
أما بعد فإن المسألة التاريخية - وهي إحدى المسائل الأساسية في حياة البشرية - كانت محل عناية نصوص الكتاب والسنة، فكثير من تلك النصوص عَرَضَ وقائع تاريخية، وأشار إلى أحداث وقصص، وأكد على سنن الله التي تتشكل بموجبها حركة التاريخ، ولاشك أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى نوع من الدراسات التاريخية المنبثقة من تاريخ أمتنا الإسلامية لعل ذلك يكون أحد الأسباب المهمة التي تعيد لأمتنا ثقتها بنفسها، وتنير لها طريق الحياة الكريمة الرائدة التي أرادها الله لها، متجاوزة أكبر قدر ممكن من العقبات والأخطاء مستفيدة من حركة التاريخ الملأى بالعبر، والعظات.
إن نصوص الوحيين قد نبهتنا كثيراً إلى أخذ العبر والعظات من تاريخ الأمم وقصصها {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [4] .
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [5] .
{…ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [6] .
ومن هنا جاء اهتمام علماء المسلمين بتدوين تاريخهم بشكل لم يُسبقوا إليه ليكون سجلا حافلاً للأحداث والسير، ووسيلة مهمة للدراسة والتحليل تستخلص منه العبر والعظات.
قام علماء المسلمين بتلك المهمة وفق مقاييس ومناهج قائمة على أسس إيمانية وعلمية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [7] .(40/32)
واقتداءً بعلمائنا الأجلاء جاءت رغبتي في التأكيد على صفحة ناصعة من صفحات تاريخنا الإسلامي وهو الصفحة المتعلقة بشخص الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله راجياً أن أكون بهذا العمل قد حركت في وجدان كل مسلم وخاصة أبناء مملكتنا الحبيبة مشاعر جياشة نحو سُّنة من سنن الله وهي أن الإنسان بقوته الروحية والمادية يستطيع أن يرتفع إلى ذرى المجد، وأن يحقق المعجزات البشرية، وأنه متى ضعفت روحه وخار جسده فإن الله بعدله وحكمته يستبدله بغيره ممن يصلح لعمارة الحياة وقيادة البشرية.(40/33)
لقد استطاع الملك عبد العزيز رحمه الله وفق هذه المعطيات أن يعيد إلى المسلمين وخاصة في الجزيرة العربية ثقتهم في أنفسهم، وأن يعيد بناء إنسانها، ويصوغه صياغة جديدة. لقد حقق سلسلة من الانتصارات السياسية والعسكرية والاستراتيجية مما عاد بأعظم الآثار الحميدة على أبناء هذه الجزيرة بصفة خاصة وعلى المسلمين بصفة عامة، استطاع رحمه الله أن ينشىء دولة حديثة وكياناً من لا شيء معتمداً على الله أولاً ثم على قوته العظيمة الرُّوحية والبدنية ثم على أبناء شعبه ومعاونيه الذين استطاع بفضل الله ثم بوعيه وإخلاصه أن يعيد صياغتهم بسرعة فائقة بما يتفق والمهمة الصعبة التي انتدب نفسه لها قياماً بواجب الدين الذي ملأ قلبه وفكره ووفاءً لتاريخ البيت السعودي المجيد الذي ملأ سمع الدنيا وبصرها بالحركة التجديدية التي قادها عبر قرون متتالية، وكان لها أكبر الأثر في حياة المسلمين إلى اليوم، تم ذلك كله وسط تحديات خطيرة عالمية، وإقليمية ومحلية وما هي إلا سنوات قليلة حتى أبدل الله بالجهل علماً وبالفقر غنى وبالخوف أمناً وبالفرقة وحدة، وتساقطت دمى العمالة والجهل والغباء، وقصر النظر، وضيق الأفق والأنانية، والترهل والضياع كما تتساقط أوراق الخريف أمام جحافل التوحيد والطهر، والحق، والعدل، والحيوية والحركة، والشرف والمروءة، فاستعاد أبناء هذه المملكة قوتهم والقدرة على البناء، والنمو الشامل، والتطور، والإبداع.(40/34)
لقد تحقق هذا كله بفضل الله ثم بأسباب جوهرية كان من أهمها تلك الصفات العظيمة التي تحلى بها الملك عبد العزيز، وعمل بقوة على نشرها بين شعبه، والعاملين معه، وكانت صفات الملك عبد العزيز وانجازاته محل إعجاب كل من عاصره ولمسها [8] يقول أحمد فؤاد: "يكاد بأعماله الهائلة يكون صورة من صور الأساطير قبل أن يكون بطلاً من أبطال التاريخ في مختلف عصوره، ويوم تصبح سيرته العجيبة فصلاً يُدرس في العالم العربي وفي معاهده وكلياته فستدرك الأجيال المقبلة أيَّ إنسان فذٍّ رائع قيض لعملية الإنشاء العربية هذه في طورها الأول، وسيعلم الجميع أن اسم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سيظل إلى الأبد علماً من أعلام التاريخ البناءة في العالم كله".
ويقول عن الإنجاز: "ليس بين الأحداث التي عرفتها الجزيرة العربية منذ انقضاء عصر الخلفاء الراشدين ما يطاول بشموخ بنائه وسمو معانيه اجتماع الحجاز ونجد وتوابعها تحت تاج واحد في دولة موحدة حرة مستقلة باتت بما حققته من المنجزات وما ترسمته من سبيل قويم هي رمز العمل الوحدوي البناء الصحيح ومرآة المستقبل الأعظم لا لأبناء الجزيرة وحدها بل لأبناء العروبة في كل صقع وزمان" [9] .
وهذا البحث محاولة صادقة - صادرة عن حب وإعجاب وولاء في الله - لتجلية بعض تلك الصفات العظيمة، وتذكيراً بأن المكتسبات التي نعيشها في المملكة لم تأت من فراغ وإنما هي نتاج إيمان صادق، وقوة عظيمة - روحية وبدنية - استنفذت بكل قوة وصدق في بناء هذا الكيان العظيم وتحقيق أهداف نبيلة.
يقول العبود منبهاً على أهمية إدراك هذه الحقيقة: "وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويفتر وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به فتنتقض عليه عرى أمنه - وهدايته - وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم" [10] .(40/35)
ويتعين في ختام هذه المقدمة أن أشير إلى النقاط التالية:
النقطة الأولى: أنَّه لا يمكن أن يَفهَم الملك عبد العزيز حق الفهم ولا يُقدَر الدور العظيم الذي قام به حق قدره إلا من تحلى بالصفات التالية:
1 - معرفة التبعات التي تحملها الإسلام والمسلمون من جراء السياسات التي سارت عليها الدولة العثمانية والانحرافات الخطيرة التي وقع فيها بعض سلاطينها.
2 - الإحاطة بما كان عليه الواقع الإسلامي عند ظهور الملك عبد العزيز وخاصة في الجزيرة العربية.
3 - معرفة الواقع الدولي بصفة عامة والأوربي بصفة خاصة وما كان يسوده من عقائد منحرفة، وأفكار ضالة، وما كان يسيطر عليه من عنصرية مقيتة وأطماع استعمارية.
4 - فهم قيم الإسلام وعقيدته الحقة - ومعرفة سنن الله في النصر والتمكين والتسليم لها.
5 - معرفة سر عظمة الملك عبد العزيز، وما كان يتمتع به من تمثل كامل للدين الإسلامي عقيدة وعمل، وما كان عليه من قوة بدنية هائلة نتيجة التربية والظروف التي عاشها.
6 - الحكم على الملك عبد العزيز من خلال منظار الشرع مع البعد عن الهوى والتعصب عند دراسة تاريخ الملك عبد العزيز.
النقطة الثانية: إن طبيعة هذا البحث اقتضت أن أعالجه في مقدمة وستة عشر عنصر - تضمنت أهم السمات الدالة على رسوخ "الدِّين، والشَّرف، والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز -.
العنصر الأول: القوة الواعية المميزة في الحق، والشجاعة النادرة المنضبطة، والصبر العظيم.
العنصر الثاني: الذكاء الحاد، والفراسة الإيمانية النافذة، والقدرة على الإقناع.
العنصر الثالث: الإيمانُ العميق بالله، وأن النصر منه وحده، والاعتزاز بالدين.
العنصر الرابع: تقوى الله، والخوف منه، تلك الصفات التي تعلو بالإنسان إلى قمم الطهر والنقاء.
العنصر الخامس: التَّجرُّد العظيم تجاه إغراءات الجاه والسُّلطان.(40/36)
العنصر السادس: الشعور الدائم بالمسؤولية تجاه الدِّين، والأمة، والوطن.
العنصر السابع: الفقه في الدِّين، والثقافة الواسعة، والوعي بقضايا العصر.
العنصر الثامن: تعظيم حرمات الله، وتقدير العلم والعلماء.
العنصر التاسع: إقامة الدولة على الإسلام والإحتكام إليه.
العنصر العاشر: الدعوة إلى الدين الحق، والعقيدة السلفية.
العنصر الحادي عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكمة وحزم.
العنصر الثاني عشر: الاهتمام بأمن المسلمين ووحدتهم.
العنصر الثالث عشر: الصبر والأناة، والحكمة، والواقعية في معالجة أمور الدولة.
العنصر الرابع عشر: تفعيل القيم الإيمانية، والمهنية في نفوس الأمة.
العنصر الخامس عشر: متابعة ولاته والنصفة منهم.
العنصر السادس عشر: القبول لدى الناس، والقدرة على الجذب.
النقطة الثالثة: أنني حرصت عند بناء هذا البحث أن يقوم على الحقائق المجردة دون تدخل كثير مني فتركت أدلة عناصره تنساب تباعاً سواء من أقوال الملك عبد العزيز رحمه الله نفسه أو من أقوال غيره.
وفي الختام أسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، محققاً للهدف منه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه واستنَّ بسنته إلى يوم الدِّين.
عناصر الموضوع
مما لاشك ولا جدال فيه أنّ "الدِّين، والشَّرف والمروءة"خلال اتصف بها الملك عبد العزيز رحمه الله حكمت سلوكه الشخصي وسلوكه العام في تسيير دفة أمور الدولة، وهذا حقيقة استفاضت لدى كل من لقي الملك عبد العزيز، أو اطلع على سيرته العطرة.
ويمكن تأكيد ذلك وإبرازه من خلال السمات التالية التي تحلى بها الملك عبد العزيز رحمه الله وهذه السمات ستكون مضمون عناصر البحث التالية:(40/37)
العنصر الأول: القوة الواعية المميزة في الحق، والشجاعة النادرة المنضبطة، والصبر العظيم
في أول امتحان على طريق النصر كتب الإمام عبد الرحمن مشتركاً مع مبارك الصباح أمير الكويت إلى الملك عبد العزيز - وهو في طريقه لفتح الرياض - يدعوانه إلى الرجوع والكف عما هو فيه لما رأياه من كثرة المخاطر والضغوط.. ودعواه إلى الرجوع إلى الكويت.
فخطب في صفوة رجاله في آخر يوم من رجب 1319هـ بعد أن أطلعهم على كتاب أبيه وقال: "لا أزيدكم علماً بما نحن فيه.. أنتم أحرار فيما تختارون لأنفسكم، أما أنا فلن أعرض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقَّة الكويت، ومن أراد الراحة ولقاء أهله، والنوم، والشبع، فإلى يساري - إلى يساري، وتواثب الأربعون بل الستون إلى يمينه وأدركتهم عزة الأنفة فاستلوا سيوفهم وصاحوا مقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية، والتفت الملك عبد العزيز إلى رسول أبيه وكان حاضراً المجلس وقال له: سلم على الإمام وخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا وقل له: موعدنا إن شاء الله في الرياض [11] ".
وهكذا اختار الملك عبد العزيز وصحبه رحمهم الله جميعاً ما يليق بهم من خيار، وهو اختيار قد بدت بوادره مبكراً منذ فتوة الملك عبد العزيز فإن "الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين أراد أن يلاطف (الفتى) عبد العزيز فسأله: قطر أحسن أم البحرين؟ فأجابه عبد العزيز على الفور: الرياض أحسن منهما، فقال: سيكون لهذا الغلام شأن [12] .
وعلى مقربة من الرياض في طريقه لفتحها استبقى ثلاثة وثلاثين ممن معه وجعل قيادتهم لأخيه محمد وقال لهم: لا حول ولا قوة إلا بالله إذا لم يصل إليكم رسول منا غداً فأسرعوا بالنجاة واعلموا بأننا قد استشهدنا في سبيل الله.(40/38)
وفي ليلة فتح الرياض في داخل منزل لعجلان في طريقه للقضاء عليه عند الساعة الثامنة عربي (الثانية بعد نصف الليل) تجمع عبد العزيز ورجاله في ذلك المنزل الذي لم يكن فيه في تلك الليلة إلا زوجة عجلان وامرأة أخرى - أكلوا شيئا من التمر ثم ناموا كأنهم في بيوتهم وبعد نوم ساعة واحدة أو أقل طلع الفجر فنهض عبد العزيز وصلى بهم وجلس يسبح ويبتهل، والتفت إلى رفاقه بعد ذلك يتحدث إليهم حتى طلعت الشمس يوم 5 شوال 1319هـ[13] .
ملحمة رائعة وعزيمة كالجبال - وموقف بطولي نادر لا يطيق مثله إلاّ من كانت له مؤهلات عبد العزيز، ولن يقبله بصدق ويسلم له إلاّ من توفرت فيه شروطٌ تقدم ذكرها.
وفي خطاب له رحمه الله أمام كبار الحجاج بمكة 1350هـ - 1932م يقول:.. وكل إنسان عنده نصيحة لنا من الكتاب أو السنة فنحن مستعدون في جميع الأوقات سواء كانت من كبير، أو صغير، أو جليل، أو حقير، ومن أرادنا على مخالفة شيء من ذلك فلا نقبل أبداً وقد أمرنا الله أن نتبع شريعة الإسلام وأن نعض عليها بالنواجذ، ومن غضب علينا لاستمساكنا بديننا فليغضب علينا إلى ما يشاء.. وإخواننا المسلمون نقبل منهم كل أمر فيه مناصحة على شرط أن تكون في الحق، ومسألتان لا يمكن أن نقبلها ولو قاتلنا أهل الأرض حتى لا يبقى فينا أحد.
التغيير في دين الله ولو مثقال خردلة لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فالكتاب والسنة لا نحيد عنهما أبداً.
والثانية أن أي أمر يلحق استقلال أو شرف بلادنا فهذا مستحيل أن نقبله ولو تكلم من تكلم أو قال من قال… كثيراً ما يقول بعض الناس ليش ما يحط ابن سعود جمعيات ودعاية ضد الإنجليز، والمسكوف، أو الطليان، أو غيرهم، ويدافع عن المسلمين فأحب أن أكشف هذه الشبهة وأبين الحقيقة فيها.(40/39)
أنا لست من رجال القول الذين يرمون اللفظ بغير حساب، أنا رجل عمل إذا قلت فعلت، وعيب علىّ في ديني وشرفي أن أقول قولاً لا أتبعه بالعمل وهذا شيء ما اعتدت عليه ولا أحب أن أتعوده أبداً وإنما آمر بالسكوت إلى وقت الفعل فإذا فعلنا تكلمنا.. وإذا برز المسلمون للعمل فالعيب.. إن تأخرنا.. وأما كلام الحق الذي يراد به باطل فهو لا نقبله، ولا نقره، ولا نسمعه، وعلينا أن نحافظ على كل شيء يقدم إلينا بأمورنا وأنفسنا على الطريقة الشرعية [14] .
قيم خالدة ودرر تترى لو تتلمذ عليها أولئك الذين ابتليت بهم شعوبهم ممن ملئوا الدنيا هديراً وجعجعة فقط فجرُّوا على عالمنا العربي والإسلامي أوخم العواقب [15] لو تربوا في مدرسة عبد العزيز، ودانوا بالقيم والأخلاق التي سار عليها لكان حال المسلمين غير ما هم عليه اليوم.
لم يفرط صقر الجزيرة في شيء يتعارض مع دينه وشرفه وأمانته فحقق ما يصبو إليه، وضاع مَنْ تنازل عن كثير من دينه وشرفه وأمانته، سنة الله في النصر والتمكين ولن تجد لسنة الله تبديلا إن الله تعهد بنصر من نصره وخذلان من عصاه وتنكَّب هداه.
وقال في الخطاب الذي ألقاه أثناء استقباله في الطائف كبار رجالات الدولة والشخصيات والأعيان عام 1351هـ: "..الثاني السُّفهاء الذين يُسوِّل لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد وراحتها فهؤلاء شأني معهم شأن الدّيناميت مع النار [16] ".(40/40)
وفي خطابه في حفل تكريم كبار الحجاج عام 1351هـ 1933م يقول: "أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس، وأحب النصيحة قبل كل شيء لأن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، أنا مدافع لأنني ما حاولت في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني، وأبناء قومي، وكنت في كل وقت أقابل ما يصدر إلىّ منهم من إساءة، أو خطيئة بصدر رحب، على أمل أن يرجعوا إلى الصواب، ولكنني إذا رأيت تمادياً في الغي والإساءة أضطر حينذاك للدفاع.. أنا عربي، ومن خيار الأسر العربية، ولست متطفِّلاً على الرياسة والملك، فإن أبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرياسة والملك، ولست ممن يتكئون على سواعد الغير في النهوض والقيام وإنما اتكالي على الله ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ويستندون إن شاء الله، لقد حاربنا جيوشاً جرارة في أدوار مختلفة منذ أن قمنا بهذه الدعوة المباركة فكان نصيبها رغم كثرة عددها وعدَّتها الفشل والخسران ولله الحمد [17] .
نعم ليس الملك عبد العزيز رحمه الله متطفلاً على الرياسة والملك، المتطفلون ينصبون لأغراض لا تخدم أممهم، وليس لشعوبهم في تنصيبهم خيار، ثم يتهاوون كورق الخريف بعد أن يكونوا خربوا البلاد، وأهلكوا العباد، وهذا النوع من المتطفلين هم مطلب أعداء العدل والحق، أما الحكومات الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ والمتدثرة بدثار العزِّ، والشَّرف، والكرامة، فهي التي يناصبها أعداء الإنسانية العداء، ويحيكون حولها التُّهم والشَّائعات [18] . وفي كلمة له رحمه الله عام 1356هـ بمكة يقول: إنَّ الدِّين الإسلامي في نظري هو أساس الرُّقي، ومن اعترضنا في ديننا أو وطننا قاتلناه ولو كان أهل الأرض [19] .(40/41)
وقال بمنى أثناء موسم حج عام 1365هـ - 1946م: "أما قدوتنا إن شاء الله فهو عمر بن الخطاب في الخلفاء الراشدين ذلك الإمام الذي حمل الدقيق على ظهره لإحدى أرامل المسلمين، وفي الأمويين عمر بن عبد العزيز الذي ضرب بعدله وزهده المثل، وإنني أود أن نفنى أنا وأولادي في سبيل الله، والمسلم لا يبيت في فراشه إلا على نية الجهاد، وكذلك من لا يود أن يموت مجاهداً في سبيل الله لا يكون صحيح العقيدة، ولقد سبقت لي في الجهاد صفحات ماضيات ما باليت أن قُطعت عضدي في سبيل الله لأنني لا أقبل في الله لومة لائم، ولأن أكثر ما يهمني هو المحافظة على كلمة التوحيد ثم على محارم المسلمين، ونسأل الله أن يحيينا عبيداً، خاضعين مطيعين له خاشعين في عبادته، صادقين في إيماننا وعلينا بعد ذلك أن نسأل الله تعالى فهو الذي يقول {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [20] ومن عرف سيرة الملك عبد العزيز وخاصة برنامجه اليومي علم أنه لا يطيق ما كان يأخذ الملك عبد العزيز نفسه به إلا أمثال السلف الصالح من الخلفاء العادلين، والعلماء الربانيين، وأتمنى أن يجمع كل ما عرف عن الملك عبد العزيز في هذا الجانب، ويُدرس ويُحلل ويبرز للناشئة إبرازاً لعظماء الأمة رجاء ترسيخ تلك المثل في حياة الناشئة الجديدة.
ويقول الملك عبد العزيز في تصريح صحفي له: "… نحن قوم لا تخيفنا الحروب، ولا يرجفنا صليل السُّيوف، فقد نشأنا على متون الخيول، وسنموت على متونها إذا كان لابد من الحروب [21] ".
ولما قال والي بغداد من قبل الحكومة العثمانية "جمال باشا السَّفَّاح"لمندوب الملك عبد العزيز - أحمد بن ثنيان -: "إن ابن سعود لا يعرف مقامه، وقد غره أن صفح عنه المشير فيضي باشا. فإن كان لا يقبل بما تطلبه الحكومة، فإن في إمكاني أن أخترق نجداً من الشمال إلى الجنوب بطابورين.(40/42)
أجابه الملك عبد العزيز رحمه الله في كتاب: "قلتم إنكم تستطيعون بطابورين أن تخترقوا بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب، ونحن نقول: سنقصر لكم الطريق إن شاء الله"، كتب الملك عبد العزيز هذا الكلام، وهاجم الكوت واستولى على منطقة الإحساء في قصة مثيرة جداً كان من نتائجها أن رضيت عنه الأستانة وأهدته النيشان العثماني الأول ورتبة الوزارة، وبدأ العثمانيون يلقبونه بصاحب الدولة [22] .
وقال الملك عبد العزيز لفلبي أثناء مناقشة سياسية: إذا لم تكن حكومتك على استعداد لتغيير سياستها فلا داعي لعودتك إلى الرياض. أورد كشك هذا الحدث وعلق عليه بقوله: لم يمر علينا في معاهدات الحماية، ولا في تاريخ الخليج، والجنوب وسائر المحميات حالة واحدة طرد فيها "المعتمد"البريطاني، أو طالب الحاكم سحبه، أو عطاء هذا الإنذار [23] .
ويقول الدكتور رشاد فرعون: "أردت أن أخرج رصاصتين استقرتا في بطن الملك أثناء إحدى المعارك فأتيت بالمخدر لأحقنه به فقال لي: ماهذا؟ قلت: البنج. قال: لماذا؟ قلت: للتسكين حتى لا تتألم فضحك وقال: دعك من هذا وبعد البنج ماذا تنوي أن تفعل؟ قلت: بعد ذلك أشق بالمبضع جلد البطن في موضع الرصاصة، وأخرج الرصاص ثم أخيط الجلد فطلب مني المبضع، وتناوله بيده، وشق موضع الرصاص وأخرج الرصاصتين ثم قال لي: الآن تستطيع خياطة الجرح ولا تحتاج معي إلى بنج.
يقول رشاد: لقد كان أقوى من الألم رحمه الله [24] .(40/43)
ويصفه كاتب فرنسي مسلم فيقول: "… وابتدأ خطابه بإلقاء طبيعي سهل، كان خالياً من تلك الإشارات التمثيلية الثقيلة سالماً من تلك الحركات المتكلفة الركيكة، وتلك الأصوات المزعجة، فالرزانة والرجولة الكاملة، والاعتداد بالنفس كلها كانت تتفجر في خطبته، ومن العجب ألا يفارق حالته العادية وهدوءه المعتاد، حتى في ذلك الوقت الذي يبحث فيه أخطر المسائل وأهمها، ولم نر منه إشارة سوى ضم سبابتيه حينما يتكلم عن الإتحاد، وتفريقها حينما يتكلم عن التفرق، ورغم هذا كله فقد كنا نحس بأن وراء هذا الهدوء، وهذه البساطة، وهذه الرزانة حزماً، وعزماً وبطولة فذة يختص بها [25] ".
ويصفه يوسف ياسين بقوله: خاض عبد العزيز أكثر من مئة معركة، ولما مات وجدوا على جسمه ثلاثاً وأربعين ندبة وأثر جرح، كان عملاقاً تتمثل فيه قوى الصحراء كلها، وحسب الإنسان أن يفكر في مغامرة الرياض التي أتمها عبد العزيز بقبضة من الفرسان حتى تمتلئ نفسه إعجابا [26] .
هكذا كان من سمات الملك عبد العزيز رحمه الله، قوة في الحق واعية مميزة وشجاعة منضبطة نادرة، وصبر عظيم.
العنصر الثاني: الذكاء الحاد، والفراسة الإيمانية النافذة، والقدرة على الإقناع.(40/44)
يقول الملك عبد العزيز رحمه الله في كلمة توجيهية لأول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي 1350هـ: "… من الناس - وكثيرهم - من يعجب قوله فيأخذ بالسامع بزخرف القول إلى حد بعيد ويأتي في حديثه بأساليب تسحر، مصوغة في قالب يبهر العقول، وفي الجرائد اليومية والمجلات الشهرية شيء كثير من ذلك، وفي الصحف السيارة ما يصور للقارئ أن قسماً من الناس قطع في مضمار العلوم، ولاسيما الكونية منها شوطاً بعيداً، لو حاولتم الوصول إليه في عشرات السنين لما وصلتم نصف المرحلة التي قطعوها، ولكن ماذا كان وراء هذا العلم الوفير؟ لا ترى إلا أحزاباً يضرب بعضها بعضا، ولا تسمع إلا عويلاً يصم الآذان وهم بيد غيرهم كفتا ميزان يعلي هذا تارة ويسفل هذا تارة أخرى علم ولكن بالأقوال وعمل ولكن في غير المنافع، وإن ما أصاب هؤلاء هو من جراء تخاذلهم، وعدولهم عن الصراط المستقيم الذي شرحه الله تعالى في كتابه وعلى لسان صفوة خلقه صلى الله عليه وسلم. جهلوا تعاليم الإسلام الحقة وبهرتهم المدنية فنظروا إلى كل ما يصدر عن الغرب نظرة إكبار فأرادوا محاكاته، وحبذا لو حاكوه فيما يعلي من شأنهم، أرادوا محاكاته بل حاكوه فعلاً ولكن فيما يئن منه عقلاؤهم" [27] .(40/45)
وهكذا تأتي هذه الكلمات البليغة في وقتها وفي اللحظات التي خشي فيها الملك عبد العزيز رحمه الله على أبناء أمته الانبهار بالوافد الضار من العقائد والأفكار وقد انهزم أمامه فئام مما أفقدهم ثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بحضارتهم الإسلامية ومع هذا التحذير السديد فقد دعاهم إلى الحرص على الأخذ بالنافع أياً كان مصدره مادام لا يتعارض مع الدين والعقيدة وقد سار على نهج الملك عبد العزيز أبناؤه من بعده فوعوا المسؤولية وعلموا أسباب الخطر فحصنوا شباب هذه البلاد ضد تلك التيارات التي استهدفت عقيدة المسلمين وكيانهم والله غالب على أمره وناصر دينه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [28] .
وفي 1350هـ قال رحمه الله أمام كبار الحجاج في القصر الملكي بمكة وهو يتحدث عما كانت عليه المملكة قبل توحيدها، وتحكيم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ربوعها: ".. ولا يخفاكم أيضا ما كان فيه من سفك الدماء، وعمل المعاصي وعدم الأمن، فلما ولانا الله عملنا ما نستطيع ونحن عباد مستعبدون لله، ليس لنا طريقة وليس لنا مذهب غير الدين الحنيف، وهذا كتاب الله بين أيدينا، وهذا شرع الإسلام نتبعه، أما خوض الرجال فإن كان من جهة الدين واعتراضهم عليه فالحق ما جاء في كتاب الله، والذي يكتم الحق ملعون، وكل أمر خالف الدين متروك، أما عن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين أو الأئمة الأربعة المهتدين فإننا نتبعهم ومن كان عنده غير ذلك يبينه لنا حتى تقوم الحجة" [29] .(40/46)
وفي خطاب له في حفل تكريم كبار الحجاج 1351هـ يقول: "… المسلمون ينقصهم معرفة الزعماء، والأشخاص ونفسياتهم، فإن هناك أشخاصاً من المسلمين يتظاهرون بالغيرة والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك، يتظاهرون بالغيرة ويسعون في الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية، والتجسس على أحوال إخوانهم، وهذا أمر يؤسف له لأن الأضرار التي لحقت بالمسلمين والعرب جاءت بهذه الطريقة [30] ".
وفي مكة المكرمة 1353هـ أمام كبار الحجاج يقول: "… هناك أحزاب تتطاحن على أي شيء؟ .. لا أدري.. لقد أدخل الشيطان وساوسه في عقولنا فتركنا حبل الله المتين فتفرقنا أيدي سبأ… أكثر الناس يقولون أن الأغيار هم الذين ضربونا في الصميم ففرقوا بيننا… هذا كلام.. ماذا عمل الأغيار؟ الحق أن الضرر والخسران لم يأتيا إلينا إلا من أنفسنا فنحن المسؤولون عن ذلك نحن نسعى إلى التفرقة.. ونحن نعمل للبغضاء. أذكر لكم مثلاً بسيطاً يعرفه كل واحد منكم إن صحفنا وجرائدنا إذا تكلمت عن مسلم، أو عربي تكلمت عنه بشدة وقسوة ولاذع القول ولكنها إذا تكلمت عن غربي تكلمت بأدب واحترام.. فلماذا؟.
يا إخوان يجب علينا أن نحترم أنفسنا ونتكاتف ونتعاضد، فإذا نحن سرنا على هذه الطريق وفقنا الله سبحانه وتعالى واحترمنا العدو قبل الصديق" [31] .
وفي سنة 1371هـ أبرق الملك عبد العزيز إلى الوزير السعودي المفوض في بغداد برقية جاء فيها: ولو سمحت أي دولة عربية لنفسها في أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية أخرى عند حدوث أية أزمة من الأزمات في ذلك البلد لوقع من ذلك شرور كثيرة [32] .
وهكذا يسن الملك عبد العزيز رحمه الله نهجاً ثابتا للسياسة السعودية وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة.
وقد بذل الملك عبد العزيز رحمه الله جهده في الذب عن حقوق المسلمين في فلسطين بأسلوب ينم عن ذكاء بالغ ووعي كامل بالتاريخ، وقضايا العصر.(40/47)
ففي 1357هـ 1938م بعث جلالته إلى الرئيس الأمريكي روزفلت رسالة جاء فيها: "أما دعوى اليهود التاريخية فإنه لا يوجد ما يبررها في حين أن فلسطين كانت - ولاتزال - آهلة بالعرب في جميع أدوار التاريخ، وكان السلطان فيها لهم وإذا استثنينا الفترة التي أقام اليهود فيها، والمدة الثانية التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية عليها، فإن سلطان العرب كان منذ الزمن الأقدم على فلسطين، وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة معظمين لمقامها محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص، ولما امتد الحكم العثماني إلى فلسطين كان النفوذ العربي هو المسيطر…" فمِّما ذكر يرى أن دعوى اليهود بحقهم في فلسطين، استناداً إلى التاريخ لا حقيقة لها، فإن كان اليهود قد استوطنوها مدة أطول من ذلك فلا يمكن أن يعتبر احتلال أمة لبلد من البلدان حقاً طبيعياً يبرر مطالبتها به، ولو اعتبر هذا المبدأ في العصر الحديث لحق لكل أمة أن تطالب بالبلدان التي سبق لها إشغالها بالقوة حقبة من الزمن، ولتسبب ذلك في تغيير خريطة العالم بشكل من أعجب الأشكال، مما لا يتلاءم مع الدول ولا مع الحق ولا مع الإنصاف.(40/48)
أما دعوى اليهود التي يستثيرون بها عطف العالم، وهي أنهم مشتتون في البلدان ومضطهدون فيها وأنهم يريدون إيجاد مكان يأوون إليه ليأمنوا على أنفسهم من العدوان الذي يقع عليهم في كثير من الممالك، فالمهم في هذه القضية هو التفريق بين القضية اليهودية العالمية - أو اللاسامية - وبين قضية الصهيونية السياسية، فإن كان المقصود العطف على اليهود المشتتين، فإن فلسطين الضيقة قد استوعبت منهم حتى الآن مقداراً عظيماً لا يوجد ما يماثله في أي بلد من بلدان العالم، وليس باستطاعة رقعة ضيقة كفلسطين أن تتسع لجميع يهود العالم حتى ولو فرض أنها أخليت من سكانها العرب كما قال المستر "مالكولم"في خطاب ألقاه في مجلس النُّواب البريطاني مؤخراً فإذا قبل مبدأ بقاء اليهود الموجودين في فلسطين في الوقت الحاضر فتكون هذه البلاد الصغيرة قد قامت بأعظم قسط إنساني لم يقم بمثله غيرها.
ويرى فخامة الرئيس أنه ليس من العدل أن تسد حكومات العالم - وفي جملتها الولايات المتحدة - أبوابها في وجه مهاجري اليهود وتكليف فلسطين البلد العربي الصغير بحملهم.
وأما إذا نظرنا إلى القضية من وجهة الصهيونية السياسية فإن هذه الوجهة تمثل ناحية ظالمة غاشمة سداها القضاء على شعب آمن مطمئن، وطرده من بلاده بشتى الوسائل ولحمتها النهم السياسي والطمع الشخصي لبعض أفراد الصهيونية.
وأما استناد اليهود على تصريح بلفور "فإن التصريح بحد ذاته جاء جوراً وظلماً على بلاد آمنة مطمئنة، وقد أُعطي من قبل حكومة لم تكن تملك يوم إعطائه حق فرضه على فلسطين، كما أن عرب فلسطين لم يؤخذ رأيهم فيه ولا في نظام الانتداب الذي فرض - كما صرح بذلك "مالكولم " وزير المستعمرات البريطاني أيضا - وذلك برغم الوعود التي بذلها الحلفاء - وبينهم أمريكا - لهم بحق تقرير المصير.(40/49)
ومن المهم أن نذكر أن وعد بلفور كان مسبوقاً بوعد آخر من الحكومة البريطانية باعتراف الحلفاء بحق العرب في فلسطين وغيرها من بلاد العرب.
ومن ذلك يتبين لفخامتكم أن "حجة اليهود التاريخية"باطلة ولا يمكن اعتبارها كما أن حجتهم من الوجهة الإنسانية قد قامت فيها فلسطين بما لم يقم به بلد آخر ووعد "بلفور"الذي يستندون إليه مخالف للحق والعدل ومخالف لمبدأ تقرير المصير والمطامع الصهيونية تجعل العرب في جميع الأقطار يوجسون منها خيفة وتدعوهم لمقاومتها.
أما حقوق العرب في فلسطين فإنها لا تقبل المجادلة لأن فلسطين بلادهم منذ أقدم الأزمنة وهم لم يخرجوا منها كما خرج غيرهم، وقد كانت من الأماكن التي ازدهرت ازدهارا يدعو إلى الإعجاب، ولذلك فهي عربية عرفاً، ولساناً، وموقعاً، وثقافة، وليس في ذلك أية شبهة أو غموض، وتاريخ العرب في تلك البلاد مملوء بأحكام العدل والأعمال النافعة.
.. وقد كان تدفق مهاجري البلاد من الآفاق المختلفة إلى فلسطين مدعاة تخوف العرب على مصيرهم وعلى حياتهم فحدثت في فلسطين ثورات وفتن متعددة في 1920، 1921، 1929م وكان أهم تلك الثورات عام1936م التي لاتزال نارها مستعرة حتى هذه الساعة.
… إنه ليس من العدل أن يطرد اليهود من جميع أنحاء العالم المتمدن، وأن تتحمل فلسطين الضيقة المغلوبة على أمرها هذا الشعب برمته [33] .
وفي عام 1364 وقد بدأت تظهر إلى السطح حقيقة ما يسعى إليه الصهاينة كتب الملك عبد العزيز رحمه الله رسالة إلى الرئيس "روزفلت" وأرسل نسخة طبق الأصل منها إلى رئيس الوزارة البريطانية "ونستون تشرشل"جاء فيها: لو تصورنا استقلال اليهود في مكان ما من فلسطين فما الذي يمنعهم من الاتفاق مع أي جبهة قد تكون معادية للحلفاء، ومعادية للعرب وهم قد بدأوا بعدوانهم على بريطانيا بينما هم تحت حمايتها ورحمتها.(40/50)
لاشك أن هذه أمور ينبغي أخذها بعين الاعتبار في إقرار السلم في العالم عندما ينظر في قضية فلسطين. ففضلاً عن أن حشد اليهود في فلسطين لا يستند إلى حجة تاريخية ولا إلى حق طبيعي، وأنه ظلم مطلق، فهو في نفس الوقت يشكل خطراً على السلم، وعلى العرب، وعلى الشرق الأوسط.
وصفوة القول، أن تكوين دولة يهودية بفلسطين، سيكون ضربة قاضية لكيان العرب، ومهدداً للسلم باستمرار [34] .
وهكذا يضع الملك عبد العزيز رحمه الله يده على موضع الألم، والنقاط على الحروف وينذر العالم بما يمثله الخطر الصهيوني على البشرية كلها [35] .
وفي برقية من الملك عبد العزيز للأمين العام لجامعة الدول العربية رداً على برقية منه كان أرسلها حول أحداث حصلت في الشام جاء فيها: "… ما هو خافيكم مقاصد الحكومات وأهدافها البعيدة والقريبة، فهذه لابد أن تضعوها أمام أعينكم، واعلموا جزماً بأنهم يقدمون مصالحهم على كل شيء، وإذا حدث شيء من المشاكل فإن مصالحهم مقدمة على كل حال" [36] .
