قال خطّاب [148] : "إن قلت: إن زيداً قام، أو قد قام لم يجز أن تدخل عليه اللام، لأن الفعل الماضي ليس له معنى اسم الفاعل، وهذا مما يضربُ عنه لدقته. ويجوز أن تقول: إن زيداً لقام، إذا جعلت اللام جواباً ليمين محذوفة، والمعنى: إن زيداً والله لقد قام. كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [149] .
(7) هل تعدّ "لاسيّما"و"إلا أن يكون"من أدوات الاستثناء؟
قال السيوطي [150] : "عدّ الكوفيون وجماعة من البصريين كالأخفش وأبي حاتم والفارسي والنحاس وابن مضاء من أدوات الاستثناء "لا سيّما". وقال خطّاب [151] : وقد ألحق "لا سيّما"بحروف الاستثناء جماعة من النحويين، منهم الأخفش وأبو حاتم وابن النحاس. وأضرب عن ذكرها في باب الاستثناء سيبويه والمبرّد. وما أرى لإلحاقها في باب الاستثناء وجهاً، لأنك إذا قلت: جاءني القوم ولاسيما زيدٌ؛ فمعناه: ولامثل زيد فيمن جاءني، فكأنك قلت: لا يأتي مثل زيد, فإنما نفيت أن يكون أحد ممن جاءك شبهاً لزيد، ولعل زيداً قد جاءك أو لم يأتك".
وقال خطّاب [152] : "ورأيت جماعة من النحويين ألحقوا "إلا أن يكون"في عدد حروف الاستثناء، وليس لها فيه حظ، وإنما حرف الاستثناء إلاّ ".
(8) المنادى المضاف إلى ياء المتكلّم
المنادى المضاف إلى ياء المتكلم إذا كان صحيح الآخر، نحو: يا غلامي، جاز فيه ست لغات.
قال ابن هشام [153] : "فالأكثر حذف الياء والاكتفاء بالكسر نحو: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [154] .ثم ثبوتها ساكنة نحو: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [155] . أو مفتوحة نحو: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [156] . ثم قلب الكسرة فتحة والياء ألفا نحو: {يا حسرتا} [157] . وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة، كقوله:
بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لو انّي
أصله بقولي: يا لَهْفَ. َ(34/475)
ومنهم من يكتفي من الإضافة بنيتها، ويضم الاسم، كما تُضم المفردات وإنما يفعل ذلك فيما يكثر فيه ألاّ ينادَى إلاّ مضافاً، كقول بعضهم: يا أمُّ لا تفعلي، وقراءة آخر: {ربُّ السجنُ أحبُّ إليّ} [158] .
قال خطّاب المارديّ عن هذه اللغة الأخيرة [159] : "والخامسة قليلة رديئة، وهي: يا غلامُ، بحذف الياء وبضم الميم، وأنت تريد يا غلامي. وهذا قبيح لأنه يلتبس المضاف بغيره كقولك: يا غلامُ، إذا أردت يا أيها الغلام, وهذه لغة ذكرها أبو القاسم الزجاجي [160] ، ولم ينص عليها بالضم، ولكن بعض شيوخنا كان يرويه بالضم، وذلك لا يصحّ. والصواب يا غلامَ بالفتح، فحذف الألف المنقلبة عن الياء، كما حذف الياء من غلامي، وهي قليلة لأن الألف خفيفة والياء ثقيلة، فجاز حذف الياء، وقبح حذف الألف. انتهى.
فخطاب يضعّف لغة الضم، ويصفها بأنها قليلة رديئة قبيحة، بله يخطئها، ويصوّب أن تكون بالفتح، مع أن لغة الفتح عنده قليلة أيضاً.
ولكن لغة الضم التي أنكرها خطاب أجازها بعض النحاة بشرط أمن اللبس، أي ألاّ تستعمل إلا فيما يكثر فيه النداء بالإضافة.
قال أبو حيان [161] : "وأقلُّها: يا غلامُ، وقال الأستاذ أبو علي: "وهذا إذا لم يلبس، يعني بالمنادى المقبل عليه"، وقال ابن هشام اللخمي: "يا غلامُ أقبل، لا يجوز على مذهب الجماعة، إنما أجاز سيبويه الضم فيما يراد فيه الإضافة، فيما كثر حتى إذا ضممته علم أن المراد فيه الإضافة".
(9) بدل الاشتمال
اختلف النحاة في المشتمل في بدل الاشتمال على أقوال [162] :
ذهب الفارسي في أحد قوليه، والرماني في أحد قوليه، وخطّاب المارديّ إلى أن الأول مشثمل على الثاني. قال خطّاب: "ولا يجوز: سرّني زيدٌ داره، ولا أعجبني زيدّ فرسه، ولا رأيتُ زيداً فرسه. ويجوز: سرّني زيدٌ ثوبُه، وسرَّني زيدٌ قلنسوتُه، لأن الثوب يتضمنه جسده.(34/476)
وذهب الفارسي في الحجة إلى أن الثّاني مشتمل على الأول نحو: سُرق زيدٌ ثوبُه.
وذهب المبرّد والسيرافي وابن جني والرماني في أحد قوليه وابن الباذش وابن أبي العافية وابن الأبرش إلى أن المعنى المسند إلى المبدل، فيكون إسناده إلى الأول مجازا، وإلى الثاني حقيقة، إذ المسلوب في الحقيقة هو الثوب لا الرجل، والمعجب هو العِلم لا زيد.
(10) أسلوب نعم وبئس
يجوز في الفصيح "نِعْمَ الفتاةُ"في المدح، و "بئس الفتاة"في الذم بترك التاء فيهما، لأن المراد بالفتاة فيهما الجنس، وهو مؤنث مجازي.
وأل في الفتاة جنسية، خلافا لمن زعم أنها عهدية، ومع كون الحذف حسناً الإثبات أحسن منه [163] .
وفصّل خطّاب في الترشيح فقال [164] : "يجوز نعم الجارية، والأحسن التاء، وتقول: بئست المرأتان أختاك، وبئس المرأتان، وبئس النساء أخواتك، وبئست، إلاّ أن ترك التأنيث في الجماعة أحسن منه في الواحد والاثنين، وقد يجوز: نِعْمَ الزيدُ زيدُ بن حارثة، ونِعْم العمر عمر بن الخطاب، لأنك أردت واحداً من جماعة فصار جيداً حسنا لكل من له هذا الاسم، وكل معنى لا نظير له، ولا هو واحد من جنس يشركه في اسمه فلا يجوز وقوع نعم وبئس عليه، ولو قلت: نعمت الشمس هذه، ونعم القمر هذا، لم يجز من حيث جاز نعم الرجل، فلو قلت: نعم الشمس هند، ونعم القمرُ زيدٌ، جاز على التشبيه، ولو قلت: نعم القمرُ ما يكون لأربع عشرة، ونعمت الشمس شمس السعود جاز، لأنك أردت تفصيل أحوالها، كما تقول: هذه الشمس حارة وهذه الشمس باردة…".
(11) أسلوب حبذا
يقال في المدح: "حبذا", ويقال في الذم: "لا حبذا".
وقد اختلف في هذا التركيب "حبذا زيدٌ"على أقوال:(34/477)
فمذهب سيبويه أن "حبّ"فعل، و"ذا"فاعل، وأنهما باقيان على أصلهما، وقيل: ركّبا وغلّبت الفعلية لتقدم الفعل، فصار الجميع فعلاً، وما بعده فاعل، وقيل: ركّبا وغُلبت الاسمية لشرف الاسم، فصار الجميع اسماً مبتدأ وما بعده خبر، ولا يتغير "ذا"عن الإفراد والتذكير، لأن ذلك كلام جرى مجرى المثل [165] .
فهذه ثلاثة أقوال. ذهب قوم منهم الأخفش وخطّاب المارديّ إلى القول الثاني منها. أي أن حبّ تركبت مع ذا وصار فعلاً، والمخصوص هو الفاعل [166] .
قال خطّاب في الترشيح [167] : "ومن زعم أن زيداً بدل من "ذا"لزمه أن يقول: حبذان الزيدان، وحبذه هندو وهذا لم يقله أحد علمناه, ولكن تقول: (حبذا أخوك، وحبذا أخواك، وحبذا إخوتك، وحبذا أخواتك، وحبذا النساء الحسان) . فهذا كلّه فاعل مرفوع بحبّذا، وهذا على لفظ واحد في ذلك كله، لأنه صار كالمثل ... "
قال ابن عقيل [168] : "وردّ بعدم النظير، فلم يركب فعل من فعل واسم، وبأنه دعوى بلا دليل".
واختلف النحاة أيضاً في الاسم المنصوب بعد حبذا [169] ، نحو قولك: حبذا زيد رجلاً. فذهب الأخفش والفارسي والربعي وخطّاب وجماعة من البصريين إلى أنه منصوب على الحال لا غير، سواء أكان جامدا أم مشتقاً.
وأجاز الكوفيون وبعض البصريين نصبه على التمييز ...
(12) أسلوب التعجب
للتعجب صيغتان قياسيتان هما (ما أفعَلَه) نحو: ما أحسنَ زيداً! (وأَفْعِل به) نحو: أَحْسِنْ بزيدٍ.
ويبنى هذان الفعلان مما اجتمعت فيه ثمانية شروط [170] ، وهي: أن يكون فعلاً، ثلاثياً، متصرفاً، قابلا للتفاضل، غير مبني للمفعول، تاماً، مثبتاً، وليس الوصف منه على وزن أَفَعْل.
وفيه مسائل تتعلق بآراء خطّاب:
المسألة الأولى:(34/478)
يشترط فيما يصاغ منه فعلا التعجب أن يكون ثلاثياً، فلا يبنيان من دحرج وضارب واستخرج. إلا ما كان على وزن (أَفْعَلَ) فقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يمتنع مطلقاً، وقيل: يجوز إن كانت الهمزة لغير النقل، نحو: ما أظلم الليل، وما أقفر هذا المكان! وشذّ على هذين القولين: ما أعطاه للدراهم، وما أولاه للمعروف!، وعلى الثلاثة: ما أتقاه، وما أملأ القربة! لأنها من اتقى وامتلأت [171] .
قال خطّاب [172] : "قد يتعجبون من لفظ الرباعي على غير قياسٍ في قولهم: ما أعطاه، وما أولاه، وما آتاه للمعروف! ولكنها شاذة، والشاذ يحفظ حفظاً ولا يقاس عليه. وقد شرحناها في كتاب الدلائل وفي كتاب الترجمة [173] .
المسألة الثانية:
يشترط فيما يبنى منه فعلا التعجب ألاّ يكون مبنياً للمفعول، فلا يبنيان من نحو ضُرِب، لا يقال: ما أضربَ زيداً! وأنت تتعجب من الضرب الذي حلّ به. وبعض النحاة يستثني ما كان ملازماً لصيغة (فُعِلَ) نحو: عُنيت بحاجتك، وزُهي علينا. فيجيز: ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا! [174] .
وقال ابن مالك في التسهيل: "وقد يبنيان من فعل المفعول إن أُمن اللبس".
قال ابن عقيل في شرح التسهيل [175] : "قالوا: ما أشغله! من شُغِل، وما أجنَّه! من جُنَّ، في ألفاظ. وهو في التفضيل أكثر من التعجب، كأزهى من ديك، وأشهر من غيره، وأشغل من ذات النحيين. واختار المصنف (يعني ابن مالك) أن نحو هذا وهو ما لا يلبس لا يقتصر فيه على السّماع، وهو مذهب خطّاب المارديّ. والمصحح أنه لا يجوز إلا حيث سمع، وهو قول الجمهور.(34/479)
فابن مالك إذًا اتبع خطّاباً في إجازة هذه المسألة بشرط أمن اللبسِ. قال خطّاب في الترشيح [176] : "فإن قلت: ضُربَ زيدٌ - لم يجز أن تقول فيه: ما أَضرب زيدًا! لأنه كان يلتبس بالفاعل, ولكن تقول: ما أَشدَّ ما ضُربَ زيدٌ! ولو قلت: ما أخوف زيداً! على أنه هو المخوف، وما أحمى زيداً! على أنه هو المحمي لم يجز ذلك لالتباسه بالفاعل، إلاّ أن يأتي من ذلك ما ليس فيه التباس. وقد ردّ على الرمادي قوله:
من الخوف والأحراس في حبس ضيغمِ
ولا شبل أحمى من غزال كأنه
ولا عيب فيه عندي لقلة التباسه. وقد جاء مثله لكعب بن زهير في مدحه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول:
وقيل إنك مسلوبٌ ومقتولُ
فلهو أخوف عندي إذ أكلّمه
في بطن عثَّر غيلٌ درنه غيلُ
من ضيغمٍ من ضراء الأسد مخدرُه
قال أبو حيان [177] : "وتبع ابن مالك خطابّاً، فقال: "وقد يبنيان من فعل المفعول إن أمن اللبس، نحو: ما أجنّه، وما أبخته، وما أشغفه! وهو في أفعل التفضيل أكثر منه في التعجب، كأزهى من ديك، وأشغل من ذات النحيين، وأشهر من غيره، وأعذر، وألوم، وأعرف وأنكر، وأخوف، وأرجى - من شُهر، وعُذر، وليم، وعُرف، ونُكر، وخيف، ورُجي، وإذا لم يلبس فلا يقتصر فيه على السماع، بل يحكم باطراده في فعل التعجب وأفعل التفضيل". انتهى.
المسألة الثانية:
أجاز ابن مالك [178] أن يبنى فعلا التعجب من الأفعال التي يدل على فاعلها بوزن (أفعل) مما يفهم جهلاً، نحو: ما أحمقه، وما أهوجه، وما أرعنه، وما أنوكه! حملا على ما أجهله! لتقاربهما في المعنى". وقال في التسهيل: "ومن فِعْل (أَفَعْلَ) مُفْهِمَ عُسرٍ أو جَهْل".(34/480)
قال ابن عقيل في شرحه [179] : "كحمق ورعن ولُدّ إذا كان عسر الخصومة، وإن كان مذكرها على أفعل ومؤنثها على فعلاء، ناسبت في المعنى جَهِل وعسر، فجرت في التعجب مجراهما، فقيل: ما أحمقه وألدّه! وهو أحمق منه وأرعنُ وألدّ. وأكثر المغاربة عدّوا هذا في الشواذ. وما ذكره المصنف ذكره خطّاب المارديّ. وقال بعض المغاربة: إنه يظهر من كلامِ سيبويه".
وقال خطّاب في الترشيح [180] : "وأما قوله: ما أحمقه، وما أرعنه، وما أنوكه، وما ألدَّه! من الخصم الألدّ، فإنما جاز فيه هذا والاسم منه (أفعل) وهو في معنى العاهات والأدواء، لأنهم أخرجوه عن معنى العلم ونقصان الفطنة، وليس بلون، ولا خلقة في الجسد، وإنما هو كقولك: ما أنظره! تريد نظر الفكرة، وما ألسنه! تريد البيان والفصاحة.
المسألة الرابعة:
يجوز التعجب من كل فعل ثلاثي تنقله إلى (فَعُلَ) مضموم العين، فيصير غير متعّدٍ أيضاً، نحو: ضَرُبَ زيدٌ، في معنى ما أضربه. ولا يلزم فاعله أن يكون معرّفاً بالألف واللام. وإذا بنيته من فعل معتلِّ اللام من ذوات الياء قلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها كرَمُو الرجل، في معنى ما أرماه! ومن كلام العرب: لسَرُوَ الرجل، في معنى: ما أسراه! [181] .
وقد جعل ابن هشام هذه المسألة في باب نعم وبئس، تبعاً لابن مالك، فقال [182] : "وكل فعل ثلاثي صالح للتعجب منه فإنه يجوز استعماله على (فَعُلَ) بضم العين- إما بالأصالة كـ "ظرف وشرف"أو بالتحويل كـ "ضَرُب وفَهُم"ثم يُجرى حينئذٍ مجرى نِعْم وبئس في إفادة المدح والذمّ، وفي حكم الفاعل وحكم المخصوص، تقول: فَهُمَ الرجلُ زيدٌ ... ".(34/481)
وهذا الذي ذكره ابن هشام من حكم هذا الفعل مع فاعله هو مذهب الفارسي وأكثر النحويين، فيلحق بباب "نعم وبئس"ويثبت له جميع أحكامه. وذهب الأخفش والمبرد إلى أنه يجوز إلحاقه بباب التعجب، فلا يلزم فاعله (أل) والإضمار. قال الشيخ خالد: "وهو الصحيح". وعلى هذا يجوز لك في فاعل (فَعُل) المذكور أن تأتي به اسماً ظاهراً مجرداً من أل، وأن تجره بالباء الزائدة تشبيهاً بفاعل أفعَل في التعجب. نحو: فَهُمَ زيد [183] .
قال أبو حيان [184] : "وحكى الأخفش الاستعمالين له في الكبير عن العرب، تقول: حَسُنَ الرجل، ولَحَسُنَ زيدٌ - في معنى ما أحسنه! ".
ويبدو أن خطّاباً في هذه المسألة تبع الفارسي ورأياً للأخفش، في إجراء هذا الفعل مجرى نعم وبئس- قال [185] : "لَفَعُلَ الرجل"هذا البناء يضمُ فيه عين كل فعل، وهو بمنزلة "نعم وبئسِ "لا يقع إلا على ما فيه الألف واللام خاصة، ولا يكون إلا من ثلاثي, تقول مِنْ كتَب وفهِم وحَسُن: لَكَتُبَ الرجلُ زيدٌ - ولَفَهُمَ، ولَحسُنَ- بضم العين للتعجب. والرجل: رفع بفعله، وزيدٌ: مبتدأ، وخبره فيما قبله. وإن شئت كان خبر مبتدأ مضمر، كما تقدم في نعم وبئس. واللام لام قسم، وإن شئت حذفتها، فقلت: كَرُمَ الرجلُ، وشَرُفَ الغلامُ- بمعنى ما أكرمه وأشرفه!، لا يقع هذا الفعل في التعجب إلا على ما فيه الألف واللام خاصة في قول الأخفش ومن وافقه وقد رأيت في كتاب المقتضب [186] لأبي العباس (المبرد) أنه يجيز: كَرُمَ زيدٌ، وشرُفَ عمرو- وهو يريد التعجب, ولا أدري ما قوله.(34/482)
ثم يفصِّل خطّاب في أحكام هذا الفعل، وطريقة استعماله من الأجوف والناقص، ومن ذلك قوله [187] : "فإن كان موضع لامه واواً تركتها على حالها واواً، أو ياء قلبتها واواً لانضمام ما قبلها, تقول من دعا وهجا وغزا: لَدَعُو الرجّلُ، وهَجُوَ، وغَزُوَ بضم العين. وتقول من رمى وقضى: لَرَمُوَ الرجل ولَقَضُوَ، فتقلب الياء واواً لانضمام ما قبلها…".
المسألة الخامسة:
ذكر خطّاب أنهم استغنوا بقولهم: (أفْعَلُ الفِعْل فِعْلُه) للتعجب من الرباعي أو الألوان والعاهات، مما فقد شروط بناء باب (فعُلَ) في التعجب.
قال في الترشيح [188] : "فإن تعجبت من الرباعي فصاعداً أو الألوان والعاهات، فإنهم عدلوا فيه عن الأصل في هذا البناء، واستغنوا عنه بقولهم: أفْعَلُ الفعلِ فِعْلُه. تقول: أشدُّ الحمرةِ حمرتُه، وأسرعُ الانطلاقِ انطلاقهُ، وأفحشُ الصّمم صممُه. فالاسم الأول: مبتدأ، والثاني مضاف إليه، وما بعد المضاف إليه خبر الابتداء. وكان القياس أن يقولوا: لَفَحُشَ الصّممُ صَممُه، ولَشدَّت الحمرةُ حمرتُه. فيرفعونه من حيث رفعوا: لكَرُمَ الرجلُ زيدٌ، ولكنهم استغنوا عنه بما ذكرت لك.
(13) أسماء الأصوات
قال خطّاب في الترشيح [189] : "تقول للشيء إذا رضيته بَخْ بَخْ ساكن الثاني لأنه معرفة. وبَخٍ بَخٍ منون مكسور لالتقاء الساكنين، وكذلك ما أشبهه من الأصوات الثنائية".
وقال أيضاً [190] : فإن كان الصوت المحكي ثلاثياً ساكن الوسط كسرت آخره لالتقاء الساكنين، ولم تنونه إن أردت المعرفة، وإن نكرت نونت، تقول: قال الغرابُ غاقِ، وقال الحجرُ طاقِ، وقال الغزالُ ماءِ. تريد المعرفة، ومعناه قال هذا الصوت بعينه. وإن نكرت نونت فقلتَ: غاقٍ وطاقٍ وماءٍ. والمعنى قال صوتاً يشبه هذا. انتهى.
(14) من أسماء الأفعال
من أسماء الأفعال "حيَّ "بمعنى أقبل.(34/483)
قال الرّضي [191] : "يعدَّى بعلى نحو: حيَّ على الصلاة، أي أقبل عليها. وعن أبي الخطاب أن بعض العرب يقول: حيَّهل الصلاة) ومعناه ائتوا الصلاة (، وقد جاء متعديا بمعنى ائت، قال:
حيَّ الحمُولَ فإن الركب قد ذهبا
أنشأتُ أسأله ما بالُ رفقتِه
قال البغدادي [192] : "وهو شاهد على أن حيَّ جاء متعدياً بمعنى ائت الحمول، جمع حِمْل بالكسر. وهذه رواية الجوهري في الصحاح [193] . وكذا رواه خطّاب بن يوسف في كتاب الترشيح، وقال: أخذ يسأل غلامه: ما بال الرفقة؟ وأين أخذت؟ ثم قال له: حيَّ الحمُول يا غلام، أي ائتها وحثَّها". انتهى. نقله عنه أبو حيان في التذكرة.
أقول: ولم أجد هذا النقل في الجزء المطبوع من التذكرة لأبي حيان، فلعله ذكره في الأجزاء المنقودة من التذكرة.
(15) تصويبات لغوية
ذكر خطّاب أنه لا يجوز حذف (لا) من (ولا سيّما) . قال [194] : وقد أولعت به العامة، ولا يوجد ذلك لا شعر فصيح البتة، وإنما يقول به المحدثون من الكتاب والشعراء، وهو لحن.
وقد ذهب أبو حيان مذهب خطّاب فقال [195] : "حذف (لا) من (لا سيما) . إنما يوجد في كلام الأدباء المولّدين، لا في كلام من يحتج بكلامه.
وفي الترشيح [196] "تقوله: لا آتيك ما أنَّ في السماء نجماً، أي ما دام أن في السماء نجماً، أو ما كان أنّ، لأن هذا من مواضع الفعل، لأن (ما) تكون مع الفعل مصدراً، ولا يكون الاسم صلة لـ"ما". ومن قال من أصحابنا إنّ (أنّ) فعل ماض من الأنين فقد غلط، لأن النجم لا يئن. ويجوز عندي أن يكون الأصل: ما عَنَّ في السماء نجمٌ، أي ما عرض وأبدل من العين همزة، لأن الهمزة والعين يبدل بعضها من بعض". انتهى.
رأي في التضمين(34/484)
تعرّض لموضوع التضمين عدد من العلماء القدامى، كما بحث فيه بعض المتأخرين وقد سجل الدكتور عباس حسن في كتابه "النحو الوافي" [197] بعض البحوث المقدمة إلى المجمع اللغوي القاهري حول "التضمين", ثم كان قرار المجمع على النحو التالي [198] :
"التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدى فعل آخر أو ما في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم"، ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي، بشروط ثلاثة:
الأول: تحقيق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي.
ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي.
وقد كان لخطّاب المارديّ رأي في التضمين يتعلق بباب ظن وأخواتها، نقله السيوطي في موضوع "التضمين"من الأشباه والنظائر، جاء فيه [199] :
وقال ابن هشام في تذكرته: "زعم قوم من المتأخرين منهم خطّاب المارديّ، أنه يجوز تضمين الفعل المتعدي لواحد معنى صيّر، ويكون من باب ظن، فأجاز: حفرت وسط الدار بئراً، أي صيّرت، قال خطاب: "وليس (بئرا) تمييزا إذ لا يصلح لـ (من) ، وكذا أجاز: بنيت الدارَ مسجداً، وقطعت الثوبَ قميصاً، وقطعت الجلد نعلاً، وصبغت الثوب أبيض، وجعل من ذلك قول أبي الطيب:
لوني كما صبغ اللجينُ العسجدا
فمضت وقد صبغ الحياءُ بياضها
لأن المعنى: صيّر الحياء بياضها لوني، أي مثل لوني.
وقال ابن هشام: "والحق أن التضمين لا ينقاس".
وقال أبو حيان [200] : "والصحيح أن هذا كله من باب التضمين الذي يحفظ ولا يقاس عليه".
مصادر البحث
1- ارتشاف الصرب: أبو حيان الأندلسي، تحقيق د. مصطفى النماس، الطبعة الأولى.
2- إشارة التعيين: عبد الباقي اليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، الطبعة الأولى، 1406هـ-1986م.(34/485)
3- الأشباه والنظائر: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم - مؤسسة الرسالة.
4- إصلاح المنطق: ابن السكيت، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة 1970م.
5- الأعلام: الزركلي دار العلم للملايين.
6- الاقتراح: للسيوطي، تحقيق د. أحمد قاسم، 1976م.
7- إنباه الرواة: القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى.
8- أوضح المسالك: ابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة، بيروت.
9- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: إسماعيل باشا البغدادي.
10- ابن الباذش النحوي: د. دردير أبو السعود، الطبعة الأولى 1403هـ -1983م.
11- بغية الملتمس: الضبي "دار الكتاب العربي 1967م.
12- بغية الوعاة: السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، مطبعة الحلبي.
13- البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروزآبادي، تحقيق محمد المصري دمشق 1392- 1972م.
14- التاريخ الأندلسي: د. عبد الرحمن الحجي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية.
15- التبيان في إعراب القرآن: العكبري، تحقيق علي البجاوي، مطبعة عيسى الحلبي 1976م.
16- تذكرة النحاة: أبو حيان الأندلسي، تحقيق د. عفيف عبد الرحمن، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م.
17- التصريح على التوضيح: الشيخ خالد الأزهري، دار إحياء العربية.
18- التكملة لكتاب الصلة: ابن الأبّار، نشره عزت العطار الحسيني، مطبعة السعادة بمصر 1375هـ - 1955م.
19- توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك: ابن أم قاسم المرادي، تحقيق د. عبد الرحمن سليمان، الطبعة الثانية، مكتبة الكليات الأزهرية.
20- جذوة المقتبس: الحميدي، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م.
- الجمل: الزجاجي، تحقيق د. علي الحمد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.(34/486)
21- الجنى الداني في حروف المعاني: المرادي، تحقيق طه محسن، بغداد 1396 هـ- 1976 م.
23- حاشية يس الحمصي على التصريح.
24- خزانة الأدب: البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي.
25- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: السمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى.
26- دول الطوائف: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية 1389 هـ-1969م.
27- سير أعلام النبلاء: الذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1405 هـ- 1984 م.
28- شرح أبيات مغني اللبيب: البغدادي، تحقيق عبد العزيز رباح وزميله، دار المأمون للتراث، دمشق.
29- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ومعه حاشية الصبان - دار إحياء الكتب العربية.
30- شرح الكافية: الرضي.
31- شرح الكافية الشافية: ابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، منشورات جامعة أم القرى، الطبعة الأولى 1402 هـ- 1982م.
32- شرح المفصل: ابن يعيش، إدارة الطباعة المنيرية.
33- شفاء العليل في إيضاح التسهيل: السلسيلي، تحقيق د. الشريف عبد الله البركاتي الطبعة الأولى 1406 هـ- 1986م.
34- الصحاح: الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.
35- الصلة: ابن بشكوال، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م.
36- ضياء السالك إلى أوضح المسالك: محمد عبد العزيز النجار، الطبعة الأولى 1389 هـ-1969م.
37- طبقات النحويين واللغويين: الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى 1373 هـ- 1954م.
38- ابن الطراوة النحوي: د. عياد الثبيتي، مطبوعات نادي الطائف الأدبي 1403هـ-1983م.
39- أبو الحسين بن الطراوة: د. محمد البنا، دار الاعتصام، القاهرة 1405هـ- 1980م.
40- فهرسة ما رواه عن شيوخه: ابن خير الإشبيلي - الطبعة الثانية 1382 هـ- 1962م.
41- كشف الظنون: حاجي خليفة.(34/487)
42- المحتسب: ابن جني، تحقيق علي النجدي ناصف وزميليه، الطبعة الثانية.
43- المساعد على تسهيل الفوائد: ابن عقيل، تحقيق د. محمد كامل بركات، منشورات جامعة أم القرى.
44- معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر - بيروت.
45- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة- بيروت.
46- مغنى اللبيب: ابن هشام الأنصاري، تحقيق د. مازن المبارك وزميله، دمشق - الطبعة الأولى 1384هـ- 1964 م.
47- المقتضب: المبرد، تحقيق د. محمد عبد الخالق عضيمة - القاهرة.
48- منجد الطالبين: أحمد عمارة، الطبعة الرابعة 1408 هـ.
49- النحو الوافي: عباس حسن، دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة.
50- نفح الطيب: المقري، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر - ببيروت 1388هـ- 1968م.
51- هدية العارفين: إسماعيل باشا البغدادي، منشورات مكتبة المثنى.
52- همع الهوامع: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم، دار البحوث العلمية، الكويت - الطبعة الأولى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] دول الطوائف. محمد عبد الله عنان ص 3 (المقدمة) ، التاريخ الأندلسي للحجي 354.
[2] التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار 1/ 291.
[3] دول الطوائف ص 80.
[4] دول الطوائف باختصار 80-87 باختصار.
[5] سير أعلام النبلاء للذهبي 18/514، دول الطوائف 87. الأعلام للزركلي 6/228.
[6] انظر في ترجمته: التكملة كتاب الصلة لابن الأبار 1/291، إشارة التعيين لعبد الباقي اليماني 112, البلغة للفيروز آبادي 77, بغية الوعاة للسيوطي 1/553, معجم المؤلفين 4/103, كشف الظنون 1/507، هدية العارفين 1/347، إيضاح المكنون 1/281.
[7] هدية العارفين 1/347.
[8] الصلة لابن بشكوال / القسم الثاني 510، نفح الطيب 2/61.(34/488)
[9] كشف الظنون 1/507، هدية العارفين 1/347.
[10] تذكرة النحاة 278.
[11] معجم البلدان 5/38-39، باختصار.
[12] دول الطوائف 80.
[13] فهرسة ما رواه عن شيوخه 319، 480، 484، 509، 524، 527.
[14] إشارة التعيين 112، البلغة 77.
[15] توضيح المقاصد والمسالك شرح ألفية ابن مالك للمرادي 1/345.
[16] التصريح 2/336.
[17] التصريح 1/223.
[18] التصريح 2/289.
[19] ضياء السالك للنجار 1/290.
[20] إيضاح المكنون 1/281، هدية العارفين 1/347.
[21] إرتشاف الضرب تحقيق: د. النماس / قسم الفهارس 3/658.
[22] إرتشاف الضرب 3/684.
[23] انظر الارتشاف 1/286، 1/442، 2/144، 2/197، 3/27،29 ومواضع أخرى.
[24] الأشباه والنظائر للسيوطي: تحقيق: د. عبد العال سالم 1/247.
[25] شرح أبيات مغني اللبيب تحقيق: أحمد دقاق وزميله 5/216.
[26] التكملة لكتاب الصلة 1/291، إشارة التعيين 112.
[27] التكملة لكتاب الصلة 1/291.
[28] الصلة لابن بشكوال / القسم الثاني 510. نفح الطيب للمقري 2/60-61.
[29] التكملة لكتاب الصلة 1/291.
[30] بغية الوعاة 1/553.
[31] التكملة لكتاب الصلة 1/291، إشارة التعيين 112، البلغة 77, بغية الوعاة 1/553.
[32] الأعلام 6/228، التاريخ الأندلسي 333.
[33] دول الطوائف 87.
[34] فهرسة ما رواه عن شيوخه / ابن خير ص 319.
[35] فهرسة ما رواه عن شيوخه 319،369.
[36] فهرسة ما رواه عن شيوخه 319،473.
[37] فهرسة ما رواه عن شيوخه 480، 319، التذكرة لأبي حيان 292.
[38] فهرسة ما رواه عن شيوخه 483،319.
[39] فهرسة ما رواه عن شيوخه 490،319، التذكرة لأبي حيان 292.
[40] فهرسة ما رواه عن شيوخه 319.
[41] فهرسة ما رواه عن شيوخه 509، 319.(34/489)
[42] فهرسة ما رواه عن شيوخه. 524، 319.
[43] فهرسة ما رواه عن شيوخه. 527،319.
[44] فهرسة ما رواه عن شيوخه494، التكملة لكتاب الصلة 1/291، إشارة التعيين 112، البلغة 77، بغية الوعاة 1/553.
[45] التكملة لكتاب الصلة 1/291، إشارة التعيين 112، البلغة 77.
[46] بغية الوعاة 1/553.
[47] إشارة التعيين 112، البلغة 77.
[48] تذكرة النحاة 278.
[49] تذكرة النحاة 303.
[50] خزانة الأدب 6/251، شرح أبيات مغني اللبيب 5/216.
[51] فهرسة ما رواه عن شيوخه لابن خير 319،484.
[52] كشف الظنون 1/507.
[53] التصريح على التوضيح 1/223.
[54] أوضح المسالك 1/346.
[55] التصريح 1/223، 1/266، 2/336.
[56] حاشية يس على التصريح 2/104.
[57] شرح الأشموني وحاشية الصبان 1/281.
[58] الأشباه والنظائر 1/96.
[59] خزانة الأدب 6/251.
[60] شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي 5/119، 216، 217.
[61] همع الهوامع 1/141.
[62] همع الهوامع 2/174.
[63] همع الهوامع 5/44.
[64] انظر عنه الذيل والتكملة 4/79، إنباه الرواة 4/113, إشارة التعيين 135. ابن الطراوة النحوي للدكتور عياد الثبيتي.
[65] الذيل والتكملة 4/80.
[66] ابن الطراوة النحوي 104.
[67] المصدر السابق نفسه.
[68] أبو الحسين بن الطراوة /د. محمد إبراهيم البنا ص50.
[69] ابن الطراوة النحوي /د. عياد الثبيتي ص105.
[70] شرح أبيات مغني اللبيب 5/119.
[71] شرح أبيات مغني اللبيب 5/216.
[72] خزانة الأدب بتحقيق هارون 6/251.
[73] خزانة الأدب 13/30.
[74] ارتشاف الضرب 2/197, 297، 3/27.
[75] ارتشاف الضرب 1/128, 405، 512، 521 الحواشي.
[76] ارتشاف الضرب 1/286, 381، 2/118 الحواشي.(34/490)
[77] ارتشاف الضرب 1/253، 544، 2/191.
[78] ارتشاف الضرب قسم الفهارس 3/684.
[79] بغية الوعاة 2/44-45, وانظر طبقات النحويين واللغويين للزبيدي 323, بغية الملتمس للضبي 344, جذوة المقتبس للحميدي 262, التكملة لكتاب الصلة 2/778, معجم المؤلفين 6/61.
[80] إشارة التعيين 299، البلغة 211.
[81] الارتشاف 3/20, همع الهوامع 5/33.
[82] ارتشاف الضرب 1/266.
[83] تذكرة النحاة ص 298.
[84] تذكرة النحاة 291، ارتشاف الضرب 2/192.
[85] تذكرة النحاة 296-297.
[86] سورة آل عمران آية 135.
[87] سورة الأنبياء آية 22.
[88] ارتشاف الضرب 1/405.
[89] سورة الأعراف آية 155.
[90] سورة النور آية 14.
[91] ارتشاف الضرب 2/577.
[92] التكملة لكتاب الصلة 1/291.
[93] بغية الوعاة 1/553.
[94] إرتشاف الضرب 3/30.
[95] تذكرة النحاة 288.
[96] تذكرة النحاة 291.
[97] تذكرة النحاة 287.
[98] تذكرة النحاة 285.
[99] تذكرة النحاة 284.
[100] إرتشاف الضرب 2/625-626.
[101] الاقتراح 49.
[102] سورة طه آية 77.
[103] إرتشاف الضرب1/423.
[104] التبيان 899.
[105] سورة الحج آية 15.
[106] الارتشاف 2/541، التذكرة 288.
[107] همع الهوامع 4/308.
[108] سورة الأنعام آية 137.
[109] التذكرة 290.
[110] المحتسب 1/229, انظر التبيان للعكبري 1/541.
[111] سورة الأنفال آية 35.
[112] تذكرة النحاة 287.
[113] الدر المصون 5/602.
[114] المحتسب 1/279.
[115] الاقتراح 94.
[116] ارتشاف الضرب 1/440.
[117] ارتشاف الضرب 2/132.
[118] ارتشاف الضرب 2/197-198.
[119] التصريح على التوضيح 1/295.(34/491)
[120] إرتشاف الضرب 1/273.
[121] تذكرة النحاة 281.
[122] إرتشاف الضرب 1/544، شرح أبيات مغني اللبيب 5/217.
[123] إرتشاف الضرب 2/257.
[124] إرتشاف الضرب 3/43، تذكرة النحاة 292.
[125] أوضح المسالك 4/288.
[126] التصريح 2/289.
[127] خزانة الأدب 6/251، شرح أبيات مغني اللبيب 5/216.
[128] أوضح المسالك 4/374, ارتشاف الضرب 1/128، منجد الطالبين للشيخ عمارة 34.
[129] ارتشاف الضرب 1/128.
[130] المستأسد: ما طال من النبت وقوي، القربان: مجاري الماء، حوّ: خضر.
[131] هو يعقوب بن السكيت المتوفي سنة 246 هـ، صاحب إصلاح المنطق.
[132] إصلاح المنطق لابن السكيت 371.
[133] الصحاح (مادة سيل) .
[134] ارتشاف الضرب 1/253، همع الهوامع 1/141.
[135] ارتشاف الضرب 1/286، شرح المفصل لابن يعيش 6/2، التصريح 2/334.
[136] ارتشاف الضرب 1/286.
[137] أوضح المسالك 4/338.
[138] التصريح 1/336.
[139] توضيح المقاصد والمسالك 4/125.
[140] الكتاب 3/201.
[141] ارتشاف الضرب 1/430-431.
[142] أوضح المسالك 1/344 وما بعدها.
[143] سورة إبراهيم آية 39.
[144] سورة النمل آية 74.
[145] سورة آل عمران آية 23.
[146] التصريح 1/223، توضيح المقاصد للمرادي 1/345، الجنى الداني 163، مغني اللبيب 252، شرح الأشموني مع الصبان 1/281.
[147] همع الهوامع 2/174.
[148] تذكرة النحاة 280.
[149] سورة التين آية 4.
[150] همع الهوامع 3/291.
[151] تذكرة النحاة 298، ارتشاف الضرب 2/328.
[152] تذكرة النحاة 296.
[153] أوضح المسالك 4/37.
[154] سورة الزمر آية 16.
[155] سورة الزخرف آية 68.
[156] سورة الزمر آية 53.
[157] سورة الزمر آية 56.(34/492)
[158] سورة يوسف آية 33.
[159] ارتشاف الضرب 2/539.
[160] قال الزجاجي في كتابه الجمل 160: "ومن العرب من يقول: يا غلامُ أقبل".
[161] ارتشاف الضرب 2/538-539.
[162] ارتشاف الضرب 2/624. وانظر هذه المسألة في كتاب ابن الباذش النحوي للدكتور دردير ص 98 وما بعدها.
[163] شرح الأشموني 2/55.
[164] تذكرة النحاة 285-286، ارتشاف الضرب 3/17.
[165] أوضح المسالك 3/284-285.
[166] ارتشاف الضرب 3/29.
[167] تذكرة النحاة 285.
[168] المساعد على تسهيل الفوائد 2/142.
[169] تذكرة النحاة 285، ارتشاف الضرب 3/30.
[170] أوضح المسالك 3/265، وما بعدها. شرح الأشموني 3/22.
[171] أوضح المسالك 3/266، شرح الأشموني 3/21.
[172] تذكرة النحاة 292، ارتشاف الضرب 3//43.
[173] كتاب الدلائل وكتاب الترجمة سبق ذكرهما في مصنفات خطاب.
[174] أوضح المسالك 3/267.
[175] المساعد 2/162 ,163. انظر: شرح الكافية الشافية لابن مالك 1087.
[176] تذكرة النحاة 293.
[177] ارتشاف الضرب 3/45، انظر: شفاء العليل للسلسيلي 606، همع الهوامع 6/42.
[178] شرح الكافية الشافية 1088.
[179] المساعد 2/163، انظر ك شفاء 606.
[180] تذكرة النحاة 292.
[181] شرح جمل الزجاج لابن عصفور 1/589.
[182] أوضح المسالك 3/280.
[183] التصريح 2/98.
[184] ارتشاف الضرب 3/27.
[185] تذكرة النحاة 292. ارتشاف الضرب 3/28.
[186] المقتضب للمبرد 2/149.
[187] تذكرة النحاة 293.
[188] تذكرة النحاة 293، ارتشاف الضرب 3/27، همع الهوامع 5/44.
[189] ارتشاف الضرب 3/300.
[190] ارتشاف الضرب 3/218.
[191] شرح الكافية للرضي 2/72.
[192] خزانة الأدب 6/251.(34/493)
[193] الصحاح (هلل) 1854 وقائل البيت ابن أحمر.
[194] تذكرة النحاة 298.
[195] ارتشاف الضرب 3/330.
[196] ارتشاف الضرب 1/521.
[197] النحو الوافي 2/564.
[198] النحو الوافي 2/594.
[199] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/247، وانظر ك ارتشاف الضرب 3/62، همع الهوامع 2/220.
[200] همع الهوامع 2/221.(34/494)
التعجب من فعل المفعول بين المانعين والمجيزين
د/ سليمان بن إبراهيم العايد
الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدراسات العليا العربية
في جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
عُنيَ أهل العربية بهذا الموضوع: فلم يخلوا مصنفاً من مصنفاتهم من إشارة إليه في أثناء حديثهم عن شروط فعلي أو صيغتي التعجب، بل قامت المناظرات العلمية من أجله، كالمناظرة التي أوردها علم الدين السخاوي (643) في كتابه "سفر السعادة"في صحيفة 580 وما بعدها. وأورد طرفاً منها أبو حيان (745) في "التذكرة"في صحيفة 599. وقد دارت بين أبي جعفر النحاس (338) وأبي العباس بن ولاّد (332) وهي مناظرة لا تخلو من مغالطة، وإلزام بما لا يلزم من قبل ابن ولاّد.
وهم حين يتحدثون عن التعجب من فعل المفعول، لا يقصدون التعجب بالواسطة، وإنما يقصدون التعجب مباشرةً، أما التعجب بواسطة (ما أشد) و (أشدد) ، والإتيان بالمصدر، فلا يمنعون من ذلك اتفاقاً إذا كان المصدر مؤولاً من (ما) والفعل، لأنه لا يُوقعُ في لبسٍ، أو صريحا ولم يُلْبِس، جاء في تذكرة أبي حيان: "فإن قلت: ضُرِبَ زَيدٌ، لم يجز أن تقول فيه: ما أَضْرَبَ زَيداً!؛ لأنه كان يلتبس بالفاعل ولكن تقول: ما أشدَّ ما ضُرِبَ زَيْدٌ!، وما أَشَدَّ ضرْبَ زَيْدٍ! " [1] .
وقال ابن عقيل: "وإن لم يعدم الفعل إلا الصَّوغ للفاعل، جيء به صلة ل (ما) المصدرية، آخذةً ما للمتعجب منه بعد (ما أشدَّ) أو (أشدِد) ونحوهما، نحو: ما أكثر ما ضُرِبَ زَيدٌ!، وأَكثر بما ضُرِبَ زَيْدٌ! , ولا يؤتى بالمصدر (يعني الصريح) للالباس، فإن لم يُلْبِس جاز، نحو: ما أكَثَرَ شُغْلَ زيدٍ!، وأكثِرْ به! " [2] .(34/495)
والخلاف الذي يرد في هذا البحث، بل يدور حوله, يتناول التعجب المباشر دون ما كان بواسطة (ما أشَدَّ) أو (أشْدِدْ) مأتياً بعدهما بالمصدر المؤول، الذي يدفع اللبس، ويرفع الشك، لورود الفعل المبني للمفعول صريحاً فيه.
وأما التعجب المباشر بدون هذه الواسطة بصيغتي (ما أَفْعَلَ) و (أَفْعِلْ) , فهو الذي اشترطوا لإمكانه مباشرة عدم البناء للمفعول؛ لأن التعجب في نظر الجمهور إنما يكون من فعل الفاعل، لأن التعجب إنما يكون مما كثر حتى صار كالغريزة له، والضربُ ونحوه إذا وقع بالمحل فليس من فعل المفعول، إنما هو للفاعل، فلا يصير فعل غيره غريزة له، لأن الغريزة ما كان خِلْقَةً في المحل كالسواد والبياض، فإذا تكرر الفعل من الفاعلِ جُعل كالغريزة [3] حتى بالغ بعضهم فقال: "إنما معنى التعجب أن أجعل الفاعل مفعولا" [4] .
والبحث سيفصل الخلاف، ويشرحه، ويبيّن أدلَّة كل فريق، ويؤصل منزعهم ومأخذهم. وبالله أستعين، فأقول:
التعجب أسلوبٌ من الأساليب الإنشائية، لا يُعْنَى به أهل البلاغة، لأنهم يقسمون أساليب الإنشاء إلى قسمين: إنشاء طلبي، وإنشاء غير طلبي, ويقصدون بغير الطلبي "مالا يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب، ويكون بصيغ المدح والذم، وصيغ العقود, والقسم، والتعجب، والرجاء، ويكون ب (رُب) و (لعل) و (كم) الخبرية" [5] .
ولا يقصده البلاغيون بالنظر، ولا يخصُّونه بتبويب خاص، "لقلَّة المباحث البلاغية المتعلقة به، ولأن أكثر أنواعه في الأصل أخبار نُقِلت إلى معنى الإنشاء" [6] .
وأفعال التعجب كأفعال المدح والذم، مثل (نعم) و (بئس) لإنشاء المدح والذم والتعجب، وقيل: إنها أخبار تحتمل الصدق والكذب، ولهذا بُشِّر أعرابي ببنت، فقيل له: نِعْمَتِ المولودةُ، فقال: "والله ما هي بِنِعْمَتِ المولودةُ" [7] .
ويمر به الصرفيون مرّ الكرام عند ذكر معاني الصيغ، مثل معاني فَعُلَ، ومعاني أَفْعَلَ.(34/496)
وُيعنى به النحويون، فيفردونه بالتبويب، ويبحثون في صيغه، وشروط صوغه, وإعراب تلك الصيغ، وأحكام تقديم معموله وتأخيره، وغير ذلك من أحكام، كما يذكرونه في الحديث عن (أفعل) التفضيل، ويحيلون على الشروط التي ذكرت في فعلي التعجب، لاتفاقهما فيها.
والتعجب: "استعظام فعل فاعل ظاهر المزيّة، بسبب زيادةٍ فيه خفي سببها بحيث لا يتعجب مما لا زيادة فيه، ولا مما ظهر سببه" [8] . ويُعرِّفه الرضي بأنه: "انفعال يعرض للنفس عند الشعور بأمر يخفى سببه، ولهذا قيل: "إذا ظهر السبب بطل التعجب" [9] فالتعجب إنما يكون مما ندر من الأحكام، ولم تعرف علَّته" [10] .
وحين يطلقون فعل التعجب فالمراد به عندهم صيغتا (ما أفعله) و (أفعِل به) ، إذ من المعلوم أن للتعجب صيغا غير هاتين، بعضها سماعي وبعضها قياسي.
فالسماعي مثل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [11] وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "سبحان الله، إن المؤمن لا ينجُس". وقول العرب: "لله دَرُّه فارساً"، وقولهم: "يالك من ليل", "وما أنت جاره", "لله لا يُؤخر الأجل" [12] وفي تذكرة أبي حيّان: "وقد تجيء عن العرب ألفاظ مختلفة مضمنة معنى التعجب، ليست مما يدخل تحت صيغة تلزمها أحكامها، فمن ذلك قولهم: "ما أنت من رجل، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، وحسبك بزيد رجلاً، ومنها: ما جاء باللام وبالتاء في باب القسم، ومنها: (فعُل) في باب (نِعمٍ وبئسٍ) ، إذا دخلت عليه اللام, نحو: لكرم الرجل" [13] . وقد عد بعض النحاة (فَعُل) صيغة قياسيةً, فيكون - على هذا - للتعجب ثلاث صيغ, قال ابن عصفور: "وللتعجب ثلاثة ألفاظ: ما أفعله، وأفعِل به، وفعُل" [14] , وقال الجوهري: "صور التعجب ثلاث: "ما أحسن زيداً وأسمع به، وكبرت كلمةً" [15] .(34/497)
والنحاة يخصون باب التعجب للصيغتين: (ما أفعَله) و (أفعِل به) ، وأما (فعُل) فإنّ كل فعل ثلاثي استوفى شروط التعجب يجوز تحويله إلى (فعُل) ، ليلحق بالغرائز للمبالغة والتعجب، فيستعمل استعمال (نِعم) و (بئس) ، نحو: فَهم الرَّجل زيدٌ، ويصح تجريد فاعله من (أل) نحو: فهُمَ زَيْد" [16] .
والشروط التي اشترطوها ثمانية:
1 - أن يكون فعلاً، فلا يبنيان من "الجلف"و"الحِمار"، ولا يتعجب من "اللص"، فإن جاء ما يخالف فهو شاذ، نحو: ما أذرع المرأَة، أي ماَ أخف يدها في الغزل، ومثل: ما أقمنه، وما أجدره.
2 - أن يكون فعله ثلاثياً [17] مجرداً، فلا يبنيان من غيره، كدحرج، وضارب واستخرج، واختلفوا في صياغته من (أفعَل) ، وعلى هذا فقولهم: (ما أتقاه) شاذ لأنه من (اتَّقى) .
3 - أن يكون متصرفاً تمام التصرف، فلا يبنيان من غيره، مثل (نعم) ، و (بئس) , و (كاد) ، و (يدع) ، و (يذرُ) ، و (هبْ) .
4 - أن يكون معناه قابلا للتفاضل أي: للزيادة والنقصان، فلا يبنيان من مثل: "فني"و"مات".
5 - أن يكون الفعل تاماً، فلا يبنيان من نحو: "كان"، و"ظل"، و"بات"، و"كَاد"، لأن الناقص لا يدل على الحدث، والتفضيل إنما يقع فيه.
6 - أن يكون مثبتاً، فلا يبنيان من منفي، سواء كان ملازما للنفي، نحو: ما نبس بكلمة، وما عاج بالدواء، أم غير ملازم، نحو: ما قام.
7 - أن يكون الوصف منه مقيساً على (أفعل فعلاء) فلا يبنيان من (فَعِلِ) المكسور العين، الدال على الألوان، والعيوب الظاهرة، والحِلىَ، مثل: عَرِجَ، وشَهِلَ، وخَضِر الزرْع.
8 - أن يكون مبنياً للمعلوم، فلا يبنيان من نحو: ضُرِبَ، وهذا الشرط هو موضوع هذا البحث، وبالتفصيل فيه، وخلاف أهل العربية في التعجب منه آتٍ، إن شاء الله.(34/498)
ويقرر أهل العربية أن الفعل إذا فقد تمام التصرف، والتفاوت فلا يتعجب منه البته، ويتوصل إلى التعجب مما سواهما ب (أَشَدّ) أو ب (أَشْدِدْ) ونحوهما، ويؤتى بعدهما بالمصدر منصوباً أو مجروراً، إلا أن المصدر قد يكون صريحاً مما زاد على ثلاثة ومما وصفه المنقاس على (أفْعَلَ فَعْلاَء) ويكون مؤولا عن المنفي والمبني للمفعول، وأما الناقص فمن قال: له مصدر، فيأتي به صريحاً، ومن قال: لا مصدر له، أتى به مؤوَلاً.
وأما ما لا فعل له، فقيل: لا يتعجب منه، وقيل: يتعجب منه، ويؤتى بعد (ما أشدَّ) أو (أشدد) بمصدره الصناعي، نحو: ما أشدَّ حماريته.
ونحن في بحثنا هذا، لم نورد ما أوردناه - وهو واضح - إلا من باب تقرير الواضح، لما سيبني عليه فيما بعد من أحكام، وأما فعل المفعول فأوّل ما يقال فيه تعيين المراد منه.