وفي مناقشة مع إحدى الشخصيات العربية البارزة حول تحريم شرب الدخان في المملكة قال الملك عبد العزيز: إذا لم ننظر إلى ناحية التحليل والتحريم وأبيح التدخين فكم ينفق المدخنون عندنا… إلى أن قال: ما عندنا دخان ولا ورق للدخان ولاشيء من آلاته، كله يأتي من الخارج تريد أن نرسل مع فقرنا خمسة آلاف جنيه هدية إلى الخارج كل يوم مقابل ما ننفخه في الهواء [37] .
نصوص واضحة، تدل على ما كان يتمتع به الملك عبد العزيز رحمه الله من ذكاء، وفراسة، وقدرة على الإقناع.
العنصر الثالث: الإيمان العميق بالله وأن النصر منه وحده والاعتزاز بالدِّين(40/51)
يقول الملك عبد العزيز رحمه الله في مكة 1347هـ - 1929م: "… ولقد ابتعدوا - يعني المسلمين - عن العمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانغمسوا في حمأة الشرور والآثام فخذلهم الله جل شأنه، ووصلوا إلى ما هم عليه من ذل وهوان، ولو كانوا مستمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أصابهم ما أصابهم من محن، وآثام، ولما أضاعوا عزهم وفخارهم.
لقد كنت لا شيء.. وأصبحت اليوم وقد استوليت على بلاد شاسعة يحدها شمالاً العراق وبر الشام، وجنوباً اليمن، وغرباً البحر الأحمر، وشرقاً الخليج.. لقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من الأعتاد سوى قوة الإيمان، وقوة التوحيد، ومن التجدد غير التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فنصرني الله نصراً عزيزاً.
لقد خرجت وأنا لا أملك شيئاً من حطام الدنيا، ومن القوة البشرية، وقد تألب الأعداء علىّ ولكن بفضل الله وقوته تغلبت على أعدائي وفتحت كل هذه البلاد [38] وفي مكة 1348هـ - 1930م يقول في حفل أقيم لجلالته رحمه الله: "… لعل الله يوفقنا بذلك لخدمة الدين ونشر حقيقته وبهذا وحده ننال العز والفخار في الدنيا والآخرة، وثقوا بأن الله يؤيد من يعمل ويسعى في هذا السبيل.. أما نحن فإننا نعتصم بحبل الله تعالى ومن اعتصم بالله فهو حسبه [39] ".(40/52)
وفي المؤتمر الوطني الذي انعقد في القصر الملكي بمنى 1350هـ، 1931م يقول رحمه الله: يستحيل على الإنسان أن يكون شيئاً يذكر إلا أن ينال عناية من الله تعالى، وعناية الله لا تكون إلا لمن تبع أمر الله تعالى، ومن وفَّقه الله وكان في كنف الله وفي عنايته كان النصر حليفه بدون شك… أنتم تعرفون أن هناك قبيلاً من البشر يسمونهم "العرب"ولو كان لأحد أن يفتخر بهم لوجب أن أفتخر أنا بهم.. وكانوا في ظلمات الجهل والضلالة ولكن الله منّ عليهم بنعمته وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وليس من شك في أن أفضل قبيلة في الدنيا هي القبيلة التي بعث منها محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل بقعة هي البقعة التي بعث منها صلى الله عليه وسلم فالشرف العظيم لا يُنال بالانتساب إلى الآباء وإنما يُنال بالتقوى، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.. والشَّرف يكون بأمرين:
بالدين ثم بالصدق في الأقوال والأفعال.. وأفضل شيء يقام هو تنفيذ أوامر الله تعالى في هذه البقعة المباركة التي أنزل بها الوحي وبعث بها محمد صلى الله عليه وسلم وهي مسقط رأسه ومدفنه [40] .
وفي الكلمة التوجيهية التي ألقاها الملك عبد العزيز رحمه الله في أول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي 1350هـ، 1931م قال: "اعلموا أن الناس لو كانوا جميعاً على قلب أكفر رجل لما ضروا الله شيئاً، ولو كانوا على قلب أتقى رجل لما نفعوا الله شيئاً إن الله لغني عن العالمين" [41] .
وفي مكة 1350هـ 1932م في الحفل الذي أقامه جلالة الملك عبد العزيز تكريماً لكبار الحجاج قال: "… أما السلاح الثاني - وهو الأعظم - فالذي أوصي به نفسي وأوصيكم به، وهو التقوى والاعتصام بحبل الله جميعاً فإذا علمتم ذلك نلتم العزة في الدنيا، والعفو في الآخرة، ورحمة الله وسعت كل شيء ولا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكل طريق غير ذلك لا يفيد [42] .(40/53)
وفي المحرم 1351هـ، 1932م ألقى كلمة أمام كبار رجالات الدولة، والشخصيات، والأعيان قال فيها: الشريعة كلها خير، وإن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل ووضع فيها ما أمرهم به وما نهاهم عنه.
والأمر لا يتم إلا بمسألتين: الأولى: التوفيق.. والتوفيق لا يكون إلا بالله {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [43] والإنسان بلا توفيق لا يستطيع أن يعمل شيئاً.. أما نحن فلا عز لنا إلا بالإسلام ولا سلاح لنا إلا التمسك به، وإذا حافظنا عليه حافظنا على عزنا وسلاحنا وإذا أضعناه ضيعنا أنفسنا وبؤنا بغضب من الله، وإن الذي أريده وأطلبه منكم هو ما ذكرته لكم من التمسك بدين الله وهذه طريقتي التي أسير عليها والتي لا يمكن أن أحيد عنها مهما تكلفت، وإنِّي أحب أن أردد عليكم هذا لاعتقادي أنه كالمطر إذا تكرر نزوله على الأرض أنبتت وأثمر نباتها.. وقال هنا أيضا: لا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عز لنا إلاّ بالتمسك به.
ثم قال أيضا: ولينعم كل إنسان بنعمة الإسلام، وحرية الإسلام، وغير هذا لا نعمة ولا حرية فمن كان مشارفاً بنظره من قرب أو بعد فليعلم أن الناس لم يتركونا رحمة أو عطفاً وإنما تركونا لأن الله أراد تأييدنا ونصرنا [44] .
وفي موسم حج عام 1352 هـ جاء في خطابه في الحفل السنوي لكبار الحجاج: أنا قوي بالله تعالى ثم بإيماني ثم بشعبي، وشعبي كل منهم كتاب الله في رقابهم وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عددهم، ولكنهم أقوياء - إن شاء الله - بإيمانهم" [45] .(40/54)
وفي ذي الحجة 1356هـ قال أمام كبار الحجاج: من نعم الله علينا معرفة لا إله إلا الله وكل إنسان يعمل بها تتم له السعادة، فهذه الكلمة هي كل شيء، ومضمون كل شيء.. وكل إنسان لا يؤمن بكتاب الله، ويعمل بحكمته، ويؤمن بمتشابهها فهو ضال.. وكل إنسان لا يؤمن بمحمد، وبما جاء به محمد، ويصدقه بالأقوال والأفعال، ويكون أحب إليه من نفسه وماله فهو ما عرف الله ولا آمن به [46] .
ويقول حفيده الأمير عبد الله الفيصل وهو يتحدث عن مزايا جده وسر ما وصل إليه فيقول: "إنني أعزو ذلك لعدة أسباب:
أولها: الصلة بين العبد المؤمن الصادق في إيمانه وبين الخالق جلّ وعلا، إن صلة عبد العزيز بالله، لم تكن صلة مقرونة برغبة دنيوية. فعقيدته عقيدة خالصة لوجه الله، وإيمانه مطلق ليس له حد، فلذلك نجد التوفيق حليفه في أعماله..
وبعد هزيمة الملك عبد العزيز في جراب.. تلك الهزيمة المؤلمة صادفه فيصل الحمود الرشيد وأخذ يبكي متأثراً بالهزيمة فقال الملك عبد العزيز والقصة لحفيده عبد الله الفيصل: يا فيصل لا تبك فأنا والله بالأمس في حالة الخوف من أن يوكلني ربي على قوتي، والآن في حال الرجاء أن ينصرني، وسوف أسترد قوتي بحول الله قبل نهاية الشهر.. فكان من القلائل الذين يستمدون من الضعف قوة" [47] .
ويقول يوسف ياسين: سمعت الملك عبد العزيز يقول غير مرة: إذا أراد المسلمون والعرب قتال أعدائهم فإن أعدَّ المسلمون والعرب آلةً واحدة من آلات الحرب أعدلهم أعداؤهم مئات وألوفاً، ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون والعرب لا يمكن أعداءهم أن يأتوهم بمثلها، هي إيمانهم بالله. وثقتهم به، هذه القوة لا قبل لا حد بها [48] .(40/55)
وفي حديث لمجلة "لايف"الأمريكية وهي تتحدث عن الملك عبد العزيز تقول: "…وأعظم صفةٍ خلابة في الملك عبد العزيز، اعتقاده الوثيق بالعدل الإلهي، وهو لهذا لم يندهش كثيراً عندما أمد الله البلاد العربية بالزيوت، كما أمدها بالأمطار فيما مضى، ولن يدهشه كثيراً أن يمد الله العالم بالسلام وما يتبعه من رخاء".
ونشرت مجلة بلجيكية سلسلة مقالات تحت عنوان "سيد جزيرة العرب"قالت في إحداها: "الملك عبد العزيز، مسلم ورع اتصل عن طريق الزواج بجميع الأسر النبيلة وربط أواصر صداقته مع القبائل… وهو يتحلى بصفات السياسي المحنك استطاع بدهائه العربي أن يتغلب حتى على بريطانيا، وأن يصبح الآن أبرز شخصية من شخصيات العالم الشرقي، وأصبح محط أنظار العالم الإسلامي وموضع مجاملة الدول الغربية" [49] .
وفي برقية لولي عهده ابنه الملك سعود يقول: "تفهم أننا نحن والناس جميعاً ما نعز أحداً ولا نذل أحداً وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره (عياذاً بالله) وقع وهلك.." [50] .
العنصر الرابع: تقوى الله، والخوف منه، تلك الصفات التي تعلو بالإنسان إلى قمم الطهر والنقاء
تتجلى هذه الصفات في شخص الملك عبد العزيز في أجمل الصور، ومن أبرز ما يوضح ذلك برنامجه اليومي.
بقول الزركلي وهو يتحدث عن برنامج الملك عبد العزيز رحمه الله اليومي:
يستيقظ قبل الفجر بنحو ساعة، فيقرأ سوراً من القرآن الكريم، ويتعبد ويتهجد، وكثيراً ما يسمع له نشيج، ويستمر إلى أن يؤذن الفجر فيصلي الصبح مع الجماعة.
ثم يسبح ويقرأ ورد الصباح.
ثم يدخل فيضطجع قليلاً، وينهض فيغتسل، ويلبس ثيابه ويفطر.
ثم يخرج إلى المجلس الخاص فتعرض عليه مهام الحكومة في فترة غير طويلة يأذن بعدها بالمقابلات الخاصة لكبار الزوار.(40/56)
ثم ينتقل إلى المجلس العام حيث يدخل كل من يريد مقابلته ويمكث نحو ساعة فإذا اقترب وقت الظهر نهض للغداء، ومنه إلى القصر فيستريح قليلاً ثم يصلي الظهر مع الجماعة ويعود إلى مجلسه الخاص فيعرض عليه ما تجدد من الشئون العامة إلى صلاة العصر، ويجلس بعدها لإخوانه وأولاده، وأقاربه، وكبار الموظفين.
ثم يخرج بسيارته إلى ظاهر المدينة للرياضة، ويعود بعد صلاة المغرب.
وبعد العشاء يجلس في مجلس شبه عام، وهناك يحضر القارئ فيتلو فصولاً من كتب مختلفة، وبعد قليل يدخل قارئ الإذاعة العربية فيتلوا ما التقط من محطات الإذاعة الشرقية من متنوع الأخبار، ويأتي بعده قارئ الإذاعات الأجنبية، ويتكرر قراء الإذاعات في الضحى، وبعد العصر، والهزيع الأول من الليل في نحو العاشرة زوالي فينفض المجلس بنهوض الملك عائداً إلى داخل القصر [51] .
وتتحدث مجلة "لايف"الأمريكية عن برنامجه أيضا فتقول: "ويقضي الملك معظم أوقاته في تصريف شؤون المملكة، فهو بعد تلاوة ما تيسر من القرآن مدة ساعة قبل الفجر ينهض للصلاة ثم يستحم ويتعطر بعطر الورد.. ويذهب بعد الإفطار إلى البلاط حيث يتقدم وزراؤه واحداً بعد واحد لإحاطته علماً بما حدث منذ اليوم السابق وتحوي هذه المحادثات كل كبيرة وصغيرة.. وفي البلاط الآن ثلاثة تراجم يتلقون الأنباء الخارجية ويترجمونها للملك في أوقات منظمة.. [52] .
ويتحدث "فلبي"عن جانب من برنامج الملك عبد العزيز اليومي فيقول "إن عبد العزيز لم يكن يستطيع أن يختم القرآن أكثر من 4 مرات في رمضان كل سنة بسبب مشاغل الدولة؟ وفي رمضان ينام ساعة بعد الفجر، وساعتين ونصف بعد الضحى، وساعة بعد صلاة العصر وثلاث ساعات على الأكثر في الليل، وقد عود نفسه طوال حياته على نوم ساعات قليلة تقسم على فترات" [53] .(40/57)
لقد جاء الدين الإسلامي بالتأكيد على قيمة الوقت، وقرر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة ووعي ذلك المتقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ وجنى المسلمون أفضل الثمار يوم كان للوقت أهميته في حياتهم، ويوم كانوا يحاسبون أنفسهم على اليسير من أوقاتهم [54] . وكان للملك عبد العزيز في ذلك أروع الأمثلة كما تقدم وحتى في سفره الذي هو بالتأكيد في ذلك الزمن محل النصب والعناء كان يستثمر وقته بشكل لم يعهد له مثيل في عصره.
يقول الريحاني: "… إذا ما طال الليل وملّ الحادي سمعنا صوت السلطان ينادي العجيري.. فيحث الراوية راحلته، وبعد أن يدنوا من عبد العزيز.. ماذا يبغي الإمام فصلاً في مكارم الأخلاق؟ فصلاً في الشجاعة والإقدام؟ فصلاً في البر والتقوى؟ فصلاً من نوادر الملوك؟..
وفي ساعة الإدلاج.. نسمع الصوت ينادي العجيري فيدنو الراوية من عظمة السلطان ويطفق يرتل طائفة من آيات الذكر الحكيم ترتيلاً جميلاً أنيقا "تكاد تعد منه حروفه"ثم يؤذن المؤذن صلاة الفجر.
وبعد الصلاة والقهوة يستأنف الركب السير فينادي السلطان: أين الشيخ، فيلبيه أحد العلماء ويشرع يتلو شيئاً من القرآن، ثم بعد الضحى يدعوه ثانية أو يدعو غيره من العلماء، قارئ الرحلة مثلاً فيسلم هذا قياد راحلته إلى خادم يقودها، ويتناول من حقيبته السيرة النبوية، أو صحيح مسلم، أو تاريخ ابن الأثير، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيطفق يقرأ ساعة أو ساعتين بصوت عال يسمعه المتقدمون في الموكب والمتأخرون [55] .
منهج حياة لا يطيقه إلا الكبار عقيدة وسلوكاً وأنيّ - بعد هذا - لقوةٍ أن تخترق من هذا منهجه أو أن تنال منه شيئاً.(40/58)
يقول عوني عبد الهادي 1936م: "شيئان هائلان في الجزيرة: الصحراء، وابن سعود. ابن سعود عبارة عن عالَم في رجل ملمُ كل الإلمام بدخائل ملكه مؤمن متدين إلى حد عظيم، قالوا: إن الذي يصغي إليه وهو يقرأ كتاب الله في الليل لا يملك نفسه عن البكاء".
ويقول العقاد: "إن ابن سعود، من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسِّمون فلا يحارون في أسباب زعامتهم ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا لماذا كان هؤلاء زعماء..؟ لأن الإيمان باستحقاق هؤلاء المنزلة الزعامة في أقوامهم أسهل كثيراً من الشك في ذلك الاستحقاق [56] .
واقتُرح على الملك عبد العزيز رحمه الله تدمير إحدى المدن، فكان رده كالتالي: "… ولكن ما هو بخاف أن هدمها مشكلُ: أولاً: من طرف الله وخوفاً منه تعالى في الأمور التي تتجاوز الحد…"الخ.
أورد التويجري هذا الرد الورع وعلق عليه بقوله: ".. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن رده… كان جامعا لمكارم الأخلاق، كافيا أن يكون تاريخ حياته، وعنوان شخصيته العظيمة، والمدخل إلى دراستها [57] ، فرحم الله الملك عبد العزيز، الرد كان جليلاً وعظيماً تمثلت فيه تقواه فخوف الله كان مالكاً عليه كل تصرفاته، في غضبه ورضاه، في هزيمته وانتصاره" [58] .
ويصفه د."فون ويزل"الذي زار جلالته عام 1345هـ 1926م فيقول: "… وفي ابن سعود ميزة أخرى وهي أنه كريم وصادق، وقد حادثته مرتين في شؤون مختلفة كان بعضها دقيقاً جداً فلم ألحظ قط أنه يلبس الباطل ثوب الحق.. نعم.. كان "سياسياً"أحياناً في أجوبته - فلا يقول كل مايعرفه - ولكنه لم يتلفظ بكلمة واحدة غير صادقة.. والظاهر أن هذا شأنه مع الجميع فإني لما قابلت القناصل الأجانب في جدة قالوا لي "إذا قال لك ابن سعود شيئاً فثق أنه يقول لك الحقيقة التي لا تشوبها شائبة" [59] .(40/59)
نهج فريد في القيم والأخلاق، العالم اليوم في أمس الحاجة إليه وقد ابتلي بسياسات تقوم في مجملها في التعامل السياسي الدولي على الغدر والغش والخيانة وقد أحس بعض مفكري تلك السياسات وأبناء تلك الحضارات بعظمة ما يمثله النهج الإسلامي - والذي كان النهج الذي سار عليه الملك عبد العزيز - فأشادوا به وهو نهج كان ولا يزال يفرض نفسه في مجال القيم والأخلاق على الأمم والشعوب فلعل الله ينقذ البشرية من وهدتها بالأوبة إلى دين الله.
ويقول الأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية في مقال له بعد وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله: "نشأ مطارداً في أرض أبائه وأجداده فعلت همته على مصائب الدهر، فصارع خصومه، واعتمد على الله، ثم على خلق قويم ونفس سمحة وعزة في دهاء، وشدة في حلم ورحمة، فجمع جزيرة العرب التي لم تجتمع إلا فترات قصيرة بعد ردتها أيام أبي بكر رضي الله عنه، وأمّنها وتربع فيها، وليس في يده إلا سيفه وكتاب الله عدته، وقد عرفته منذ قرابة ثلاثين سنة، هو، هو. الرجل الذي يملأ سمع الدنيا وبصرها.
كان متعدد الجوانب كامل الرجولة، لا أعرف أن أحداً التقى به من خصومه أو مواليه إلا أثر فيه بشخصيته التي لم يجد التاريخ إلا شذوذاً بمثلها.
عرفته وهو لا يملك من المال لإدارة هذا الملك الواسع إلا الكفاف، وعرفته والدنيا تفيض بين يديه خيراً وبركة - فلم يكن إلا عبد العزيز ابن سعود.-. وُلد سيداً ومات سيداً.
يعطي كل ما يملك من القليل، ويعطي كل ما بيده من الكثير، لا يعرف المن والأذى كان رجلاً، إذا أخذت الأمور على طبائعها فإنه ليس إلا شيخاً كبيراً في قوم من البدو، بلاده ومن فيها تعيش في القرون الوسطى، ولكنه بشخصه وبما أودع فيه من مهابة واستقامة وروح شعاعة، استطاع أن يلفت أنظار الدنيا كلها إلى شخصه ثم إلى وطنه ثم إلى العرب كافة.(40/60)
لم يكن يملك جيشاً ولا مالاً ولا سلطاناً يساوي شيئاً مما كان لشخصه في النفوس في العالم الجديد والقديم، فهو بهذا الاعتبار عربي لم تعرف الجزيرة منذ أيام عمر رضي الله عنه له مثيلاً وسيبقى خالداً" [60] .
شهادة حق من رجل كفؤ تؤكد أيضا أن سر عظمة الملك عبد العزيز في أخلاقه وقيمه الرفيعة.
وفي كلمة له ألقاها عام 1348هـ 1930م في مكة يقول: "… وقد جعل الله الفخار لأي كان بالتقوى لا بغيرها، فلم يكن في الإسلام تفاضل بين العربي وغير العربي إلا بها وفخار العرب، وعزهم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والكريم عند الله هو التقي الورع {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [61] وقد أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير الكتب فأمرنا بهذا الكتاب المبين وبرسوله، وهذا خير فخار لنا" [62] .
وفي خطبة له في سنة 1350هـ 1931م أمام المؤتمر الوطني يقول: "إن الناس ليس لهم حياة إلا بعناية الله وتوفيقه، وهم غير معذورين في تركهم الاستمساك بما أمر الله به أوفي ارتكاب ما نهي عنه: قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [63] [64] .
وفي عام 1351هـ - 1932م استقبل كبار رجالات الدولة والشخصيات والأعيان وألقى كلمة فيهم جاء فيها: "..إني أعتمد في جميع أعمالي على الله وحده لا شريك له أعتمد عليه في السر والعلانية والظاهر والباطن، وإن الله سهل طريقنا لاعتمادنا عليه وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي فذلك فضل من الله، وكل عمل لا يتم إلا بالإخلاص فالنصيحة للمسلمين واجبة وقد قيل "الدِّين النصيحة"ومن عمل ذلك وجاهد فيه فقد أدى ما عليه [65] ".(40/61)
ويقول في خطاب له عام 1352هـ - 1933م أمام كبار الحجاج: "أنا لا أبرئ نفسي فذنوبي كثيرة، أرجو من الله الرحمة والغفران، وإنما غاية ما أرجوه أن أكون صادقاً في القول، والعمل، وفي الباطن والظاهر، وأنا وإن كنت ملكاً ولكنني أوقفت نفسي وعملي على ثلاث مسائل:
1 - أنني أعمل ما فيه الخير والصلاح لديني إن شاء الله.
2 - ليس لي رغبة في معاداة أحد من المسلمين صغيراً أو كبيراً.
3 - أنا لا أحب الاعتداء على أيٍّ كان، وجل غايتي في كل وقت الدفاع عن ديني وشرفي وبلادي، وأشهد الله في هذا الشهر المبارك على أنني أتمنى وأسعى للائتلاف والتصافي في كل وقت وآن" [66] .
وفي كلمة له عام 1356هـ - 1937م يقول: "إن الإسلام ملك علينا قلوبنا وكل جوارحنا، ونسأل الله أن يميتنا على الإسلام، ويحفظنا بالإسلام، ويحفظ بنا وبالمسلمين الإسلام" [67] .
ومقومات الإنسان عند الملك عبد العزيز رحمه الله: الدين، والمروءة، والشرف يقول: وإذا ذهبت واحدة من هذه سلبته معنى الإنسانية [68] .
وله رحمه الله أذكار عجيبة [69] منتقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك كان لسانه يلهج بها في أوقات مناجاة ربه يقول الزركلي: "أخبرني أحد ضباط القصر الملكي. قال: رأيت الملك عبد العزيز في الهزيع الأخير من الليل عند صلاة الفجر يتمسك بأستار الكعبة ويدعو قائلاً: "اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي وإن كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي" [70] .
ويبرق لولي عهده الملك سعود رحمه الله برقية جاء فيها: "تفهم أننا نحن والناس جميعاً ما نعز أحداً وإنما المعز، والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا ومن اغتر بغيره - عياذاً بالله - وقع وهلك.. ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:(40/62)
أولاً: نية صالحة وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتاً خاصة لعبادة الله، والتضرع بين يديه في أوقات فراغك. تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلاّ العمل الخفي الذي بين المرء وربه.
ثانياً: عليك أن تجدَّ وتجتهد في النَّظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سراً وعلانية والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً وينبغي أن لا تأخذك في الله لومة لائم.
ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة، وفي أمر أسرتك خاصة اجعل كبيرهم والداً ومتوسطهم أخاً، وصغيرهم ولداً، وهنْ نفسك لرضاهم وامحُ زلتهم وأقل عثرتهم، وانصح لهم واقض لوازمهم بقدر إمكانك فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير [71] .
هذا قليل من كثير من أدلة تقوى الملك عبد العزيز رحمه الله وخوفه من ربه ذلك السلاح العظيم والحصن الحصين الذي احتمى به الملك عبد العزيز من شرور أعدائه ومن خطل القول والفعل. وكان من أعظم أسباب النصر والتمكين له. قل المال عليه وهو يحاصر جُدَّة وضاقت صدور الرجال، فنظر الملك عبد العزيز إلى من حوله وقال: المؤن متوفرة في نجد.. من شاء منكم الرحيل فليرحل، أما أنا فمقيم والفرج من عند الله.(40/63)
وجاء الفرج فقبل أن يُمسي ذلك اليوم وصلت قافلة يتقدمها إسماعيل بن مبيريك أمير رابغ.. جاء بالطاعة وبعشرين بعيراً تحمل التمر، والسمن، والبر، ولما كان في حصار جدة جاءه الخبر أن طائرة جُهزت بمدفع رشاش لتقصف معسكر الملك عبد العزيز وليس فيه يومئذ ما يعصم من غارات الجو، لا مدافع مضادة للطائرات ولا مخابئ فقال: يكفينا الله شرها؟
وحلقت الطائرة فوق مخيم الملك عبد العزيز قبيل الظهر، وعلى ظهرها شاب يحمل قنبلتين يدويتين وكان قال في مطار جده - كما روى من تمنى له النجاح قبل اقلاع الطائرة -: "سألقيهما على رأس عبد العزيز ولكن الله كفى شرها فانفجرت قنبلة في الطائرة واشتعلت النار في الجو وهوت الطائرة وكفى الله المؤمنين شرها وأصبحت ومن فيها كومة من الرماد أمام خيمة الملك عبد العزيز" [72] .
تقوى الله استجلب بها عبد العزيز النصر والتمكين، واحتمى بها من الوقوع في خطل القول والفعل.
يقول الزركلي: "ليس في تاريخ عبد العزيز حادث واحد يدل على أنه ابتدأ إنساناً بشر أو عداء" [73] .
ويوم كان بناة وحماة!! ما عرف "بالقومية العربية"، والمرتزقة من مقاتليها ينفذون خطط لورنس وقادته، ويسفكون الدماء المسلمة المغلوبة على أمرها من عملاء الإنجليز في الجانب الآخر.
في هذا الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز يراقب الله في تحركاته وهو يتصدى لبناء أمة من جديد بناءً عقدياً وعملياً، ماذا فعل يوم اضطر إلى الاصطدام بجنود الدولة العثمانية؟
تورط سامي باشا الفاروقي قائد الجيش التركي في القصيم فخيره الملك عبد العزيز بين أمرين:(40/64)
إما أن يرحل بجيشه خلال خمسة أيام إلى السر… وإما أن يتولى هو - ابن سعود - ترحيل الجيش… ورضي الباشا بالأمر الثاني، فضمن ابن سعود سلامة الفريقين… ورحل فريق العراق على ركائب ابن سعود أمنين شاكرين، وبعد شهرين أرسل السلطان عبد الحميد يشكر "الأمير الخطير، والزعيم الكبير عبد العزيز باشا سعود"على معاملته عساكر الدولة تلك المعاملة الشريفة، ويسأله أن يرسل وفداً من رجاله إلى الأستانه، فأرسل ثلاثة نزلوا ضيوفاً على الحضرة الشاهانية، ومنحوا ألقاب "الباشوية"والنياشين [74] .
وفي عام 1331هـ - 1913م قرر الملك عبد العزيز أن يسترد الأحساء وأن يهاجم الكوت (القلعة) وتقدم بستمائة من رجاله في الهزيع الأول من الليل وكانت وصيته لجنده "لا تدخلوا البيوت ولا تقتربوا من النساء" وعند الفجر وقد أقبل الناس على عبد العزيز مرحبين ولجأ الجند إلى الحصون أرسل إليهم الملك عبد العزيز أن يسلموا فيؤمنهم ويرحلهم إلى بلادهم، وقبل القائد والمتصرف وسلمت الحامية وكانت 1200 جندي فأذن لهم عبد العزيز بحمل سلاحهم.. وقال لا ننزع من الجندي العثماني سلاحه… وأمر بالركائب فرحلهم وعيالهم إلى العقير، وأرسل معهم أحمد بن ثنيان يخفرهم ويؤمن طريقهم [75] .
موقف وسلوك أملته القيم والأخلاق التي كان تربى الملك عبد العزيز عليها وإنك لترى العجب حين تقارن بين مواقف الملك عبد العزيز وتلك المواقف التي حصلت من غيره في البلاد العربية ممن يزعم الإسلام والله المستعان.
وتتكرر المواقف التي يظهر فيه تقى الملك عبد العزيز وخوفه من الله فبعد أسبوع من معركة تربه وصل الملك عبد العزيز إلى الموقع ولم يعلم بالمعركة إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام من وقوعها فلما رأى جثث القتلى كالتلال ترقرق الدمع في عينيه وبكاهم [76] .(40/65)
ويوم لقي ربه رحمه الله لم يخلف سوى "300" جنيه ذهباً وزعت صدقة عليه [77] ولكنه خلف ملكاً عظيماً وسمعة سجلها التاريخ بأحرف من نور وسيلقى أجره العظيم عند ربه إن شاء الله جنات ونعيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحج آية (40 41) .
[2] سورة النور آية (55) .
[3] صحيح الجامع رقم 2934، وقد صححه الألباني وخرّجه بتوسع في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم1761.
[4] سورة ق آية (36 37) .
[5] سورة يوسف آية (111) .
[6] سورة الأعراف آية (176) .
[7] انظر التفسير الإسلامي للتاريخ؛ وأصول تاريخ العرب الإسلامي؛ والمسلمون وكتابة التاريخ دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ.(40/66)
[8] انظر "شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، والوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، ومن مذكرات تركي بن محمد الماضي، وجزيرة العرب في القرن العشرين، وتاريخ نجد، وملوك العرب، وتاريخ المملكة العربية السعودية ج2، وأضواء على تاريخ الجزيرة العربية الحديث، والسعوديون والحل الإسلامي، وتاريخ الدولة العلية العثمانية، وفكرة القومية العربية على ضوء الإسلام، والدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، والسياسة والإستراتيجية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسياسة بريطانيا في الخليج العربي، والمسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية، ومجلة الدارة العدد "1" السنة"9"سنة 1403هـ ص96 والعدد "2"السنة "1"سنة 1405هـ ص261، إضافة إلى المصادر الوارد ذكرها في هذا البحث وأتمنى على "دارة الملك عبد العزيز"أن تعنى بأقوال الملك عبد العزيز الملفوظة والمكتوبة بجمعها في مؤلف واحد وسيكون لذلك أكبر الأثر في تسهيل مهمة الدارسين للملك عبد العزيز وقد قام صاحب "المصحف والسيف"بجهد مشكور في هذا المجال ولكن المؤمل أن يتم ذلك بشكل مستوعب لكل أقوال الملك عبد العزيز رحمه الله".
[9] يومان لا يتشابهان 183، 18.
[10] عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي ص15.
[11] الوجيز 25.
[12] الوجيز 17.
[13] الوجيز 26 27.
[14] المصحف والسيف (73 77) .
[15] انظر: الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الإقليمية.
[16] المصحف والسيف (82) .
[17] المصحف والسيف (84 85) .
[18] انظر (اليهود وراء كل جريمة) .
[19] المصحف والسيف (111) .
[20] المصحف والسيف (128) .
[21] المصحف والسيف (151) .
[22] الوجيز (56 58) .
[23] السعوديون والحل الإسلامي (380 383) .
[24] الوجيز 334.
[25] المصحف والسيف (40) .(40/67)
[26] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز 3/985.
[27] المصحف والسيف (71) .
[28] سورة الحجر آية (9) .
[29] المصحف والسيف (75) .
[30] المصحف والسيف (84) وانظر لترى مصداق ما أشار إليه الملك عبد العزيز رحمه الله "الدبلوماسية والمكيافيلية في العلاقات العربية الأمريكية".
[31] المصحف والسيف (92 93) وأرى لزاماً لمزيد الإطلاع وادراك أبعاد أهمية تحصين الأمة بالدين وغرس العزة بحضارة الإسلام في نفوس أفرادها قراءة، "أحجار على رقعة الشطرنج"، و"اليهود وراء كل جريمة"، "الإسلام والحضارة الغربية".
[32] المصحف والسيف (227) ، شبه الجزيرة 2/806.
[33] المصحف والسيف (187 189) .
[34] المصحف والسيف (209) .
[35] لمزيد اطلاع على الخطر اليهودي اقرأ "الماسونية عقدة المولد، وعار النهاية"؛ و"مجتمع الكراهية، والأخوة الزائفة"، "بروتوكلات حكماء صهيون"، "حكومة العالم الخفية""الماسونية في العراء"، "اسرائيل عام 2000".
[36] المصحف والسيف "212".
[37] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/1051) .
[38] المصحف والسيف (55) .
[39] المصحف والسيف (61 62) .
[40] المصحف والسيف (66 68) .
[41] المصحف والسيف (71) .
[42] المصحف والسيف (75) .
[43] سورة هود آية 88.
[44] المصحف والسيف (79 82) .
[45] المصحف والسيف (88) .
[46] المصحف والسيف (113) .
[47] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز 3/914،918.
[48] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز 3/983.
[49] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/1131 - 1133) .
[50] الوجيز (158) .
[51] الوجيز (181) .
[52] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/1130) .
[53] السعوديون والحل الإسلام (61) .(40/68)
[54] انظر "الوقت في حياة المسلم"، و"سوانح وتأملات في قيمة الزمن".
[55] تاريخ نجد الحديث (361 363) .
[56] الوجيز (196) .
[57] سرني الوقوف على هذا النص للشيخ التويجري، وهو من توافق الخواطر فإن فكرة هذا البحث مصدرها ما أشار إليه الشيخ، ومن عرف سيرة الملك عبد العزيز حق المعرفة علم أن سر عظمته هو القيم التي تحلى بها فهي ولاشك جديرة بأن تكون المدخل إلى دراسة شخصيته العظيمة.
[58] لسراة الليل هتف الصباح (651 653) .
[59] المصحف والسيف (40) .
[60] شبه الجزيرة (3/10651067) .
[61] سورة الحجرات آية (13) .
[62] المصحف والسيف (61) .
[63] سورة الحج آية (41) .
[64] المصحف والسيف (67) .
[65] المصحف والسيف (79) .
[66] المصحف والسيف (88) .
[67] المصحف والسيف (111) .
[68] الوجيز (48) .
[69] للملك عبد العزيز رحمه الله ورد مطبوع بعنوان "الورد المصطفى المختار من كلام الله تعالى، وكلام سيد الأبرار"أتمنى أن يحقق وتُخرّج نصوصه بشكل علمي فهو أهل لذلك، فقد اشتمل على أذكار وأدعية تعتبر من أعظم غذاء القلوب.
[70] الوجيز (334) .
[71] الوجيز (158 159) .
[72] الوجيز (169 170) .
[73] الوجيز (79) .
[74] الوجيز (45) .
[75] الوجيز (57،58) .
[76] الوجيز (82) .
[77] شبه الجزيرة 3/920.(40/69)
تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله
العنصر الخامس: التجرد العظيم تجاه إغراءات الجاه والسلطان
في كلمة ألقاها بمكة عام 1356 هـ يقول: إن الحياة المجردة عن الدين، والزاخرة بأنواع القوة ليست حياة، كذلك عظمة الملك وجبروته ليست بالحياة، وإنما الحياة الدين والتمسك به وإقامة حدود الله، فالحياة التي تسير على أساس الدين هي القوة، أما الحياة التي تسير على غير الدين فهي كالمطر الذي يقع على السبخة فلا يجدي ولا يثمر [1] .
ويقول في الكلمة التي ألقاها جلالته في حفل تكريم كبار الحجاج 5/12/1351هـ: "يقولون إنني أطلب أن أصير خليفة على المسلمين. أنا ما ادعيت هذا ولا طالبت به، لأن على الخليفة واجباً هو تنفيذ أوامر الدين على كل فرد من أفراد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فهل هناك من رجل يستطيع أن ينفذ ذلك على المسلمين في هذه الأيام" [2] .