لا نقصد بفعل المفعول: الفعل الذي لم يسم فاعله، أو الفعل المبني للمجهول, بل لا نفرق بين "ضُرِبَ عَمروٌ"و"ضَرَبَ زيدٌ عمراً"لأن التعجب - كما يقول الجمهور - لا يكون إلا من الفاعل لا من المفعول، وقد استدرك الرازي على الجوهري، فقال: "تعليله يوهم أنه إذا سُمّي فاعله يجوز، وليس كذلك، فإنك لو قلت: ضرب زيد عمراً، وقلت: "ما أضْرَبَ عمراً"لم يجز، لأن التعجب إنما يجوز من الفاعل لا من المفعول" [18] .
وقد ذهب أهل العربية في جواز التعجب من فعل المفعول بدون واسطة (أشدَّ) أو (أشْدِد) إلى أقوال:
1 - المنع مطلقاً. وهو مذهب جمهور النحويين، ومنهم البصريون، وهو ظاهر كلام سيبويه.
2 - الجواز مطلقاً، وهو المشهور عنِ الكوفيين، كما سيأتي.
3 - الجواز إذا كان الفعل ملازما لصيغة (فُعِل) نحو: عُنِيتُ بحاجتك، وزُهِيَ علينا، فيجيز: ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا [19] .
4 - الجواز إذا أمن اللَّبْسُ، وهذا مذهب المحققين من النحاة، كخطّاب وابن مالك [20] .(34/499)
وقد زعم عبد القاهر الجرجاني أنه لم ير للمانعين علة لمنعه أكثر من أنه يؤدي إلى اللبس [21] . ورجع المنع - في نظره - إلى علتين:
1- اتفاقهم على أن التعجب أصله أن يدخل فيما هو غريزة.
2- أن همزة فعل التعجب همزة تعدية.
والحق أن غير عبد القاهر قد سبقه إلى التنبيه إلى هاتين العلتين وكأني بعبد القاهر لم يطلع على كلامه.
فالذين منعوا أن يصاغ التعجب من الفعل الواقع على المفعول قالوا:
1 - إنّ فعل التعجب وأفعل التفضيل إنما يصاغان من الفعل اللازم، ولهذا يقدّر نقله من (فَعَلَ) و (فَعِلَ) المفتوح العين ومكسورها إلى (فَعُل) المضموم العين [22] .
فالفعل في قولهم: (ما أفعله) ، يقع النقل منه عن فعل غير متعد يدل على ذلك مساواة الفعل المتعدي الفعل غير المتعدي فيه، وذلك في قولنا: ما أحسن زيداً!، وما أضرب عمراً! , فحسن غير متعد، فإذا زيدت عليه الهمزة تعدى إلى مفعول واحد، كما أن سائر الأفعال غير المتعدية كذلك، نحو: قام زيدٌ وأقمته، فلو كان النقل عن الفعل المتعدي في هذا الباب، لوجب أن يتعدى الفعل المتعدي فيه إلى مفعول واحد إلى مفعولين، وفي امتناعه من ذلك دلالة على أن النقل وقع من فعل غير متعد" [23] .
قال ابن جني: "وكذلك نعتقد في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نقل عن (فَعَلَ) و (فَعِلَ) إلى (فَعُلَ) حتى صارت له صفة التمكن والتقدم، ثم بني منه الفعل، فقيل: (ما أفعله) ، نحو: ما أشعره، إنما هو من "شَعُرَ"، وقد حكاها أيضاً أبو زيد، وكذلك: ما أقتله وأكفره، وهو عندنا من "قَتُلَ "و"كَفُرَ"تقديرا، وإن لم يظهر في اللفظ استعمالا" [24] .(34/500)
وقال عبد القاهر: "اتفقوا على أن التعجب أصله أن يدخل فيما هو غريزة، ولذلك حملوه على (فَعُلَ) ، وجعلوه علماً له في نحو: قَضُوَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وعَلُم الرجُل عَمْرٌو، وقالوا: إن الأفعال التي لا تكون غريزة لا يدخلها التعجب إلا بعد أن تجري مجرى الغريزة، بأن يتكرر وقوعها من أصحابها، أو تقع منهم على صفة تقتضي تمكنهم فيها، فلا يقال: ما أضربَ زيداً، وهو ضارب ضربة خفيفة، لا، بل يقال ذلك إذا كثر هذا الفعل، أو وقع بقوة، وصدر على حد يوجب فضل قدرة منه عليه، وإذا ثبت هذا الأصل وجب الامتناع عن التعجب في فعل المفعول، لأن الفعل يصح أن يصير كالغريزة والعادة للفاعل الذي منه يوجد، فأما المفعول فلا يتصور فيه ذلك، إذ لا يكون وقوع الفعل على زيد من غيره غريزة له على الحقيقة، كيف ولاحظَّ له في إيجاد الفعل؟! وأكثر ما يمكن أن يقال: إنه يعتاد الضرب بمعنى يَمْرُنُ على احتماله، واحتمال الفعل الواقع من الغير عليه معنى خارج عن الفعل، فلا يصير الفعل متمكنا فيه تمكن الغريزة، لكونه محتملاً له، فلو جاز أن يكون فعل غيرك غريزة لك لجاز أن يكون سواد عمرو صفة لزيد، وخلقةً له؟ مع كونه أبيض، فلما كان كذلك لم يبن فعل التعجب من فعل المفعول، إذ كان يؤدي إلى أن يقال: ضُرِبَ زيدٌ، بمعنى صار فعل غيره غريزة له, وذلك محال كما ترى" [25] .
والخلاصة أن همزة (أفْعَلَ) لتعدية ما كان لازماً بالأصالة، نحو: ما أحسنه, أو لتقوية ما صار لازماً بالنقل إِلى (فَعُلَ) إلى مفعول غير مفعوله الأول، وهو فاعل أصل الفِعْلِ، نحو: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً في: ما أضْرَبَ زيداً لعمروٍ! " [26] كما يتضح فيما يأتي.(35/1)
2 - ولهذا اللزوم يُعدى بالهمزة إلى المفعول، فالهمزة للتعدية، كقولك: ما أظرف زيداً، وأكرم عمراً! , وأصلهما من ظَرُفَ وكَرُمَ؛ قالوا: لأن المتعجب منه فاعل في الأصل، فوجب أن يكون فعله غير متعدٍ، قالوا: وأما نحو: ما أضْرَبَ زيداً لعمروٍ!، فهو منقول من (فَعَلَ) المفتوح العين إلى (فَعُلَ) المضموم العين، ثم عُدي – والحالة هذه - بالهمزة. قال عبد القاهر:
" إن فِعْلَ التعجب منقول بالهمزة من غير التعدي، فقولك: ما أحسنَ زيداً! بمنزلة: عمروٌ أذهب زيداً. في أنك نقلته من "حَسُنَ"بمعنى: شيء جعله حسناً، كما أن: عمروٌ أذهب زيداً بمعنى جعله ذاهباً، ولا يصح النقل للتعدية في فعل المفعول، لأن الغرض فيها جَعْلُك غيرك فاعلاً لفعل، من شأن ذلك الفعل أن يوجد منه، كقولك: أذْهَبْتُ زيداً، أي: حملته على الذهاب، جعلته يفعل، فالذهاب فعل زيدٍ إلا أنه كان تاركاً له، فحمله عليه، أو عاجزا عنه، فأعنته على فعله، فكل فعل متعد كان تعديه بنقل الهمزة، فالمفعول فيه فاعل في المعنى والأصل، والمفعول القائم مقام الفاعل في قولك: ضرِبَ زَيدٌ، لا حظَّ له في الفعل بوجه، إذ لا يتصور أن يكون لزيد في قولك: "ضُرِبَ زيدٌ"فعل تحمله عليه، وتجعله فاعلا له، لأنه بمنزله قولنا: أُوقِع به الضربُ، فالفعل لمن أوقعه دون زيد، فأنت إذاً تحاول بتعدية ضُرِبَ أن تجعل زيداً فاعلاً, وهذا الفعل الذي تزعم أنك تُعديه يقتضي أنه مفعول، فهما في طرفي نقيض, وإذا ثبت هذا، وكان فعل التعجب مفعولاً بهمزة التعدي ثبت أنه لا يجوز إدخالها على فعل المفعول، فلا يصِح: ما أَضْرَبَ زيداً! بمعنى ما أكثر ضرب غيره له، لأن (آَفْعَلَ) وضع بمعنى جعله فاعلا على إيجاد الفعل لا بمعنى جعله مفعولا، وصيَّره يوقع الفعل، فاعرِفه" [27] ، وقد بنوا على هذا دليلا آخر. فقالوا:(35/2)
3- الدليل على ذلك مجيئهم باللام، فيقولون: ما أَضرَبَ زيداً لعمرو!، ولو كان باقياً على تعديه لقيل: ما أَضْرَبَ زيداً عمراً!؛ لأنه متعدٍ إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بهمزة التعدية، فلما أن عَدَّوه إلى المفعول بهمزة التعدية، عَدَّوْه إلى الآخر باللام، فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا: إنهما لا يصاغان إلا من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول". "وفي امتناعهم من إجارة: ما أَضْرَبَ زَيْداً عمراً! حتى يقولوا: لعمرو, دلالة على أن النقل وقع من فعل غير متعدٍ" [28] .
وقال ابن جني في الخاطريات: "مسألة (ما أَضْرَبَ زيداً لِعَمْروٍ!) فذا يدل على أن (أفْعَلَ) التعجب لا يُبنَى إلا من غير متعدٍ، وهو (فعُلَ) . ألا تراه لو كان "أَضْرَبَ" هنا منقولا من "ضَرَبَ "هذه المتعدية لوجب بعد النقل أن يتعدى إلى مفعولين، فيقول: ما أَضرَبَ زيداً عمراً!، أي: جعلته يضربه، فحاجته إلى اللام يدل على ضعفه، وأنه ليس منقولاً من "ضَرَبْتُ"هذه المتعدية, بل من "ضَرُبْتَ"كقولك: "ظَرُفْتَ"، وعليه حكاية الكوفيين, فيما رويناه عن ابن مِقْسَمٍ، عن ثَعْلَبَ: ضَرُبَتِ اليَدُ! أي: جاد ضرْبُها" [29] .
هذا إذا كان الفعل الثلاثي متعدياً بنفسه إلى مفعوله، أما إن كان متعدياً بحرف الجر [30] , مثل: رغب زيدٌ في عمرو، فيعدى كما كان في الثلاثي يتعدى، إذ ليس "تحت إعماله لحرف الجر منزلة أنزل منه فينحطوا إليها، فلما لم يجدوا ذلك) ل (يبلغوه فأقاموا عليه، كما أنهم لما قالوا: مررت بزيد، ثم بنوا منه اسم الفاعل قالوا: هذا مارٌّ بزيد، فعدوا اسم الفاعل بالحرف كما عدوا الفعل به، وإن كنا نعلم ضعف اسم الفاعل في التعدي عن الفعل، ألا تراك تقول: ضَرَبْتُ زيداً، وأنا ضارِبٌ لزيدٍ، لكنهم لم يجدوا تحت حرف الجر منزلة فينْحَطُّوا إليها مع اسم الفاعل" [31] .(35/3)
4- ومما يدل على النقل أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف لم يدخل في هذا الباب، لأنه يلزم أن تزاد عليه الهمزة التي وضعت للتعدي، فإذا زيدت عليه الهمزة, وهو على أكثر من ثلاثة أحرف خرج عن الأمثلة التي تكون عليها الأفعال إلى ما ليس في كلامهم، فلذلك رفض إدخال الأفعال التي تقع عبارات عن الألوان في هذا الباب، لأنها تقع على أكثر من ثلاثة أحرف، نحو: أبيض، وأبياض. واشهب وأشهاب. وما امتنع من ذلك في قولهم: ما أفعله، امتنع من (أفْعِلْ به) وهو أفْعَلُ من كذا، لإجرائهم الأبنية الثلاثة مجرىً واحداً، فهذا وجه الامتناع من قولهم: ما أبيضه، ومن قولهم: هو أبيض من كذا.(35/4)
وقد وجدناهم استعملوا حروفاً من هذا الباب على (ما أفْعَلَهُ) ، فقالوا للأنوك: ما أنوكه، وحروفاً نحو هذا، ووجدناهم أيضاً يحذفون من الأفعال المزيدة في هذا الباب، ويقولون: ما أعطاه للخير!، وما أولاه بالجميل!، فالهمزة التي كانت في "أعطى"وقد حذفت، وهذه التي في "أعطاه"غيرها. يدل على ذلك أن الأمر فيه لا يخلو من أن تكون: هِيَ هِيَ، أو غيرها. فلو كانت التي كانت في أصل الكلمة في قولهم: "أعطى زيداً عمراً"، لوجب أن يتعدى في التعجب إلى المفعولين اللذين كان يتعدى إليهما في "أعطيت زيداً درهماً"، فلما لم يتعد هذا التعدي، وإنما تعدى إلى مفعول واحد، علمت أن تلك التي في قولهم: أعطيت زيداً درهماً، قد حذفت واجتلبت همزة أخرى, وهي التي تكون للتعدي في هذا الباب، فتبينت من هذا أنهم قد حذفوا الزيادة من هذا الباب. وحذفوا الزيادة أيضا حذفاً مطرداً في باب ترخيم التحقير، في نحو: أسود وسويد، وحارث وحريث، وحذفوها أيضاً في التكسير في نحو: ظَريف، وظُرُوف، فإذا كَثُر حذفُهم في هذه الأبواب، وفي باب التعجب، لم ينكر أيضاً أن يقول قائل: إن الزيادة التي في باب الألوان تحذف في باب التعجب، ويستعمل فيه "هو أفعل من كذا"، كما استعملوا في: "ما أنوكه"، و"وما أحمقه"، وحروف نحوهما، ويستدل على ذلك من كلامهم بما أنشده أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرا بي:
أبيضُ من أخت بني إِبَاضِ
ياليتني مِثلُك في البياض
تقطِّع الحديث بالإيماض
جارية في رمضانَ الماضي
وقد يجوز له أن يتناول أيضاً ما يرِوى لِطَرَفَة في قوله:
فيهم وأبيضهم سربال طبَّاخ
إن قلت ... نصر فنصر كان شرَّ فَتَى
فإذا ساعد القياس الذي ذكرته, وورد في السماع، لم يكن مستعمله معيباً، وإن كان غيره أشيع وأكثر [32] .(35/5)
وقد ذهب الكوفيون إلى جواز صياغة (ما أفْعَلَ) و (أفْعِلْ) من فِعل المفعول، وأجازوا التعجب مباشرة منه، وتابعهم بعض المتأخرين، واستدلوا ب:
أ- كثرة هذا في كلامهم، نثراً ونظماً، مما يمنع حمله على الشذوذ؛ لأن الشاذ ما خالف استعمالهم، ومُطَّردَ كلامهم، وهذا غير مخالف لذلك [33] ومن الألفاظ التي بني فيها التعجب [34] من فعْلِ المفعول:
1- ما أجنه! [35] .
2- ما أشغله!، وأشغل من ذات النَّحْيين [36] .
3- ما أبغضه إلي! [37] .
4- هذا الشيء أحب من كذا, وما أحبه إلي! [38] .
3- هذا المكان أخشى من هذا, أي أخوف [39] أو أشد خوفاً.
6- ما أبركه!، جاء فعل التعجب على نية المفعول [40] .
7- هو أجدُّ منك [41] .
8- ما أعجبه برأيه! [42] .
9- ما أزهى زيداً!، وأزهى من ديكٍ [43] .
10- ما أعناه بحاجتك! [44] .
11- أعذر منه [45] .
12- ألوم منه [46] .
13- أشهر منه [47] ، ومنه: أشهر من الأبلق [48] .
14- ما أسرني بكذا وكذا! [49] ، وأنا أسر بهذا منك [50] .
15- هذا الشيء أهوى إلي من كذا، أي: أحب إلي [51] ، "قال أبو صخر الهذلي:
في غير ما رفث ولا إثم
ولليلة منها تعود لنا
مما ملكت ومن بني سهم [52]
أهوى إلى نفسي ولو نزحت
16- ما أمقته إلي! [53] وما أمقته عندي! [54] .
17- ما أشهاها! [55] .
18- قول بعض العرب: "ما أملأ القربة! " [56] .
19- ما أولعه بالشيء! [57] .
20- مما يحتمل ما أنشده ابن الأعرابي:
أخل إليه من أبيه وأفقرا [58]
وما ضم زيد من مقيم بأرضه
21- أعرف [59] .
22- أنكر [60] .
23- أرجى [61] .
24- أهيب [62] .
25- أرهب [63] .
26- هذا أخصر من هذا، وهو من "اختصر" مبنياً للمفعول [64] .(35/6)
27- أحمد من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[65] ويقولون: العود أحمد [66] .
28- أخوف, في قول كعب بن زهير في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
وقيل: إنك مسلوب ومقتول
فلهوَ أخوفُ عندي إذ أُكلِّمه
في بطن عثَّر غيلٌ دونه غِيلُ [67]
من ضيغم من ضراء الأسد مَخْدَرُهُ
ب- قيام المفعول مقام الفاعل، جاء في مناظرة النحاس وابن ولاّد: أن ابن ولاّد قال: "نحن إذا قلنا: اجعل الفاعل مفعولاً, ساغ لنا ذلك في الفاعل إذا تعجبت منه، ولم يكن في الأصل مفعولاً، كان ذلك جائزاً فيما قام مقامَه، وهو لم يُسمَّ فاعله، وإلا لم يكن في موضعه، ولا في مقامه " [68] .
ومما هو ذو وصلة قوية بهذا الدليل اختلاف النحاة في مجيء المصدر من الفعل المبني للمفعول: الذي لم يُسمَّ فاعله، وهي مسألة خلاف: أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول، كما هو مذهب الأخفش، واختاره الزمخشري، فيجوز: عَجبْتُ من ضَرْب زيدٍ، على أنه مفعول، لم يسم فاعله، ثم يضاف، أم لا يجوز ذلك؟.
فيه ثلاثة مذاهب، يفصّل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يُبن إلا للمفعول الذي لم يُسمَّ فاعله، نحو: عَجِبْتُ من جُنُونِ زيدٍ بالعلم، لأنه من "جُنِنْتَ"التي لم تُبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أومن فعلٍ يجوز أن يُبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول، فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقاً [69] "كما كان الخلاف في التعجب من فعل المفعول.(35/7)
ويصاغ مصدر المبنيِّ للمفعول على زنة مصدر المبني للفاعل تغليباً للثاني، لكثرته، أو استغناءً به، وقد ورد في كتاب الله مصادر ظاهرها أنها من المبني للمجهول، ومن ذلك قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [70] ، {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} [71] "، {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [72] ، و {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [73] ، و {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاة} [74] ، الأصل: أن تُفعَل الخيرات. و {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [75] ، و {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [76] ، و {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [77] ، و {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ} [78] .
فنسبة المصادر إلى فعل المفعول مسألة فيها خلاف، كما تقدم، ولكن هذه المصادر كلها مصادر للمفعول، ونكتفي بشرح "رهبة"ف "رهبة" مصدر "رُهِبَ "المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين، والمخاطبون مرهوبون، وهذا كما قال:
وقيل: إنك مأسور ومقتول
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
ببطن عثَّر غيل دونه غيل
من ضيغم بثراء الأرض مخدعه
فالمخبر عنه مخوف لا خائف [79] .
فحصلت إضافة المصدر إلى المفعول، ولم يمنع اللبس، وما دامت الأفعال فروع المصادر، فما المانع من نسبة الفعل إلى المفعول في التعجب، وخاصة إذا أمِنَ اللبس، وظهر المعنى؟.(35/8)
وقد رد على اعتراض ابن ولاّد بأن المفعول- وإن قام مقام الفاعل في أنا نحدِّث عنه كما نحدث عن الفاعل- فنحن نعلم أنه مفعول في الأصل، فكيف يقال: أقمه مقام المفعول؟!. وأيضاً فإن أقمناه مقام المفعول، فإن الفاعل هو المحدث للفعل، وليس كذلك ما يقوم مقامه [80] والشيء إذا شُبه بالشيء من جهة لا يلزم أن يشبه به من كل الجهات، ثم "إن المفعول لا تأثير له في الفعل الذي يحل به، حتى يتصور فيه الزيادة والنقصان" [81] .
فإن جاء عن العرب ما ظاهره أنه تعجب من فعل المفعول نحو: "ما أجَنَّه! "فيقال فيه: إنه حُملِ على المعنى، لأن الجنون داخل "في حيز الأوصاف التي لا تكون أعمالاً، وإنما تكون خصالا في الموصوفين ... فحمل "جُنَّ زيدٌ"على المعنى، لأن العرب تشبه الشيء بالشيء، ويحمل على المعنى إذا وافقه واقترب منه، فمن ذلك قولهم: "حاكم زيدٌ عمروٌ"برفع الاثنين جميعاً، لأن كل واحد منهما فاعل ... " [82] .
ج - عدم استقامة أدلة المانعين في نظرهم، إذ قالوا: "وأما تقديركم لزوم الفعل، ونقله إلى (فَعُلَ) فتحكُّم لا دليل عليه، وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة ... إلى آخره". فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه، والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية، وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط، كألف (فاعل) ، وميم "مفعول"، وواوه، وتاء "الافتعال"، و"المطاوعة"، ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده، فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة، لا تعدية الفعل" [83] .(35/9)
"ومما يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنهم يقولون: ما أعطاه للدراهم، وأكساه للثياب "، وهذا من " أعطى"و"كسا"المتعدي، ولا يصح تقدير نقله إلى "عطو": إذا تناول، ثم أدخلت عليه همزة التعدية، لفساد المعنى، فإن التعجب إنما وقع من إعطائه لا من عطوه وهو تناوله، والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل، وحذفت همزته التي في فعله، فلا يصح أن يقال: هي للتعدية" [84] .
وردوا على استدلالهم بتعدية فعل التعجب للمفعول الثاني باللام بأن قالوا: "الإتيان باللام ههنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل، وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرف، وأُلزم طريقة واحدة، خرج بها عن سنن الأفعال، فضعف عن اقتضائه وعمله فقويَ باللام كما يقوى عند تقدم معموله عليه، وعند فرعيته، وهذا المذهب هو الراجح كما تراه " [85] .
واللام هذه لام التقوية لا لام التعدية، وهي التي تزاد لتقوية عامل ضعف إما بتأخره، نحو: {هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [86] ونحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [87] أو بكونه فرعاً في العمل، نحو: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [88] ، و {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [89] و {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [90] "ونحو: ضربي لزيدٍ حَسَنٌ.
وقد منع ابن مالك زيادة لام التقوية مع عامل يتعدى لاثنين، وعُد من الشاذ - لقوة العامل - قول ليلى الأخيلية:
ولا الله يعطي للعصاةِ مُناها [91]
أحجَّاج لاتعطي العُصاة منَاهم(35/10)
وذهمب المجيزون للتعجب من فعل المفعول، ومنهم الفراء، وابن كيسان، والزجاج والزمخشري، وابن خروف، وابن الطراوة، ذهبوا إلى: أن المجرور بالباء بعد (أَفعِل) موضِعُهُ النصب لا الرفع، فهو في حقيقته مفعول لا فاعل [92] وبناءً على هذا قالوا: إن مما يدل على أن معنى الهمز التعجب لا التعدية " أن الفعل الذي يُعدى باطراد، يجور أن يعدى بحرف الجر، وبالتضعيف، نحو: جلست به وأجلستُه) جَلَّسْتُه (، وقمت به، وأَقمْتهُ) وقَوِّمْتُهُ (، ونظائرها، وهنا لا يقوم مقام الهمزة غيرها، فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضا، فإنها تجامع باء التعدية، نحو: أكرم به، وأحسن به، ولا يجمع على الفعل تعديتين [93] .
وواضح أن هذا مبني على القول بأن (أَفْعِل) [94] في التعجب فعل أمرٍ فاعله ضمير مستتر وجوبا، والجار والمجرور متعلق به، وقد اختلف فيه، فذهب الجمهور ومنهم سيبويه إلى أن (أفعِل) صورته صورة الأمر، ومعناه الماضي من (أَفعَلَ) أي: صار ذا فعل، كألحم، أي: صار ذا لحم، والباء حرف جر زائدة زيادةً لازمة، وما دخلت عليه هو الفاعل، لأنه لا فعل إلا بفاعل, وليس معنا ما يصلح أن يكون فاعلا إلا المجرور بالباء, وهو الذي قد كرُم وحسن، فاللفظ محتمل، والمعنى عليه, وإنما لزمته الباء لتؤذن بمعنى التعجب بمخالفة سائر الأخبار.
وقد ضُعّف قول الجمهور بأمور منها:
1- أن الأمر بمعنى الماضي مما لم يُعهد، بل جاء الماضي بمعنى الأمر، نحو: اتقى امرؤٌ به، وبأن (أَفعَلَ) : صار ذا كذا، قليل، والمطرد زيادتها في المعقول [95] .
"فقال الفراء وتبعه الزمخشرى وابن خروف: إن (أَحسِن) أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً حسناً، وإنما يجعله حسناً كذلك بأن يصفه بالحُسن، فكأنه قيل. صفه بالحسن كيف شئت، فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص، كما قال:
فإن وجدت لساناً قائلاً فقُلِ
وقد وجدت مكان القول ذا سعة(35/11)
وهذا معنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير سيبويه" [96] .
2- التناقض في قول الجمهور حيث يجعلون المتعجب منه في (ما أفعلَه) مفعولاً، ويجعلونه في (أَفعل به) فاعلا, والشيء لا يكون فاعلا ومفعولا به في وقت واحدٍ.
3- أنكروا على الجمهور اعتبارهم الباء زائدة، وقالوا: إن الباء إذا جعلنا همزة (أَفعل) للجعل، كهمزة "ما أحسن"والباء مزيدة في المفعول للتأكيد، وهو كثير [97] " نحو قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [98] والمراد: أيديكم، ونحو: قرأت بالسورة، وأجاز بعض هؤلاء - وهو الزجاج- أن تكون الهمزة للصيرورة، فتكون الباء للتعدية، أي: أجعله ذا حسن، والأول أولى، لقلة همزة الصيرورة، إذ تكون نحو: نزلت بالجبل, أي: في الجبل، وذلك بعيد من الصواب [99] .
4- استدل أبو حيَّان في شرح التسهيل على أن الباء في موضع نصب بشيئين:
أحدهما: جواز حذفه اختصاراً، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [100] .
واقتصاراً، كقول الشاعر:
حميداً، وإن يستغن يوماً فأجدِر
فذلك إن يَلْقَ المنية يلقها
والآخر: أنهم لما حذفوا الباء نصبوا الاسم، كقول الشاعر:
فأبعد دار مرتحل مزارا
لقد طرقت رحال الحي ليلى
وقول الآخر:
فأجدر مثلَ ذلك أن يكونا
أي: ما أبعد دار مرتحل مزارا، وما أجدر مثل ذلك [101] .
بل تفارق الباء المتعجب منه إن كان (أن) وصلتها، فيجوز في "أجود بأن يكتب زيدٌ!: أجوِد أن يكتب زيدٌ!، منه:
وأحبب إلينا أن تكون المقَّدَّما [102]
وقال نبي المسلمين تقدموا
ولو كان ما دخلته الباء فاعلاً، ما حذف كما في الشاهد الأول، ولما نصب كما في الأمثلة بعده.
5- أنه لا يعهد صيغة أمر ترفع الاسم الظاهر، وإن كان خبراً في المعنى، دون هذا الأمر.(35/12)
6- ذكر ابن هشام أكثر هذه الأوجه بقوله: "قول البصريين في "أحْسِنْ بزيدٍ"يلزم منه شذوذ من أوجه:
أحدها: استعمال (أفعل) للصيرورة قياساً، وليس بقياس، وإنما قلنا: ذلك؛ لأن عندهم أن (أَفْعَل) أصله (أَفعَلَ) بمعنى صار ذا كذا.
الثاني: وقوع الظاهر فاعلا لصيغة الأمر بغير لام.
الثالث: جعلهم الأمر بمعنى الخبر.
الرابع: حذف الفاعل في {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [103] .
7- سبق ابن هشام ابن الحاجب، فقال في شرح قول صاحب المفصّل: "وفي هذا الكلام ضربٌ من التعسف ":
"لما فيه من مخالفة القياس, من وجوه متعددة:
منها: استعمال الهمزة لصيرورة الشيء ذا كذا في "أكْرِم".
ومنها: نقل الفعل عن صيغة الخبر إلى صيغة الأمر.
ومنها: زيادة الباء على الفاعل. وكل ذلك خروج عن القياس [104] .
وقد استحسن ابن الحاجب تخريج الزمخشري:
أ- أنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً، أي: بأن يصفه بالكرم، والباء مزيدة، مثلها في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} . للتأكيد والاختصاص.
ب- أنه أمر لكل أحد بأن يُصيره ذا كرم، والباء للتعدية [105] .(35/13)
وقد سَلِم هذان الوجهان من المآخذ التي أخذت على تخريج الجمهور، "وإنما فيهما استعمال الهمزة للتعدي أو للتصيير، وتقدير ذلك أن يقال: إنه أمر في الأصل من "أكرمتهُ "أي: جعلته كريما، والباء مزيدة على المفعول، وفيه على هذا ضمير، فاستعمل الهمزة للتعدي، وهو كثير، واستعمل الباء زائدة على المفعول، وهو كثير، واستعمل صيغة الأمر للأمر، وهو القياس، ثم نقل على التقدير الأول، فلم يلزم فيه ذلك التعسف الذي في التقدير الأول، وإنما يلزم فيه الإضمار الذي لا يتغير، وليس بمستبعد ألا ترى أن مثل هذه الصيغة في الإنشاء للمدح قد جرى الضمير فيها هذا المجرى، فلم يغير عن لفظ الوحدة في قولك: نِعمَ رجلاً، ونِعم رجلين، ونعْمَ رجالاً،، فكذلك هاهنا، وقد أجاب بقوله: إنه جرى مجرى المثل، فلم يُغيّر عن لفظ الوحدة.
والوجه الثاني: أن تجعل الهمزة لما جعلت له في الوجه الأول، وهو على الأمر أيضا، كان أصله: أكرِم، أي: صِرْ ذا كرم، ثم عُدّي بالباء، فصار الفاعل فيه مُصيراً غيره صائراً ذا كرم، كما تقول: قمت، فتكون أنت القائم، ثم تقول: قمت بزيد، فتأتي بالباء للتعدي، فيُصير الداخلة هي عليه هو الفاعل لذلك قبل دخولها، فصار بمعنى أكرم بزيد! في الأصل على هذا التأويل: صَيِّر زيداً صائراً ذا كرم [106] ، فأفاد التصيير فيه مجيء الباء للتعدي، لأن هذا المعنى مستفاد من باء التعدي، وأما كونه صائرا ذا كذا فمستفاد من الصيغة التي هي أكرم" [107] .
وقد رد الجمهور على ما قاله المخالفون, فقالوا زيادة على ما ورد ذكره في أثناء عرض حجج المخالفين:(35/14)
"إن الفاعل هنا ليس شيئاً غير المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: "ما أحسن زيدا"، فتقديره: شيء أحسن زيداً، وذلك الشيء ليس غير زيدٍ، فإن الحسن لو حلّ في غيره لم يحسن هو، فكان ذلك الشيء مثلاً عينه أو وجهه، وليسا غيره، فلذلك جاز أن يكون مفعولاً في ذلك اللفظ أو فاعلاً في هذا اللفظ، إذ المعنى واحد، فإن قيل: فما وجه استعمال التعجب على لفظ الأمر، وإدخال الباء معه، قيل: أرادوا بذلك التوسع في العبارة، والمبالغة في المعنى, أما التوسع فظاهر؛ لأن تأدية المعنى بلفظين أوسع من قصره على لفظ واحد، وأما دخول الباء فلما ذكرنا من إرادة الدلالة على التعجب، إذ لو أريد الأمر لكان كسائر الأفعال، ويتعدى بما تتعدى تلك الأفعال، فكنت تقول في (أحسِن بزيدٍ) : أَحْسِن إلى زيدٍ؛ لأنك تقول: أحسنتُ إلى زيدٍ، ولا تقول: أحسنت بزيد" [108] .
ولهذا جاز حذف المتعجب منه في نحو قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِر} [109] أي: أبصر بهم. فعلى قول من يقول بأنه مفعول لا إشكال كما تقدم. وعلى قوله الجمهور: إن المجرور في موضع رفع ب (أفعل) إنما جاز حذفه؛ لأنه في المعنى كمعمول (أَفْعَلَ) فحُمِلَ عليه، والفارسي وقوم على أنه لم يحذف، بل حُذف الحرف، فاستتر الضمير، ورُد بعدم بروزه، فلا يقال: أسمع بالزيدين وأبصروا [110] .
وقد ردوا على هذا الاعتراض بأن قالوا: عدم تصرف فعل التعجب سَوَّغ لزوم (أَفْعِل) وإن خُوطب به مثنى أو مجموع أو مؤنث- صورة الإفراد، وسهل ذلك انمحاء معنى الأمر فيه، كما انمحى في (ما أَفْعَل) معنى الجعل، وصار معنى (أَفعِلْ به) كمعنى (ما أَفعلَه) وهو محض إنشاء التعجب، ولم يبق فيه معنى الخطاب حتى يثنى ويجمع ويؤنث، باعتبار تثنية المخاطب وجمعه وتأنيثه". وقد جرى مجرى الأمثال، فلزم صورة واحدة في جميع أحواله [111] .(35/15)
ثم إنه وإن كان بلفظ الأمر فليس بأمر، وإنما هو خبر محتمل للصدق والكذب، فيصح أن يقال في جوابه: صدقت أو كذبت، لأنه في معنى "حسن زيدٌ جداً".
ومنها أنه لو كان أمراً لكان فيه ضمير المأمور، فكان يلزم تثنيته وجمعه وتأنيثه، على حسن أحوال المخاطبين.
ومنها أنه كان يصح أن يجاب بالفاء كما يصح ذلك في كل أمر، نحو: أَكْرِمْ بعمرٍ فيشكرك، وأجمل بخالد فيعطيك, على حد قولك: أعطني فأشكرك، فلما لم يجز شيء من ذلك, دل على ما ذكرناه، فاعرفه [112] .
وتخريج الزجاج لبقاء "أحْسِنْ به "في الأحوال على صورة واحدة كون الخطاب لمصدر الفعلِ، أي: يا حُسْنُ أَحْسِنْ بزيدٍ. وهذا تخريج فيه تكلف وسماجة من حيث المعنى، وأيضا نحن نقول: أَحْسِنْ بزيدٍ يا عمرو، ولا يخاطب شيئان في حالة واحدة، إلا أن نقول: إن معنى خطاب الحُسْن قد انمحى [113] . ثم إنه خالف من وافقه في هذا التخريج، إذ جعلوه أمراً لكل أحد بأن يجعلَ زيداً حسناً، وجعله كذلك بوصفه بالحُسْن، كأن معناه قيل: صِفْهُ بالحُسْنِ كيف شئت، فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص، كما قال:
فإن وجدت لساناً قائلا فقل
وقد وجدت مكان القول ذا سعة
وهذا معنى مناسب للتعجب [114] .
وهناك مذهب ثالث يفرق بين الفعل المبني للمفعول لزوماً، بحيث لا يأتي مبنياً للمعلوم وبين الفعل الذي يأتي مبيناً للفاعل وللمفعول، فيجيز أن يَتعجَّبَ من الأول دون الثاني, ذلك أن نائب الفاعل - وإن أفاد ظاهراً تحوله عن مفعول في اللفظ - فهو في المعنى فاعل، لأنه لم يقع عليه فعل من غيره كالمشغول الذي شغله غيره، فلو حُمل "ما أزهاه "على أنه تعجب من الفاعل المعنوي، لم يكن بأس [115] .(35/16)
قالت العرب في التعجب من "جُن زيدٌ": ما أجنَّه! وهو محمول على المعنى، استجازوا فيه ما استجازوا فيما حُمل عليه، ألا ترى أن "جُن زيدٌ:"فهو في المعنى داخل في حيزِّ الأوصاف التي لا تكون أعمالا، وإنما تكون خصالاً في الموصوفين بغير اختيارهم، مثل: كَرُمَ فهو كريم، ولؤم فهو لئيم، خصال لا يفعلها الموصوف, فهكذا "جن زيد فهو مجنون "، إنما هي خصلة في الموصوف، لا اختيار له فيها، فأجري مجرى رقع فهو رقيع، وبلد فهو بليد إذا كان داخلاً في معناه، والدليل على صحة هذَا أن العرب لا تتعجب من "أفْعَلَ"، لا يقولون: ما أحمره! ولا: ما أسوده! ولا: ما أفطسه! , ويتعجبون من "أحمق، وأرعن، وألد، وأنوك "، فيقولون ما أحمقه! وما أرعنه! وما ألده! وما أنوكه!، لأن أحمق بمنزلة بليد، وألد بمنزلة مرس [116] ، وأنوك بمنزلة جاهل، فحملوه على المعنى، فهكذا "جُن زيدٌ"حُمل على المعنى، لأن العرب تشبه الشيء بالشيء، ويحمل على المعنى إذا وافقه واقترب منه، فمن ذلك قولهم: "حاكم زيدٌ عمرٌو"برفع الاثنين جميعاً، لأن كل واحد منهما فاعل، قال أوس:
له قتبٌ خلف الحقيبة رادف
تُواهق رجلاها يداه ورأسه
وقال القطاميُّ:
على دمه ومصرعه السِّباعا
فَكرَّت تبتغيه فصادفته
لأن السباع قد دخلت في المصادفة. وقال:
ولها في مفارق الرأس طيبا
لن تراها - وإن تأمَّلت - إلا
لأن الطيب قد دخل في الرؤية [117] .
وأقول (القائل علم الدين السخاوي) : إنما قالوا: ما أجنَّه!؛ لأن "جُن"لا فاعل له، فهو في المعنى تعجب من الفاعل، لأنه لا يقال: جَنَّهُ، إنما يقال: أجنَّه.
وقد جوّز السخاوي أن يحمل عليه قولهم في التعجب: ما أسرني بكذا وكذا!، لأنه يجوز أن يكون تعجباً من "سررت"ويكون محمولاً على ما قدمنا ذكره في "جُن زيدٌ"فيكون بمنزلة: بُرَّ حجُّك فهو مبرور [118] .(35/17)
والمذهب الرابع: التفريق بين ما يُلبس وما لا يُلبس، فمنعوا التعجب مباشرة من الأول دون الثاني، كراهة أن يلتبس، وهذا هو السبب الذي زعم عبد القاهر: أنه لم يقف على غيره عند أهل العربية [119] .
قال محمد بن بدر: "إنما لم يتعجبوا من "ضُرِبَ زيدٌ"وأشباهه إلا بالزيادة، كراهة أن يلتبس، ففرقوا بين التعجب من فعل الفاعل وفعل المفعول، وذلك انهم فرقوا بين فعل الفاعل وفعل المفعول في غير التعجب، وأرادوا أن يفرقوا بينهما أيضا في التعجب، فلو قالوا في "ضُرِبَ زيدٌ": ما أضرب زيدا! ", لالتبس فعل الفاعل بفعل المفعول، فأتوا بالزيادة، ليصلوا إلى الفرق بينهما" [120] ، وقال ابن الحاجب: "لأنهم لو فضّلوا على المفعول دون الفاعل لبقيت كثير من الأفعال لا يتعجب منها، وغرضهم التعميم، ولو فضلوا عليها جميعاً لأدى إلى اللبس، فلم يبق إلا التعجب من الفاعل، ولأن الفاعل هو المقصود بالنسبة في المعنى، والمفعول فضلة، فكان ما هو المقصود أولى، وهذا معنى قول سيبويه: "وهم ببيانه أعنى"، يعني: أنهم يعنون بالفاعل دون المفعول، حتى لا يذكرون فعلاً إلا ويذكرون له فاعل، أو ما يقوم مقامه، حرصا على بيان الفاعل عندهم، فلما تعجبوا، كان الأولى عندهم أن يجعل التعجب له لذلك [121] .(35/18)
والذين قالوا بأن علة المنع خوف اللبس بين التعجب من الفاعل وبين التعجب من المفعول، أجازوه إذا أُمِن من اللبس، وقد ذهب هذا المذهب خطّاب الماردي [122] ، وهو اختيار ابن مالك، قال في شرح الكافية الشافية: "على أن فعل المفعول إذا لم يُجهل معناه ببناء فعل التعجب منه جاز صوغ (أَفْعَلَ) و (أَفْعِلْ) من لفظه، نحو: ما أزهى زيداً!، وما أعناه بحاجتك!، وأصلهما: زُهِيَ وعُنيَ، فصيغ منهما فعل التعجب، لأن المراد لا يجهل، بخلاف "ضُرِبَ زيدٌ"، فإن قولك فيه: ما أضرب زيداً! , يوهم خلاف المراد، فلم يجز" [123] فذهب خطّاب وابن مالك إلى أن ما لا يُلبس لا يقتصر فيه على السماع، والجمهور لا يُجَوِزُّونه إلا فيما سمع [124] .
وهذا مذهب قَصْدٌ، أخذ من كل قول أحسن ما فيه، وسلم مما يمكن أن يؤخذ عليه، فاستبعد علل القوم، ولم يغد بحاجة إليها، وبُني على استقراء الوارد عن العرب، فلم يُهمل السماع كما فعل الجمهور، ولم يتسع كما اتسع الكوفيون ومن وافقهم، مما جعله أولى بالاختيار عند المحققين كابن مالك وغيره، بل هو الذي يوفق بين الأقوال جميعها، بحيث لا يُبطل القياس ولا يهمل السماع، ويسلم القائل به من تحكم المذاهب الأخرى.
وقد يقال: ألا تكفي الأمثلة الواردة لاختيار مذهب الكوفيين، وترك غيره؟
فالجواب أن يقال:
إن هذه االأمثلة كثيرة من حيث العدد، ولكنها لم تسلم من المعارض، إذ ورد عن العرب التعجب من فعل الفاعل كثيراً، حتى صار الكثير مما يخالفه بالنسبة شيئاً يسيراً، لا يصلح للقياس عليه؟ والكثرة والقلة في القياس نسبية، فقد نقيس على القليل، إذا لم يرد له مما ينقضه، ونمتنع من القياس على الكثير لوجود ما ينقضه.
ولهذا كان اختيار مذهب خطّاب وابن مالك نتيجة مناسبة لهذا البحث، مما يمكن أن نخرج منه بقاعدة أو خلاصة:(35/19)
"التعجب إنما يكون من فعل الفاعل، ويجوز التعجب من فعل المفعول إذا أُمن اللبس". تم بحمد الله. والصلاة والسلام على رسوله الكريم.
دليل المصادر والمراجع
إشارة التعيين/ عبد الباقي اليماني (680-743) تحقيق د. عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل/ ط أولى 1406هـ.
الأشباه والنظائر/ السيوطي (849 911) نشر طه عبد الرؤوف سعد/ مكتبة الكليات الأزهرية/ القاهرة/ 1395 هـ.
أوضح المسالك - ضياء السالك.
الإيضاح في شرح المفصّل/ أبو عمر وعثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (570 - 646) تحقيق د. موسى بناري العليلي/ الناشر وزارة الأوقاف في العراق/ إحياء التراث الإسلامي (50) .
بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح/ عبد المتعال الصعيدي/ مكتبة الآداب بالجماميز/ مصر.
تذكرة النحاة لأبي حيان محمد بن يوسف (654-745) نشر د. عفيف عبد الرحمن مؤسسة الرسالة/ ط أولى 1406هـ.
الخاطريات/ أبو الفتح عثمان بن جني (392) تحقيق علي ذو الفقار شاكر/ دار الغرب الإسلامي/ ط أولى 1408/ بيروت.
الخصائص/ ابن جني/ تحقيق محمد علي النجار/ صورة.
الدرر اللوامع على همع الهوامع/ أحمد بن الأمين الشنقيطي (1289-1331) ط ثانية/ دار المعرفة/ بيروت.
زاد المعاد في هدي خير العباد/ ابن قيم الجوزية (691- 751) تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط/ مؤسسة الرسالة/ ط ثامنة/ 1405هـ/ بيروت.
سفر السعادة/ علم الدين السخاوي (558-643) تحقيق محمد أحمد الدالي/ مجمع اللغة العربية/ دمشق/ 1403.
سيبويه (الكتاب) / عمرو بن عثمان (180 تقريباً) ط عبد السلام هارون.
شرح أشعار الهذليين/ أبو سعيد السكري (212-275) تحقيق عبد الستار فراج.
شرح ديوان كعب بن زهير/ أبو سعيد السكري/ صورة عن ط دار الكتب المصرية سنة 1369/ القاهرة.(35/20)
شرح قصيدة كعب بن زهير/ محمد بن هشام الأنصاري (708-761) نشر د. محمود حسن أبو ناجي/ مؤسسة علوم القرآن/ دمشق/ ط ثانية/ 1402.
شرح الكافية/ للرضي الاسترباذي (686) دار الكتب العلمية/ بيروت/ صورة.
شرح الكافية الشافية/ جمال الدين بن مالك (672) تحقيق د. عبد المنعم هريدي/ من منشورات جامعة أم القرى/ مركز إحياء التراث (16) ط أولى/ 1402.
شرح المفصل/ يعيش بن يعيش (643) صورة عن الطبعة الأوى.
الصحاح/ الجوهري (393) نشر أحمد عبد الغفور عطار.
ضياء السالك إلى أوضح المسالك/ محمد عبد العزيز النجار/ ط أولى 1389/ القاهرة.
لسان العرب/ ابن منظور (711) دار لسان العرب/ بيروت.
مجمع الأمثال/ الميداني (518) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد/ ط ثانية/ 1393.
مختار الصحاح/ محمد بن أبي بكر الرازي/ (666) دار الكتاب العربي/ ط أولى/ 1967 بيروت.
المرتجل/ لابن الخشاب (492-567) تحقيق علي حيدر/ 1392/ دمشق.
المسائل العضديات/ لأبي علي الفارسي (288-377) تحقيق د. علي جابر المنصوري/ عالم الكتب بيروت/ ط أولى 1406.
المساعد على تسهيل الفوائد/ لبهاء الدين بن عقيل (600-672) تحقيق د. محمد كامل بركات/ من منشورات جامعة أم القرى/ مركز إحياء التراث/ مكة.
معجم البلاغة العربية/ د. بدوي طباته/ ط ثالثة/ 1408 دار المنارة بجدة.
معجم المصطلحات النحوية والصرفية/ د. محمد سمير نجيب اللبدي/ مؤسسة الرسالة د أولى 1405/ بيروت.
المغني في تصريف الأفعال/ محمد عبد الخالق عضيمة/ ط أولى/ 1374/ القاهرة.
المفصل في علم العربية/ محمود بن عمر الزمخشري (538) ط الثانية/ دار الجيل/ بيروت.
المقرب/ علي بن مؤمن (ابن عصفور) (669) تحقيق/ الجواري والجبوري/ منشورات الأوقاف العراقية سنة 1391 ط أولى.(35/21)
المقتصد في شرح الإيضاح/ عبد القاهر الجرجاني (471) تحقيق كاظم بحرمرجان/ وزارة الإعلام العراقية/ 1982.
الملخص في ضبط قوانين العربية/ ابن أبي الربيع القرشي (599-688) تحقيق د. علي بن سلطان الحكمي/ ط أولى سنة 1405.
همع الهوامع/ السيوطي (911) بيروت/ صورة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ص 293.
[2] المساعد 2/ 165.
[3] شرح المفصل 6/ 49.
[4] سفر السعادة 586، وصاحب القول أبو جعفر النحاس.
[5] معجم البلاغة العربية 480.
[6] بغية الإيضاح 2/ 32.
[7] انظر بغية الإيضاح 2/ 32.
[8] ينظر شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/ 576، والأشموني 3/ 16، ومعجم المصطلحات النحوية والصرفية 143.
[9] شرح الكافية 2/ 307، وانظر المرتجل 145، وانظر شرح المفصل 7/ 142.
[10] المرتجل 145.
[11] سورة البقرة آية 28.
[12] انظر الملخص في ضبط قوانين العربية 450.
[13] ص 466-467، وانظر ص 599.
[14] المقرب 1/ 72.
[15] الصحاح (طمع) .
[16] المغني لعضيمة 72.
[17] فعل التعجب يكون من (فَعَلَ) قالوا: ما أقعده! ، ويكون من (فَعِلَ) ، نحو: ما أعلمه!، ويكون من (فَعُلَ) ، نحو: ما أظرفه! . انظر الملخص في ضبط قوانين العربية ص451.
[18] مختار الصحاح 341.
[19] أوضح المسالك 3/ 75.
[20] شرح الكافية الشافية 1086-1087، ورأي خطاب في تذكرة أبي حيان ص378 ,293, 294.
[21] المقتصد 1/ 383.(35/22)
[22] زاد المعاد 1/ 90 وفي تذكرة أبي حيان ص 467: "إن كان الفعل متعدياً رددته إلى غير المتعدي، ثم نقلته بالهمزة التي للتعجب، فصيرته متعدياً، وصفة الرد أن ترده إلى باب (فَعُلَ) اللازم، فترد "جَهِلَ"إلى "جَهُلَ" و"بَرَدَ"إلى "بَرُدَ"، ثم تُدخل الهمزة، فتقول. ما أجهل الرجل، وما أبرد الماء، كذا حكى الرماني".
وقال الفارسي: "إنّ الأفعال المتعدية تساوي الأفعال غير المتعدية في التعجب، وذلك أن الفعل ليس يقع في هذا الباب حتى يكثر من فاعله فيصير بذلك بمنزلة ما كان غريزة، وهذا الضرب من الأفعال هو غير متعد، فجعل الفارسي زوال التعدي عنه لوقوعه في هذا الباب دون أن ينقل من صيغة إلى غيرها". ص 467-468 من التذكرة.
[23] العضديات 134-135 مسألة (61) .
[24] الخصائص 2/ 225.
[25] المقتصد 1/ 383-384.
[26] شرح الكافية 2/ 310.
[27] المقتصد 1/ 384.
[28] انظر العضديات 135 مسألة (61) .
[29] ص75-76.
[30] وقد فصل ابن عقيل القول فيما كان مفعولا قبل التعجب، فقال:"يجر ما تعلق بفعلي التعجب إن كان غير ظرف، وحال، وتمييز ب (إلى) إن كان فاعلا في المعنى، نحو: ما أحب زيداً إلى عمرو! والمعنى: يحب عمرٌ زيداً حباً بليغاً, وكذا أحبب بزيد إلى عمرو!.
فإن كان غير فاعل في المعنى، وأفهم علماً أو جهلاً جر بالباء، نحو: ما أعرف زيداً بعمرو! وما أجهله به!، وما أبصر خالدا بالشعر! وأبصر بعمرو بالفقه!، وأجهل بخالد به!.
وإن كان متعدياً بحرف جر, جر بحرف الجر نفسه (عدي بالحرف الذي كان يتعدى به) , نحو: ما أزهد زيداً في الدنيا! , وما أبعده عن الشر! , وما أصبره على الأذى! , وكذلك (أَفْعِلْ) .(35/23)
وإن كان متعديا لمفعولين: جُر أولهما، ونصب الآخر، نحو: ما أكسى زيداً للفقراء الثياب!، وما أظنَّ عمراً لبشرٍ صديقاً!، من قولك: كسا زيدٌ الفقراء الثياب، وظن عمرو بشراً صديقاً, والناصب للمفعول مدلول عليه ب (أفعل) لا به عند البصريين، تقديره نحو: يكسوهم الثياب، ويظنه صديقاً، وخالف الكوفيون، فجعلوا ناصبه فعل التعجب، المساعد 2/ 158-159، وانظر 2/ 187.
والتركيب جائز عند الفريقين من غير شرط، واختلفوا في تخريجه، فاتفقوا على أن نصب ما كان فاعلا ب (أَفعَلَ) ، وأجاز البصريون تعديته إلى أحد مفعوليه باللام، نحو: ما أكساك لعمروٍ أو للثياب، وإن جاء من كلامهم: ما أكساك لعمروٍ الثياب، فعلى تقدير عامل، أي: يكسوهم الثياب.
وقال الكوفيون: تعدي (أَفعَلَ) بعد نصبه ما كان فاعلاً إلى الأول باللام، وإلى الثاني بنفسه.
وأما باب (ظن) فاقتصر فيه البصريون على الفاعل، نصبوه ب (أَفعَلَ) ولم يعدوه إلى شيء من المفعولين، لا بحرف ولا بنفسه، وقال الكوفيون: يذكر المفعولان، ثم إن لم يلبس عُدي باللام للأول، وبنفسه للثاني، كالمثال السابق، وإن ألبس عُديَ لكل باللام، نحو: ما أظن زيداً لأخيك لأبيك!، أصله: ظن زيدٌ أخاك أباك. المساعد 2/ 159-160.
[31] الخاطريات 76-77.
[32] العضديات 135-136 مسألة (61) .
[33] زاد المعاد 1/ 92.
[34] لم أميز التفضيل عن التعجب، لأن حكمهما واحد.
[35] انظر الصحاح (جنن) 2093 واللسان (جنن) وسفر السعادة 595-598.
[36] انظر مجمع الأمثال 1/ 80-82، وفيه 1/ 84: "وأما ما أشغله! فلا ريب في شذوذه، لأنه إن حمل على الاشتغال كان شاذا، وإن حمل على أنه من المفعول فكذلك".(35/24)
[37] في سيبويه 4/ 99- 100: "ما أبغضه إلي! إنما تريد أنه مبغض إليك، كما أنك تقول: ما أقبحه، وإنما تريد أنه قبيح في عينك، وما أقذره! إنما تريد أنه قذر عندك,..تقول: ما أبغضه إلي! , وقد بغض، فجيء على (فَعُل) و (فَعِل) وإن لم يستعمل". وانظر مجمع الأمثال 1/ 82 وفيه 1/ 85: "ما أبغضه إلي! , يكون من البغيض بمعنى المبغض، أي: ما أشد إبغاضي له ". وانظر الصحاح (بغض) .
[38] في مجمع الأمثال 1/ 85: "ما أحبه إلي! , إن جعلته من حببتُه أحبه، فهو حبيب ومحبوب، كان شاذاً، وإن جعلته من أحببته فهو محب، فكذلك".
[39] اللسان "خشي"، وفيه "جاء فيه التعجب من المفعول، وهذا نادر، وقد حكة سيبويه منه أشياء قال العجاج:
قطعت أخشاه إذا ما أحبجا.
[40] اللسان (برك) .
[41] اللسان (جدد) ، وفيه: "وقد جد، وهو أجد منك، أي: أحظ، قال ابن سيده: فإن كان هذا من مجدود فهو غريب، لأن التعجب في معتاد الأمر، إنما هو من الفاعل لا من المفعول، وإن كان من جديد، وهو حينئذ في معنى مفعول، فكذلك أيضاً، وأما إن كان من جديد في معنى فاعل، فهذا هو الذي يليق بالتعجب، أعني: أن التعجب إنما هو من الفاعل في الغالب، كما قلنا. قال أبو زيد: "رجل جديد: إذا كان ذا حظ من الرزق، ورجل مجدود مثله".
[42] في مجمع الأمثال 1/ 85: "من الإعجاب لا غير، يقال: أعجب فلان برأيه، على ما لم يسم فاعله، فهو معجب"، وانظر الصحاح (عجب) 1/ 177 واللسان (عجب) .(35/25)
[43] مجمع 1/ 82 وفيه 1/ 84 عن ابن دريد: "زها الرجل يزهو زهواً، أي: تكبر, ومنه قولهم: ما أزهاه!، وليس هذا من "زُهي"، لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه"، هذا كلامه، وأمر آخر، وهو: أن بين قولهم "ما أشغله! "و"ما أزهاه! "إذا حمل على "زُهي"فرقاً ظاهراً، وذلك أن المزهو - وإن كان مفعولاً في اللفظ - فهو في المعنى فاعل، لأنه لم يقع عليه فعل من غيره، كالمشغول الذي شغله غيره، فلو حُمِلَ "ما أزهاه! "على أنه تعجب من الفاعل المعنوي لم بكن بأس".
وفي اللسان (زهو) : "وقال ثعلب في النوادر: زُهي الرجل، وما أزهاه! فوضعوا التعجب على صيغة المفعول، قال: وهذا شاذ، إنما يقع التعجب من صيغة فعل الفاعل، قال: ولها نظائر، وقد حكاه سيبويه".
وفيه عن ابن السكيت: "زُهيتُ وزهوت، ثم قال: وفيه لغة أخرى عن ابن دريد: زها يزهو زهواً، أي: تكبر، ومنه قولهم: "ما أزهاه! "وليس هذا من زُهي، لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه…وقال خالد بن جبنة: زها فلان: إذا أعجب بنفسه".
"وزُهيَ" من الأفعال التي لازمت البناء للمفعول على المشهور، يتكلم بها على سبيل المفعول، وإن كان بمعنى الفاعل، انظر اللسان (زهو) ، وانظر شرح الكافية الشافية 2/ 1086-1087.
[44] شرح الكافية الشافية 2/ 1086-1087.
[45] شرح المفصل 6/ 94-95.
[46] شرح المفصل 6/ 94-95.
[47] شرح المفصل 6/ 94-95.
[48] مجمع الأمثال 1/ 80.
[49] سفر السعادة 598 وقد تأوله السخاوي على وجهين:
أ- أن يكون ملازما للبناء للمفعول، مثل "جُنَّ": ما أجنه.
ب- أن يكون تعجباً من "سارٍ"كما يقال: زيد سار، أي: حَسَنُ الحال في نفسه، وأهله، وماله، وفرس سار، أي: حسن الحال في جسمه ولحمه، وضيعة سارة، بمعنى آهلة عامرة، فيكون سار بمعنى قولك: "ذو سرور"ثم يتعجب منه على هذا، كما قالوا: عشية راضية، أي: ذات رضًى، ورجل طاعم كاس، أي: ذو طعام وكسوة، قال الحطيئة:(35/26)
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فيكون "ما أسرني" جاريا على غير خارج عما رتبنا.
[50] شرح المفصل 6/ 94.
[51] الصحاح (هوى) 2538.
[52] الصحاح (هوى) 2538، وشرح أشعار الهذليين 974.
[53] سيبويه 4/ 99-100، وفيه:"إنما تريد أنه مقيت…فكان "ما أمقته! "…على (فَعُلَ) وإن لم يستعمل". وانظر التعليق على "ما أبغضه إلي".
وواضح من هذا أن مذهب سيبويه لو تُعجب من المفعول لوقع اللبس بينه وبين الفاعل، فقال سيبويه: "ما تعجب منه من المفعول كأنه يقدر له فعل، فإذا قال: ما أبغضه إلي، فكأن فِعلَه "بغض"وإن لم يستعمل". هامش كتاب سيبويه 4/ 99-100 نقلاً عن شرح السيرافي، وانظر المقرب 1/ 71.
[54] نفس التعليق السابق.
[55] سيبويه 4/ 99، وفيه: "أي: هي شهية عندي، كما تقول: ما أحظاها، أي: حظيت عندي".
[56] مجمع الأمثال 1/ 82، وفيه 1/ 85: "إن حملته على الامتلاء أو على المملوء كان شاذا".
[57] المقرب 1/ 71 وزاد المعاد 1/ 91.
[58] اللسان (خلل) وفيه: "أخل هاهنا أفعل من قولك: خل الرجل إلى كذا: احتاج، لا من "أخل"؛ لأن التعجب إنما هو من صيغة الفاعل لا من صيغة المفعول، أي: أشد خلة إليه، وأفقر من أبيه"..
[59] شرح المفصل 6/ 94.
[60] شرح المفصل 6/ 94.
[61] شرح المفصل 6/ 94.
[62] شرح المفصل 6/ 94، وشرح قصيدة كعب بن زهير 281.
[63] شرح قصيدة كعب بن زهير 281.
[64] المساعد 2/ 166، وأوضح المسالك 3/ 75 وفيه شذوذان.(35/27)
[65] من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحمد، على زنة (أفْعَل) التفضيل، مشتق من الحمد، وقد اختلف الناس فيه، هل هو بمعنى فاعل أو مفعول؟. فقالت طائفة: هو بمعنى الفاعل، أي: حمده لله من حمد غيره له، فمعناه أحمد الحامدين لربه، ورُجح هذا بأن قياس (أفْعَل) التفضيل أن يصاغ من فعل الفاعل لا من الفعل الواقع على المفعول، ومعنى هذا الاسم على هذا القول: أحمد الناس لربهم. وعلى القول الآخر بجوار أخذ (أفعل) التفضيل من فعل المفعول، فالمعنى: أحق الناس وأولاهم بأن يُحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن محمداً هو كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد في الكثرة والكمية وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره، وأفضل مما يستحق غيره، فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حُمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا أبلغ في مدحه، وأكمل معنىً، ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد، أي: كثير الحمد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه، لكان الأولى له الحماد، كما سميت بذلك أُمته ". انظر زاد المعاد 1/ 89-90 ,93.
[66] مجمع الأمثال 1/ 80.
[67] المقرب لابد عصفور 1/ 71-72 وفيه " ما أخوفه عندي! ". وانظر تذكرة أبي حيان 293-294 وفيها: "ولو قلت: ما أخوف زيداً! على أنه المخوف، وما أحمى زيداً! على أنه هو المحمي، لم يجز ذلك؛ لالتباسه بالفاعل، إلا أن يأتي من ذلك ما ليس فيه التباس، وقد رُد على الرمادي قوله:
ولا شبك أحمى من غزال كأنه من الخوف والأحراس في حبس ضيغم(35/28)
ولا عيب فيه عندي (القائل خطّاب الماردي) لقلة التباسه، وقد جاء مثله لكعب، فأورد البيتين ... "وانظر شرح قصيدة كعب بن زهير 280-282 وفيه "أهيب" و"أرهب"وكلاهما تعجب من فعل المفعول وانظر زاد المعاد 1/ 91 وشرح ديوان كعب 21.
[68] سفر السعادة 582.
[69] دراسات لأسلوب القرآن الكريم 2/ 3/ 234-235.
[70] سورة البقرة آية 165.
[71] سورة البقرة آية 191.
[72] سورة البقرة آية26.
[73] سورة الأنبياء 24.
[74] سورة الأنبياء 33.
[75] سورة الأنبياء آية 104.
[76] سورة الروم آية 2.
[77] سورة سبأ آية 37.
[78] سورة الحشر آية 13.
[79] انظر دراسات لأسلوب القرآن 2/ 3/ 235-236 ومصارده التي رجع إليها.
[80] سفر السعادة 582.
[81] مجمع الأمثال 1/ 80.
[82] انظر سفر السعادة 595-598.
[83] زاد المعاد 1/ 92.
[84] زاد المعاد 1/ 92.
[85] زاد المعاد 1/ 92.
ويعضد هذا القول ورود (أفعل) التفضيل متعديا إلى المفعول بنفسه.
قال عباس بن مرداس:
فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمي للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
فالقوانس منصوبة ب"أضرب". ومن خالف قال: "إن "القوانس"عندنا منصوبة على فعل آخر، هذا هو الظاهر تفسيره، فكأنه قال: "نضرب "القوانس"ونحو ذلك، انظر الخاطريات 76.
[86] سورة الأعراف آية 154.
[87] سورة يوسف آية 43.
[88] سورة البقرة آية 91.
[89] سورة البروج آية 16.
[90] سورة الأحزاب آية 53.
[91] انظر المغني 217-218، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم 1/ 2/ 448-449.
[92] ذكر ابن النحاس في التعليقة: أن الباء تحتمل أن تكون للتعدية كمررت به، وزائدة مثل: قرأت بالسورة، الأشباه والنظائر 22/ 156.(35/29)
[93] زاد المعاد 1/ 92.
[94] هذا مبناه على اختلافهم في قولنا: (أَفعِل به) هل معناه أمر أو تعجب؟ مع إجماعهم على أن لفظه لفظ أمر، قاله ابن النحاس في التعليقة، انظر الأشباه والنظائر 2/ 155.
[95] شرح الكافية 2/ 310.
[96] شرح الكافية 2/ 310.
[97] شرح الكافية 2/ 310. وانظر شرح المفصل 7/ 148.
[98] سورة البقرة آية 195.
[99] انظر شرح المفصل 7/ 148، وشرح الكافية 2/ 310.
[100] سورة مريم آية 38.
[101] وقد تأول هذين البيتين من ذهب إلى أن المجرور ليس في موضع نصب، بأن قوله: "فأبعد دار مرتحل مزارا" يمكن أن يكون "أبعد"فيه دعاءً، على معنى: أبعد الله دار مرتحل مزارا عن مزار محبوبه، كأنه يحرص نفسه على الإقامة في منزل طروق ليلى، لأنه صار بطروقها مزاراً، وبأن "أجدر"أمر عار من التعجب، أي: اجعل مثل ذلك جديرا، وأجدر به، أي: اجعله جديراً بأن يكون، أي حقيقاً، وبأنه تعجب، ومثل في موضع رفع، وهو مبني لإضافته إلى مبني، مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (الذريات: الآية 23) في قراءة من فتح اللام، قال صاحب الدرر: "ولن أعثر على قائله"انظر الدرر اللوامع 2/ 120، والمساعد (الحاشية) 2/ 151.
[102] المساعد 2/ 150.
[103] الأشباه والنظائر 2/ 88.
[104] الإيضاح في شرح المفصل 2/ 110.
[105] انظر المفصل 276-277.
[106] وهذا أمر حقيقة، وهو ضعيف، إذ يلزم منه أن يكون الناطق به متعجبا، ولا خلاف في أن الناطق به متعجب، المساعد 2/ 149.
[107] الإيضاح في شرح المفصل 2/ 110-111.
[108] شرح المفصل 7/ 148.
[109] سورة مريم آية 38.
[110] المساعد 2/ 153.
[111] شرح الكافية 2/ 310، وانظر شرح المفصل 7/ 148.
[112] شرح المفصل 7/ 148، وانظر المساعد 2/ 150-151.(35/30)
[113] انظر شرح الكافية 2/ 311.
[114] انظر شرح الكافية 2/ 310.
[115] انظر مجمع الأمثال 1/ 84.
[116] رجل مرس: شديد العلاج، بين المرس وهو شدة العلاج. اللسان (مرس) .
[117] انظر سفر السعادة 595-598.
[118] انظر سفر السعادة 598.
[119] المقتصد 1/ 383.
[120] سفر السعادة 595.
[121] الإيضاح في شرح المفصل 1/ 654.
[122] هو ابن يوسف بن هلال. جعل في إشارة التعيين والبلغة نسبته "المازري"بالزاي ثم راء، وفي البغية وغيرها "الماردي"بالراء والدال المهملتين، من أهل قرطبة، وسكن بطليوس، له شعر فيما يذكر ويؤنث، وكتاب "الترشيح"في النحو، نقل عنه أبو حيان في تذكرته، واختصر "الزاهر"لابن الأنباري.
قال عنه ابن الأنبار: "كان من جلة النحاة، ومحققيهم، والمتقدمين في المغرفة بعلوم اللسان على الإطلاق.
روى عن أبي عبد الله بن الفخار، وأبي عمر أحمد بن الوليد، وهلال بن عريب، وروى عنه ابناه: عبد الله وعمر، وغيرهما، وتصدر لإقراء العربية طويلاً.
نقل عنه أبو حيان وابن هشام كثيراً.
توفي بعد سنة خمسين وأربعمائة.
انظر ترجمته في إشارة التعيين 112 والبلغة 77 وبغية الوعاة 1/ 553 والتكملة لابن الأبّار 1/ 42 وكشف الظنون 507 و948 ومعجم المؤلفين 4/ 103.
[123] ص 1086-1087 وانظر المساعد 2/ 262-263 والهمع 2/ 166.
[124] انظر المساعد 2/ 162-163.(35/31)
العدد 81-82
فهرس المحتويات
1- حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية: الدكتور: ذيب بن مصري بن ناصر القحطاني
2- إعراب لا إله إلا الله: د/ حسن موسى الشاعر
3- انتشار الإسلام بالفتوحات الإسلامية زمن الراشدين: بقلم الدكتور جميل عبد الله محمد المصري
4- المماليك البحرية وقضاؤهم على الصليبين في الشام: الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
5- الإمام أبو العباس ابن سريج المتوفي سنة 306 هـ وآراؤه الأصولية: د/ حسين بن خلف الجبوري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(35/32)
حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية
تصنيف
الدكتور: ذيب بن مصري بن ناصر القحطاني
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وبعد ...
فإن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتزام سنته والسير على نهجه وتحكيم شرعه واجب على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله تعالى يقول: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً" (4) .
__________
(1) سورة آل عمران آية: 102.
(2) سورة النساء آية: 1.
(3) سورهَ الأحزاب آية: 70، 71.
(4) سورة النساء آية: 65.(35/33)
فتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم لازم في العبادات والمعاملات ولا يجوز الخروج عن حكمه لأن الله قد نفى الإيمان عمن يجد في نفسه ضيقاً من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرحم بنا من أنفسنا ويشق عليه عنتنا. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1) وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (2) فمن شفقته على أمته إيضاحه كل ما تحتاج إليه حب معاشها ومعادها سواء أكان في العبادات أو المعاملات فحل المشكلات وبين حلولها بما يشفي ويكفي رأفة بأمته ورحمة بها وكيف لا يحل مشاكل أمته وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من لجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم" (3) (3) فهذا البيان وهذا التوضيح لحل كل مشكلة مما جعل العالم يقف حائرا مندهشا مفكرا في هذا الشرع العالمي (4) العجيب الذيَ وسمعت تعاليمه كل لا يحتاج إليه البشر حتى أبسط المسائل التي قد يراها بعض الناس نقصان عقله وتفكيره من التوافه وحاشى الإسلام أن يكون فيه توافه أو سواقط وإنما اشتمل هذا الدين السماوي على ما يتصل بالمسلم في نفسه أو أسرته أو مجتمعه بنظام عجيب بلغ ذروة الكمال والتمام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (4) (5) .
__________
(1) سورة الأحزاب آية: 6.
(2) سورة التوبة آية: 8 12.
(3) أخرجه أحمد، والطبراني وقال في مجمع الزوائد ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة. مجمع الزوائد8/264.
(4) سورة المائدة آية: 3.(35/34)
فالحمد لله على هذه النعمة التي هي أعظم النعم وأجلها نعمة الإسلام الكامل الشامل الذي وسعت تعاليمه كل حوائج البشر في أحسن حللها وأبهى صورها سواء ما كان منها في العبادات التي فصلها تفصيلا كاملا أو في المعاملات التي شملها هذا البيان الوافي بكل متطلبات البشر فمن هذه المعاملات التي بينها بيانا شافيا ما كان شائعا ومحببا للنفوس من التجارة والحصول على أغلى الأثمان في بيعهم وشرائهم. لهذا ترى بعض أصحاب السلع يحبون أن تظهر سلعهم بأجمل صورة لعلها تلفت نظر المشتري إليها فيحصلون منها على ربح كثير وقيمة كبيرة مقابل هذا المنظر ولو بالمخادعة لحب المال وزيادته ولما كان الغش محرما في الشريعة الإسلامية منع الشارع الحكيم من كل أنول الغش سواء كان في الحيوان أو في الطعام أو في المكيال أو الميزان أولا غير ذلك من جميع أنواع المعاملات ولهذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "منْ غشنا فليس منا" (1) وذلك لما في الغش من الضرر على المجتمع ومن أنواع الغش الذي كان شائعا "التصرية"فقد يترك صاحب الإبل أو الغنم أو البقر إبله أو غيرها اليوم واليومين بدون حلب حتى يكثر لبنها ويراها المشتري وقد امتلأ ضرعها باللبن فيظن أن هذا من عادتها فيزيد في ثمنها رغبة في لبنها فإذا حلبها وجدها على خلاف ما ظهر له منها فهنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشتري حلا، وخلاصا من هذا الغش الذي وقم فيه وهو أنه إذا حلبها مخير بين إمساكها أو ردها ومعها صاعا من تمر بدل ذلك اللبن الذي استهلكه من هذه الناقة أو البقرة أو الشاة وقد يقول قائل لماذا لا يكون اللبن للمشتري ويرد الشاة بدون عوض صاع تمر مقابل اللبن لأنه وجد فيها عيبا فكان الأولى أن ترد بدون مقابل لذلك اللبن المحلوب لوجود العيب والغش كسائر العيوب.
__________
(1) مسلم 1 /99،ِ الترمذي مع تحفة الأحوذي. 4 /544وغيرهما.(35/35)
الجواب عن هذا وإن كنت لم أر من قال به من العلماء أنه قد يوجد بعض الخداعين والمكارين وضعاف النفوس يشتري الناقة أو الشاة أو البقرة وهو يريد لبنها الموجود في ضرعها حال البيع ولا رغبة له في اقتنائها فإذا استهلك ما في ضرعها من لبن أدعى بأن فيها عيبا وهو التصرية فيفوت على صاحبها لبنها ويسترد ما دفع فيها كاملا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القيد إن كان صادقا بأنها مصراة والتصرية عيب فليدفع بدل اللبن الذي استهلكه صاعا من طعام حتى يرتدع أهل الفسق والتلاعب عن فسقهم وتلاعبهم بالسلع وأهلها وهذا فصلا لهذه القضية حتى لا يكون هناك خلاف بين المتبايعين يؤدي إلى الخصام والنزل فحكم النبي الذي لا ينطق عن الهوى بحكمه العدل حتى لا يدع مجالا للأخذ والإعطاء والخصام والنزاع لأنه لو ترك ذلك للاجتهاد والأخذ والإعطاء لأدى ذلك إلى الخصام الطويل والنزاع المستمر لتفاوت ألبان اِلإبل والغنم والبقر فقد يقول البائع أن اللبن الذي حلب أكثر من صاعين وقد يقول المشتري بأنه أقل من نصف صاع فيحصل من أجل ذلك الشجار والدعاوي الزيادة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا القضاء قطعا للخصام والشجار بقضاء لا يوجد أعدل منه ولا أحسن منه ولم يترك ذلك لقول فلان أو علان فالحمد لله على هذه النعمة نعمة الإسلام التي بينت وكفت وشفت هذا ولما كان حديث المصراة قد ورد بألفاظ مختلفة وفي بعضها زيادة على بعض وبني من أجل هذه الزيادة حكم جمعت كل نوع منها على حدة فقد ورد الحديث بلفظ التمر وبلفظ الطعام وبلفظ خيار ثلاثة أيام فجعلت مباحثه كالآتي:
1- مبحث ألفاظه بالتمر.
2- مبحث ألفاظه بالطعام.
3- مبحث مدة الخيار.
4- مبحث خلاف العلماء في المسألة.
5- مبحث هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم.
6- مبحث هل يلزم التمر أو يجوز غيره.(35/36)
علما بأنني قد ذكرت طرق الحديث ومن روي عنه من الصحابة وخرجتها من مصادرها وذكرت ما قيل فيها من تصحيح أو تضعيف. والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حديث المصراة رواية من رواه بلفظ التمر
قال الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-:
1_حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي فصلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر"، وبذكر عن أبي صالح
ومجاهد، والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصاع تمر". وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من طعام وهو بالخيار ثلاثا"، وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من تمر "ولم يذكر ثلاثا "والتمر" أكثر.
2- وقال البخاري أيضاً حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن "أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا ولا يبيع حاضرة لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" (1) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب 64جـ3 ص62، ومسلم، كتاب البيوع، باب4جـ3 ص 1155 وزاد ولا تصروا الإبل، ومالك في الموطأ كتاب البيوع، باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة2 /683، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.(35/37)
3- وقال أيضاً حدثنا محمد بن عمرو حدثنا المكي أخبرنا ابن جريج أخبرني زياد أن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر" (1) .
4- وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ما أحدكم اشترى لقحة مصراة أو شاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر" (2) .
5- وقال أيضاً حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء" (3) .
رواية أنس بن مالك لحديث المصراة
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب: 65جـ3ص 62، وأخرجه أيضا أبو داود، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة وكرهها. جـ3ص722.
(2) الصحيح كتاب البيوع، باب7،3/1159.
(3) الصحيح كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة 3 / 1159، والنسائي كتاب البيوع، باب النهي عن المصراة 7/254.(35/38)
6- قال أبو يعلي حدثنا حميد بن مسعدة السامي حدثنا عرعرة بن البرند حدثنا إسماعيل المكي، عن الحسن عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "لا تلامسوا ولا تناجشوا ولا تبايعوا الغرر، ولا يبيعنَّ حاضر لباد، ومن اشترى محفلة فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر" (1) .
رواية ابن عمر
__________
(1) مسند أبي يعلي 5/154،حديث 2767تحقيق حسين سليم وقال الهيثمي فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وقد أورد الحافظ ابن حجر هذه الرواية في المطالب العالية وقال لأبي يعلى وزاد رواية أخرى عن أنس ولفظها "من اشترى محفلة فله أن يمسكها ثلاثاً فإن رضيها أمسكها وإن رد رد معها صاعاً من تمر "وقال للحارث"1 /399. وأخرجه غير من تقدم البيهقي بلفظ: "من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحتلبها فإن رضيها فليمسكها وإلا فليردها وصاعا من تمر". السنن الكبرى5/319، ولم يشر الحافظ إلى هذه الرواية، وفيها أيضا إسماعيل بن مسلم وأخرجه البزار بلفظ"أنه نهى عن بيع المحفلات وقال من ابتاعهن فهو بالخيار إذا حلبهن"كشف الأستار عن زوائد البزار2/89 ولم يذكر الحافظ هذه الرواية. وفيها إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.
وقد رواه البيهقي عن الحسن مرسلا بلفظ من اشترى شاة مصراة أو لقحة مصراة فهو بأحد النظرين إما أن يردها وإناء من طعام أو يأخذها ثم قال: هذا هو المحفوظ مرسل. السنن الكبرى5/319.(35/39)
7- قال الدارقطني: ثنا يحي بن صاعد نا سوار بن عبد الله العنبري، نا معتمر بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر وأبي هريرة رفعا الحديث قال: "لا يبيع حاضر لباد، ولا تلقوا السلع بأفواه الطرق ولا تناجشوا، ولا يسم الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يرد، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفيء ما في صحفتها فإنما لها ما كتب لها ولا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم فمن اشتراها فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعا من تمر، والرهن مركوب ومحلوب" (1) .
رواية عمر بن عوف المزني لحديث المصراة
8- وقال أيضاً حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم، نا علي بن يزيد الفرائضي، نا الحنيني إسحاق بن إبراهيم، نا كثير بن عبد الله على أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين، إن رضيها أمسكها وإن سخط ردها وصاعا من تمر"
تابعه عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر في المصراة
حدث عنه داود بن عيسى وقال الحسن بن عمارة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو شيبة عن أبي هريرة وقال شعبة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) السنن: 3/74، وأخرجه الطبراني عن ابن عمر وحده. المعجم الكبير 12/419 وقال الهيثمي: فيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 4/82.
ملاحظة على العيني في عمدة القارئ وهو أنه لم يذكر هذه الرواية عن ابن عمر وإنما ذكر رواية أبي داود التي فيها جمع بين عمير ثم ذكر ما قيل فيه من طعن حتى يرد قول من قال إن أبا هريرة لم يتفرد بهذا الحديث ولعله يقصد الحافظ ابن حجر. انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: 11/273، تصوير أمين دمبح.(35/40)
9- وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول حدثنا أبو عثمان عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى في شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا من تمر".
رواية حديث المصراة بلفظ الطعام
1- قال مسلم: حدثنا محمد بن عمر بن جبلة ابن أبي روّاد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا قرد عن محمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء" (1) .
2- وقال أحمد: حدثنا عبد الواحد عن عوف عن خلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى لقحة أو شاة مصراة فحلبها فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وإناء من طعام" (2) .
__________
(1) الصحيح، كتاب البيوع باب حكم بيع المصراة 3/1158 والترمذي في البيوع، باب ما جاء في المصراة 4/457 مع تحفة الأحوذي والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع، باب مدة الخيار في المصراة 5/320 كلهم رووه عن طريق قرة بن خالد عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ورواه أبو داود عن طريق بن حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه. السنن كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة 3/727، وكذلك الدارقطني. انظر السنن 3/74، وكذلك الطبراني في الأوسط: 3/202، وأيضا البيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع باب الحكم فيمن اشترى مصراة 5/318.
(2) المسند 2/259، وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى:5/318 عن محمد بن سيرين دون ذكر خلاس.(35/41)
3- وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن طلحة قال سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتلقى جلب ولا بيع حاضر لباد ومن اشترى شاة مصراة أو ناقة فهو بآخر النظرين إذا هو حلب إن ردها رد معها صاعا من طعام قال الحكم أو صاعا من تمر" (1) .
__________
(1) انظر: ترتيب المسند للساعاتي 15/61، وأخرجه ابن أبي شيبة واقتصر على قوله:"من اشترى "إلى آخره المصنف 6/596، والبيهقي، السنن الكبرى كتاب البيوع، باب حكم فيمن اشترى مصراة:5/319.
وقال البيهقي: "وصاعا من طعام أو صاعا من تمر"ثم قال: قال الشيخ يحتمل أن يكون هذا شكا من بعض الرواة فقال صاعا من هذا أومن ذاك لا أنه من وجه التخيير ليكون موافقا للأحاديث الثابتة في هذا الباب والله تعالى أعلم.
ملاحظة: ذكر ابن الإمام ابن حجر رواية أحمد ولم يشر إلى رواية ابن أبي شيبة ولا رواية البيهقي وتبعه الساعاتي في الفتح الرباني فقال لم أقف عليه لغير الإمام أحمد. وسند هذا الحديث صحيح لأن ابن أبي شيبة رواه عن وكيع عن شعبة ... الخ ورواه البيهقي عن يزيد بن هارون عن شعبة ... الخ, وسند أحمد كما تقدم.(35/42)
4- وقال أبو داود: حدثنا أبو كامل، حدثنا عبد الواحد حدثنا صدقة ابن سعيد عن جميع بن عمير التيمي، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسوِل الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاَ" (1) .
أما روايات الخيار بثلاثة أيام
1- ففي صحيح مسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر" (2) .
2- وعنده أيضاً عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء" (3) .
__________
(1) السنن تحقيق الدعاس، باب من اشترى مصراة وكرهها 3/727، وابن ماجة: 2/753، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وفي سنده جميع بن عمير التيمي قال الذهبي أتهم بالكذب ديوان الضعفاء والمتروكين ص46، وقال المنذري: قال الخطابي: ليس إسناده بذلك والأمر كما قال فإن جميع بن عمير قال ابن نمير هو من أكذب الناس وقال ابن حبان كان رافضيا يضع الحديث. مختصر السنن:5/89، وقال في هذا الحديث ابن قدامة "إنه مطرح الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها قمحا ثم قد شك فيه الراوي وخالفته الأحاديث الصحاح فلا يعول عليه". المغني:4/152، تحقيق محمد سالم محيسن، وشعبان محمد إسماعيل.
(2) صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب 7جـ3ص1158، وتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(3) المرجع السابق وقد تقدم من أخرجه غير مسلم.(35/43)
3- وأخرج أبو داود وابن ماجة عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاً" (1) .
4- وأخرت البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة لدرتها حلبها ثلاثة أيام فهو بالخيار إن شاء أمسك وإلا رد صاعا من تمر" (2) .
5- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلامسوا ولا تناجشوا ولا تبايعوا الغرر ولا يبيعن حاضر لباد ومن اشترى محفلة فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر" (3) .
هذه روايات الخيار في الحديث
وقال الخطابي وقد أخذ كل واحد من مالك، وأبي حنيفة بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك بعد الثلاث أو قبلها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه.
ثم قال: وقاد اختلف الناس في مدة الخيار المشروط في البيعَ فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد قليله وكثيره جائز.
وقال مالك: هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان. وفي الحيوان أسبوع ونحوه، وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها.
__________
(1) سنن أبي داود تحقيق الدعاس، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة وكرهها 3/727 وسنن ابن ماجة 2/753، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وتقدم ما قيل فيه. في ص17.
(2) التاريخ الكبير: 3/242 وتقدم الكلام عليه ص16 هامش (1) .
(3) مسند أبي يعلي جـ2767، 5/154، تحقيق حسين سليم وتقدم ما قيل فيه.(35/44)
قال الباجي في الخيار وقوله صلى الله عليه وسلم:"فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها "قال محمد له الرد بعد أن يحلب مرتين فإن حلب ثلاثا لزمته وقال ابن القاسم لما سئل أيردها بعد الثالثة إذا رأىَ من ذلك ما يعلم أنه قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك منع الرد، قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه والأظهر عندي إنه يكون الخيار بعد الثلاثة.
وعند الحنابلة في الخيار قولان:
أحدهما: للقاضي وهو أن مدة الخيار مقيدة بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها وهذا القول لأحمد وأصحاب الشافعي.
القول الثاني: لأبي الخطاب وهو أنه متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاثة أو بعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا تبينه كسائر التدليس ثم قال وهذا قول ابن المنذر، وأبي حامد من أصحاب الشافعي وحكاه عَن الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها وعلى قول القاضي: "لا يثبت الخيار في شيء منها وإنما يثبت عقبها وقول أبي الخطاب يسوي بين الأيام الثلاثة وبين غيرها والعمل بالخبر أولى، والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس".
وقال النووي في الروضة ويثبت به- أي تدليس التصرية- الخيار للمشتري وفي خياره وجهان أصحهما: أنه على الفور، والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام.
ولعل الأرجح ما ذهب إليه القاضي والقول الثاني الذي ذكره النووي لأن صاحب الشاة أو الناقة قد ينكر أنها مصراة ولا يتضح أنها مصراة إلا بعد حلبها ثلاثة أيام كما هو نص الحديث والله تعالى أعلم.
"موقف العلماء من حديث المصراة"
اختلف العلماء من هذا الحديث في مسائل:(35/45)
الأولى: حكم المصراة، الثانية: مده الخيار، وتقدمت في رواية الخيار بثلاثة أيام، الثالثة: هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم، الرابعة: هل يتعين الصاع من التمر أو تجوز قيمته وهل يجزئ غير التمر من أنواع الأطعمة الأخرى.
** المسألة الأولى: الأقوال في حكم المصراة **
القول الأول: أخذ بظاهر هذا الحديث:
جمهور أهل العلم وهو قول: "مالك، والشافعي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، وأبي ثور".
وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة رضي الله عنهم وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا.
القول الثاني: عدم الأخذ بالحديث وهو رأي الإمام أبي حنيفة وروى عن مالك، وقد اعتذروا عن عدم الأخذ به بأمور منها:
1- ما يرجع إلى راوي الحديث الذي هو أبو هريرة لأنه ليس بفقيه.
2- ما يعود إلى الحديث لأنه مضطرب.
3- معارضته للقرآن الكريم. ... ...
4- القول بنسخ الحديث.
5- أنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة، وما كان كذلك لا يلزم العمل به- ثم قسمه ابن دقيق العيد إلى مقامين:
أما الأول: وهو أنه مخالف لقياس الأصول فمن وجوه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين وهاهنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانه بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع هاهنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.
الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها ووصفها.(35/46)
الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان موجودا منه عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.
الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط نحالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من يثبته وخيار المجلس عند من يقول به.
الخامسة: يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو إذا ما كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.
السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب وسائر المضمونات.
الثامن: قال بعضهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.
وأما المقام الثاني:
وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة لم يجب العمل به فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والظنون لا يعارض المعلوم.
الإجابة
وقد أجاب الأئمة عن هذه الاعتراضات بما يأتي:(35/47)
1- أما الاعتراض بأنه من رواية أبي هريرة وهو ليس بفقيه فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، فقال الحافظ ابن حجر وهو كلام آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث، ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه
قد أفتى بذلك كما هو ثابت في صحيح البخاري كما تقدم فلو لم يكن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك وقال: قال ابن السمعاني: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة وقد أختص أبو هريرة رضي الله عنه بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له- يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع- وفيه قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا الحديث".
ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة بهذا الأصل فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات عن عمرو ابن عوف المزني وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم ثم قال: قال ابن عبد الله:هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها.
2- وأما قولهم بأنه مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى واعتباره بالصاع تارة وبالمثل أو المثلين تارة وبالإناء أخرىَ.
فالجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها كما تقدم والضعيف لا يعل به الصحيح.(35/48)
3- وأما قولهم بأنه معارض لعموم القرآن كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1) فأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات والمتلفات تضمن بالمثل وغير المثل.
4- وأما قولهم بأن الحديث منسوخ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه لأنهم اختلفوا في الناسخ:
(أ) فقد قال الطحاويَ قال محمد بن شجاع فيما أخبرني عنه ابن أبي عمران، نسخه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت بذلك أنه لا خيار بعدها إلا لمن استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا بيع الخيار ثم قال وهذا التأويل عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب وخيار العيب لا يقطعه الفرقة.
ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا فقبضه، وتفرقا، ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين لا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
فكذلك المبتاع للشاة المصراة فإذا قبضها فاحتلبها، فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين جعلت له في ذلك هذه المدة وهي ثلاثة أيام. حتى يقف على حقيقة ما هي عليه فإن كان باطنها كظاهرها، فقد لزمته واستوفى ما اشترى وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها به.
(ب) ثم قال: وقال عيسى بن أبان: كان ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم في المصراة، بما في الآثار الأول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب يؤخذ بها المال فمن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة أنه من أداها طائعا، فله أجرها وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل.
__________
(1) سورة النحل آية: 126.(35/49)
ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق التمرة التي لم تحرز فإنه يضرب جلدات ويغرم مثليها.
قال فلما كان الحكم في أول الإسلام كذلك حتى نسخ الله الربا أفردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها رد هذا بأن التصرية من فعل البائع فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم والفرض أن حديث المصراة يقتضي تغريم المشتري فافترقا.
(ج) وقال الطحاوي بعد ما ذكر قول عيسى بن أبان وأني رأيت في ذلك وجها هو أشبه عندي بنسخ هذا من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتريَ منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء وحدث بعضه في ملك المشتريَ بعد الشراء إلا أنه احتلبها مرة بعد مرة فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضا وحكمه حكم الشاة لأنه من بدنها هذا على مذهبنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر دين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روى عنه في المصراة مما حكمه حكم الدين.
أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا بقوله بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين وعلى التنزل فالتمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء أكان اللبن موجودا أو غير موجود فلم يتعين في كونه من الدين بالدين (3) .(35/50)
(د) وقيل ناسخه حديث الخراج بالضمان قال الطحاوي قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء ثم سرد روايات الحديث ثم قال وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل أنه يردها ويكون اللبن له وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته ردها على البائع وكان الولد له وكان ذلك عندك، من الخراج بالضمان الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان (4) وقال الحافظ ابن حجر في
الجواب عن هذا وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق (1) فكيف يقدم المرجوح على الراجح. ودعوى كونه بعده لا دليل عليه. وعلى التنزل فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين تعارض.
5- قال ابن دقيق العيد:وقولهم أنه مخالف للأصول فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة في الأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفيه نظر ثم قال وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها:
أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه- يعني أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين- فإن الحر يضمنِ بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة: والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة، وأيضاً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وهاهنا تعذرت: أما الأول: فمن أتلف شاة لبنونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بازاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة. وأما الثاني: وهو أنه تعذرت المماثلة هاهنا فلأن ما يرده من اللبن عوضاً عن اللبن التالف لا يتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.(35/51)
أما الاعتراض الثاني: وهو قولهم أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا- قيل في جوابه:إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر: والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه أن ما يقع فيه من التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى معللا لما تقدم: "فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النزاع والخصام فقطع الشارع النزاع والخصام وقدره بحد لا يتعديانه فصلا للخصومة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه كان قوتهم إذ ذلك كاللبن وهو مكيل كاللبن ومقتات، فاشتركا في كون كل واحد مطعوما مقتاتا مكيلا واشتركا أيضاً في أن كلا منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج".
أما الاعتراض الثالث: وهو أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد-.. الخ فجوابه أن يقال متى يمتنع الرد بالنقص إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن الأول ممنوعاً والثاني مسلماً وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمتنع الرد.(35/52)
أما الاعتراض الرابع: وهو إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول.. الخ الجواب عنه: "إنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها فإن الغالب أن هذه المدة حسي التي يتبين بها لبن الجبلة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب"، وقال الحافظ ابن حجر موضحا لهذا القول: إن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة غيره فلا يستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره".
أما الاعتراض الخامس: وهو قولهم يلزم من القول بظاهر الحديث الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور ... الخ.
والجواب عنه: قيل فيه أن الخبر وارد على العادة والعادة أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف: وقيل أن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض.
أما الاعتراض السادس: وهو أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن ... الخ.
والجواب عنه: أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقابلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.
أما الاعتراض السابع: وهو قوهم إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم ... الخ.
الجواب عنه: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للباب والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو غصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.
أما الاعتراض الثامن: وهو قولهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط ... الخ.(35/53)
قال الحافظ ابن حجر: "الجواب أن الخيار يثبت بالتدليس كمنِ باع رحى دائرة بما جمعه له بغير علم المشتري فإذا اطلع عليه المشتري كان له الرد، وأيضاً فالمشتري لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها فكأن الباب شرط له ذلك فتبين الأمر بخلافه فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر المشتري على صفة فبان الأمر بخلافها كان قد دلس عليه فشرع له الخيار وهذا هو مخص القياس ومقتضى العدل فإن المشتري إنما بذل ماله بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشترىَ منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر وليس هناك عيب ولا خلف في شرط ولكن لما فيه من الغش والتدليس".
قال ابن دقيق العيد: "وأما المقام الثاني وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد فقيل فيه أن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا فتناول الأصل لمحا خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل وعندي إن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول".
وقال الخطابي: "والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب القول به وصار أصلا في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق فالقول به واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له".(35/54)
وقال الحافظ: "ابن حجر والأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما فالسنة أصل والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال أن الأصل يخالف نفسه وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل".
ثم قال: "قال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصلَ آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود باتفاق فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف إلى أن قال والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة لكنها ليست لازمة لأن السنة الثابتة مقدمة عليها والله تعالى أعلم".
وقال ابن القيم:"والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح".
قلت: ولا يخفى ما في هذه الاعتراضات التي اعترض بها على حديث المصراة من التكلف وعسف الأدلة فالواجب على كل منصف أن يقف مع النص ولا يتعداه إلى غديره لأنه جاء عن من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وهو الذي أصل الأصول وبن الحلال من الحرام وقد أمر الله تعالى باتباعه وحذر عن مخالفة أمره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران آية: 31.(35/55)
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
فالخير في الاتباع والشر في مخالفة النصوص وضرب بعضها ببعض.
أما ما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لم يقل بالحديث فقد ذكر الباجي عن ابن القاسم قال: "قلت لمالك أتأخذ بحديث المصراة قال: نعم ثم قال: وقد روى أن مالكا قال لما سئل عن ذلك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ".
وقال: "قال ابن المواز ولم يأخذ به أشهب وقال جاء ما يضعفه أن الغلة بالضمان" فكأن نسبة عدم الأخذ به إلى مالك غير صحيحة لأن المعروف عن مالك رحمه الله العمل به ولعل الذي نسبه إلى مالك ظن أن قول أشهب عن مالك فأخطأ والله تعالى أعلم.
ولعل من حكمة رد الصاع مع المصراة أنه قد يكون من بعض ضعاف النفوس الطمع في لبن المصراة حتى يحلبها ثم يردها بدعوى أنها مصراة فجعل الشارع الحكيم ردعا لمن تسول له نفسه ذلك حتى لا يتلاعب أهل الأهواء بأهل السلع ويفوتون عليهم ألبان المواشي فإذا كان صادقا دفع بدل اللبن صاع تمر ولا يتقدم إلا وهو صادق في دعواه مع أنني لم أجد من قال بهذه العلة. والله تعالى أعلم.
هل حكم التصرية يتعدى إلى غير الإبل والغنم
قال ابن قدامة:جمهور أهل العلم على أنه لا فرق في التصرية بين الشاة والناقة والبقرة وشذ داود فقال: لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث: "لا تصروا الإبل والغنم" فدل على إنما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص والقياس لا تثبت به الأحكام.
__________
(1) سورة النور آية: 63.(35/56)
ثم قال ولنا عموم قوله: "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وفي حديث ابن عمر: "من ابتاع محفلة" (1) ولم يفصل ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام أشبه الإبل والغنم والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أغزر وأكثر نفعا وقولهم أن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع ثم هو هاهنا ثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع أما حكم غير بهيمة الأنعام من الآدميات وغيرها فقد اختلفوا في ذلك فقال الخطابي: "أنه يدخل في حكم المصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوانات في هذا المعنى"
فكأن الخطابي رحمه الله اقتصر على هذا القول ولم يذكر ما قال غيره من علماء الشافعية علما بأن النووي قد ذكر في ذلك ثلاثة أوجه فقال: "لو اشترى أتانا فوجدها مصراة فأوجه الصحيح أنه يردها ولا يرد للبن شيئا لأنه نجس.
والثاني: يردها ويرد بدله، قاله الاصطخري لذهابه إلى أنه طاهر مشروب.
والثالث: لا يردها لحقارة لبنها.
ولو اشترى جارية فوجدها مصراة فأوجه أصحها يردها ولا يرد بدل اللبن لأنه لا يعتاظ عنه غالبا، والثاني يرد ويرد بدله. والثالث لا يرد بل يأخذ الأرش".
وعند الحنابلة وجهان: أحدهما: يثبت الخيار اختاره ابن عقيل لعموم قوله: "من اشترى مصراة ومن أشترى محفلة" ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كخيار تصرية بهيمة الأنعام وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه وملك الفسخ بعدمه ولأن الأتان والفرس يرادان لولدهما.
__________
(1) تقدم تخريجه وما قيل فيه ص.(35/57)
الوجه الثاني: لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لأن قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر واللفظ العام أريد به الخاص، بدليل أنه أحمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاص في الحديث الآخر وعلى الوجه الأول: إذا ردها لم يلزم بدل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن لا يباح عادة ولا يعاوض
عنه.
هذه الخلافات التي ذكروا فيها ولا شك والله تعالى أعلم أن البقر يلحق بالإبل والغنم لأنه يراد منها ما يراد من الإبل والغنم في اللبن ولذلك قال ابن السبكي: "واتفقوا على إثبات الحكم في البقر إما بالنص وإما بالقياس فإن القياس فيها ظاهر جلي وهي في معنى الإِبل والغنم فلذلك اتفقوا على ثبوت الحكم فيها أما ما عدى ذلك من الحيوانات كالجارية والأتان فلا يظهر فيهما أنهما في معنى الأصل المنصوص عليه ... "ثم قال: "والذي تجري أحكام المصراة عليهما فطريقه: إما القياس وإن كان ليس في الجلاء والظهور كالأول- يعني البقر- وإما إدراجها في عموم قول: "من اشترى مصراة"والذي لا تجري عليهما أحكام المصراة طريقة قطع القياس ويتبين أنهما غير داخلين في عموم قوله مصراة إما بأن الاسم غير صادق عليهما عند الإطلاق وإما بإخراجهما من اللفظ بدليل وقد يقال: إن من جملة ما يدل على إخراج الجارية قوله في الحديث: "بعد أن يحلبها "فإن ذلك يقتضي قصر الحكم على ما يصدق عليه اسم الحلب وفي إطلاق الحلب على الجارية نظر"
هل يلزم كون المردود صاعا من تمر أو يجور غيره من أقوات البلد(35/58)
اختلف القائلون بالحديث في حكم ذلك فعند الحنابلة وطائفة من الشافعية يلزم صاعا من تمر أخذا بظاهر أكثر روايات الحديث وحملوا لفظ الطعام على التمر لأنه يطلق في بعض الروايات مقيد في الأخرى حب قضية واحدة والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد
وعند مالك وبعض الشافعية أنه لا يلزم التمر وإنما الواجب غالب قوت البلد لورود الحديث بصاع من طعام جمعا بين ألفاظ الحديث وإنما أطلق التمر لكونه غالب قوت المدينة.
وقد ذكره البهوتي قولا لبعض الحنابلة.
وقال زفر: "يتخير بين صاع من تمر ونصف صاع من بر"
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف بمثل قول زفر إلا أنهما قالا: "لا يتعين صاع التمر بل قيمته"
قال الطحاوي: "وقد كان أبو يوسف قال بهذا في بعض أماليه غير أنه ليس بالمشهور عنه".
وقال الذين أوجبوا التمر: لو كان في بلد لا يوجد فيها التمر أنه لا يلزم المشتري قيمته بالبلد الذي وقع فيه البيع وذلك لأنه بمنزلة ما لو أتلفه.
ثم قالوا: "ولو كان اللبن باقيا بحاله بعد الحلب لم يتغير بحموضة ولا غيرها رده المشتري ولزم البائع قبوله ولا شيء عليه لأن اللبن هو الأصل والتمر إنما وجب بدلا عنه فإذا رد الأصل أجزأ كسائر الأصول مع مبدلاتها كرد المصراة قبل الحلب إذا علم بالتصرية بإقرار البائع أو شهادة من تقبل شهادته".
وقال ابن حزم: "فإن كان اللبن الذي في ضرعها يوم اشتراها حاضرا رده كما هو حليبا أو حامضاً" وقد خالف المالكية في رد اللبن وقالوا: "لأن ذلك يدخله بيع الطعام قبل استيفائه".
وقال ابن قدامه ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه المبدل كسائر المبدلات مع أبدالها. والحديث المراد به رد التمر حالة عدم اللبن لقوله ففي حلبتها صاع من تمر.(35/59)
ولعل الصواب والله تعالى أعلم مع من قال برد اللبن إذا كان موجودا ولم يتغير وسبب هذا الاختلاف اختلاف ألفاظ الحديث حيث ورد بذكر التمر وحده كما في رواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك رواية ابن سيرين ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد وهمام بن منبه.
2- وكذلك ورد بلفظ الطعام كما في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وخلاس ابن عمرو ورواية ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
3- كما ورد بلفظ التمر والخيار ثلاثة أيام كما في رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواية الحسن عن أنس بن مالك، ورواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب.
4- كذلك ورد بلفظ "الطعام" و"الخيار ثلاثة أيام" كما في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدمت هذه الروايات ومن خرجها قال الحافظ فالجمع بين هذه الروايات والذي يظهر في الجمع بينها أن من زاد الثلاث معه زيادة علم وهو حافظ ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنة لم يحفظها أو اختصرها وتحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية.
وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين "لا سمراء"- يعنى الحنطة-.
وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: "لا سمراء ليس ببر"فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله: "لا سمراء"لكن يعكر على هذا الجمع ما رواه البزار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن(35/60)
سيرين بلفظ "إن ردها رد ومعها صاع من بر لا سمراء"وهذا يقتضي أن المنفي في قوله "لا سمراء "حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشامية فيكون المثبت بقوله:"من طعام"أي من قمح ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنه مساويا وذلك أن المتبادر من الطعام البر فظن الراوي أنه البر فعبر به وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر لأنه كان غالب قوت أهل المدينة فهذا طريق الجمع بين مختلف الروايات عن ابن سيرين في ذلك لكن يعكر على هذا ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث الباب وفيه "فإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر"فإن ظاهره يقتضي التخيير بين التمر والطعام وأن الطعام غير التمر ويحتمل أن تكون "أو" شكا من الراوي لا تخييرا وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم ينصح الاستدلال بشيء منها فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها وهي التمر فهي الراجحة كما أشار إليه البخاري.
هكذا جمع الحافظ رحمه الله والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه يحمل على غالب قوت البلد كما هو مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية لثبوت لفظ الطعام كما تقدم عن أبي هِريرة وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما وهذا أيضاَ فيه تيسير للأمة والشريعة وردت بذلك. أما قوله: "لا سمراء" فلعل المقصود منها نوع من الحنطة الخاصة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: "كنا نعطيها- يعني زكاة الفطر- في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين".
وقد وردت الروايات بلفظ الطعام وصحت فالأولى حمله على الأصل وهوِ البر وليس النوع الفاخر من الحنطة ولا الرديء بل المتوسط.(35/61)
ولفظ الطعام عام في كان ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك ولهذا رجحت قوت كل بلد كما في زكاة الفطر لأنها تعطى من قوت كل بلد. والله أعلم.