ويقول عنه حفيده عبد الله الفيصل: "حارب الملك عبد العزيز فكرة تلقيبه بخليفة المسلمين، وهو أجدر بها من كثير ممن سعوا إليها. ولم يغره المال، وبهارج الحياة ولم يستطع ما هيأه الله على يديه من خيرات الدنيا أن يغير ما في نفسه: أو على الأقل أن يغير ملبسه أو مأكله، من بدايته إلى أن قبض الله روحه، الملك عبد العزيز لم يخلف قصراً ولا مزرعة ولا ثروة ولم يرث أحد من أبنائه شيئا" [3] .(40/70)
وتتحدث عنه مجلة "لايف الأمريكية"فتقول: "كان الملك عبد العزيز بن سعود في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج على عادته كل سنة، وفجأة انفجرت إحدى عجلات سيارته "البكار" فجلس على الرمال ريثما يتم إصلاحها، ومرَّ به راع يركب جملاً، وسأله عما إذا كان الملك قد مرَّ أمامه فقال الملك: ولماذا تريده؟ قال سمعت أنه في طريقه إلى مكة، قلت لعله يمنحني شيئاً من النقود أستطيع أنا كذلك أن أحج بها ففتح الملك حقيبة الجنيهات الذهبية التي يحتفظ بها دائماً إلى جواره، وملأ يده بقطع منها وقدمها إلى الراعي، فذهل الأخير وحدّق في الجنيهات الذهبية ثم في الملك وقال شكراً لك يا عبد العزيز لم أميز وجهك ولكني عرفتك من كرمك، وليست هذه المقابلة بالشيء الجديد على الملك ولا على رعيته فإن بادية الجزيرة العربية لما كانت خلواً من المطابع والسينما فقد ظل وجه ابن سعود غير معروف عند عامة الشعب.
ومع أن الأعرابي دعا الملك باسمه الأول فإنه لم يتعد في ذلك التقاليد فابن سعود ليس في حاجة إلى مظاهر التشريفات، والرسميات التي تتبع في بعض الممالك الدستورية حيث تخفى السيطرة الحقيقة لأنه وهو العاهل الكبير يجمع بين العمل كرئيس وحاكم عام، ورئيس وزراء، ووزير مالية، ورئيس ديني وقائد عام وهو يسمح للجميع بمقابلته فيستقبل كل يوم عدداً كبيراً من أتباعه في قصره بالرياض" [4] .
وفي حديث له موجه لبعض أبناء قطر عربي يقول: "إن التفرق لا ينبغي أن يكون بين العرب فيجب علينا الإتحاد، والتضامن، وإزالة الفوارق بيننا، ويجب أن نعدل ونحكم بالعدل يقتضي أن نترك الأهواء، ولا نهتم بالكراسي الكراسي أذهبتكم أيها الناس فما معنى الحرص على الكرسي وهو مزعزع" [5] .(40/71)
وفي كلمته التي ألقاها في المؤتمر الإسلامي المنعقد في مكة في 20/11/1344هـ يقول: "إننا آل سعود لسنا ملوكاً مستبدين، ولا حكاماً شخصيين بل نحن في بلادنا مقيدون بأحكام الشرع ورأي أهل الحل والعقد" [6] .
وفي القصر الملكي بمكة في ذي الحجة 1347هـ ألقى كلمة جاء فيها: "… والله إنني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى التوحيد ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك وليتفقوا فإنني أسير وقتئذ معهم لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير بل بصفة خادم أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي والله على ما أقول شهيد وهو خير الشاهدين" [7] .
وفي حفل تكريم أقيم على شرف جلالته بمكة 1348هـ ألقى كلمة مما جاء فيها قوله: "لست ممن يفخرون بألقاب الملك ولا بأبهته، ولست ممن يولعون بالألقاب ويركضون وراءها وإنما نحن نفتخر بالدين الإسلامي.." [8]
ويقول أحمد الجابر الصباح 1926م عن جلالة الملك عبد العزيز: "من نعم الله على الجزيرة أن يحكم فيها ملك عظيم الشأن كالملك عبد العزيز، عرفته وصحبته من خمسة وثلاثين عاماً قبل أن يلي الحكم، وبعد أن وليه فما غرَّه الحكم ولا فتنة التاج والسلطان وما برح الفارس الشجاع، والقاضي العادل، والسياسي المحنك" [9] .
ويقول عن نفسه رحمه الله: "لست ملكاً بمشيئة أجنبية بل أنا ملك بمشيئة الله ثم بمشيئة العرب الذين اختاروني وبايعوني، على أنها ألقاب وأسماء فما أنا إلا عبد العزيز قال العرب إنني ملك فرضيت قولهم وشكرت ثقتهم، وفي اليوم الذي لا يريدونني زعيماً لهم أعود إلى الصف وأحارب معهم بسيفي، كأصغر واحد فيهم دون أن ينال نفسي شيء من الغضاضة" [10] .
ويتعلق في الهزيع الأخير من الليل عند صلاة الفجر بأستار الكعبة داعياً بقوله: "اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي، وإن كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي".(40/72)
ثقة بالنفس، وسلامة في التوجه، وإخلاص لله أثمر هذا الدعاء العظيم وحقق إنجازا رائعاً. نسأل الله أن يديم سير القافلة على ما يرضيه.
العنصر السادس: الشُّعور الدَّائم بالمسؤوليَّة تجاه الدَّين، والأمَّة، والوطن
إن من السمات البارزة للوالي المسلم هو شعوره بالمسؤلية الخطيرة الملقاة على عاتقه، وأن تلك مسؤولية تكليف لا تشريف فهو مسؤول مسؤولية كاملة أمام الله ثم أمام التاريخ عن دينه وأمته ووطنه، وقد ضرب الخلفاء الراشدون، والولاة المصلحون من المسلمين أروع الأمثلة في تحمل مسؤولياتهم على خير وجه، والملك عبد العزيز رحمه الله ليس بدعاً في هذا فهو خير خلف يقتفي أثر سلف صالح من الخلفاء، والملوك، والولاة المسلمين، ومن أقربهم إليه أباؤه وأجداده من الأسرة السعودية.
يقول في خطبة له رحمه الله: "يعلم الله أن كل جارحة من جوارح الشعب تؤلمني وكل أذى يمسها يؤذيني وكذلك الشعب يتألم إذا أصابني شيء، ولكن المصلحة العامة تضطرني لأن أقضي على من لا يصغي للنصح والإرشاد، وبأن أتجرع ألم ذلك حفظاً لسلامة المجموع إنني أتألم جد الألم إذا رأيت بعض الأشخاص يشذون عن الطريق السوي فيصغون لوساوس الشيطان ومما لاشك فيه أن المصلحة العامة هي فوق كل مصلحة ولذلك فإن مصلحة المسلمين ترخص الأنفس في بعض الأوقات فالله أسأل أن يهدي المسلمين إلى سواء السبيل، وأن يجعل كلمته هي العليا" [11] .
ويقول في كلمة له أيضاً: إن الله أمرنا أن ننظر في كل أمر من أمورنا، وألا ندخر جهداً في المحافظة على كياننا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [12] [13] .
وفي الجلسة الافتتاحية لمجلس الشورى في دورة جديدة سنة1349هـ قال:(40/73)
"ولا أحتاج في هذا الموقف أن أذكركم بأن هذا البلد المقدس يتطلب النظر فيما يحفظ حقوق أهله وما يؤمن الراحة لحجاج بيت الله الحرام، ولذلك فإنكم تتحملون مسؤولية عظيمة إزاء ما يعرض عليكم من النظم والمشاريع سواء كانت تتعلق بالبلاد أو بوفود الحجاج من حيث اتخاذ النظم التي تحفظ راحتهم واطمئنانهم في هذا البلد المقدس وإني أسأل الله لكم التوفيق في سائر أعمالكم" [14] .
ومما هم الملك عبد العزيز رحمه الله كثيراً شأن المقدسات الإسلامية فعمل على تطهيرها وحمايتها وتأمين الطريق إليها يقول في كلمة له موجهة إلى وفود المؤتمر الإسلامي المنعقد بمكة سنة 1344هـ: "وقد تولت أمر الحجاز دول كثيرة من خلفائها وسلاطينها مَنْ عنُوا ضرباً من العناية ببعض شؤونه، ومنهم من أراد أن يحسن فأساء بجهله ومنهم من لم يبال بأمره البتة فتركوا الأمراء المتوكلين لإدارته بالفعل. فلما بلغ السيل الزبى، وثبت بالتشاور بين أهل الحل والعقد عندنا أنه يجب علينا شرعاً إنقاذ عهد الإسلام عزمنا على ذلك، وتوكلنا على الله في تنفيذه، وبذلنا أموالنا وأنفسنا في سبيله فأيدنا الله بنصره وطهرنا البلاد المقدسة كما عاهدنا الله ووعدنا المسلمين" [15] . هذا كلام صاحب الشأن الملك عبد العزيز وهو كلام مقتضب شأن الملك عبد العزيز رحمه الله في جعل الفعل أعظم وأوسع من القول - وهي دلالة واضحة على سلامة المنهج وصدق النية - فلنسمع لمفكر واسع الإطلاع صادق اللسان يهتم بأمر الإسلام والمسلمين وهو يتحدث عن هذا الإنجاز الذي تم في أرض الحجاز بصفة خاصة وقد تم في الجزيرة بصفة عامة ولله الحمد.(40/74)
يقول الأمير شكيب أرسلان المتوفي سنة 1946م: "وحقيقة الحال هي أن تلك الفوضى لم تنشأ إلا عن إهمال العمل بقواعد الشرع الإسلامي، وعن إرخاء العنان لبعض الأمراء الذين كانوا يلون أمر الحجاز مدلين على الناس بما لهم من النسب النبوي الشريف الذي كان يحول بين سلاطين الإسلام وتشديد الوطأة عليهم، أو إرهاف الحد فيهم وقد كان هذا من خطل الرأي ومن التقصير في جانب الشرع فإن الشريعة الإسلامية لا تعرف نسباً ولا حسباً {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [16] .
وإنَّ الله تعالى قد جعل التقوى فوق كل المناقب والمحاسن وقرر أن من قصر به عمله لم ينهض به نسبه..
ولهذا كان سلاطين الإسلام من وقت لآخر ينذرون من أمراء الحرمين من كانوا يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، ولقد ذهب مثلاً ذلك الكتاب الذي كتبه أحد سلاطين مصر من المماليك إلى أحد أمراء مكة المكرمة وهو الذي يقول فيه: اعلم أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ وقد بلغنا أنك بدلت حرم الأمن الخيفة وأتيت ما يحمر له الوجه وتسود الصحيفة فإن وقفت عند حدك وإلا أغمدنا فيك سيف جدك..
ثم قال أرسلان: إلا أنه قد بقيت مع الأسف أحوال الحجاز غير مستوية وأعراب البادية يسطون على الحجاج وليس لداء معرّتهم علاج وكانت كل من الدولة العثمانية والدولة المصرية ترسل طوابير من الجند النِّظامي مصحوبة بالمدافع وسائر آلات القتال.
لأجل خفارة قوافل الحج، وتؤدي إلى زعماء القبائل الرواتب الوافرة وكل هذا لم يكن يمنع الأعراب، ومن لا يخاف الله… من تخطُّف الحجاج في كل فرصة تلوح لهم.(40/75)
وكثيراً ما كانت قافلة الحج تضطر إلى الرجوع وقد فاتها الحج أو الزيارة بعد أن قصدوا ذلك من مكان سحيق، وتكلفوا بذل الأموال، وتجشموا مشاق الأسفار في البر والبحر، فكانوا يذوبون من الشوق على ما فاتهم، ويتحرقون من الوجد، ويبكون بصيب الدمع، والناس بأجمعهم يحوقلون، ويقولون: "ليس لها من دون الله كاشفة"ذاهبين إلى أن سطو الأعراب هؤلاء داء عضال لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة وقد عمت بهم البلوى وإلى الله المشتكى [17] . وهكذا توالت القرون والحقب والناس على هذا الاعتقاد لا يتزحزحون عنه إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبد العزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة فلم تمض سنة واحدة حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضواري في كل يوم بل في كل ساعة إلى مهد أمان وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عاد ولا غارة حاضر ولا باد، وكأن أولئك الأعراب الذين روعوا الحجيج مدة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحولت إلى حملان فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكة إلى المدينة أو من المدينة إلى مكة أو إلى أي جهة من المملكة العربية السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت، والزمرد ما تجرأ أحد أن يسألها عما معها.
ما من يوم إلا وتحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقط متعددة ويؤتى بضوال فقدها أصحابها في الطرق وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم خدمة للأمن العام.
وإبعاداً للشبهة عنهم، وعن ذويهم فسبحان محول الأحوال ومقلب القلوب والله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشرق ولا في الغرب ولا في أوربا ولا في أمريكا، وقد تمنى المستر كراين الأمريكي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن.(40/76)
وكل من سكن أوربة وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأن الأمنة على الأرواح والأعراض والأموال في البقاع المقدسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتاداً وأشد أطناباً منها في الممالك الأوربية والأمريكية. فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة، ومحا أثر الغارات والثَّارات بين القبائل، وأصبح كل إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل، ويدخل أرض كل قبيلة دون أن يعترضه معترض، أو يسأله إلى أين هو غاد أو رائح، ولو قيل لبشر إن بلاداً كان ذلك شأنها من الفزع والهول وسفك الدماء وقطع الطرق قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان من سالف الأزمان، وأنه يليها ابن سعود فلا تمضي على ولايته لها سنة واحدة حتى يطهرها تطهيراً ويملأها أمناً وطمأنينة لظن السامع أنه يسمع أحلاماً أو خرافات أو اتهم القائل في صحة عقله.
ولكن هذا قد صار حقيقة كلية وقضية واقعية في وقت قصير، وما أوجده إلا همة عالية، وعزيمة صادقة، وإيمان بالله، وثقة بالنفس، وعلم بأن الله تعالى مؤيد من أيده، ناصر من نصره، يحث على العمل، ويكافئ العامل، ويكره اليأس، ويقول لعباده {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [18] .
وقد سرت بشرى الأمان الذي شمل البلاد المقدسة الحجازية فعمت أقطار الإسلام وأثلجت صدور أبنائه وارتفعت عن الحجاز تلك المعرة التي طالما وجم لها المسلمون وذلك بقوة إرادة الملك عبد العزيز بن سعود والتزامه حدود الشرع [19] .
ويقول الملك عبد العزيز رحمه الله أمام المؤتمر الوطني: "إن التقصير واقع وأنا مسؤول عن هذا التقصير ولا أستطيع أن أهمل هذا الأمر، وقد كلفت بالبحث فيه حيناً هيئة الشورى، وحيناً هيئة التحقيق، ولكننا لم نصل إلى نتيجة حاسمة فيجب أن تنظروا في هذه الأمور" [20] .(40/77)
وفي خطابه أمام كبار الحجاج عام 1350هـ يقول: "لقد اجتمعنا اليوم في أفضل البقاع على دين الإسلام، نتذاكر في طاعة الله تعالى، التي لا قوام إلا بها فالملتبس عليه الأمر نفهمه، وصاحب النصيحة يبديها، والمعاند يكفينا الله سوءه ولا يهمنا أمره، وإذا الذي كان بيني وبين الله عامراً فعسى الذي بيني وبين العالمين خراب، ونحن بشر لا نخلد ولا نبقى، وقد مضى صفوة الخلق، ومضى أصحابه بعده ولكن الإنسان يعمل جهده فيما يصلح به الحال ويكشف به الغطاء" [21] .
وفي خطاب له أيضاً يقول: "… ونحن نعاهد الله، ونقسم أمامكم على ذلك أننا لن نتنكب الطريق السوي مهما تحملنا من المتاعب والمشاق، فإن الذي يجمع شملنا، ويوحد بيننا هو أمر صغير في حد ذاته، ولكنه كبير وعظيم، وهو الالتفاف حول كلمة التوحيد، والعمل بما أمر به الله ورسوله [22] .
وفي كلمة له يقول رحمه الله: "أنا لا أحب أن أشق على الناس، ولكن الواجب يقضي بأن أصارحكم.. إننا في أشد الحاجة إلى الاجتماع، والاتصال بكم لتكونوا على علم تام بما عندنا، ونكون على علم تام بما عندكم.. وأود أن يكون هذا الاتصال مباشرة، وفي مجلسي لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا.. إنِّي أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقاً دائماً لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب… لذلك سيكون مجلسي مفتوحاً لحضور من يريد الحضور… وفي حالة غيابي سيكون مجلس نائبنا مفتوحاً لهذه الغاية بدلاً من مجلسنا سواء كان في مكة أو في الطائف وإذا كان في هذا مشقة على الناس إلا أن فيه مصلحة لا تخفى عليكم.
أنا أود الاجتماع بكم دائماً لأكون على اتصال تام بمطالب شعبنا، وهذه غايتي من وراء هذا الاتصال، نسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير لهذا الوطن العزيز" [23] .(40/78)
ويؤكد رحمه الله على الرعية أن ترفع لجلالته أي مظلمة تقع عليها فيعلق على باب المسجد النبوي الشريف الإعلان التالي: من عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن سعود إلى شعب الجزيرة العربية "على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه أن يتقدم إلينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي، وليعلم كل موظف يحاول أن يُثني أحد أفراد الرَّعية عن تقديم شكواه - مهما تكن قيمتها - أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد، لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم. ألا قد بلغت اللهم فاشهد. عبد العزيز" [24] .
ويروي حفيده الأمير عبد الله الفيصل أنه كان في يوم من الأيام بين كبار رجال الدولة من وزراء ومستشارين، وفجأة وجم وبكى بحرقة، وحين سأله أحد الشخصيات الكبيرة عن سبب ذلك قال بعد أن هدأ: "يا فلان أنت لا تعلم ما يبكيني. أنني فكرت في حال هذه الأمة ومصيرها، والله إن أحب ما إليّ أن أُدفن مع أولادي وبقية أسرتي وأنا مطمئن على الأمة في دينها ودمائها وأعراضها وأموالها لم يبكني غير ذلك" [25] .
هكذا تكون النفس العامرة بالإيمان والخوف من الله حين تستشعر مسؤليتها أمام الله سبحانه المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم أمام الأمة والتاريخ وهو موقف تكرر ويتكرر عبر التاريخ الإسلامي من الخلفاء الراشدين والملوك العادلين.(40/79)
ويقول الملك عبد العزيز رحمه الله أمام وفد بلد عربي كان يخضع وقتها للاستعمار: "… لقد قابلت روزفلت وتكلمت معه بشأن سورية، ولبنان، وفلسطين وفاتحني هو بشأن إصلاح بلادي بما تحتاج إليه من تحسين الزراعة ونشر المعارف وإصلاح حال الجيش فقلت له: إنني أحب العمل للبلاد العربية كافة ليس لبلادي خاصة وليس لي مطالب من الأمريكيين سوى سورية، ولبنان، وفلسطين فوعدني بمساعدة العرب..
وختم جلالته الحديث قائلاً: "نحن جنود لخدمة الوطن العربي في كل بقعة من بقاعه، نشأنا على هذا، وسنظل على ذلك حتى ينال العرب استقلالهم جميعاً، أنا لا يهمني ترف الحياة فطالما تركت الغذاء أياماً وأنا أجاهد، والآن لا أزال مستعد أن آكل يوماً وأجوع يوماً لتعيش بلاد العرب جميعاً" [26] هكذا يقول رحمه الله.
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
قوة هائلة واستعداد صادق لصرفها في مرضاة الله ثم في مصلحة المجموع دون إقليمية مقيتة أو عصبية قبلية.
وانظر الإحساس المرهف، وبعد النظر فيما يخافه على الأمة ومقومات قوتها، عرض عليه فيلم تعليمي عن حاملة طائرات أمريكية وعن دورها في الحرب فأعجب جلالته به ولكنه علق عليه قائلاً: "إني أشك في إمكان السماح لشعبي برؤية مثل هذه الأفلام المدهشة لأنها قد تقوي فيهم الميل إلى اللهو، وقد تصرفهم عن ذكر الله وعن واجباتهم الدينية" [27] .
والملفت في الموضوع بعد نظر الملك عبد العزيز رحمه الله في ذلك الوقت المبكر قبل الثورة الإعلامية الحالية والتي تتطور بشكل مذهل، ونحن نجد اليوم وبعد حوالي مئة سنة من قول الملك عبد العزيز رحمه الله هذا دراسات متعددة حول سلبيات وسائل الإعلام وهو ما أشار إليه رحمه الله وخافه.
وانطلاقاً من استشعار الملك عبد العزيز رحمه الله لمسؤوليته العظيمة تجاه الدين، والأمة، والوطن. كانت المواقف الحاسمة التالية في مسائل مصيرية خطيرة.(40/80)
يقول فلبي وهو يتحدث عن أهمية وجود طبيب في الرياض موجهاً حديثه للسلطات البريطانية: "… وبما أنه تقرر في وقت ما أن ممثلاً طبياً من البعثة الأمريكية في الخليج قد يسد تلك الثغرة ولا أقول شيئاً عن النزعة المؤكدة لتوسيع نشاط المبشرين (المنصرين) في جزيرة العرب في جانب سلطات التبشير فإني أرى من الضروري أن أحذّر الحكومة (البريطانية) بأن استخدام موظف طبي من ذلك المصدر لن يكون مقبولاً لدى ابن سعود ورعاياه وأنه يجب أن يبذل كل جهد لعدم تشجيع العمل الطبي في أرضه من قبل الموظفين في البعثة الأمريكية ومن واجب الإنصاف لابن سعود أن أوضح أنه وجه دعوة ودية للدكتور هاريسون أحد أعضاء تلك البعثة لزيارة الرياض لعمل طبي في صيف عام 1917م وأن خطأ ذلك الطبيب نفسه هو الذي أنهى عمله فجأة فلم يكن أبداً من الضروري أن تُغلّف الحبوب والمسحوقات بدعايات مسيحية" [28] .
وفي مناقشات الملك عبد العزيز رحمه الله مع الرئيس الأمريكي "روزفلت"حول قضية فلسطين قال الملك عبد العزيز:"إن هناك جيشاً إسرائيلياً في فلسطين كامل التسليح يريدون به فيما يعتقد محاربة العرب لا محاربة الألمان".
وأوضح الملك عبد العزيز "أن العالم العربي لن يسمح لليهود بأي توسع آخر في فلسطين للتوطن في المستقبل، وأن العرب سيحملون السلاح قبل أن يوافقوا على هذا الأمر وأن دينه يوجب عليه العمل معهم في فلسطين وحولها".
وصرح الملك عبد العزيز بأن العرب واليهود لا يمكن أن يتعاون بعضهم مع بعض لا في فلسطين ولا في أي بلد آخر، واسترعى جلالته الانتباه إلى تهديد حياة العرب، وتفاقم الأزمة الناتجة عن استمرار الهجرة اليهودية، وشراء اليهود الأراضي العربية وزاد على ما تقدم: "إن العرب يختارون الموت على أن يسلموا بلادهم لليهود…" [29](40/81)
وفي نفس المسار يلقن الملك عبد العزيز رحمه الله - انطلاقاً من شعوره بمسئوليته تجاه دينه وأمته ووطنه - أس الغدر والخيانة وسليل مبتاعي الذمم، والنفوس المريضة درساً في العزة والإباء والكرامة أوقفه عند حده، وعرفه قدره وجعله يفر وله ضراط، ذاك هو الدكتور "وايزمن"صاحب المؤامرات، الذي سلك كل السبل القذرة لإقامة الكيان اليهودي في قلب العالم وفي موقع استراتيجي سيظل بؤرة الفساد إلى أن يأذن الله بزواله وهو أمر حاصل لا محالة.
وقد أورد الزركلي رد الملك عبد العزيز رحمه الله على الرئيس الأمريكي في هذا الموضوع ونصه: "وأما ما ذكر فخامته من جهة مقابلتي للدكتور حاييم وايزمن فأحب أن يعلم فخامة الرئيس بأننا نقابل كل من يأتي إلينا من جميع الأديان بكل ترحاب مع القيام بالواجب لهم حسبما يقتضيه مقامهم من الإكرام، أما اليهود بصورة خاصة فلا يخفى على الرئيس ما بيننا وبينهم من عداوة سابقة ولاحقة وهي معلومة ومذكورة في كتبنا التي بين أيدينا ومتأصلة من أول الزمان، فمن هذا يظهر جلياً أننا لا نأمن غدر اليهود، ولا يمكننا البحث معهم أو الوثوق بوعودهم.
أولاً: لأننا نعرف نواياهم نحو العرب والمسلمين.
وثانياً: لأننا لم نتصل بالعرب لنعرف رأيهم.
وكما ذكرنا فيما تقدم إذا رغب فخامته أن تقوم باستمزاجهم واستطلاع رأيهم فنحن نقوم بتحقيق تلك الرغبة حينئذ.(40/82)
"أما الشخص الذي هو الدكتور "وايزمن"فهذا الشخص بيني وبينه عداوة خاصة، وذلك لما قام به نحو شخصي من جرأة مجرمة بتوجيهه إليّ من دون جميع العرب والإسلام تكليفاً دنيئاً لأكون خائناً لديني وبلادي، الأمر الذي يزيد البغض له ولمن ينتسب إليه وهذا التكليف قد حدث في أول سنة من هذه الحرب، إذ أرسل إليّ شخصاً أوربياً معروفاً يكلفني أن أترك مسألة فلسطين، وتأييد حقوق العرب والمسلمين فيها، ويسلم إليّ عشرين مليون جنيه مقابل ذلك. وأن يكون هذا المبلغ مكفولاً من طرف فخامة الرئيس روزفلت نفسه، فهل من جرأة أو دناءة أكبر من هذه؟ وهل من جريمة أكبر من هذه الجريمة يتجرأ عليها هذا الشخص بمثل هذا التكليف ويجعل فخامة الرئيس كفيلاً لمثل هذا العمل الوضيع!!
"إني لا أشك بأن فخامة الرئيس روزفلت لا يقبل هذا لا في حقي ولا في حقه فهذه من جملة الأسباب التي أريد أن تعرضوها على فخامة الرئيس حتى يرى إلى أي حد يتجرأ اليهود للوصول إلى غايتهم الباطلة، وينظر برأيه السديد في هذه الأعمال التي يغني بيانها عن وصفها" [30] .
هكذا يُشخِّص الملك عبد العزيز رحمه الله هذا الداء العضال، وهو تشخيص ينمُّ عن وعي تام وفراسة إيمانية عجيبة، فقد جاءت كل الأحداث والدراسات والأبحاث تؤيد هذا التشخيص، وليت العالم يعي نصح الناصحين وإنذار المخلصين [31] .
العنصر السابع: الفقه في الدّين، والثقافة الواسعة، والوعي بقضايا العصر
لقد تصدى الملك عبد العزيز رحمه الله لبناء دولة، وإحياء أمة، وتعامل مع العالم العربي، والإسلامي، والدولي، وحالفه النجاح في ذلك كله رغم التحديات الكبيرة التي واجهها، وكان من أهم عوامل النجاح الذي حققه ما كان يتمتع به من فقه في الدين، وثقافة واسعة، ووعي بمجريات العصر، وفي الأقوال التالية ما يؤكد ذلك، وهي جزء من كل، وقليل من كثير:(40/83)
فهو فقيه في الدين، على دراية كاملة بما هو دين حق، وبما هو خارج عن فقه الكتاب والسنة أو عما ذهب إليه فقهاء الأمة المعتبرون، يؤمن بأن سلامة الأمة في السير على هدي الكتاب والسنة، ويدعوها إلى فهم ذلك، والعمل به والتحاكم عند الاختلاف إليه.
يقول في كلمة له: "الإسلام معناه الاستسلام لله تعالى، والطاعة له، والإيمان بكتابه ورسوله، وقواعدُ الإسلام قائمةٌ على كتاب الله، وسنة رسوله، وأعمال الخلفاء الراشدين وما اتفق عليه الصحابة الكرام وما جاء به فيما بعد الأئمة الأربعة فهي حق لا نحيد عنه قط… ومن المسائل التي يجب أن نعمل بها في هذا الشأن، وتعد في طليعة خدمة الدين الحنيف هي تطهير الإسلام من أدران الخلافات التي علقت بالدين، وهو بريء منها وإنما ألصقها فيه أناس نفعيون يبتغون من وراء ذلك النفع المادي.
… ورابطة الإسلام هي خير واسطة للتآلف، والتعارف، فالواجب علينا أن نتمسك به، وأن نعمل بما أمرنا به لننال الفوز في الدنيا والآخرة.
يقولون "الحرية". ويدعى البعض أنها من وضع الأوربيين، والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعاً وجاء بالإخاء "والمساواة"المطلقة التي لم تحلم بها أمة من الأمم فآخى بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وساوى بينهم.
ويقولون "التمدن" "والمدنية الأوربية"هي الغاية القصوى، وهذا وهم باطل فإن الله جعل من كل شيء أفضله مباحاً لنا، وأحب شيء إلينا هو العمل الخالص، والنية الحسنة، والإخلاص في العمل وهو أكبر سلاح لنا فيجب أن نعمل على طاعة الله بإخلاص [32] .(40/84)
وفي المؤتمر الوطني سنة 1350هـ يقول: "إن الناس الذين لا نشك أن الله عالم بقلوبهم وأنهم أعداء بعضهم البعض، كما قال الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [33] قد بلغوا بالشورى مراتب عالية في الدنيا ونحن المسلمين أمرنا الله تعالى بالمشورة، والمشورة لها أساس وهو النصح بالتزام الحق، ولها مزية ورونق تحصل بهما الفائدة، أما السير على غير مشورة فهو مجلبة للنقص، مجلبة للهوى - هوى النفس - ونحن نريد المشورة أن تجمع بين السنة وبين ما أمرنا الله به في قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [34] .
وأعظم القوى التناصح والنية الصالحة لأن كل شيء أساسه الإخلاص والنصح هذا هو اجتهادنا في المسألة، ونسأله تعالى العناية والتوفيق وإصلاح النِّية وأن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح [35] .
وعند استقباله أول دفعة من خريجي المعهد العلمي سنة 1350هـ ألقى فيهم كلمة توجيهية جاء فيها: "وأقول لكم والله ثم والله ثم والله ما حرمت الشريعة شيئاً فيه نفعنا ولا أحلت شيئاً فيه ضرنا وإن النظرة السليمة لتدرك ذلك.. انظروا إلى نعم الله هل فاضل في أحكامه بين غني وفقير؟ … لا لا تفاضل إلا بالتقوى.. سوَّى بينكم وأكبر من شأنكم فأمر ألا تعبدوا إلا واحداً، ولا تخافوا إلا واحداً، ولا تسألوا إلا واحداً، ومعلوم أن أرباب النفوس العالية إذا كان لها عند ملك من الملوك حاجة تحب أن تدلي بحاجتها إلى الملك بلا واسطة، والله يأمر عباده أن يسألوه بلا واسطة ولاشك في أن هذا - أي عدم الواسطة - تكريم لك أيها الإنسان" [36] .(40/85)
وفي كلمة له يقول: "أتعرفون ما دمَّر الدين وأكثر الفتن بين المسلمين؟.. لم يكن ذلك إلا من اختلاف المسلمين وعدم اتفاق كلمتهم.. وإذا أعدنا النظر إلى أيام الإسلام الأولى وما افتتحوا من أقطار وما كسروا من أصنام، وما نالوا من خير عميم.. نجد أن هذا كله ما حصل إلا باجتماع الكلمة على الدين، والإخلاص في العمل، والخلوص في النية. المسلمون منّ الله عليهم بالإسلام واجتماع الكلمة، ولكن لما تفرقوا انخذلوا وسلط الله أعداءهم عليهم، وإذا رجع المسلمون إلى تعاضدهم، وتكاتفهم رجع إليهم عزهم ومجدهم السالف، وقد قال تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [37] والقضاء كائن لا محالة ولما تناصح المسلمون بلغوا أوج السماء، ولما تخالفوا كانوا بهذا الشكل الذي نأسف له، والنفس أمارة بالسوء، ولربما أن أحد الناس عرف ذلك وضيعه، والثاني عرف الدين وعمل به وعلم الله ما بقلبه فجعل العقبى خيراً له.
المسلمون اليوم قائمون من نوم وغفلة فيجب عليهم أخذ سلاحهم والسلاح سلاحان.. أما سلاح العدة من طيارات وما إليها فهذا ما لا يستطيع المسلمون أن يستحوذوا على مقادير منها بقدر ما استحوذ عليه أعداؤهم إلا أن يشاء الله.
أما السلاح الثاني - وهو الأعظم - فالذي أوصي به نفسي، وأوصيكم به، وهو التقوى والاعتصام بحبل الله جميعاً، فإذا علمتم ذلك نلتم العزة في الدنيا، والعفو في الآخرة، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكل طريق غير ذلك لا يفيد" [38] .(40/86)
وفي كلمة له أمام كبار رجال الدولة سنة 1351هـ في الطائف يقول: "إني أريد أن أوضح لكم ما في ضميري، فإن كان صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، والإنسان ينظر للأمور بقدر معرفته لها، فمنهم من يتحققها ببصيرة تامة ونظر ثاقب، ومنهم من يبصرها ولا يتدبرها، ومنهم من لا يبصرها ولا يعرفها. أمّا نحن فلا عز لنا إلا بالإسلام ولا سلاح لنا إلا التمسك به وإذا حافظنا عليه حافظنا على عزنا وسلاحنا، وإذا أضعناه ضيعنا أنفسنا وبؤنا بغضب من الله.. وأما الأمور العصرية التي تعنينا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها ونعمل بها ونسعى في تعميمها، أما المنافي منها للإسلام فإننا ننبذه ونسعى جهدنا في مقاومته، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عز لنا إلا التمسك به" [39] .
وفي كلمة له رحمه الله سنة 1351هـ يقول: "لقد تفشّى الجهل، وساد التخاذل بين المسلمين، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من الحالة الراهنة التي تعرفونها، ولم يبق من الدين إلا اسمه، وتفرقنا أيدي سبأ، وأصبح المسلمون فرقاً وشيعاً.
أما أولئك الذين يطبلون ويزمرون لحضارة الغرب ومدنيته، ويريدون منا أن ننزل عندها، فنتمثلها في بلادنا وبين أقدامنا، فإننا نسوق إليهم الحديث بتوجيه أنظارهم إلى هذه الأزمة الخانقة، وإلى هذا التبلبل السياسي، وإلى هذه الفوضى الاجتماعية السائدة في تلك البلاد، فإنّ نظرة واحدة لمن يتدبر في هذه الأوضاع السائدة هذه الأيام تجعله يلمس فساد تلك النظريات المتسلطة على عقول السذّج من المسلمين والعرب.(40/87)
أما المسائل الصناعية والزراعية فإن أوامر الله تعالى ونبيه صريحه بالأخذ بها وكذلك في أعمال رجال السلف الصالح أكبر دليل على العناية بها والأخذ بأسبابها ولذلك فالقول بأن الصناعة والزراعة هما من نتاج الحضارة الغربية وحدها ليس بصحيح وكذلك الطيارات، والدبابات، والمدافع، والأعتاد الحربية التي تدافع بها الأمم عن نفسها، وتذود بها عن حياضها هي من الأعمال الصناعية أيضاً، ومما أمر الله به صراحة فقال في كتابه العزيز: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [40] .
ويقول رحمه الله في كلمة ألقاها عام 1352هـ أمام كبار الحجاج: "… فالنصح لله هو عبادته وحده لا شريك له، أما النصيحة لكتاب الله فهو التصديق بما فيه والعمل بحكمه، وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فهي الإيمان بجميع ما جاء به وطاعته في أمره ونهيه والتخلق بأخلاقه ومجانبة من ابتدع في سنته.. أما النصيحة لأئمة المسلمين فهي معاونتهم على الحق وطاعتهم، والدعاء بأن يوفقهم الله لما فيه خير المسلمين في الظاهر والباطن.. والنصيحة لعامة المسلمين هي أن المسلم لا يكون مسلماً حقاً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويعمل للناس ما يريد أن يعملوه معه.
فهذا علمنا، وهذا فهمنا، إن الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله، والتأسي بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى أرسل الرسول بشيراً ونذيراً ورحمة لهذه الأمة لذلك وجب على كل مسلم محبة رسول الله وأصحابه، والذب عنهم بالأقوال والأفعال..
رابطة الإسلام جامعة قوية ولكن المسلمين فرقهم التخاذل فتفرقوا شيعاً" [41] .(40/88)
وفي كلمة له سنة 1353هـ يقول: "… إن حبل الله عز وجل هو كلمة "لا إله إلا الله"إذ لا معبود سواه فهو الأول والآخر، وعبادته باتباع ملة إبراهيم قال تعالى في كتابه العزيز: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [42] ، فمن واجب الإنسان أن يعمل بما أمر الله به، وأن يطيع مولاه صاحب النعمة عليه، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أرسل الله الرسل لهداية الأمم والشعوب، وإنقاذهم من الضلالة، وكانت هداية نبينا صلى الله عليه وسلم أن أرسله الله جلّ شأنه في أحسن القرون، وأن بعثه إلى أقدم الأمم، وقد أزال الله ببعث النبي الكريم الشُّبه والضلال فكانت بركة الله ثم بركة رسوله علينا عظيمة لا تعد ولا تحصى.
وقد أمرنا الله تعالى على لسان نبيه بأمور عظيمة الشأن لو عملنا بها لكان حالنا اليوم غير ما نرى. لقد جعل أركان الدين الحنيف خمسة وهي: … فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعمل بها مع الإخلاص النقي، والنية الحسنة، فإذا صدعنا بأوامره - جلُّ شأنه - كفّر عن ذنوبنا، وأولانا نعماءه، فإذا فهمنا ذلك وعلمنا أن الخير بحذافيره فيما أمرنا الله، وجبت علينا طاعته، وطاعته كما قلت هي الاعتصام بحبل الله، وذلك باجتماع المسلمين، وتعاضدهم، وتكاتفهم بأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ولكننا أضعنا أوقاتنا في شقشقة بدون فائدة، لقد تراشقنا بالكلام فتنابذنا، فكانت الفرقة هذه، وكان الهوان ولو تركنا هذه الأمور، التي لا طائل تحتها لكانت رحمة ربي علينا عظيمة يجب أن نعبد الله ونطيعه كي يوفقنا فعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه فيتجنب المعاصي والمنكرات ويتبع أوامر الله عز وجل" [43] .(40/89)
وفي سنة 1354هـ وأمام كبار الحجاج يقول رحمه الله في كلمة عجيبة له تدل على فقه وفهم في الدين، وثقافة واسعة وتدل أيضاً - مع مثيلات كثيرات لها - على أن الملك عبد العزيز رحمه الله قد عمل على إعادة صياغة العقل المسلم بما يتفق مع الفهم الصحيح للدين، ومقتضيات العصر، وهو بهذا يكون قد سبق بزمن طويل أصحاب الطروحات التي تناولت هذا الموضوع أخيراً وهو موضوع لاشك مهم، والأمة في أمس الحاجة إليه.
يقول: "الإسلام شريعة سمحة لا غلو فيه، اختاره الله للمسلمين من بين الشرائع وفضّله على جميع الملل. دين الإسلام دين الإنسانية والسماحة، ولقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأشرف الكتب لخير الأمم، فكتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ولقد أعز الله الإسلام بالسنة المحمدية فما في كتاب الله تؤيده السنة، وما في السنة يؤيده الكتاب.
والمسلم لا يكون إسلامه صحيحاً إلا إذا أخلص العبادة لله وحده، فيجب أن يتدبر المسلمون معنى (لا إله إلا الله) فإن (لا إله) نفي لكل معبود فيما سوى الله (إلا الله) إثبات العبادة لله وحده فيجب على الإنسان ألا يشرك مع الله في عبادته نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرباً ويجب أن يتبع المسلمون القول بالعمل… أما القول المجرد فلا يفيد، وما الفائدة في رجل يقول (لا إله إلا الله) ولكن يشرك مادون الله في عبادته… دين الله مكتوب في الكتاب والسنة فكل عمل اتفق مع الكتاب فهو الحق، وكل عمل خالف الكتاب والسنة فهو الباطل..
إن سورة الفاتحة التي يرددها المسلم في صلواته فيها ما لو تدبره المسلم لما كان يقول شيئاً ويعتقد خلافه، يجب على المسلم أن يتبع قوله بالعمل، وقراءة الكتاب والسنة بالاعتقاد الصحيح، أما الأقوال بغير الأعمال فهذه من صناعة الشيطان.(40/90)
يجب أن يعتبر المسلمون من حالهم اليوم، فإنهم لم يصلوا إلى ما هم عليه الآن إلا من كثرة أقوالهم وعدم أعمالهم.
إن العمل هو أساس النجاح.. إن العقيدة الصحيحة هي أساس الفلاح يجب على المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً أن يتدبروا الموقف ويرجعوا إلى ربهم ويحذروا مكره فإنه - جلّ وعلا - مدح مكره فقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [44] ، ويجب على المسلمين أن يقلعوا عما هم فيه، فإذا فعلوا فسيغفر الله لهم… لقد غفر الله من أعمال عمر في الجاهلية حتى غدا الفاروق في الإسلام، وغفر لخالد بن الوليد حتى أصبح سيف الله في أرضه، إن العبرة بالنية الصادقة، فإذا صدق المسلمون في نيتهم فبشرهم برحمة من الله وفضل.. كثيراً ما تلوك ألسنة المسلمين {إِنَّ اللَّهَ غَفُور ٌ رَحِيمٌ} [45] وه ذا الكلام صحيح ولكن ألم يأتهم نبأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [46] إن الله غفور رحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحاً، أما من يستمر في طغيانه، ويصر على كفره فسيناله عقاب ربه.. إنني أرجو من المسلمين أن يرجعوا إلى كتاب الله سنة رسوله.. وهذا هو ديننا… وهذا هو معتقدنا.. نقاتل من أراد أن ينال ديننا أو وطننا بأذى.
يقول كثير من المسلمين: "يجب أن نتقدم في مضمار المدنية والحضارة، وأنّ تأخرنا ناشئ عن عدم سيرنا في هذا الطريق"وهذا ادعاء باطل، فالإسلام قد أمرنا بأخذ ما يفيدنا ويقوينا على شرط ألا يفسد علينا عقائدنا وشيمتنا فإذا أردنا التقدم فيجب أن نتبع الإسلام وإلا كان الشر كل الشر في اتباع غيره.(40/91)
إن المدنية الصحيحة هي التقدم، والرقي، والتقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل، إن حالة المسلمين اليوم لا تسر، وإن الحالة التي هم عليها لا يقرها الإسلام يجب على المسلمين أن يتدبروا موقفهم جيداً ويعملوا لتطهير قلوبهم من الأدران التي علقت بها، فإن الموقف دقيق، والله ينصر من أراد نصرة دينه {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47] .
إن الفرقة أول التدهور والانخذال، بل هي العدو الأكبر للنفوس، والغاوية للبشر والإتحاد والتضامن أساس كل شيء، فيجب على المسلمين أن يحذروا التفرقة وأن يصلحوا ذات بينهم، ويبذلوا النصيحة قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهذا الحديث دستور أخلاقي عظيم من واجب كل مسلم العمل به لأن في اتباعه صلاحاً لأحوال المسلمين فيزدادون منعة، ونحن نحمد الله على أننا بدأنا نشعر بمثل هذه الروح السامية، تدبُّ في نفوس المسلمين، فيعملون على درء كل خطر، ومنع أسباب التخاذل، فنرجوه سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالاتفاق والاتحاد فإن الله سبحانه وتعالى قد منّ على المسلمين بأوامر، ونواه، وفرض عليهم الفرائض ولم يأمر - جل وعلا - بأمر إلا وجعل الفوائد بحذافيرها فيه، ولم ينه عن شيء إلا وجعل الشر بحذافيره فيه، ومن أعظم الأوامر توحيد الله - جل وعلا - توحيداً منزهاً عن الشرك إن الله لم يجعل بينه وبين أحد من خلقه واسطة فهو يقول {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [48] .. إن الخير كله في الاجتماع، والشَّر كله في التفرقة، فالاجتماع، والتضامن أساس كل عمل ومحور كل نهوض. نسأل الله أن يعز دينه، ويعلي كلمته، ويؤيد المسلمين بروح منه" [49] .(40/92)
وفي كلمة له في جدة عام 1355هـ لوجهاء المنطقة وأعيانها ألقى كلمة ضمنها شرحاً لأركان الإسلام الخمسة شرحاً يدل على فقه وفهم، وتناول قضايا أخرى أشير إليها في غير هذا المكان ومما جاء في هذه الكلمة قوله: "… كل هذه من نعم الإسلام أنعم الله بها على المسلمين، فيجب على الإنسان أن يتقبل نعم الله بالشكر، لأن الله ليس في حاجة إلى عبادتنا وصيامنا وجميع أمور ديننا بل هو غنيٌّ عن كل ذلك وعن العالمين [50] .
وفي حج عام 1355هـ ألقى كلمة في حجاج الهند جاء فيها: "الحقيقة أن الإسلام هو اتباع كتاب الله تعالى، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} [51] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [52] وليس هناك شيء أجل من نعمة الإسلام على الإنسان فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [53] فتمام النعمة هو كتاب الله تعالى الذي شرع به الإسلام، وأول ما يلزمنا من الإسلام هو كلمة الشهادتين، ومعنى الشهادة "لا إله إلا الله"أنها تفيد إثبات وحدانيته سبحانه وتعالى، ومعنى أن "محمداً رسول الله".. أن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم ونصدقه ونؤمن به ونعمل بما قال، وكلام الرسول لا ينافي القرآن، والقرآن لا ينافي كلامه صلى الله عليه وسلم بل كل منهما يتمم الآخر.(40/93)
والحقيقة أنه لا يوجد إنسان غير مذنب لأن العصمة لله وحده ولو لم تذنبوا لخلق الله عباداً يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم ولكن الذنوب على جملة درجات منها ما لا يمكن معه صفح أو غفران، وهي الشرك بالله، والكذب على رسول الله، وكل إنسان يرى أن هناك أية حجة أو قوة أخرى أقوى من الكتاب والسنة فقد فقد افترى على الله الكذب، والحمد لله الذي وفقنا - نحن المسلمين - إلى تفهم معنى شهادة أن "لا إله إلا الله"وهي تتضمن نفي معنى الشرك، وإثبات العبادة له سبحانه وتعالى ونهي لما نهانا عنه، وهو ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، تعالى الله عما يصفون، ونحمده تعالى على أنه جعل هذه الأحكام لطفاً منه بنا، والإنسان إذا كان مسلماً يضع لنفسه نظاماً يسير بمقتضاه، فما يخالف كتاب الله أو سنة رسوله فذلك هو الضلال المبين نعوذ بالله منه، ومن أعظم ما يثبت علينا ديننا هو تمسكنا بالشهادتين وبمعناهما الصحيح من إثبات العبودية لله، والإيمان بنبيه ورسوله الذي نجده أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وعيالنا ويجب أن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت ما استطعنا إليه سبيلاً.
أما أحكام المذاهب فلسنا نخالفها في شيء وهي مذاهبنا جميعاً، من مذهب الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، ومذهبنا هو اتباع الدليل حيث يكون، فإن فقد الدليل ولم يكن هناك إلا الاجتهاد اتبعنا ابن حنبل وما جاء في الكتاب والسنة، ونحب المسلمين جميعاً، ونرجوا لهم الخير والفلاح والسعادة، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجمعنا على كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"إنه سميع قدير".(40/94)
وفي نفس السنة وفي نفس المناسبة أمام الحجاج العرب يقول رحمه الله: "إن الله جعل للإنسان بصيرة يميز بها بين الحق والباطل، وقد أراه الطريق واضحاً، ومن فضل الله على الإنسان، وهو فقير عاجز أن سلط عليه نفسه والشيطان وجعل في مقابلها الإنعام عليه بالقبول، والرجوع بحيث يفيء الإنسان إلى ربه ويمشي على الصراط المستقيم، وقد جعل الله في جوارح الإنسان طبيعة اقتراف الذنوب، وفي مقابل ذلك منَّ الله عليه بنعمة التوبة والاستغفار، وهذا والحمد لله من عنايته ولطفه بالفقراء والمساكين" [54] .(40/95)
وفي سنة 1356هـ وفي حفل تكريمي للحجاج ألقى كلمة جاء فيها بعد أن شرح الفاتحة شرحاً عجيباً يدل على علم ووعي، قال: "فيجب أن نؤمن بكتاب الله وبمتشابهه، ونؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من يقول آمنا ولكنهم يسبون أهل بيته، ويسبون عمراً وعثمان وأصحابه، وكيف ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" ولا نستطيع أن نفعل ذلك إلا باتباع سنة رسول الله، والسلف الصالح من الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدوا في سبيل الله فكل إنسان لا يحب الله وكتابه ورسوله فهو ضال، والكلام في هذا يطول وأنا لست بعالم ولكن الحق برهان، والذي نمشي عليه هو طريق السلف الصالح، ونحن لا نكفر أحداً إلا من كفره الله ورسوله، وليس من مذهب سوى مذهب السلف الصالح ولا نؤيد بعض المذاهب على بعضها فأبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وابن حنبل أئمتنا ومن وجدنا الحديث الصحيح معه اتبعناه، فإن لم يكن هناك نص، وإنما هو الاجتهاد في الفروع فنتبع اجتهاد أحمد بن حنبل والأصل كتاب الله وسنة رسوله لا نفضل أحداً على أحد ولا كبيراً على صغير {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [55] ، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وهل يقبل العقل أن هناك من هو أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هناك قبيلة أعز من قبيلة محمد صلى الله عليه وسلم وهي قريش، ولكن النسب لا يغني عن الإنسان شيئاً، ولولا ذلك ما عزّ سلمان الفارسي، وبلال، وما لعن أبو جهل وأبو لهب، والفضيلة في الدين والرجال، والعزة بالله لا بالحسب والنسب … والتقى ليس مجرد السجود، ولكن بالتفرقة بين الحق والباطل، فالإنسان منكم حين يدخل السوق لمشتري متاعه كيف يفرق بين الطيب والخبيث؟.. فإذا كان يفعل ذلك في أغراضه البسيطة فيجب أن يفعله في بدنه ونفسه فما الإنسان إلا جيفة قذرة تحمل العذرة في عظام نخرة.(40/96)
ومن قال "أشهد أن لا إله إلا الله"ولم يقل "وأشهد أن محمداً رسول الله"لا تقبل منه، وكل إنسان يدعو ولا يصلي على الرسول فهو ضال، وكل من لا يرجو شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة، ومعنى طلب الشفاعة أن تقول يا رب محمد شفّع فينا رسولك محمداً، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وكلنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفع فينا رسوله الكريم.
يقولون "التمدن" و"الحرية"وهل هناك أعظم من التمدن الذي ورد في كتاب الله من اتباع كل خير وتجنب كل شر؟ وهل هناك حرية أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
أيها الإخوان:
إنكم قد أتيتم من بلاد بعيدة، وضربتم في البحر ترجون رحمة الله، وهي قريبة إذا رجوتموها، وهذا الخير والرحمة، وليس لكم عندي إلا ثلاثة أمور:
الأول: النصيحة فيما يوافق كتاب الله وسنة رسوله.
والثاني: أنِّي أشفقُ عليكم من أهلكم وعيالكم، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منكم.
والثالث: أن أسهر على مصالحكم، وأرعى شؤونكم، نسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته ويؤيد الإسلام، ويوفق المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه" [56] .
وألقى الملك عبد العزيز رحمه الله سنة 1359هـ كلمة في كبار الحجاج جاء فيها: "إن الأمر لله وما تشاءون إلا أن يشاء الله، والأيام كلها عبر للمعتبر، وعلى المسلمين أن يتفكروا في عبر الزمان، وانظروا كيف أن أوربا العظيمة بمدنيتها التي أقامتها أصبح ما أعدوه ضد مدنيتهم ولخرابها.(40/97)
وهذا الموقف يسترعي الانتباه التام فإذا نظرنا للحال الواقع نرى أن دهاة أوربا ورجال سياستها بقوتهم وعقولهم ما تمكنوا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم والشر لم يتول عنهم ذلك قضاء الله وقدره لم تنفع فيه حيل السياسة ولا نفعت المدنية إن كل إنسان يجب ألا يقف هذا الموقف وأن يكون في نجوة عن هذا النزاع لذلك يجب على المسلمين عامة والعرب خاصة أن يتمسكوا بعرى الإسلام حتى لا تذهب ريحهم وأهم ما يجب عليهم القيام به هو معرفة الله ونصر الله، قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [57] .
ويجب على المسلمين أن يتفقوا ويتناصحوا في ظاهر الأمور وباطنها، وهذا لا يكون إلا بالعناية الشديدة بالإصلاح، وبنفوس طيبة، لأن الدعوة ولو كانت عظيمة وظاهرها كبير فلا تفيد إلا بالنية الصالحة إنما الأعمال بالنيات" [58] .
وأعلن رحمه الله بياناً سنة 1356هـ حول موضوع خطير كان ولا زال وسيبقى إلى أن تقوم الساعة محل تحد وصراع بين قوى الخير والشر، وبين أهل العفة والطهر، وأهل الخنى والفساد ذلك هو موضوع المرأة وقد جاء في هذا البيان ما لا مزيد عليه كما أن الأحداث قد أثبتت سلامة نهجه رحمه الله نحو هذا الموضوع، وهو نهج مستمد من تشريع الله رب العالمين الذي خلقهم ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم.(40/98)
يقول رحمه الله: "أقبح ما هنالك في الأخلاق، ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذن وظائفهن الأساسية من تدبير المنزل وتربية الأطفال، وتوجيه الناشئة الذين هم فلذات أكبادهن وأمل المستقبل إلى ما فيه حب الدين والوطن، ومكارم الأخلاق، ونسين واجباتهن الخلقية من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة، ودخولهن في بؤرات الفساد والرذائل، وادعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن فلا والله ليس هذا (التمدن) في شرعنا وعرفنا وعاداتنا، ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وإسلام ومروءة أن يرى زوجته أو أحداً من عائلته، أو من المنتسبين إليه في هذا الموقف المخزي.
هذه طريق شائكة، تدفع بالأمة إلى هوة الدمار، ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج عن دينه، خارج عن عقله، خارج من تربيته.
فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها.(40/99)
إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف والتجبر في أمر النساء، فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقاً يتمتعن بها لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدنة، وإذا اتبعنا تعاليمه كما يجب فلا نجد في تقاليدنا الإسلامية، وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا ولا يمنع مع تقدمنا في مضمار الحياة والرقي، إذا وجّهنا المرأة إلى وظائفها الأساسية وهذا ما يعترف به كثير من الأوروبيين من أرباب الحصافة والإنصاف ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين وسمعناهم يشكون مرّ الشكوى من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم من جراء المفاسد، وهم يقدرون لنا تمسكنا بديننا، وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم، التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلامة، ويودون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه، التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب، والدمار، والحروب الجائرة، وهؤلاء نوابغ كتابهم ومفكريهم، قد علموا حق العلم هذه الهوة السحيقة التي أمامهم والمنقادين إليها بحكم الحالة الراهنة، وهم لا يفتأون في تنبيه شعوبهم بالكتب والنشرات والجرائد على عدم الاندفاع في هذه الطريق التي يعتقدونها سبب الدمار والخراب.
إنني لأعجب أكبر العجب ممن يدعي النور والعلم، وحب الرقي لبلاده من الشبيبة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها، ما نوهنا عنه من الخطر الخلقي الحائق بغيرنا من الأمم ثم لا ترعوي عن ذلك وتتابرى في طغيانها وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا وعاداتنا الإسلامية والعربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيف الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى لنا ولسائر البشر.(40/100)
فالواجب على كل مسلم وعربي فخور بدينه معتز بعربيته ألا يخالف مبادئه الدينية وما أمر به الله تعالى بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش، والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه، فالرقي الحقيقي هو بصدق العزيمة والعلم الصحيح، والسير على الأخلاق الكريمة، والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين، والسمت العربي والمروءة، والتقليد الأعمى، وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده، الذين أتوا بأعاظم الأمور، باتباعهم أوامر الشريعة التي تحث على عبادة الله وحده، وإخلاص النية في العمل، وأن يعرف حق المعرفة معنى ربه، ومعنى الإسلام وعظمته، وما جاء به نبينا ذلك البطل الكريم والعظيم صلى الله عليه وسلم من التعاليم القيمة، التي تسعد الإنسان في الدارين، وتعلّمه أن العزة لله وللمؤمنين، وأن يقوم بأود عائلته، ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف فإذا عمل فقد قام بواجبه وخدم وطنه وبلاده [59] .
هذا رأي البطل. البطل في إيمانه وسلوكه وخلقه.
البطل في علمه وثقافته.
البطل في وعيه وبعد نظره وإدراكه.
البطل في تعامله مع شقائق الرجال.
هذه نظرته إليهن وقد كان لهن أعظم الدور في حياته، الدور الإيجابي، كم كان يتكنى بأخته "نورة"وكم كان يستعين بها في بعض شئونه ومع هذا فهي المرأة المسلمة في المكان العالي بعيداً عن متناول الأيدي الخسيسة.
ومن المواقف المشرفة للملك عبد العزيز رحمه والتي تدل على فهم ووعي ومراقبة لله موقفه من الدولة العثمانية فقد وقف منها موقف المسلم المجدد الواعي في الوقت الذي ولغت فيه الأيدي الآثمة والعميلة في الدماء المسلمة الحرام باسم القومية العربية تلك الأيدلوجية التي نشأت في الأحضان المشبوهة ورعتها القوى الاستعمارية، وكانت أحد أهم معاول الهدم التي سلّمت البلاد العربية إلى الاستعمار العسكري والفكري، الذي لازالت آثاره السيئة تعمل في جسد الأمة إلى اليوم [60] .(40/101)
ويشاء الله، أن يطهر يدي الملك عبد العزيز من أن تُلوَّث بدماء المسلمين الأتراك وأن يجنب بلاد الحرمين - المملكة العربية السعودية - ويلات الاستعمار وألاعيبه، وسأشير إلى بعض مواقف الملك عبد العزيز رحمه الله من الدولة العثمانية تأكيداً لما ذكر هنا إضافة إلى ما ذكر في العنصر الرابع.
في سنة 1330هـ كتب إليه والي البصرة العثماني يسأله عن رأيه في أمراء العرب وشقاقهم وخروج بعضهم على الحكومة العثمانية فأجابه الملك عبد العزيز رحمه الله بقوله: "إنكم لم تحسنوا إلى العرب، ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل. وأنا أعلم أن استشاراتكم إياي إنما هي وسيلة استطلاع لتعلموا ما انطوت عليه مقاصدي وهاكم رأيي ثم ذكر اقتراحا سياسياً تنظيمياً لو أخذ الأتراك به لكان فَوّت على أعدائهم فرصاً كثيرةً ولكان تغيَّر مجرى كثير من الأحداث [61] .
وفي رسالة للرئيس الأمريكي روزفلت سنة 1357هـ حول ما يجري في فلسطين وما اتخذ نحوها من قرارات يقول رحمه الله: "… ولم يكن العرب يشعرون بأن الترك دولة مستعمرة لبلادهم وذلك:
1 - لوجود وحدة الجامعة الدينية.
2 - لشعور العرب أنهم شركاء في الحكم.
3 - لكون الإدارة المحلية للحكم بيد أبناء البلاد أنفسهم [62] .(40/102)
هذا هو موقف الملك عبد العزيز رحمه الله - وهو الموقف الذي يليق بمثله وقد أقام كما فعل أجداده من قبل - ملكه على أساس الكتاب والسنة ونتساءل من هنا أيحق لأحد من ملوثي العقيدة والفكر أن يعد الملك عبد العزيز رحمه الله في عداد دعاة القومية العربية تلك الأيدلوجية التي أقامها نصارى ويهود العرب ومن سار في ركابهم من مغفلي المسلمين والذين يحلو لكثير منهم أن يطلقوا على الحكم العثماني "الاستعمار التركي"ومن أعجب ما تقرأه في هذه النقطة ما كتبه الصحفي محمد زيدان حيث يجعل دعاة القومية العربية صدى لصوت ساطع الحصري وعزيز علي المصري ثم يسوق كلاماً صحفياً لا يقوم على أساس علمي وليس هذا محل الرد عليه ويختم تلك البلبلة بقوله:
فالحصيلة أن دعاة القومية العربية من أولهم إلى آخرهم كانوا لعبد العزيز!! وبه!! ومنه!! [63] .
وهذا الكلام إنما يصدره في حق الملك عبد العزيز رحمه الله واحد من اثنين:
شخص لا يملك المؤهلات للكتابة عنه رحمه الله وقد أشير إلى تلك المؤهلات أو بعضها في أول البحث.
أو شخص صاحب هوى ومتشبع بما لا يملك، نسأل الله الثبات ونعوذ به من الضلال.
ومما يؤكد عظمة ما كان يتمتع به الملك عبد العزيز رحمه الله من وعي وثقافة وبعد نظر ما جاء في نصحه لبعض أهل سوريا حيث قال: "لا تأخذوا بمدنية أوربا الزائفة، وتتركوا فضائلكم. فعدو البلاد لا يعمل لما فيه خيرها، ونصيحتي لكم أن تعملوا ما عملنا نحن وما عمله أسلافكم الأطهار فالذي يصبر يظفر" [64] .
كان هذا كلام الأصيل الذي قال عن نفسه يوماً: "لست متطفلاً على الرياسة والملك فإن أبائي، وأجدادي معروفون منذ القدم بالرياسة والملك" [65] وليت العرب سمعوا كلامه ونهجوا نهجه لكانوا عندها قد قفلوا الأبواب أمام "لعبة الأمم"التي مورست على أرضهم في أبشع الصور وبأقذر الأساليب [66] .(40/103)
ومن آرائه الواعية ما قاله 1372هـ حين اتجه رأي الحكومات العربية إلى إنذار ألمانيا ثم مقاطعتها سياسياً واقتصادياً إذا هي أبرمت اتفاقها مع حكومة إسرائيل على ما سمي بالتعويضات فقد قال: "من جهة موقف الدول العربية مع الحكومة الألمانية بخصوص التعويض على إسرائيل. فالذي نراه هو بذل كل جهد ممكن لمنع التعويض لما فيه من تقوية لليهود وخطر على العرب، ولكن إذا تعذر هذا الأمر فالمعقول والمستحسن أن تحفظ العرب كرامتها بالوقوف موقفاً مشرفاً للعرب، وغير مثير لحفيظة الشعب الألماني المغلوب على أمره وجلب عدائه للعرب دون جدوى" [67] .
ويقول فلبي عن إمكانات الملك عبد العزيز رحمه الله: "… وقد وجدت فيه رجلاً لا يمل عن العمل، وبالرغم من الميل إلى الانجراف بعيداً عن نقاشه بموجات من فصاحته القرآنية [68] فإنه رجل ذو مقدرة تجارية، وذو معرفة جيدة بشؤون العالم، ومطلع جداً على تعقيدات السياسة العربية وإن يكن مشاهداً غير مهتم بها" [69] .
ووظف الملك عبد العزيز رحمه الله كل إمكاناته "للدفاع عن قضية فلسطين، وكان ذلك الدفاع صورة رائعة أيضاً لما كان يتمتع به رحمه الله من إمكانات أهلته لأن يكون من أقوى المدافعين عن هذه القضية واستطاع أن يضم إلى صالحها عدداً من قادة العالم ومفكريه ومات رحمه الله وفي قلبه حرقة وفي حلقة غصة مما وصلت إليه هذه القضية والله المستعان" [70] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المصحف والسيف (111) .
[2] المصحف والسيف (85) .
[3] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/914) .
[4] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/1126) .
[5] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (3/1237) .
[6] المصحف والسيف (50) .
[7] المصحف والسيف (56) .
[8] المصحف والسيف (62) .(40/104)
[9] الوجيز (195) .
[10] الوجيز (141) .
[11] المصحف والسيف (58) .
[12] سورة الأنفال آية (60) .
[13] المصحف والسيف (62) .
[14] المصحف والسيف (64) .
[15] المصحف والسيف (49) .
[16] المؤمنون آية (101) .
[17] إن المتتبع لهذه المشكلة في كتب التاريخ يجد ما يندى له الجبين، ويتساءل وهو يقرأ ذلك أيمكن أن يصل الإنسان إلى هذا المستوى من الظلم والعدوان والوحشية؟ وخاصة مع أناس يدينون بدينه، وجاءوا متلبسين بنسك عظيم هو أحد أركان الإسلام الخمسة؛ لكن يزول العجب وتنجلي الحقيقة إذا تذكرنا أن البشرية لا يصلحها إلا شرع الله الذي خلقها وشرع لها ما يضمن لها حياة حرة كريمة، ومتى حادت عن منهج الله ضلت وهلكت. وكانت كما وصفها الله {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْ0عَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} الفرقان آية (44) .
[18] الحجر آية 56.
[19] لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم (164 168) .
[20] المصحف والسيف (68) .
[21] المصحف والسيف (75) .
[22] المصحف والسيف (93) .
[23] المصحف والسيف (102) .
[24] المصحف والسيف (334) والوجيز (187) .
[25] شبه الجزيرة 3/915.
[26] شبه الجزيرة 3/1238.
[27] شبه الجزيرة 3/1176.
[28] بعثة إلى نجد (84) .
[29] شبه الجزيرة 3/1164 1165.
[30] شبه الجزيرة 3/1142.
[31] انظر الحاشية رقم (35) و"التلمود تاريخه وتعاليمه""إيللي كوهين من جديد"و"الرؤية العربية لليهودية"، و"أسرار إسرائيل وحقيقتها عشرة كتب.."و"التحدي الصهيوني"و"سقوط الجولان"ومجلة البعث الإسلامي عدد (10) (ص75) ، جذور البلاء.
[32] المصحف والسيف (61،62) .
[33] سورة الحشر آية (14) .
[34] سورة الأنفال آية (60) .
[35] المصحف والسيف (66) .
[36] المصحف والسيف (71 - 72) .
[37] سورة الرعد آية (11) .(40/105)
[38] المصحف والسيف (111) .
[39] المصحف والسيف (80) .
[40] سورة الأنفال آية (60) وانظر المصحف والسيف (84) .
[41] المصحف والسيف (87،89) .
[42] سورة النساء آية (125) .
[43] المصحف والسيف 92.
[44] سورة آل عمران آية 54.
[45] تكرر ورودها في آيات كثيرة منها في سورة المزمل آية (20) .
[46] تكرر ورودها في آيات كثيرة منها في سورة آل عمران آية (11) .
[47] سورة الروم آية (47) .
[48] سورة غافر آية (60) .
[49] المصحف والسيف (95 97) .
[50] المصحف والسيف (102) .
[51] سورة النساء آية (65) .
[52] سورة المائدة آية (44) .
[53] سورة المائدة آية (3) .
[54] المصحف والسيف (107 108) .
[55] سورة الحجرات آية (13) .
[56] المصحف والسيف (114 115) .
[57] سورة محمد آية (7) .
[58] المصحف والسيف (119) .
[59] المصحف والسيف (322 - 323) .
[60] انظر "السعوديون والحل الإسلامي"، و"فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام"، و"المسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية"و"الماسونية عقدة المولد وعار النهاية"و"بروتوكولات حكماء صهيون".
[61] الوجيز "54".
[62] المصحف والسيف "187".
[63] ذكريات العهود الثلاثة (236) .
[64] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز 3/1337.
[65] انظر العنصر الأول وحاشية (17) .
[66] انظر "الدبلوماسية والمكيافيلية" و"ما الذي جرى في سوريا"مع التذكير أن صاحب الكتاب الأخير كان له دور سلبي إبان أحداث اللعبة سواء كان يدري أم لايدري.
[67] شبه الجزيرة (2/815 816) .(40/106)
[68] الملك عبد العزيز رحمه الله كان على صلة وثيقة بالقرآن الكريم وقد مر بك في هذا البحث كيف كان في سفره وإقامته لا يفتأ يطلب مزيداً من القراءة في كتب العلم المختلفة، وكان في خطبه ومحادثاته يرجع إلى ذلك المعين الصافي يسترشد به ويستهديه ويدعم به أقواله، لكن أنى لمثل فلبي أن يستطيب ذلك ويعيه.
[69] بعثة إلى نجد (91) .
[70] انظر بعضاً من جهوده حول قضية فلسطين. المصحف والسيف: 126، 156، 169، 205، و"شبه الجزيرة"، و"جزيرة العرب في القرن العشرين".(40/107)
تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله
العنصر الثامن: تعظيم حرمات الله، وتقدير العلم والعلماء
إن من مظاهر الحس الديني العظيم في حياة الملك عبد العزيز رحمه الله تعظيمه لحرمات الله وتقدير العلم والعلماء.
يقول في كلمة له عام 1348هـ: "… إن الله جلت قدرته حكيم إذ جعل للاجتماع في بيته الحرام فوائد جمة:
أولها: الإخلاص في عبادة الله تعالى في أقدس بقعة حيث جعل بيته الحرام وأرسل رسوله من أفضل قبيلة قطنت هذه الديار، وقد جعل الله الفخار لأي كان بالتقوى لا بغيرها فلم يكن في الإسلام تفاضل بين العربي وغير العربي إلا بها وفخار العرب وعزهم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم. والكريم عند الله هو التقي الورع {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [1] وقد أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير الكتب فأمرنا بهذا الكتاب المبين وبرسوله وهذا خير فخار لنا" [2] .
وفي كلمة له عام 1350 هـ أمام المؤتمر الوطني يقول: وأفضل شيء يقام هو تنفيذ أوامر الله تعالى في هذه البقعة المباركة التي أنزل بها الوحي وبعث بها محمد صلى الله عليه وسلم وهي مسقط رأسه ومدفنه، أضف إلى ذلك أن الحسنات فيها تتضاعف كما تتضاعف فيها السيئات أيضاً ولذا يجب علينا أن نرغب في جلب الخير وأن نرهب من الشر، وهذا يكون باتباع أوامر الله والنية الصحيحة والعمل الطيب والإنسان الذي لا يقوم بما أمر الله به لا ينجح أبداً..
وبلدكم هذا بلد الله الحرام فإذا لم نحرم ماحرم الله كانت نقمة الله علينا عظيمة، ثم كان هنالك كذب على الله لذلك يجب أن ننظر في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنفيذاً لأمر الله وحفظاً له ويجب النظر في الأمور التي تمادى البعض فيها وماهي إلا لهو ودنو إلى الشر وبعد عن الخير" [3] .(40/108)
ويقول في كلمة له: مسألتان لايمكن أن نقبلهما ولو قاتلنا أهل الأرض حتى لايبقى فينا أحد:
التغيير في دين الله ولو مثقال خردلة، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالكتاب والسنة لا نحيد عنهما أبداً.
والثانية: أن أي أمر يلحق استقلال أو شرف بلادنا فهذا مستحيل أن نقبله ولو تكلم من تكلم أو قال من قال [4] .
ويقول رحمه الله مذكراً بمسؤلية أهل البلد الحرام: "أوصيكم بتقوى الله واتباع كتابه والإهتداء بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تعضوا عليها بالنواجذ، وأنتم بلد الله وسكان حرمه الشريف، ويجب أن تتمسكوا بذلك أكثر من غيركم.." [5] .
ويقول عن عاشر ذي الحجة: "أنا في غنى عن التنويه بعظمة هذا اليوم، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل اجتماع المسلمين فيه لأداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام من جهة وللتعارف والتآلف من جهة ثانية" [6] .
ويقول رحمه الله عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن نعم الله على خلقه لا تحصى، ومن كمال نعمه بعثة محمد صلى الله عليه وسلم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} [7] ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث من أشرف قبيلة، ومن أشرف أمة، وهو أفضل المخلوقات على الإطلاق، وأفضل من أي شيء بعد الله، ولقد جاء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى والبينات جاء بأفضل الأديان ألا وهو دين الإسلام" [8] .
ودخل عليه شاعر وألقى قصيدة كان مطلعها:
"أنت آمالنا وفيك الرجاء"
فصاح به رحمه الله وأنكر عليه بشدة، ولمح في المجلس الشيخ حمد الجاسر فقال: علمه التوحيد يا ابن جاسر [9] .
وأما موقفه من العلم والعلماء فهو موقف المؤمن الصادق الذي يعلم أن نجاح الأمة وفلاحها مرهون بتمسكها بدينها، وطريقها إليه العلم والعلماء.(40/109)
يقول الزركلي: كان لعلماء الدين المقام الأول عند الملك عبد العزيز، يقدمهم على إخوانه وأبنائه وكبار جلسائه، ويصغي إلى آرائهم، ويبالغ في أكرامهم.. وكان لكبارهم هيبة في نفسه لايصطنعها، ولا يتعمَّلها ولا سيما آل الشيخ… سُمع مرة يقول: ما لقيت الشيخ يعني عبد الله بن عبد اللطيف إلا تصبب العرق من إبطي…
وكان يقع اختلاف في وجهات النظر أحياناً بين الملك وبعض العلماء خاصة في بعض الأمور المستحدثة وكان الملك رحمه الله القوي الحكيم في معالجة تلك الأمور يقول الزركلي عن ذلك:
" ويبالغ الكتاب في وصف ما كان يبذله من الجهد في بدء نمو الدولة لإقناع المشايخ ولاسيما الإخوان… بأن استخدام الآلات الحديثة كاللاسلكي، والتلفون، والسيارات لا حرج فيه من الدين.. على أن هناك ما لا ينبغي إغفاله. وهو أن الملك عبد العزيز كان يعلم أن المرء عدو ما جهل، ويعلم أن أكثر من عارضوه في استخدام الآلات الحديثة إنما كانوا يُصدرون عن نية حسنة.. ولم تكن معارضتهم لرغبة في الشغب أو لعرقلة تقدمه الاجتماعي والنظامي بالدولة بل يعارضون لأن الواجب ديناً، ولأن من مقتضيات الإخلاص للإمام أن ينصحوه فيما يعن لهم أنه انحراف عن نهج السداد…
ولكن عبد العزيز الحكيم المتأنِّي الحريص على أن تلتف قلوب الناس حوله قبل جسومهم كان يكبر في دخيلة نفسه جرأتهم ويجل صراحتهم، ويطيل التفكير في حل عقدهم النفسية ويلتمس العذر لمن عادى ما يجهل منهم.. ثم كان عبد العزيز في المدة الأخيرة من حياته، إذا ذكر ما لقي من بعض المشايخ في إبان وثبته أكثر من حمد الله على توفيقه له في أخذ النصحاء منهم بالرفق، ونوه بذكر السابقين منهم إلى الاقتناع وبما كان لمواقفهم في نصرته من الأثر في قمع المتشددين وهداية المسترشدين" [10] .(40/110)
وليس غريباً على الملك عبد العزيز رحمه الله بصفة خاصة وآل سعود بصفة عامة أن يقفوا من العلم والعلماء مثل هذا الموقف المشرف، فهم أدرى الناس بأهمية العلم والعلماء لقيام الحكم العادل القوي، وقد تيقنوا أثر ذلك عبر فترات الحكم السعودي الثلاث، كما أن التاريخ يشهد أن الأمة التي تحتكم إلى العلم الحق والعلماء الربانيين في أمورها يكون الفلاح طريقها والنصر حليفها، وها هو أخيراً الملك عبد العزيز يوصي ولي عهده الملك سعود في أول وصية له بعد أن عهد إليه بولاية العهد يقول له: "أوصيك بعلماء المسلمين خيراً أحرص على توقيرهم، ومجالستهم وأخذ نصيحتهم، واحرص على تعليم العلم لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة " [11] .