وبهذا تم البحث وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
قائمة المراجع
ا- القرآن الكريم.
2- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين بلبان الفارسي/ الطبعة الأولى عام 1407 هـ.
3- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: لابن دقيق العيد/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
4- إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني/ المكتب الإسلامي.
5- إعلام الموقعين: لابن القيم الجوزي/ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.
6- بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني للساعاتي/ ط/ الأولى 1355 هـ.
7- التاريخ الكَبير: للإمام البخاري محمد بن إسماعيل/ ط/ دار الكَتب العلمية بيروت.
8- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي: للمباركفوري/ المكتبة السلفية بالمدينة.
9- تفسير القرآن العظيم: لابن كثير/ طبع عيسى البابي الحلبي/ مصر.
10- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار المعرفة/ بيروت.
11- التخليص الحبير: لابن حجر العسقلاني/ طبع السيد هاشم اليماني.
12- التمهيد: لابن عبد البر/ طبع وزارة الأوقاف المغربية.
13- تهذيب السنن: لابن القيم مع مختصر السنن للمنذري/ تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي.
14-تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار صادر- بيروت.
15- الثقات: لابن حبان البستي/ دار الفكر- بيروت.
16- الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ دار الفكر- بيروت.
17- ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي تحقيق الشيخ حماد الأنصاري.
18- روضة الطالبين: للنووي المكَتب الإسلامي.
19- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي.
20- سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي.
21- سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة.
22- سنن أبي داود/ تحقيق الدعاس.(35/62)
23- سنن الدارقطني: عن بن عمر الدارقطني/ طبع عبد الله هاشم اليماني 1386هـ.
24- سنن سعيد بن منصور/ دار الكتب العلمية.
25- السنن الكبى للبيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
26- سنن ابن ماجة/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
27- سنن النسائي/ إحياء التراث العربي.
28- شرح مسلم: للنووي/ المطبعة المصرية ومكتبتها/ القاهرة.
29- شرح معاني الآثار: للطحاوي/ مطبعة الأنوار المحمدية/ القاهرة.
30- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل/ مكتبة النهضة الحديثة بمكة.
31- صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
32- صحيح الجامع الصغير: للألباني/ المكَتب الإسلامي.
33- ضعيف الجامع الصغير: للألباني/ المكتب الإسلامي.
34- علل الحديث/ لابن أبي حاتم عبد الرحمن الرازي/ دار المعرفة.
5 3- عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: للعيني/ تصوير أمين دمج.
36- عون المعبود شرح سنن أبي داود: لشمس الحق العظيم أبادي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة.
37- فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر/ طبع المطبعة السلفية.
38- الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد: للساعاتي/ ط/ االأولى 55 13 هـ.
39- الفردوس: للديلمي/ دار الكتب العلمية.
40- القاموس المحيط: للفيروزبادي/ دار الجيل/ بيروت.
41- قوانين الأحكام: لابن جزي المالكي/ دار العلم للملايين/ بيروت.
42- الكاشف: للذهبي/ تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي.
43- الكافي لابن عبد البر/ الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
44- كشاف القناع: للبهوتي/ مطبعة الحكومة بمكَة.
45- كشف الأستار عن زوائد البزار: للهيثمي/ مؤسسة الرسالة.
46- لسان العرب: لابن منظور/ ط/ دار المعارف.
47- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي/ ط/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
48_ المجموع التكملة لابن السبكي/ دار الفكر.
49_ المحلي: لابن حزم/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
50_ مختصر سنن أبي داود: للمنذري/ ط/ دار المعرفة/ بيروت.(35/63)
51_ المستدرك: للحاكم/ دار الكتاب العربي.
52_ مسند الإمام أحمد/ المكتب الإسلامي.
53_ مسند أبي يعلي أحمد بن علي/ دار المأمون للتراث/ دمشق.
54_ مصنف ابن أبي شيبة: أبو بكر بن أبي شيبة/ دار القرآن الإسلامية.
55_ مصنف عبد الرزاق/ المكتب الإسلامي.
56_ المطالب العالية بزوائد الثمانية: لابن حجر/ تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
57_ معالم السنن: للخطابي مع مختصر المنذري/ دار المعرفة.
58_ معجم الطبراني الأوسط: تحقيق الدكتور محمود الطحان.
59_ معجم الطبراني الصغير: دار الكتب العلمية/ بيروت.
60_ معجم الطبراني الكبير: ط/ الأمة/ بغداد.
61_ معجم مقاييس اللغة: لابن فارس/ ط/ مصطفى البابي الحلبي 1391 هـ.
62_ المغني: لابن قدامة/ تحقيق التركي والحلو.
63_ المنتقى شرح الموطأ: للباجي مصور عن الأولى 1332 هـ.
64_ مورد الظمآن بزوائد ابن حبان: للهيثمي/ دار الكتب العربية.
65_ الموطأ: للإمام مالك/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
66_ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني مكتبة الكليات الأزهرية.
67_ النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير تحقيق الطناحي.(35/64)
إعراب
لا إله إلا الله
تأليف
ابن هشام الأنصاري
تحقيق
د/ حسن موسى الشاعر
أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية
مقدمة
لقد صنف علماؤنا القدامى كثيرا من الرسائل في بيان معنى لا إله إلا الله وفي إعرابها. وقد اطلعت في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة على عدد من الرسائل المخطوطة في ذلك، وهي:
- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. لابن هشام الأنصاري. المتوفى سنة 761 هـ.
- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. للزركشي المتوفى سنة 794هـ.
- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. وتسمى التجريد في إعراب كلمة التوحيد لمصنفها علي بن سلطان القاري. المتوفى سنة 1014هـ.
- إنباه الأنباه على تحقيق إعراب لا إله إلا الله، لمصنفها إبراهيم بن حسن الكوراني، المتوفى سنة 1101هـ.
ولم يطبع من هذه الرسائل- فيما أعلم- سوى رسالة واحدة بعنوان "معنى لا إله إلا الله"للإمام الزركشي.
وهذه رسالة أخرى أقوم بتحقيقها في إعراب لا إله إلا الله، منسوبة إلى ابن هشام الأنصاري، اطلعت عليها في قسم المخطوطات بمكتبة عارف حكمت، فرأيتها تشتمل على فوائد قيّمة وتوجيهات عديدة لم أجدها في غيرها من المصنفات. وهذا ما دعاني إلى الاهتمام بها وتحقيقها، على الرغم من أنها نسخة فريدة.
وقد عانيت كثيراً في إقامة النص، وتقويم العبارات المضطربة، وشرح الوجوه المختلفة، ونسبة الآراء إلى أصحابها. ولا أدّعي الكمال في ذلك، وحسبي أنني بذلت جهدي.
والله أسأل أن يوفقنا ويسدد خطانا، ويهدينا سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
ابن هشام الأنصاري
هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري جمال الدين المشهور بابن هشام.
ولد في القاهرة خامس ذي القعدة سنة 708 هـ، وتلقّى على عدد من علماء عصره، حتى فاق أقرانه، وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم.
قالت ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".(35/65)
وقد ترك ابن هشام عددا من المصنفات ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود، ومن أشهر مصنفاته: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، شرح شذور الذهب، شرح قطر الندى، شرح اللمحة البدرية، التذكرة.
وقد توفي ابن هشام ليلة الجمعة خامس ذي القعدة سنة 1 6 7 هـ. رحمه الله.
نسبة هذه الرسالة إلى ابن هشام:
اطلعت على هذه الرسالة، منسوبة إلى ابن هشام، في مخطوطة فريدة، بمكتبة عارف حكمت، برقم (88) مجاميع. وقد ورد في هذه المخطوطة نسبتها إلى ابن هشام مرتين، مرة في العنوان، ومرة في مقدمة الرسالة.
ولم أجد أحدا ممن ترجم لابن هشام ذكر له هذه الرسالة، ولم أعثر على نسخة أخرى تؤكد نسبتها إليه.
ولكّن الدكتور علي فودة نيل يؤكد نسبتها إلى ابن هشام للأسباب التالية: (ملخصة) :
1- أن ما جاء في مقدمتها من قول المؤلف "أما بعد حمد الله ... "هو المألوف في تقديم معظم مصنفاته.
2- أن منهج التأليف في هذه الرسالة من العرض الشامل للآراء المختلفة ومناقشتها لبيان الراجح والمرجوح شبيه بمنهج ابن هشام.
3- أن بعض ما ذكر في هذه الرسالة من آراء مذكور في كتاب المغني.
4- أن الاعتداد في هذه الرسالة بآراء بعض العلماء السابقين، كابن عمرون، ملحوظ في بعض رسائل أُخر لابن هشام.
ومما يقوي نسبتها إلى ابن هشام أنها ضمن مجموعة من الرسائل مكتوبة بخط عالم مشهور، هو العلامة محمد بن أحمد بن علي البهوتي الشهير بالخلوتي، وهو فقيه حنبلي مصري توفي سنة 1088 هـ.
وعلى الرغم من قوة الأسباب التي تنسب هذه الرسالة إلى ابن هشام، فإنّي لست على ثقة من نسبتها إليه، ومما رابني في ذلك أمور، منها:
1- أن هذه الرسالة لم ترد في مصنفات ابن هشام، ولم يذكرها أحد ممّن ترجم له.
2- أن هذه الرسالة تشير إلى علاقة طيبة بين مصنفها وأبي حيان النحوي الأندلسي المشهور. فقد قال فيها المصنف: "وكنت عرضت هذا النظر على شيخنا أبي حيان، فقال ... ".(35/66)
ومن المعروف أن ابن هشام لم يكن على وفاق مع أبي حيان، بل كان كثير المخالفة له، شديد الانحراف عنه.
ومهما يكن من أمر فستبقى هذه الرسالة تذكر لابن هشام حتى يثبت خلاف ذلك بأدّلة قاطعة. والله أعلم.
موضوع الرسالة
هذه رسالة قيّمة تكتسب قيمتها من أهمية الموضوع الذي تعالجه، وهو إعراب الاسم الواقع بعد إلا من كلمة التوحيد، في قولنا: "لا إله إلا الله".
وقد ذكر المصنّف في هذه الرسالة جواز الرفع والنصب في الاسم الواقع بعد "إلا"من كلمة التوحيد، فقال: يجوز الرفع فيما بعد إلا والنصب. والأول أكثر، نص على ذلك جماعة منهم العلامة ابن عمرون في شرحه على المفصّل. وظاهر كلام ابن عصفور والأبذيَ يقتضي أن النصب على الاستثناء أفصح، أو مساو للرفع على بعض الوجوه ...
وقد فصّل المصنّف كثيرا في بيان أوجه الرفع والنصب، مع المناقشة والاستدلال والترجيح، فذكر للرفع ستة أوجه وللنصب وجهين. وهذا موجز للأوجه المختلفة:
فأما الرفع فمن ستة أوجه، وهي:
1- أن خبر "لا"محذوف، و"إلا الله"بدل من موضع لامع اسمها، أو من موضع اسمها قبل دخولها. وهذا هو الإعراب المشهور لدى المتقدمين وأكثر المتأخرين.
2- أن خبر لا محذوف، كما سبق، والإبدال من الضمير المستكن فيه. وهذا الإعراب اختاره بعض.
3- أن الخبر محذوف أيضا، و"إلا الله "صفة لـ "إله"على الموضع، أي موضع لا مع اسمها، أو موضع اسمها قبل دخول "لا".
4- أن يكون الاستثناء مفزعا، و"إله"اسم "لا"بني معها، و"إلا الله"الخبر. وهذا الإعراب منقول عن الشلوبين، ونقله ابن عمرون عن الزمخشري.
5- أن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. وهذا الإعراب منسوب للزمخشري.
6- أن تكون "لا"مبنية مع اسمها، و"إلا الله"مرفوع بـ "إله"ارتفاع الاسم بالصفة، واستغني بالمرفوع عن الخبر، كما في مسألة: ما مضروبٌ الزّيدان، وما قائِمٌ العَمْران.
وأما نصب ما بعد "إلا"فمن وجهين:(35/67)
1- أن يكون على الاستثناء، إذا قدر الخبر محذوفا، أي لا إله في الوجود إلا الله عز وجل.
2- أن يكون الخبر محذوفا، كما سبق، و"إلا الله" صفة لاسم "لا"على اللفظ، أو على الموضع بعد دخول "لا"لأن موضعه النصب.
ثم ختم المصنف الرسالة بقوله: وقد تلخّص في "لا إله إلا الله"عشرة أوجه، غير أن في البدل من الموضع إما من موضع اسم لا قبل الدخول، وإما من لا مع اسمها، فيتقدر سبعة. والنصب من وجهين إلا أن في وجه الصفة إما أنه صفة للفظ اسم لا إجراء لحركة البناء مجرى حركة الإِعراب، وإما أن يكون صفة لموضعه بعد دخول لا، فيتقدر ثلاثة مع السبعة، فتلك عشرة كاملة. والذي في كلام ابن عصفور من ذلك أربعة أوجه، وهو أكثر من وسع في إلا من الأوجه ...
دراسة للاسم الواقع بعد إلاّ في الشواهد اللغوية
بعد الفراغ من تحقيق هذه الرسالة، قمت بدراسة وصفية، تتبعت فيها ما أمكن من الشواهد اللغوية لحالات الاسم الواقع بعد إلا، في نصوص القرآن الكَريم والحديث النبوي والشعر العربي التي جاءت على نمط "لا إله إلا الله"، للمقارنة بين الواقع اللغوي لهذه النصوص، وما ورد في هذه الرسالة من جواز الرفع والنصب، فكانت النتيجة أن رفع الاسم الواقع بعد إلا هو الفصيح الغالب في اللغة، بل لم يرد في القرآن الكَريم والحديث النبوي غيره، وأما النصب فقد ورد في بعض الأبيات الشعرية على قلّة.
وقد جاءت الدراسة على النحو التالي:
(1) في القرآن الكريم: تتبعت الآيات القرآنية التي وردت فيها "لا إله إلا الله"أو ما كان على وفق هذا الأسلوب، فوجدتها كلها جاءت برفع الاسم الواقع بعد "إلا"، ولم تأت قراءة واحدة، ولو شاذة؟ بالنصب.
وهذه هي الآيات مع السور التي وردت فيها في القرآن الكريم:
أ- {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه} : الصافات (35) ، محمد (19) .(35/68)
ب- {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} : البقرة (163، 255) ، آل عمران (2، 6، 8 1) ، النساء (87) والأنعام (102، 106) ، الأعراف (158) ، التوبة (31، 129) ، هود (14) ، الرعد (30) ، طه (8، 98) ، المؤمنون (116) ، النمل (26) ، القصص (0 7، 88) ، فاطر (3) ، الزمر (6) ، غافر (3، 62، 65) ، الدخان (8) ، الحشر (22، 23) ، التغابن (13) ، المزمل (9) .
جـ_ {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} : النحل (2) ، طه (14) ، الأنبياء (25) .
د- {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ} : الأنبياء (87) .
هـ _ {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} : الأنعام (17) ، يونس (107) .
ق قال أبو جعفر النحاس في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (1) : ويجوز في غير القرآن: لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء.
وكرر هذه العبارة بعينها القرطبي عند حديثه عن هذه الآية.
وقال الزجاج: ولو قيل: لا رجل عندك إلا زيداً جاز. ولا إله إلا اللهَ جاز. ولكن الأجود ما في القرآن، وهو أجود أيضا في الكلام. قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) . فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء.
(2) في الحديث النبوي:
وردت كلمة الشهادة (لا إله إلا الله) في مواضع كثيرة من الحديث، وجاءت كلها بالرفع، ومن ذلك:
أ- في صحيح البخاري، ومعه فتح الباري (1/103) ، (129) .
ب- في صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 183) ، (188) ، (197) ، (206) .
جـ- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الإِقامة إلا المكتوبة".
قال أبو البقاء العكبري: الوجه هو الرفع على البدل من موضع لا، والنصب ضعيف، وقد بين ذلك في مسائل النحو، ومثل ذلك: لا إله إلا الله.
د- وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شفاءَ إلا شفاؤك".
قال العكبري: "شفاؤك"مرفوع بدلا من موضع "لا شفاء"ومثله لا إله إلا الله.
(3) في الشعر:
أ- قال الشنفري في لا ميّته:
__________
(1) البقرة 255.
(2) الصافات 35.(35/69)
نصبت له وجهي ولا كِنّ دُونَهُ
ولا سترَ إلا الأتْحَمِيُّ المُرَعْبَلُ
قال الزمخشري: "كّن"مبنية مع لا لتضمنها معنى من المقدرة بعد لا. ودونه: في موضع رفع، أي لا كنّ استقر دونه، وهو خبر لا ... والأتحمي: بدل من موضع لا واسمها، لأن موضعهما رفع على أنه مبتدأ. وهو مثل قولنا (لا إله إلا الله) ، كأنه قال: الله الإله.
وقال أبو البقاء: الأتحمي: بدل من موضع لا واسمها. لأن موضعها رفع، ومثله قولنا (لا إله إلا الله) .
ب- وقال الشاعرِ:
إلاّ الضَّوابِحَ والأصْداءَ والبُوما
مَهامِهاً وخروقاَ لا أَنيسَ بها
جـ- وقال آخر:
أمرتكمُ أمري بمُنعَرجِ اللّوي
ولا أَمْرَ لِلْمَعصيِّ إلاّ مُضَيَّعاَ (1)
هذان البيتان استشهِد بهما الرضي على أن النصب بعد إلا فيهما قليل، كما في قولك: لا أحد فيها إلا زيداَ.
واستشهد سيبويه بالبيت الثاني منهما على أن "مضيعا"نصب على الحال. قال سيبويه كأنه قال: للمعصي أمرٌ مُضَيَّعاَ. كما جاء: فيها رجلٌ قائماً. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضاً على قوله: لا أحد فيها إلا زيداً.
قال ابن السيرافي: يريد أن "مضيَّعا"قد ينتصب أيضا على غير وجه الحال، على أن يكون مستثنى من "أمر"في قوله "ولا أمر"، كما استثني زيد من رجل، في قوله: لا رجل فيها إلا زيدا. وكأنه قال: ولا أثر للمعصي إلا أمراً مُضيعا، فحذف المنعوت وقام النعت مقامه.
ووقوال الأعلم (1) : ونصف "مضيعا"على وجهين: أجودهما الحال، وحرف الاستثناء قد يدخل بسم الحال وصاحبها ... والوجه الآخر أنه نصب على الاستثناء بعد النفي، والوجه البدل من موضع لا، كما أن الرفع على البدل من موضع لا في (لا إله إلا اللَّهُ) أقوى من النصب بالاستثناء.
نسخة الرسالة الخطية
__________
(1) من أبيات للكحلبة العرني، الخزانة 3/ 385.(35/70)
لهذه الرسالة نسخة خطية فريدة تقع في اثنتي عشرة صفحة، ضمن مجموع يضم 15 رسالة بمكتبة عارف حكمت برقم 88 مجاميع. وهي الرسالة التاسعة في المجموع، وتقع من ورقة 29- 34. وقد كتبت بخط نسخي عادي، بخط العلامة محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الشهير بالخلوتي. وفي الصفحة نحو 27 سطرا وفي السطر 10 كلمات تقريبا.
وقد ورد في آخر الرسالة الأولى ورقة 3: وعلقه لنفسه أفقر العباد، وأحوجهم إلى عفو ربه العلي محمد بن أحمد البهوتي الحنبلي، في يوم الجمعة المبارك ثاني عشر ذي القعدة من شهور سنة 1038 من الهجرة النبوية.
والنسخة كاملة واضحة، ولكنها لا تخلو من التحريف والاضطراب والغموض في بعض المواضيع.
وقد عملت على خدمة النصر وضبطه وتوثيق محا شيه، والتعليق عليه، ما أمكن، لتوضيح الجوانب الدقيقة لكل مسألة.
وبالله التوفيق، والحمد لله أولا وآخرا.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قال الشيخ العلامة جمال الدين [عبد الله بن] يوسف بن هشام الأنصاري، رحمه الله تعالى، ونفعنا بتحقيقاته:
أما بعد حمد الله، والصلاة على رسوله محمّد، صلى الله عليه وسلم، فهذه رسالة كتبتها في إعراب لا إله إلا الله سألني في وضعها بعض الأصحاب، فأجبته مستمداً من الكريم الوهاب.
[جواز الرفع والنصب في الاسم الواقع بعد إلاّ] :
يجوز الرفع فيما بعد إلا، والنصب. والأوّل أكثر.
نص على ذلك جماعة منهم العلاّمة محمد بن [محمد] بن عمرون في شرحه على المفصّل. وظاهر كلام ابن عصفور والأبذي يقتضي أن النصب على الاستثناء أفصح، أو مساو للرفع على بعض الوجوه، كما سيأتي تقريره.
[أوجه الرفع] :
فأما الرفع فمن ستة أوجه:
أولها: أن خبر "لا"محذوف، و"إلاّ الله"بدل من موضع لا مع اسمها، أو من موضع اسمها قبل دخولها. وقع للنحويين الحَمْلان.
وهذا الإِعراب مشهور في كلام جماعة من أكابر هذه الصناعة، قيل أطبق عليه المعربون من المتقدمين وأكثر المتأخرين.(35/71)
قلت: وقد استشكل من قاعدة أن البدل لا بد أن يصحّ إحلاله في محل المبدل منه، وهو على نيِّة تكرار العامل. ولا يصحّ تكرار "لا"لو قلت: إلا عبد الله في قولك: لا أحد فيها إلا عبد الله. لم يجزْ.
وأجاب الشلوبين بأن هذا في معنى، ما فيها من أحدٍ إلاّ عبدُ الله، ويمكنك في هذا الإحلال.
قال ابن عصفور، رحمه الله تعالى: وهذا الإشكال لا يتقرر، لأنه لا يلزم أن يحلّ "أحد"الواقع بعد إلاّ، إنما يلزم تقدير العامل في المبدل منه، والعامل في المبدل منه الابتداء، فإذا أبدلت منه كان
مبتدأ، وخبره محذوف. والتقدير في "لا أحد فيها إلاّ عبد الله: لا فيها [أحدٌ] إلا عبدُ الله.
وهذا فيه تأمل يظهر بما ذكره النحويون، في مسألة (ما زيدٌ بشيءٍ إلا شيءٌ لا يعبأ به) من أن "إلاّ شيء"بالرفع لا غير على اللغتين.
أما عند بني تميم فلأنّ (بشيء) في محل رفع، وتعذّر حمله على اللفظ لأن الباء لا تزاد في الإيجاب.
وأما عند أهل الحجاز فلأنهم وإن أعملوا ما، و"بشيء"في محل نصب عندهم، فإعمالها مشروط بعدم انتقاض النفي. فما بعد "إلا"لا يمكن تقدير عملها فيه، والبدل على نية التكرار، ولذلك قال سيبويه: وتستوي اللغتان.
وقد زعم ابن خروف أن مراده بالاستواء فيما قبل إلاّ وفيما بعدها من المستثنى والمستثنى منه.
قال ابن الضائع: "وغلط الأستاذ أبو علي في النقل عنه، فنقل الاستواء فيما بعد إلاّ، لا فيما بعد المجرور، حتى يرد عليه بأنه لا يجوز بدلا مرفوع من منصوب".(35/72)
قال ابن الضائع: وعِندي أن القياس أن يبقوا على لغتهم في المجرور، وإلا كان يلزم الرفع في قولنا: ما زيدٌ قائماَ بل قاعدٌ، وكذا في لكنْ. ولم ينقل عن الحجازيين رجوعهم إلى اللغة التميمية في ذلك. وإنما نقل عنهم الرفع فيما بعد بل ولكن على جهة الابتداء. (1) فهاهنا ينبغي أن يرجع فيما بعد "إلا"على النصب على الاستثناء. فقول سيبويه: استوت اللغتان في الرفع، ينبغي أن يحمل على ما بعد إلاّ. ولا حجة لهم في قول سيبويه: وصارت "ما"على أقيس اللغتين، فإنه يمكن حمله على ما بعد إلاّ، كما قالوا في: ما زيد إلا منطلق، رجعوا إلى اللغة التميمية.
ويقوّى أنه يريد ما بعد إلاّ، تقديره وقوله: كأنك قلت: ما زيد إلا شيء لا يعبأ به.
وقول الأستاذ "لا يبدل مرفوع من منصوب"، جوابه أن البدل هنا بالحمل على المعنى. فإن الشرط في البدل تقدير تكرار العامل، فإن العامل يتكرر على أن البدل مرفوع. ويظهر البدل هنا في أنه لا يعمل فيه اللفظ المتقدم العامل في المبدل منه، بل الابتداء قولهم "لا إله إلا الله"، ألا ترى أنه بدل على تقدير مالنا أو ما في الوجود. ولا يجوز تقدير لا في الوجود إلا الله، لأن "لا"لا تلغى إلا مكررة. وكذا البدل هنا على تقدير: ما زيد إلا شيء. وكأن "ما"لها عملان، عمل فيما بعد إلا وهو الرفع، وعمل فيما قبلها وهو النصب، فترك الأول على أحد العملين، وحمل الثاني، وهو ما بعد إلا، على العمل الآخر. انتهى.
وفي كلامه نظران:
__________
(1) قال الأشموني: 1/250: وإنما وجب الرفع لكونه خبر مبتدأ مقدّر، ولا يجوز نصبه عطفا على خبر ما، لأنه موجب وهي لا تعمل في الموجب، تقول: ما زيد قائماً بل قاعد، وما عمرو شجاعاً لكن كريم، أي بل هو قاعد، ولكن هو كريم ...(35/73)
الأول: قوله "ولا يجوز تقدير لا في الوجود إلا الله "ليس معنا في اللفظ إلاّ "لا" واحدة وهي عاملة. نعم إذا أعربناه على ما سبق بدلا نوينا تكرار لا، وانتفى عمل تلك المقدرة بالدخول على المعرفة. ومن أين لزوم التكرار لتلك المقدّرة. ولو قيل إنها تكررت في الجملة كان كافيا في جوابه.
الثاني: جعله باب "لا إله إلا الله "وباب "ما زيدٌ بشيءٍ إلا شيء"سواء. ولقائل أن يقول بينهما فرق، بأن "الله "مرفوع بدلا من منصوب.
وقد يعتذر له عن الثاني بأن "إلا الله "بدل من موضع اسم لا، لا من "لا"مع اسمها. بل لا يفتقر إلى ذلك جميعه، فإن العامل المقدر مع البدل هو الابتداء، وهو صالح للعمل في البدل والمبدل منه، كما تقدم في كلام ابن عصفور.
وقد رأيت في المجد المؤثل مما كتبته على المفصّل أن الرفع في "ما زيد بشيء إلا شيء"يحتمل ثلاثة أوجه: إما البدل من جهة المعنى كما سبق، وإما على موضع "بشيء" قبل دخول "ما"، وإما على أن الرفع في الثاني هو الرفع في الأول، لو اتصف الأول بصفته من الإِثبات. وشبهت ذلك بمسألة التنزيل في توريث ذوي الأرحام في الفرائض، أي إعطاء الذكر ما للأنثى التي أدلى بها، وبالعكس، مع مراعاة العدد منه نفسه، فليتأمل.
ثانيها: أن خبر "لا"محذوف، كما سبق، والإبدال من الضمير المستكن فيه. وهذا لا كلفة فيه، واختاره بعض المتأخرين.
ثالثها: أن الخبر محذوف كما سبق، و"إلا الله "صفة لإله على الموضع، أي موضع لا مع اسمها، أو موضع اسمها قبل دخول "لا".
ولا يستنكرون وقوع "إلا" صفة، فقد جاء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1)
__________
(1) سورة الأنبياءْ آية:22.
قال ابن هشام في المغني 74: "إلاّ"تكون صفة بمزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه. فمثال جمع المنكر (لو كان فيهما آلهةُ إلا اللهُ لفسدتا) ...
وقال العكبري في التبيان في إعراب القرآن 2/914: "إلا الله"الرفع على أنّ " إلا"صفة بمعنى غير.
(وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/388. معنى لا إله إلا الله للزركشي 82) .(35/74)
ويصير المعنى: لا إلهَ غير الله في الوجود. وقد جاء {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) بالوصف، لكنّ الخبر المحذوف قدّره بعضهم "في الوجود"، وقدّره بعضهم "كائن"، وبعضهم "لنا".
قيل والتقديران الأولان أولى من حيث كونه أدل على التوحيد المطلق من غير تقييد. ولذلك جاء {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وأعقب بقوله {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (2) .
وقد يقال إذا قدِّر "لنا"فالمراد لنا أيها العالَم الذي هو كل موجود سوى الله عز وجل، فاتحدت التقادير.
وقد ردّ الإمام فخر الدين على من قدر الخبر "في الوجود"لأن هذا النفي عام
مستغرق، فتقييده بالوجود مخصص، فلا يبقى النفي على عمومه المراد منه، فلا يكون هذا إقرارا بالوحدانية على الإطلاق.
قال الأندلسي: "لا إله حقيقة إلا من له الخلق والأمر، لابد أن يكون موجودا فينعكس بعكس النقيض فما ليس موجودا ليس بإله. والمراد بقوله "في الوجود"مسمى الوجود الصادق على العيني والذهني، فنفي الإله عن الوجود نفي لحقيقته".
وفي ريّ الظمآن: "لا يتصور نفي الماهية عندنا إلا مع الوجود. هذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة فإنهم يثبتون الماهية عارية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك".
رابعها: أن يكون الاستثناء مفرغا، و"إله "اسم "لا"بني معها، و"إلاّ الله "الخبر.
وهذا منقول عن الشلوبين فيما علّقه على المفصل، ونقله عن الزمخشري في حواشيه ابن عمرون، وإن كان في المفصل قال غيره، وذهب إلى أن الخبر محذوف.
ومقتضى كلام ابن خروف، على ما نقله عنه ابن الضائع قول الشاعر:
ألا طعان ألا فُرسانَ عاديةً
ألا تجشّؤُكم حوَلْ التنَّانير
من أنه أعرب (إلاّ تجشؤكم) خبر لا، لكن ردّه عليه بوجهين، أحدهما: أن "لا"لا تعمل في الموجب. الثاني: أنها لا تعمل في الموجب مع المعرفة، وهما لازمان لإعراب "إلاّ الله "خبرا.
__________
(1) سورة الأعراف آية: 59 وغيرها.
(2) سورة البقرة آية: 163.(35/75)
وفي الوجهين نظر، لأنّ "لا "عند سيبويه وجمهور البصريين لا عمل لها في الخبر إذا بني الاسم معها. وقولك لا رَجُلَ حاضرٌ، بمثابة: هل مِنْ رجلٍ حاضر؟ الجواب كالسؤال.
واستدل لذلك ابن عصفور في شرحه للإيضاح بجواز حمل جميع التوابع لاسمها على الموضع قبل الخبر.
والقائل إن "لا"ترفع الخبر الأخفش وتابعوه.
وبنى ابن عصفور على الاختلاف جواز: لا رجلَ ولا امرأة قائمان. على القول
الأول، وامتناعه علىَ الثاني. مع أن كلام أبي البقاء في اللباب، وابن يعيش في شرح المفصل ما يوهم أن خلاف سيبويه والأخفش في "لا"مطلقا المبني معها الاسم والمعرب، حيث عللا مذهب سيبويه بضعف عمل لا.
ولكن ابن مالك في التسهيل نقل الاتفاق على عمل "لا"في الخبر إذا كان اسمها معربا، واختار قوله الأخفش فيما إذا بني الاسم معها.
ورتب أبو البقاء على الخلاف أن قوله الشاعر:
فلا لَغْوٌ ولا تأثيم فيها
وما فاهوا به أبداً مُقيم
لا يحتاج إلى تقدير "فيها"عند سيبويه، بل الثابت "فيها"خبر الاثنين، ويحتاج لتقدير "فيها"أخرى عند سيبويه في أحد قوليه، وعند الأخفش.
وكنت عرضت هذا النظر على شيخنا أبي حيان فقال: كلام ابن الضائع محمول على مذهب من يرى أنها عاملة في الخبر مطلقا. ثم اعترض عليه من وجه آخر، وهو أنه يلزم أن تعمل "لا" في المعرفة. وهذا إن تم به الاعتراض على الأخفش فسيبويه سالم منه، حيث يقول إن "لا"لا عمل لها في الخبر.
على أن ابن عمرون حين نقل هذا الإِعراب عن الزمخشري في الحواشي، ردّه بأن المعرفة لا تكون خبراً عن النكرة. فيقال له هذا لا يضر سيبويه إذا كان مع النكرة ما يسوغ الإخبار عنها، وهي متقدمة على المعرفة حفظا للأصول، وقد أعرب: كم جربيا أرضك؟ مبتدأ مقدما وخبرا مؤخرا.(35/76)
على أن ما ذكره ابن الضائع من أن "لا"لا تعمل في الموجب، قد يقال فيه إن تلك "لا"العاملة عمل ليس، من حيث إنها إنما عملت للشبه بليس من جهة النفي، فإذا زال النفي زال الشبه فزال العمل. أما لا النافية للجنس فعملها إنما هو بالحمل على إن، وهي للإثبات.
وقد قال العطار في شرح الكراسة: إذا قلت "لا فيها رجل"رفعت على الابتداء لا غير، لأنه لا يتقدم خبر "ما"الحجازية، يعني "لا"العاملة عمل ليس. وإلا فالعاملة عمل إنّ امتناع التقديم فيها لأجل تركبها مع لا. وإن حملت كلامه على الإِطلاق، فالكلام معه كالكلام مع ابن الضائع.
وقد ردّ ابن الحاجب على من جعل "إلا الله "خبرا. وسبق إلى ذلك الأندلسي، قال: لأنه مستثنى من الاسم، ولا يجوز أن يكون المستثنى خبرا عن المستثنى منه، لأنه مبين له. ويمكن أن يقال لا نسلّم أن الاستثناء إخراج من المحكوم عليه بل من الحكم. سلّمنا أنه إخراج من المحكوم عليه، لكن المستثنى منه المحكوم عليه ليس اسم "لا"الذي أخبر عنه بـ "إلا الله"، إلا أنه حذف لقصد التفريغ وأقيم المستثنى مقامه، وأعرب بإعرابه.
وهذا فرق ما بين الأقوال السابقة. وهذا حيث جعلنا الاستثناء فيها تاما، وهنا مفرغا، مع أن الخبر وهو "موجود"فيهما محذوف. إلا أن ذلك حذف لمحذوف محكوم له بحكم الثابت، وهذا فيه حذف لمحذوف معرض عنه في الإعراب.
وقد ردّ أبو البقاء العكبري هذا الإعراب أيضا في شرح الخطب النباتية، بأنه يلزم منه الإخبار بالخاص عن العام، وهذا مع الإخبار بالمعرفة عن النكرة.
ويمكن أن يقال إنما يمنع ذلك في الإثبات، كقولنا: الحيوان إنسان. أما في النفي
فلا. وقد ردّ ابن عمرون قول من جعل "إلا الله"خبرا بجواز نصب "إلا الله"على الاستثناء، ومحال نصب خبر لا المشبهة بأن، وإن كان الرفع المشهور. انتهى.(35/77)
ولقائل أن يقول إذا نصبنا لم نعتقد الخبر إلا محذوفا. ولا يحسن الرد بهذا على من جعل "إلا"خبرا، مع تجويزه الوجوه السابقة. والله أعلم.
خامسها: أن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. ذكر ذلك الزمخشري في كلام تلقفه عنه بعض تلامذته، وكتب ما ملخصه: اعلم أن متقدمي الشيوخ ذهبوا إلى أن قولنا: لا إله إلا الله، كلام غير مستقل بنفسه، بل بتقدير خبر، أي في الوجود، أو موجود، أو لنا. تقدير قولنا: لا رجلَ في الدار إلا زيدٌ. فجعلوا الكلام جملتين. وليس كذلك، ولا يحتاج إلى تقدير، لأن الكلام لا يخلو من وجهين: أحدهما أصل الكلام. الثاني: تفريع يزيد الكلام تحقيقا، وفائدة زائدة.
نحو: ما جاءني رجل. يفيد نفي واحد غير معين، فيجوّز السامع مجيء اثنين. [فلذلك يصحّ أن يقول: ما جاءني رجل بل رجلان] . فإذا قيل: ما جاءني من رجل، [فيعلم السامع أنه لم يجئه أحد من جنس الرجال] ، فلم يصحّ: ما جاءني من رجل بل رجلان.
وكذا {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1) و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} (2) ، لو لم يأت بـ "ما"جوّزنا أن اللين واللعن كانا للسببين المذكورين ولغيرهما، وحين دخلت "ما"قطعنا بأن اللين لم يكن إلا للرحمة، وأن اللعن لم يكن إلاّ لأجل نقض الميثاق.
والاستثناء من تفريعات الكلام يزيده تأكيداً، فأصل الكلام: جاءني زيد.
__________
(1) سورة آل عمران آية: 159.
قال الزجاج: "ما بإجماع النحويين هاهنا صلة لا تمنع الباء من عملها فيما عملت، المعنى فبرحمة من الله لنت لهم. إلا أن ما قد أحدثت بدخولها توكيد المعنى.. (انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/482) .
وقال الزمخشري في الكشاف 1/226: "ما"مزيدة للتوكيد، والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله، ونحوه (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) . (وانظر: الدر المصون للسمين 3/460، 4/142) .
(2) سورة المائدة آية: 13.(35/78)
وهذا لا يقتضي قطع السامع بأن غير زيد لم يجيء، فإذا أريد جمع المعنيين، مجيء زيد ونفي مجيء، غيره قيل: ما جاءني إلا زيد.
وكذا في مسألتنا: الله إله، يوازن: زيد منطلق. فلما فرّع عليه وقيل "لا إله إلا الله"أفاد الفائدتين: إثبات الإلهية لله تعالى، ونفيها عمّا سواه.
فإذن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. يوضح هذا أن "لا"تطلب النكرة أبدا، لا تقول: لا زيد منطلق. والمبتدأ يجب أن يكون معرفة والخبر نكرة.
ثم تكلم بكلم آخر. [انتهى ملخص كلام الزمخشري] .
وهذا الإعراب ارتضاه جماعة منهم ابن الحاجب وبعض مشايخنا، وذكره في ابتداء تدريسه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، رحمه الله، بالقاهرة، وأنكره بعض العلماء، ولم يبين لفساده معنى، وقد رُدّ بمخالفته الإجماع من وجهين: أحدهما أن "لا"إنما يبنى معها المبتدأ لا الخبر. الثاني: جوار النصب بعد إلاّ.
وفي بقية الكلام المنسوب للزمخشري، رحمة الله عليه، تعقّب.
سادسها: أن تكون "لا"مبنية مع اسمها، و"إلا الله"مرفوع بإله، ارتفاع الاسم بالصفة، واستغني بالمرفوع عن الخبر، كما في مسألة: ما مضروب الزيدان، وما قائم العمران.
وشجعني على ذلك قول الزمخشري رحمه الله تعالى: إله بمعنى مألوه، من أُلِه إذا عُبِد. ولو قلت: لا معبود إلا الله، لم يمتنع فيه ما ذكرت.
وعلى ذلك اعتراضان: الأول أن هذا الوصف الرافع لمكتفى به ينظر في دخول النواسخ عليه، فقد منع سيبويه: إنّ قائماً أخواك.
الثاني: أنه على تقدير عمل "إله"يكون ذلك مطوّلا فيقتضي ذلك تنوينه. والتطويل كما يكون بالعمل نصبا، كذلك يكون بالعمل رفعا.
ففي مسائل ابن جني رحمه الله تعالى، لشيخه ت إذا قلت: يا منطلق وزيد، وعطفت على المرفوع في منطلق، وقلت إنّ العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، أتنصب "منطلق"أم ترفعه؟ فاستقر أمرهما بعد محاورة طويلة على أن ينصب، وأنه مطوّل.(35/79)
والجواب عن الأول: أن الأخفش قد أجاز: إنّ قائما أخواك. ومنع سيبويه لها إنما هو لعدم مسوغ الابتداء بالنكرة.
قال بعض الفضلاء من أهل العصر، وقد عرضت ذلك عليه وارتضاه: قد خطر لي أن نحو "ليس قائم أخواك"يتفق الإمامان على إجازته.
وعن الثاني: أن ابن كيسان اختار حذف التنوين من نحو ذلك، وجعل منه {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} (1) و {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} (2) . وإن كان جمهور البصريين يؤولون ذلك.
قال بعض مشايخنا: وأرى أن مذهب ابن كيسان أولى لعدم التكلف.
[وجها النصب] :
وأما النصب في "إلا الله"فمن وجهين:
أولهما: أن يكون على الاستثناء إذا قدر الخبر محذوفا، أي لا إله في الوجود إلا الله عز وجل. ولا يرجح عليه الرفع على البدل، كما هو مقدر في الاستثناء التام غير الموجب، من جهة أن الترجيح هناك لحصول المشاكلة في الإتباعِ دون الاستثناء. حتى لو حصلت المشاكلة فيهما استويا، نحو: ما ضربت أحداً إلا زيدا.
نص على ذلك جماعة منهم الأُبذي رحمه الله تعالى. بل إذا حصلت المشاكلة في النصب على الاستثناء وفاتت في الإتباع ترجح النصب على الاستثناء. وهذا كذلك يترجح النصب في القياس، لكن السماع والأكثر الرفع. ولا يستنكر مثل ذلك، فقد يكون الشيء شاذا في القياس وهو واجب الاستعمال. وليس هذا موضع بسط ذلك.
وقاك أبو الحسن الأبذي في شرح الكراسة: إنك إذا قلت: لا رجل في الدار إلا عمرو، كان نصب "إلا عمرو" على الاستثناء أحسن من رفعه على البدل، لما في ذلك من المشاكلة.
__________
(1) سورة الأنفال آية:48.
(2) سورة يوسف آية: 92.(35/80)
على أن أبا القاسم الكرماني رحمه الله تعالى، قال في كتاب الغرائب، في قوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (1) : ولا يجوز النصب هنا، لأن الرفع يدل على أن الاعتماد على الثاني، والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول. يعني إنك إذا أبدلت فما بعد إلا مسند إليه كالذي قبلها، إلا أن الاعتماد في الحكم على البدل، وإذا نصبت فما بعد إلا ليست مسندا إليه، إنما هو مخرج.
وقد اعترض عليه بأنه لا فرق في المعنى بين قولنا: ما قام القوم إلا زيدٌ وإلا زيداً، إلا من حيث ان الرفع أولى من جهة المشاكلة.
وكلام الكرماني لا يقتضي منع النصب مطلقا، بل في الآية من جهة الأرجحية التي يجب حمل أفصح الكلام عليها.
وقي كلام بعضهم أرجحية الرفع لأن فيه إعراضا عن غير الله تعالى وإقبالا عليه بالكلية. وأما الاستثناء فيقتضي الاشتغال بنفي السابق وإثبات اللاحق، ففيه اشتغال بهما جميعاً. وهذا قد يرجح به النصب.... (2)
ثانيهما: أن يكون الخبر محذوفا كما سبق، و"إلا الله "صفة لاسم "لا"على اللفظ. وفي عبارة بعضهم أو على الموضع بعد دخول "لا"، وهما متقاربان كما سبق مثلهما في اللفظ.
قال الأبذيَ: ولا يجوز البدل من اسم "لا"عام اللفظ، يعني في: لا رجلَ في الدار إلا، زيداً، لأن البدل في نية تكرار العامل، ولو قدر فسد المعنى، وعملت "لا"في المعرفة. انتهى.
وقال ابن الحاجب، رحمه الله تعالى: لأن "لا"إنما عملت للنفي. وفيه ما سبق.
وقال النيلي: "وإن شئت قلت إنَّ "مِنْ "مقدرة في النفي إذا كان مفردا، وجاء بعد إلا موجب لا يصح تقدير "من "فيه. وقيل لأن تقدير "لا" يقتضي النفي، ووقوعه بعد إلا يقتضي الإثبات، فيفضي إلى التناقض".
وقد تلخص في "لا إله إلا الله"عشرة أوجه: الرفع من ستة أوجه، غير أن البدل من الموضع إما من موضع اسم لا قبل الدخول، وإما من لا مع اسمها، فيتقدر سبعة.
__________
(1) سورة البقرة آية: 163 وغيرها.
(2) في المخطوطة نحو سطر غير واضح.(35/81)
والنصب من وجهين إلا أن في وجه الصفة، إما أنه صفة للفظ اسم لا إجراء لحركة البناء مجرى حركة الإعراب، وإما أن يكون صفة لموضعه بعد دخول لا، فيتقدر ثلاثة مع السبعة، فتلك عشرة كاملة.
والذي في كلام ابن عصفور من ذلك أربعة أوجه، وهو أكثر من وسّع في "إلاّ"من الأوجه.
انتهى ما خطر لي في هذه المسألة من الأوجه الواضحة، والله يرزقنا منه المسامحة.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحابته أجمعين.
تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه
فهرس المصادر
1_ ابن هشام الأنصاري/ آثاره ومذهبه النحوي/ د. علي فودة نيل. منشورات جامعة الملك سعود- الرياض 1406 هـ/ 1985.
2_ أحكام الميراث في الشريعة الإِسلامية: د. جمعة برّاج. دار الفكر للنشر والتوزيع. عمان، الطبعة الأولى1401 هـ/ 1981م.
3_ أخبار النحويين البصريين: السيرافي، تحقيق د. محمد البنا، دار الاعتصام الطبعة الأولى 1405 هـ/1985م.
4_ ارتشاف الضرب: أبو حيان الأندلسي، تحقيق د. مصطفى النماس.
5_ الاستغناء في أحكام الاستثناء: شهاب الدين القرافي، تحقيق د. طه محسن.
6_ أسرار العربية: الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، دمشق 1377هـ/ 1957م.
7_ إشارة التعين: عبد الباقي اليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، الطبعة الأولى 1406 هـ.
8_ اشتقاق أسماء الله: الزجاجي، تحقيق د. عبد الحسين المبارك، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1406 هـ/ 1986م.
9_ الأشباه والنظائر: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة.
10_ الأصول في النحو: ابن السرّاج، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي.
11_ أعجب العجب في شرح لامية العرب: الزمخشري، الطبعة الأولى بالجوائب 1300 هـ.
12_ إعراب الحديث النبوي: العكبري، تحقيق د. حسن موسى الشاعر، الطبعة الثانية 1408 هـ/1987 م.
13_ إعراب القرآن الكريم: النحاس، تحقيق د. زهير غازي زاهد، الطبعة الثانية 1405 هـ/ 985 1م.(35/82)
14_ إعراب لامية الشنفري: العكبري، تحقيق محمد أديب جمران، المكتب الإِسلامي، الطبعة الأولى 1404 هـ/ 1984م.
15_ الأعلام: الزركلي، دار العلم للملايين.
16_ إنباه الرواة: القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى.
17_ الإنصاف في مسائل الخلاف: الأنباري، تحقيقَ المرحوم الشيخ محي الدين عبد الحميد.
18_ أوضح المسالك: ابن هشام الأنصاري، تحقيق المرحوم الشيخ محي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة- بيروت.
19_ إيضاح المكنون: إسماعيل باشا البغدادي.
20_ الإيضاح في شرح المفصَّل: ابن الحاجب، تحقيق د. موسى بناي العليلي، مطبعة العاني- بغداد 1982 م.
21_ البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي.
22_ البدر الطالع: الشوكاني، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1348 هـ.
23_ البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروز أبادي، تحقيق محمد المصري، دمشق 1392هـ/1972 م.
24_ بغية الوعاة: السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي، الطبعة الأولى 1384 هـ/1964 م.
25_ تاريخ الأدب العربي: بروكلمان، جـ5 نقله إلى العربية د. رمضان عبد التواب، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر.
26_ تاريخ العلماء النحويين: التنوخي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، الرياض،1401 هـ/1981 م.
27_ التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية: الشيخ صالح الفوزان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثالثة 1407 هـ/ 1986 م.
28_ تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد: ابن هشام الأنصاري، تحقيق د. عباس الصالحي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1406 هـ/ 1986 م.
29_ تسهيل الفوائد: ابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، القاهرة 1968ام.
30_ التصريح على التوضيح: الشيخ خالد الأزهري.
31_ التفسير الكبير: فخر الدين الرازي، الطبعة الأولى 1354 هـ/ 1935.
32_ الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، دار إحياء التراث العربي عن طبعة دار الكتب المصرية.(35/83)
33_ الجني الداني في حروف المعاني: المرادي، تحقيق طه محسن 1396 هـ/ 1976 م.
34_ حاشية الصبان على شرح الأشموني: دار إحياء الكتب العربية.
35_ حاشية يس العليمي على التصريح: دار إحياء الكتب العربية.
36_ خزانة الأدب: البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي.
37_ الخصائص: ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية 1371 هـ/1952م.
38_ الدرر الكامنة: ابن حجر، تحقيق محمد سيد جاد الحق.
39_ الدرّ المصون: السمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق.
40_ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
41_ شرح أبيات سيبويه: ابن السيرافي، تحقيق د. محمد علي سلطاني، دار المأمون للتراث، دمشق 1979 م.
42_ شرح الأشموني مع الصبان، دار إحياء الكتب العربية.
43_ شرح جمل الزجاجي: ابن عصفور، تحقيق د. صاحب أبو جناح، 1400 هـ/ 1980 م. 44_ شرح الكافية: الرضي، بيروت.
45_ شرح الكافية الشافية: ابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، الطبعة الأولى 1402هـ/1982م.
46_ شرح اللمحة البدرية: ابن هشام. تحقيق د. هادي نهر.
47_ شرح المفصل: ابن يعيش، إدارة الطباعة المنيرية.
48_ فتح القدير: الشوكاني، دار الفكر- بيروت.
49_ الكتاب: سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
50_ الكشاف: الزمخشري، مطبعة الحلبي.
51_ كشف الظنون: حاجي خليفة- بيروت.
52_ مجلة البحوث الإسلامية، تصدرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث، في الرياض العدد 25 لسنة 1409 هـ.
53_ مسألة في كلمة الشهادة: الزمخشري، مخطوطة برلين.
54_ المسائل المنثورة: أبو علي الفارسيّ، تحقيق مصطفى الحدري، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
55_ المساعد على تسهيل الفوائد: ابن عقيل، تحقيق د. محمد كامل بركات، الطبعة الأولى، منشورات جامعة أم القرى.(35/84)
56_ معاني القرآن وإعرابه: الزجاج، تحقيق د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 08 14 هـ/1988م.
57_ معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة- بيروت.
58_ معنى لا إله إلا الله: الزركشي، تحقيق علي محي الدين القرة داغي، دار الإصلاح، القاهرة.
59_ مغني اللبيب: ابن هشام. تحقيق د. مازن المبارك وزميله، دمشق، الطبعة الأولى 1384 هـ/1964م.
60_ المقتصد في شرح الإيضاح: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق د. كاظم بحر المرجان، 1982 م.
61- النكت في تفسير كتاب سيبويه: الأعلم الشنتمري، تحقيق زهير سلطان، الكويت 1407هـ/ 1987م.
62- همع الهوامع: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية- الكويت.(35/85)
انتشار الإسلام
بالفتوحات الإسلامية زمن الراشدين
بقلم الدكتور جميل عبد الله محمد المصري
أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله على نعمه التي لا تُحصى، وعطائه الذي لا يستقصى، الحمد له سبحانه وتعالى أولاً وأخراً الذي أتم نعمه على البشرية بالإِسلام، وجعله هو الدين. وهو القائل جل وعلا:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
وصلى الله على سيدنا محمد الأمين الذي قام بعبء الدعوة، وعلمها المسلمين منهجاً، قولاً وعملاً وأسلوباً، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي الله عن أصحابه البررة وعن تابعيهم وتابعي تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإني أسأل الله سبحانه أن يجعل من بحثي هذا لبنة في بناء توضيح دعوة الإسلام وانتشارها بين الأمم التي أظلتها راية الإسلام في الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين، وتوضيح الصلة الوثيقة بين الدعوة والتاريخ الإسلامي، حيث أن تاريخ الإسلام هو تاريخ هذه الدعوة بالدرجة الأولى.
وعهد الخلفاء الراشدين (11-40 هـ) هو أفضل عهود الدعوة الإسلامية بعد عهد النبوة، فقد نهلوا من مدرسة القرآن الكريم، مدرسة النبوة، فاتضحت لهم مهمتهم في تبليغ الدعوة، فكانوا الأسوة الحسنة للدعاة إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقتهم حجة. قال صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " (2) (2) .
وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم، وأرهقتهم صلاتهم".
قلنا: الله ورسوله أعلم.
__________
(1) سورة فصلت الآية: 33.
(2) رواه أبو داود رقم 4607، والترمذي رقم 2678 وقال عنه حديث حسن صحيح. وابن ماجة رقم 42، وأخرجه الإمام أحمد.(35/86)
قال: "أليس فيهم أبو بكر وعمر، إن يًطيعوهما فقد رشدوا، ورشدت أمتهم، وإن يعصوهما، فقد غووا، وغوت أمتهم". قالها ثلاثاً (1) .
وقد برزت في عهد هؤلاء الخلفاء ذاتية الأمة الإسلامية بوضوح، على أسس متينة قويمة من العقيدة والشريعة التي جاء بها الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. واتضحت فيه مهمة الأمة المسلمة في تبليغ الدعوة، وإخراج الناس من ظلم العباد إلى عدل الإسلام، ومن ظلام الشرك إلى عبادة الله وحده.
عالمية الدعوة الإسلامية:
اتّسمَ الإسلام بالطابع العلمي منذ نزول أول آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء {اقْرَأ} فهي دعوة آمرة إلى الثقافة، إلى العلم، إلى التفكير، إلى البحث المستفيض في ملكوت الله، في السماء والأرض، في الجبال، في كل ما خلق الله تعالى من كائنات صغرت أم كبرت. دعوة ذات نظرة كلية شاملة إلى الكون، والإنسان، والحياة، وما قبل الحياة وما بعدها.
وتتابعت بعدها الآيات المحكمات، يلقيها جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، يتنزل بها من لدن حكيم خبير، من خالق السماوات والأرض، فيعيها محمد صلى الله عليه وسلم وعياً كاملا، ويبلغها بأمانة وقوة، وإخلاص. والآيات تبين- والدعوة لم تزل في مكة لم تخرج عن نطاقها- أن الدعوة عالمية، ليست محدودة بشعب من الشعوب، ولا مكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، دعوة للبشر عامة، ولعموم الأزمنة والأمكنة، حيث أن محمداً- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبه تم الإسلام، وتأكد ذلك حين صلى بالأنبياء إماماً في صلاة جامعة ببيت المقدس ليلة إسرائه، وتأكدت بذلك وحدة الرسالات، وببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم تم بناء الإسلام.
ومن الآيات المكية التي أكدت على عالمية الدعوة:
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (2) .
__________
(1) ابن تيميه_ منهاج السنة_ 3/160.
(2) سورة ص الآية: 87.(35/87)
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) .
وقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (2) .
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (3) .
وقوله جلّ وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (4) .
وكانت المدينة المنورة هي أول فتح إسلامي مجيد، فتحت قلبها بالدعوة، وشرفت بهذا الاسم- المدينة. واختصت به. فاستقبله المهاجرين، ونصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتضنت الدعوة، وأضحت نقطة ارتكاز، انطلقت منها الدعوة بعد أن تكونت فيها أول حكومة إسلامية، برئاسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأسلمت له قيادها، فطبق أحكام الإسلام في الداخل، وقامت فيها حياة إسلامية كاملة، وحملت الدعوة إلى خارجها بالجهاد في سبيل الله.
وقد بُنِيَت الدولة الإسلامية على أساس العقيدة الإسلامية، وعلى أساس الآيات التي استمرت تتنزل منجمة عام الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، إلى أن تم هذا الدين في السنة العاشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (5) .
وتخطت دولة الإسلام منذ قيامها الحدود الأرضية، والحواجز الجنسية، والعرقية، واللونية، وترفعت على جميع الروابط الأرضية، وجعلت أساس التفاضل التقوى، استجابة لقوله سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة يس الآيتان: 69،70.
(2) سورة الفرقان الآية: 1.
(3) سورة سبأ الآية: 28.
(4) سورة الأعراف الآية: 158.
(5) سورة المائدة الآية: 3. انظر: ابن كثير_ البداية والنهاية 5/177.(35/88)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ الرائع في حجة الوداع حتى تهتديَ أمته بهديه
فقال:
" ... إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليسر لعربي فضل على عجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى" (2) .
الجهاد من وسائل تبليغ الدعوة ونشرها:
وفرض الله سبحانه وتعالى الجهاد على المسلمين من أجل تبليغ الدعوة، وتم هذا الفرض على مراحل بدأت قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في هجرته، وبالجهاد تمت الفتوحات الإسلامية.
وقد جاءت أدلة الجهاد عامة ومطلقة، تشمل الحرب الدفاعية، ومبادأة العدو بالقتال، والحرب المحدودة، وغير المحدودة. وهدفه إزالة الحواجز وتخطّي العقبات التي تعترض طريق تبليغ الدعوة:
إلى دفع الظلم ورد كيد الظالمين في قوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ... } (3) .
وإلى رد الاعتداء في قوله سبحانه:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) .
وإلى نجدة المستضعفين في الأرض، في قوله سبحانه:
__________
(1) سورة الحجرات الآية: 13.
(2) انظر: جميل المصري_ تاريخ الدعوة 229.
(3) سورة الحج الآية: 39.
(4) سورة البقرة الآية: 190.(35/89)
{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (1) .
وإلى حماية الدين والتمكين من التوحيد في قوله جلّ وعلا:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} (2) .
فالجهاد في سبيل الله ليست غايته حمل الناس على الإِسلام، وإكراههم على اعتناقه، وليس لاستعمار الشعوب ونهبها، واستغلال خيراتها واستعباد أفرادها وإذلالهم، إنما هو فرض لمصلحة البشر، ولفائدة المجتمعات لا فساح المجالس لتوحيد الله سبحانه وعبادته، وتكوين مجتمع الخير والعدل، بإزالة العقبات والحواجز التي تحول بين الناس وإبلاغهم دعوة الإسلام.
قال تعالى:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (3) .
والقتال في سبيل الله هو جهاد ليكون الدين كله لله وحده، ولتكون كلمة الله هي العليا. وقد ورد تعبير "في سبيل الله"مرتبطاً بالجهاد والقتال اثنتين وثلاثين مرة في القرآن الكريم، ولا يكاد أمر بالقتال يخلو من هذا التعبير في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم وضع خطة الفتوحات لنشر الإسلام:
__________
(1) سورة النساء الآية: 75.
(2) سورة البقرة الآية: 193.
(3) سورة الحج الآية: 41(35/90)
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بتبليغ الدعوة بالطرق والوسائل المتاحة له، وكان يتصل بالقبائل، ويحضر الأسواق، ويدعو الزعماء لنصرته، إلى أن كانت بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، وبيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية مع أهل المدينة، وتكونت دولة الإسلام في المدينة، فقام بعبء الجهاد قي سبيل الله، لتبليغ الدعوة، إلى جانب إرسال الكتب والرسل إلى من كان يعاصره من الملوك، والأمراء، والقادة، والزعماء.. واتضحت معالم هذه الوسيلة الأخيرة بعد هدنة الحديبية عام 6 هـ (1) . وهذه الكتب واضحة الدلالة على تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم عملياً لما تردد في القرآن الكريم من دعوة الناس جميعاً لاعتناق الإسلام.
وقد حاول كثير من المستشرقين إنكار بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، متجاوزين ما ورد من آيات بينات تلك التي وردت في القرآن الكريم في الفترة المكية، والفترة المدنية، ومتجاوزين إجماع المسلمين على هذا الأمر، وجعلوا من أنفسهم حكماً على تاريخ الإسلام وتاريخ الدعوة، فقاموا بدراسات متجنّية على الإسلام والمسلمين، وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، بل وساخرة أحياناً (2) . في حين لم ينكر بعضهم ذلك.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قام فعلاً بتبليغ الدعوة ونشرها عن طريق الجهاد، وغزواته وسراياه كثيرة. وتظهر في بعضها خطته في نشر الدين خارج شبه الجزيرة العربية. وهذه الخطة حاول معظم المستشرقين التشكيك فيها كعادتهم حتى الذين لم ينكروا بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. رغم وضوح هذه الخطة، ورغم استمرارها في عهد خلفائه الراشدين بعد التحاقه بالرفيق الأعلى.
__________
(1) انظر: ابن هشام_ السيرة 1/650، الطبري_ تاريخ 2/644_655.
(2) مثل "برنارد لويس"في كتابه: السياسة والحرب في الإسلام.(35/91)
فقد بعث صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا إلى ذات أتلاح على مشارف بلاد الشام، يدعون إلى الإسلام، فاستشهدوا جميعاً، لم ينجُ إلا رئيسهم كعب الذي عاد جريحاً.
ووجه صلى الله عليه وسلم سرية مؤتة لتأديب القبائل الغادرة، ولتكون طليعة حملة أكبر لفتح الشام عام 8 هـ قبل فتح مكة وقد تصدى لهذه السرية الروم البيزنطيون بقبائل العرب المتنصرة، وعادت دون أن تحقق نجاحاً عسكرياً، ولكنها أدت دوراً في تبليغ الدعوة، فوصلت الدعوة حدود الشام، وبدأت تمتد بين القبائل الخاضعة للروم، قبل أن تعمّ شبه الجزيرة العربية.
ووجه صلى الله عليه وسلم حملة بقيادة عمرو بن العاص في المهاجرين الأولين إلى الشمال، وفيهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، قبل أن يتوجه لفتح مكة عام 8 هـ. فوطيء عمرو أرض طيء، وبلي، وعذرة، وبلقين في غزوة ذات السلاسل (1) . وكلها قبائل كانت تخضع للروم البيزنطيين بشكل أو بآخر.
وبعد غزوة حنين ورجوعه من حصار الطائف قاد صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك بنفسه عَام 9 هـ. وكانت تظاهرة إسلامية كبيرة، وصل عدد الجيش الإسلامي فيها ثلاثين ألفاً، وهو أكبر جيش شهدته الجزيرة العربية حتى ذلك التاريخ، وقد تنافس المسلمون في تجهيزه، في النفقة، وتنافسوا في النفير، في زمن عسرة، وشدّة الحرّ، فسمي الجيش بـ "جيش العسرة". وكانت اختبارا وفقاً لأمة الجهاد بالفعل، كشفت بوضوح خطة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل على تبليغ الدعوة ونشرها بطريق الجهاد والفتح، ووضعت الأسس التي ستسير عليها الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين والأمويين، وما يجب أن تسير عليه الأمة المسلمة في جميع عصورها.
__________
(1) الواقدي- المغاري2/ 771، المقريزي - إمتاع الأسماع 1/3 5 3.(35/92)
ومع أن المسلمين لم يصطدموا بالروم البيزنطيين في غزوة تبوك، فإنها كرّست هيبة المسلمين في الجهات المحاذية للروم أولاّ، واخترقت الدعوة بلاد الشام ثانياً، فأسلم بعض عربها كفرْوة بن عمرو الجذامي، الذي صلبه الروم بسبب ذلك. وقدمت بعض وفودهم كوفد الداريين، وعلى رأسهم تميم الداري رضي الله عنه.
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبن للأمة المسلمة خطة الفتح، وطرق تبليغ الدعوة خارج شبه الجزيرة، فأمر بتجهيز جيش أسامة وأمر بإنفاذه (أثناء مرضه) إلى الشام.
وبهذا يتضح أن الفتوحات الإسلامية لم تأت وليدة الصدف، ولم تكن خطة الفتح ارتجالية، وإنما كانت وفق خطة واضحة، راشدة، واضحة أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وسار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من بعده على منهجها. فأنفذ أبو بكر بعث أسامة إلى الشام رغم ظروف المدينة الحرجة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بسبب ردة العرب ردة عامة أو خاصة، وتطلع القوى المعادية للدعوة الإسلامية إلى القضاء على الإسلام ودولته، فكانت معارضة بعض الصحابة في إنفاذ جيش أَسامة.
وقام أبو بكر رضي الله عنه بتوجيه عبادة بن الصامت رضي الله عنه إلى "هرقل"إمبراطور الروم يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو يؤذنه بحرب، فقام عبادة رضي الله عنه بمهمته.
كل ذلك ليؤكد أبو بكر للمسلمين خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتوحات عملياً.
ولما تم القضاء على حركة الردة قاما أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بتوجيه الجيوش الإسلامية إلى العراق والشام، وفي وقت واحد، أن قام بمواجهة الدولتين الكبيرتين في العالم آنذاك- دولة فارس الكسروية ودولة الروم البيزنطيين القيصرية- دون أن يحسب حسابا للقوى المادية، من حيث العَدد والعُدد، وذلك قياماً لما يطلبه الإسلام من تبليغ الدعوة، واتباعاً لأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لخطته. فتوجهت قوات الإسلام، للفتح، تحقيقاً لأهداف فرضية الجهاد في سبيل الله.(35/93)
المبشرات من عوامل القوة النفسية التي سهلت الفتح:
وكانت هذه القوات الإسلامية تتحرك وهي على ثقة تامة بالنصر، فقد بشرهم الله سبحانه وتَعالى بالنصر في كثير من الآيات الكريمة، في مثل قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح اليمن، والشام، والمشرق، والمغرب، حين كانوا في أشد حالات الضيق في غزوة الأحزاب (يوم الخندق) عام5 هـ.
وعندما وَفدَ تميم الداري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه حبرى، وبيت عينون ومسجد إبراهيم علية السلام (حبرون) ، وكتب له بذلك كتاباً. وهذه من أرض الشام التي كانت تخضع لحكم الدولة البيزنطية، فهي بشارة بفتح الشام.
وقد حرم الله سبحانه وتعالى على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى أخر الدهر، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل" (2) .
وهذه بشارة بفتح الشام في العراق وبلاد فارس.
ٍوعندما وفد عدي بن حاتم رضي الله عنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح العملاق والمشرق قائلا (عن عدي بن حاتم) :
" ... إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ " قلت: "لم أرها، وقد سمعت بها".
__________
(1) سورة التوبة الآية:33.
(2) ابن كثير_ البداية والنهاية 7/59 ويعلق قائلا: (وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وسيكون ما أخبر به جزمًا، لا يعود ملك القياصرة إلى الشام أبداً، لأن قيصر علم جنس عند العرب، يُطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم، فهذا لا يعود لهم أبداً) .(35/94)
قال: "فالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز".
قال: قلت: "كنور ابن هرمز؟! "
قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ... ".
وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بفتح مصر في قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنكم ستفتحون مصرِ، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماًَ- أو قال: ذمة وصهراً" (1) .
يشير بذلك إلى هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وإلى مارية القبطية أم إبراهيم ابنه.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال:
"مدينة هرقل" (2) إشارة إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، والمدينة الأخرى يقصد بها "روما"مركز البابوية في إيطاليا.
__________
(1) صحيح مسلم _ في كتاب الفضائل _ باب وصية النبي بأهل مصر، فتح الباري 6/102، البلاذري_ فتوح البلدان 220.
(2) رواه عن ابن عمر الدرامي، وأحمد وابن أبي شيبة، والحاكم، والمقدسي.
وهذه البشرى جعلت المسلمين يجدون لفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في عهد معاوية رضي الله عنه في حرب السنوات السبع مع الروم 51_58هـ. وحاصروها في زمن سليمان بن عبد الملك عام 98هـ. بقيادة مسلمة بن عبد الملك إلى أن أمر عمر بن عبد العزيز بالانسحاب عام 99هـ. لأسباب عديدة ليس هنا موضع تفاصيلها.
وقد وفق المسلمون في فتحها على يد محمد الفاتح العثماني عام 857هـ/1453م. واتخذها العثمانيون عاصمة لدولتهم باسم "استنبول"أو الآستانة.
أما المدينة الثانية "روما"مركز البابوية الكاتوليكية في إيطاليا فقد نجح المسلمون في حصارها في فترة من فترات التاريخ في القرن الثالث الهجري. حتى اضطر البابا أن يدفع مثاقيل كثيرة من الذهب لقاء انسحابهم منها. فرجعوا عنها. وبقيت البشرى_ بشرى رسول صلى الله عليه وسلم_ بفتحها بإذن الله.(35/95)
وهذه المبشرات ليست تنبؤات بشرية تصيب مرة، وتخطيء مرات ولكنها مبشرات يقينية، صدرت من رسولِ الله الذيَ لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} (1) - وقد أضافت دليلاً صادقاً على وجود خطة منظمة للفتح، وعلى عدم ارتجالية الفتوحات، دفعت المسلمين لفتح الأمصار زمن الراشدين والأمويين، وهم على يقين من تحقيق ذلك.
وكان القادة يُرَغّبون جند الإسلام في الجهاد، ويعلمونهم ما وعد الله نبيه من النصر، وإظهار دينه.
وقد تجاهل المستشرقون هذه الأخبار الثابتة من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله، وصوروا الفتوحات الإسلامية على أنها حركة ارتجالية، هدفها القوي رغبة أبي بكر في إشغال العرب عن أنفسهم، وخصوماتهم، وإغرائهم بالغنائم، والمنافع المادية. وأقوالهم تلك تدحضها الحقائق الثابتة، كما وقعوا في التناقض كعادتهم عند تناولهم أحداث التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية.
وكمثال على ذلك يقول "بروكلمان"متلاعباً بالألفاظ:
"ما في مقدور أبي بكر أن ينفذ خطة النبي الأخيرة - تلك التي تفضي بنشر الإيمان في ما وراء حدود الوطن الأم، ذلك بأنه كان عليه أن يوجد فرصة من النشاط الخارجي لهذه القوى التي كانت في الماضي على استعداد دائم لأن تتفانى في منازعَات لا نهاية لها".
__________
(1) سورة النجم الآية: 3.(35/96)
وعلى العموم فقد كانت هناك خطة واضحة للفتوحات الإسلامية من أجل تبليغ الدعوة، وهي خطة راشدة مستنيرة حتى أن أبا بكر رضي الله عنه منع المرتدين من الاشتراك في الفتوحات الأولى. وهذه الخطة تُقدم إذا كان الإقدام حزماً ومناسباً، وتتأنى إذا كان التأني خيراً للمسلمين وللشعوب غير المسلمة من أهل البلاد. فتردّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الانسياح- في بلاد فارس، وفي فتح مصر (إن صح) ، وفي فتح الهند، وفي فتح إفريقيا- لم يكن مبعثه عدم الرغبة في فتح هذه البلاد أمام دعوة الإسلام، ولكنه من ضمن خطة، لتثبيت المكاسب الإسلامية، والتمكن من إقامة الإسلام في الأراضي المفتوحة، واستنهاض طاقات الشعوب التي أظلتها رايته، وتجميعها، ثم توجيهها الوجهة الصالحة، ومن أجل الدعوة، حتى تصبح تلك الأقطار نقاط ارتكاز جديدة، تنطلق منها الدعوة وتمتد، إلى أقطار أخرى، تسهم فيها شعوب تلك الأقطار بدلاً من أن تكون شوكة في جنب المجاهدين، أو خنجراً يوجه إلى ظهورهم في خلفهم.
جند الإسلام وقادتهم دعاة:
الجيش الإسلامي داعية بسلوك قادته، وأفراده، وعلمائه، في أقوالهم وأعمالهم. تدفعهم العقيدة للجهاد، والرغبة في إنقاذ الأمم والأفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وقد تميزوا بالتمسك بالعقيدة، والتزموا بأحكام دينهم. فكان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب. فكان عمل القادة والجند تبليغ الدعوة، وتميزت مواقفهم بأنها أنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي.(35/97)
فكان القادة على رأس جندهم، يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، فاستشهد كثير منهم مثل: المثنى بن حارثة الشيباني، وأبو عبيد الثقفي الذي اندفع لنيل الشهادة مع أولاده الأربعة يوم الجسر مع سبعة من قادة المسلمين، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الأزور، والنعمان بن مقرن رضي الله عنهم جميعاً.
والقادة الذين ضربوا أروع أمثلة الجهاد في سبيل الله كثير عددهم مثل:
أبو عبيدة عامر بن الجراح- أمين الأمة- وشرحبيل بن حسنة، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وعمرو بن العاص، والزبير بن العوام، والقعقاع بن عمرو التميمي، وعاصم بن عمرو التميمي، ويزيد بن أبي سفيان، وعياض بن غنم، وهاشم المرقال، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن عامر وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعاً من القادة الذين أنجبتهم مدرسة الإسلام، وربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صحابته. فضربوا أعظم الأمثلة في النبل، والشجاعة، والوقار، والتقوى، فكان أثرهم كبيرًا في عوامل النصر، وفي تبليغ الدعوة في البلاد المفتوحة.
وكان من السنة التي سن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معركة بدر الكبرى عام 2 هـ- أولى معارك الإسلام الحاسمة- أن تقرأ سوره الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال ليبقى تعلق الجند بالله، والثقة بنصر الله.
ولما فتح خالد بن الوليد الحيرة عام 12 هـ صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن.(35/98)
وبعد معركة الفراض عام 12 هـ مع الفرس والعرب المتنصرة في العراق- وكانت من أشد معارك الأيام- وعودة الجند الإسلامي إلى الحيرة أمر خالد بن الوليد عاصم بن عمرو التميمي أن يسير بالجيش، وأظهر أنه في الساقة، وأدى فريضة الحج، شاكراً أنعم الله سبحانه. وكانت غيبته عن الجيش يسيرة، فما توافى آخر الجيش إلى الحيرة، حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه، فقدما ولم يدرِ أحد بذلك، وكذلك لم يعلم أبو بكر رحمه الله إلا بعد، فغضب عليه، وأمره ألاّ يعود لما فعل.
ولما افتتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المدائن- عاصمة الفرس- دخل إيوان كسرى، وصلى صلاة الفتح ثماني ركعات بتسليمة واحدة. وقرأ:
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} (1) .
ولما افتتح عبد الله بن عامر خراسان عام 31 هـ أحرم من نيسابور وأدى فريضة الحج شكراً لله سبحانه وتعالى وقد لامه عثمان رضي الله عنه على ذلك.
وكان هؤلاء القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة، يرفقون بهم، ويحملون الكلّ ويعينون الضعيف.
واقرأ ما قاله رسل "المقوقس"إلى عمرو بن العاص بعد أن لبثوا يومين في جيش المسلمين- بعد أن عادوا إليه:
"رأينا قوماً، الموت أحبّ إليهم من الحياة، والتواضع أحبّ إليهم من الرفعة ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، جلوسهم على التراب، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف كبيرهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم".
وقد وصفهم أعداؤهم بأنهم:
__________
(1) سورة الدخان الآيات: 25 -28.(35/99)
"رهبان في الليل، فرسان النهار، لو حدثك جليسك حديثاً ما فهمته، لما عَلاَ من أصواتهم بالقرآن والذكر، يصومون النهار، ويقومون الليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصحون بينهم، يعفّون عن المغانم، ولا يستحلًونها إلاّ محلّها".
وهذه الصفات التي تمتع بها القادة والجند استهوت أهل البلاد المفتوحة، وكانت من أهم أسباب تسارع الناس إلى اعتناق الإسلام.
تطبيق مبادئ الحرب في الإسلام:
طبق المسلمون قواعد الإسلام في حربهم، فكانوا يعرضون على أعدائهم أحد أمرين قبل القتال: الإسلام، أو الجزية:
فمن أجاب للإسلام كان أخاً للمسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن أبى وأجاب للجزية قبل الحرب، فليس عليه ذل أو صغار، ويبقى في أرضه مكرّماَ في ذمة المسلمين، أماّ من حارب حتى رضخ للجزية فهو الصّغار، الذي هو الخضوع لأحكام الإسلام. قال الإمام الشافعي:
وسمعت عدداً من أهل العلم يقولون:
"إن الصّغار أن يجريَ عليهم حكم الإسلام ".
وهذا محتوىَ الآية الكريمة في قوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
فكن أول ما يبتدئ به القادة المسلمون: الدعوة إلى الإسلام. والأمثلة على ذلك كثيرة أذكر منها:
- دعوة خالد بن الوليد لأهل الحيرة، عندما خرج إليه أشرافهم.
فقال لهم: "أدعوكم إلى الله، وإلى الإسلام ... ".
- وعندما واجه خالد بن الوليد "جرجة"أحد قادة الروم مبارزاً إياه يوم اليرموك، دعاه إلى الإسلام، وبدت له محاسنه، وأكد له:
"أن أجر من يدخل الدين، مثل السابقين، وأفضل".
فكان أن أسلم "جرجة"وقاتل قومه، واستشهد مع المسلمين يوم اليرموك.
__________
(1) سورة التوبة الآية: 29.(35/100)
_ وتظهر الدعوة إلى الإسلام بوضوح في المفاوضات التي كانت تسبق المعارك الحاسمة كالقادسية واليرموك، وأجنادين، ونهاوند، وجلولاء، وبابليون ...
- ففي القادسية: ترددت الرسل بين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، و"رستم"قائد الفرس. وكان "رستم"قد طلب من سعد أن يوجه إليه بعض أصحابه فأرسل إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقصد سرير "رستم"وكان يجلس عليه، وهو من الذهب، وقد زيّن مجلسه بالفرش المنسوج بالذهب، ولبس على رأسه التاج وأقيمت الفيلة حول المكان- وأراد المغيرة أن يجلس على سريره معه، فمنعه الأساورة، وبعد مداولات قال المغيرة:
"إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فسعدنا بإجابته، واتباعه وأمرنا بجهاد من خالف ديننا، حتى يعطوا الجزية، ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده، والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن فعلت، وإلا فالسيف بيننا وبينكم".
ولما قال "رستم":
"والشمس والقمر، لا يرتفع الضحى غداً حتى نقتلكم أجمعين"، قال المغيرة: "لا حول ولا قوة إلا بالله"وانصرف عنه.
وكان "رستم"قد استمع إلى عدد من رسل المسلمين، وبينوا له أهداف الجهاد، فأعجب بالمسلمين، وبإجاباتهم السديدة حتى قال لأصحابه:
"انظروا فإن هؤلاء لا يخلو أمرهم من أن يكون صدقاً، أو كذباً، فإن كانوا كاذبين، فإن قوماً يحفظون أسرارهم هذا الحفظ، ولايختلفون في شيء، وقد تعاهدوا على كتمان سرهم هذا التعاقد، بحيث لا يظهر أحد منهم سرهم، لقوم في غاية الشدّة والقوة، وإن كانوا صادقين، فهؤلاء لا يقف حذاءهم أحد".
_ وفي مفاوضات حصن بابليون عام 20 هـ، استقبل عمرو بن العاص، رسل المقوقس في محاولة للتوصل إلى الصلح، فأبقاهم عنده يومين- ليشاهدوا حياة المسلمين الإسلامية، وهي طريقة ناجحة لتبليغ الدعوة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الوفود- وبعد ذلك قال لهم عمرو:(35/101)
"ليس بيننا وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: الدخول في الإِسلام، فتكونون إخواننا، ولكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإما القتال، حتى يحكما الله بيننا وبينكم، وهو أحكم الحاكمين".
الغنائم نتيجة وليست سبباً في الفتوحات:
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده جميعاً.
قال تعالى:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (1) .
وقوله سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
ورابطة الإسلام تعلو وتسمو على الروابط القبلية، والإقليمية، والوطنية، والقومية. قال تعالى:
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (3) .
واستنفر الإسلام المسلمين لتبليغ دعوته، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً. قال تعالى:
{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
فقام المسلمون بذلك، وقدموا أموالهم وأنفسهم، وسارعوا إلى الجهاد والفتح، وحملوا الدعوة وبلغوها.
عن صفوان بن عمرو قال:
"كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق، على راحلته، يريد الغزو. قلت:
"يا عم، أنت معذور عند الله".
فرفع حاجبه وقال:
"يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا من أحبه الله ابتلاه".
وعن الزهري قال:
__________
(1) سورة آل عمران الآية: 19.
(2) سورة آل عمران الآية: 5 8.
(3) سورة التوبة الآية: 24.
(4) سورة التوبة الآية: 41.(35/102)
"خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل، صاحب عذر.
فقال: "استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد، كثّرت السواد، وحفظت المتاع".
وكان ابن أم مكتوم رضي الله عنه أعمى وأنزلت فيه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فكان بعدُ يغزُ ويقول:
"ادفعوا إليّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ، وأقيموني بين الصفين"
وحضر القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع. ويقال انه استشهد يوم القادسية.
فكان توجه الفاتحين إرضاء لله سبحانه وتعالى، وابتعدوا من المصالح الدنيوية، واصطدموا بالدولتين الكبريات فارس، والروم، دون أن يكون هناك نسبة بالمقاييس المادية بين الفاتحين والدولتين، لا في العدد ولا في العدة، فما من معركة خاضها المسلمون إلا وواجهوا قوات أكثر عدداً وعدة، وكانت كل من الدولتين تحشد عدداً كبيراً من الجند يدل على قوتها، لا على ضعفها. وإن من يقدم حياته من أجل عقيدته لا يفكر بالغنائم، فكانت الغنيمة نتيجة للفتوحات وليست سبباً فيها، فنال المسلمون خيري الدنيا والآخرة، وكانوا يؤثرون الشهادة على الغنيمة، وعلى الحياة. ولا يعني هذا أن جميع الجند كانوا يحملون هذه الروح، بل وُجد بين المسلمين من اندفع من أجل الغنيمة. وهؤلاء لا يعتَدّ بهما، وليسوا سبباً في الفتوحات، ولا يخلو من أمثالهم زمن، حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحصار الطائف، وغزوة تبوك وغيرها، ومن البديهي أن ذلك لا يمثل القيادة الفكرية التي كانت تدفع المسلمين للفتوحات، وتبنّاها الخلفاء والقادة والجند، ونفّذها الجند المسلم. كما أنه لا يمثل بحال من الأحوال وجهة نظر الأمة المسلمة، ورأيها العام. ولذلك فقد تعرض أمثال هؤلاء للسخرية اللاذعة، كقول الشاعر:
فلا جنة الفردوس أراك تبتغي
ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر
وهذا تحقير لمن جعل همه المغانم، لا الجهاد في سبيل الله، الذي يفضي إلى الجنة.(35/103)
ولهذا فقد تميز الجند الإسلامي بالحرص على نيل الشهادة، والعفّ عن المغانم، وعدم استحلالها إلا محلها، تشهد بذلك النصوص الصريحة الكثيرة، وشهد بذلك أعداؤهم.
فنجد أبا بكر رضي الله عنه يكتب إلى قادته باستنفار من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم ألا يسمحوا لأحد أرتد بالغزو معهم، فلم يشترك أن ارتد في الفتوحات إلا بعد أن قطعت شوطاً كبيراً زمن عمر رضي الله عنه، الذي سمح لهم بالمشاركة في الجهاد، ولم يسمح لهم بتولي قيادة. وبذلك تنهار فكرة اشغال أبي بكر رضي الله عنه للعرب في الفتوحات الإسلامية.
ولما افتتحت المدائن- طيسفون- عاصمة الفرس عام 16 هـ، لم يأخذ أحد من الجيش لنفسه شيئاً مما وقع في يده، وإنما أدّاها بتمامها إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ولما رأى سعد أمانة رجاله قال:
"والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر، لقلت أنها على فعيل أهل بدر".
ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدار ما وصل إليه من أموال إلى المدينة، قال:
"إن جيشاً أدّى هذا لذو أمانة".
فأجابه علي رضي الله عنه:
"عففت فعفّت الرعية، ولو رتعت لرتعوا".
ولما انسحب المسلمون من حمص في خطة عسكرية محكمة لمواجهة القوات البيزنطية في اليرموك، أعادوا الجزية لأهل حمص، مخالفين كل ما يتوقعه الناس من جند ينسحب عن مدينة (إذ يعمل فيها الخراب والتدمير) ، فدهش أهلها، فقال لهم المسلمون:
"قد شغلنا عن نصرتكَم، والدفع عنكم، فأنتم على أمركم". فقالوا:
"لولايتكم وعَدلكم أحبّ إلينا مما كنا فيه أن من الظلم والغش".
ومنعوا الروم من دخول المدينة، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.(35/104)
ومما يلفت النظر ويذكر بفخر لحملة الإسلام الأول من القادة والجند، قلة أموالهم في العراق وخراسان والشام ومصر بالقياس إلى غيرهم. لأنهم كانوا لا يمدون يداً إلى أموال أهل البلاد المفتوحة، ولم ينصرفوا إلى شئون الكسب والمعاش انصرافاً تاماً، فقد جاهدوا في سبيل الله، ونصحوا ونصروا بأموالهم وأنفسهم، وهم في هذا حالة فِريدة في التاريخ العالمي. وأما الغنائم فكانت حلالاً لهم، فأخذوها وأكلوا منها، وكانت أوسمة من أوسمة الجهاد في سبيل الله، فليست غاية في ذاتها. فكانت عزتهم في إسلامهم.
اقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غادر المدينة إلى بيت المقدس ليتسلمها من الروم:
"الحمد لله الذيَ أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وحصّننا بالقرآن، ورحمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة وبصّرنا من الجهالة، ورفعنا به من الخمولة، وجمعنا به بعد الشتات والفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على أعدائنا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخواناً متحابين، فاحمدوا الله عباد الله! على هذه النعمة، وسلوه المزيد فيها والشكر عليها، فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين ويتم نعمته على الشاكرين ... ".
ومن عوامل إقبال أهل البلاد المفتوحة على اعتناق الدعوة:
وتأتي على رأس هذه العوامل:(35/105)
تمسك الفاتحين بعقيدتهم، وتطبيق أحكام الإسلام على أنفسهم، والتزِامهم بها، وحسن عرضهم لدعوتهم. فقد عرضوا الإسلام على أهل البلاد، سلوكا، وعملاً، وقولاً، فاعتنقه كثير من النصارى واليهود والمجوس وفي أعداد كثيرة، وحماسة كبيرة. وأقبلت عليه جميع العناصر التي أظلتها راية دولة الإسلام في الشام، والعراق، وفارس، ومصر، وبرقة، وتركستان، والمغرب. وفيهم العربي، والفارسي، والقبطي، والبربري، والتركي وغيرهم. وامتزجت هذه العناصر وكونت أمة واحدة هي أمة الإِسلام، وبلاداً هي دار الإسلام، ومملكة هي مملكة الإسلام، جمعتهم عقيدة تعالى على المصالح المادية الزائلة، والوطنية، والإقليمية، والقومية. فكان جند الإسلام دعاة يخرجون الناس من الظلمات إلى النور.
فلما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية، خيّر الأسرى بأمر من الخليفة، فمن دخل الإسلام كان للمسلمين أخاً، وكانوا يكبّرون كلّما أسلم أسير مثل تكبيرة الفتح وأشدّ.
معاملة أهالي البلاد المفتوحة وفق أحكام الإِسلام:
وهذا من العوامل الهامة في إقبال الناس على اعتناق الإسلام، فاشتغل من بقي على دينه من أهل الذمة مطمئناً بالمهن، في ظل الحكم الإسلامي، فكادوا يحتكرون المهِن لانشغال المسلمين بالجهاد، وشئون الحكم، ورعاية شئون الناس. فاحترف اليهود مثلاً: الصياغة، ونسج الحرير، وصناعة الزجاج، وأدوات السفن. ونفذ النصارى إلى الوظائف الكتابية الإدارية في الدولة الإسلامية في الدواوين. وتركت لهم حرية تنظيم جماعاتهم.
وأقرّ المسلمون الناس في بلادهم، كما فعل خالد بن الوليد في العراق، إذ أقرّ الفلاحين، وأصبحت أرضهم لهم، بعد أن كانوا أقناناً عند الدهاقين (ملاك الأراضي من الفرس) ، وكما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بفلاحي "بهرسير" بعد أن دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فأقرهم على الجزية.(35/106)
وألغى الإسلام الامتيازات الطبقية، تلك التي كانت تتمتعِ بها طوائف خاصة في البلاد المفتوحة، أيام الفرس والرومان، وأصبحت الأرض ملكاً عاما للأمة، ونظمت ضريبة الأرض الخراجية على أسس عادلة، مقدرة على كل وحدة مساحة.
وأصبحت جزية الرؤوس عينية على كل فرد.
وهذه الضرائب الخراج والجزية كانت بسيطة وتُجبى من أجل تحقيق المصالح العامة للأمة. مراعية مبدأ طاقة الناس ومقدار تحملهم.
وقد أعفى الناس من ضرائب المنازل، وأراضي المدن، والضرائب على المهن، والتجارة، وعلى الماشية. وأعفوا مما كان يؤخذ على الغلال لأغراض الكنائس، ومما كان يفرض على الأرض لمختلف الأغراض، كتطهير القنوات، والرسوم على النقل داخل البلاد، وغير ذلك. وأعفوا في بلاد فارس مما كان يطلبه رجال الدين المجوس من ضرائب أو تبرعات وما كان يُفرض عليهم في أوقات الحرب.
وبفضل الحكم الإسلامي ساد في الأقطار المفتوحة السلام، والأمن، فعمل الناس في النواحي التي كفلت لهم الرخاء، وحققوا تقدماً في مختلف النواحي العمرانية. واهتم ولاة المسلمين بالزراعة فحفروا الآبار، والأنهار بناحية البصرة، وكسكر، وأحيوا موات الأرض، وأكثروا سن تربية الماشية، واهتموا بإعمار البلاد.
وبالحكم الإسلامي تخلص أهل البلاد المفتوحة من أعظم بلاء كانوا يعانونه- وهو الاضطهاد الديني (1) ، الذي ساد في عهد دولتي فارس والروم، وتركت لهم حرية الاعتقاد. وأعفوا من الاشتراك في الحروب الداخلية والخارجية.
__________
(1) انظر: أمثلة لهذا الاضطهاد: "بتلر"_ فتح العرب لمصر_ الفصل الثالث عشر 149، 162، 163، 166، و"أرنولد"_ الدعوة إلى الإسلام 53.(35/107)
هذه المعاملة الحسنة كانت تنفيذاً لأمر الدين، واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم- ففي الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا ًمن دون الله، يحرمون ويحلّون - كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهما خيراً، ويزورهم، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فاستقبل وفد نجران في مسجده وبحضرة المسلمين. وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود، ورهن درعه عند أبي الشحن اليهودي، وكان بوسعه أن يقترض من أصحابه، ولكَنه أراد أن يعلم أمته، ووقف لجنازة يهودي مرت به. وكل هذه من وسائل الدعوة التي تستهوي القلوب.
وقد سار خلفاؤه (صلى الله عليه وسلم) على نهجه، وعلى هديه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ويأمره بالترفق في جيش المسلمين، ولا ينس أثناء ذلك أن يوصي بأهل الذمة قائلا:
"ترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشّمهم عسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الأنفس والكراع. وأقم بمن معك في كل جمعة يوما ًوليلة، حتى تكون لهم راحة، يحيون بها أنفسهم، ويربون أسلحتهم، وأمتعتهم، ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به، ولا يرزأ أحداً من أهلها شيء، فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم، فتولوهم خيراً، ولا تنتصر على أهل الحرب بظلم أهل الصلح ... ".
ولما طعن أحد أهل الذمة (وهو فيروز الديلمي- أبو لؤلؤة المجوسي النصراني) عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتآمر مع اليهود والنصارى، قال وهو في النزع الأخير:
"أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم".(35/108)
وهذا كله طاعة لأمر الله سبحانه، فالذمي جار المسلم يواليه، ولا ينقص من حقه شيئاً، ولا يتدخل في شئونه التي له بها عهد، وله العدل، ظلمه حرام، واضطهاده حرام، وحرمانه من حقه حرام، له دينه، وللمسلم دينه، وعلى المسلم أن ينصره، ويمنعه، ويمنعه اضطهاده، بل وصل الإسلام إلى حدّ أنه أمر المسلم بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف وحمايته، وإيصاله إلى مأمنه. قال تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (1) .
وأوجب نصرة المعاهدين، ولم يوجب نصرة المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق، قال تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق} (2) .
وقد طبق المسلمون أحكام دينهم، فعاملوا أهل الذمة بما يوجبه الإسلام في معظم عهودهم، ولم يضيقوا عليهم حتى فيما يعتقده المسلمون حراماً، فسمحوا للنصارى بالخمر، والخنزير. قال الشافعي رحمه الله:
"وعلينا أن نمنع أهل الذمة، إذا كانوا معنا في الدار، وأموالهم، التي يحل لهم أن يتمولوها مما نمنع منه أنفسنا، وأموالنا، من عدوهم إن أرادوهم، أو ظلم ظالم لهم، وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم، وأموِالهم التي يحل لهم، فإذا قدرنا استنقذناهم، وما حل لهم ملكه، ولم نأخذ لهم خمراً ولا خنزيرا".
وقد ألَزم الإسلام أهل الذمة بواجبات مقابل هذه الحقوق، وتتلخص في: ترك ما فيه ضرر على المسلمين في مال أو نفس، وهي ثمانية أشياء.
__________
(1) سورة التوبة الآية: 6.
(2) سورة الأنفال الآية:72.(35/109)
عدم الاجتماع على قتال المسلمين، وأن لا يزني أحدهم بمسلمة، ولا يصيبها باسم النكاح، ولا يفتن مسلم عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عيناً (أي جاسوساً) ، ولا يعاون على المسلمين بدلالة (أي يدل على عورة المسلمين بإخبارهم عدوهم بها) ، ولا يقتل مسلماً، ولا مسلمة.
ويلزم الذمي بترك ما فيه غضاضة، ونقض على الإسلام، وهي ثلاثة أشياء:
ذكر الله تعالى وكتابه، ودينه بما لا ينبغي. فهذه الأَشياء يُلزم الذمي بتركها.
ويلزم الذمي بأداء الجزية: وهي في أبسط مفاهيمها في الإِسلام ضريبة على الذمي من رعايا الدولة الإسلامية، مقابل حمايته، ومقابل فريضة الجهاد المفروضة على المسلم.
قال خالد بن الوليد عَندما صالح أهل الحيرة:
"إني عاهدت على الجزية والمنعة ... فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا"
وتسقط الجزية إذا عجز المسلمون عن حماية أهل ذمتهم، كما حصل عندما أعاد المسلمون جزية أهل حمص بعد أن أخذوها، عند انسحابهم (كل سبق) .
وتسقط عن الذمي إذا قام بواجب الدفاع عن دار الإِسلام كالذي صنعه عتبة بن فرقد مع أهل أذربيجان فكان:
(عليهم أن يؤدوا الجزية قدر طاقتهم، إلا من حشر منهم في سنة، فيوضع عنه جزاء تلك السنة) .
ويُعفى منها من لا يستطيع القتال كالمرأة، والصبي، والشيخ الكبير، والرهبان، ومن يؤدي خدمة المسلمين.
وكانت أموال الجزية والخراج تُنفق محلياً في كل ولاية لأغراض المشروعات العامة، ولم تكن تسدّد للدولة أحياناً، بعلم المسئولين.
كل ذلك مكّن لدعوة الإسلام من أن تدخل قلوب أهل البلاد المفتوحة.
حرية التدين لأهل الذمة في ظل الحكم الإِسلامي:
تختلف دولة الإسلام عن الدولة الدينية في المفهوم الغربي. فالدولة الدينية (في عرف الغربين) : "تخوض الحروب الدينية لتجعل ولو بالإكراه كل رعيتها متدينة بدينها، بل بمذهبها الديني، لأنها توحّد بلاد الدين والدولة، والرعية مكون من مكونات الدولة".(35/110)
ولذلك لم يميّز من كتب من وجهة النظر الغربية في تاريخ الإسلام بين مفهوم الجهاد- الذي يعمل على إزالة العقبات، وتحطيم الحواجز التي تعترض الدعوة، وتحول دون وصول الإسلام إلى الناسِ- وبن اعتناق الناس للإسلام الذي هو أجلّ نعمة للبشرية. والنعمة لا تُفرض فرضاً، ولكن النفوس الطيبة تسارع إليه عندما تتاح لها الفرصة للمعرفة والمشاهدة. والفتوحات وفرت هذه الفرصة، فلم تكن الفتوحات إذن لإجبار الناس على الدخول في الدين، قال تعالى:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) .
وقال سبحانه وتعالى:
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2) .
فأمر سبحانه وتعالى الرسول والمسلمين أن تكون الدعوة طيبة، تخاطب الناس في رفق لمحاولة إقناعهم، لا إكراه فيها ولا تهديد، وأن يكون حوارهم مع أهل الكتاب هادئاً لا يجادلونهم إلا بالتي هي أحسن، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فالآمر متروك لله سبحانه وتعالى. قال تعالى:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (3) .
ومن الغربيين من أكد على عدم إكراه المسلمين لغيرهم على اعتناق الإسلام مثل: "فون كريمر". وأجاد "غوستاف لوبون"في عرضه عدم إكراه المسلمين الناس على الإسلام، وبينّ أن الإسلام انتشر بالدعوة وحدها.
وقال "فرانز روزنتال"معبراً عن ذلك:
__________
(1) سورة يونس الآية: 99.
(2) سورة البقرة الآية: 256.
(3) سورة العنكبوت الآية: 46.(35/111)
"وقد نمت المدنية الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق، داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة. وفوق كل ذلك، فبتقدم الإسلام تهاوت الحواجز القديمة من اللغة، والعادات، و. توفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب، والمدنيات لتبدأ حياة فكريه جديدة، على أساس المساواة المطلقة، وبروح من المنافسة الحرة".
والواقع أن أعمال الفاتحين المسلمين لا تدع مجالاً للشك في أن المسلمين لم يُكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، بل سارع الناس لاعتناقه لما لمسوه من نعمة الإسلام، ولما لمسوه في الفاتحين. ووصيّة محمد صلى الله عليه وسلم لجيش مؤتة معروفة، وعلى نمطها أوصى أبو بكر رضي الله عنه جند المسلمين، وبيّن لهم كيفية معاملة أهل البلاد المفتوحة. وأمر خالد بن الوليد أن يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم. فترك المسلمون لأهل الذمة حريتهم الدينية، وخلّصوهم من اضطهاد بعضهم لبعض.
وأقرأ ما كتبه "ساويرس بن المقفع"النصراني الأرثوذكسي المعاصر للفتوحات الإسلامية، وهو يتكلم عن عدل المسلمين، ويذكر غبطة غير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي:
"وكانت أعمال الأرثوذكسية الصالحة تنمو، وكانت الشعوب فرحين، مثل العجول الصغار، إذا حُلّ رباطهم، وأطلقوا على ألبان أمهاتهم".
واقرأ رسالة البطريق النسطوري "يشوع ياف"إلى "سمعان"رئيس أساقفة فارس، وقد راعه تسارع الناس إلى الدخول في الإسلام:
"أين أبناؤك أيها الأب، الذي ثكل أبناءه، أين أهل مرو العظماء، الذين على الرغم من أنهم لم يشهدوا سيفاً، ولا ناراً، ولا تعذيباً ...
واحسرتاه، واحسرتاه على هذه الآلاف المؤلفة التي تحمل المسيحية، والتي لم يتقدم حتى واحد منها ليهب نشمه ضحية للرب، ويريق دماءه في سبيل الدين الحق ... .
أين كذلك معابد كرمان، وبلاد فارس جميعاً ...(35/112)
وإن العرب الذين منحهم الله السلطان يشاهدون ما أنتم عليه، وهم بينكم كما تعلمون ذلك حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس يعطفون على ديننا، ويكرمون قسيسينا، وقديس الرب، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار، فلماذا هجر شعبك من أهل مرو عقيدتهم من أجل هؤلاء العرب؟ ولماذا حدث ذلك أيضاً في وقت لم يرغمهم فيه العرب
- كما يصرح بذلك أهل سرو أنفسهم- على ترك دينهم؟ ... ".
إن الذي جذب الناس للإسلام، هو الإسلام ذاته، لأنه فطرة الإنسان، فتتجاوب مع الفطر السليمة. قال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (1) .
وهذا سر عظمة هذا الدين، وسر استجابة الناس لعقيدة التوحيد العقيدة التي لا لبس فيها ولا تعقيد، البعيدة عن الفلسفات الخيالية، وعن الغموض، والتناقض. فمن السهل إدراك عقيدته من جميع البشر على مختلف مستوياتهم، ويرتفع بالإنسان من هبوطه، ويسمو به، فيعز به من يعتنقه، ويحس بالكرامة، باعتدال وتوازن عام في مختلف جوانب الحياة، وفي كل البيئات البشرية، وفي كل زمان ومكان.،ولذلك لا نجد شعباً اعتنق الإسلام وتراجع عنه باختياره، وقلّ بل ندر أن نجد عالماً سقط علماء المسلمين ارتد عن الإسلام، في حين نجد كثيراً من عظماء الأديان الأخرى ومفكريها اعتنق الإسلام، وآمن بعقيدته، وعمل على نشرها وتبليغها.
__________
(1) سورة الروم الآية: 30.(35/113)
ورعية الدولة الإسلامية تشمل المسلم وغير المسلم، وكل له حقوق وعليه واجبات، وسمح الإسلام بتمايز العقائد في إطار هذه الحقوق، والواجبات، وأنقذ الناس من التعصب، والإرهاب الديني، وعاشوا في ظل دولة الإسلام بالأمن، فأقبلوا على اعتناقه، وجذبهم إليه القدوة عندما تمسك المسلمون بدينهم والعدل الذي نعموا به في ظل الدولة الإسلامية.
والعدل: أول قواعد الحكومة الإسلامية، وميزة النظام الإسلامي. ومفهومه في الدولة الإسلامية بصفة عامة: تنفيذ حكم الله، أي الحكم في الناس بما جاء به القرآن الكريم، وبسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (1) .
وقال سبحانه وتعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (2)
وقال جل وعلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3) .
وقال تعالى:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (4) .
ولا نعلم حكومة في تاريخ العالم التزمت بالعدل بالقدر الذي ظهر في حكومة الإسلام، وخاصة في العهدين النبوي والراشدي، فنتج عن ذلك سرعة انتشار الإسلام وشيوعه بين الناس على مختلف أجناسهم وألوانهم وعاداتهم، ولغاتهم، وأوطانهم.
__________
(1) سورة النساء الآية: 58
(2) سورة النحل الآية: 90.
(3) سوره المائدة الآية: 8.
(4) سورة الأنعام الآيةَ: 152.(35/114)
ولما دوّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديوان الجند والعطاء، شمل بالعطاء جميع رعايا الدولة الإسلامية من المسلمين (بدون تمييز في الجنس أو اللون) ومن احتاج من غير المسلمين. فكان لذلك أثر كبير في إقبال الناس على الإسلام.
وأجمل ما تميز به العدل في الدولة الإسلامية- العدل والقضاء. فكان الفصل في خصومات الناس يتم على أساس الأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة. ورسالة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريَ في القضاء معروفة، وقد اتخذها القضاة المسلمون أساساً لأنظمتهم القضائية.
وعينّ الخلفاء الراشدون قضاة للأمصار الإسلامية المفتوحة، مستقلين عن الأمراء وقادة الجند، ينوبون عنهم في الفصل بين الناس، على أساس من الكتاب والسنة والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص.
وكان يراعي في اختيار القاضي، غزارة العلم، والتقوى، والورع، والعدل، فكان القضاة من خيار الناس، يخشون الله، ويحكمون بين الناس بالعدل، وكلمتهم نافذة على الولاة وعمال الخراج، بل على الخلفاء، واستمر ذلك في عهد الأمويين، وفي كثير من عهود دولة الإسلام. كما كان للقاضي رزق من بيت المال لما يلزمهم من الانقطاع لهذا العمل، وترك ما يرتزقون منه، ورزق القاضي كبير، ويُعطاه مقدماً حتى لا ينظر بعد ذلك إلى شيء، وكثير من قضاة الإسلام كانوا يرفضون الرزق محتسبين.
وحفظ لنا التاريخ نزاهة هؤلاء القضاة، فلم يُعرف عنهم ميل إلى الدنيا واغترار بها يعدل بهم عن قول الحق، والحكم به، وكان في نظرهم سواء: الشريف والوضيع، والخليفة وأفراد الرعية، ولم يتأثروا بالفتن، وبقي القضاء نظيفاً كما هو من الاستمرار في العدل فكان عامل جذب كبير لرعايا الدولة الإسلامية إلى اعتناق الإسلام.(35/115)
وقد اهتم الخلفاء بجميع أفراد الأمة من مسلمين وغير مسلمين، وقصة القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص مشهورة. وقصة العاشر والتّغلبي النصراني مع عمر بن الخطاب، واليهودي المتسوّل الذي فرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين. وقصة جبلة بن الأيهم الغساني مع الأعرابي الفزاري، وقصص جلوس الخلفاء أنفسهم للقضاء أمام خصومهم، كل ذلك مكن للدعوة الإسلامية من التثبيت، والامتداد، والانتشار.