وأقيمت في القصر الملكي بالرياض حفلة عشاء وجاء دخول المدرسين إلى قاعة الطعام متأخرا يقول أحمد على راوي القصة فرآنا الملك ونحن ندخل القاعة فلم يسمح لنا بالتقدم بل أجلسنا على مائدته، وأخذ يقول للأمراء إنهم يستحون فاقطعوا لهم اللحم [12] .
العنصر التاسع: إقامة الدولة على الإسلام والاحتكام إليه
لقد كان تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً في كل شئون الحياة هو الهدف الرئيسي للدولة السعودية في أدوارها الثلاثة:
الهدف الرئيسي لأنه مقتضى الإيمان ولا إيمان بدون ذلك.
الهدف الرئيسي لأنه كان دائماً مصدر القوة والخير في حياة الأمة الإسلامية عبر تاريخها.
الهدف الرئيسي لأنه كان مصدر عظمة الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة.
وسر تلك المنزلة العظيمة التي تبوأتها في نفوس المسلمين.(40/111)
يقول كشك: "ولاشك أن أولى المحاولات، هي المحاولة السعودية التي بدأت في القرن الثامن عشر واستطاعت أن تتجدد في مطلع القرن العشرين فقد كانت… أقوى وأبرز طرح للحل الإسلامي في ظروف الهزيمة الشاملة للمسلمين أمام الغزوة الأوروبية التي لم يكن احتلالها العسكري هو أخطر أسلحتها بل محاولة إقناع المسلمين بأن الإسلام قد انتهى عصره وأن التغريب هو حتمية التاريخ فاستطاع السعوديون بدعوة محمد بن عبد الوهاب تأخير التغريب مئة عام رغم هزيمتهم كما استطاعوا أن يطرحوا أول وأكمل ثورة عربية وذلك بطرحها في صيغتها الشرعية أعني العروبة الملتحمة بالإسلام لا المتمردة ولا المتآمرة على الإسلام… إذ استطاع رجال لا ينتمون لعزوة قبلية ولا إلى دولة غنية ولا إلى خلفية حضارية أن ينفضوا غبار التاريخ عن بيئتهم ومجتمعهم ووطنهم وأن يشغلوا العالم بالمسألة السعودية والحل الإسلامي… وإذا بالسعوديين يهبون مرة أخرى بقيادة عبد العزيز فيطرحون الحل الإسلامي وينتصرون بل يكون نصرهم هو النصر الوحيد على الساحة العربية، إن لم نقل في العالم الثالث حتى النصف الثاني من القرن العشرين فهم وحدهم نجحوا في إقامة كيان مستقل خارج السيطرة المباشرة للاستعمارية الغربية [13] ، إذاً جاء الملك عبد العزيز وهو موقن أنه لا نصر ولا تمكين إلا بتحكيم شرع الله وهو الهدف الرئيسي والغاية القصوى لقيام الدولة السعودية.
يقول رحمه الله في خطاب له سنة 1349 هـ "… وإنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونُظمنا هو الشرع الإسلامي وأنتم في تلك الدائرة يعني مجلس الشورى أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط أن لا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية لأن العمل الذي يخالف الشرع لن يكون مفيداً لأحد والضرر كل الضرر هو السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " [14] .(40/112)
ويقول رحمه الله أمام المؤتمر الوطني سنة 1350هـ: "إن الدنيا إذا كثرت خبرتها والدين أهمل فلا فائدة ترجى منها، بل هذا أساس البلاء، أما إذا عمر الدين ونفذت أوامره واجتنبت محارمه صلحت الدنيا فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله ومخافته واتباع سنة رسوله، وأرجو أن تهتمو بالأمر اهتماماً شديداً.. وصفوة القول أنه إذا صلح الرأس صلح الجسد، وأمور الدين هي الرأس فإذا استقام أمره أصلحت أحوالنا الدنيوية" [15] .
ويقول سنة 1351هـ أمام كبار رجال الدولة: "وإنِّي أرى كثيراً من الناس ينقمون على ابن سعود، والحقيقة ما نقموا علينا إلا لاتباعنا كتاب الله وسنة رسوله، ومنهم من عاب علينا التمسك بالدين، وعدم الأخذ بالأعمال العصرية، فأما الدين فوالله لا أغير شيئاً مما أنزل الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أتبع إلا ما جاء به، وليغضب علينا من شاء وأراد، أما الأمور العصرية التي تعنينا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها، ونعمل بها، ونسعى في تعميمها، أما المنافي منها للإسلام فإننا ننبذه، ونسعى جهدنا في مقاومته، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عز لنا إلا التمسك به" [16] .
ويقول في كلمة له: "… وقد هدانا الله جل شأنه إلى الصراط السَّوي في معاشي الدنيا والآخرة فقال في كتابه العزيز {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [17] فالاعتصام بحبل الله واجب على كل فرد من أفراد المسلمين لأن العزَّ كله، والخير كله بذلك فإذا حُدنا عن هذا السبيل خسرنا الدنيا والآخرة" [18] .
وأمام المؤتمر الإسلامي يقول رحمه الله سنة 1344هـ: "… ففي بحبوحة هذا الأمن والحرية التي لاتتقيد إلا بأحكام الشرع أدعوكم إلى الائتمار والتشاور في كل ماترون من مصالح ونظم يطمئن إليها العالم الإسلامي بإقامة شرع الله، والتزام أحكامه وآداب دينه" [19] .(40/113)
ويقول رحمه الله سنة 1350 هـ: "… فلنعرف ذلك، ولنحتفظ بديننا، ولغتنا، وبلادنا، ولنحبها حباً جماً لا مانع من أن نأخذ من غيرنا المفيد، فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، وقد كانت للعرب في جاهليتها خصال حميدة وكانت لغيرهم أيضاً فجاء الإسلام فأقرها" [20] .
ويقول سنة 1347هـ: "إن المسلمين متفرقون اليوم طرائق بسبب إهمالهم العمل بكتاب الله وسنة رسوله" [21] .
ويقول رحمه الله: "يجب أن نداوي أنفسنا بطاعة الله سبحانه وتعالى، فطاعته مصدر كل عز وخير لنا" [22] .
وقال: "إني مسافر إلى مهبط الوحي لبسط أحكام الشّريعة، ولن يكون في مكة بعد الآن سلطان لغير الشرع" [23] .
يقول الزركلي: "كان عبد العزيز كلما سئل عن دستور بلاده أجاب دستورنا القرآن وهو يعني تقيده هو ومملكته بأحكام الشّرع الإسلامي المستمدة من معاني القرآن، وما لم يكن فيه فمن حديث رسوله وعمله، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه وسيرتهم… الخ "، وأشار إلى أن أول نظام وضع للمملكة كانت مادته من إملاء عبد العزيز بمكة سنة 1345هـ وقد جاء فيه:
5 - جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح" [24] وأعلنت المملكة عام 1364هـ للدول العربية: أنها ستمتنع عن تنفيذ أي مبدأ في التعليم أو التشريع يخالف قواعد الدين الإسلامي وأصوله [25] .
وتحقق الهدف وأدرك الناس من مسلمين وغيرهم سمو الهدف وعظمة الإنجاز، وأينعت الثمار على خير وجه.(40/114)
يقول الأمير شكيب أرسلان: "… إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبد العزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة فلم تمض سنة واحدة حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضواري في كل يوم بل في كل ساعة إلى مهد أمان وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عاد، ولا غارة حاضر ولا باد، وكأن أولئك الأعراب الذين روعوا الحجيج مدة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحولت إلى حملان فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكة إلى المدينة أو من المدينة إلى مكة أو إلى أية جهة من المملكة العربية السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت والزمرد ما تجرأ أحد أن يسألها عما معها… فسبحان محول الأحوال ومقلب القلوب، والله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشرق ولا في الغرب ولا في أوربا ولا في أمريكا، وقد تمنى المستر "كراين" الأمريكي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن وكل من سكن أوروبة، وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأن الأمنة على الأرواح والأعراض والأموال في البقاع المقدسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتاداً وأشد أطناباً منها في الممالك الأوروبية والأمريكية، فأين أولئك الذين كانوا يقولون إن الأعراب لا يقدر على ضبطها إنسان، وأن سكان الفيافي هم غير سائر البلدان فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة ومحا أثر الغارات والثأرات بين القبائل وأصبح كل إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل، ويدخل أرض كل قبيلة دون أن يعترضه معترض أو يسأله سائل إلى أين هو غاد أو رائح… وقد سرت بشرى الأمان الذي شمل البلاد المقدسة الحجازية فعمت أقطار الإسلام، وأثلجت صدور أبنائه، وارتفعت عن الحجاز تلك المعرّة، التي طالما وجم لها المسلمون، وذلك بقوة إرادة الملك عبد العزيز بن سعود والتزامه حدود الشرع"(40/115)
[26] .
ويتناول عبد القادر عودة الإنجاز من خلال حديثه عن عظمة الشريعة الإسلامية وما يجنيه من طبقها وسار على هديها من أمن وعز وتمكين فيقول:
"ولقد مرّ على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأضاوع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلائم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات وأكفل بتنظيم وسد حاجتهم وأقرب إلى طبائعهم وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.
… وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة إذ الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي.(40/116)
دائماً المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة وإيجاد الدولة المثالية والعالم المثالي ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها ولا تزال كذلك حتى اليوم وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا العالم لمعرفته أو يصل إليه حتى الآن، ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملها على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل، وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية.
ولقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها عاملين بأحكامها تمسك بها المسلمون الأوائل، وعملوا بها وهم قلة مستضعفة، يخافون أن يتخطفهم الناس فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات إلا الشريعة الإسلامية، التي علمتهم وأدبتهم ورققت نفوسهم وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالحق.
كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها، وأهملوا أحكامها تركهم الرقي، وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل، فعادوا مستضعفين مستبعدين، لا يستطيعون دفع معتد، ولا الامتناع من ظالم.(40/117)
وقد خيل للمسلمين وهم في غمرتهم هذه أن تقدم الأوربيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم فذهبوا ينقلونها، وينسجون على منوالها، فلم تزدهم إلا ضلالاً على ضلالهم، وخبالاً على خبالهم، وضعفاً على ضعفهم، بل جعلتهم أحزاباً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولو أراد الله بالمسلمين خيراً لعلموا أن الشريعة الإسلامية وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع هي أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكوين الجماعة الصالحة وتوجيهها دائماً للتقدم المستمر والتطور الصالح ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال.
وإن في تاريخ المسلمين لآية وإنه لعبرة لمن كان له قلب، وإن فيه الدليل الحاسم على أن الشريعة الإسلامية هي التي خلقت المسلمين من العدم، وجعلتهم أمة فوق الأمم ودفعتهم إلى الأمام، وسلطتهم على دول العالم، وإن فيه الدليل الحاسم على أن حياة المسلمين وتقدمهم ورقيهم متوقف على تطبيق الشريعة الإسلامية، فالمسلمون من صنع الشريعة كيانهم تابع لكيانها، ووجودهم مرتبط بوجودها، وسلطانهم تابع لسلطانها.
إلى أن قال: "… وليعلم هؤلاء أن سبب تأخرنا وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقاً عادلاً ولا كاملاً في عهودنا المظلمة المتأخرة، وإن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم، وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئاً بل سيزيدنا تأخراً على تأخر وانحطاطاً على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر، والعودة لأحكام الشريعة.(40/118)
لقد طبق أباؤنا بعض أحكام الشريعة دون البعض الآخر، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه فصدقهم الله وعده - إن وعد الله حق - وأخزاهم في الحياة الدنيا، وجئنا على آثارهم، نتبعهم ونؤمن إيمانهم فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرة لأولي الألباب، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، وقلوبنا، ونؤمن بالكتاب كله، ذلك وعد الله والله يقول الحق وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
لقد آمن المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم فمكن الله لهم في الأرض وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم قادر أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحسن إيماننا ذلك وعد الله لعباده في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} .
وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته، حيث يقول جل شأنه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 16.
إلى أن قال: "… والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية ولا عبرة بالمنطق المزوق، الذي يصح مرة، ويخيب أخرى، ولست آتي بجديد حين أقول هذا وإنما أكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي، حيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة، وأن التجارب هي وحدها الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود، ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين كلية وجزئية.(40/119)
فأما التجربة الكلية فقد بُدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي عشرين عاماً، حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً، ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام، وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام، فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حضر في نهار أو ليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم، والتمثيل بهم وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية، فانقلبت الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عهد الخطف، والنهب، وقطع الطريق، وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى، فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها، وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه.(40/120)
وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية من الداخل وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين تلك هي التجربة الكلية وكفى بها دليلاً على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملاً إلى قطع دابر الجريمة وإنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القانون الدولي" [27] .
ويقول وفد كبار رجال الفكر والقانون في أوربا وقد شاهد بعينه آثار التجربة والإنجاز: "من هنا ومن هذا البلد الإسلامي يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان وإنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي والتي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين، وألحّ أن تكتب للوفد الأجوبة القيمة - التي سمعوها - لتكون في أيديهم وثيقة مكتوبة يدافعون بها عن الإسلام ويشرحون بها الحقيقة لكل راغب في المعرفة.
وقال أحد أعضاء الوفد: … وإني بصفتي مسيحياً أعلن أنه هنا في هذا البلد الإسلامي يعبد الله حقيقة وأنه مع السادة العلماء بأن أحكام القرآن في حقوق الإنسان بعد أن سمعها ورأى في الواقع تطبيقها هي بلا شك تفوق على ميثاق حقوق الإنسان [28] .
العنصر العاشر: الدَّعوة إلى الدِّين الحق والعقيدة السلفية
من بدهية الأمور أن رجلاً عظيماً أقام دولته على أساس الكتاب والسنة سيكون بلا شك من أهم إنجازاته الدعوة إلى الدين الحق والعقيدة الصحيحة، وهذا ما حصل بالفعل من الملك عبد العزيز رحمه الله.
يقول في أحد خطبه سنة 1351هـ: "أنا مبشِّرٌ أدعو لدين الإسلام ونشره بين الأقوام، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الخلفاء الراشدين" [29] .(40/121)
ويقول أيضاً: "وقد جعلنا الله - أنا وآبائي وأجدادي - مبشرين ومعلمين بالكتاب، والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، لا نتقيد بمذهب دون آخر، ومتى وجدنا الدليل القوي في أي مذهب من المذاهب الأربعة رجعنا إليه وتمسكنا به، وأما إذا لم نجد دليلاً قوياً أخذنا بقول الإمام أحمد…" [30] .
ويختتم كلمته أمام المؤتمر الإسلامي بقوله: "أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لإقامة دينه الحق وخدمة حرمه وحرم رسوله صلوات الله وسلامه عليه والتأليف بين جماعة المسلمين والحمد لله رب العالمين.." [31]
وفي خطاب ألقاه أمام عدد من كبار موظفي الدولة سنة 1346هـ وهو يعيد صياغة إنسان هذه الجزيرة بما يتفق والإسلام الحق يقول: "تعلمون أن أفضل الأعمال كلمة حق تقال، وأن أفضل الأعمال معرفة الحق واستعماله، والمجالس يجب أن تكون للنصيحة والإرشاد، نحن نريد أن نسير إلى الأمام بأقدام ثابتة وفي ضوء النهار، إن رأينا واعتقادنا وآمالنا في السير إلى الأمام يجب أن يكون وفق ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، فما كان موافقاً للدين في أمور الدنيا سرنا عليه، وما كان مخالفاً نبذناه [32] .
وفي سنة1347هـ قال في القصر الملكي بمكة: "يُسموننا "بالوهَّابيين"ويسمون مذهبنا "الوهابي"باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض.
نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح.
ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وكلهم محترمون في نظرنا.(40/122)
هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها وهذه هي عقيدتنا وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل، خالصة من كل شائبة منزهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب… والله إنني لا أحب الملك وأبهته ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى التوحيد، ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك وليتفقوا فإنني أسير وقتئذ معهم لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير بل بصفة خادم أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي والله على ما أقول شهيد وهو خير الشاهدين.." [33]
وفي خطبة له عام 1348هـ في حفل أمانة العاصمة في مكة المكرمة يقول: وليس الغرض من هذه الاجتماعات الأكل والزينات - فإن هذا لا يهمنا - وإنما المهم عندنا أن نتذاكر مع إخواننا بما يعلي كلمة التوحيد ويدعو لإخلاص العبادة لله فهذا جل ما نقصده من هذه الاجتماعات… إلى أن قال: "وكل همي هو موجه لإعلاء كلمة الدين وإعزاز المسلمين، سنبقى مثابرين - أنا وأسرتي - على هذه الخطة إلى ما شاء الله ولن نحيد عنها قيد شعرة بحول الله وقوته، ومن الله نسأل التّوفيق والهداية" [34] .
وفي حفل بمبنى وكالة المالية في الطائف سنة 1351هـ أمام كبار رجالات الدولة يقول: "وإذا ما بلغنا إلى جهة من الجهات أمرنا أهلها باتباع كتاب الله وسنة رسوله وما نحن إلا مجاهدون في سبيل الله، وإن أول شيء نحافظ عليه، ونعض عليه بالنواجذ ونحارب دونه ولو أهل الأرض هو ديننا ووطننا، وهذان الأمران لا نقبل فيهما قولاً ولا تصرفاً ولا هوادة، إنَّا نبذل النفس والنفيس دونهما لأنهما عظيمان عندنا ولا يمكن أن نتخلّى عنهما قيد شعرة، ومن لامنا في ذلك فليضرب رأسه بالجدار" [35] .(40/123)
وفي خطاب له يقول - وهو يتحدث عن الجيوش القوية التي أصبحت تحت يده -: "إن هذه القوة موقوفة لتأييد الشريعة الإسلامية، ونصرة الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها أعادي من عادى الله ورسوله، وأصالح من لا يعادينا ومن لا يناوئنا بسوء" [36] .
ويقول أيضاً في كلمة له: "إنني رجل سلفي وعقيدتي هي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة" [37] .
هكذا كان هاجس الملك عبد العزيز رحمه الله، دعوة صادقة إلى الدين الحق وبناء عقدي منبثق من الكتاب والسنة، بل إن الأمر يصل إلى حد الحس المرهف في أمر العقيدة والدين.
يقول الزركلي: "في إحدى زيارات الملك عبد العزيز لبلدة الخرج يوم 7/12/1363هـ دخل عليه شاعر من أهل نجد وفي يده قصيدة استأذنه في إلقائها وابتدأ بمطلعها: "أنت آمالنا وفيك الرجاء"..
فصاح الملك: تخسأ، ولمح في المجلس الشيخ حمد الجاسر فقال علمه التوحيد يا ابن جاسر [38] .
وفي اجتماع الملك عبد العزيز بأحد الملوك العرب أراد الملك العربي أن يؤكد أمراً فقال: "وحياة رأسك. فنظر إليه عبد العزيز وقال: قل: "والله" [39] .
ويتلقى في مفتتح عام 1349هـ البرقية الآتية: "صاحب الجلالة مكة في مثل هذا اليوم بزغ نجم العروبة عند إقبال الزمان، وأنت الآن محط أنظارها ومناط آمالها فلعل الله اختارك لتجديد شبابها ولإعادة مجدها حياك الله وأحياك، أحمد زكي باشا".
وكان الجواب:
إلى أحمد زكي باشا بمصر
نسأل الله أن يوفقنا للعمل بالمبادئ التي تأسست يوم بزوغ نجم العروبة لأن في ذلك السعادة والسؤدد كله.
عبد العزيز" [40] .(40/124)
هكذا القمم في مبادئها، وقيمها وثباتها، على تلك المبادئ والقيم، ومن هنا يعلم خطورة قول المترحم على أبي خلدون ساطع الحصري.. وأمثاله: "إن دعاة القومية من أولهم إلى آخرهم كانوا لعبد العزيز، وبه، ومنه..!! "سبحان الله أين داعية الدين الحق والعقيدة الصحيحة وحامي حمى الحرمين من غوائل الاستعمار العسكري والفكري، أين هذا من ركائب الاستعمار ودعاة التغريب والردة كما تشهد بذلك طروحاتهم واعترف أنه ما كان لي أن أزج بذكر القومية "رموز وفكر"وسط سيرة البطل لولا أنهم قد تجرأوا وادعوا في عبد العزيز ما ليس لهم فكان لزاماً أن أنبه إلى الحقيقة التي قد تلتبس على بعض أنصاف المثقفين أو المشوهين فكراً وولاءً.
العنصر الحادي عشر: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في حكمة وحزم
من المعلوم لدى المسلمين ما أكدته الشريعة الإسلامية من أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه واجب على المسلمين كل حسب علمه وطاقته، ويتأكد في حق ولاة الأمر، إذ هو أحد أهم صمامات الأمان في المجتمعات، بل أنه أحد أهم مؤهلات الأمة المسلمة للخيرية على جميع البشر… {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [41] .(40/125)
ولاشك أن الملك عبد العزيز رحمه الله - وهو المسلم الواعي المراقب لربِّه - مدرك هذه الحقيقة وقد جاء ذلك واضحاً في عدد من أقواله وأفعاله. فها هو سنة 1344هـ بعد أن بايعه أهل الحجاز يلقي كلمة بليغة يدعو فيها إلى الصراحة والتناصح بين مختلف طبقات المجتمع وإلا هلك الجميع وضاعت الأولى والآخرة، يقول رحمه الله: "اعلموا أنّ ما من رجل مهما بلغ من المنازل العالية، يستطيع أن يكون له أثر، وأن يقوم بعمل جيد إذا كان لا يخشى الله، وإنِّي أحذركم من اتباع الشهوات التي فيها خراب الدين والدنيا، وأحثكم على الصراحة والصدق في القول، وعلى ترك الرياء والملق في الحديث. لم يفسد الملك إلا الملوك وأحفادهم، وخدامهم، والعلماء المملقون وأعوانهم، ومتى اتفق الأمراء والعلماء ليستر كل منهم على صاحبه فيمنح الأمير المنح والأمراء يدلسون ضاعت حقوق الناس وفقدنا والعياذ بالله الآخرة والأولى" [42] .
ويقول في كلمة سنة 1346هـ أمام عدد من كبار موظفي الدولة: "هنا محاكم شرعية ولجان الأمر بالمعروف، أسست لإظهار الحق وأنتم - أيها القوم -أمناء لهذا الدين ولهذا البلد الأمين، وأنتم مسؤولون عنه، وأنتم خدامه، فالأوامر التي تطبق على أهل البلد يجب أن تطبق عليكم، ولا جوز في أية حال تطبيق الأوامر على فريق دون آخر.
نحن نطلب منكم:
أولاً: إقامة الصلاة في أوقاتها، ولا يجوز التَّخلف عنها قط.
ثانياً: اجتناب جميع المحرمات، والابتعاد عن مجالسة الأشرار، ومخالطتهم، وعدم الجلوس في مجالس السوء والريب.
ثالثاً: عدم تقليد الأغيار بما يخالف آداب الشريعة السمحة، وصفوة القول: إنه يجب عليكم اتباع أوامر الحكومة، والعمل بها على شرط ألا تكون مخالفة للشرع، وما عهدنا أنها أصدرت أمراً يخالف الشرع قط.(40/126)
وثقوا بأننا سنتولى أمر التفتيش عن ذلك بأنفسنا، ونقسم بالله أننا سنهاجمكم على حين غرة، فإذا رأيت أحدكم حاد عن الطريق السوي، وقام بأعمال تلزم إدانته بدأنا بإدانة رئيسه ثم بإدانة ذلك الشخص بدون هوادة ولا شفقة، وأعلمكم بأن الجزاء والقصاص لن يكون إلا صارماً" [43] .
ويقول أمام المؤتمر الوطني سنة 1350هـ: "إن التقصير واقع وأنا مسؤول عن هذا التقصير، ولا أستطيع أن أهمل هذا الأمر، وقد كلفت بالبحث فيه حيناً هيئة الشورى وحيناً هيئة التحقيق، ولكننا لم نصل إلى نتيجة حاسمة فيجب أن تنظروا في هذه الأمور وأمامكم مسألتان:
ففي المحكمة قضايا مضت عليه سنتان أو ثلاث وهي واقفة معطلة وهذا أمر مشكل، ومن رأيي انتخاب هيئة من العلماء للنظر في هذه القضايا والبت في أمرها بتاً نهائياً.
ثم مسألة الشُّهود والقدح فيهم وهذا واقع في الحجاز واشتكى منه القضاة وهذا أمر مشكل فالإنسان الذي يصنع القبيح ويثبت عليه ذلك يقام عليه الحد، وكذلك ينظر في القدح الذي يقام، فإذا صح أقيم الحد على المقدوح به، وإذا لم يثبت يجازي المفتري، والحقيقة أن السواد من الدعاوي تأخر أمرها لهذا السبب، هذه الأمور في الحقيقة من أساس الدين فإذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وأصلحنا المحاكم هانت الأمور واستقرت الأحوال" [44] .
وأمام كبار رجالات الدولة والشخصيات والأعيان في الطائف سنة 1351هـ يقول: إن الذي دعاني لجمعكم في هذا المكان هو النصح لكم حتى لا يغتر السفيه بالحلم، ولا يسترسل في غوايته وأحذركم من أمرين:
الأول: الإلحاد في الدين والخروج عن الإسلام في هذه البلاد المقدسة فوالله لا أتساهل في هذا الأمر أبداً، ومن رأيت منه زيغاً عن العقيدة الإسلامية فليس له من الجزاء إلا أشده ومن العقوبة إلا أعظمها.
الثاني: السفهاء الذين يسول لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد وراحتها فهؤلاء شأني معهم شأن الديناميت مع النار.(40/127)
الناس أحرار في مأكلهم ومشاربهم ومرازقهم، ونزههم، ومن اعتدي عليه فليراجعني لأنصفه، ولو جاءني أيُّ إنسان وقال إن ولدك فيصل أخذ مالي واعتدى عليّ فإن رآني أنصفته منه علم أني أقول وأصدق في القول، وإن رآني أهملته وساعدت ولدي على ظلمه فعند ذلك له الحق عليّ، ولينعم كل إنسان بنعمة الإسلام، وغير هذا لا نعمة ولا حرية فمن كان مشارفاً بنظره من قرب أو بعد فليعلم أن الناس لم يتركونا رحمة أو عطفاً وإنما تركونا لأن الله أراد تأييدنا ونصرنا.
وقد أتيت بهذا البيان نصيحة لمن قد يغويه إبليس بوسواسه.
وإني إذا قلت فعلت، وإذا فعلت أمضيت ثم لا أبالي بما يكون، هذه نصيحتي يبلغها الشاهد منكم الغائب، وليعلم الجميع أني لا أحمل حقداً على أحد إلا على شخصين:
إما رجل ملحد في الدين، أو يقصد البلاد بسوء، فمن كان في نفسه شيء من ذلك فلا يأمن عقابي" [45] .
هذا هو عبد العزيز: قوة في إيمان، علم وعقيدة، وعمل، ثم متابعة وتوجيه رجل قيم ومبادئ، وإنك لتعجب وأنت تتابع جهد عبد العزيز في إعادة صياغة إنسان هذه الجزيرة في الشمال وفي الجنوب، في الشرق وفي الغرب، كيف كان على علم ودراية بكل ما يجري في هذه البلاد الواسعة رغم قلة وسائل الاتصال وتواضعها وكيف كانت وسائله موفقة في الإصلاح الذي تم من خلال أجهزته وولاته أحياناً والاتصال المباشر بالجماهير أحياناً وكل ذلك لتحقيق هدف واضح المعالم وغايات نبيلة محددة - وهو يعلم قبل ذلك وبعده أن الناس - وأي ناس؟ - لم يتركونا رحمة وعطفاً - وإنما تركونا لأن الله أراد تأييدنا ونصرنا.
فرحم الله أبا تركي وجزاه خيراً على كل ما قدمه للإسلام والمسلمين، والحمد لله أن جهوده لم تذهب هدراً إذ جعل في بنيه وأبناء شعبه البركة فها هي مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تزال إحدى المؤسسات الكبيرة في الدولة تؤدي دورها المنوط بها على الوجه المطلوب.(40/128)
العنصر الثاني عشر: الاهتمام بأمن المسلمين ووحدتهم
الملك عبد الملك عبد العزيز رحمه الله، قائد محنك، ومسلم واعي، كان يعلم أهمية الأمن، والوحدة فبذل غاية جهده لتحقيق ذلك وهو يردد قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [46] .
وسأترك لأقوال الملك عبد العزيز وبعض المؤرخين والكتّاب عرض بعض الصُّور الجميلة لما تم على يدي عبد العزيز في هذا المجال.
يقول في كلمة له بالقصر الملكي بمكة سنة 1350هـ أمام كبار الحجَّاج: "… وإني والله لا أقبل على بلادي ولا على بلاد المسلمين مايضرُّ بهم، وإني أحترم الشائب منهم كأبي، والوسط كأخي والصغير كابني، وهذا ما أعاهد الله عليه ثم أعاهدكم عليه، والحقائق ظاهرة كالشمس" [47] .
ويقول سنة 1351هـ أمام كبار الحجاج أيضاً: "أنا مسلم وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي في سبيل ذلك، أنا عربي وأحب عز قومي والتألف بينهم، وتوحيد كلمتهم وأبذل في سبيل ذلك مجهوداتي، ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب وما يوحد أشتاتهم ويجمع كلمتهم" [48] .(40/129)
ويقول رحمه الله: "لقد حكمتْ هذه البلاد حكوماتٌ قوية، ذات طول وحول قبلنا ولكنها لم تقدر على تأمين الطرق بين مكة وجده فضلاً عن بقية الأماكن والطرقات، أما اليوم فإن الأمن سائد في طول البلاد وعرضها قد لمستموه بأيديكم وشاهدتموه بأعينكم وهذا من فضل ربي علينا، ونحن لا نقول هذا للافتخار وإنما للإشارة إلى أننا - أسرتي وشعبي - جند من جنود الله نسعى لخير المسلمين، ولتأمين راحة الوافدين إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكهم…" [49] .
ويقول الملك عبد العزيز سنة 1359هـ أمام كبار الحجاج: "كل ما ندعو إليه هو جمع كلمة المسلمين واتفاقهم ليقوموا بواجبهم أمام ربهم وأمام بلادهم والذي نشهد الله عليه ونحن أوسطكم في الإسلام وأوسطكم في العروبة أننا ما ننام ليلة إلا وأمر جميع المسلمين يهمنا، يهمنا أمر إخواننا السوريين، وأمر إخواننا الفلسطينيين وأمر إخواننا العراقيين، وإخواننا المصريين تهمنا حالتهم ويهمنا أمرهم ويزعجنا كل أمر يدخل عليهم منه ذل أو خذلان لأننا نرى أنهم منا ونحن منهم كما تهمنا جميع بلاد المسلمين وإننا نرجو الله أن يوقظ المسلمين من غفلتهم ليتعاضدوا ويتعاونوا" [50] .
واسمع كلام الريحاني الوافد من الغرب صاحب الجولات في البلاد العربية والمشاريع العريضة التي تساقطت - بعد أن أُقرت من ملوك العرب - على صخرة عبد العزيز "حنا أهل نجد نبغي المحافظة قبل كل شيء على أمرين: ديننا وشرفنا"، "ما رأيك يا حضرة الأستاذ - عبد العزيز يخاطب الريحاني - لا تقل لي أن لا دخل لك بالسياسة، وأن سياحتك في بلادنا سياحة علمية فقط، حنا نفهم ومد يَده على لحيته وهو يبسُم بسمته الخلابة. لا تخدعنا يا أستاذ [51] [52] .
يقول الريحاني في وصف ما تحقق على يدي الملك عبد العزيز رحمه الله من أمن:(40/130)
"… عدلُ ابن سعودٍ كلمةٌ تسمعها في البحر، وفي البر، وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها، كلمة يرددها الركبان في كل مكان يحكمه سلطان نجد من الأحساء إلى تهامة ومن الربع الخالي إلى الجوف… أحكام الشرع… تنفذ في نجد بلا تردد ولا محاباة ولا مرافعات لولبيات طويلات، حكم ابن سعود لا يعرف في سبيل العدل كبيراً أو غنياً… وقف يوماً أحد… الحطابين ومعه أربعة جمال محملة ساومه قيمُ السلطان عليها فطلب الجمالُ روبيتين ثمن كل حمل وسعره الاعتيادي نصف روبية… فقال القيم وكان الجمال قد ولى بأحماله: …"لولا الشيوخ والله لأدبته"، ولو كنا في معسكر تركي أو أوربي وكان الجيش بحاجة إلى الحطب فهل تظن أنهم كانوا يعاملون هذا الحطاب مثل هذه المعاملة… لولا الشيوخ لفعل الخدامون بالبدو الحطابين… الفعلات.. وإذا كان العدل أساس الملك فالأمن أول مظهر من مظاهر العدل. وفي نجد اليوم من الأمن ما لا تجده في بلادنا أو في أي بلاد متمدنة لا يظنني القارئ مبالغاً بما أقول.. القوافل تسير أربعين يوماً في ملك ابن سعود من طرف إلى طرف من القطيف مثلاً إلى أبها، أو من وادي الدواسر إلى وادي السرحان دون أن يتعرض لها أحد من البدو أو الحضر، دون أن تسأل من أين وإلى أين… كانت الطرق في الإحساء في عهد الأتراك لا تعبر إلا بقوة عسكرية أو بدفع "الخوة"وكانت الطريق بين العقير والحسا وهي طريق التجارة إلى نجد الأسفل، أكثرها وأشدها أخطاراً فكان التاجر العربي المسلم الذي يروم الوصول إلى الهفوف - مسافة أربعين ميلاً - يضطر أن يدفع "الخوة"كلما اجتاز خمسة أو عشرة أميال من هذه الطريق المخيفة، طريق التجار والأموال.
جاءها العجمان من الجنوب.
وبنو مرة من الربع الخالي.
والمناصير من قطر وما دونها.
وبنو هاجر من الشمال من نواحي القطيف والكويت.
وجاء من داخل البلاد من وراء الدهناء الدواسر الأشاوس.(40/131)
فحاموا كلهم على هذه الطريق وربطوها، وقطعوها، وتقاسموا أموال قوافلها كان يجيء التاجر من البحرين مثلاً فيدفع قبل أن يطأ برجله العقير خوة للعجمان.
ومن العقير إلى النخل خمسة أميال، وخمسون ريالاً خوة للمناصير، ومن النخل إلى أم ذر خمسة أميال، وخمسون ريالاً خوة لبني مرة ومن أم ذر إلى العلاة خمسون ريالاً خوة لبني هاجر ومن العلاة إلى… الخ، وإذا فاز التاجر المسكين بحياته وبقي في كيسه، فمن المؤكد أن أحماله لا تصل كلها إلى الحسا، وكان إذا خرج عسكر الترك لتأديب أحد من هؤلاء العشائر يطاردهم البدو فيغلبونهم ويأخذون خيلهم وثيابهم..
هذه هي حال الأحساء قبل أن تسقط في يد ابن سعود، أما اليوم فقد مررنا في النفود بجمل بارك رازح تحت حمله فسألت عن صاحبه فقيل لي إنه سار في طريقه، وسيرجع بعد أن يصل إلى البلد بجمل آخر يحمل البضاعة وقد يموت الجمل الرازح ويبقى حمله على قارعة الطريق عشرة أيام فيعود صاحبه فيجده، وما مسته يد بشرية كما تركه في مكانه كيف تمكن ابن سعود من إقامة مثل هذا الأمن وتوطيده في بلاده؟
بأمرين:
أولهما: الشرع.
وثانيهما: تنفيذ أحكام الشرع تنفيذاً لا يعرف التَّردُّد ولا التمييز ولا الرأفة" [53] .
هكذا استطاع الملك عبد العزيز رحمه الله إعادة صياغة إنسان هذه الجزيرة بوسائل مضمونة النتائج فتغيرت الأوضاع، وعاش الناس في أمن واستقرار، والوسائل التي غير بها عبد العزيز أوضاع الجزيرة باقية صالحة لكل زمان ومكان ولتحقيق ذات النتائج متى مكن لها كما أراد الله وذات الوسائل هي التي استمرت في إعطاء أفضل النتائج إلى اليوم في المملكة العربية السعودية رغم تطور المجتمعات البشرية الاجتماعي والأخلاقي وانفتاح العالم على بعضه بشكل مذهل.(40/132)
عن الأمن في المملكة وفي حدود 1392هـ يقول أحد كبار رجال الأمن في أمريكا وقد سئل هل يركب سيارة مدرعة عند زيارته للسعودية فقال مانصه: "في هذا البلد فقط يشعر الإنسان بالأمن" [54] .
ويقول الشيخ التويجري: "أقرَّ - يعني الملك عبد العزيز - الأمن في شبه الجزيرة العربية فسعد بذلك حجاج بيت الله الحرام، وسعد به أيضاً كل المسلمين، وبفقدان الأمن والاستقرار في حكم مترهل تفقد الأمم مقومات حياتها، حالة عامة متى وُجدت وجد معها الضياع في كل ما هو وراء سرير نوم الحاكم ولو لم توجد مثل هذه الحالة لما سقطت دول، وانهارت عروش… والأمن في هذه الحالة الفريدة ممكن أن يقول عنه قائل إنه واقع لا نبخسه حقه وقدره الكبير لكنه صار إلى ماض مضاف إلى التاريخ بوسائله، وإنسانه، وأيامه، بالنسبة لأمن الشعوب اليوم التي تداخلت فيها ومعها مسارات واسعة في العقل والفكر والأرض والفضاء فمن تجاوز في حساباته مع الأمن هذه الحقائق، ومقدار نفسه وظل في نعاس في عالم يقظ ستوقظه الأحداث من حوله أو فيما هو بعيد عنه إذا افترضنا أن هذا العالم اليوم شيئاً بعيداً في عصر الاتصالات والعقول الحاسبة" [55] .
ومع تقديري وتأييدي لما ذهب إليه الشيخ التويجري من استحثاث جيد وتحذير يقظ فإنني على ثقة أنه يتفق معي تماماً - وهو ما يعتقده كل مؤمن بالله - أن إنسان هذا العصر وغداً وإلى أن تقوم الساعة ومستحدثاته لن تستعصي على شرع الله الذي جاء من لدن حكيم خبير وهو صالح لكل زمان ومكان والبقاء له وحده، هذا الشرع وراء جواب ذلك المجرم الذي حينما سئل في بلد مجاور جداً - مارس فيه عدداً من السرقات في مدة قصيرة: هل سبق أن مارست هذا العمل في السعودية التي عشت فيها سنوات كثيرة - فكان جوابه "يا معودين هناك يقطعون اليد" [56] .(40/133)
هذا الشرع والثَّقة به وتطبيقه قولاً وعملاً هو السبب فيما تحقق من تغيير على يدي الملك عبد العزيز مما ظن أنه أصبح أمراً لا مناص منه وحتى وصل الاستسلام له أن أفتى بعضهم بإسقاط فريضة الحج باعتباره أمراً غير مستطاع كما ذكر ذلك التويجري. تحقق ذلك الأمن علي يدي الملك عبد العزيز رغم التَّحديات العظيمة التي واجهها.. جهل، وفقر، وقلة إمكانيات، وقوى معادية ومؤامرات تحاك في الداخل والخارج.
العنصر الثالث عشر: الصبر، والأناة، والحكمة، والواقعية في معالجة أمور الدولة
الأناة والحلم خصلتان يحبهما الله ورسوله [57] وقد رزق الله الملك عبد العزيز رحمه الله قدراً عظيماً من الصبر، والأناة، والحلم، والواقعية في معالجة أمور الدولة وإليك بعض ما يؤكد ذلك.
يقول كشك وهو يعلق على بعض صور صبر الملك عبد العزيز: هذا العملاق كان يتمتع بقوة خارقة في السيطرة على جسده الكبير.
ففي شرخ الشباب، وعندما اقتحم بيت عجلان كان عليه أن ينتظر للفجر حتى يقوم بالخطوة التالية، وهي ساعات تتوتر فيها أعصاب أشجع الشجعان، ويفر النوم من كل عين فهو داخل بيت عدوه، في مدينة يسيطر عليها هذا العدو وهو على مرمى السهم من الحصن. وصرخة امرأة ولو من الرعب، يمكن أن توقظ المدينة كلها وتثيرها ضد هذا المجهول عند الحريم، صرخة واحدة أو اشتباه حارس، أو غلطة من أحد المرافقين يمكن أن تضع حداً لحياته ومغامراته، والقضية التي خاطر في سبيلها، ولكن لأنه لا يمكن فعل شيء حتى الفجر. والانتظار يرهق الجسد ويتلف الأعصاب، ومعركة الفجر تحتاج لطاقته كاملة. إذاً لابد من النوم.
ليتمرد الجسد، لتصرخ الأعصاب محتجة ولكنه قرار عقلي، وإذا قرر عقل ابن سعود فلابد أن يطيع الجسد. وقد كان ونام.(40/134)
وهذا في اعتقادي أشجع عمل قام به في مغامرة ليلة المصمك أو فتح الرياض وقد فعلها مرة أخرى عندما أغلق أبواب قصر ابن عقيل عليه هو وجنده ونام وابن رشيد يزحف بخمسة عشر ألف جندي من الأتراك والعرب بمدافعهم.
وعندما حانت لحظة المغيب ووصل الجسد إلى نهايته المحتومة.. انقلب الوضع، فبعدما كانت المشكلة هي كبح الجسد المتفجر بالقوة أصبحت عند الغروب هي مقاومة فتور هذا الجسد وضعفه، وقد ظل العقل الشامخ مسيطراً في الحالتين..
وهناك روايات كالأساطير ولكنها غير مسنغربة من محارب مثله مات وفي جسده43 طعنة وأشهرُ تلك الأساطير حادثة انفجار حزام الرصاص في بطنه… ولكنه كتم الأمر طول الليل وعندما عرض إصابته على مرافقيه قال لهما لو علم أحد بها قتلتكما ودخل الأحساء راكباً وجلس في القصر، وخطب وتزوج في تلك الليلة لكي لا تتحول الهزيمة إلى كارثة بإشاعة إصابته أو موته… ولنا إذاً أن نصدق حادثة الرصاصة التي أصابته في فخذه فلم تصدر منه همسة ولا حركة يعرف منها الجالسون حوله هل أصيب أم أخطأته الطلقة [58] .
وإذا أردت أن تقف على أعجب ما يتصور من التحمل والصبر والأناة إلى أن يصبح الحسم أمراً لا مفر منه ولا مندوحة عنه فانظر "من مذكرات تركي الماضي 88 إلى 115"في المراسلات التي تمت بين الملك عبد العزيز ومندوبية وولاته في تهامة حول مسألة الإدريسي.(40/135)
ومن أقوال الملك عبد العزيز رحمه الله التي تدل على ما منحه الله من حلم وصبر وواقعية قوله "العرب اليوم هم كالطفل الصغير، يحتاجون إلى عناية شديدة، فمن الواجب على الذي يتولى أمرهم أن ينصحهم، ويرشدهم إلى الطريق الصواب، وقد عملنا الواجب في هذا الصدد، ولكن إذا تمادى البعض في غيهم وظهر أن المصلحة العامة مهددة اضطر ولي الأمر للضرب على الأيدي وسفك الدماء فهو في عمله هذا كمثل الطبيب الذي يستعمل أنواع الأدوية التي يحتاج إليها المريض، ويضطر في بعض الأحيان إلى بتر عضو من الأعضاء حفظاً لسلامة المجموعة، وقد قالت العرب في أمثالها لهذا الصدد "آخر الدواء الكي" والقتل أنفى للقتل.. وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [59] . يعلم الله أن كل جارحة من جوارح الشعب تؤلمني، وكل أذى يمسها يؤذيني وكذلك الشعب يتألم إذا أصابني شيء ولكن المصلحة العامة تضطرني لأن أقضي على من لا يصغي للنصح والإرشاد، وبأن أتجرع ألم ذلك حفظاً لسلامة المجموع، إنني أتألم جد الألم إذا رأيت بعض الأشخاص يشذون عن الطريق السَّوي فيصغون لوساوس الشيطان، ومما لاشك فيه أن المصلحة العامة هي فوق كل مصلحة، ولذلك فإن مصلحة المسلمين ترخص الأنفس في بعض الأوقات" [60] .
ويقول: "… أنا أتأخر وأتقدم بقدر الحاجة ولا أعمل عملاً أخرب به بلادي، وإذا جاء وقت العمل واللقاء فالعار على الذي يتأخر… أما الهرج والمرج والكلام الذي يضرنا أكثر مما ينفعنا فهذا ما لا دخل لي فيه" [61] .
ويقول: "… تعلمون أننا ما دخلنا الحجاز إلا بعد أن حوربنا في وطننا، وإنا والله لا نقبل على أمر إلا إذا بلينا فيه وإذا بلينا في شيء دافعنا عن ديننا وأنفسنا، وقوميتنا ووطننا فيأخذ الله بيدنا وهذا فضل من الله علينا" [62] .(40/136)
ويقول رحمه الله: "إن أحب الأمور إلينا أن يجمع الله كلمة المسلمين فيؤلف بين قلوبهم ثم بعد ذلك أن يجمع كلمة العرب فيوحد غايتهم ومقاصدهم ليسيروا في طريق واحد يوردهم موارد الخير، وإذا نحن أردنا ذلك فلسنا نروم إتمامه في ساعة واحدة لأن ذلك يكون مطلباً مستحيلاً كما أننا لا نرمي من وراء ذلك إلى التحكم بالناس وإنما غايتنا أنه إذا لم يكن لنا من وراء هذا التضامن خير فلا يكون لنا من ورائه شر على الأقل.
كلكم يذكر حوادث العام الماضي.. وهذا السيد عبد الله بن وزير وهذا السيد الحسن الإدريسي - الجالسان الآن إلى جانبي - ماكنا نظن أن يكون بيننا وبينهم عداوة وبغضاء ولكن الأشرار فرَّقوا بيننا، والله عز وجل قد جعل هذا التباغض ألفة بيننا وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
لقد خشي المسلمون عاقبة التنابذ الذي حصل بيننا، ولكنه أفضى إلى خير جم طرب له المسلمون.
جاء ابن الوزير إلى هنا وحدثني في هذا المكان الجالس فيه الآن بشأن الخلاف قلت له ماذا تبغون؟ فإذا أنتم قتلتموني من يخسر؟ أنتم وحدكم؟.. لا.. لا الخسارة علينا وعليكم على حد سواء. ولما عرفت أننا وإياكم متفقون على أن النتائج هي الفرقة والخسران، وإن هذا الخسران واقع علينا جميعاً أمرت بالقرطاس والقلم وجلست أنا وإياه وحدنا ووضعنا مواد المعاهدة التي اطلعتم عليها والتي قابلها المسلمون بارتياح فإلى مثل هذا التضامن أدعو المسلمين إليه والعمل به [63] .
ولما ورده اقتراح بهدم مدينة من المدن وإزالتها من الوجود كان جوابه رحمه الله:
ما هو بخاف أن هدمها مشكل:
أولاً: من طرف الله وخوفاً منه تعالى في الأمور التي تتجاوز الحد، أيضاً فايهة هذه عند الدول وعند الأعداء ما هي فايهة طيبة ويحصل منها اعتراضات قوية فتركها وتحصينها وإعداد السكان فيها هو الأفضل [64] .(40/137)
وفي قصة المحمل المصري المشهورة - وهو بدعة لم تكن في عهد النبوة ولا الصحابة ولا الدولتين الأموية والعباسية - وصل الخبر إلى فؤاد الأول - ملك مصر يومئذ - فكان لذلك ردة فعل كبيرة لديه لكن الملك عبد العزيز عالج الأمر بحكمة فأرسل أكبر أبنائه سعود إلى مصر للعلاج ولتصفية الجو مع القصر الملكي فيها ولكن الجفوة استمرت فدعا الملك عبد العزيز إلى تحكيم الشرع. وقال في حديث أفضى به إلى صحفي مصري: لا خلاف بيني وبين مصر وأمر المحمل متروك إلى الدين وإلى حكم الشرع في مصر علماء، علينا أن نستفتيهم وأنا معهم فيما يأتون به من الكتاب أو السنة أبلغ مصر عني أن حكومتي على استعداد لكل تساهل تطلبه الحكومة المصرية يتفق مع الشرع، يقول الزركلي وقد عاد ما بين البلدين الشقيقين إلى ما تقتضيه طبيعة الإخاء [65] .
ووصفته الكاتبة الفرنسية أندريه فيوليس سنة 1937م فقالت: … وهو بعيد المطامح طويل التروي، لا يحب المجازفة ويعتقد أن الاستعداد للأمر ودراسته هما الوسيلتان للنجاح.
ويقول الأميركي "ميجر جنرال باتريك ج هيرلي": الملك عبد العزيز أحكم وأقوى من عرفت من قادة البلاد العربية، وإنه لرجل بعيد النظر نافذ العزيمة مستعد لقيادة شعبه إلى التمشي مع ركب التقدم العلمي.. [66] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحجرات آية 13.
[2] المصحف والسيف (61) .
[3] المصحف والسيف (68) .
[4] المصحف والسيف (75 76) .
[5] المصحف والسيف (82) .
[6] المصحف والسيف (92) .
[7] سورة التوبة آية (128 129) .
[8] المصحف والسيف (95) .
[9] شبه الجزيرة (2/746) .
[10] شبه الجزيرة (2/741 745) .
[11] الوجيز (159) .
[12] الوجيز (333) .
[13] السعوديون والحل الإسلامي (726) .
[14] المصحف والسيف (64) .(40/138)
[15] المصحف والسيف (68) .
[16] المصحف والسيف (80) .
[17] سورة آل عمران آية 103.
[18] المصحف والسيف (92) .
[19] المصحف والسيف (50) .
[20] المصحف والسيف (71) .
[21] المصحف والسيف (55) .
[22] المصحف والسيف (93) .
[23] الوجيز (86) .
[24] الوجيز (90 91) .
[25] شبه الجزيرة 3/1208.
[26] لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم (166 - 168) .
[27] التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (1/20، 22، 62، 712) .
[28] ندوات علمية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام (26) .
[29] المصحف والسيف (84) .
[30] المصحف والسيف (88) .
[31] المصحف والسيف (51) .
[32] المصحف والسيف (53) .
[33] المصحف والسيف (55 56) .
[34] المصحف والسيف (61 62) .
[35] المصحف والسيف (85) .
[36] المصحف والسيف (85) .
[37] المصحف والسيف (128) .
[38] شبه الجزيرة 2/746.
[39] الوجيز (185) .
[40] شبه الجزيرة (2/812 813) .
[41] سورة آل عمران آية "110".
[42] تاريخ نجد الحديث (429) .
[43] المصحف والسيف (53) .
[44] المصحف والسيف (68 69) .
[45] المصحف والسيف (81 82) .
[46] سورة آل عمران آية (103) .
[47] المصحف والسيف (77) .
[48] المصحف والسيف (84) .
[49] المصحف والسيف (89) .
[50] المصحف والسيف (119) .
[51] ملوك العرب (524، 529، 544) .
[52] وأنَّي له ذلك أبا تركي وهو مع من حفظ الله فحفظه أمام تلك التحديات العظام، والملاحظ أن الملك عبد العزيز رحمه الله فيمن اتصل به يأخذ منهم ما يريد ولا يأخذون منه إلا ما يريد هو.
[53] ملوك العرب (556 560) .
[54] نشر هذا الجواب في حدود عام 1392هـ في وسائل الإعلام ويتعذر عليَّ الآن توثيقه.(40/139)
[55] لسراة الليل هتف الصباح (637 649) .
[56] نشر ذلك التحقيق على لسان أحد أعضاء مجلس الأمة في ذلك البلد في مجلة المجتمع الكويتية قبل عدد من السنوات واعتذر عن عدم التمكن من التوثيق لعدم وجود العدد تحت يدي عند إعداد هذا البحث.
[57] جاء ذلك في حديث ابن عباس عند مسلم. كتاب الإيمان 1/48 رقم17 ترتيب عبد الباقي.
[58] السعوديون والحل الإسلامي (63 66) .
[59] سورة البقرة آية (178) .
[60] المصحف والسيف (58) .
[61] المصحف والسيف (76) .
[62] المصحف والسيف (80) .
[63] المصحف والسيف (93) .
[64] لسراة الليل هتف الصباح (653) .
[65] الوجيز (127 128) .
[66] الوجيز (191 192) .(40/140)
تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله
العنصر الرابع عشر: تفعيل القيم الإيمانية والمهنية في نفوس الأمة
الملك عبد العزيز رجل مؤمن، وسليل أسرة إيمان ومُلكٍ ودعوة، ٍ وقد انتدب نفسه رحمه الله لإعادة بناء دولة العقيدة، وهو يعلم حق العلم دور الإيمان وقيمه في حياة البشر.
يعلم أن "الإيمان ضرورة لا غنى عنها:
ضرورة للفرد ليطمئن، ويسعد، وتزكو نفسه.
وضرورة للمجتمع ليستقر، ويتماسك، ويرتفع، ويرقى.
فالفرد بغير إيمان حيوان شره، أو سبع فاتك، لا تستطيع الثقافة ولا القانون وحدهما أن يحدا من شراهته.
والمجتمع بغير إيمان مجتمع غابة وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، الحياة والبقاء فيه للأشد والأقوى لا للأفضل، ولا للأتقى، مجتمع تعاسه، وشقاء وإن زخر بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم، مجتمع تافه رخيص لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون والفروج.
والعلم المادي وحده ليس بمستطيع أن يحقق الطمأنينة والسعادة للناس إن العلم هيأ للإنسان الحديث وسائل الحياة، ولكنه لم يهده إلى غاياتها، إنه زين له ظاهرها ولكنه لم يصله بأعماقها.
وما أتعس الإنسان إذا أغرقته الوسائل فذهل عن الغايات، وإذا شغل بالسطح عن القاع، وبالقشر عن اللباب. العلم المادي أعطى الإنسان أدوات كثيرة، ولكنه لم يعطه قيمة كبيرة. أو هدفاً رفيعاً يحيا له ويموت عليه، ذلك أن هذه ليست وظيفة العلم وليست من اختصاصه وإنما ذلك من اختصاص الإيمان والدين.
ومفتاح الشخصية الإسلامية والعربية على وجه خاص هو الدين هو الإيمان هو عقيدة الإسلام.
ومهما نحاول أن نزكي هذه الشخصية، وأن نفجر طاقاتها المكنونة بغير مفتاحها الأصيل - وهو الدين والإيمان - فإننا نحاول عبثاً كمن يبني على الماء، أو يكتب في الهواء.
بعقيدة الإسلام انطلق العرب من جزيرتهم، يخرجون العالم من الظُّلمات إلى النور…(40/141)
وبعقيدة الإسلام انتصرت أمتنا العربية على أوربا وقد جاءت بقضها وقضيضها في تسع حملات صليبية.
وبعقيدة الإسلام انتصرت على غزو التتار الذين زحفوا على هذا الشرق كالريح العقيم.
الإيمان أساس شخصية المسلمين، وسر قوتهم، ورافع رايتهم، وهو سر مجدهم في الماضي، ومناط آمالهم في المستقبل" [1] .
الإيمان بما يحدثه في النفس البشرية من قيم وأخلاق هو وحده القادر على إعادة صياغة الإنسان بما يتفق وآدميته والتكريم الذي أراده الله له.
الإيمان هو القوة التي لجأ إليها المسلمون عبر تاريخهم في الملمات فاستعادوا صحتهم، وقوتهم، ووجودهم.
الإيمان بقيمه وبما يحدثه في النفس البشرية هو سر انتصار الملك عبد العزيز رحمه الله وإعادة الأمن والأمان إلى شبه الجزيرة فانطلق إنسان هذه الجزيرة يعمر الأرض، ويحقق العدل والأمن في ظل توجيه دائم من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله لكل شرائح المجتمع وفي مختلف المواقع وخاصة الرجال الذين سيعهد إليهم وظائف الدولة، فتحدد واتحد الهدف، وسمت الوسائل، وسارت القافلة إلى غايتها دون تعثر أو شوائب.
وإليك قليلاً من كثير من تلك الجهود التي بذلها بطل الجزيرة في توجيه أمته وتفعيل قوى الإيمان في نفوس أفرادها والعمل على إكسابهم كل ما ينفعهم في بناء هذا الصرح الشامخ.
يقول في المؤتمر الوطني: "الغاية من هذا الاجتماع هي:
1 - اتباع ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام تنفيذاً لما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [2] وللمشاورة فوائد جمة لا تحصى، ولو لم يكن من مصالحها إلا تقويم السنة لكفى…(40/142)
2 - إن الإنسان أحب ما إليه في حياته أن يجتمع مع صديقه، وأن يتجاذب وإياه أطراف الحديث، وبهذا يحصل التعارف، وتظهر الحقائق، ويقع التناصح، وقد كان السلف الصالح يسيرون على هذا الطريق في أعمالهم، فقد كان أمرهم شورى بينهم، وكان من أمرهم ما كان وكانوا على ضعف فصاروا إلى قوة.
3 - إن الناس الذين لا نشك أن الله عالم بقلوبهم، وأنهم أعداء بعضهم البعض كما قال الله تعالى {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [3] قد بلغوا بالشورى مراتب عالية في الدنيا، ونحن المسلمين أمرنا الله تعالى بالمشورة، والمشورة لها أساس وهو النصح بالتزام الحق، ولها مزية ورونق تحصل بهما الفائدة، أما السير على غير مشورة فهو مجلبة للنقص، مجلبة للهوى - هوى النفس - ونحن نريد المشورة أن تجمع بين السنة وبين ما أمرنا الله به في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [4] وأعظم القوى التناصح، والنية الصالحة لأن كل شيء أساسه الإخلاص والنصح هذا هو اجتهادنا في المسألة… وأنا أشعر بجذل وسرور كلما رأيت الجميع موفقين في أعمالهم وأشغالهم يجب أن يعلم كل فرد أن كل جماعة لا يكون لها عاقلة لا تجد الراحة والهناء…
وهنا لابد لي من التلميح بأنه يجب على كل إنسان أن يقول ما في ضميره بصراحة تامة وألا يخشى في الحق لومة لائم.
يجب أن يصرح كل فرد بما في نفسه يقول ما يعتقد فيه منفعة، فهذا أمر واجب على كل إنسان لأن مجال البحث والتدقيق يوصل إلى نتائج حسنة، فعلى الإنسان الاجتهاد ومن الله التوفيق.(40/143)
نعم من واجب الإنسان النصح والإرشاد، وألا يتقيد أحد بأن هذا مخالف أو ذاك موافق… يجب أن ننظف أنفسنا من الأدران، ونطهرها من كل الأمور المختلفة، وأن ندنو إلى ما يرضيه، ونخاف عقوبته، إذ ليس هناك عقوبة أشد من عقوبة الدين، إذا وقع الشر في القلوب خربها وهذه البلاد يجب أن تكون قدوة صالحة للمسلمين في كل عمل من أعمالها فنحن نطلب المساعدة في هذا الشأن منكم ومن الأهلين نريد أن نكون عوناً للحكومة في هذا الأمر لأنه إذا كان الجميع اتفقوا على درء المفاسد سهل العمل، أما إذا كانت إجبارية صعب حلها وطال أمرها.
فإذا عملنا هذا قمنا باللازم وهذا أهم ما يجب العناية به لأن الدنيا إذا كثرت خبرتها والدين أهمل فلا فائدة ترجى منها بل هذا أساس البلاء أما إذا عمر الدين ونفذت أوامره واجتنبت محارمه صلحت الدنيا فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله ومخافته واتباع سنة رسوله وأرجو أن تهتموا بالأمر اهتماماً شديداً" [5] .
ويقول مخاطباً أول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي:"أيها الأبناء إنكم أول ثمرة من غرسنا الذي غرسناه بالمعهد فاعرفوا قدر ما تلقيتموه من العلم، واعلموا أن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عوناً لصاحبه يكون عوناً عليه.
فمن عمل به يكون عوناً له، ومن لم يعمل به يكون عوناً عليه، وليس من يعلم كمن لا يعلم قليل من العلم يبارك فيه خير من كثير لا يبارك فيه والبركة في العمل.
جهلوا تعاليم الإسلام الحقة وبهرتهم المدنية الغربية فنظروا إلى كل ما يصدر عن الغرب نظرة إكبار فأرادوا محاكاته، وحبذا لو حاكوه فيما يعلي من شأنهم أرادوا محاكاته بل حاكوه فعلاً ولكن فيما يئن منه عقلاؤهم… وأقول لكم والله ثم والله ما حرمت الشريعة شيئاً فيه نفعنا ولا أحلت شيئاً فيه خزينا، وإن النظرة السليمة لتدرك ذلك.." [6] .(40/144)
رحم الله الملك عبد العزيز فقد قال، وعمل، وحذر في وقت مبكر جداً ومع أول الغرس من مثل هذا التوجه الفكري الخطير - والذي كانت نتيجته مسخاً - عمل على وجوده في صفوف المسلمين بمختلف الوسائل الاستعمارية والفكرية [7] ثم ارتفعت بعد الملك عبد العزيز أصوات كثيرة أدركت الخطر وشاهدت آثاره السيئة بأم عينها فحذرت المسلمين لكن نهج الملك عبد العزيز انفرد بأصالته وسلامة وسائله واستقلاله فهو نابع من الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح. ولهذا حقق الله على يديه خيراً كثيراً - رغم أنوف الحاقدين والحاسدين - وما على ورثته - قادةٍ، وشعبٍ - إلا أن يشكروا الله على هذه النعمة ويحوطوها بكل جدية من كل خطر، فهي مصدر عزنا، ونصرنا، ووحدتنا، وهيبة الأعداء، وكشف الزنادقة والمنافقين.
ويقول الملك عبد العزيز أمام كبار رجال الدولة، والشخصيات، والأعيان في الطائف سنة 1351هـ..(40/145)
"وإني أوصيكم بتقوى الله، والنظر في حالة وطنكم وبلادكم ورفع أحوال الناس ومظالمهم إليّ لأن الملقى على عاتقي من الأمور عظيم وبعضكم به أبخص، وإني مع كل ذلك أسأل عن أحوال الناس، وأتفقد مصالحهم بقدر الجهد والاستطاعة، وإذا ما اطلعت على شيء عينت له هيئة مخصوصة منكم للنظر في ذلك، ثم أشرف على أعمالها بنفسي، وأتراجع وإياهم في خصوصها حتى يبت في أمرها بما جاء في كتاب الله، ووالله – يا أهل هذا البلد الطاهر المقدس - أرى الكبير فيكم كأبي والوسط كأخي، والصغير كابني، وإنَّ الذي أقول هو الذي أعتقده والله على ما أقول شهيد، وإني أرى كثيراً من الناس ينقمون على ابن سعود، والحقيقة ما نقموا علينا إلا لاتباعنا كتاب الله وسنة رسوله، ومنهم من عاب علينا التمسك بالدين وعدم الأخذ بالأعمال العصرية فأما الدين فوالله لا أغير شيئاً مما أنزل الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع إلا ما جاء به وليغضب علينا من شاء وأراد وأما الأمور العصرية التي تعيننا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها ونعمل بها ونسعى في تعميمها، أما المنافي منها للإسلام فإننا ننبذه ونسعى جهدنا في مقاومته لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام، ولا عز لنا إلا بالتمسك به.(40/146)
ويجب أن تحرصوا على العمل، والعمل لا يكون إلا بالتساند والتَّعاضد، وإخلاص النية، والإنسان وحده لا يستطيع أن يعمل، وإذا عمل فيكون عمله ضعيفاً، والضعيف ضعيف على كل حال، ونحن نحتاج إلى القوة في كل شيء، وكلنا أمة واحدة عربية، ديننا الإسلام، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والعرب قبلنا عملوا الشيء الكثير، والتاريخ أكبر شاهد، والإسلام يحضنا على العمل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [8] ، يجب أن يكون العمل خالصاً لله لا رياء فيه ولا نفاق ولا غش ولا خداع، وإنكم والله إذا عملتم ذلك فستنجون، وأن العمل يفيدكم ويفيد بلادكم وشعبكم، ويقربكم من الله ولا يوجد شيء أحسن من هذا..
أنتم رؤساء البلاد وقادة الأمة وكبراؤها، وأدرى بما يحسون به وما يشعرون ويجب عليكم أن ترفعوا إلىَّ كل ما يتظلمون منه وترشدوني إذا رأيتموني ضللت عن طريق الحق، وإذا لم تفعلوا ذلك فأنتم المسؤولون وإني أطلب منكم ومن غيركم أن من رأى مني شيئاً مخالفاً فليوضحه لي وليرشدني إلى طريق الحق وليكن كما قال عمر بن الخطاب لمن أراد أن ينصحه "فليكن ذلك بيني وبينه"فو الله إذا رأيت الحق اتبعه لأني مسترشد ولست بمستنكف، ومن رأى شيئاً وكتمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
أما المظلمة التي تصلني فإني لا أتركها بل أبحثها وأحقق فيها، والتي لا تصلني فالذنب فيها على من رأى وكتم، وإذا علمت به فسيكون جزاؤه عندي أعظم من جزاء غيره.
وإني أحثكم على العمل الذي فيه اكتساب معيشتكم، فابذلوا كل ما في وسعكم لذلك، وهذه أرض الله واسعة فاسعوا في مناكبها ولا تركنوا للكسل والخمول فإن عاقبتهما وخيمة" [9] .(40/147)
ويقول في حفل في جدة سنة 1355هـ أمام وجهاء المنطقة وأعيانها: "… إن التناصح ضروري للمسلمين، ولكن يجب على الإنسان ألا ينسى نفسه ليكون لنصحه أثر في القلوب {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [10] .
فالواجب على المسلم أن يحرص على دينه، وعلى نصيحة المسلمين وأن يقدم الخير على الشر كل هذا من الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [11] والأمان جند من جنود الله، والخوف جند من جنود الله فالإنسان لا يأمن إلا بأمن من الله ويجب أن نعتقد أن ما ترونه من الأمن الآن ليس هو إلا نعمة من الله أنعم بها على المسلمين فيجب علينا أن نشكر الله على هذه المنة الكبرى والنعمة العظمى وإن أشد ما يخاف على المسلمين الشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [12] .
وإن ذنب الشرك عظيم وإنه محنة وبلاء إنه كفر وليس بعد الكفر ذنب فيجب أن يتنبه المسلمون" [13] .
ويقول رحمه الله في حفل أقيم على شرفه سنة 1355هـ بمناسبة سفره إلى الرياض: "إن الدّين النصيحة والنصيحة واجبة للبار والفاجر، والكبير والصغير، والغني والفقير لا لنفر دون آخر ولا لشعب دون غيره، إنّ النصيحة واجبة للعالم أجمع.
إن على الشعب واجبات، وعلى ولاة الأمور واجبات، أما واجبات الشعب فهي الاستقامة، ومراعاة ما يرضي الله ورسوله، ويصلح حالهم والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل فيما فيه رقي بلادهم وأمتهم.
إن خدمة الشعب واجبة علينا لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص.(40/148)
شعبنا العرب فنحن من العرب وإليهم. وخدمة الإسلام والعرب واجبة علينا بصفة عامة، وخدمة شعبنا وأمتنا واجبة علينا بصفة خاصة، ولابد أنكم سمعتم أننا الزمنا ولاة الأمور بالنظر في شؤون الرعية، وجعلناها أمانة في أعناقهم فعليهم أن يقوموا بالواجبات والنصح للشعب، وأن يجتهدوا في تخليص ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
أما واجبات الولاة ولاة الأمور فهي أن يقوموا بالواجب عليهم نحو شعبهم وينصحوهم ويخدموهم ويقوموا بكل ما فيه مصلحة المسلمين وفائدتهم.
وإن أكبر أمانة وأعظمها في عنق المحاكم الشرعية فعليهم النظر في شؤون العباد بما شرع الله لنا في كتابه من شرائع وبين لنا من حجج وأقام لنا من محجة قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [14] وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [15] وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [16] هذه هي الحقيقة لأن شريعة الله لا ظلم فيها وهي المحجة، ومن اعتصم بها نجا، ومن شذ عنها هلك.
فيجب على ولاة الشريعة أن يجتهدوا في أداء الواجب، ويسهروا على مصالح الناس وينظروا في خصوماتهم بروح العدل والإنصاف، وعلى الشعب أن يمتثل لأمر الله فمن حكم له حمد الله ومن حكم عليه حمده، الأول يحمده لأخذ حقه، والثاني يحمده لأنه عصمه من أخذ حق غيره.(40/149)
وأوصى الشعب أن يقلل من الخصومات والمنافسات لأن الخصومات والمنافسات تؤذي الحكومة والمحاكم الشرعية وكثرتها توجد اختلافاً في صفوف الأمة وإن إنساناً تكثر مطالبه ومرافعاته، وإزعجاج حكامه وعلمائه لا لحق بَيّن، وإنما به نزغة من نزغات الشيطان، والشيطان يسعى للتفرقة فعلينا ألا نساعده ولا نتركه يفرق بين المسلمين.
إن من الناس من يصيح "أنا مظلوم"وإذا بحثت ظلامته التي يدعيها لا تجد فيها من الحق شيئاً، لهذا أوصيكم بالتناصح فيما بينكم ونهي أمثال هذا عن ذلك.
وأوصيكم بالتحاب فإنكم جيران بيت الله الحرام، وبلادكم هذه تتضاعف فيها الحسنات كما تتضاعف السيئات وإن كل إنسان فيكم في خاطره شيء يبينه لحكومته وحكومته لا تتأخر عن سماع ما عنده وإن بابي مفتوح لكل واحد" [17] .(40/150)
ويقول في كلمة له: "يجب على الإنسان أن يعرف مصلحة نفسه إذا عرف حقيقة دينه والأمر الذي يوفق بين دينه وراحة نفسه هو الشرف، والذي ليس له شرف ولو أعطي من هذه الدنيا ما أعطي إذا لم يوفق إلى ذلك فآخرته الخزي والعياذ بالله ونعمته الدنيوية وبال عليه… وواجب على من تولى أمر المسلمين أن يكون مصلحاً لأنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية، والراعي كالمطر أحياناً يكون خيراً على رعيته وأحياناً يكون بلاءً ومضرة، ولا يصلح الراعي إلا إذا اتبع كتاب الله وسنة رسوله والإمام والأمير حتى والي البيت يجب عليه أن يعلم أنه راع وكل راع مسؤول عن رعيته، ويجب أن يفعل معهم ما يجب أن يفعلوا معه، لأن النفوس لا يمكن أن توافق على غير ما تحب، والدين يحتم عليك أن تحب من أحب الله ولو كان من أعدائك، وأن تبغض من يحارب الله ولو كان من أصدقائك وأحبائك وهذه هي المحجة البيضاء إن شاء الله ويجب على المسلمين أن ينظروا إلى أنفسهم ويتفقدوا حالتهم، وكان بعض الصالحين إذا ركب دابته وشعر منها تغيراً يقول "ما غير دابتي هذه إلا عملي" [18] ، ويجب على المسلمين التناصح بالخير ما أمكن، والله سبحانه وتعالى إذا علم من شخص نزاهة يشمله بعفوه ومغفرته، ويجب أن نجعل صفحتنا بيضاء نقية وأن نغار على بعضنا البعض فإذا عرف أحدنا شيئاً من معايب أخيه يجب أن يناصحه قبل كل شيء فإذا عجز عنه يسأل الله له الخير، ولا يشنع عليه، وهذه الأمور كلها مبنية على مكارم الأخلاق" [19] .
وأبرق لولي عهده برقية تضمنت نصائح جامعة ومنهجاً سياسياً وإصلاحياً تدل على تدين صادق، ونظرة بعيدة للأمور، ووعي بأمر الملك وما يصلحه. جاء فيها: "… تفهم أننا نحب الناس جميعاً، ما نعز أحداً، ولا نذل أحداً، وإنما المعزُّ المذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اعتز بغيره عياذاً بالله وقع وهلك.
موقفك اليوم غير موقفك بالأمس وينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:(40/151)
أولاً: نية صالحة وعزم على أن تكون حياتك، وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصرة دين الله. وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتاً خاصة لعبادة الله والتفرغ بين يديه تعبد الله في الرخاء وتحمده في الشدة وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق وإلا العمل الخفي بين المرء وربه.
ثانياً: عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سراً وعلانية والعدل في المحب والمبغض وتحكيم هذه الشريعة في الدقيق والجليل والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم.
ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة، أجعل كبيرهم والداً، ومتوسطهم أخاً، وصغيرهم ولداً، وهِنْ نفسك لرضاهم، وامح زلتهم، وأقل عثرتهم، وانصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير، وأوصيك بعلماء المسلمين خيراً.
احرص على توقيرهم، ومجالستهم وأخذ نصيحتهم.
واحرص على تعميم العلم، لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة. احفظ الله يحفظك.." [20] .
ومن أقواله رحمه الله: "كل أمة تريد أن تنهض، لابد لكل فرد فيها من أن يقوم بواجبات ثلاثة:
أولها: واجباته نحو الله والدين.
وثانيها: واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده.
وثالثها: واجباته نحو شرفه الشَّخصي".
وقال: أنا قوي بالله تعالى ثم بشعبي، وشعبي كلهم: كتاب الله في رقابهم وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله. ولست أدعي أنهم أقوياء بعَدَدهم أو عُدَدهم ولكنهم أقوياء إن شاء الله بإيمانهم" [21] .
العنصر الخامس عشر: متابعة ولاته والنصفة منهم(40/152)
كان الملك عبد العزيز رحمه الله يدرك أهمية صلاح موظفي الدولة وأن كثيراً من الفساد إنما يدب في الدول بسبب هذه الشريحة ولهذا كان يتعهدها دائماً بالتوجيه والتقويم والتأديب عند الحاجة.