وجلس الخلفاء أنفسهم أمام رعاياهم من أهل الذمة للقضاء، وقضية الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الرجل النصراني دليل على ذلك:
"وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح قاضيه، وقال له:
"الدرع درعي، ولم أبع، ولم أهب".
فقال شريح للنصراني: "ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين"؟.
فقال النصراني: "ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب".
فالتفت شريح إلى علي. فقال:
"يا أمير المؤمنين هل من بينة "فضحك علي.
وقال: "أصاب شريح مالي بينة".
فقضى شريح للنصراني. فأخذ النصراني الدرع، ومشى خطوات، ثم رجع وقال:
"أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه. أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين".
فقال: "أما إذا أسلمت فهي لك"وحمله على فرسه
وهكذا كان القضاء عامل جذب كبير الإسلام.
كما كانت صلاة الجماعة في المسجد عامل جذب قوي أيضاً، تلك العبادة التي تتجلى فيها روعة المساواة بين البشر جميعاً بأعلى صورها في إلغاء الفوارق.(35/116)
ففي الجمعة والجماعة تأخذ المساواة صورتها العملية، وتزول كل الفوارق التي تميّز بين الناس، فمن ذهب إلِى المسجد أولاً آخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان أقل الناس مالاً، وأضعفهم جاهاً، ومن تأخر حضوره أخذ مكانه مهما يكن مركزه، وتجد الغني يجانب الفقير، والعالم يجانب الأمي، والشريف بجانب الوضيع، والحاكم بجوار الخادم، ولا فرق بين واحد وآخر، فكلهم سواسية أمام الله سبحانه، في قيامهم، وركوعهم، وسجودهم، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وحركاتهم واحدة خلف إمام واحد، ترتبط قلوبهم بخالقهم، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
وهذه المساواة التي تظهر عملياً، وتتكرر في اليوم الواحد مرات، جذبت سكان البلاد المفتوحة للإسلام، فانتشر بينهم، وأصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وهكذا كان المسجد وسيلة من وسائل الدعوة الهامة، فكان ركيزة هامة من ركائز بناء المجتمع الإسلامي، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل للمسلمين في بناء المساجد والاهتمام بها، فبنى مسجد قباء، ثم المسجد النبويَ، وبنى المساجد في الأسفار الطويلة في الطرقات والمنازل، وفي أثناء الغزو، وأثناء الحصار. واهتم الراشدون بذلك وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاة الأقاليم في العراق ومصر باتخاذ مسجداً للجماعة، وللقبائل مسجداً، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجمعة فشهدوا الجمعة. وأما في الشام فأمرهم أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً، ولا يتخذوا للقبائل.
وفي تخطيط المدن الإسلامية حرص المسلمون على إنشاء المساجد في المدن التي مصرّها المسلمون الكوفة، والبصرة، والموصل، والفسطاط، وكانت تقام في هذه الأمصار حياة إسلامية تحس بها الشعوب التي أطلتها راية الإسلام، وتلمسها كنماذج كاملة للمجتمع المسلم يتوسطها المسجد. فكانت الأمصار والأجناد من عوامل بث الدعوة، وانتشارها وبهذا يتضح لنا أثر الفتوحات الإسلامية في انتشار الإسلام.
المراجع والمصادر(35/117)
1 - القرآن الكريم.
2 - كتب السنة المطهرة- صحيح مسلم، صحيح البخاري- فتح الباري- مسند أحمد ...
3 - ابن الأثير- الكامل في التاريخ- دار الكتاب العربي- بيروت- ط4/ 1403هـ 1983 م.
4 - أرنولد- توماس- الدعوة إلى الإسلام- ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله- مكتبة النهضة المصرية 1970 م.
5 - الفرد بل- الفرق الإِسلامية في الشمال الأفريقي- ترجمة عبد الرحمن بدوي- دار الغرب- بيروت ط 2/ 1981 م.
6 - بتلر- فتح العرب لمصر- ترجمة فريد أبو حديد دار الكتب المصرية.
7 - برنارد لويس! - تاريخ العرب- Arabs in history London 1966
8 - بروكلمان- كارل- تاريخ الشعوب الإِسلامية- ترجمة نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي- دار العلم للملايين- بيروت ط5/ 1968م.
9 - البلاذري- فتوح البلدان- دار الكتب العلمية- بيروت 1403 هـ/ 1983 م.
10- ابن تيميه- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية- دار الكتاب العربي- مصر ط4/ 1969م.
11- جب- هاملتون- التاريخ الإِسلامي في العصور الوسطى- دمشق- مهمل السنة.
12- جب- هاملتون- دراسات في حضارة الإِسلام- ترجمة إحسان عباس وزملاؤه- دار العلم للملايين- بيروت ط 2/ 1979 م.
13- جميل عبد الله المصري- أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية- مكتبة الدار بالمدينة ط 1/ 1410 هـ 1989م.
14- جميل عبد الله المصري- الموالي- موقف الدولة الأموية منهم- دار أم القرى- عمان- الأردن ط 1/1408 هـ 1988 م.
15- جميل عبد الله المصري- تاريخ الدعوة الإسلامية- مكتبة الدار بالمدينة ط1/7 140 هـ 1987 م.
16- الجندي- أنور- الإسلام وحركة التاريخ- دار الكتاب المصري ط 1/ 1980 م.
17- جولد تسيهر- أجناس- العقيدة والشريعة في الإسلام- ترجمة محمد يوسف موسى ورفاقه ط 2/ دار الكتب بمصر 1378 هـ 1959 م.
18_حتي- فيليب- صانعو التاريخ العربي- ترجمة أنيس فريحه- دار الثقافة ط 1 /1969 م.
19_حتي- فيليب- تاريخ العرب- مطول- دار الكشاف ط 3/ 1961 م.(35/118)
20_خوري- فيليب- تاريخ العرب- ترجمة محمد مبروك- القاهرة ط3/ 1953م.
21_ الدينوري- الأخبار الطوال- تحقيق عبد المنعم عامر القاهرة ط 1/ 1960.
22_ رورنتال- فرانز- علم التاريخ عند المسلمين- ترجمة صالح أحمد العلي- مؤسسة الرسالة ط 2/1403هـ 1983 م.
23- الريس- محمد ضياء الدين- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية- دار المعارف بمصر ط3/1969م.
24- زيدان- جورجي- تاريخ التمدن الإسلامي-مكتبة الحياة- بيروت- مغفل السنة.
25_ ابن سعد- محمد بن سعد- الطبقات الكبرىَ- تحقيق ادواردسخاو، ويوسف هوروفيتش- دار التحرير- القاهرة 1388 هـ 1968م.
26- سورديل- دومنيك- الإسلام في القرون الوسطى- ترجمة علي المقلد- بيروت ط1 /1983.
27- سيديو- ل. م. تاريخ العرب العام- تعريب عادل زعيتر- عيسى البابي الحلبي- مصر ط /2 1389هـ 1969م.
28- الشافعي- الإِمام محمد بن إدريس- الأم- الجزء الرابع ط1 الأميرية 1321 هـ.
29_ ابن طباطبا- ابن الطقطقي- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية- بيروت 1385 هـ66 19م.
30- الطبريَ- محمد بن جرير- أبو جعفر- تاريخ- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف- مصر ط 2 / 1971م.
31- الطماوي- سليمان- عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارية الحديثة- بيروت 1396 هـ.
32- ابن عبد الحكم- فتوح مصر وأخبارها- طبع ليدن- بريل- بغداد 1920 م.
33- أبو عبيد- الأموال- القاهرة 1353 هـ.
34- ابن عساكر- تاريخ دمشق- مخطوط- تصوير مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
35- فان فلوتن- السيادة العربية- ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله ط 2/ 1965 م.
36- فلهورن- يوليوس- تاريخ الدولة العربية- ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة- القاهرة 1968 م.
37- القلقشندي- صبح الأعشى في صناعة الإنشا- دار الثقافة والإرشاد المصرية- مطابع كونستانس 1383 هـ 1963 م.
38- كلود كاهين- تاريخ العرب والشعوب الإسلامية- تعريب بدر الدين القاسم- دمشق ط 1/1972م.(35/119)
39- ابن كثير- البداية والنهاية- دار الفكر العربي- دار النيل- الجيزة بمصر، مهمل السنة.
40- لاندو- روم- الإِسلام والعرب- تعريب منير البعلبكي- دار العلم للملايين- بيروت ط 1/1962م.
41- لوبون- غوستاف- حضارة العرب- تعريب عادل زعيتر- دار إحياء التراث العربي- بيروت ط 3/ 1389 هـ 1979م.
42- الماوردي- الأحكام السلطانية والولايات الدينية- المكَتبة التوفيقية- القاهرة- مغفل السنة.
43- مجير الدين الحنبلي- الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل- النجف 1388هـ/1968م.
44- المقريزي- إمتاع الأسماع- تحقيق محمود محمد شاكر- القاهرة 1941 م.
45 - المقريزي- المواعظ والاعتبار- خطط- طبعة جديدة بالأوفست.
46- نتنج- أنتوني- العرب- انتصاراتهم وأمجاد الإِسلام- ترجمة راشد البراوي- الانجلو المصرية- القاهرة 1974م.
47- نورمان دانيال- الإسلام والغرب.
48- ابن هشام- السيرة النبوية- تحقيق السقا وزملاؤه- مهمل مكان الطبع والسنة.
49- الواقدي- المغازي- تحقيق مارسدن مونس- مطبعة جامعة اكسفورد 1966م.
50- وكيع محمد بن خلف بن حيان- أخبار القضاة- عالم الكتب- بيروت مهمل السنة.
51- ول ديورانت- قصة الحضارة- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة.195م.
52- يحي بن آدم- الخراج- تحقيق أحمد محمد شاكر- المطبعة السلفية 1347 هـ.
53- اليعقوبي- تاريخ- دار صادر بيروت- بيروت 1960 م.
54- أبو يوسف- الخراج- المطبعة السلفية بمصر 1346هـ.(35/120)
المماليك البحرية
وقضاؤهم على الصليبين في الشام
الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
أستاذ مشارك بقسم التاريخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فما من زمن تفرق فيه المسلمون، وضعفت شوكتهم، وتكالب عليهم أعداؤهم، إلا ووفى الله تعالى للمؤمنين بوعده في حفظ دينه، فيسر لهم من يجمع شملهم، وبقيل عثرتهم، ويقودهم إلى مجاهدة عدوهم.
والمماليك البحرية نموذج لمثل هؤلاء الذين وفقهم الله للدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين، فتمكنوا مِن رد الخطر المغولي الماحق، ومن تطهير البلاد من بقايا الصليبيين. فلله الحمد أولاً وآخراً.
المماليك:
يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق- الأبيض غالبا- الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين 648-922 هـ (1250-1517م) .
وكلمة (مماليك) : جمع مملوك، وهو الرقيق الذي يباع ويشترى، وهي اسم مفعول من الفعل (ملك) ، واسم الفاعل (مالك) والمملوك هو عبد مالكه، ولكنه يختلف عن العبد الذي بمعنى الخادم. كما أن كلمة (مماليك) تختلف في معناها عن كلمة (موالي) التي مفردها (مولى) ، والتي تعني- اصطلاحا- عند المؤرخين المسلمين: كل من أسلم من غير العرب. فالموالي قد يكون أصل بعضهم من أسرى الحروب الذين استرقوا ثم أعتقوا، أو من أهل البلاد المفتوحة الذين انضموا إلى العرب فصاروا موالي بالحلف والموالاة.(35/121)
والرق وأسباب الاسترقاق قديم قدم الإنسان، عرفته الأمم الغابرة من سكان ما بين النهرين، ووادي النيل، واليونان، والرومان، والعرب في الجزيرة العربية، وأقرته معظم الديانات كاليهودية والنصرانية، أما الإسلام فإنه لم ينص على إلغائه وتحريمه صراحة، ولكنه حض على تحرير الأرقاء، وعلى حسن معاملتهم، كما نظم العلاقة بينهم وبين سادتهم بما يجعلهم إخوانا في الإسلام والإنسانية متحابين، يعلم كل منهم حقوقه وواجباته، حتى صار الكثيرون من الموالي شديدي الوفاء والإخلاص لسادتهم.
والتاريخ الإسلامي ملئ بأمثلة تدل على أن المسلمين استجابوا لشرائع دينهم، فأكرموا هؤلاء الموالي والأرقاء، ووثقوا بهم، ورفعوهم إلى أعلى الدرجات، ولو أردنا أن نذكر جميع الأمثلة على ذلك لأطلنا، ولكنني أجتزئ بعض الأمثلة على ذلك، فقد تولى وردان مولى عمرو بن العاص خراج مصر، واستعمل مسلمة بن مخلد- والي مصر وأفريقيا في عهد معاوية بن أبي سفيان- استعمل مولاه أبا المهاجر دينار على أفريقية عام 50 هـ. كما ولى أفريقية عام 73 هـ تليد مولى عبد العزيز بن مروان. وكان موسى بن نصير القائد المشهور، وفاتح أفريقيا، مولى لامرأة لخمية، وقيل بل مولى لبني أمية.
كما كان طارق بن زياد ... وهو بربري من قبيلة نفرة مولى لموسى بن نصير.
وكان العالم الجليل الحسن البصري مولى لزيد بن ثابت رضي الله عنه من سبي ميسان.
هذا وقد حذا العباسيون حذو سابقيهم من الأمويين والراشدين في الاستعانة بالموالي ومعظمهم من مماليكهم، حيث روى عن أبي جعفر المنصور أنه سأل أحد الأمويين عمن وجد الأمويون عندهم الوفاء بعدما أصابهم فقال: الموالي، فقرر المنصور أن يعتمد على مواليه ويستعين بهم.(35/122)
وكان الخليفة المأمون العباسي (198- 8 1 2 هـ) - (813 - 833 م) أول من استكثر من المماليك، حيث ضم بلاطه عددا من هؤلاء المماليك المعتوقين، ثم تلاه أخوه المعتصم (218-227 هـ) - (833 هـ 843 م) الذي أراد أن يحد منِ نفوذ جنوده من الفرس والعرب فكون جيشا أغلبه من التركمان، كان يشتريهم صغاراً ويربيهم حتى وصل عددهم إلى عشرين ألفا.
أما أحمد بن طولون والي مصر، فقد اعتمد على المماليك اعتمادا يكاد يكون كليا، حيث كان والده طولون مملوكا تركيا أهدي للمأمون عام 200 هـ (815 م) ، فقد أحضر أحمد هذه المماليك من بلاد جنوب بحر قزوين وبلاد الديلم، حتى زادوا عن الأربعة عشر ألف تركي وأربعين ألف مملوك أسود، بالإضافة لسبعة آلاف من المرتزقة.
وقام الأخشيديون بالسير على نفس السياسة، حتى أن محمد بن طغج الأخشيد مؤسس دولتهم في مصر 323- 358 هـ (935-969م) ، جعل منهم جيشا يضم أربعمائة ألف من الديلم والترك، بالإضافة لحرسه الخاص الذيَ تجاوز الثمانية آلاف.
وأعتمد الفاطميون خلال حكمهم في أفريقيا على المغاربة المصامدة، وعندما استولوا على مصر عام 358هـ (969 م) استكثروا من الديلم والأتراك والغز والأكراد.
أما الأيوبيون، فإن استكثارهم من المماليك كان سببا في قيام الدولة المملوكية، حيث إنهم قاموا منذ وقت مبكرين دولتهم 597 هـ (1200م) ، بجلب أعداد كبيرة من المماليك الصغار عن طريق النخاسين الذين كانوا يحضرونهم من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق، وما وراء النهر، وآسيا الصغرى، وفارس، وتركستان، وحتى من البلاد الأوربية حيث ازدهرت حركة تجارة لنخاسة في أوربا قبل عصر المماليك، ومارسها البنادقة والجنويون فكانوا يشترون المماليك من سواحل البحر االأسود ويبيعونهم في مصر، فبلغ من كانوا يبيعونهم في العام الواحد ألفين من المغول والشراكسة والروم والألبانيين والصقالية والعرب.(35/123)
وكانت أشهر أسواق بيع هؤلاء المماليك، خان مسرور في القاهرة، وسوق الإسكندرية. والذي شجع الأيوبيين في مصر والشام على الاستكثار من هؤلاء المماليك هو ضعف شأنهم بعد وفاة صلاح الدين رحمه الله 589 هـ (1193م) ، وانقسام الدولة بين الأيوبيين الذين لقبوا أنفسهم بالملوك في كل من مصر، ودمشق، وحلب، والكرك، وبعلبك، وحمص، وحماه، حيث قامت بينهم منافسات وحروب كثيرة، كما قامت بينهم من جهة وبين أبناء البيوتات الأخرى مثل آل زنكي وأهل البلاد الآخرين حروب مشابهة، مما اضطر كل منهم للبحث عن عصبية تحميه وقت الشدة، وتساعده في صد أعدائه، فكان الإكثار من الرقيق الأبيض (المماليك) خير وسيلة لتحقيق ذلك وللوقوف في وجه الصليبيين في الشام، ولذلك بني لهم الملك الصالح- نجم الدين أيوب 637-647 هـ (1240-1250م) المعسكرات في جزيرة الروضة 638 هـ (1241م) وسماهم بالمماليك البحرية الصالحية، وسكن في القلعة عندهم ورتب جماعة منهم حول دهليز، واعتمد عليهم في صد غزوة لويس التاسع بمصر.
ومما زاد من دالتهم عليه كونهم قد دبروا مؤامرة لخلع العادل الثاني وأحلوا الملك الصالح محله 637 هـ (1239م) ، ثم زاد خطرهم حتى أنهم دبروا مؤامرة لقتله عندما غضب عليهم لإهمالهم في الدفاع عن دمياط أمام لويس التاسع عام 647 هـ، ولولا مرضه الذي توفى فيه لما نجا من شرهم.
أساليب تربية وتدريب هؤلاء المماليك:
عني سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم سلاطين المماليك، بتربية مماليكهم تربية خاصة، وتثقيفهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال، وخصصوا لذلك ثكنات عسكرية في قلعة الجبل عرفت بالطباق، كان عددها اثني عشرة طبقة واسعة تشبه كل منها حارة كبيرة تشتمل على مساكن عديدة، تتسع لحوالي ألف مملوك، ولم يكن يسمح لهؤلاء المماليك، وخصوصا الصغار منهم بمغادرة تلك الطباق إلا فيما ندر.(35/124)
وقد وصف المقريزي الحياة والعادات ومواد التدريس ومراحله فقال: "كان للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، منها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره، عرضه على السلطان، وأنزله في طبقة جنسه، وسلمه لطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى، ومعرفة الخط والتحدث بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك ألا يجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك، علمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ، أخذ في تعليمه أساليب الحرب، من رمي السهام، ولعب الرمح، ونحو ذلك فيتسع في ذلك حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج".
وكان السلاطين يشرفون بأنفسهم على تربية مماليكهم ويتفقدون أحوالهم، ومنهم السلطان الناصر قلاوون 679-689 هـ (1280-1290م) الذي كان يهتم بطعامهم ومعيشتهم بنفسه، ويقول معتزا بهم: "كل الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال ورجال وعقار، وأنا عمرت أسوارا وعملت حصونا لي ولأولادي وللمسلمين وهم المماليك".
وصدق ظنه بهم إذ قال أبو المحاسن عن مماليك قلاوون هذا: "فكان بهم- أي المماليك- منفعة للمسلمين ومضرة للمشركين، وقيامهم في الغزوات معروف، وشرهم عن الرعية معكوف".
وكان السلاطين ومقدمو المماليك يوصون القائمين على شؤونهم وخصوصا على شؤون الطباق المذكورة أن يأخذوهم بالحسنى وأن يعطفوا عليهم، حيث جاء في وصية أحد المقدمين إلى القائمين على شؤون تربيتهم:"ليحسن إليهم، وليعلم أنه واحد منهم، ولكنه مقدم عليهم، وليأخذ بقلوبهم، مع إقامة المهابة التي تخيل إليهم أنه معهم، وخلفهم، وبين أيديهم، وليلزم مقدم كل طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم، وليكن لأحوالهم متعهدا ولأمورهم متفقدا ... ".(35/125)
هذا ولا يعني التهاون معهم إلى الحد الذي يفسد تربيتهم فقد كانوا يؤخذون أحيانا بالقسوة والشدة إذا ما ارتكبوا خطأ. وقد وصف المقريزي ذلك فقال:
"ولهم أزمة من النواب، وأكابر من رؤوس النوب، يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإذا عثر أحد مؤدبيه الذين يعلمونه القرآن، أو الطواشي الذي هو مسلم إليه، أو رأس النوب الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا أو أخل برسم أو ترك أدبا من آداب الدين والدنيا، قابله على ذلك بعقوبة شديدة قدر جرمه ... فلذلك كانوا سادة يديرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جار واعتدى".
ولكن هذه السياسة المتزنة في تربيتهم بين الشدة عليهم، والرحمة بهم، لم تدم طويلا، وحل محلها الدلال والتهاون، خصوصا في الأمور الدينية، مما سبب فساد أجيالهم فعم بذلك ضررهم على الخاصة والعامة، وأضعف شأنهم، وحط من قيمتهم.
قال المقريزي في وصف تلك التربية المتهاونة وما نتج عنها: "واستقر رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشأنهم فبدلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس، وأدناهم قدرا، وأخسهم، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، ولا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام، وشدة عيب الولاة، وسوء تصرف أولي الأمر".
مميزات المماليك:(35/126)
بسبب كونهم غرباء عن أهل البلاد، ولخضوعهم لتربية خاصة أعدتهم إعداداً ثقافيا وعسكريا، ليكونوا جنودا وحكاما وسياسيين، يتولون الوظائف العليا حسب الكفاية الشخصية في المجتمع دون اعتبار لنشأتهم الأولى، فقد عاشوا كطائفة منفصلة عمن حولهم، ولم يختلطوا إلا نادرا بالسكان المحليين من مسلمين ونصارى، ولم يتزاوجوا معهم إلا فيما ندر.
كما احتكروا الجندية عليهم، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوها وقفا على المماليك الصغار الذين يجلبون حديثا، ولم يسمحوا لأبناء المماليك الكبار من الانخراط فيها، بل قصروهم على الوظائف الإدارية والكتابية.
ورغم اختلاف أصول مولدهم، "انقسامهم حسب خشداشياتهم وسادتهم إلى أحزاب متطاحنة، فإنهم كانوا يجتمعون ويتماسكون لمواجهة االأخطار المشتركة التي يتعرضون لها من قبل أهل البلاد من مصريين وشاميين أو من المغول أو الصليبيين.
وكانوا يتعلمون القرآن الكريم والفقه الإسلامي وينشؤون- في الغالب- تنشئة إسلامية ويعلمون أن التحلي بالأخلاق الإسلامية يكسبهم ثقة العامة، فكان بعضهم يتظاهرون بالصلاح والتقوى، ويقدمون على بناء العمائر الدينية من مساجد وتكايا ومدارس، بينما يمارس بعضهم في خلواتهم أشد أنواع الفسق والفجور، ولم يكونوا يتحرجون من الانتساب إلى مشتريهم الأول أو أستاذهم مثل الصالحي، والمعزي، أو يلحقون بأسمائهم ما يدل على أثمانهم التي بيعوا بها مثل الألفي. وكان المملوك شديد الوفاء لسيده أو أستاذه أو رابطته مع زملائه الذين تربوا لدى سيد واحد (الخشداشية) .
قيام دولة المماليك البحرية
648_658 هـ (1250- 1260م)
في قمة الهجمية الصليبية- التي تمثلت في الحملة السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر عن طريق دمياط - وخلال انشغال الملك الصالح نجم الدين أيوب(35/127)
بالدفاع على المنصورة- التي وصل الصليبيون إليها إلى بعض أنحائها بعد أن فر أمام هجمتهم بنو كنانة وبعض المماليك - وقع الملك الصالح مريضا ولم يلبث أن توفى بعد مرض عضال.
وهنا ظهرت شخصية وعبقرية زوجته شجر الدر، التي أدركت مدى الخطر المحدد بالمسلمين، إذا أنّ علم الجيش والعامة بخبر موت السلطان، محل شأنه أن يوقع الوهن في العزائم، ويثير الأحقاد والمطامع الكامنة في نفوسهم وأن يطمع الصليبيين فيهم، فقامت بإخفاء خبر موته، وأرسلت سرا وعلى عجل تستدعي ابنه تورانشاه من حصن كيفا بأطراف العراق ليتولى عرش والده.
وخلال هذا الوقت تبدت بطولة الأمراء المماليك، فتصدىَ بيبرس البندقداريَ ومعه فرقة من المماليك البحريين الصالحين للصليبيين، فشن عَليهم هجوما من خارج المنصورة، وطردهم من بعض نواحيها ثم لاحقهم الأمير أقطاي- القائد العام للجيش- مستعملا النار الإغريقية حتى قرروا الهروب إلى دمياط.
وعندما وصل تورانشاه بن السلطان الملك إلى صالح إلى مصر عام 647 هـ (.125م) ولي السلطة دون معارضة، فكان من أول أعماله أن حاصر الصليبيين وحاد بينهم وبين وصول المدد إليهم عن طريق دمياط، وقطع عليهم طريق العودة. وعندما اضطر الملك لويس التاسع بسبب حراجة موقفه إلى طلب الهدنة، ولكن المصريين رفضوا طلبه، وعندئذ حاول التسلل ليلا والانسحاب تحت جنح الظلم، فلم تفلح حيلته، حيث إن المسلمين قد علموا بالأمر فاستعدوا لإفشاله وطاردوا الصليبيين حتى فارسكور، وقتلوا منهم خلقا كثيراً بلغ أكثر من ثلاثين ألفا، وسقط الملك نفسه أسيرا، فسجنه المسلمون في دار ابن لقمان بالمنصورة، وكلفوا الطواشي صبيح بحراسته.(35/128)
وظل الملك لويس التاسع في أسره حتى أخلى المسلمون سبيله مقابل انسحاب الصليبيين من دمياط ودفع مبلغ طائل من المال فدية لنفسه وتعويضا للمسلمين عما خسروه في هذه الحرب، ومقابل إطلاق أسرى المسلمين في مصر والشام وإطلاق سراح أسر ى الصليبين وغير ذلك مما سنذكره في حينه.
وبذلك تم فشل هذه الحملة المسعورة وذلك بفضل الله، ثم فرسان المماليك كاقطاي وبيبرس الذين سماهم ابن واصل (داوية الإسلام) إعجابا منه بشجاعتهم.
مقتل السلطان تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب:
لم يكن تورانشاه بالشخص المناسب فكان سيئ التدبير غير مستقيم الأخلاق، مفتقرا للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة".
وقد دفعه ندماؤه الذين كانوا لا ينفكون عن تذكيره بأنه ليس ملكا إلا بالاسم، وأن السلطة الفعلية بيد زوجة أبيه شجر الدر والمماليك، إلى الإساءة للمماليك الذين عليهم جل اعتماده، كبيبرس وأقطاي ورفاقهم، فأبغضوه وصاروا يخشون غدره ويتحينون فرصة القضاء عليه.
ولم يحفظ جميل شجر الدر التي أخذت له البيعة، واستدعته من مقره البعيد، وولته السلطة، فاتهمها بإخفاء أموال كانت لأبيه، حتى اضطرت لمعاداته ومغادرته إلى القدس هربا من مضايقاته، ثم لم تلبث أن عادت وجعلت تتصل بأنصارها من المماليك البرجية المعادين لتورانشاه، فقاموا بمهاجمته وهو في معسكره في فارسكور، وذلك في 29 محرم عام 648 هـ (1250م) مما اضطره لإلقاء نفسه في البحر من فوق برج خشبي كان قد التجأ إليه، فحرقوه عليه بعد أن قذفوه بالسهام، فمات جريحا غريقا حريقا، دون أن تنفعه استعطافاته وصياحه "ما أريد ملكا، دعوني أرجع، خذوا ملككم ودعوني أعود إلى حصن كيفا" ولكنهم لم يلاقوا بالا لأقواله وقالوا: "بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها".(35/129)
وقيل إنه حاول الاستنجاد بأبي عز الدين رسول الخليفة العباسي، الذي كان معه في المعسكر فصاح: "يا أبا عز أدركني"ولكن أبا عز الدين لا يملك أن يفعل شيئا تجاه هؤلاء القادة الغاضبين.
وقيل: بقيت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام، ثم دفنت مكانها وقيل: بل كشف عنها الماء بعد ثلاثة أيام، فنقلت إلى الجانب الآخر وذلك بجرها في الماء بصنارة من قبل شخص راكب في مركب كما يجر الحوت.
حكم شجر الدر:
كان هم القادة المماليك التخلص من السلطان تورانشاه قبل أن يتخلص منهم، ولذلك لم يفكروا فيمن سيولونه الملك من بعده، لهذا ففي اللحظة التي قتلوه فيها، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، حيث إن المتطلعين لهذا المنصب، من قادة المماليك كثيرون، ولكن أهل مصر والملوك الأيوبيين في الشام لم يكن من السهل أن يتقبلوا جلوس مملوك علىَ عرش مصر، لهذا قرروا أن يولوا شجر الدر (أم خليل) فنصبوها سلطانة على مصر في الثالث من صفر عام 648 هـ السابع من مايو آيار 1250 هـ، في ذروة احتفال مصر بهزيمة لويس التاسع ملك فرنسا وحملته الصليبية السابعة، ومغادرتهم لدمياط، ولقبوها باسم "الملكة عصمة الدين شجر الدر والستر العالي والدة الملك خليل" ودعواها على المنابر، وكانت علامتها "والدة خليل"كما كان نص الدعاء لها على المنابر: "احفظ اللهم الجهة العالية الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة الملك الصالح"كما نقشوا على السكة "المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة خليل، أمير المؤمنين".
وعينوا عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركماني أحد أمراء البحرية من الصالحية أتابكا في ربيع الآخر سنة 648هـ، ويبدو آن هذا التعيين لم يكن لأن أيبك كان أقوى الأمراء وإنما لتجنب حلول أقطاي في هذا المركز لما كان الأمراء يخشونه من قوته وتسلطه.(35/130)
لقد اشتهرت شجر الدر بالدهاء حتى وصفها ابن اياس بأنها "صعبة الخلق، قوية البأس، ذات شهامة زائدة، وحرمة وافرة، سكرانة من خمرة التيه والعجب" (7) وقد سبق وبينت مقدرتها الإدارية في إخفاء موت زوجها الملك الصالح بحجة مرضه، حتى لا ينخذل المسلمون أمام الصليبيين، وكيف قامت بنقله إلى القاهرة ودفنته سرا في قلعة الروضة، في حين أرسلت تستدعي أبنه تورانشاه من حصن كيفا، وحال حضوره سلمت إليه السلطة.
كان أول ما قامت به شجر الدر بعد تسلمها السلطة أن صفت الموقف مع الصليبيين، ففاوضت لويس التاسع ملك فرنسا، وقائد الحملة الفاشلة، واتفقت معه على رحيله من مصر وتسليم دمياط، وذلك في يوم الأحد الرابع من صفر 648 هـ الثامن من مايو 1250 م، ونص هذا الاتفاق على أن ينسحب لويس من دمياط ويردها إلى المصريين، وأن يطلق جميع أسرى المسلمين، وأن يتعهد بألا يعود لمهاجمة سواحل بلاد الإسلام مرة أخرى، كما يدفع لها ثمانمائة ألفا دينار فدية لنفسه وللأسرى الصليبيين، وعوضا عما أتلفه في دمياط، ومقابل ذلك يتعهد المسلمون برعاية الجرحى من أسرى الصليبيين، وقيل أيضاً مقابل أن يحافظوا على بعض معدات الصليبين التي سيضطرون لإبقائها بمصر إلى أن يتمكنوا من نقلها، وجعلت مدة الاتفاقية عشر سنوات.
ورغم كل ذلك فقد اضطربت الأمور في مصر عامة والقاهرة خاصة، وذلك احتجاجا وأنفة من حكم امرأة، وعمت الفوضى القاهرة، مما اضطر شجر الدر إلى الأمر بإغلاق أبوابها منعا لانتشار خبر هذه الاضطرابات.
وزاد من خطورة هذا الوضع انضمام علماء المسلمين إلى العامة في هذه المعارضة، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين عبد السلام، الذي كتب كتابا حوله ما قد يبتلي به المسلمون بولاية امرأة. كما لم يوافق الخليفة العباسي على توليها السلطة، وعير أهل مصر بذلك قائلا في رده على رسالة من المماليك يطلبون فيه تأييده لحكمها "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا".(35/131)
تولي الأتابك عز الدين أيبك السلطة:
وعند ذلك رأى المماليك البحرية الصالحية المؤيدين لشجر الدر أنه لابد لهم من حل لهذا الموقف وقالوا: "لا يمكننا حفظ البلاد والملك لامرأة، ولابد من إقامة رجل للمملكة تجتمع الكلمة عليه".
وزاد من اقتناعهم بهذا الرأي، خوفهم من خطر الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب، الذي استغل هذا الموضوع لصالحه ورأى فيه فرصة سانحة للاستيلاء على مصر، فقام بالاستيلاء على دمشق وبعض نواحي الشام، مما أخاف المماليك فسارعوا إلى تزويجها من الأتابك عز الدين أيبك التركماني أتابك العسكر، وتنازلت له شجر الدر عن السلطة بعد ثمانين يوما من حكمها. فأصبح معز الدين أيبك سلطانا - ولو بالاسم- حيث إن شجر الدر "كانت هي المسئولة عنه في كل أحواله ليس له معها كلام.
وقد سبق أن ذكرت أن اختيار المماليك له لهذا المنصب كان لاعتقادهم بضعفه مقارنة بأقطاي وبيرس، وأنه سيكون من السهل عليهم عزله متى شاءوا.
وقد خاب ظنهم فيه، حيث أثبت أيبك أنه ليس بالحاكم الألعوبة، فمنذ بداية عهده بادر إلى اغتيال أكبر منافسيه وهو خوشداشة أقطايى الجمدار عام 652 هـ (1254م) وساعده في ذلك كل من قطز وبهادر وسنجر وعدد من المماليك المعزية، واضطر خشداشية أقطاي من المماليك إلى الفرار، ومنهم بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي، حيث لم يستطيّعوا مغادرة القاهرة التي كانت موصدة الأبواب، إلا بحرق إحدى الأبواب التي ظلت تسمى بالباب المحروق، وتابعوا هربهم نحو الشام وتفرقوا ما بين دمشق وحلب والكرك ودولة السلاجقة.(35/132)
وعند ذلك قام أيبك بمصادرة أموال المماليك الفارين، وتجريد من بقي منهم في مصر من سلطاتهم، ولم يفلح الملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق والمنافس السابق لشجر الدر في مساعدتهم، فاضطروا للتوجه إلى المغيث عمر في الكرك. ولإبطال حجة الملوك الأيوبيين في الشام، ومطالبتهم بعرش مصر، قام أيبك بتولية الطفل الأشرف، موسى الأيوبي السلطنة وهو في السادسة من عمره، وجعله شريكا له في الحكم، فخطب باسمهما على المنابر وسكت العملة باسمهما.
ولما لم تنطِل حيلته هذه على الناس، التجأ أيبك إلى الاستعانة بالخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، ونصب نفسه نائبا له على مصر، ثم أخذ في الاستعداد للتصدي للملك الناصر يوسف، الذي كان قد كاتب الملك لويس التاسع في عكا، عارضا عليه التعاون ضد أيبك مقابل تسليمه القدس للصليبين- وكانت تحت حكم الأيوبيين-. ولما علم أيبك بهذه المفاوضات أرسل إلى لويس التاسع مهددا بقتل أسرىَ الصليبيين الذين لديه، وواعدا إياه إن رفض عرض الناصر أن يقوم بتعديل اتفاقية دمياط لإعفائه من نصف الفدية المتفق عليها، وطلب منه بدوره أن ينضم إلى جانبه، فرد عليه لويس بأنه قرر الوقوف على الحياد بينه وبن الناصر.
وتقدم الملك الناصر حتى العباسية بين مدينتي بلبيس والصالحية 649 هـ- 1251م فهزمه أيبك بسبب انحياز مماليكه العزيزية إلى المماليك، ولاحقه حتى الشام، واتفق أيبك مع لويس التاسع على أن يساعده ضد الناصر يوسف مقابل تسليمه القدس، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ، حيث تدخل الخليفة العباسي بين الناصر وأيبك 651 هـ (1253م) لمنع تسليم القدس للصليبيين حيث أرسل رسوله الشيخ نجم الدين البادورائي فأصلح بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأيضا لإحساسه- أي الخليفة- ببداية الخطر المغولي الذي داهم الخلافة من الشرق. واتفق على أن تكون مصر وجنوب فلسطين بما فيها غزة والقدس للمماليك.(35/133)
ثم دب الخلاف بين أيبك وزوجته شجر الدر، بسبب تسلطها وشدة غيرتها عليه، فحاول أن يتزوج من ابنة بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، نكاية بها خصوصا وقد شعر بتآمرها مع أنصارها من المماليك البحرية عليه وعلى مماليكه المعزية.
وعندما علمت شجر الدر بخطة هذا الزواج، ازدادت معارضتها وتآمرها مع المماليك البحرية وضوحا وتحديا، مما دفعه لسجن من بقي من هؤلاء المماليك في القاهرة، متحديا بذلك شجر الدر، مما جعلها تقرر قتله، وتتصل سرا بالملك الناصر في دمشق تعرض عليه التعاون معها في ذلك، وأن يتزوجها ويشركها معه في السلطة مقابل تسليمه مصر، ولكن الناصر لم يتحمس لهذا العرض ظانا أنه خدعة منها. وعَلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجر الدر والناصر يوسف، فقام بإعلام أيبك به، فاحتاط لنفسه من غدر شجر الدر، وقرر في طويته قتلها، ولم تلبث شجر الدر أن سبقته في تنفيذ عزمها بأن تحايلت عليه، فاستدعته إلى القلعة- بعد أن كان هجرها إلى مناظر اللوق- ودست إليه خمسة من غلمانها فقتلوه في الحمام، وذلك في 23 ربيع الأول 655هـ (1257م) .
استيلاء المظفر قطز على السلطنة:(35/134)
عندما علم المماليك المعزية بوفاة سيدهم في القلعة، حامت شكوكهم حول زوجته شجر الدر، لما كانوا يعلمونه من خصام بينها وبينه، فصعدوا إلى القلعة ليحققوا في سبب وفاته، فعلموا بالحقيقة، لذلك حاولوا قتلها، وكادوا ينجحون في ذلك لولا تدخل بعض المماليك الصالحية، الذين نقلوها على عجل إلى البرج الأحمر في القلعة حماية لها، أما المماليك المعزية فقاموا بتعيين الطفل نور الدين علي ابن معز الدين أيبك مكان أبيه باسم الملك المنصور، وكان عمره خمس عشرة سنة، وعينوا قطز أتابكا له وذلك رغم معارضة المماليك الصالحية، ورغم تعيين الأمير علم الدين سنجر الحلبي نفسه نائبا للسلطنة، فقد رفض المعزية تأييد سنجر وقاموا باعتقاله وولوا قطز هذا المنصب، وقيل إن شجر الدر فور قتلها للسلطان معز الدين أيبك قد عرضت السلطنة على عدد من الأمراء، ولكنهم رفضوها خوفا من المماليك المعزية.
وكان أول عمل قام به السلطان علي وأتابكه قطز، هو الأمر بقتل السلطانة السابقة شجر الدر، وذلك بتحريض من والدته، بعد أن ضعف شأن حماتها من المماليك الصالحية، فأمر بحملها إلى أمه حيث أمرت بقتلها، بأن أمرت جواريها "فضربتها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها عن سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سروال وقميص. فبقيت في الخندق أياما. أخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام وقد نتنت، فحملت في قفة إلى تربتها قريب المشهد النفيسي".(35/135)
وكان أول خطر واجه قطز هو محاولة المغيث صاحب الكرك الاستيلاء على مصر في عامي 655_656 هـ (1257_1258م) بمعاونة المماليك البحرية الفارين من مصر. ولكن قطز قضى على هاتين المحاولتين ثم قام بعزل السلطان علي بن معز الدين أيبك، مستغلا في ذلك ما أصاب المصريين من ارتباك أثر سماعهم بما حل ببغداد، وبنوايا التتار تجاههم، ووصولهم إلى حلب. وتم له ذلك في عام 657 هـ (1258م) ، حيث عزله ونفاه مع أمه وإخوانه. وبدأ قطز في إعداد مصر للتصدي للخطر المغولي، وتمكن بفضل الله كما سنبين فيما بعد من التصدي للمغول وهزيمتهم في معركة عين جالوت الحاسمة في الخامس عشر من رمضان عام 658 هـ (. 126م) . وبعد أن رتب الأوضاع في الشام عاد إلى مصر التي استعدت لاستقباله استقبال الفاتحين، ولكن أعداءه الألداء من المماليك قتلوه غيلة في قرية القصير إحدى قرى مركز فاقوس، بمديرية الشرقية، وذلك في السابع عشر من ذي الحجة
عام 658 هـ (1260م) وكانوا بزعامة بيبرس، ثم دفن هناك بعد حكم دام سنة فقط.
تولي السلطان ظاهر بيبرس السلطنة:
وبمقتل السلطان قطز خرج أمراء المماليك الذين تآمروا عليه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية وسلطنوا عليهم بيبرس سنة 658 هـ (1260م) لأنه هو الذي قتله وأجلسوه مكانه على مرتبة السلطان، فأخذ الملك بالقوة. وبعد أن حلف له القادة بمن فيهم فارس الدين أقطاي، والجند يومين الولاء، دخل القاهرة ظافرا.(35/136)
ويعتبر بيبرس من أعظم سلاطين المماليك لما قام به من أعمال شملت تنظيمات وعمران وغير ذلك. وكان من أهم أعماله إحياؤه الخلافة العباسية في القاهرة سنة 659هـ (1260م) ، بعد أن قضي عليها التتار في بغداد. مما أكسبه سلطة شرعية مدعومة بموافقة الخليفة العباسي، كما استن نظام ولاية العهد في أسرته، بتعيين ابنيه السعيد بركه خان والعادل بدر الدين سلامش- الذي اغتصب قلاوون عرشه فيما بعد سنة 679 هـ - وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسسِ المعاهد، وبنى المساجد، وكان حاكما مستبدا مستنيرا، كما قوى الجيش واستحضر أعداداً كبيرة من المماليك، وكرس همته في محاربة الصليبيين. ولذلك يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية في مصر. وتوفي في السابع والعشرين من محرم عام 676 هـ (1277م) في دمشق وهو عائد من وقعة قيسارية.
وتتابع سلاطين المماليك البحرية على الحكم حتى عام 783 هـ (1382م) ثم خلفهم على الحكم سلاطين دولة المماليك البرجية 784- 23 9 هـ (1382- 1517م) .
جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين:
لم يبق من الأراضي الإسلامية تحت حكم الصليبيين سوى شريط ساحلي يمتد على محاذاة البحر الأبيض المتوسط من ناحية الشرق، يضيق أو يتسع باختلاف الظروف والأزمنة، وذلك لأن الصليبيين حتى في عنفوان قوتهم، لم يتمكنوا من التوغل في داخل بلاد الشام، فبقيت حلب وحماه وحمص ودمشق بعيدة عن متناولهم. وبفقدهم المبكر لإمارة الرها ظلوا محاطين بالمسلمين من الشمال والشرق والجنوب، لا يربطهم بأوربا مصدر قوتهم وإمدادهم سوى البحر، واقتصرت أملاكهم في مطلع عهد الدولة المملوكية البحرية على إمارتي طرابلس وأنطاكيا، ومدينة عكا التي أضحت مقرا لمملكة بيت المقدس بعد أن استرد المسلمون القدس.(35/137)
لهذا فبعد أن باءت بالفشل حملة لويس التاسع ملك فرنسا على مصر المسماة بالحملة السابعة، خرج هذا الملك مذموما مدحورا خاسرا، فاشلا في تحقيق أحلامه في استرداد بيت المقدس عن طريق مصر، وغادر دمياط متوجها نحو قبرص، بعد أن فك المماليك أسره، مقابل فدية كبيرة وشروط مذلة.
ولم يلبث أن غادر قبرص متوجها نحو عكا، التي كان حاكمها يوحنا، شقيق ماري، إمبراطورة القسطنطينية، وزوجة الإمبراطور يلدوين الثاني، ومنها أخذ يعمل على تحقيق حلمه الذي لم يفارقه رغم كل النكبات، بل عاش معه حتى مات قي تونس وهو يقود الحملة الصليبية الثامنة عام 669 هـ (270 1م) .
استغل هذا الملك فرصة النزاع الذي شب بين المماليك البحرية الذين استولوا على السلطة في مصر، بعد مقتل تورانشاه بن الملك الصالح أيوب وبن بقايا الأيوبيين في الشام، الذين رأوا في ذلك ضياعا لجزء هام من أملاك الأسرة الأيوبية، فعارضوا ذلك بشده وعلى رأسهم السلطان يوسف صاحب حلب ودمشق، فصار الملك لويس يساوم كلا الجانبين- الأيوبيين والمماليك- ويعدهما بالمساعدة حتى اتفق أخيرا مع السلطان معز الدين أيبك على أن يطلق المماليك عددا كبيرا من الأسرى الصليبين، وعلى إعادة رؤوس الفرنجة المعلقة حول أسوار القاهرة منذ وقعة غزة، وأن يتنازل المماليك عن النصف الثاني من الفدية المفروضة على لويس التاسع، وتعهدوا بإعادة بيت المقدس إلى الصليبيين، وذلك كله مقابل أن يقف الملك لويس، إلى جانبهم في حِربهم ضد الناصر يوسف صاحب الشام وأتفق على "أن تكون هذه الاتفاقية خمسة عشر عاماَ".(35/138)
هذا ولم تشر المصادر الإسلامية إلى هذه الاتفاقية غير ما أورده العيني عندما قال: "ومال الجيش المصري بالفرنج، ووعدوهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس- إن نصروهم على الشامين- وكانت قد اشتدت الحرب بينهم" ورغم شعور الإنسان بالأسى والأسف لهذه المعاهدة، إلا أن من يعرف المماليك يوقن أنهم لم يكونوا معنيون بتنفيذ بعض بنودها، وخصوصا ما يتعلق منها بإعادة القدس إلى الصليبيين، أو تسليمهم ما هو غرب نهر االأردن، وأنهم كانوا يرون فيها خدعة تكتيكية لكسب الصليبين إلى جانبهم أو إبقائهم على الحياد، فباشروا أولا في تنفيذ بعض البنود كدليل على مصداقيتهم، فأخلوا سبيل باقي أسرهما الافرنج، وتنازلوا عن بقية الفدية المتبقية والبالغة حوالي ربع مليون جنيه ذهبي مصري، وأعادوا رؤوس قتلى الفرنج التي كانت معلقة على أسوار القاهرة منذ واقعة غزة.
وعليه توجه لويس التاسع من جانبه بقواته من قيسارية إلى يافا، وانتظر وصول المماليك للانضمام إليه لمحاربة الناصر يوسف، ولكن الملك الناصر يوسف أرسل جيشا رابط في غزة ليحول دون اجتماع جيوش الصليبيين والمماليك، مما أفسد عليهم خطتهم، وأخيرا تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله فسارع إلى التوسط بين الأيوبيين والمماليك فجنب بذلك القدس من السقوط مرة أخرى بأيدي الصليبيين، كما جنب المسلمين سفك دماء بعضهم خصوصا وأن الخطر المغولي قد أصبح على الأبواب.
ومع ذلك فإن لويس التاسع لم يفقد الأمل، فاستغل فترة خلاف المسلمين هذه لإصلاح أحوال الصليبيين، وتحصين مدنهم وحصونهم، فبدأ بتحصين مدينة عكا، باعتبارها عاصمة الصليبيين، ومقر إقامته، ومركز مملكة بيت المقدس، وأتم تحصينها عام 649 هـ (1251م) حتى أصبحت بمنتهى المنعة.(35/139)
وبعد ذلك توجه لويس إلى قيسارية التي كان يحكمها يوحنا اليمان، فأمضى عاما في بناء سورها، وأقام أبراجا عدة، كما حصن مدينة حيفا وبعدها سار إلى يافا وأقام حولها سورا له ثلاثة أبواب وأربعة وعشرين برجا وخندقين.
كما حصن صيدا وجدد بناء ما هدمته قوات الناصر يوسف عندما أغارت عليها أثناء مهاجمة لويس التاسع لدمياط، وأحاطها بالأسوار والأبراج والخنادق. وذلك في زمن أميرها جوليان دي باليان.
ومن جهة أخرى حاول الملك لويس التاسع جمع كلمة الصليبيين الذين فرقتهم الخلافات والحروب المحلية، سواء كانت أسبابها تجارية كالتي كانت تحدث بين البنادقة والبيازنة والجنوية الذين تعرضوا بالمضايقة للويس التاسع نفسه، لاعتقادهم بأن حملته على مصر أضرت بعلاقتهم معها، أو دينية كالتي وقعت بين الجماعات الرهبانية العسكرية من داوية واسبتارية، أو عرقية بين أجناس السكان المختلفة لأن سكان الإمارات الصليبية كانوا خليطا متنافرا من الأمم والأخلاق والأهداف والميول.
كما حاول توطيد علاقاته مع نصارى الشرق (السريان المسيحيين) خصوصا الأرمن والموارنة حيث كان للموارنة وضع خاص لدى الصليبيين منذ بداية الحروب الصليبية لأنهم لعبوا دور الحلفاء للصليبيين، مما جعل الصليبيين يأنسون إليهم، ويدخلونهم تحت حمايتهم ولم ينسوا أنهم شاركوهم مرات عديدة في محاربة المسلمين، أهمها مشاركتهم في حملة لويس التام على مصر حيث حاربوا إلى جانبهم في المنصورة.(35/140)
وفي نفس الوقت حاول لويس التاسع إصلاح الفساد المستشري في الإمارات الصليبية حيث كانت مرتعا للشرور التي وصفها القاصد الرسولي في حديث له إلى جونفيل يبين فيه مقدار الفساد في عكا "لا يعلم أحد مثلي الآثام والمعاصي التي ارتكبت في عكا ولذا فإن المولى سينتقم من سكانها حتى تغسل المدينة بدمائهم، وحينئذ سوف يأتي شعب آخر للإقامة فيها" وقد ساعد على هذا الفساد الأخلاقي كون الصليبيين خليطا متنافرا من الناس! كما سبق وذكرنا.
كل هذه الأعمال التي قام بها لويس التاسع ساهمت بالإِضافة لعوامل أخرىَ في تأخير سقوط الإمارات الصليبية مدة ليست قليلة، وإن كانت لم تلبث الخلافات أن دبت بينهم خصوصا بين الجماعات اللاتينية وذلك عام 1258م ودارت عامين وتسببت في إضعاف الصليبيين وذلك بعيد مغادرة لويس للشام عائدا إلى بلاده التي دبت فيها الفوضى، وليقود بعد فترة طويلة الحملة الصليبية الثامنة إلى تونس حيث توفي في بدايتها عام 669 هـ (1270م) .
دور بيبرس في التصدي للصليبيين:
لم ينس بيبرس لحظة عداوة الصليبيين وخطرهم على الشام ومصر، وهو الذي شارك في صدهم عن المنصورة ودمياط، ورأى محاولات لويس التاسع في تأجيج الصراع بين دولة المماليك الحديثة النشأة والملك الناصر ملك الشام، ثم تعاونهم مع الخطر الجديد القادم من الشرق، حيث رأوا فيه حليفا طبيعيا ساقه الله لنصرتهم، ألا وهو خطر المغول، فاتصلوا بهم، وعملوا أدلاء لجيوشهم وجواسيس يطلعونهم على عورات المسلمين، بل سمح بعضهم لبعض الحاميات المغولية بالنزول في حصونهم، فوقعوا هم أنفسهم تحت سيطرة ورحمة تلك الجماعات، وكذلك تآمر الصليبيين الدائم مع الحشيشيين الذي كانوا خطرا دائما يهدد كل مجاهد مسلم من زعماء المسلمين.