يقول موجهاً أول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي: "أنتم أول ثمرة من غرسنا… فاعرفوا قدر العلم واعملوا به لأن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر لقد بعث الله صفوة الخلق في هذه البلاد، ونزل عليه جبريل بقرآن عربي غير ذي عوج فلنعرف قدر هذا ونحتفظ بديننا، وعربيتنا ويجب أن نحبهما حباً جماً" [22] .
ويؤكد في المؤتمر الوطني على المتابعة فيقول: "… أنتم المسؤولون عند الله ثم عندي، وعند الأمة فيجب أن تقدروا هذه المهمة حق قدرها وتعملوا لها بما فيه النفع" [23] .
وأمام عدد من كبار موظفي الدولة يقول: "… وثقوا بأننا سنتولى أمر التفتيش عن ذلك بأنفسنا، ونقسم بالله أننا سنهاجمكم على حين غرة، فإذا رأيت أحدكم حاد عن الطريق السوي وقام بأعمال تلزم إدانته بدأنا بإدانة رئيسه ثم بإدانة ذلك الشخص بدون هوادة ولا شفقة، وأعلمكم بأن الجزاء والقصاص لن يكون إلا صارماً" [24] .
يقول كشك: "ومعروف تحذيره لأولاده ومعاونيه من سيطرة الخدم، وضربه المثل بدولة عمه عبد الله بن فيصل الذي أساء خدمه معاملة الناس فانفضوا من حوله، وكتب إلى صهره السديري: وتدري الخدام إذا صار لهم مدخل بالأمر دوروا مصالحهم وعفاناتهم وهذا كله شيء بطال" [25] .(40/153)
ويحث الناس على مساعدته على ضبط ولاته ومتابعتهم ومنع أي تجاوزات منهم، فيبث الإعلان التالي بين الناس: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن سعود إلى شعب الجزيرة العربية على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه أن يتقدم إلينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي.
وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه مهما تكن قيمتها، أو يحاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم، ألا قد بلغت اللهم فاشهد".
بل إن الأمر يتجاوز مجرد الإعلان يقول الزركلي: "اتصل بالملك عبد العزيز أن برقية شكوى تأخر وصولها إليه أو وصلت مقتضبة خوفاً من نفوذ المشكو منه فعاقب المسؤول، وأصدر الإرادة الملكية الآتية:
كل شكاية ترفع لنا عن طريق البرق أو البريد من أي شخص كان يجب أن ترسل لنا بنصها، ولا يجوز تأخيرها ولا إخبار المشتكى منه سواء أكان أميراً أو وزيراً أو أدنى أو أكبر من ذلك" [26] .
ويسهل أمر وصول الشكاوي إليه فيعلن الديوان العالي:
"إن صاحب الجلالة الملك يعلن للناس كافة، أن من كانت به ظلامة على كائن من كان موظفاً أو غيره كبيراً أو صغيراً ثم يخفي ظلامته فإنما إثمه على نفسه وأن من كانت له شكاية فقد وضع على باب دار الحكومة صندوق للشكايات مفتاحه لدى جلالة الملك فليضع صاحب الشكاية شكايته في ذلك الصندوق وليثق الجميع أنه لا يمكن أن يلحق المشتكي أي أذى بسبب شكايته المحقة من أي موظف كان.." [27] .(40/154)
بل وتصل المتابعة إلى حد المسآله فيما يتعلق بالسلوك العام للمسؤول خشية فشو ذلك السلوك غير السوي بين طبقات المجتمع. كتب لأحد المسؤولين: "بلغنا أنكم مرسلين خوياكم ينشدون لكم صقراً من الكويت فتعجبنا من ذلك فهل الحجاز وبلادنا كلها ما أنتم واجدين فيها شيء؟ أو قصدكم تفتحون باباً للناس" [28] .
وتؤدي هذه المتابعة دورها تاماً في نفوس العاملين يقول زيدان: "وأغرى المزارعين يكتب لهم برقية إلى جلالة الملك عبد العزيز الموجود في الخرج يشرحون الوضع وقد كتب فيها "الزيدان حاجز مكينة في المخزن"وكما تقول العامة "يا غافل لك الله"فمن يطيق غضب عبد العزيز هل أطيقه أنا المسكين وأدركتني رحمة الله بالمصادفة فقد كان أحمد سعيد العربي المصري السوداني الذي كان ينقل أخبار الراديو إلى جلالة الملك عبد العزيز والمصادفة قادت أحمد سعيد إلى الديوان فرأى الشكوى سأله نائب رئيس الديوان فقد كان عبد الله بن عثمان غائباً يومها فقال أحمد سعيد: زيدان لا علاقة له بذلك أرجوك أخر الشكوى لا تقدمها إلا بعد العصر سأذهب الآن ليكون الحل وأخبرني أحمد سعيد مسرعاً وما كدت أسمع الخبر أخاف الغضب أرهب التأديب حتى ناديت المهندس واسمه حبيب … فأسرعت معه نهدم الباب نخرج الماكينة نحملها على اللوري يذهب إلى مسحة وما أسرع ما ركبها وما أسرع ما تدفق الماء ولم نكد نصلي الظهر حتى تدفقت مياه سمحة…" [29] ورحم الله الملك عبد العزيز فقد كان شعاره دائماً الحزم أبو الضفرات.. وكان الضفر حليفه دائماً.
العنصر السادس عشر: القبول لدى الناس والقدرة على الجذب
هذا الوصف أمر مستفيض عن الملك عبد العزيز رحمه الله
يقول الزركلي: "الملك عبد العزيز لا يلقي القول جزافاً وقد سمع مناسبات متعددة يذكر أنه لا يرى نفسه أكثر من "أب"لأسرة كبيرة - هي شعبه - وأنه مسؤول عن هذه الأسرة أمام الله.(40/155)
وإذا عرفنا من سيرته في الأيام العصيبة… أنه كان يبادر إلى ما في خزانته الخاصة وخزائن الدولة من مال فيأمر بالإنفاق منه على إطعام القبائل المجدبة أرضها وعلى الأفران تمون بالدقيق لتوزيع العيش (الخبز) على أهل المدن مجاناً لم نشك في أنه كان يعني ما يقول من أنه "أب"لأسرة…
كان عبد العزيز يصغي إلى الكبير والصغير من شعبه يستمع إلى أحاديثهم، ويشارك المسرور منهم في سروره، ويتوجع لألم المحزون، فينسون أنهم بين يدي ملك.. يتمتع بحقوق السيادة.. ولا يشعرون إلا بأنهم بين يدي أب طالما قال.. وبرهن على القول بالفعل الكبير منكم أخ لي والصغير من أبنائي.
والذين كانوا يخاطبون الملك بلقبه الرسمي، إنما هم الأقلون عدداً في رعيته، أما السواد الأعظم فكان يدعوه بأحب النعوت إليه: يا طويل العمر، أو: يا أبا تركي وبعضهم ينادونه باسمه مجرداً من النعوت والألقاب. يا عبد العزيز ويجيبهم مبتسماً أو مصغياً ولا يراهم قد خرجوا عن حدود الأدب معه، ذلك لأنه في طويته لم يكن يعبأ بالألقاب فضلاً عن كراهيته للملق والتكلف واصطناع التأدب.
فإذا قلنا إن الملك عبد العزيز كان "ديمقراطياً"في جبلته التي فطر عليها فكل خلق فيه، وكل خبر عنه يؤيد هذا القول. لقد عاش وهو يرعى أفراد شعبه من خاصة وعامة رعاية الأب أبناءه، ويراهم أسرته التي هو كبيرها وعليه أن يعولها قبل أن تبايعه بالملك وبعد البيعة" [30] .
ويقول الريحاني وهو يصف أول لقائه للملك عبد العزيز: "… وكانت المشاهدة الأولى على الرمل تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المتقدة حولنا، ألفيته رجلاً لا يمتاز ظاهراً بغير طوله، وكان يلبس ثوباً أبيض، وعباءة بنية وعقالاً مقصباً فوق كوفية من القطن حمراء.(40/156)
أين أبهة الملك، وفخفخة السلطنة إنك لا تجدها في نجد وسلطانها وإن أول ما يملكك منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب، لست أدري كيف حييته وأنا في دهشة وابتهاج من تلك المفاجأة الكبيرة.
ويصف شعوره نحو الملك عبد العزيز فيقول: "ها قد قابلت أمراء العرب كلهم فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، لست مجازفاً أو مبالغاً فيما أقول فهو حقاً كبير، كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته وفي ضربه الأرض بعصاه، يفصح في أول جلسة عن فكره، ولا يخشى أحداً من الناس بل يُفْشِي سره، وما أشرف السر، سر رجل يعرف نفسه، ويثق بعد الله بنفسه "حنا العرب"إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولاشك بالمكارم لا بالألقاب جئت ابن سعود والقلب فارغ من البغض ومن الحب كما قلت له فلا رأي الإنكليز، ولا رأي الحجاز، ولا الثناء، ولا المطاعن أثرت فيّ وها قد ملأ القلب ملأه حباً في أول جلسة جلسناها إني سعيد لأني زرت ابن سعود بعد أن زرتهم كلهم - ملوك العرب - هو حقاً مسك الختام".
ويقول أيضاً: "إذا ضرب الأرض بعصاه مرة يلمس القلب منك عشر مرات" [31] ومن أقوال الملك عبد العزيز التي يجسد فيها قوة التلاحم بينه وبين شعبه والأسس المتينة التي قامت عليها هذه العلاقة.
قوله: "يسرني دائماً الاجتماع بكم، والتحدث إليكم لما في الاجتماع من فوائد ولأن في الاجتماع أكبر المصالح إلا أني لا أود التكليف على الناس وتعطيلهم عن أشغالهم لما في ذلك من ضرر، وإن أشد ما يؤلمني ما كان فيه أقل ضرر على شعبي وبلادي فإذا كلفنا عليكم اليوم فلا نقصد بهذا إلا التناصح والنظر فيما فيه مصلحة الأمة والبلاد… إننا نعرف مبلغ تمسك شعبنا بنا وقد أوقفنا أنفسنا للدفاع عنه بأنفسنا وأولادنا وأموالنا، فلا يرى منا إلا كل ما يسر الخاطر والإخلاص يدعونا أن نبين لأمتنا ما عندنا وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله…" [32] .(40/157)
ويقول في كلمة له: "رأست قومي بعد مصاعب طويلة ولا فخر في ذلك وتسير الآن ورائي جيوش جرارة لا تقل عن أربعمائة ألف مقاتل إن بكيت بكوا، وإن فرحت فرحوا، وإن أمرت نزلوا عند إرادتي وأمري، وإن نهيت انتهوا، وهؤلاء هم جنود التوحيد، "إخوان من أطاع الله"يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله ولا يريدون من ذلك إلا رضا الباري جل وعلا، وإن هذه القوة موقوفة لتأييد الشريعة الإسلامية، ونصرة في الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها أعادي من عادى الله ورسوله، وأصالح من لا يعادينا ومن لا يناوئنا بسوء" [33] .
وإني والله - وأنا أقرأ هذا النص وليس في كلام ولا فعل الملك عبد العزيز ما يعارضه - لأعجب أشد العجب كيف يجرؤ المعجبون - بأبي خلدون ساطع الحصري - ويقول أحدهم، إن دعاة القومية العربية من أولهم إلى آخرهم كانوا لعبد العزيز وبه ومنه!!!.
بل يصل به الأمر إلى القول - في كلام عجيب متناقض -: "وعن حكام الأقاليم يذكر ساطع الحصري - أبو خلدون يرحمه الله - أنه ويعني "اليوسف"حاكم دمشق، "والشهابي"حاكم لبنان أو هو الأمير، و"الجزار"حاكم عكا، قد اجتمعوا في عكا يخططون لثورة ضد السلطان يفصلون فيها الشام عن الأناضول، ثم يفصلون الشام قطعة قطعة يلبسها الواحد منهم يقول ساطع الحصري: "لقد اجتمع هؤلاء ولكنهم تفرقوا سريعاً لأن قبائل عربية زحفت من نجد على الشام عن طريق بادية الشام، فإذا بهؤلاء الزعماء يرجعون إلى عواصمهم وهم يقولون "الوهابية الوهابية"".(40/158)
إن ساطع الحصري يورد هذا الأمر بأن آل سعود وبعقيدة السلف هم كانوا قوميين عرباً!!! وأنقذوا الدولة العثمانية من الثورة الشامية، وعاش ساطع الحصري حتى كانت الشام المعول الأول الذي هدم الدولة العثمانية، وكان ساطع الحصري فرحاً بذلك لأنه قومي، ولو عاش إلى الآن لترح من ذلك لأنه ليس إقليمياً" [34] سبحان الله إن الأسرة السعودية في أدوارها الثلاثة ما بنت دعوتها، ولا أقامت علاقاتها، ولا وحدت مجتمعاً قبلياً ممزقاً ولا اشتد ساعدها واستوى بنيانها إلا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم القائل: "يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب" [35] .
وعن شخصية الملك عبد العزيز رحمه الله المقبولة المؤثرة تحدثت تقارير غربية جاء فيها:
- إن كل الذين قابلتهم من الذين أتيحت لهم الفرصة للاتصال بابن سعود عبروا عن تأثرهم البالغ به، وقد أخبرني مرة الصحفي الأمريكي "وليم ث إيلي"أن ابن سعود أحد العظماء القلائل الذين قابلهم.
- وفي تقرير آخر: هو أهم عنصر في العالم العربي اليوم، ويقول العقاد - وكان في بعثة الشرف المرافقة للملك عبد العزيز في زيارته لمصر عام 1946م -:
أسد العرين يخوض غيل الماء
يا بحر راضك قاهر الصحراء
لم يقترن بالبحر عيد جلوسه
إلا لعمر زاخر ونماء
يوم من البشرى يردد ذكره
ركب السنين وجيرة البيداء [36]
والتقى الملك عبد العزيز مع الرئيس الأمريكي روزفلت سنة 1364هـ وبعد أن عاد روزفلت إلى واشنطن أدلى بتصريح رسمي جاء فيه: "… فقد وعيت… عن مسألة الجزيرة العربية تلك المشكلة بحذافيرها مشكلة المسلمين ومشكلة اليهود، وعيت عنها في حديث دام خمس دقائق مع ابن سعود أكثر مما كنت أستطيع معرفته بتبادل ثلاثين أو أربعين رسالة".(40/159)
وعلقت مجلة "تايم"الأمريكية على هذه المقابلة فقالت: "لعل الكثيرين دهشوا لاجتماع هاتين الشخصيتين المختلفتين النشأة والتربية، ولكن الواقع أن مقابلة الرئيس الأمريكي الذي نشأ في هايدبارك، ودرس في جامعتي جرتون، وهارفارد، وعاهل بلاد العرب الذي لم يدرس غير القرآن ولم ير إلا الصحراء المحيطة به من كل جانب، هذه المقابلة كانت ناجحة إلى حد بعيد..".
ويقول "هو بكنز"الرفيق الملازم لروزفلت: "… وإني على يقين من أن الرئيس لم يكن يتوقع أن يرى في ابن سعود الذي طلب مقابلته ما رآه فيه. فهو رجل ذو مهابة خارقة، وقوة عظيمة ولد جندياً وقضى حياته كلها في خوض المعارك التي تلذّ له ولكل أتباعه الكارهين لليهود. وهو عربي من أوله إلى آخره وفي كل وقت".
ويقول عبد الرحمن عزام بعد وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله: "… عرفته منذ ثلاثين سنة هو، هو الرجل الذي يملأ سمع الدنيا وبصرها. كان متعدد الجوانب كامل الرجولة، لا أعرف أن أحداً التقى به من خصومه أو مواليه إلا أثر فيه بشخصيته التي لم يجد التاريخ إلا شذوذاً بمثلها يعطي كل ما يملك من القليل، ويعطي كل ما بيده من الكثير، لا يعرف المن والأذى… لم يكن يملك جيشاً ولا مالاً ولا سلطاناً يساوي شيئاً مما كان لشخصه في النفوس في العالم الجديد والقديد فهو بهذا الاعتبار عربي لم تعرف الجزيرة منذ أيام عمر رضي الله عنه له مثيلاً وسيبقى خالداً…، عاش أمراء جزيرة العرب وشيوخها الذين استولى على ملكهم أعزاء في كنفه تحميهم كلمة التوحيد، وتصون حقوقهم تلك الروح التي لم يجد الزمان بمثلها روح عبد العزيز السامية وعقله الكبير وحلمه وتواضعه وخوفه من الله سبحانه وتعالى.(40/160)
ويقول عن لقاء الملك عبد العزيز بروزفلت: كان روزفلت طاغية يصرف الأمم ويملك كنوز الأرض وقع فريسة لليهودية العالمية سنين طويلة يتصرف في شؤون العرب وفلسطين وفق أهواء الصهيونية العالمية حتى التقى بابن سعود على باخرة في الإسماعيلية بقناة السويس فحدثه ثم شد يده وعاهده على ألا يعمل في حياته ضد المصلحة العربية وأنه لن يعمل عملاً قبل مشورة العرب والتقيت معه بعد ذلك بيوم في أوبرج الفيوم، فأخبرني بما كان بينه وبين روزفلت، وما ظننت أن روزفلت يصدق حتى تجلت لي الأمور في أمريكا بعد ذلك بسنين وعلمت أن روزفلت خرج من لقائه لعبد العزيز بن سعود وهو شخص آخر بالنسبة لشعوره وفكره نحو العرب، وقد يكون من سوء حظ العرب أن روزفلت لم يعش بعد الحرب…
ولم يكن عبد العزيز ابن سعود وقتئذ يملك الجيوش ولا الأموال ولا فاض على بلاده زيت الجزيرة ولكن شخصية عبد العزيز قبل كل شيء هي التي جعلت من مثل روزفلت وتشرشل وحتى هتلر قبل ذلك وموسوليني طلاباً لوده فخورين بالصلات التي يقيمونها معه.
ولا أعرف أجنبياً في أوربا أو أمريكا سياسياً أو عسكرياً أو تاجراً أو صحفياً قابل عبد العزيز بن سعود ولم يترك في نفسه أثراً باقياً على مر الأيام.
استلم ملكاً ضائعاً فجمعه، وبلاداً خربة فعمرها، وأمنا مباحاً فأقره وشعباً جائعاً ففاض بين يديه الرزق فهو ليس رجلاً عظيماً فحسب ولكنه رجل مبارك كذلك فقد كان ما بينه وبين الله عامراً" [37] .
وأخيراً هذا الشاعر الفذ محمد بن عبد الله بن عثيمين - الذي سجل كثيراً من أوصاف الملك عبد العزيز وأيامه، وذب عنه ودعا إلى الانضواء تحت لوائه - رحمهما الله جميعاً يشيد ببعض صفات الملك عبد العزيز فيقول:
رعى الدين والدنيا رعاية محسن
وقام بأعباء الخلافة كاهلُه
وأرضى بني الإسلام قولاً وسيرة
فذو الظلم أرداه وذو اليتم كافله
وجدد منهاج الهدى بعدما عفا(40/161)
وعزّ به الشرعُ الشريفُ وحاملُه
قصارى بني الدنيا دوامُ حياته
عسى الله يحييه وتعلو منازله
فكم كنز معروف أثار ومفخر
أشاد ومجد ليس تحصى فضائله
قليل التشكي والتمني وإنما
إذا هم لم تسدد عليه مداخله
خفي مُدبٍ الكيد يقظان لم يكن
به غفلة لكنّ عمداً تغافلُه
ولا طالبٌ أمراً سوى ما أفاده
به عزمه أو سيفُه أو عواملُه
وما نال هذا الملك حتى تقصدّت
صدور عواليه وفلت مناصلُه
وأنعل أيدي الجرو هام عدائه
وزلزلت الأرض البعيد قنابلُه
وما زاده تيه الخلافة قسوة
نعم زاد عفواً حين زاد تطاوله
من القوم بسامين والوقتُ أكدر
من النقع وهابين والجدبُ شامله
علينا لك الرحمن أوجب طاعةً
بنصٍ وبرهانٍ تلوح دلائله
فقال أطيعوا الله ثمّ رسوله
وذا الأمر يدريه الذي هو عاقله
وقال رسول الله سمعاً وطاعة
لذي أمركم لو شطّ في الحكمِ عامِلُه
إليكم بني الإسلام شرقاً ومغرباً
نصيحة من تهدى إليكم رسائلُه
هلموا إلى داعي الهدى وتعاونوا
على البر والتقوى فأنتم أماثله
وقوموا فرادى ثم مثنى وفكروا
تروا أن نصحي لا اغتشاش يداخله
بأنّ إمام المسلمين ابن فيصل
هو القائم الهادي بما هو فاصله
فقد كان في نجد قبيل ظهوره
من الهرج [38] ما يبكي العيون تفاصله
تهارش هذا الناس في كل بلدة
ومن يتعد السور فالذئب آكله
فما بين مسلوب وما بين سالب
وأخر مقتول وهذاك قاتله
فأبدلكم ربي من الفقر دولة
وبالذُّلِ عزاً بزَّ خصماً يناصله
بيمن إمام أنتم في ظلاله
يدافع عنكم رأيه وذوا بلُه
به الله أعطانا حياة جديدة
رفهنا بها من ضنك بئس نطاوله
إليك أمير المؤمنين زجرتها
تراقى بها بعد السهوب جراوله
إذا ما دنت غنى الرديف بذكره
فزفت زفيف الرأل فاجاه خاتله(40/162)
ومازلت أدعو الله يبقيك سالماً
وأن بعادي عنك تطوى مراحله
وأنشد بيتاً قاله بعض من مضى
وليس يموتُ الشعر لو مات قائله
إذا ظفرت منك العيون بنظرة
أثاب بها معي المطي وهازله
فأقسم لا أنفك ما عشت شاكراً
لنعماك ما غنت سحيراً بلابله
بسائرة تزهو بمدحك في الورى
ويصغى لها قس الكلام وباقله
ويحدو بها الساري فيطرب للسرى
ويشدوا بها في كل صقع أفاضله
وثن إلهي بالصلاة مسلماً
على خير مبعوث إلى من تراسله
وأصحابه الغر الكرام وآله
كذا ما بدا نجم وما غاب أفله [39]
فهرس المصادر والمراجع
1 - أحجار على رقعة الشطرنج.
لوليام غاي كار ترجمة سعيد جزائرلي مراجعة وتحرير م بدوي ط 1973م.
2 - الأخوة الزائفة "القصة المذهلة للمكائد والدبلوماسية الخبيثة لإخضاع البشرية والسيطرة عليها.
رجاك تنى "عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، ترجمة أحمد اليازوري، نشر مؤسسة الرسالة بيروت ط2 - 1403هـ.
3 - أسرار إسرائيل وحقيقتها "عشرة كتب تصفها وتفضح أحوالها وسياستها ومستقبلها
إصدار: مكتب عمر أبو النصر بيروت.
4 - إسرائيل عام "2000"تصورات إسرائيلية.
نشر: دار الجليل للنشر، عمان ط1 - 1986م.
5 - الإسلام والحضارة الغربية
د/ محمد محمد حسين - نشر مؤسسة الرسالة بيروت ط8.
6 - أضواء على تاريخ الجزيرة العربية الحديثة.
د. محمد بن أحمد العقيلي طبع دار العلم للطباعة والنشر جدة ط1 - 1412هـ.
7 - إيللي كوهين من جديد.
لمحمد جلال كشك ط1 - 1968م.
8 - الإيمان والحياة.
د. يوسف القرضاوي، نشر الدار السعودية للنشر والتوزيع ط1 - 1389هـ.
9 - بروتوكلات حكماء صهيون
ترجمة محمد خليفة التونسي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت ط5 - 1400هـ.
10 - بعثة إلى نجد.(40/163)
تأليف سانت جون فيلبي، ترجمة وتعليق د. عبد الله الصالح العثيمين نشر مكتبة العبيكان الرياض ط1 - 1418هـ.
11 - تاج العروس من جواهر القاموس
للسيد محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، مراجعة مصطفى حجازي 1406هـ.
12 - تاريخ الدولة العلية العثمانية
محمد فريد بك المحامي، تحقيق د. إحسان حقي نشر دار النفائس بيروت ط6، 1408هـ.
13 - تاريخ المملكة العربية السعودية
د. عبد الله الصالح العثيمين ط8، 1418هـ.
14 - تاريخ نجد الحديث، وسيرة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود.
أمين الريحاني، طبع دار الجيل بيروت ط6، 1988م.
15 - التحدي الصهيوني، (أضواء على إسرائيل) .
لجاك ومال وماري لوروا، تعريب نزيه الحكيم، نشر دار العلم للملايين، دار الآداب ط1، 1968م.
16 - التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي.
تأليف عبد القادر عوده، طبع دار الكتاب العربي بيروت.
17 - التفسير الإسلامي للتاريخ
عماد الدين خليل، طبع دار العلم للملايين بيروت ط2، 1978م.
18 - التلمود "تاريخه وتعاليمه"
لظفر الإسلام خان، نشر دار النفائس، بيروت ط2، 1972م.
19 - جذور البلاء
لعبد الله التل، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق ط3 - 1408هـ.
20 - جزيرة العرب في القرن العشرين
لحافظ وهبة ط3، 1375هـ - 1956م.
21 - حكومة العالم الخفية
لشيريب سبيريدوفيتش، ترجمة مأمون سعيد، تحرير وتقديم أحمد راتب عرموش نشر دار النفائس بيروت ط1، 1394هـ.
22 - الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية خلال عشرين عاماً دراسة وتحليل حول كتاب "لعبة الشعوب"
د. محمد صادق، نشر العصر الحديث ط1، 1391هـ.
23 - الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث
د. إسماعيل أحمد ياغي، نشر مكتبة العبيكان، الرياض ط1، 1416هـ.(40/164)
* ذكريات العهود الثلاثة.
محمد حسين زيدان ط1 1408هـ.
24 - الرؤية العربية لليهودية
د. مهنا يوسف حداد، نشر ذات السلاسل، الكويت ط 1409هـ.
25 - السعوديون والحل الإسلامي
لمحمد جلال كشك ط3، 1402هـ.
26 - سقوط الجولان.
لخليل مصطفى، نشر دار النصر للطباعة الإسلامية، مصر.
27 - سوانح وتأملات في قيمة الزمن
تأليف د. خلدون الأحدب، نشر الدار الشامية، بيروت ط4، 1414هـ.
28 - سياسة بريطانيا في الخليج العربي
د0 فؤاد سعيد العابد، نشر ذات السلاسل الكويت.
29 - السياسة والإستراتيجية في الحربين العالميتين الأولى، والثانية.
جمال عبد الملك "ابن خلدون"نشر دار الجيل بيروت، مروي بوك شوب الخرطوم ط1، 1988م.
30 - شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز
لخير الدين الزركلي، طبع دار العلم للملايين، بيروت ط2 - 1397هـ.
31 - صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)
تأليف محمد ناصر الألباني ط المكتب الإسلامي 1302هـ.
32 - العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين
جمع وترتيب سعد بن عبد العزيز بن رويشد، ط دار المعارف مصر.
33 - عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي.
د. صالح العبود ط المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1408هـ.
34 - فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام.
لصالح بن عبد الله العبود، نشر وتوزيع دار طيبة، الرياض.
35 - في أصول تاريخ العرب الإسلامي.
لمحمد محمد حسن شراب، طبع دار العلم والشامية، دمشق وبيروت 1413هـ.
36 - لسان العرب.
للإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر بيروت.
37 - لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم.
للأمير شكيب أرسلان، نشر دار مكتبة الحياة بيروت 1965م.
38 - ما الذي جرى في سوريا.(40/165)
لمحمد حسنين هيكل، "سلسلة كتب قومية" نشر الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1962م.
39 - الماسونية، عقدة المولد، وعار النهاية.
لمحمود ثابت الشاذلي، نشر مكتبة وهبة القاهرة ط2.
40 - الماسونية في العراء
د. محمد علي الزغبي، ط2، 1397هـ.
41 - مجتمع الكراهية
لسعد جمعة ط4، 1989م.
42 - مجلة البعث الإسلامي
العدد (10) مجلد (12) 1388هـ - 1968م، ندوة علماء الهند.
43 - مجلة الدارة عدد1 سنة 9 - 1403هـ.
44 - مجلة الدارة عدد2 سنة 10 - 1405هـ.
45 - المسألة الشرقية "دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية"
لمحمود ثابت الشاذلي، نشر مكتبة وهبة، القاهرة 1409هـ.
46 - المسلمون وكتابة التاريخ دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ
د. عبد العليم عبد الرحمن خضر، نشر الدار العالمية للكتاب الإسلامي الرياض ط2 - 1415هـ - 1995م.
47 - مشكاة المصابيح
تأليف الخطيب التبريزي، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، طبع المكتب الإسلامي 1399هـ.
48 - المصحف والسيف "مجموعة من خطابات، وكلمات، ومذكرات، وأحاديث جلالة الملك عبد العزيز آل سعود".
جمع وإعداد محي الدين القابسي، ط4 - 1418هـ دار الصحراء السعودية للنشر والتوزيع.
49 - ملوك العرب.
لأمين الريحاني، طبع دار الجيل ط8.
50 - من مذكرات تركي بن محمد بن تركي الماضي "عن العلاقات السعودية اليمنية"
طبع دار الشبل للنشر والتوزيع والطباعة ط1 - 1417هـ.
51 - ندوات علمية حول الشريعة الإسلامية، وحقوق الإنسان في الإسلام فيما بين فريق من كبار علماء المملكة العربية السعودية وبين آخرين من كبار رجال الفكر والقانون في أوربا.
طبع دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973م - من مطبوعات رابطة العالم الإسلامي.
52 - الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز.(40/166)
لخير الدين الزركلي طبع دار العلم للملايين بيروت ط4 - 1984م.
53 - الورد المصطفى المختار من كلام الله تعالى، وكلام سيد الأبرار.
اختيار راجي عفو الغفور الودود عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود نشر شركة مكة للطباعة والنشر ط22 - 1389هـ.
54 – الوقت في حياة المسلم.
للدكتور يوسف القرضاوي، نشر مؤسسة الرسالة بيروت ط2، 1405هـ - 1984م.
55 - اليهود وراء كل جريمة.
لوليم كار، نشر دار الكتاب العربي، بيروت ط2 - 1400هـ.
56 - يومان لا يتشابهان.
لأحمد فؤاد اليماني ط1 - 1966م.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الإيمان والحياة (9 - 13) بتصرف.
[2] سورة آل عمران آية (159) .
[3] سورة الحشر آية (14) .
[4] سورة الأنفال آية (60) .
[5] المصحف والسيف (66 - 68) .
[6] المصحف والسيف (71) .
[7] من أفضل من تتبع مثل هذا الغزو ونبه عليه د0 محمد محمد حسين في كتبه وخاصة كتابه "الإسلام والحضارة الغربية"فانظره لزاماً.
[8] سورة التوبة آية 105.
[9] المصحف والسيف (80، 81) .
[10] سورة البقرة آية (44) .
[11] سورة الأنفال آية (17) .
[12] سورة النساء آية (116) .
[13] المصحف والسيف (102) .
[14] سورة الحج آية (41) .
[15] سورة المائدة آية (44، 47، 45) .
[16] سورة النساء آية 65.
[17] المصحف والسيف (104 - 105) .
[18] هذا النص، وأمثاله، ووردُه رحمه الله تدل على صلته بكتب الرقائق ومداواة النفوس وهو أمر يدل على صدق التدين وسمو النفس.
[19] المصحف والسيف (108 - 109) .
[20] المصحف والسيف (192) .
[21] الوجيز (78) .
[22] الوجيز (332) .
[23] المصحف والسيف (69) .
[24] المصحف والسيف (53) .(40/167)
[25] السعوديون والحل الإسلامي (34) .
[26] الوجيز (187 - 188) .
[27] المصحف والسيف (311) .
[28] السعوديون والحل الإسلامي (62) .
[29] ذكريات العهود الثلاثة (232) .
[30] الوجيز (223، 224) .
[31] ملوك العرب (522، 524، 525، 534) .
[32] المصحف والسيف (111) .
[33] المصحف والسيف (85) .
[34] أرى لزاماً لتشاركني العجب والحزن في نفس الوقت قراءة "الإسلام والحضارة الغربية"، و"فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام".
[35] صحيح الجامع الصغير وزيادته 6/271 رقم الحديث 7744.
[36] السعوديون والحل الإسلامي (44) .
[37] شبه الجزيرة (1067 - 1068 - 1163 - 1165 - 1167) .
[38] الهرج: الاختلاف والقتل.
[39] العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين 240.(40/168)
أثر الدعوة السلفية
في توحيد المملكة العربية السعودية
بقلم
د. حمود بن أحمد الرحيلي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّينا محمَّد وعلى آله وأصحابه وَمَنْ سار على نهجه وتمسك بسُنته إلى يوم الدين.
أما بعد..
فإن العقيدة هي القاعدة الأساس لهذا الدين، وهي مناط النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومما لاشك فيه أن تصحيح العقيدة هو الطريق الوحيد، لإقامة المجتمع المسلم المتآلف، ولا سبيل إلى اجتماع كلمة المسلمين، ووحدة صفوفهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح المأخوذ من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ولما كان المسلمون متمسكين بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، توحدت كلمتهم، وقويت شوكتهم، وعزّ سلطانهم، وأناروا الطريق، وألّف الله بينهم بالإسلام، فكانوا مصابيح هداية، ومشاعل نور البشرية.
ثم نشأت البدع بعد ذلك في وقت مبكر من صدر الإسلام، فنشأ التشيع في أواخر عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم بدأ ظهور فِرَق البدع شيئاً فشيئاً، فأنكر الصحابة ومَن بعدهم من سلف الأمة هذه البدع وشنّعوا على أصحابها في خروجهم من السُنّة، وحذّروا الناس منهم.
ولم يخل الله تعالى قرناً من القرون التي كثرت فيها الشركيات والبدع من علماء ربّانيين، ودعاة مصلحين، يُجدِّدون لهذه الأمة أمر دينها على رأس كل قرن، وذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كُل مائة سنة من يجدد لها دينها" [1] .
وكان من الأئمة المجددين الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهما من الأئمة الأعلام رحمهم الله.(40/169)
وفي القرن الثاني عشر الهجري ظهر الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فدعا إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ونبذ البدع والمعاصي. واستمر رحمه الله مجاهداً في دعوته، صابراً على ما يواجهه، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان على رأس من نصر الدعوة وأيدها الإمام الهمام محمد بن سعود جد الأسرة الحاكمة تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته فبارك الله في هذه الدعوة، وآتت ثمارها يانعة طيبة، لا يزال الناس يستظلون بظلالها، ويجنون ثمارها إلى اليوم.
وقد بذل أئمة وعلماء الدولة السعودية في دوريها الأول والثاني جهوداً كبيرة في نصرة العقيدة الصحيحة، وبيانها للناس، وإقامة الجهاد على أعداء الإسلام وأعداء الدعوة.
وقد أبطل الله كيد أعداء هذه الدعوة المباركة الذين كرهوا الحق، وعادوا أهله بكل ما أُوتوا من قوة لإخمادها، والقضاء عليها، وباءت وسائلهم بالخيبة والفشل، لأن الله تعالى مُتِمُّ نوره، وناصر دينه ولو كره الكافرون.
فحقق الله سبحانه لعباده المؤمنين وعده بالنصر والتمكين على يد الملك الهمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله رحمة واسعة، حيث استطاع بفضل الله تعالى وعونه توحيد البلاد تحت راية التوحيد التي رفعها عالية خفّاقة على أرض الجزيرة، فأعزّ الله به أهلها بعد أن كانوا أذلة، وأغناهم به بعد أن كانوا عالة، وانتشر فيهم العلم بعد الجهل، وحلت العقيدة الصحيحة مكان العقائد الفاسدة، واستتب الأمن بعد أن كان مفقوداً، وصحت أجسامهم بعد أن كانت الأوبئة والأمراض تفتك بالأُسر والجماعات.(40/170)
ونظراً لأهمية الموضوع، ولِما للدعوة السلفية التي أحياها الملك عبد العزيز رحمه الله من دور عظيم في توحيد أُمة قوية متماسكة البنيان وإقامة كيان كبير قوي الأسس والأركان، بعد أن كان مُفرّقاً ومُمزّقاً وعرضة للأعداء، الطامعين من كل مكان، وقيام هذه الدولة على هذه الدعوة المباركة.
ونظرا لمحبتي لهذه الدعوة، ومحبتي لأهلها وأنصارها، ورغبة في المشاركة في إظهار هذه الدعوة ودورها المميز فيما قامت به في الماضي، وما تقوم به في الوقت الحاضر، من الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وإصلاح أخلاق الناس وآدابهم، والدعوة إلى الائتلاف، وجمع الصفوف، واتفاق الكلمة، ونبذ الفُرقة والاختلاف، بالإضافة إلى أني لم أجد من كتب في هذا الموضوع كتابة مستقلة على حد علمي القاصر مع أهميته.
وأن ما نعيشه في هذا العهد السعودي الميمون من أمنٍ واستقرارٍ، ونعمة ورخاء، ما هو إلا بفضل من الله تعالى، ثم بصدق وإخلاص آل سعود، نسأل الله تعالى لهم العون والثبات.
فلهذه الأمور رغبت في الإسهام بالكتابة في هذا الموضوع بمناسبة الاحتفاء بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، تحت عنوان: "أثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية".
وأنا أعلم يقيناً أنّ مثلي لن يعطي هذا الموضوع حقه من البحث والدراسة، نظراً لضيق الوقت، وقلة البضاعة، وقد تطفلت في ذلك على العلماء الأفاضل، والمشايخ الأكارم، ولكني أحببت أن أنهل من موردهم، وأستفيد من علمهم وجهودهم، فجزاهم الله عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
خطة البحث:
وقد قسّمتُ البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة.
وقد اشتملت المقدمة على سبب الاختيار، والخطة، ومنهجي في البحث.
واشتمل التمهيد على التعريف بالدعوة السلفية، وضرورة الدعوة إليها.(40/171)
وأما الفصل الأول: فقد جعلته عن الدعوة السلفية في الدورين الأول والثاني للدولة السعودية وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولقائه بالإمام محمد بن سعود.
المبحث الثاني: عن الدعوة السلفية في الدور السعودي الثاني.
وأما الفصل الثاني: فكان عن أهم العوامل التي ساهمت في قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دور العلماء في نشر الدعوة السلفية.
المبحث الثاني: السمعة الطيبة للدولة السعودية في عهودها السابقة.
المبحث الثالث: تطلُّع المجتمع إلى قيام دولة تصحح العقيدة، وتُطبّق الشريعة، وتقيم الأمن والعدل.
وأما الفصل الثالث: فكان عن شخصية الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: شخصية الملك عبد العزيز وأثرها في توحيد المملكة.
المبحث الثاني: سير الملك عبد العزيز على منهج السلف الصالح.
المبحث الثالث: توحيد الملك عبد العزيز للمملكة.
وأما الفصل الرابع: فقد كان عن أثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة، وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: اتخاذ الملك عبد العزيز الكتاب والسنة دستوراً لبلاده.
المبحث الثاني: تقريب الملك عبد العزيز للعلماء ومشاركتهم.
المبحث الثالث: تقرير الملك عبد العزيز للدعوة السلفية ونشرها.
المبحث الرابع: القضاء على أسباب الشرك ومحاربة الأفكار الهدّامة.
المبحث الخامس: نشر العلم وطباعة الكتب القيمة.
المبحث السادس: تطبيق الشريعة وإقامة الحدود.
المبحث السابع: الأخذ بمبدأ الشورى.
المبحث الثامن: توطين البادية والمؤاخاة بين القبائل.
المبحث التاسع: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المبحث العاشر: التعاون بين الراعي والرعية.
وأما الخاتمة: فقد أوجزتُ فيها أهم نتائج البحث ومحتوياته.(40/172)
ثم ألحقتُ به الفهارس التالية:
1) فهرس المصادر والمراجع.
2) فهرس الموضوعات.
هذا ولا يفوتني أن أقول: إن هذا جهد المُقِلّ، فما كان فيه من صوابٍ فهو من فضل الله وتوفيقه لي، وأشكره سبحانه على ذلك. وما كان فيه من خطأٍ، فأستغفر الله منه وأتوب إليه. وأرجو ممن قرأه ووجد فيه خللاً أن يُنبهني إليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [2] . وسأكون شاكراً لنصحه وتوجيهه، وله من الله الأجر والمثوبة.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في موازين أعمالي يوم ألقاه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،
تمهيد:
في تعريف الدعوة السلفية وضرورة الدعوة إليها:
تعريف الدعوة:
الدعوة في اللغة: المرة الواحدة من الدعاء، وتداعى القوم دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا. والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين أدخلت الهاء فيه للمبالغة [3] .
وفي تهذيب اللغة: المؤذن داعي الله، والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الأمة إلى توحيد الله وطاعته [4] .
قال عز وجل مخبراً عن الجِنِّ الذين استمعوا القرآن وولّوا إلى قومهم منذرين {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [5] .
وفي تاج العروس: "ودعوة الحق شهادة أن لا إله إلا الله" [6] .
وفي المصباح المنير: "دعوتُ الله دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله. والجمع دعاة وداعون مثل قضاة وقاضون، والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الخلق إلى التوحيد" [7] .
وفي المعجم الوسيط: "دعاه إلى الشيء حثه على قصده، يقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدين، وإلى المذهب، حثه على اعتقاده" [8] .(40/173)
ومن هذا يتبين أن الدعوة في اللغة تدور حول الطلب والسؤال والنداء والحث على الشيء ونحو ذلك.
وهي تستعمل في الخير والهدى، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [9] .
وقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [10] .
والدعاة قوم يدعون إلى هدى أو ضلال، ويصدق على هذا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجُور من تبعه، لاينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئاً" [11] . إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى، ولذلك لابُد من معنى الدعوة الاصطلاحي لتوضيحها وتمييزها.
تعريف الدعوة في الاصطلاح:
عرَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبُد ربه كأنه يراه" [12] .
وقد عرَّفها المتأخرون [13] بتعريفات عديدة، لا يخلو أكثرها من نظر. وتعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعم وأشمل.
وزيادة في الإيضاح يمكن تعريف الدعوة في الاصطلاح بأنها: قيام من له الأهلية بدعوة الناس جميعاً لاقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً بالوسائل والأساليب المشروعة التي تتناسب مع أحوال المدعوين في كل زمانٍ ومكان.(40/174)
تعريف السلفية أو "السلفيين":
السلف في اللغة: "السين، واللام، والفاء: أصل يدل على تقدم وسبق" [14] .
وفي اللسان: "السلف جمع سالف المتقدم، والسلف الجماعة المتقدمون" [15] .
وفي النهاية: "سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح" [16] .
ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [17] . قال البغوي في تفسيرها: ".. والسلف: من تقدم من الآباء، فجعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون" [18] .
تعريف السلف في الاصطلاح:
قال الإمام السفاريني: "المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعُرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناسُ كلامَهم خلفاً عن سلف، دون من رُمي ببدعة، أو شُهر بلقب غير مُرض، مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء" [19] .
فهذا الاصطلاح "اشتهر حين ظهر النزاع، ودار حول أصول الدين بين الفرق الكلامية، وحاول الجميع الانتساب إلى السلف، وأعلن أن ما هو عليه هو ما كان عليه السلف الصالح، فإذن لابد أن تظهر والحالة هذه أُسس وقواعد واضحة المعالم، وثابتة للاتجاه السلفي، حتى لا يلتبس الأمر على كلِّ من يريد الإقتداء بهم، وينسج على منوالهم" [20] .
وإذا قيل: السلف أو السلفيون أو لجادتهم السلفية، فهي هنا نسبة إلى السلف الصالح جميع الصحابة رضي الله عنهم فمن تبعهم بإحسان، دون من مالت بهم الأهواء بعد الصحابة رضي الله عنهم من الخُلُوف الذين انشقوا عن السلف الصالح باسم أو رسم.." [21] .(40/175)
فالمراد من التعبير بالسلفية هو اتباع طريقة السلف الصالح من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعين لهم، والسلفيون هم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح. قال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [22] . وفي الحديث عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسُنتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" [23] .
ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حقيقتها إحياء لعقيدة السلف الصالح المشار إليها، وتجديدٌ لِمَا اندثر منها بعدما طُمست معالمها، وشُوِّهت حقيقتها، فهي دعوة تهدف إلى تصحيح العقيدة الإسلامية، وتطهيرها مما علق بها من أدران الشرك والبدع والخرافات، وإقامة مجتمع إسلامي يؤمن بالإسلام عقيدةً، وعبادةً، وشريعةً، ومنهج حياة.
وقد بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذلك في رسالته للشيخ السويدي أحد كبار علماء العراق فقال: “إنّي والحمد لله مُتّبع ولستُ بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به هو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة" [24] .
ضرورة الدعوة إلى اتباع منهج السلف الصالح:(40/176)
إن الله تعالى قد بعث نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولم يكن خافياً ما كان عليه أهل الأرض قبل البعثة وخاصة العرب من شرك، وكفر، وتفرُّق، وضلال مبين، وذلك كما وصفهم الله تعالى بقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [25] .
فقام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة يدعو إلى توحيد الله وعبادته، وأرشدهم إلى سلوك الصراط المستقيم. وجاهد في ذلك حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأشرقت الأرض بنور ربها، وأصبح المسلمون أمة واحدة، اجتمعت كلمتهم، وقويت شوكتهم، وتوحَّدت قلوبهم على الصراط المستقيم، وألف الله بينهم بالإسلام قال عزَّ وجلَّ: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [26] .
ولم يفارق النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا حتى أتم الله به النعمة، ورضي للبشرية الإسلام ديناً، وبيَّن للأمة كل ما فيه صلاح دينها ودنياها، وتركها على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك.
وقد حمل الراية من بعده صحابته الكرام، وفي مقدمتهم الخلفاء الرَّاشدون، فجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله بما استطاعوا من قوةٍ علمية وعملية، حتى انتشر الإسلام في أنحاء الأرض.
وهكذا لم يزل أهل السُنة والجماعة معتصمين بحبل الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، سائرين على منهج الصحابة رضوان الله عليهم، في إبلاغ دين الله ونشره بين الناس على بصيرة، حتى بلغوا مشارق الأرض ومغاربها.(40/177)
وبعد انقضاء القرون الأولى المفضلة، كثرت البدع والخرافات، والعودة إلى الوثنية، وذلك بتعظيم المشاهد والقبور، وصرف العبادة لها من دون الله، وتقديم الآراء والتقليد على الأخذ من الكتاب والسنة، حتى اشتدت غربة الإسلام في غالب الأحوال.
إلا أنّ الله تعالى جعل دينه باقياً إلى قيام الساعة، وذلك كما ورد في الحديث الصحيح عن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال من أُمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك" [27] . وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة" [28] .
لذلك فإنّ الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان لهو الأمر الذي يجب اتباعه، وذلك هو طريق الطائفة المنصورة، وهي الفرقة الناجية، ويطلق عليهم أهل السُنة والجماعة، حيث أصبح هذا الاسم علماً عليهم، مهما حاولت بعض الفِرق الأخرى الانتساب إليه.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [29] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كُلها في النار إلاّ واحدة"قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: "منْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" [30] .
ومع شدة الحاجة إلى الدعوة إلى الله عز وجل، فإن ضرورة الدعوة إلى منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، أشد، وذلك لتنقية العقيدة مما شابها وعلق بها من البدع والأهواء، وتصحيح مسارها من الانحرافات والخرافات التي حادت بها عن حقيقتها وأصالتها.(40/178)
والعودة بالإسلام إلى صفائه ونقائه، وإقامة مجتمع مسلم يؤمن بالإسلام عقيدةً وشريعةً، ومنهج حياة، في ظل دولة إسلامية تُطبِّق شرع الله في جميع نواحي الحياة.
وهذا ما هدفت إليه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله [31] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أبو داود في سننه 4/480، كتاب الملاحم، باب 1. والحاكم في المستدرك 4/522 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "هذا الحديث إسناده جيّد رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوي وآخرون".
انظر هامش كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحمد بن حجر آل أبو طامي ص10.
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 2/148: سنده صحيح ورجاله ثقات، رجال مسلم. وقال عبد المتعال الصعيدي: قال السيوطي: "اتفق الحُفّاظ على صحته منهم الحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل، ونص الحافظ بن حجر على صحته". انظر: المجددون في الإسلام ص89.
[2] المائدة 2.
[3] لسان العرب لابن منظور 14/258.
[4] تهذيب اللغة لأبي منصور 3/120
[5] الأحقاف: 31.
[6] تاج العروس للزبيدي 1/128.
[7] المصباح المنير لأحمد الفيومي ص194.
[8] المعجم الوسيط 1/286.
[9] يوسف: 108.
[10] فصلت: 33.
[11] صحيح مسلم 4/2060 كتاب العلم، باب من سنّ سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، رقم2674.
[12] مجموع الفتاوى 15/157158.(40/179)
[13] انظر مثلاً: تذكرة الدعاة للبهي الخ ولي ص35، الطبعة السادسة، مكتبة الفلاح، الكويت. والدعوة الإسلامية لأبي بكر ذكرى، ص8، مكتبة دار العروبة، القاهرة، مع الله للغزالي ص17، المكتبة الإسلامية، الدعوة الإسلامية لأحمد غلوش ص10 وما بعدها، دار الكتاب المصري، الدعوة إلى الله في سورة إبراهيم لمحمد الحبيب ص27، الطبعة الأولى.
[14] معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/95.
[15] لسان العرب 9/158.
[16] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/390، وانظر: القاموس المحيط 3/153.
[17] الزخرف: 56.
[18] تفسير البغوي 7/218.
[19] لوامع الأنوار 1/20.
[20] كتاب الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان الجامي ص5758.
[21] حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية لبكر أبي زيد ص36.
[22] التوبة: 100.
[23] سنن أبي داود، كتاب السنة 5/13 رقم 4607، الترمذي، كتاب العلم 5/44 رقم2676، ابن ماجه، المقدمة 1/16 رقم 4243، السنة لأبي عاصم ح:2634. وقد صححه الألباني. انظر: إرواء الغليل 8/107.
[24] انظر مؤلفات الشيخ، القسم الخامس الرسائل الشخصية ص36 طبع جامعة الإمام، 1398هـ، الرياض.
[25] آل عمران: 164، والجمعة: 2.
[26] الأنفال: 6263.
[27] صحيح البخاري مع الفتح كتاب المناقب 6/632 رقم 3641، وصحيح مسلم كتاب الإمارة 3/1453 رقم الحديث 1822.
[28] صحيح مسلم كتاب الإمارة 3/1453 رقم 1822، وسنن أبي داود 4/471 كتاب المهدي، رقم 4278.
[29] الأنعام: 153.
[30] سنن أبي داود، كتاب السنة 5/4 رقم4596، الترمذي، كتاب الإيمان 5/2526 رقم 2640، 2641، ابن ماجه، كتاب الفتن 2/1321 رقم 39913993، أحمد 2/332، 3/120،145، 4/120، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة 3/480.
[31] انظر: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، للدكتور محمد السلمان ص34.(40/180)
تابع لأثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية
الفصل الأول
الدعوة السلفية في الدورين الأول والثاني للدولة السعودية
المبحث الأول: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة السلف الصالح ولقائه بالإمام محمد بن سعود:
نشأ الإمام العلامة والداعية المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي، في القرن الثاني عشر، في زمنٍ اشتدت فيه غربة الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع والخرافات، وعبادة الأنبياء والصالحين، والأشجار والأحجار، وقلّ فيه مَنْ يصدع بالحقِّ، ويشرح للناس حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرُّسل، وأنزل به الكتب، ويحذِّرهم من أنواع الشرك المنافية لدين الإسلام..
قام هذا الإمام ـ رحمه الله ـ داعياً إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والعودة إلى ما كان عليه السلف الصالح، وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، ولم يزل ـ رحمه الله ـ مجاهداً بقلمه ولسانه، صابراً على ما يلقاه من أذى، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، مستمراً في الدعوة والبيان، وإيضاح الحق بأنواع الأدلة من الكتاب والسنة، وشرح حال سلف الأمة، وبذل كل غالٍ ونفيس لتجديد أمر الدين وإعادة الإسلام إلى صفائه ونقائه [1] .
وقد ثار عليه الحاسدون والحاقدون من أدعياء العلم، والأمراء الجُهَّال، والعوام، وعزموا على القضاء عليه وعلى دعوته الإصلاحية في مهدها، مما اضطرَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى أن يلجأ إلى الدرعية ـ التي كانت تحت إمرة الإمام محمد بن سعود ـ ولما وصلها الشيخ استقبله الإمام محمد بن سعود ـ جد الأسرة السعودية أعزها الله وأدامها ـ استقبالاً طيباً، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وألقى الله سبحانه في قلبه المحبة للشيخ، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده وقال له:(40/181)
"أبشر ببلاد خيرٍ من بلادك، وأبشر بالعزِّ والمنَعة".
فقال الشيخ:
"وأنا أُبشرك بالعز والتمكين، وهذه الكلمة ـ لا إله إلا الله ـ مَن تمسك بها وعمل بها ونصرها، ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأوَّل ما دعت إليه الرُّسل مِن أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم لبعض، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك".
عند ذلك قال الإمام محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب:
"يا شيخ. إنّ هذا دين الله ورسوله، الذي لاشك فيه، وأبشر بالنُّصْرة لك ولِما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد" [2] .
وقد كان الإمام محمد بن سعود رجلاً حكيماً، حسن السياسة، قد قضى على دسائس المنافسين في الداخل، والدفاع ضد الأعداء الطامعين من الخارج.. يثبت ذلك استقرار إمارة الدرعية عشرين سنة في عهده قبل مبايعة الشيخ له. وقد كان معروفاً بالوفاء، مشهوراً بذلك..
ثم إن الإمام محمد بن سعود قد أدرك بصفاء بصيرته، وسلامة تفكيره، صحة ما يدعو إليه الشيخ من نصرة دين الله، والقيام بتوحيده، وإصلاح الدين والدنيا معاً، فقام بنصرته.
وأصبح الإمام محمد بن سعود هو المؤسس لدولة آل سعود الأولى، وهو الذي سنّ سُنّةً حسنة لبنيه بمناصرة دين الله، وإكرام علماء السنة، وتطبيق الشريعة [3] .
ومن ثم قام الإمامان الجليلان الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود ـ رحمهما الله ـ وأنصارهما بكل ما أُوتوا من قوة العلم والإيمان، بنشر هذه الدعوة المباركة، ورفع راية الجهاد على من وقف في طريق الدعوة.(40/182)
واستمر الشيخ ـ رحمه الله ـ في الدعوة إلى الله عز وجل، وتدريس العلوم الشرعية للطالبين، وكشف الشبهات التي يروجها الكفار والملحدون من عُبَّاد القبور وغيرهم، ويُشَجِّع على الجهاد بأنواعه، ويشارك بنفسه وأولاده، ويؤلف المؤلفات النافعة والرسائل المفيدة في بيان العقيدة الصحيحة، وردّ ما يخالفها بأنواع الأدلة، حتى ظهر دين الله، وانتصر حزب الرحمن، وذلّ حزب الشيطان، وانتصرت العقيدة السلفية في الجزيرة العربية وما حولها وكثر الدُّعاة إلى الحق، ونُكِّست أعلام البدع والشرك والخرافات، وقام سوق الجهاد، وعُمِّرت المساجد بالصلوات والدروس الإسلامية النقية [4] .
وكان أهل الدرعية في غاية الجهالة، وقد وقعوا فيما وقعوا فيه من الشرك الأكبر والأصغر، والتهاون بالصلاة والزكاة، ورفض شعائر الإسلام [5] .
فتخولهم الشيخ بتعليمهم وتلقينهم التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمر بتعليم معنى (لا إله إلا الله) ، وأنها نفيٌ وإثبات، فـ (لا إله) تنفي أن يكون هناك معبوداً بحق، و (إلا الله) تثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ثم أمرهم بتعليم الأصول الثلاثة، وهي معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه صلى الله عليه وسلم [6] .
ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان ورؤساءهم وقضاتهم، ومُدَّعي العلم منهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخرياً واستهزأ به، ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء وهو بريءٌ منها [7] .
وبتحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإمام محمد بن سعود، قامت في قلب الجزيرة العربية بعد نيفٍ وألف سنة من انتهاء عهد الخلفاء الراشدين دولة تحكم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالقدوة الحسنة المتوارثة عن السلف الصالح.(40/183)
وفي توافق تام التأمت الإمامة الشرعية والسياسية الحكيمة في هذا الكيان السياسي الجديد، الذي شهدته بداية النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري، ونشأ في قلب الجزيرة مجتمع هذّب الإسلام جوانبه، وقوّم اعوجاجه، وأزال نقائصه.
وقد اتسعت رقعة الدولة السعودية الأولى اتساعاً هائلاً، وخاصة في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسعود بن عبد العزيز، حيث وصلت حدود الدولة السعودية على أيام سعود بن عبد العزيز إلى جزر البحرين وعُمان وحتى مسقط..
واتسعت رقعتها في كل اتجاه بما في ذلك مدن الحجاز، حيث زالت سيادة الدولة العثمانية على الحرمين [8] . وأصبحت كلها منطقة سعودية. أما من الناحية الجنوبية الغربية فقد انضمت إليها منطقة عسير، ثم تبعتها منطقة المخلاف السليماني (جازان) ، كما أدخلت تحت نفوذها أجزاء كبيرة من أراضي إمام اليمن وبَلْدَانه المهمة، خاصة الساحلية، وقد ازداد توغلها في الساحل اليمني حتى أوشكت أن تستولي على عدن، ومن الجنوب امتدت رقعتها حتى الربع الخالي. بل إنّ غاراتها وصلت إلى مشارف حضرموت. أما من ناحية الشمال فقد أدخلت تحت طاعتها جميع أجزاء الجزيرة العربية الشمالية، ومدَّت لها نوعاً من النفوذ في أماكن من العراق والشام تمثل في دفع بعض القبائل هناك الزكاة إليها [9] .
وللإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الذي بويع إماماً للمسلمين بعد وفاة أبيه سنة 1179هـ[10] مكانة خاصة من أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، فمنذ كان صغير السن، كان له اهتمام بعلم الشيخ، فقد كتب للشيخ وهو بالعيينة يطلب منه أن يكتب له تفسير (الفاتحة) فكتبها له وهو إذ ذاك صغير السن قد ناهز الاحتلام [11] .(40/184)
"وكان عبد العزيز كثير الخوف من الله، كثير الذكر لله، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في لله لومة لائم، ينفّذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفِّذ الحق فيه، ولا يتصاغر حقيراً ظُلم فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن، وكان لا يكترث في لباسه ولا سلاحه.." [12] .
"وكان ـ رحمه الله ـ مع رأفته بالرعية، شديداً على من جنى جناية من الأعراب، أو قطع سبيلاً، أو سرق شيئاً من مسافر، بحيث مَن فعل شيئاً من ذلك أخذ ماله نكالاً أو شيئاً منه على حسب جنايته، وأدَّبه غير ذلك أدباً بليغاً" [13] .
"وكان يوصي عمّاله بتقوى الله، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع، وإعطاء الضعفاء والمساكين، ويزجرهم عن الظلم وأخذ كرائم الأموال" [14] .
وقد وصف الشيخ عثمان بن سندي البصري الفيلكاوي ـ الذي عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ حالة الأمن في المناطق التي كان يحكمها آل سعود إذ ذاك بأنهم ـ أي آل سعود ـ قد أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كلُّ ما كان تحت حكمهم، حتى البراري والقِفار، يسلكها الرجل وحده على حماره بلا خفر، وخصوصاً بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم البعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان، أو أولاد رجل واحد، وهذا بسبب تأديبهم للقاتل والنّاهب والسارق، إلى أن انعدم هذا الشر في زمان ابن سعود".
هذه شهادة من رجل يعد من خصوم آل سعود، فهو من أعوان الدولة العثمانية، وله صلات قوية بولاة بغداد العثمانيين، ولا يمكن اعتباره ـ بأية حال ـ ذا صلة بآل سعود، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقول كلمة الحق، وأن يؤرخ للأمن في شبه الجزيرة العربية، في سياق أحد مؤلفاته، ليثني على ما تحقق منه على أيدي أمراء آل سعود في أوائل القرن الثالث عشر للهجرة [15] .(40/185)
وفي سنة 1185هـ أرسل الإمام عبد العزيز، والإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله ـ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين إلى والي مكة أحمد بن سعيد الشريف، لشرح المعتقد الصحيح وبيان حقيقة الدعوة، وذلك بناء على طلبه [16] .
وفي سنة 1211هـ أرسل الإمام عبد العزيز جماعة من أهل الدين والعلم المشهورين بحسن المناظرة بالبراهين، برئاسة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، إلى الشريف غالب، وذلك بناءً على طلبه أيضا [17] . إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة التي قام بها الإمام عبد العزيز..
وهكذا سار بقية أئمة الدور السعودي الأول على النهج السلفي الذي سلكه الإمام محمد بن سعود، والإمام محمد بن عبد الوهاب في نصرة الدين وبيان العقيدة الصحيحة للناس، ونبذ الشرك والبدع والخرافات، وإقامة الجهاد على أعداء الإسلام، وأعداء الدعوة، وأمَّنوا البلاد التي ملكوها..
ولم تخلُ هذه الفترة من حروب شرسة شنّها أعداء الدعوة، من أجل الإطاحة بها، والقضاء عليها، إلاّ أن أصحاب الدعوة المباركة جاهدوا في الله جهاداً عظيماً، وأبلوا بلاءً حسناً، لتكون كلمة الله هي العليا، فأبطل الله كيد أعدائهم، وباءت بالفشل جميع وسائلهم وأساليبهم، والله مُتم نوره، وناصر دينه، ومعلي كلمته، ولو كره الكافرون.
المبحث الثاني: أثر الدعوة السلفية في الدور السعودي الثاني:(40/186)
إنه على الرغم من هول النكبة التي حلّت بالدولة السعودية الأولى، والتي استمرت حوالي ست سنوات. فإن الدعوة السلفية التي قام بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ لم تَمُت ـ بحمد الله ـ ولم تفلح جهود الأعداء في النيل من تلك العزيمة الصادقة في سويداء قلوب الأسرة السعودية، فقد تمكن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود سنة1240هـ من إعادة روح الجهاد ضد مَن أثار الفتن، وكشف الله بسببه المحن، واستطاع أن يكسر شوكة الطغاة، وينازل الأعداء، ويُطهر بلاده من دنس الاحتلال، ويعيد لها وحدتها وكرامتها بعد الفوضى والتفرق والانحلال، التي أضاعت جهوداً عزيزة بذلها آل سعود في سبيل العودة إلى منهج السلف الصالح، المتمثل في سلامة العقيدة، والتئام الصف، ووحدة الكلمة، والتحاب في الله. وطهر المجتمع مما أفسدته المشارب الدخيلة، ولهذا أصبح بحق مؤسس الدولة السعودية الثانية [18] .
يقول ابن بشر عن الإمام تركي بن عبد الله: "أطفأ الله به نار الفتنة بعد اشتعال ضرامها، وهان على كثير من الناس دينها وإسلامها، كأنهم لم يكونوا حدثاً بإسلام، ولم يجتمعوا على إمام، وتهاون كثير منهم بالصلاة وأفطروا في البلدان في شهر رمضان، وصار هذا الشهر العظيم عندهم كأنه جمادى أو شعبان، وتعذّرت بين البلدان الأسفار، واتخذوا دعوى الجاهلية لهم شعار، فحارب البلدان، وقاتل العربان، ودعاهم إلى الجماعة، والسمع والطاعة، حتى ضرب بجرانه، وسكنت الأمة في أمنه وأمانه" [19] .
"لقد استرد الإمام تركي مكانة آل سعود في الأحساء والبحرين، وأكد النفوذ السعودي في الساحل العماني، وكان ـ رحمه الله ـ مثلاً أعلى للعدل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان غيوراً على شرع الله، عظيم الإيمان، واثقاً من نصر الله، لقد جاهد هذا الإمام في الله حق جهاده، وجدد بناء الدولة السعودية، ورفع منارها عالياً".(40/187)
"لقد جرب أهل نجد أنواعاً من نظم الحكم قبل العهد السعودي، وبعد انقضاء عهد الدولة السعودية الأولى، فذاقوا الأمَرَّينِ، لذا لم يترددوا في نصرة الحق، والالتفات حول راية التوحيد، التي يرفعها الإمام تركي، فمشوا تحتها لما توحي به من الثقة والاطمئنان، وهي ثقة تمت بفضل الله تعالى، ثم بفضل تطبيق الشريعة" [20] .
ومن شيوخ الدعوة وعلمائها في هذه الفترة: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ العلامة حمد بن محمد بن عتيق، والشيخ أحمد بن علي بن حسين الوهيبي في الأحساء، ومن المشايخ الذين لهم تأثير حسن ـ رغم ضعف المُنَاصر ـ في شرح عقيدة السلف الصالح في الحجاز الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، المتوفى عام 1328هـ[21] .
ونستطيع القول بأن الدعوة السلفية ظلت قوية منصورة طوال حكم الدولة السعودية الثانية.
وقد واجه آل سعود في تلك الفترة ظروفاً قاسية، ومواقف مختلفة، حتى هيأ الله قيام دولتهم مرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمهم الله تعالى ـ الذي أخذ على عاتقه نصرة الدعوة السلفية وإقامة دولة إسلامية دستورها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعادت للدعوة السلفية قوتها ومكانتها، وسار أبناؤه البررة من بعده على نهجه إلى هذا اليوم، نسأل الله تعالى لهم الثبات والتوفيق، وأن يجزيهم عن الدين وأهله خير الجزاء.
الفصل الثاني
أهم العوامل التي ساهمت في قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز
المبحث الأول: دور العلماء في نشر الدعوة السلفية:(40/188)
ومن العوامل التي ساعدت على نشر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ما قام به العلماء في نجد من الأسباب المشروعة في توصيل أخبار الدعوة ومبادئها إلى كثير من المناطق والبلدان الإسلامية، إما عن طريق المؤلفات والرسائل، أو عن طريق انتقالهم بأنفسهم من بلاد إلى أخرى بهدف نشر الدعوة. وما اتخذوه من الأسباب الشرعية المساهمة في إقامة الدولة الإسلامية، التي تأخذ على عاتقها إقامة حكم الله. وأهم هذه الأسباب البيعة لمن يرونه أهلاً للإمامة، وإقامة الحدود، وإنصاف الضعيف من القويّ، وغير ذلك من أمور الدين.
وكان بعض هؤلاء العلماء مرسلين ـ دعاة إلى الله ـ من قِبَل حكومة الدعوة في نجد سواء لداخل الجزيرة العربية أو لخارجها، بل كان إرسال هؤلاء الدعاة إلى مناطق من شبه الجزيرة العربية سبباً في خضوع بعض تلك البلدان والمناطق لحكومة الدعوة السلفية في نجد، من الناحيتين الدينية والسياسية [22] .
وإليك بعض الأمثلة:
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ في رسالة له إلى إخوانه العلماء:
"تفهمون أن الجماعة فرض على الإسلام، وعلى مَن دان بالإسلام، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [23] . ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.." [24] .
ومن رسالة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن يقول فيها: "وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمامٍ، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، وتظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب وذهاب في الدين والدنيا، وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام" [25] .(40/189)
ومن رسالة للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف لإخوانه العلماء: "فتجرّد الحَبْر الجليل للدعوة إلى الله ـ أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ وآزره على ذلك من سبقت له من الله سابقة السعادة من أسلاف آل مقرن الماضين وآبائهم المتقدمين ـ رحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عن الإسلام خيراً ـ فما زالوا على ذلك على آثار حميدة ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه، وخفي لطفه ما هداهم الله به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة والصولة، ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة، لا تزاحمهم فيها العرب، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهراً، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد لا يعرف من حاكها" [26] .
وتقدم معنا في المبحث الأول من الفصل الأول أن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله ـ بعثا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين إلى والي مكة أحمد بن سعيد الشريف وعلمائها، ليكون مفوّضاً عنهما في شرح المعتقد وبيان حقيقة الدعوة، بناءً على طلب شريف مكة، وذلك في سنة 1185هـ[27] .
وفي سنة 1211هـ أرسل الإمام عبد العزيز جماعة من أهل الدين والعلم المشهود لهم بحسن المناظرة… برئاسة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، إلى الشريف غالب بناءً على طلبه أيضاً [28] .(40/190)
ولما دخلت بلاد الحجاز في ولاية الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ حصل اتفاق بين علماء مكة ونجد.. وقد اشتمل على بيان ما يجب على الأمة الإسلامية اعتقاده من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وتحذيرها من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كدعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة بالأموات، وطلب الشفاعة منهم، والذبح والنذر لغير الله، وكالحلف بغير الله، وتعظيم القبور بغير ما شرع الله من البناء عليها واتخاذها مساجد، وشد الرحال إليها، والطواف حولها، والتبرك بها، مما عمَّت به البلوى. وقد سبق نشرها في جريدة أم القرى في أجزاء متفرقة في سنة 1343هـ، ثم جمعت في رسالة تحت عنوان:
البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد
وطبعت عام 1344هـ، ثم ضُمّ إليها مناظرة في نفس الموضوع جرت بين علماء مكة ونجد نشرتها جريدة أم القرى يوم الجمعة 15/5/1343هـ، وطبعت بمطابع دار الثقافة بمكة المكرمة عام 1398هـ، طبعتها الثانية، وأولها: نداء عام من علماء بلد الله الحرام إلى أمتنا الكريمة وإلى شعبنا النبيل [29] .
ومن هؤلاء العلماء الأجلاء الذين لهم دور بارز في نشر الدعوة السلفية والإسهام في إقامة الدولة الإسلامية: الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن حسن، وغيرهم كثير ممن كانت لهم جهود كبيرة في التدريس، والإفتاء، وبعث الرسائل والنصائح، والتأليف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخطابة، وغيرها ـ رحم الله الجميع رحمة واسعة.
هذا بالإضافة إلى أن طبيعة مبادئ الدعوة واضحة المعالم، تناسب الفطرة السليمة، سهلة الفهم، بعيدة عن التعقيدات والأمور الفلسفية، ولا غرو في ذلك فهي الدعوة إلى الإسلام النقي الخالص من شوائب البدع والشركيات [30] .(40/191)
المبحث الثاني: السمعة الطيبة للدولة السعودية في عهودها السابقة:
إن ما اتصفت به الدولة السعودية منذ نشأتها من تاريخ متميز عن غيرها من الشيم الأصيلة، والقيم النبيلة، ونصرها للدعوة السلفية الإصلاحية ـ التي قام بإحيائها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ـ مكّن لها في قلوب الناس المحبة الصادقة، وأكسبها السُّمعة الطيبة.
وهذه السمعة الطيبة، لم تأت من فراغ، ولكن شواهدها التاريخية كثيرة جدا على مدار تاريخها.
وذلك أنه منذ أن اقتنع الإمام محمد بن سعود بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورحب به ووعده بالنصر والجهاد لمن خالف التوحيد..
قام الإمامان ـ رحمهما الله ـ وأنصارهما بكل ما أُوتوا من قوة العلم والإيمان، بنشر هذه الدعوة المباركة، ورفعوا راية الجهاد، وسعوا إلى شرح أهداف الدعوة وغاياتها حتى تمكنت من شق حُجُب الضلال وتمزيق الباطل، واضحة المفهوم والهدف.
وقامت دولة التوحيد والإيمان بالحفاظ على هذه الدعوة وحمايتها، وأقامت شرع الله في البلاد، ونفّذت الحدود والتعزيرات، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، واهتمت بالشعائر الإسلامية عامة، والصلاة خاصة.
وقد عضَّت دولة آل سعود في كل عهودها على هذه الدعوة بالنواجذ لاقتناع أئمتها بصحتها وصوابها وفضلها.
وكان من آثار ذلك أن تبوأت هذه الدولة في جميع عهودها مكانة طيبة ومحبة صادقة لدى العلماء الموحدين، ونفوس المسلمين المخلصين في كل مكان.
وإذا تتبعنا مواقف آل سعود وأفعالهم وأقوالهم على مدار تاريخهم، تأكد لنا أنهم لم يكونوا حُكاماً فحسب، بل كانوا رجال عقيدة، ورجال دعوة أيضاً.
فالإمام محمد بن سعود يقول لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
"يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لاشك فيه، وأبْشِر بالنصرة لك، ولِما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد…" [31] .(40/192)
ويقول ابن بشر عن الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية: "كان شجاعاً مقداماً مجاهداً في سبيل الله… ومن لطيف سيرته أنه يكون للضعيف في الغاية من اللطف والإكرام ولين الكلام، وإطعام الطعام… وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، كثير النصائح لرعيته… إنه من الداعين إلى الله، المجاهدين في سبيل الله" [32] .
ويسير ابنه فيصل بن تركي على نهج أبيه، حتى أنه لو جمعت نصائحهم ومراسلاتهم في الدعوة إلى الله تعالى، وتعاهدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لبلغت مجلداً [33] .
ويأتي الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ مؤسس الدولة السعودية الثالثة، مستمراً في هذا الاتجاه، ومؤكداً سيره على خطى أسلافه في نصرة العقيدة ونشرها، وتحكيم شرع الله بين عباده.
ومن أقواله:
"كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إني والله، وبالله، وتالله، أُقدِّم دمي ودم أولادي وكُل آل سعود فداء لهذه الكلمة لا أضنُّ بها" [34] .
"أنا داعية أدعو إلى عقيدة السلف الصالح…" [35] .
"نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالص من كل بدعة. نحن دعاة إلى العروة الوثقى" [36] .
ويواصل أبناء الملك عبد العزيز المسيرة على نفس المنهج. ولو تتبعنا أقوالهم وأعمالهم في نصرة الإسلام والمسلمين، لبلغت مجلدات كثيرة.
وهكذا نرى أن آل سعود قاموا بنصرة الدعوة إلى الله تعالى، ونشر العقيدة الصحيحة، واشتهرت عدالتهم بين الناس، مما جعلهم أهلاً لتولي أمور المسلمين، وجعل الناس يبايعونهم على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون أن يجدوا في نفوسهم حرجاً من ذلك.
المبحث الثالث: تطلُّع المجتمع إلى قيام دولة تُصحح العقيدة، وتطبق الشريعة وتقيم الأمن والعدل:(40/193)