لهذا قرر بيبرس كما قلده في ذلك خلفاؤه أمثال قلاوون والأشرف خليل، اجتثاث الخطر الصليبي نهائيا من بلاد الشام.(35/141)
وكتمهيد لتحقيق هذا الهدف تحالف بيبرس مع الإمبراطور البيزنطي باليولوجس عدو الصليبين، حيث عقد معه معاهدة دفاعية عام 660 هـ (1262م) كما حالف مغول القفجاق المسلمين (القبيلة الذهبية) وهادن أعداء المسلمين مغول فارس الوثنيين.
بعد كل هذه الترتيبات توجه بيبرس نحو الشام عام 663 هـ (1265 م) قاصدا إعداد قواته وإعادة توزيعها، تمهيدا لتنفيذ غرضه، وعند ذلك أحس الصليبيون بالخطر الكائن في استعدادات بيبرس ونيته نحوهم، فأرسلوا إليه وفودهم تعرض عليه المسالمة، وتعبر عن حسن نيتها نحوه، ولكنه كان يردها قائلا: "ردوا ما أخذتموه من البلاد، وفكوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك"ثم يطردهم من حضرته.
وكان من حماس بيبرس في جهاد الصليبين، أنه لم يخل عام من الأعوام العشرة ما بين 659-669 هـ (1261- 1271م) إلا وكان يشن فيه حربا، ويسترد أرضا من أرض إحدى الإمارات الباقية بأيديهم وهي: أنطاكية، وطرابلس، وبعض مملكة القدس.
فبادر عام 661 هـ (1263م) بمهاجمة مدينة الناصرة، ثم هاجم بنفسه مدينة عكا الحصينة، ولكنه لم يتمكن أن فتحها بسبب ما أقامه فيها لويس التاسع من تحصينات.
وفي عام 663 هـ (1265م) حاصر مدينة قيسارية وفتحها رغم حصانتها، ثم غادرها جنوبا إلى قلعة أرسوف البحرية التي كَانت تحت سيطرة شرسان الاسبتارية المشهورين ببسالتهم، فقاموا بالدفاع المستميت عنها، ولم يمكنوا بيبرس من فتحها فلجأ إلى الحيلة بأن اتفق معهم على أن يستسلموا مقابل تأملات حياتهم، ولكنه قام بنقلهم إلى القاهرة بعد أن أمرهم بهدم قلعتهم.(35/142)
وبعد ذلك قام بفتح يافا وعتليت، ثم استولى في العام التالي على صفد وهونين وتبنبن، والرملة مما جعل الإمارات الصليبية في حالة احتضار يائسة دفعتها إلى معاودة استعطاف السلطان بيبرس طالبة مصالحته، أو على الأقل عقد هدنة معه، وفي هذه المرة رأى أس من المناسب إجابة طلبهم، فصالحهم عَلى أساس المناصفة أو المشاركة وذلك بأن تصبح له حصة في غلاتهم ومنتجاتهم. ومن أطرف هذه الاتفاقيات بين بيبرس والإمارات الصليبية تلك الاتفاقية التي عقدتها معه ازابيلا، ملكة بيروت عام 667 هـ (1268م) ومدتها عشر سنوات، فقد ذكر القلقشندي أن هذه الملكة قد وثقت ببيبرس إلى درجة أنها كانت عندما ترغب حب السفر إلى جهة ما، تذهب بنفسها إلى بيبرس وتستودعه بلادها، وعندما خطفها الملك هيو الثالث ملك جزيرة قبرص قام بيبرس بتخليصها عن طريق توجيه تهديدات لهيو. لهذا اتخذت لنفسها حرسا من المماليك حتى ماتت عام 672 هـ (1274م) ، وقلدتها في هذه السياسة أختها وخليفتها حتى استولى المسلمون على بيروت.
أما عن موقف السلطان الظاهر بيبرس تجاه العدو الآخر والحليف الدائم لكل من الصليبين والمغول، وأعني به مملكة أرمينيا الصغرى فقد وجه إليها في عام 665 هـ (1266 ا) القائد قلاوون. بقصد تأديب ملكها على تحالفه مع التتار زمن هولاكو وأبقاخان، وتشجيعه لهما على مهاجمة الشام ومصر، والمساهمة في دعمهما بفرض حصار اقتصادي على دولة المماليك، حيث منع عنها مادتي الخشب والحديد. وقامت قوات قلاوون بهزيمة الأرمن قرب دراساك، ودمرت مدن سيس وأضنه وطرسوس والمصيصة، وألحقت بها دمارا هائلا في هجومها الذي استغرق عشرون يوما فقط، وقتل قلاوون أحد أبناء ملك أرمينيا وأسر الابن الثاني، في حين كان الملك نفسه- هيثوم الأول- في زيارة للمغول في بلاد فارس. ولم يوافق بيبرس على إطلاق أسيره إلا مقابل تنازل والده عن عدة مواقع استراتيجية ودفع جزية سنوية.(35/143)
ومنذ ذلك الحين أصبحت أرمينية الصغرى ضعيفة لم تسبب للمسلمين أي مشكلة، إلا مرة واحدة في عهد السلطان محمد قلاوون حيث أخضعها نهائيا. وفي عام 666 هـ قام بأخذ يافا عنة وأجلي أهلها إلى عكا ثم استولى على حصن الشقيف وأجلي أهله إلى صور، ثم هاجم صور فنهب وأرعب، ثم هاجم حصن الأكراد ثم سار عنوة إلى حمص ومنها إلى حماه ثم إلى فامية.
سقوط أنطاكية بيد السلطان بيبرس:
وجه بيبرس همه إلى أنطاكية أقوى الإمارات الصليبية المتبقية والمتحالفة مع التتار، فبدأ بمهاجمة البلاد المحيطة بها، حيث استولى على عدة قلاع تقع إلى الشمال منها ثم وجه همه نحوها بجيشه المؤلف من ثلاث فرق، استولت الفرقة الأولى منها على ميناء السويدية، لتقطع اتصال انطاكيا بالبحر، ورابطت الفرقة الثانية في ممرات قيليقيه لتمنع وصول الإمدادات من أرمينية الصغرى، ثم هاجم المدينة بالفرقة الثالثة، واستمرت الهجمات، ودام الحصار. ثم جرت مفاوضات لتسليمها صلحا، ولكنه رفض، واستطاع أن يفتحها عنوة، في رمضان عام 666 هـ (1268م) فأحرقها، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وأسر أعدادا هائلة منهم، وغنم مالا يحصى من الأموال بلغ من كثرتها (أن قسمت الأموال بالطاسات) وبلغ الأسرى من الكثرة حتى أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير باثني عشر درهماً) . فكان سقوطها معلما خطيرا على طريق نهاية الصليبين بالشام لأنها كانت بحكم موقعها الجغرافي سندا لهم منذ بداية الحروب الصليبية، وسبب سقوطها ذعرا شديدا في صفوف الصليبين، حتى أرسل ملك أرمينية الصغرى يعرض على بيبرس أن يسلمه بلاده مقابل الاستمرار في مهادنته.(35/144)
ولم يكتف بيبرس بهذا النصر العظيم، فوجه همه نحو جزيرة قبرص ليؤدب ملكها هيو الثالث، الذي كان دائم التهديد للسفن الإسلاَمية في البحر الأبيض المتوسط، ودائم المساعدة للصليبين، فوجه نحوه حملة بحرية عام 668 هـ (1270م) ، ولكنها فشلت بسبب العواصف التي حطمت معظم سفنها فنجي بذلك ملكها من عقاب بيبرس.
لم يثن هذا الفشل في فتح قبرص، بيبرس عن مواصلة الجهاد ضد الصليبيين، فاستولى في عام 669 هـ (1270م) على صافيتا وحصن الأكراد، وحصن عكار، والقرين، ثم واصل مهاجمة إمارة طرابلس، فاستولى على ما حولها من حصون وممرات وكاد أن يفتحها، ولكنه عندما علم بخروج الحملة الصليبية الثامنة من فرنسا خشي أن تكون جهتها مصر، فسارع إليها للاستعداد لمواجهة هذا الخطر، وعندما تيقن من توجه تلك الحملة إلى تونس عاد عام 670 هـ (1271م) لمواصلة هجومه على طرابلس فطلب أميرها بوهيمند السادس الصلح، ووصلت الأخبار بوصول الأمير إدوارد الأول إلى عكا، فظن أنها مقدمة لحملة صليبية كبرى، فاستجاب بيبرس لطلب بوهيمند وعقد معه صلحا مدته عشر سنوات، وتبعتها مملكة بيت المقدس فعقدت صلحا مماثلا، مما مكن بيبرس من التفرغ لقتال المغول والإسماعيلية، فوجه همه نحو الإسماعيلية، "الحشاشين"الذين كانوا يعادون المسلمين ويتآمرون مع الصليبين ضدهم، ويغتالون كبار المجاهدين من قادتهم كما تعاونوا مع المغول، ودفعوا لهم الأتاوات، فعزل مقدمهم نجم الدين الشعراني، وهدم حصونهم وقضي عليهم، بعد أن سلموها له وأشهرها الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضهم عنها بإقطاعات.
جهاد السلطان الناصر قلاوون ضد الصليبيين:(35/145)
لم يكد السلطان قلاوون يعتلي عرش مصر، حتى تمرد عليه نائب الشام، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فأعلن نفسه ملكا باسم الملك الكامل، واستولى على عدة حصون من حصون الشام، منها قلعة صهيون، ثم اتصل بأعداء المسلمين من مغول وصليبيين محاولا الاستعانة بهم ضد قلاوون، مما جعل أهل الشام ينفرون منه، وينفضون من حوله، ويتخلون عن نصرته، واستغل المغول هذه الفرصة، فاحتلوا بعض حصون الشام 769 هـ (1280م) ، واستولوا بقيادة أبغا على مدينة حلب، التي أحرقوا مساجدها ومدارسها وقتلوا معظم أهلها، ولم يُضع الصليبيون هذه الفرصة، فقاموا بمحاولة لاسترداد حصن الأكراد، ولكنهم فشلوا. وعندما علم قلاوون بهذا التحالف وهذه الجرائم خرج من مصر متوجها إلى الشام للقضاء على هذا الخطر، ولكنه لم يكد يغادر أرض مصر، حتى تعرض لمؤامرة داخلية جاءت من قبل بعض المماليك الذين يدعون بالمماليك الظاهرية. حيث تآمروا عليه بالاتفاق سرا مع الصليبيين. فواجه الموقف بسرعة وقبض عليهم فأعدم بعضهم وسجن البعض الآخر وأعاد النظام إلى صفوف جيشه.
فر المغول عندما علموا بوصول جيش الناصر قلاوون إلى غزة في طريقه لمحاربتهم، فأخلوا مدينة حلب والحصون التي كانوا قد احتلوها وأسرعوا عائدين نحو العراق ولم يصمد الأمير سنقر بدوره أمام جيش قلاوون وفر هاربا إِلى المغول محاولا مرة أخرى حضهم على غزو مصر.(35/146)
عندئذ رأى السلطان قلاوون أن أخطر هؤلاء الأطراف الثلاثة المتآمرين هم المغول، عقد صلحا مع الصليبيين من داوية واسبتاريه ومع بوهيمنند السابع أمير طرابلس، مدته عشر سنوات، وذلك عام 680 هـ (1281م) . وعفا عن الأمير سنقر الأشقر وعينه حاكما على أقليم أنطاكية، واتفق مع الصليبيين في عكا بأن يكونوا على الحياد. وبهذا تفرغ لمقارعة المغول الذين عادوا التوجه نحو الشام بقيادة أبغا، يؤازرهم حليفهم ليو الثالث ملك أرمينيا الصغرى، فالتقى بهم قلاوون عام 680 هـ (1281م) في حمص وهزمهم بعد أن (هلك منهم خلق كثير) .
وهنا قرر الناصر أن ينتقم من الصليبين مستغلا، نصره على المغول وغير عابئ بصلحه معهم عام 680 هـ الذي كانت مدته عشر سنوات ولما يمض عليه سوى أربع سنوات فهاجم عام 684 هـ (1285م) حصن المرقب، ففتح ذلك الحصن الهام الذي كان فتحه خسارة كبرى للصليبيين لأنه أن أهم حصونهم ثم أتبع ذلك بالاستيلاء على اللاذقية عام 686 هـ (1287م) التي كانت آخر أملاك إمارة أنطاكية المتبقية بين الصليبين. بعد ذلك جاء دور طرابلس، وكانت حصينة، وقد مات أميرها بوهيمند السابع دون وريث، فدب النزاع بث الطامعين في إمارتها، حتى استعان بعضهم بالسلطان قلاوون، فاستغل هذه الفرصة وهاجمها في جيش لجب يضم أربعين ألفا من الفرسان وأكثر من مائة ألف من الرجال، وفتحها سنة 686 هـ (1289م) . ثم استولى على بيروت وجبله وبهذا لم يبق بيد الصليبيين سوَى صور وصيدا وعتليت وعكا التي كانت مركز مملكة بيت المقدس بعد سقوط القدس.(35/147)
ورأى قلاوون أن يؤجل إلى حين الاستيلاء على بقية البلاد من أيدي الصليبيين، فوافق على تجديد الهدنة معهم لمدة عشر سنوات وتوجه إلى دمشق ولكن جموعا صليبية متحمسة وصلت من إيطاليا 689 هـ (1290م) ونزلت في عكا، وأخذت في الاعتداء على المسلمين المتواجدين خارجها، مما أغضب السلطان قلاوون ودفعه لأن يقسم على الانتقام منهم، وأخذ في الاستعداد لهذا الغرض، ولكنه توفي فجأة وهو في الطريق لتحقيقه عام 689 هـ (1290م) .
وقد وصف ابن العمري قلاوون رحمه الله بقوله: "كان رجلا مهيبا شجاعا، فتح الفتوحات الجليلة، مثل المرقب وطرابلس، التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض لها لحصانتها، وكسر جيش التتار في حمص، وكانوا في ثمانين ألفا".
وقد خلف الأشرف خليل بن قلاوون أباه في السلطنة، لأن أخاه الملك الصالح على بن قلاوون الذي أقامه أبوه ملحَا في حياته قد مات في سنة 687 هـ (1288م) بعد أن بقي ثماني سنوات سلطانا في حياة أبيه.
ولم يكن الأشرف خليل محبوبا من الأمراء: لأنه كان قاسيا وغير متمسك بحسن الخلق، حتى اتهم بدس السم لأخيه علي، وقد استلم الحكم فور وفاة أبيه، وقضى على الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة الذي تآمر عليه، ثم استعد للخروج إلى الشام، ورغم محاولة الصليبيين ثنيه عن ذلك بأن أرسلوا إليه (يسألونه العفو) فإنه (لم يقبل منهم ما اعتذروا به) .
توجه نحو عكا، واجتمعت إليه جيوش مصر والشام سنة 690 هـ (1291م) فقام بمحاصرتها مدة أربعة وأربعين يوما، ورماها بالمنجنيق، حتى فتحها في جمادى الأول من عام 690 هـ (1291م) ، رغم المقاومة العنيدة التي أبدتها حاميتها، وإمدادات قبرص لها - حيت أن الصليبين كانوا يعلمون أنها آخر أمل لهم في البقاء في الشام- وقد فر بعض سكانها إلى عرض البحر المتوسط وتكدسوا في السفن التي غرق بعضها لكثرة من كانوا على ظهرها.(35/148)
وبعد ذلك قام الأشرف خليل بالاستيلاء بسهولة على بقية ما تبقى بأيدي الصليبين مثل صور وحيفا اللتين قاومتا مقاومة كبيرة، ثم اضطرتا للتسليم فنجتا بذلك من التخريب، ثم استولى الأشرف خليل على عتليت وصيدا وانطرسوس، وبهذا تم القضاء نهائيا على الوجود الصليبي في الشام، وإن كان الصليبيون في جزيرة إرواد المقابلة للساحل الشرقي قد ظلوا يغيرون على السواحل بين الفينة والأخرى ويقطعون الطرق، مما أزعج نائب السلطنة المملوكية على الشام، وجعله يطلب معونة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فجهز أسطولا ووجهه نحو هذه الجزيرة بعد أن ضم إليه جيش طرابلس ففتحها وملكها وقتل من أهلها خمسمائة وذلك عام 702 هـ (1302م) .
وهكذا بالقضاء على الصليبين في عام 690 هـ (1291م) وبزوال الخطر المغولي عن الشام ومصر، أصبح لدولة المماليك شأن عظيم في السياسة الدولية خصوصاً في عهد سلطانها الناصر محمد ابن قلاوون في سلطنته الثالثة.
أدرك الصليبيون في أوربا فشل محاولاتهم المتلاحقة للعدوان على بلاد الإسلام في الشام ومصر، ورأوا زوال آخر إماراتهم بعد قرنين من تأسيسها، رغم ما بذل في سبيل إقامتها من جهود مادية ومعنوية، ومن سفك في سبيلها من دماء، كما لمسوا فتور الحماس الصليبي، بعد فشل حملتي لويس التاسع السابعة والثامنة على مصر وتونس، لذلك اضطروا إلى تقبيل اليد التي حاولوا قطعها فلجأوا إلى الدبلوماسية والمراسلات والسفراء والهدايا، علهم يحققون عن طريقها ما فشلوا في تحقيقه بالتعصب والسيف.(35/149)
انهال سفراء الدول الأوربية على بلاط الملك الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة، محملين بالهدايا والرسائل التي تلح في طلب الصداقة والموادعة، وتوثيق عرى الصداقة، في حين كان غرضها الأساسي هو استدرار عطف الناصر على النصارى في دولته، سواء من كان منهم من الأقباط في مصر أو من أهل الشام، فأرسل البابا يوحنا الثاني والعشرين في عام 727 هـ (1326م) رسالة إلى الناصر طالبا منه أن يعامل نصارى الشرق معاملة عادلة، مقابل معاملة مماثلة للمسلمين، فرد عليه الناصر مجيبا طلبه.
وفي نفس السنة أرسل شارل الرابع ملك فرنسا رسالة مماثلة لنفس الغرض فرد عليه الناصر أيضا مجيبا طلبه، كما أرسل إليه إمبراطور بيزنطة سفراء محملين بالهدايا راجيا إياه معاملة النصارى الملكانيين لديه بالرعاية والعدل، فقبل الناصر طلبه، وعقد معه حلفا لصد الأتراك العثمانيين.
وبلغت العلاقات بين الناصر ويعقوب ملك ارغونة شأوا كبيرا بسبب المراسلات بينهما ما بين سنتي 03 7- 728هـ (1303_1327م) ، التي كان هدفها إيجاد علاقة صداقة بينهما، والحصول على ميزات تجارية لأرغونة في مصر، وتسهيل الحج للأراضي المقدسة، وإطلاق سراح النصارى المسجونين في مصر، وضمان حسن معاملة الأقباط والنصارى عامة في الشرق.
وقد رأى الناصر محمد- الذي كان ملكا مستنيرا محنكا، يميل إلى المسالمة- رأى ذلك فرصة لتوثيق العلاقات بين دولته والآخرين في الشرق والغرب، يحقق بها مصالح مشتركة وخاصة حماية المسلمين في أسبانيا التي كانت خاضعة لحاكم أرغونة، بالإضافة إلى المصالح التجارية والعسكرية في الوقوف أمام الخطر التركي العثماني.(35/150)
ولا أدل عام أهمية دولة المماليك الإسلامية في هذا العصر من أن يصبح سلاطينها محط أنظار السفراء والرسل من مغول ويمنيين وأرمن ونوبيين، حتى وصفهم المقريزي بقوله: "وفيه (25 محرم 5 72 هـ) اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع منهم في الدولة التركية، وهم رسل اليمن ورسل صاحب اسطنبول! ورسل الأشكري ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد (ملك التتار) ، ورسل ماردين ورسا ابن قرمان ورسل متملك النوبة وكلهم يبذلون الطاعة".
إلا أن هذه المكانة قد ضعفت بموت السلطان الناصر محمد فسبحان مغير الأحوال.
المصادر والمراجع العربية
1_ ابن الأثير، 630 هـ (1232م) عز الدين، علي بن محمد الجزري، الكَامل في التاريخ، (12 جزءا، بولاق) 1310 هـ.
2 _ أحمد مختار العباديَ، دكتور: قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، دار النهضة العربية، بيروت، 1969م.
3 _ ابن إياس 930 هـ (1523 م) محمد بن أحمد الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور (كتاب تاريخ مصر) ، 3 أجزاء، بولاق، 1370 م.
4 _ بيبرس الدوادار 725 هـ (1325م) الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري: زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، الجزء العاشر، مكتبة جامعة القاهرة، رقم 24028 تاريخ، تصوير شمسي.
5 _ جميل عبد الله المصري، دكتور: الموالي، موقف الدولة الأموية منهم، دار أم القرى للنشر والتوزيع، عمان، 1988م، الطبعة الأولى.
6 _ جوزيف نسيم جوريف:
... 1- العدوان الصليبي على مصر، دار النهضة، بيروت، 1981م.
... 2- العدوان الصليبي على الشام، دار النهضة، بيروت، 1981م.
7 _ الخزرجي، علي بن حسن (القرن الثامن الهجري) : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان.
8 _ ابن خلدون، 808 هـ (1405م) ، عبد الرحمن بن أحمد:
... 1- مقدمة ابن خلدون، بيروت، 1900م.
2- العبر وديوان المبتدأ والخبر، 8 أجزاء، القاهرة، 1984 م.
9 _ الذهبي، 748هـ (1347م) شمس الدين محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء.(35/151)
10_ رشيد الدين، فضل الله الهمداني، جامع التواريخ، تاريخ المغول، نقله إلى العربية محمد صادق نشأت وفؤاد عبد المعطي الصياد، القاهرة,.196م.
11_ السيوطي 917 هـ (1605م) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر:
1- تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الله، المطبعة الأميرية، 1351هـ.
2- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، جزءان، 1327هـ.
12_ ابن شاكر 873 هـ (1469م) ، فخر الدين محمد: فوات الوفيات، بولاق، 1299م.
13- أبو شامة 665 هـ (1268 م) عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي، الذيل على الروضتين، تحقيق: عزت العطار بعنوان تراجم رجال القرنين السادس والسابع، القاهرة، 1947م.
14_ ابن شاهين 873 هـ (1468م) ، غرس الدين خليل الظاهري: زبدة كشف الممالك وبيان طرق المسالك، تحقيق بول رافيس، باريس، 1895 م.
15- ابن شداد، بهاء الدين: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، القاهرة، 1317هـ.
16- الطبرِي 130هـ (923م) ، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، 13 جزءاً ليدن، 1890 م.
17- أبو الفداء732 هـ (1331م) إسماعيل بن عاكف عماد الدين صاحب حماه: المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء، 1286 هـ.
18- ابن الفرات المصري 807 هـ (1405 م) ، ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم: تاريخ ابن الفرات المعروف باسم: الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك، تحقيق: قسطنطين زريق والمستشرق ليفي دلافيدا.
19- ابن أبي الفضائل 672 هـ (1273م) مفضل: النهج السديد والدر المفيد فيما بعد تاريخ ابن العميدة جزءان، حققت بلوشيه، باريس، 1912م.
20- القلقشندي 821 هـ (1471م) ، أبو العباس أحمد: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، 14 جزءا، القاهرة، 1913 _ 9119م.
21- ابن كثير 774 هـ (1387م) عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية في التاريخ، 14 جزءا، القاهرة، 1351_ 1358هـ.
22- عاشور، سعيد عبد الفتاح:(35/152)
1- الحركة الصليبية، جزءان، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963 م.
2- قبرص والحروب الصليبية، القاهرة، مكتبة النهضة، 1957م.
3- مصر في عهد دولة المماليك البحرية، القاهرة، 1969م.
23- ابن عبد الحكم 257 هـ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم: فتوح مصر والمغرب، طبعة 1924م.
24- عبد الله بن أيبك، القرن الثامن أبو بكر: كنز الدر وجامع الغرر أو الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية، تسعة أجزاء في 27 مجلدا، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 2578.
25- عبد المنعم ماجد: دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر، مكتبة الأنجلو. (بدون تاريخ) .
26- علي إبراهيم حسن: تاريخ المماليك البحرية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1967م.
27- العمري 749 هـ ابن فضل الله شهاب الدين أبي العباس أحمد بن يحي:
1- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، 20 جزءا، مخطوطة بدار الكتب برقم (2368) .
2- التعريف بالمصطلح الشريف، القاهرة، 1302 هـ.
28- العيني 855 هـ (1452م) بدر الديات أبو محمد بن أحمد: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، 23 جزءا في 69 مجلدا، الجزء الخاص بحوادث 656-673 هـ (مخطوطة بمكتبة دار الكتب المصرية برقم 1584) .
29- أبو المحاسن 874 هـ (1496م) ، جمال الدين بن يوسف بن تَغري بردي:
1- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 9 أجزاء، دار الكتب، 1939م.
2- المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، 3 أجزاء، مخطوطة بدار الكتب برقم 1113.
30- المقدسي 383 هـ (977م) ، شمس الدين أبو عبد الله محمد: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبعة دي غويه 1893م.
31- المقريزي 845 هـ (1441م) تقي الدين أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، جزءان، بولاق، 1270 هـ، والقاهرة 1930م، تحقيق: مصطفى زيادة.
2_ السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1939م.(35/153)
32- المقري 1 104هـ (1631م) ، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م.
33- ابن واصل 697 هـ (1297م) ، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليم الشافعي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ط صورة شمسية بمكتبة جامعة الإسكندرية تحقيق: جمال الشيال.
34- يوسف دريان:
1- لباب البراهين الجلية عن حقيقة أمر الطائفة المارونية منذ أوائل القرن الخامس
إلى أوائل القرن الثالث عشر من القرون المسيحية. (تاريخ الطبع غير معلوم) .
2- نبذة تاريخية في أصل الطائفة المارونية واستقلالها بجبل لبنان من قديم الدهر حتى الآن، القاهرة، مطبعة الأخبار، 1916 م.
المراجع الأجنبية
Atiya: Egypt and Aragon
The crusades in the later middle ages. (London 1938) .
Davis ,E.J: invasion of Egypt in A.D 1249 (London 1897) .
Encyclopedia of Islam.
Encyclopedia of religion.
Haut Coeur et wiet: les mosques de caire.
Heyel. W: histoire du commerce du Levant and au Moyer age. 4 vols, (Leipzig 1899) .
Hitti. P.k. the history of the Arabs. (London 1940) .
Join Ville. Jean. sire. de history of st.louis.tr.joan Evans.
King: the knights of hospitellers.
Lane- poole: history of Egypt in the middle ages- (London 1925) .(35/154)
الإمام أبو العباس ابن سريج
المتوفي سنة 306 ص
وآراؤه الأصولية
تأليف
د/ حسين بن خلف الجبوري
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أم القرى- مكة المَكرمة
مقدمة
الحمد لله وحده، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال مدبر الكائنات في أزل الآزال، ومقدر الأرزاق والآجال نحمده على فضله الدائم المتكرر، ونشكره على أفضاله التي عمنا بها.
وأصلي وأسلم على البشير النذير سيدنا محمد الهادي إلى نور الإيمان من ظلمات الكفر والضلال، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعدْ: إنهَ لمن فضول القول ونافلة الكلمة أن أشير هنا وأبين ما للأصول من مكانة بين العلوم الشرعية، ثم أن أشيد بمكانة علماء الأصول، لأن مكَانتهم من مكانة أصوله الفقه بين العلوم ولما كانت مكانة الأصول معروفة جلية بين العلوم فكذلك تكون مكَانة علماء الأصول جلية ظاهرة بين العلماء.
وانطلاقا من هذه الأهمية ومن هذه المكانة العلمية لأصول الفقه وعلمائه فقد أقدمت على دراسة الآراء الأصولية لعالم جليل من علماء أصول الفقه وهو الإمام أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج الشافعي البغدادي المتوفي سنة 306 هـ.
ودراسة آراء ابن سريج الأصولية لها أهمية كبيرة وفائدة جليلة وذلك لمكانة ابن سريج العلمية بين علماء الشافعية خصوصا وبين علماء عصره عموما.
وهذا ما أثبته في دراسة حياته ومكانته العلمية ومن خلال مصنفاته ومكانة تلاميذه من بعده.
وهناك أسباب كثيرة دفعتني لأن أقوم بجمع ودراسة آراء ابن سريج الأصولية وإظهارها في مؤلف مستقل جمعتها من بطون كتب أصول الفقه التي حوت في ثناياها الأقوال الأصولية لابن سريج ومن هذه الأسباب ما يلي:
أولاً: المكانة العلمية التي يتمتع بها ابن سريج بين علماء الشافعية خصوصا وعلماء عصره عموما حتى قيل عنه بأنه الشافعي الصغير.(35/155)
ثانياً: لقد اعتبر ابن سريج من المجتهدين وقد انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بل اعتبر مجدد المائة الثالثة من الهجرة.
ثالثاً: كثرة ما ورد له من أقوال أصولية ولما لهذه الأقوال من أهمية من الناحية العلمية الاستدلالية.
رابعاً: لم يظهر كتاب في أصول الفقه للشافعية يتناول الأقوال الأصولية عند الشافعية في الفترة الزمنية التي عاش فيها ابن سريج. بل الذي ظهر هو كتاب الرسالة للإمام الشافعي ومعلوم أن الرسالة لم تتناول في ثنايا ما ورد فيها جميع أبواب الأصول وقواعده هذا مما يحتم جمع أقوال ابن سريج لأنه عاصر هذه الفترة الزمنية التي لا يوجد فيها للشافعية أصول مدونة غير الرسالة.
خامساً: كثرة تلاميذ ابن سريج ومكانتهم العلمية بعد وفاته حيث إنهم قد أثروا وأثروا في المذهب الشافعي في الفترة التي عاشوا فيها. ويظهر ذلك من خلال ما أقدمه من دراسة عنهم.
لعل هذه أهم الأسباب التي دفعتني وشجعتني على الكتابة عن هذا العالم الجليل في تلك الفترة الزمنية لما لها من أهمية في تاريخ الأمة الإسلامية. وقبل أن أبين عملي في هذا البحث أقول قد يقول قائل لماذا لم تقارن هذه الأقوال بآراء الآخرين من الأصوليين وتناظر بين أقوال ابن سريج وأدلته؟ أقول لو عمدت إلى أن يكون البحث بهذه الصورة لأدى إلى عدم تحقيق الهدف وهو إبراز الآراء الأصولية لابن سريج لأن ذكر بقية الأقوال سواء كانت للجمهور أم أقوال منفردة لبعض علماء الأصول سيؤدي إلى عدم إظهار آراء ابن سريج.
كما أن هيئة المقارنة هذه موجودة في كتب الأصول عند كل مسألة من المسائل ولو ذكرت هنا لأدى إلى فوات الهدف من بيان آراء ابن سريج. لذا اخترت أن أذكرها منفردة وهذا ما أدى إلى عدم الرد على أقواله ومناقشتها لأن الرد والمناقشة يقتضي ذكر أقوال الآخرين وأدلتهم ومناقشتها ثم الترجيح بينها.
ويمكن أن أبين عملي في إظهار هذه الأقوال والآراء بما هي عليه في هذا المؤلف فأقول:(35/156)
أولاً: عملت دراسة أظنها كافية وافية عن ابن سريج أظهرت من خلالها مكانته العلمية بين علماء عصره.
ثانياً: قمت بجمع وإخراج للآراء الأصولية لابن سريج من بطون الكتب الأصولية سواء كانت للشافعية أم لغيرهم واقتصرت على ذكر هذه الكتب ولم أذكر أي مرجع لم يتعرض بالذكر لآراء ابن سريج الأصولية.
ثالثاً: رتبت هذه الأقوال على حسب ترتيب أبواب أصول الفقه التي جرف ترتيبها عند علماء أصول الشافعية.
رابعاً: أثبت هذه الأقوال على شكل مسائل منفردة كل منها عن الأخرىَ حسب ورودها في كتب الأصول.
خامساً: قمت بترتيب الأدلة وترقيمها تسلسليا حيث إنها في كثير من المسائل التي لم تكن مرتبة ولا متسلسلة، كما أني أظهرت وأبرزت أوجه الاستدلال من كل دليل من أدلته.
سادساً: ذكرت أرقام الآيات والسور التي استدار بها ابن سريج.
سابعاً: خرجت الأحاديث والآثار التي استدل بها ابن سريج في أقواله الأصولية.
هذا وأدعو الله عز وجل مخلصا صادقا في أن يجعل عملي هذا في ميزان حسناتي يوم تنقطع الأعمال والأقوال ولا يبقى إلا ما قدم الإنسان من الإحسان وما خلف من علم نافع ينتفع به من بعده.
اللهم حقق لي هذا يا رب ونجني بهذا العمل وغيره من عذابك الذي لا نقوى عليه ولا على ما هو دونه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الصراط والحساب.
د. حسن بن خلف الجبوري
الدراسة عن الإمام أبي العباس ابن سريج
المتوفي سنة 306 هـ
الدراسة عن الإمام أبي العباس ابن سريج الشافعي البغدادي تتناول جوانب متعددة ونواح متفرعة من حياته الشخصية والعلمية لذا أرى بيانها في المباحث الآتية:
المبحث الأول
في اسمه ونسبه ووفاته
هو أحمد بن عمر بن سريج، أبو العباس، الشافعي البغدادي. وسريج بضم السين وفتح الراء وسكون الياء بعدها الجيم.(35/157)
وسريج جده كان تقياً ورعا، ومشهور بالصلاح الوافر. ولد ابن سريج سنة 248هـ ببغداد وتوفي فيها في جماد الأولى سنة 306هـ عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر، ودفن بحجرة سويقة غالب. وقيل يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول.
المبحث الثاني
في مكانته العلمية (1)
لابن سريج مكانته العلمية الكبيرة المشهورة إذ أنه إمام الشافعية في عصره.
لذا أرى من أجل إعطاء هذه المكانة حقها في البحث، ولإنصاف الرجل كما ينبغي في مكانته العلمية التي كان يتمتع بها بين علماء زمانه. أرى أن يكون الكلام متناولاً لجميع النواحي التي تبرز هذه المكانة، ويظهر بها المقام الائق بابن سريج. ويمكن تحقيق ذلك بالجوانب الآتية:
أولاً: ما قاله العلماء في حقه:
كان أبو العباس ابن سريج يلقب بالباز الأشهب، وهو من الطبقة الثالثة من طبقات الفقهاء الشافعية. كان إماماً مشهوراً وقاضياً عادلاً، وهو الذي نشر المذهب الشافعي وبسطه.
قال عنه البعض: "بأنه يفضل على جميع الأصحاب حتى على المزني، وقد أخذ عنه خلق كثير".
وقال البعض في حقه: "بأنه شيخ الأصحاب وسالك سبيل الإنصاف، وصاحب الأصول والفروع، والحساب، وناقض قوانين المعترضين على الشافعي، ومعارض جوا بات الخصوم".
وقال عنه الشيخ أبو حامد الاسفراييني: "نحن نجري مع ابن سيرين في ظواهر الفقه دون دقائقه".
وقال أبو علي بن خيران. سمعت أبا العباس بن سريج يقول: "رأيت كأنما مطرنا كبريتا أحمر فملأت اكماجي وحجري فعبرت لي أن أرزق علما عزيزاً كعزة الكبريت الأحمر".
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد 4/287، وطبقات الفقهاء 108، وتذكرة الحفاظ 3/811، والعبر 1/450، وطبقات الفقهاء الشافعية 62، وطبقات الشافعية 41، وشذرات الذهب 2/247، وسير أعلام النبلاء 14/202، والمنتظم 6/149.(35/158)
وقال الحاكم وغيره: سمعت حسان بن محمد يقول: "كنا في مجلس ابن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد- يعنى للأمة- أمر دينها وأن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأظهر كل سنّة وأمات كل بدعة. وبعث على رأس المائتين محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه حتى أظهر السنّة وأخفى البدعة. وبعثك على رأس الثلاثمائة حتى قويت كل سنة وضعفت كل بدعة ثم أنشأ يقول:
عمر الخليفة ثم خلف السودد
اثنان قد مضيا فبورك فيهما
خير البرية وابن عم محمد
الشافعي الألمعي محمد
من بعدهم سقيا لتربة أحمد
أرجو أبا العباس أنك ثالث
قال: "فصاح أبو العباس بن سريج: وبكى فقال: لقد نعى إليّ نفسي". قال حسان: "فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة".
وجاء في تذكرة الحفاظ. كذا في النسخة سنة ثلاث وكأنها سنة ست تصحفت.
كان أبو العباس: صاحب سنة واتباع، إذ أنه سئل عن صفات الله تعالى فقال: "حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تجده، وعلى الألباب أن تصف إلا ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
واشتهر النقل عن ابن سريج أنه قال: "ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه، ولا يصل إلى معرفة الكلام".
ثانيا: تقديم العلماء له عليهم تقديرا لمكانته العلمية:
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن العلماء باتفاق يحترمون مكانة ابن سريج العلمية ويقدمونه عليهم نظرا لهذه المكانة لذا ذكر هذه الرواية مشيرا لهذا المعنى إذ قال: أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد الهروي في كتابه، حدثنا الحسن بن إبراهيم بن الحسين الليثي بمصر، حدثني الحسين بن الفتح. قال: "كان ببغداد جمع للقضاة والمعدلين والفقهاء وقاموا ليمضوا إلى موضع فاتفقوا على أن يتقدمهم أبو العباس بن سريج، ومنهم من هو في سن أبيه".(35/159)
ثالثا: مناظراته العلمية للعلماء وانتصاره فيها عليهم:
ويمكن التمثيل لهذه المناظرات بالصور الآتية:
(1) اجتمع أبو العباس بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري فاحتج أبو بكر على أن أم الولد تباع إذ قال: "أجمعنا إنها كانت أمة تباع، فمن ادعى أن هذا الحكم يزول بولادتها فعليه الدليل". فقال له أبو العباس بن سريج: "وأجمعنا على أنها لما كانت حاملا لا تباع فمن ادعى أنها تباع إذا انفصل الحمل فعليه الدليل". فبهت أبو بكر الظاهري.
(2) كان العباس بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر محمد بن يوسف لم يجر بين اثنين فيما يتفاوضانه أحسن مما يجرى بينهما. وكان ابن سريج كثيرا ما يتقدم أبا بكر في الحضور في المجلس. فتقدمه أبو بكر فسأله: "حدث من الشافعيين عن العَود الموجب في الظهار ما هو؟ ".
فقال: "إنه إعادة القول ثانيا": وهو مذهبه، ومذهب داود فطالبه بالدليل: فشرع فيه، ودخل ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى فشرحوه فقال ابن سريج لابن داود: "يا أبا بكر أعزك الله هذا قول مَن مِن المسلمين تقدمكم فيه". فاستشاط أبو بكر من ذلك. وقال: "أتقدر أن من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة. إجماع عندي. أحسن أحوالهم أن أعدهم خلافا وهيهات أن يكونوا كذلك". فغضب ابن سريج وقال: "إئت يا أبا بكر بكتاب "الزهرة "أمهر منك في هذه الطريقة". فقال أبو بكر: "وبكتاب "الزهرة تعيرني؟ والله ما تحسن تستتم قراءته قراءة من يفهم، وإنه لمن أحد المناقب إلا كنت أقول فيه:
وأمنع نفسي أن تنال محرما
أكرر في روض المحاسن مقلتي
فلولا اختلاس رده لتكلما
وينطق سرى عن مترجم خاطري
فما أن أرى حبا صحيحا مسلما"
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم
فقال له ابن سريج: "أو علي تفخر بهذا أم القول وأنا الذي أقول:
قد بت أمنعه لذيذ سنائه
وماهر بالفتح من لحظاته
وأكرر اللحظات في وجناته
ضنا بحسن حديثه وعتابه
ولى بخاتم ربه وبداته"(35/160)
حتى إذا ما الصبح لاح عموده
فقال أبو بكر لأبي عمر: "أن الله القاضي قد أقر بالميت على الحال التي ذكرها وأدعى البراءة بما يوجبه، فعليه إقامة البينة".
فقال ابن سريج: "من مذهبي أن المقر إذا أقر قرارا وناطه بصفة كان إقراره موكولا إلى صفته".
فقال ابن داود: "للشافعي في هذه المسئلة قولان". فقال ابن سريج: "فهذا القول الذي قلته اختياري الساعة".
(3) كان علي بن عيسى الوزير منحرفا عن أبي العباس بن سريج لفضل ترفعه، وتقاعده عن زيارته منصبا بالميل إلى أبي عمر المالكي القاضي لمواظبته على خدمته، ولذلك كان ما قلده من القضاء. وكانت في أبي عمر نخوة على أكفائه من فقهاء بغداد لعلو مرتبته، فحمل ذلك جماعة من الفقهاء على تتبع فتاويه حتى ظفروا له بفتوى خالف فيها الجماعة وخرق الإجماع. وأنهى ذلك إلى الخليفة والوزير فعقدوا مجلسا لذلك. وكان فيمن حضر أبو العباس بن سريج. فلم يرد على السكوت. فقال له الوزير: "ما تقول في ذلك". فقال: "ما أكاد أقول فيهم، وقد ادعوا عليه خرق الإجماع، وأعياه الانفصال عما اعترضوا به عليه، تم أن ما أفتى به قول عدة من العلماء وأعجب ما في الباب أنه قول صاحبه مالك رضي الله عنه، وهو مسطور في كتابه الفلاني"فأمر الوزير بإحضار ذلك الكتاب. فكان الأمر على ما قاله. فأعجب به غاية الإعجاب، وتعجب من حفظه لخلاف مذهبه، وغفلة أبي عمر عن مذهب صاحبه، وصار هذا من أوكد أسباب الصداقة بينه وبين الوزير. ومازالت عَناية الوزير به حتى رشحه للقضاء فامتنع أشد الامتناع. فقال: "إن امتثلت ما مثلته لك وإلا أجبرتك عليه". قال: "افعل ما بدا لك". فأمر الوزير حتى سمر عليه بابه، وعاتبه الناس على ذلك. فقال: "أردت أن يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب الشافعي عومل على تقلد القضاء بهذه المعاملة وهو مصر على إبائه زاهد في الدنيا".
وهذا الأمر يمكن أن يكون في أخر حياته إذ أنه ذكرت كثير من المصادر أنه تولى القضاء بشيراز.(35/161)
(4) ناظر أبو العباس بن سريج أبا بكر محمد بن داود يوما فقال له: "أنت تقول بالظاهر، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقل درة شرا يره. فمن يعمل نصف مثقال؟ "فسكت ابن داود طويلا. فقال له ابن سريج: "لم لا تجيب؟ "فقال: "أبلعني ريقي". فقال له أبو العباس: "أبلعتك دجلة". وقال أبو بكر بن سريج يوما: "أمهلني ساعة". فقال له: "أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة".
وقال أبو بكر لابن سريج يوما: "أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس". فقال له: "هكذا البقر إذا جفت أظلافها دهنت قرونها".
رابعا. استدراكه على بعض العلماء فيما صدر عنهم من أحكام:
لقد استدرك أبو العباس ابن سريج على الإمام محمد به الحسن الشيباني مسألة في الحساب وهي.
إذا خلف ابنين وأوصى لرجل بمثل نصيب أحد ابنيه إلا ثلث جميع المال فإن محمد بن الحسن قال: "المسئلة محال، لأنه أستثنى ثلث المال فقط".
وقال أبو العباس ابن سريج: "المسئلة من تسعة لأحد ابنيه أربعة، والثاني مثله، وواحد للموصى له وهو نصيب أحد ابنيه إلا ثلث جميع المال وإذا ضم إلى نصيب الموصي له، صار أربعة". ووجه جواب ابن سريج أنه يجعل إلا ثلث جميع المال قيدا في مثل النصيب، يعني مثل النصيب خارجا منه ثلث الأصل.
خامسا: بعض المسائل التي اهتم العلماء بنقل أحكامها عنه:
لقد نقل كثير من العلماء آراءه الفقهية والأصولية في كتبهم ومجالسهم العلمية حتى شاعت في الآفاق ومنها ما يلي:
(1) قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني كما نقل عنه ذلك الإمام النووي رحمه الله.
في تعليقه في مسئلة صفة الجلوس في التشهد الأول، قال ابن سريج: "متى عرف من أصول الشافعي شيء ذكره في كتبه عمل به. فمتى وجد في كتبه غير ذلك يؤول، ولم ينزل على ظاهره لئلا يعد قولا آخر له".
(2) نقل عنه أنه قال: "قل ما رأيت أن المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام".(35/162)
(3) جاء عن السبكي في طبقاته: أن ابن سريج قال: "يؤتى يوم القيامة بالشافعي وقد تعلق المزني يقول: رب هذا قد أفسد علومي. فأقول أنا: مهلا، بأبي إبراهيم فإني لم أزل في إصلاح ما أفسد".
(4) جاء في الطبقات الكبرى فيما قاله الحاكم: أنه سمع الأستاذ أبا الوليد النيسابوري يقول: "سألت ابن سريج. ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" فقال: "إن القرآن أنزل ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا أسماء وصفات. وقد جمع في (قل هو الله أحد) الأسماء وصفات".
(5) وجاء عن العبادي في طبقاته: أن ابن سريج أفتى في قول من قال: "يا زانية أنت طالق إن شاء الله""بأنها لم تطلق، وهو قاذف، لأن قوله يا زانية اسم لها، وخبر عن محتمل، والاستثناء لا يرجع للاسم"، وإذا قال: "يا زانية إن شاء الله". "لا يصح الاستثناء، لأنه خبر عن فعل ماض، وهو واقع، ويستحيل تعلق وقوعه بمشيئته من بعد". وإذا قال: "أنت زانية إن شاء الله""اختلفوا فيه، وقيل لا يصح الاستثناء". قال أبو حامد المروزي: "وقطع به أنه يصح رجوعه، لأنه يجري مجرى التشبيك في الخبر. كما لو قال أنت زانية إن شاء الله".
(6) جاء في طبقات السبكي: أن قال: "كان ابن سريج يذهب كما حكاه الماوردي في الحاوي في باب "ما على القاضي في الخصوم والشهود"إلى رأَي أهل الكوفة: أن الأولى للحاكم إذا ثبت الحق ألا يسمى في سجله الشهود"، باب يقول: "ثبت عندي بشهادة من رأيت قبول قولهما احتياطا للمحكَوم له. فإنه متى سماهما فتح باب الطعن والقدح عليه". والمعروف عن الشافعية قاطبة عكسه احتياطا للمحكوم عليه. وإنه يقول ثبت عنده لشهادة فلان وفلان.(35/163)
(7) ما ذكره تلميذه ابن القاص في كتابه أدب القاضي إذ أنه قال: "سمعت أحمد ابن عمر بن سريج ينزع الحكم بشاهد ويمين من كتاب الله عز وجل من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأََوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّه} ".
وسأحكي معاني ما انتزع به وإن لم أجد ألفاظه: قال رحمه الله تعالى لما قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} يعني تبين {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعنى بذلك الوصيين {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأََوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ} فيحلفان بالله، يعني وارثي الميت اللذين كان الوصيان حلفا إن ما في أيديهما من الوصية غير ما زاد عليهما.
قال ابن سريج قال: "فالبيان الذي عثر على أنهما استحقا إثما به لا يخلو من أحد أربعة معان:
أما أن يكون إقرارا منهما بعد إنكارهما، أو أن يكون شاهدي عدل، أو شاهداً وامرأتين أو شاهداً واحدا، وقد أجمعنا على أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالبين، وكذلك لو قام شاهدان أو شاهد وامرأتان، فلم يبقى إلا شاهد واحد، وكذلك استحلاف الطالبين".
(8) المسألة السريجية:
ينسب إلى ابن سريج ما يسمى بالمسألة السريجية أو مسألة الدور في الطلاق ومفادها أن يقول: الزوج لزوجته: "كلما أو إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاث". ثم يقول: "أنه طالق". قال ابن سريج: "لا يقع شيء للدور".(35/164)
وجاء عن ابن العماد الحنبلي في الشذرات: أن البلقيني قال: "يجوز تقليد مصحح الدور في السريجية، ومقلده لا يأثم وأنا لا أفتي بصحته، لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها وإن ذلك ينفع عند الله تعالى".
وجاء في هامش النجوم الزاهرة نقلا عن أبي شجاع أن ابن الصباغ قال: "وددت لو محيت هذه وابن سريج برئ مما ينسب إليه فيها".
المبحث الثالث
في مصنفاته العلمية
لأبي العباس بن سريج مصنفات علمية كثيرة حتى قيل أنها بلغت أربعمائة مصنف. إلا أن المشهور من هذه المصنفات ومما ذكرته المصادر بالاسم ما يلي:
(1) الرد على ابن داود في إبطال القياس.
(2) التقريب بين المزني والشافعي.
(3) الرد على محمد بن الحسن الشيباني.
(4) مختصر في الفقه.
(5) الرد على عيسى بن أبان.
(6) جواب القاشاني.
(7) الانتصار.
(8) الغنية في فروع الشافعية.
(9) البيان عن أصول الأحكام.
(10) الفروق في الفروع.
(11) الودائع لمنصوص الشرائع.
(12) كتاب العين والدين في الوصايا.
المبحث الرابع
في روايته للحديث
لقد ذكرت كثير من المصادر بأن لابن سريج سماعا في الحديث ورواية له لذا سأذكر أسماء من سمع عنهم الحديث وأسماء من روى عنه الحديث.
أولا: أسماء من سمع ابن سريج عنهم الحديث وهم كل من:
(1) الحسن بن محمد الزعفراني.
(2) علي بن اشكاب.
(3) عباس محمد الدوري.
(4) أحمد بن منصور الرمادي.
(5) أبو داود السجستاني.
(6) محمد بن سعيد العطار.
(7) عباس بن عبد الله الترقفي.
(8) عباس بن عبد الملك الدقيقي.
(9) الحسن بن مكرم.
(10) حمدان بن علي الوراق.
(11) محمد بن عمران الصائع.
(12) عبيد الله بن شريك البزار.
ثانيا: أسماء من حدث وروى عن ابن سريج وهم:
(1) أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني.
(2) أبو أحمد الغطريفي محمد بن أحمد بن الغطريف.
(3) أبو الوليد حسان بن محمد.
كما روى عنه غيرهم.
وللتدليل على روايته للحديث يمكن أن نذكر بعض الروايات التي وردت عنه وهي:(35/165)
أولا: أخبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الله بن أحمد بن شهريار الأصبهاني، أخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا أحمد بن عمر بن سريج القاضي- أبو العباس- حدثنا العباس بن محمد بن حاتم، حدثنا سورة بن الحكم القاضي قال: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى عن ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، ورجل كانت له أمة فاعتقها فتزوجها، وعبد اتقى الله، وأطاعَ مواليه" (1) .
ثانيا: أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، حدثنا محمد بن الغطريف- بجرحان- حدثنا الأمير أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، حدثنا أبو يحي الضرير محمد ابن سعيد العطار، حدثنا عبيدة بن حميد، حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عَن سعيد بن جبير عن ابن
عباس رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلاً مذاء، وكنت أكثر من الاغتسال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يكفيك منه الوضوء" (2) .
__________
(1) انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول 8/60.
(2) انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول 7/199 وصحيح مسلم بشرح النووي باب المذي 3/212.(35/166)
ثالثا: أخبرنا أبو محمد بن أبي عمر، أخبرنا عمر بن محمد، أخبرنا أحمد بن محرر ومحمد ابن عبد الباقي قالا: أخبرنا طاهر بن عبد الله، أخبرنا أبو أحمد محمد بن أحمد، حدثنا أبو العباس ابن سريج، حدثنا علي بن اشكاب، حدثنا أبو بدر، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا أبو الرصافة الباهلي من أهل الشام أن أبا أمامة حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من امرىء تحضره صلاة مكتوبة فيتوضأ عندها فيحسن الوضوء ثم يصلي فيحسن الصلاة إلا غفر الله له بها ما كان بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه" (1) .
رابعا: حدثنا ابن سريج، حدثنا الزعفراني، حدثنا وكيع، حدثنا الثوري عن ربيعة الرأي عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: "عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستنفقها" (2) .
خامسا: جاء في تذكرة الحفاظ: أن حديثه في جزء الغطريفي يقع عالياً إذ قال: فأنبأنا عبد الرحمن بن أبي عمر الفقيه، أنبأنا عمر بن محمد، أنبأنا أحمد بن ملوك ومحمد بن عبد الباقي قالا: أنبأنا طاهر بن عبد الله القاضي، أنبأنا محمد بن أحمد – بجرجان - أنبأنا أبو العباس بن سريج، أنبأنا الرمادي، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" (3) هذا إسناد صحيح لكن نسخ بعد ذلك.
المبحث الخامس
في نظمه الشعر
__________
(1) انظر: صحيح البخاري – كتاب الوضوء - 1/128، وصحيح مسلم بشرح النووي – كتاب الطهارة - 3/112.
(2) انظر صحيح البخاري – كتاب اللقطة – 5/61، وصحيح مسلم بشرح النووي – كتاب اللقطة – 12/21 والموطأ – كتاب القضاء باللقطة – 2/126.
(3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي – باب بيان أن الغسل يجب بالجماع – 4/38 وسنده في مسلم إلى أبي سعيد الخدري بسند غير ما ذكره صاحب الطبقات.(35/167)
نقلت بعض المصادر أن أبا العباس ابن سريج ينظم الشعر بل سريع البديهة في ذلك كما هو الحال في موقفه مع أبي بكر محمد بن داود كما سنرى قريباً.
وهذا بيان لبعض ما ذكر من شعره:
أولا: شعره في الرد على أبي بكر محمد بن داود الظاهري:
إذ أنشد قائلا:
فذبت أمنعه لذيذ سنانه
وساهر بالغنج من لحظاته
وأكرر اللحظات في وجناته
مننا بحسن حديثه وعتابه
ولى بخاتم ربه وبراته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده
ثانيا: ما روي عنه أنه ركب شعرا في دخول "لو": تركيبا غير عربي فقال:
أجاوبه أن الكلاب كثير
ولو كلما كلب عوى ملت نحوه
قليل فإني بالكلاب بصير
ولكن مبالانى بمن صاح أو عوى
والذي عاب على أبي العباس ابن سريج هذا التركيب هو الشيخ أبو حيان رحمه الله وقد أجاب السبكي في طبقاته على أبي حيان بقوله:
"لم يبين الشيخ أبو حيان وجه خروج أبي العباس عن اللسان في هذا التركيب الشعري. فإن أراد تسليطه حرف "ولو"على الجملة الاسمية فهو مذهب كثير من النحاة منهم الشيخ جمال الدين بن مالك. جوزوا أن يليها اسم ويكون معمول فعل مضمر ففسر بظاهر بعد الاسم".
ثم أضاف قائلا: وقال في التسهيل: "وإن وليها اسم فهو معمول فعل مضمر مفسر بظاهر بعد الاسم، وربما وليها اسمان مرفوعان".
ومثال ما إذا وليها اسم: ما روي في المثل من قولهم "لو ذات سوار لطمئني"وقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة".
وقال الشاعر:
عتبت ولكن ما على الدهر معتب
أخلان لو غير الحمام أصابكم
وقال شاعر آخر:
أدنى الجواز إلى بنى العوام
لو غيركم علق الزبير بحبله
وقال آخر:
جعلت لهم فوق العرانين ميسما
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
فالأسماء التي وليت "لو"في هذا كله معمولة لفعل مضمر يفسره ما بعده، كأنه قال:
ولو لطمتني ذات سوار لطمتني. وكذا نقول في قول ابن سريج: "ولو كلما كلب"المعنى ولو كان كلما كلبا عوى.(35/168)
ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأََمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} (1) .
ويلزم من رد أبي حيان لهذا المذهب ودعواه أنه غير مذهب البصريين أن يكون مردودا في نفسه.
وإن أراد حذف الجواب إذ التقدير: ولو كان كلما عوى كلب ملت نحوه، كي أجاوبه لسئمت أو تعبت، أو نحو ذلك لأن الكلاب كثير. فقد نص هو وغيره على جواز حذف جواب "لو"لدلالة المعنى عليه، وعليه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار ِ} (2) . وشواهده كثيرة.
ثالثا: من شعر أبي العباس ابن سريج في مختصر المزني:
وصقيل ذهني والمفرج عن همي
لصيق فؤادي منذ عشرين حجة
لما فيه من علم لطيف ومن نظم
عزيز على مثلي إعارة مثله
فأخلق به أن لا يفارقه كمي
جموع لأصناف العلوم بأسرها
المبحث السادس
في شيوخه
درس أبو العباس ابن سريج الفقه على أبي القاسم الأنماطي وهو الذي أثر فيه أكثر من غيره. كما درس على أبي الحسن المنذري.
وقد ذكرت بعض المصادر أنه تتلمذ على المزني. إلا أن هذا وهم وغير صحيح حيث أن الذي تتلمذ على المزني هو شيخه الأنماطي.
ويمكن أن نترجم لشيخه الأنماطي والمنذري بما يلي:
أولا: الأنماطي:
هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي - منسوبا إلى الأنماط وهي البسط التي تفرش _ كان فقيها ورعا أخذ العلم عن المزني والربيع وهو الذي نشر مذهب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه ابن سريج، وأبو سعيد الأصطخري، وأبو علي بن خيران، ومنصور التميمي، وأبو حفص بن الوكيل البابشامي.
والأنماطي بالنسبة لأهل بغداد كأبي بكر بن إسحاق بالنسبة لأهل نيسابور، فإنه أول من حمل إليهم علم المزني. توفي سنة 289هـ.
ثانيا: المنذري:
هو أبو الحسن المنذري شيخ ابن سريج، وله مختصر في الفقه من كتب الشافعي رحمه الله من كتاب المزني.
المبحث السابع
في تلاميذه
__________
(1) سورة الإسراء آية:100.
(2) سورة الأَنعام آية: 27.(35/169)
لقد درس على أبي العباس ابن سريج جمع كثير من طلبة العلم وقد استفادوا منه وأفادوا. إلا أن أبرز تلاميذه وأشهرهم هم الذين قاموا بنشر مذهبه من بعده في الآفاق وصنفوا في ذلك التصانيف الكثيرة وأظهروا براعة فائقة في حمل هذا العلم والدفاع عنه والرد على أعدائه.
لذا سأترجم لأشهرهم علما وأبرزهم مكانة وهم كما يلي:
أولا: أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي المعروف بالصيرفي:
الإمام الجليل الأصولي، أحد الوجوه المسفرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدره. وكان يقال: "إنه أعلم خلق الله تعالى بالأصول بعد الشافعي".
تفقه علي أبي العباس ابن سريج، وسمع الحديث من أحمد بن منصور الرمادي، وروي عنه علي ابن محمد الحلبي. له تصانيف كثيرة منها:
(1) شرح الرسالة.
(2) كتاب في الإجماع.
(3) كتاب الشروط.
(4) كتاب في الفتوى.
(5) كتاب باسم "المستفاد في اللفظ المستجاد".
ثانيا: أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاص (1) .
إمام عصره، تفقه على أبي العباس ابن سريج، وتفقه عليه أهل طبرستان، حدث عن أبي خليفة ومحمد بن عبد الله المطين الحضرمي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ويوسف بن يعقوب القاضي، وعبد الله بن ناجية، وغيرهم.
صاحب المصنفات الكثيرة منها:
(1) المفتاح.
(2) أدب القاضي.
(3) المواقيت.
(4) التلخيص.
توفي بطرسوس سنة 335 هـ.
ثالثا. أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي (2) (2) شيخ الشافعية:
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية 65، وطبقات الفقهاء 111، وطبقات الشافعية الكبرى 3/59، وأدب القاضي 1/27 تحقيق الدكتور حسين الجبوري.
(2) انظر: طبقات الشافعية 66 وطبقات الفقهاء 112، وشذرات الذهب 2/355، وطبقات الفقهاء الشافعية 68.(35/170)
كان إماما جليلا، غواصا على المعاني، أخذ العلم عن ابن سريج، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد، وانتشر العلم عن أصحابه إذ خرج من مجلسه إلى البلاد سبعون إماما. ثم انتقل في آخر عمره إلى مصر وشرح المختصر وصنف الأصول. وهو الذي قعد في مجلس الشافعي بمصر سنة القرامطة واجتمع الناس عليه.
توفي سنة 340هـ ودفن عند ضريح الشافعي رضي الله عنهما. وقد حكى عنه حكاية غريبة ولغرابتها أذكرها عنه في هذا الموطن وهي:
قال أبو إسحاق: "كان لي جار ببغداد، وكان له مال كثير وله ابن يضرب إلى السواد، ولون الرجل لا يشبهه، وكان يعترض أنه ليس منه. قال: فأتاني فقال: "عزمت على الحج، وأكثر قصدي أن استصحب ابني وأريه بعض أهل القيافة ثم فنهيته، وخرج فلما رجع قال لي: إني استحضرت مدلجيا، وأمرت بعرضه عليه في عدد من الرجال، وكان منهم الذي رأى أنه منه. وكان معنا في الرفقة. وغبت عن المجلس فنظر القائف فيهم فلم يلحقه بأحد منهم. فأخبرت بذلك وقيل لي احضر فلعله يلحقه بك. فأقبلت على ناقة يقودها عبد لنا أسود كبير السن. فلما وقع بصره علينا قال: الله أكبر الراكب أبو هذا الغلام والقائد الأسود أبو الراكب. فغشي علي من صعوبة ما سمعت. فلما رجعت من الحج، رجعت
على والدتي لتخبرني. فأخبرتني أن أبي طلقها ثلاثا. ثم ندم فأمر هذا الغلام بنكاحها للتحليل، ففعل، فعلقت منه. وكان ذا مال كثير وليس له ولد فاستحقه ونكحني مرة ثانية".
رابعا: أبو علي الحسن بن الحسين المعروف بابن أبي هريرة (1) :
أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم على أبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر. ثم عاد إلى بغداد وشرح شرحين للمختصر، مختصرا ومبسوطا. درس ببغداد وتخرج عليه خلق كثير. وانتهت إليه إمامة العراقيين. توفي ببغداد سنة 345 هـ.
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية 72، وطبقات الفقهاء /112 وشذرات الذهب 2/370، وطبقات الشافعية الكبرى 3/256 وطبقات الفقهاء الشافعية 77.(35/171)
خامسا: أبو الوليد حسان بن محمد بن أحمد القرشي الأموي النيسابوري (1) :
الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب ابن سريج، كان زاهدا محتشما، قال عنه الحاكم: "بأنه إمام أهل الحديث بخراسان"، له كتاب المستخرج على صحيح مسلم. كما أنه شرح رسالة الإِمام الشافعي شرحا حسنا. عاش اثنتين وتسعين سنة. توفي بنيسابور سنة 349 هـ.
سادسا: أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي (2) :
كان إماما، إذ أنه أفصح الأصحاب قلما، وأمكنهم في دقائق العلوم قدما، وأسرعهم بيانا، وأتقنهم جنانا، وأعلمهم إسنادا، وأرفعهم عمادا، انتشر عنه مذهب الشافعي بما وراء النهر، له كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة. وهو أول من صنف في الجدل الحسن من الفقهاء. توفي سنة 335 هـ وقيل سنة 336 هـ.
سابعا: أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي المعروف بابن القطان (3) :
وهو آخر أصحاب ابن سريج وفاة. أخذ عنه علماء بغداد. إذ درس بها. له مصنفات في أصول الفقه وفروعه. توفي سنة 359 هـ.
ثامنا: أبو جعفر أحمد بن محمد الاستراباذي (4) :
من أصحاب ابن سريج ومن كبار الفقهاء والمؤذنين، وأَجل العلماء المبرزين، وهو القائل: "لا وجود للسحر وإنما هو تخييل".
أبو بكر أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي (5) :
وهو صاحب "عيون المسائل في نصوص الشافعي"تفقه على ابن سريج. مات بحدود سنة خمسين وثلاثمائة.
الآراء الأصولية للإمام أبي العباس ابن سريج الشافعي البغدادي المتوفي سنة 306 هـ
باب الأحكام
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية 73، وطبقات الفقهاء الشافعية 74، وشذرات الذهب 2/380، وطبقات الشافعية الكبرى 3/226.
(2) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/200، وطبقات الشافعية /88، وشذرات الذهب 3/28.
(3) انظر: طبقات الشافعية /84 وطبقات الفقهاء الشافعية /85.
(4) انظر: طبقات الشافعية /84، وطبقات الفقهاء الشافعية /85.
(5) انظر: طبقات الشافعية 75.(35/172)
(1) مسألة: طلب العلم (1) :
قال ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في طلب العلم؟ تقول: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه الأمة. فالحجة من الكتاب قوله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (2) فأفادنا بذلك حكم طلب العلم.
وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو بالصين" فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم.
وقد أجمعت الأمة على أن علم ما لا يسع جهله فرض على الإنسان أن يعلمه، فإذا علمه كان طلب ما سوى ذلك فضلا لا فرضا. فعلى من علمَ أن الله قد فرض عليه فرائض وتواعده على تركها أن يعلمها، وأن يسارع إلى موافقة الله تعالى فيها رغبة في ثوابه، وخوفا من عقابه، وطلبا لمرضاته، والله نسأل التوفيق بمنه وهو حسبنا ونعم الوكيل".
(2) مسألة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع:
اختلف العلماء في حكم الأشياء قبل ورود الشرع على أقوال:
فقال أبو العباس ابن سريج: "إنها على الإباحة حتى يرد الشرع بحظرها".
وجاء في شرح الكوكب المنير إيراد المسألة باسم آخر وهو "الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع وبعده وخلا عن حكمها فما هو حكم هذه الأعيان"ومن العلماء من ذكرها قبل ورود الشرع. ومع ذلك فقد قال صاحب الكوكب بأن أبا العباس ابن سريج قال: "بأنها مباحة".
هذا وقرر استدل ابن سريج على قوله هذا بالأدلة الآتية وهي:
أولا: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق} (3) .
وجه الاستدلال: إن هذا استفهام إنكاري وهو يفيد الذم والتوبيخ. لذا كان مقتضى الآية أن الأصل في الأعيان المنتفع بها الإباحة.
__________
(1) انظر: الودائع بمنصوص الشرائع /678.
(2) سورة التوبة آية: 122.
(3) سورة الأعراف آية: 32.(35/173)
ثانيا: استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما سكت عنه فهو عفو" (2) .
وجه الاستدلال: إن الحديثين يفيدان الإباحة.
ثالثا: استدل بأن هذه الأعيان ملك للَه تعالى والانتفاع بملك الغير على وجه لا يستضر به المالك جائز.
والدليل على ذلك أملاك الآدميين. فإنها يجور الانتفاع بها على وجه لا يستضر به المالك مثل الاستظلاِل بظله والمشي في ضوء سراجه، ولا ضرر على الله تعالى في انتفاعنا بهذه الأعيان. فوجب أن يكون الانتفاع بها جائزا على الإطلاق.
رابعا: قال: "إن الحكيم لا يخلق شيئا إلا لغرض ووجه من الحكمة يقتضي خلقه. وقد خلق الله تعالى هذه الأعيان فلا يخلو إما أن يكون خلقها للمنفعة أو المضرة. بطل أن يكون خلقها للمضرة، لأن هذا لا يليق بالحكيم. فبقي القسم الثاني وهو أنه خلقها للانتفاع بها. وإذا ثبت هذا فلا يخلو إما أن يكون خلقها لنفع نفسه أو لنفعنا، بطل أن يكون خلقها لنفع نفسه لأن الله تعالى مستغن عن ذلك. بقي أن يكون خلقها لنفع الناس، وإذا ثبت هذا ثبت
أن الانتفاع بها جائز، إذ لا يخرج خلقه إياها عن هذين القسمين. لأن القسم الثالث عبث ولعب، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا".
ويدل عليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (3) .
خامسا: قال: بأن المباح ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه وعندكم أن من يفعل شيئا قبل الشرع لا ثواب له في فعله ولا عقاب في تركه، فقد أثبتم له حكم الإباحة.
__________
(1) انظر: صحيح مسلم - كتاب الفضائل - 4/1831 وصحيح البخاري _ باب ما يكره من كثرة السؤال _ 8/142، ومختصر سنن أبي داود _ باب لزوم السنة _ 7/13.
(2) انظر: سنن أبي داود 3/485، وسنن ابن ماجة 2/1117.
(3) سورة البقرة آية: 29.(35/174)
سادسا: بأن القول بالوقف يؤدي إلى ترك الوقف وذلك أن القول به لا يخلو إما أن يكون حقا يجب اعتقاده أو باطلا لا يجوز اعتقاده. فإن كان حقا وجب اعتقاده. بطل القول بالوقف. لأنه قد وجب الاعتقاد وإن كان باطلا لم يجز القول به.
(3) مسألة: شكر المنعم:
اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على أقوال فقال أبو العباس ابن سريج: "يجب شكر المنعم عقلا".
ونقل الزركشي عن تقاضى أبي بكر الباقلانيى والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائينى في معرض الاعتذار عن ابن سريج هذا أنهما قالا: "أعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره، برعوا في فن الفقه، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عَباراتهم، وقولهم في شكر المنعم عقلا فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبح القول".
(4) مسألة: صيغة أفعل ليست حقيقة:
صيغة أفعل تستعمل في معان متعددة قد تصاب إلى ستة عشر معنى. فهل استعملها في هذه المعاني على وجه الحقيقة أم على خلاف ذلك؟
قال البخاري في كشف الأسرار بأن العلماء اتفقوا على أن صيغة أفعل ليست حقيقة في جميع الوجوه لأن معنى التسخير والتعجيز والتسوية مثلا غير مستفاد من مجرد الصيغة. بل إنما يفهم ذلك من القرائن.
إنما الذي وقع الاختلاف فيه أربعة أمور هي الوجوب والندب والإباحة والتهديد.
فقال أبو العباس ابن سريج: "الأمر مشترك بين هذه الوجوه الأربعة بالاشتراك اللفظي كلفظ العين". وقد استدل على قوله هذا بما يلي:
وهو أن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة من غير أن يثبت هو ترجيح أحدها على الباقي والأصل في الاستعمال الحقيقة. فيثبت الاشتراك الذي هو من أقسام الإجمال. فلا يجب العمل به إلا بدليل زائد يرجح أحد المعاني على سائرها لاستحالة ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح.
(5) مسألة: ما هي حقيقة الأشبه:(35/175)
هذه المسألة موضعها عند كل الفقهاء في التخطئة والتصويب فالمجتهد إذا وقعت له واقعة يطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع، ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ويريد جمعا ويطلب شبها فيخيل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه. ومعنى هذا أن المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبها أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه، لذا اختلف العلماء في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب.
فقال أبو العباس ابن سريج: "الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير ورود الشرع بحكم في المحل. أنه كان ينص على ذلك الحكم".
باب العام والخاص
(1) مسألة: إذا ورد لفظ عام هل يبحث عن المخصص قبل الشروع في العمل به أم لا؟:
هذه المسألة قد اختلفت ألفاظ العلماء في التعبير عن مقتضاها إذ أن من العلماء من عبر عنها بقوله: الألفاظ موضوعة للعموم.
ومنهم من قال: "هل يجب اعتقاد العموم من الصيغة والعمل بمقتضاها أو يتوقف عنها".
وقد اختلف العلماء في بيان حكمها على أقوال متعددة فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يجوز التمسك بالعام ما لم يتقص في طلب المخصص، فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم العام".
وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية وهي:
أولا: أن المقتضي للعموم هو الصيغة المتجردة عن القرائن ولا يعلم تجردها عن القرائن إلا بعد النظر في الأصول والبحث عن الأدلة، لأن دليل التخصيص قد يكون متصلا بلفظ العموم بالشرط والاستثناء، وقد يكون متأخرا عنه فلم يجز اعتقاد عمومه ما لم يوجد شرط العموم فيه.(35/176)
ثانيا: إن هذا الأمر يقاس على البينة في الحكم حيث يعتمد على ما يعلم إذا علم الحاكم عدالتها، لو كانت البينة لا تكون بينة حتى يعلم خبرها من الأسباب القادحة في العدالة، لم يجز العمل بها مع الجهل بحالها، بل يجب عليه أن يتوقف فيها حتى يكشف عن باطن حالها بسؤال أهل الخبرة والمعرفة بالشهود. كذلك في مسألتنا.
ثالثا: بأنه لا طريق إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر وهو غير يقيني. والقول بأنه لو كان ثم مخصص لاطلع عليه العلماء غير يقيني لجواز وجوده مع عدم اطلاع أحد من العلماء عليه. وبتقدير اطلاع بعضهم عليه فنقله له أيضا غير قاطع. بل غايته أن يكون ظنيا. كيف وأنه ليس كل ما ورد فيه العام مما كثر خوض العلماء فيه، وبحثهم عنه ليصح ما قيل.
رابعا: إنه بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة، وأن لا يكون، والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل.
خامسا: أن اللفظ الموضوع للاستغراق هو اللفظ المتجرد عن القرائن المخصصة، ولابد من طلب التجرد لنحمل على المعنى الموضوع له اللفظ، وعند الطلب نعرض الخطاب الوارد على دلائل الشرع ليعرف هل وجد هناك دليل يخص اللفظ أولا. ثم إذا لم نجد فقد أصاب اللفظ المجرد عن قرينة مخصصة
فيحمل عام الموضوع له، وهو الاستيعاب، ويعتقد ذلك.
(2) مسألة: تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس:
اختلف أهل العلم في جواز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس. فقال أبو العباس ابن سريج: "إن كان القياس جليا جاز وإن كان خفيا فلا مثل قياس تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف".
وجاء في إرشاد الفحول عنه روايتان: الأولى: "أنه يقول بالتخصيص مطلقا".(35/177)
والثانية: "أنه يقول بالتخصيص إن كان القياس جليا" وصحح عنه الرواية الأولى. إلا إني أقول لعل الراجح هي الرواية الثانية لأن أكثر المصادر ذكرت عنه هذه الرواية دون الثانية أي التخصيص بالقياس الجلي دون غيره.
(3) مسألة: تخصيص العموم بدليل الخطاب:
معنى ذلك أنه إن ورد نص عام فهل لنا أن نخصصه بدليل الخطاب (مفهوم المخالفة) أم لا؟.
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال. فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يجور تخصيص العموم بدليل الخطاب".
(4) مسألة: هل تحمل الألفاظ على كل ما تتناوله أم على البعض؟:
معنى ذلك أن اللفظ إذا كان متناولا لأفراد كثيرة فهل يحمل على جميع هذه الأفراد أم أنه يكتفي بحمله على أقل ما يتناوله؟.
قال أبو العباس ابن سريج: "يجب حمل الألفاظ على أقل ما يتناوله اللفظ". وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية:
أولا: بأن أقل الجمع ثلاثة ولا يشك في أن ذلك المقدار مراد باللفظ وما زاد على ذلك مشكوك فيه. فلا يحمل اللفظ عليه إلا بدليل.
ثانيا: لفظ الجميع لو اقتضى العموم لوجب إذا قال: لفلان عندي دراهم ألا يقبل منه ثلاثة دراهم. ولما أجمعنا على أنه يقبل منه ثلاثة دراهم. علمنا أن اللفظ محمول على أقل ما يتناوله.
باب: الحقيقة والمجاز
(1) مسألة: المجاز في القرآن:
اختلف العلماء في وقوع المجاز في القرآن الكريم.
فقال أبو بكر بن داود: "بأن المجاز في اللغة، وليس في القرآن مجاز". فرد عليه أبو العباس ابن سريج بوقوع المجاز في القرآن وقد استدل على رده بقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات} (1) .
وجه الاستدلال: أن الصلوات لا تهدم وإنما أراد به مواضع الصلوات. وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز. وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. فلم يكن لأبي بكر من جواب على ما استدل به ابن سريج.
(2) مسألة: هل يحمل اللفظ على الحقيقة قبل البحث عن المجاز أم لا؟.
__________
(1) سورة الحج آية: 40.(35/178)
معنى ذلك هل يحمل اللفظ على معناه الحقيقي ابتداء أم لابد من البحث عن معناه المجازي قبل حمله على الحقيقي؟. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقال أبو العباس بن سريج: "يجب طلب المجاز قبل استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي".
باب: المفهوم
(1) مسألة: مفهوم الصفة:
هذه المسألة تسمى عند علماء الأصول بمسميات كثيرة منها: "مفهوم المخالفة"ومنها:
"دليل الخطاب". ومنها: "العمل بالوجوه الفاسدة". ومثلها قوله الرسول صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" (1) .
وهل معنى هذا نفي الزكاة عن المعلوفة من الغنم أم لا؟. اختلف علماء الأصول في ذلك:
فقال أبو العباس ابن سريج: "تعليق الحكم على صفة لا يدل على انتفاء الحكم فيما لم توجد فيه تلك الصفة إلا إذا جاء بلفظ الشرط". وقد استدل على قوله هذا بالأدلة الآتية:
أولا: استدل بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} (2) .
وجلا الاستدلال: أنه لو كان كما قلتم لكان في الآية دليل على جواز القتل عند انتفاء خشية إملاق وهو الفقر، وليس كذلك، بل هو حرام.
ثانيا: لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه. لكن التخصيص بالأسماء لا يدل على نفيه عما عداه. فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما عداه.
ثالثا: ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الأخرى والإِخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الإِخبار عنه في الصورة الأخرى، فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما.
رابعا: ليس في كلام العرب كلمة تدل على شيئين متضادين وهذا اللفظ يدل على إثبات الحكم ونفيه، وهذا خلاف اللغة.
__________
(1) انظر: فتح الباري _ باب الزكاة الغنم _ 3/317 وتلخيص الحبير 2/156 ومختصر سنن أبي داود _ باب في زكاة السائمة _ 2/182، والمعتبر/170.
(2) سورة الإسراء آية: 31.(35/179)
خامسا: لو كان تعليق الحكم على الصفة للشيء يدل على نفيه عما عداه لوجب أن لا يحسن فيه الاستفهام، كما لا يحسن في نفس النطق.
سادسا: بأن نفي الحكم عن غير المنصوص لا يفهم من مجرد الإثبات إلا بنقل متواتر من أهل اللغة، أو جار مجرى التواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وَأمثالهما للتكثير، وإن قولهم عليم وقدير وأقدر للمبالغة. ونقل الآحاد لا يكفي إذ الحكم على اللغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط، لا سبيل إليه، ولم يوجد.
سابعا: أهل اللغة فرقوا بين العطف وبين النقض. وقد قالوا أضرب الرجال الطوال والقصار عطف، وليس بنقض. ولو كان قوله أضرب الرجال الطوال يدل على نفي ضرب القصار لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا.
ثامنا: الخبر عن ذي الصفة لا يبقي غير الموصوف، فإن الرجل إذا قال: قام أسود، أو خرج، لم يدل على نفيه عن الأبيض. بل هو مسكوت عن الأبيض فكذلك الأمر.
تاسعا: بمفهوم الاسم واللقب. فإن الأسماء موضوعة لتمييز الأجناس والأشخاص كإنسان وزيد. والصفات موضوعة لتمييز النعوت والأحوال كطويل وقصير، وقائم وقاعد. فإذا كان تقييد الخطاب بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، فإنه إذا قيل في الإبل الزكاة لا يدل ذلك على نفيها عن البقر. وجب أن يكون التقييد بالصفات بمثابته.
عاشرا: كان دليل الخطاب يقتضي الحكم لكان ذلك مستنبطا من اللفظ، وما استنبط من اللفظ لا يجوز تخصيصه كالعلة.(35/180)
حادي عشر: ما روي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال: "قلت لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأنا يومئذ حديث السن. أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) فما أرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما". قالت عائشة رضي الله عنها: "كلا يا ابن أخي لو كان كما قلت لكانت "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما". فهذه عائشة وهي من أهل اللسان لم تحكم للمسكوت عنه ضد حكم المنطوق به، واعتذر عروة رضي الله عنه ما اعتقد ذلك بحداثة سنه، وأنه لم يكن فقه بعد. وإذا كان هذا طريقه اللغة. وجب أن يرجع إلى قول عائشة رضي الله عنها. والله أعلم وأحكم.
ثاني عشر: لو دل الخطاب المقيد بالصفة على نفي ما عداه لدل عليه إما بصريحه ولفظه، وإما بفائدته ومعناه. وليس يدل علية من كلا الوجهين. فإذا ليس يدل عليه. أما صريحه فلأنه ليس فيه ذكير لما عدا الصفة. ألا ترى أن قول القائل "أدوا عن الغنم السائمة الزكاة"ليس فيه ذكر للمعلومة أصلا.
وأما المعنى: فلو دل من جهة المعنى لكان من حيث أنه لو كانت الزكاة في غير السائمة كهي في السائمة لما تكلف الشارع ذكر السوم وتعلق الزكاة باسم الغنم لأن تكلف ذكر السوم مع تعلق الزكاة بمطلق اسم الغنم تكلف لما لا فائدة فيه.
(2) مسألة: الحكم المعلق عن شيء بكلمة "إن"هل حكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أم لا؟ نحو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ} (2) ونحو قول القائل: إذا جاءكم كريم فأكرموه.
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال كثيرة:
فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه حكم على العدم مع عدم ذلك الشرط". وقد استدل بالأدلة الآتية:
__________
(1) سورة البقرة آية: 158.
(2) سورة الطلاق آية: 6.(35/181)
أولا: بأن قوله إن دخل عبدي فأعتقه. يفهم منه لغة ولا تعتقه إن لم يدخل الدار. فكما أن الدخول يوجب جواز الإعتاق فعدمه يمنع عنه فكان العدم مضافا إليه.
ثانيا: أن النحويين قالوا: إن كلمة "إن"حرف شرط. ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.
ثالثا: الشرط هو الذي يتوقف عليه الحكم فلو ثبت الحكم مع عدمه لكان كل شيء شرطا في كل شيء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا في كون السماء فوق الأرض. وإن وجد ذلك مع عدم الدخول. والدليل عليه ما روي أن يعلي بن أمية رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} " (1) . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عجبت مما عجبا منه فسألت رسول الله عليه وسلم فقال: "إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (2) . فلو لم يعقل من التعليق نفي الحكم عند عدم الشرط لم يكن لتعجبها معنى، مع أنهما من فصحاء العرب.
رابعا: أن فائدة وصفنا له بأنه شرط أن ينتفي الحكم بانتفائه، وإن صح أن يوجد الشرط من عدم الحكم كالشروط العقلية.
(3) مسألة: فحوى الخطاب (مفهوم الموافقة) :
__________
(1) سورة النساء آية: 101.
(2) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي _ كتاب صلاة المسافرين وقصرها _ 5/196 وسنن النسائي _ كتاب تقصير الصلاة في السفر _ 3/116، وصحيح ابن خزيمة _ كتاب الفريضة في السفر _ 2/71، والمعتبر 199.(35/182)
اختلف العلماء في حجية مفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب فقال محمد بن داود وأهل الظاهر بأنه مفهوم من النطق فتصدي للرد عليه أبو العباس ابن سريج إذ جاء في شرح اللمع أنه قال: "حكي عن ابن سريج أنه ناظره محمد بن داود فألزمه الذرة فقال: "إذا قال: لا تمسك من المالك ذرة لا يجوز له أن يتناول المئين والألوف، لأن اللفظ غير موضوع له"فقال ابن داود: "لا أُسلم أن المئين والألوف ذرات مجموعة شكل ذرة منها يتناوله اللفظ"فألزمه ابن سريج نصف ذرة فقال "النصف لا يسمى ذرة"فلم يجب عنه ابن داود".
قد حكي الجويني في البرهان أن ابن سريج قد ناظر أبو بكر بن داود حيث قال له: "أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (1) فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين". فقال مجيبا: "الذرتان ذرة وذرة". فقال أبو العباس ابن سريج: "فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه".
باب المجمل والمبين
مسألة: تأخير البيان عن وقت الخطاب:
معنى ذلك إذا ورد الخطاب من الشارع وكان مجملاً فهل يمكن أن يتأخر البيان عن وقت وروده أم لا؟.
اختلف علماء الأصول في هذه المسألة علي أقوال متعددة. فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب". وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية وهي:
أولاً: قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) . وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) .
وجه الاستدلال: أن ثم تقتضي المهلة والتراخي. فدل على أن التفصيل يجوز أن يتأخر عن الخطاب.
__________
(1) سورة الزلزلة آية: 6.
(2) سورة هود آية: 1.
(3) سورة القيامة آية: 17.(35/183)
ثانيا: أن الله تعالى أوجب الصلوات الخمس ولم يبين أوقاتها وأفعالها حتى نزل جبريل عليه السلام وبين للنبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة في وقتها. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أفعالها وأوقاتها للناس وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1) وكذلك أمر الحج حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أفعاله للناس في العام الذي حج فيه وقال: "خذوا عني مناسككم" (2) ولو لم يجز التأخير لما أخر عن وقت الخطاب.
وكذا قوله عز وجل: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3) وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (4) ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة النبوية المطهرة.
ثالثا: أن البيان إنما يحتاج إليه للامتثال وفعل المأمور به، كما أن القدرة يحتاج إليها الفعل المأمور به. ثم يجوز تأخير القدرة عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فكذلك تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة يجب أن يكون جائزا.
رابعا: أن النسخ تخصيص للأزمان، كما أن التخصيص تخصيص للأعيان. ثم تأخير بيان النسخ عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز فكذلك تأخير بيان التخصيص يجب أن يكون جائزا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
خامسا: استدل بقوله تعالى: {وَأَهْلَكَ} (5) وحكمه تناول ابنه.
وبقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (6) .
ثم لما سأل ابن الزبعري عن عيسى والملائكة نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} (7) . وهذا دليل البيان عن وقت الخطاب.
باب: السنة
(1) مسألة أنواع السنن:
__________
(1) انظر: صحيح البخاري- كتاب الأذان- 1/155، والمعتمر 48 وتحفة الطالب 129.
(2) انظر: صحيح مسلم- كتاب الحج- 9/ 44، ومختصر سنن أبي داود- كتاب الحج-2/416، والمتبر 48، وتحفة الطالب 129.
(3) سورة النور آية: 56.
(4) سورة المائدة آية: 38.
(5) سورة هود آية: 40.
(6) سورة الأنبياء آية:98.
(7) سورة الأنبياء آية: 101.(35/184)
قال أبو العباس ابن سريج مشيرا إلى حكم هذه المسألة بقوله: "إذا قيل لك: السنن على كم ضرب؟ فقل على ضروب ثلاثة: فمنها ما يؤخذ من الأمر. والأمر أمران. أمر فرض وأمر ندب فالأوامر: إذا وردت فهي على الإيجاب حتى تقوم دلالة الندب.
وضرب ثان: وهو ما أخذ عن الفعل والأفعال على ضربين: فعل عام وفعل خاص. فأفعاله صلى الله عليه وسلم على العموم حتى تقوم دلالة الخصوص، وعمومها داخل في ضربي الأمر من الفرض والندب.
والضرب الثالث: ما أخذ عن العمل بحضرته صلى الله عليه وسلم يوجد منه نهي عنه. وهذا ضرب واحد وهو على الندب دون الفرض فهذه طرق السنن.
والسنن فيها مجمل ومفسر، والمذهب في ذلك القضاء بمفسرها على مجملها. وفيها ناسخ ومنسوخ. فيحكم بناسخها على منسوخها.
ومنها: مقدم ومؤخر فيستعمل حكم ذلك على ما يوجبه فيها.
وفيها خاص وعام. والعموم أولى بنا من الخصوص حتى تقوم الدلالة على الخصوص فيما مخرجه العموم.
وكذلك إذا كانت خاصة فهي على خصوصها حتى تقوم دلالة العموم".
(2) مسألة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد عن القرائن وظهر فيه قصد القربى:
المراد من فعل النبي هنا هو فعله الذي يصدر منه ابتداء بحيث لم يكن امتثالا لأمر ولا بيانا لمجمل، ولم يقرن به ما يفيد بيان صفته إلا أنه اقترن به ما يفيد قصد القربى فقد اختلف العلماء في تحديد صفته على أقوال:
فقال أبو العباس ابن سريج: "يدل على الوجوب".
وقال الشيرازي في شرح اللمع مشيرا إلى قول ابن سريج بأنه قال: "يدل على الوجوب ولا يحمل على غيره إلا بدليل".
ب بينما قال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار. إن ابن سريح قد قال: "بأنه يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة، ويجب علينا اتباعه".
وجاء عنه أنه قال: "إن لم تعلم صفته في حقه، وظهر فيه قصد القربى فإنه للوجوب".(35/185)
وخلاصة ما ورد عنه أنه يقول بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد عن القرائن يحمل على الوجوب إن ظهر فيه قصد القربى والعبادة.
وقد استدل على قوله هذا بالأدلة الآتية:
أولا: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
وجه الاستدلال: أن هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، لذا يجب اتباعه في أقواله وأفعاله.
ثانيا: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (2) .
وجه الاستدلال: أن الأمر هذا يستعمل في القول والفعل والدليل عليه قوله عز وجل {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْض} (3) وقوله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (4) .
وقول الشاعر:
فقلت لها: أمري إلى الله كله
وإني إليه في الآياب لراغب
والمراد من الأمر بذلك كله هو الفعل. والتحذير عن مخالفته يقتضي وجوب موافقة فعله.
ثالثا: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (5) .
وجه الاستدلال: أن هذه الآية وردت في حق من تخلف عن غزوة أحد، ولم يتأس بالرسول صلى الله عليه وسلم في حضورها فتوعد على ذلك بقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} وهذا إنما يستعمل عند الوعيد كما نقول "لا يترك الصلاة من يؤمن بالله واليوم الآخر. يريد بذلك أن تركها من أفعال الكفر وأفعال من لا يؤمن بالله. وبهذا لا معنى للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله.
رابعا ً: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (6) .
وجه الاستدلال: دلت الآية الكريمة على أن محبة الله عز وجل مستلزمة للمتابعة. لكن المحبة واجبة بالإجماع، ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة.
__________
(1) سورة الأعراف آية: 158.
(2) سورة النور آية: 63.
(3) سورة السجدة آية: 5.
(4) سورة الشورى آية: 38.
(5) سورة الأحزاب آية: 21.
(6) سورة آل عمران آية: 31.(35/186)
خامسا ً: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) .
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا فقد أتانا بالفعل، فوجب عَلينا أن نأخذه. والشاهد لذلك قوله عز وجل في تتمة الآية {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} والنهي إنما يقارنه على مضادة الأمر.
سادسا ً: قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) :
وجه الاستدلال: لم يفرق بين طلب طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وطاعة الله سبحانه وتعالى واجبة فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة.
سابعا ً: قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} (3) .
وجد الاستدلال: دلت الآية على أنه تعالى إنما زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب.
ثامناً: الإجماع من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في رجوعهم إلى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين. فقالت عائشة رضي الله عنها: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا" فأجمعوا على الأخذ به ووجوب فعله. وهذا إجماع منهم على أن مقتضاه الوجوب.
تاسعا ً: استدلوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فسألهم فقالوا: رأيناك خلعت نعلك فخلعنا نعالنا" (4) فدل على أن متابعته فيما يفعل واجبة.
عاشرا ً: روي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية "انحر هديك حيث وجدته، وأحلق فإنهم يحلقون ففعل فتبعوه". فدل على أن فعله يقتضي الوجوب.
__________
(1) سورة الحشر آية: 7.
(2) سورة المائدة آية: 92.
(3) سورة الأحزاب آية: 37.
(4) انظر: سنن الدارمي- باب الصلاة في النعلين- 1/260، وصحيح ابن خزيمة- باب الصلاة في النعلين- 2/107، والمعتبر 53.(35/187)
حادي عشر: لا خلاف أنه يجوز أن يكون واجباً والاحتياط في فعله واجب لأنا لا نأمن أن يكون واجبا فنتركه. وهذا صحيح، لأنه نوى الوجوب، فإن كان واجبا فقد فعله، وإن كان ندبا سقط الوجوب، وبقي فعله نفلا، كرجل شك هل عليه فرض أم لا؟ فصلى صلاة، ونوى الفرض احتياطاً، ثم بان أنه لم يكن عليه فرض فإنها تكون نافلة.
ثاني عشر: أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيماً له، وبدليل العرف، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك، فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله.
ثالث عشر: البيان تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل، ثم ثبت أن القول يقتضي الوجوب فكذلك الفعل.
(1) مسألة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد من القرائن والذي لا يظهر منه قصد القربة. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقال أبو العباس ابن سريج: "إذا لم يظهر في الفعل قصد القربة بل كان مجردا مطلقاً فإنه واجب علينا" إلا أن إمام الحرمين الجويني قد رد نسبة هذا القول إلى ابن سريج بقوله: "بأن هذا زلل وقدر الرجل عن هذا أجل".
ومن قال بأن ابن سريج يقول بالوجوب فقد أحال استدلاله في هذه على ما استدل به في مسألة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم المجرد مع ظهور قصد القربة. وقد سبق ذكر هذه الأدلة في المسألة السابقة.
(4) مسألة: وجوب العمل بخبر الواحد:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال عديدة. فقال أبو العباس ابن سريج: "بوجوب العمل بخبر الواحد شرعا وعقلا"وقد استدل على هذا الوجوب بالنقل والإجماع والمعقول.
أما النقل فقد استدل بالكتاب والسنة. وأدلته من الكتاب هي:
أولاً: استدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ... } الآية.(35/188)
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالتوقف عند خبر الفاسق. وفي ذلك دلالة على قبول خبر العدل، وترك التوقف عند خبره.
ثانياً: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} (1) .
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع من كل قائل واحدا كان أو اثنين. وهذا قبول الخبر الواحد.
ثالثاً: استدل بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من فرقة، لأن لعل للترجي، وهو على الله تعالى محال فيحمل على الوجوب لاشتراكهما في الطلب. وإنذار الطائفة إخبارهم المخوف فيلزم وجوب الحذر بإخبار الطائفة، والطائفة قوم لا يحصل من خبرهم إلا الظن، لأن كل فرقة ثلاثة. فالطائفة منهم إما واحد أو اثنان. وخبر الواحد أو الاثنين لا يفيد إلا الظن. فقد وجب الحذر بإخبار من لا يفيد قولهم إلا الظن. فيجب الحذر بإخبار واحد عدل. لأن خبره يفيد الظن. ويلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد.
رابعاً: استدل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} (3) .
وجه الاستدلال: أن الله تعالى تواعد على كتمان ما أنزل الله تعالى من البينات فيجب على الواحد إخبار ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب العمل بخبره، وإلا لم يكن لإخباره فائدة.
أما أدلته من السنة فهي:
__________
(1) سورة التوبة آية: 61.
(2) سورة التوبة آية: 122.
(3) سورة البقرة آية: 159.(35/189)
أولاً: ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خبر الأعرابي على رؤية هلال رمضان وذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال جاء أعرابي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال- يعني رمضان- فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: "نعم". قال: "أتشهد أن محمداً رسول الله". قال: "نعم". قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" (1) .
وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خبر الواحد، وأخذ به.
ثانيا: بعثه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة لتبليغ الأحكام ونشر الدعوة في أماكن متفرقة من المعمورة، ومن ذلك توجيهه لمعاذ رضي الله عنه إلى اليمن. إذ روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمسة صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد عام فقرائهم" (2) .
أما استدلاله بالإجماع فكان كما يلي:
بأنه تكرر العمل بخبر الواحد كثيرا في زمان الصحابة والتابعين في وقائع كثير وكان هذا شائعا ذائعا ولم ينكر أحد على العمل به وذلك أن تكرر العمل به من غير نكير لأحد يقضي عادة بأنهم اتفقوا على وجوب العمل بخبر الواحد. كما أن قولهم بوجوب العمل يدل قطعا أنهم اتفقوا على وجوب العمل به.
وأما استدلاله بالمعقول فكان كما يلي:
__________
(1) انظر: سنن الترمذي _ كتاب الصوم _ 3/74، وسنن النسائي _ كتاب الصوم _ 4/131، وسنن الدارمي _ باب الشهادة على رؤية هلال رمضان _ 1/377، وتلخيص الحبير 2/187.
(2) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي _ كتاب الإيمان _ 1/196، وفتح الباري _ كتاب الزكاة _ 3/261.(35/190)
أولاً: بأنه إذا علم أصل كلي. كرفع المضار، وجلب المنافع، وجب عقلا العمل بالظن في تفاصيل ذلك الأصل المعلوم كما إذا أخبر واحد عدل من مضرة شيء مخصوصة وعن ضعف جدار، وجب عقلا الاحتراز بذلك الشيء المضر وعن ذلك الجدار. وهذا المعنى متحقق في خبر الواحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ليبين الأحكام الشرعية المشتملة على مصالح العباد. وخبر الواحد يفيد الظن في تفاصيل تلك الأحكام والمصالح، فوجب العمل به عقلا.
ثانيا. لاشك في أن خبر العدل الواحد يمكن صدقه فحينئذ يجب العمل به احتياطا قياسا على
المتواتر، وقول المفتي لأن كل واحد منهما لما أمكن صدقة وجب العمل به، فكذلك هاهنا.
ثالثا: لو لم يجب العمل بخبر الواحد لخلت أكثر الوقائع عن الحكم والتالي باطل بالإجماع. بيان الملازمة أنه إذا لم يوجد في الوقائع الحادثة دليل إلا خبر الواحد، ولا يجب العمل به لزم خلو تلك الوقائع عن الحكم.
باب: الإجماع (1)
مسألة: كيفية الإجماع:
قال أبو العباس ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في وجوب حكم الإجماع؟. فقل: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". فالحجة من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} (2) .
وجه الاستدلال: أن الوسط هو العدل، والشهادة هو القول بالحق. ألا تراه تعالى يقول: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (3) أي ناطقا بالحق.
والحجة من السنة: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (4) .
__________
(1) انظر: الودائع بمنصوص الشرائع 673.
(2) سورة البقرة آية: 143.
(3) سورة البقرة آية: 143.
(4) انظر: تلخيص الحبير 3/141، والمعتبر 57، وتحفة الطالب 146.(35/191)
وما قاله صلى الله عليه وسلم: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح" (1) .
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أثبت الحجة بما هذه صفته علم بهذا النص أن المراد به الخواص من الناس لا العوام، وهم أهل العلم والقائلين بالحق.
فحقيقة الإجماع القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد فهو إجماع، وإن حصل من اثنين أو ثلاثة فهو إجماع. وما حصل من ثلاثة إلى جملة لا تحصى فهو إجماع. والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما منعت بنو حنيفة الزكاة، فكانت مطالبة أبي بكر رضي الله عنه لها بالزكاة حقا عند الكل. وما انفرد بمطالبتها غيره، وكلهم مجمعون على أن مطالبته حق. فإذا ثبت أن واحد إجماع كان الاثنان فصاعدا بمعناه.
باب: القياس
قال أبو العباس ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في إثبات القياس؟. فقل كتاب الله وسنة نبيه".
فالحجة من الكتاب:
قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) فالقياس استنباط بحمل فرع على أصل لاشتباه بينهما في الأصل.
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (3) فثبت حكم القياس. لأن القياس هو تمثيل الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء، فإذا جاز ذلك من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون، فهو ممن لا يخلو من النقص والجهالة أجوز.
__________
(1) انظر: المستدرك للحاكم 3/78، وكشف الخفاء 2/ 188، والمقاصد الحسنة 367، والمعتبر 234.
(2) سورة النساء آية: 83.
(3) سورة البقرة آية: 26(35/192)
وما قاله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُم} (1) . وهذا لا سبيل إلى معرفة الحكم فيه إلا من جهة التحري والاحتياط. وهذا لا يمكن فعله إلا بتقدير العقول. وما قاله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} (2) .
والحجة من السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين ما كنت فاعلة". قالت: "كنت أقضيه". فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى" (3) فقد ثبت القياس بالكتاب والسنة. فكل حادثة أو نازلة فهي مذكورة في الأصل بالمعنى، والفرق بينهما وبين أصلهما، أن الأصل مذكور بالاسم والمعنى، والفرع مذكور بالاسم. فإذا تفرق الأصل بالمعنى، والفرع بالاسم، فقد أمر الله تعالى عند ذلك برد الفروع إلى الأصول، ألا تراه تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) والمنازع فيه الحادثة، والمردود إليه الأمر من الله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
(2) مسألة: إثبات الأسامي واللغات بالقياس:
اختلف العلماء في الحكم الذي يعلل أصله لتعديته إلى محل آخر هل يشترط فيه أن يكون شرعيا؟.
فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يشترط فيه أن يكون شرعيا بل يجرى القياس في الأسامي واللغات".
__________
(1) سورة المائدة آية:89.
(2) سورة المائدة آية: 95.
(3) انظر: فتح الباري- باب حج المرأة عن الرجل-4/ 67، وسنن الترمذي- كتاب الحج- 3/ 267، وصحيح مسلم بشرح النووي- كتاب الجج-9/ 97، والمعتبر 214، وتحفة الطالب 420.
(4) سورة النساء آية: 59.(35/193)
وقبل ذكر أدلة ابن سريج في المسألة لابد من تحديد محل الخلاف لذا قال العلماء ليس الخلاف في إطلاق اسم علم تعميمه للأفراد بالنقل على ما سكت عنه، أي لم يسمع إطلاقه عليه من أهل اللغة. مثل "رجل"فإنه وضع لواحد من ذكور بني آدم، وعلم تعميمه بالنقل. فإذا أطلق على واحد لم يسمع من العرب إطلاقه عليه، لا يقال إنه إثبات بالقياس. إذ تناول اللفظ لذلك الواحد علم بالنقل، وليس أيضا الخلاف في نحو رفع فاعل لم يسمع من العرب رفعه، فإنه لا نزاع في جواز رفعه.
ولا يقال أيضا أنه إثبات بالقياس إذ علم تعميم رفع الفاعل بالاستقراء. فإنا لما استقرأنا الكلام وجدنا كل ما أسند الفعل، أو شبهه إليه مقدما عليه مرفوعا، حصل عندنا قاعدة وهي: أن كل فاعل مرفوع. بحيث لم يبق شك، فإذا جعل فاعل لم يسمع رفعه من العرب مرفوعا لم يكن ذلك قياسا إذ علم بالاستقراء أن الرفع وضع لكل فاعل.
بل إنما الخلاف في أنه هل يسمى مسكوت عنه مثل النبيذ مثلا الحاقا بتسمية، أي باسم مثل اسم الخمر موضوع لمعين، مثل ماء العنب المخصوص لأجل معنى، مثل التخمير. يستلزم ذلك المعنى الاسم وجودا وعدما. أي متى وجد المعنى المذكور وجد الاسم ومتى عدم عدم أم لا؟ لأنه هو القياس في اللغة وبعبارة أخرى إذا وضع اسم لمعنى دار المعنى مع اللفظ وجودا وعدما كخمر النبيذ.
فبهذا وأمثاله: قال ابن سريج بأن اللغة تثبت بالقياس وقد استدل بالأدلة الآتية:
أولا ً: التمسك بعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} (1) فإنه يتناول كل الأقيسة واعتمادهم
في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فامتنع جعل المعنى علة للاسم، بخلاف الأحكام الشرعية فإن المعاني قد تناسبها، لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق.
__________
(1) سورة الحشر آية: 20.(35/194)
ثانيا: قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم في حق ماعز لا يتناول غيره لأنه خاص به. وقضاؤه بالكفارة على الأعرابي المجامع في نهار رمضان لا يدخل فيه غيره ممن جامع في رمضان. لأن لفظه مقصور عليه، وإنما يوجب الرجم على غير ماعز في الزنى بالقياس عليه. وتثبت الكفارة في حق غير الأعرابي المجامع بالقياس عليه.
ثالثا: إن العرب وضعت اسم الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودا ثم انقرض، وحدث حيوان آخر فسمي بذلك بطريق الإلحاق والقياس.
رابعا: إذا جاز إجراء القياس في الأحكام الشرعية عند فهم المعنى جاز إجراء القياس في الأسامي اللغوية عند فهم المعنى، لأن المقصود من تسمية النبيذ خمرا إثبات التحريم وإيجاب الحد.
خامسا: لما جاز إثبات أسماء الأعلام من غير رجوع إلى أهل اللغة فلا يمتنع مثله من الأسماء اللغوية.
سادسا: وجدنا بأن العصير إذا حصلت فيه الشدة سمي خمرا، وإذا زالت الشدة لم يسم خمرا. فعلمنا أن الأسماء تجري في بابها مجرى الأحكام التي تثبت بوجود معان وتزول بزوالها.
سابعا: قد ثبت بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس في اللغة. ألا ترى أن كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك إذ لا يمكن تفسير القرآن والإخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا بالتواتر.
(3) مسألة: مراتب قياس الشبه:
وبعض الأصوليين يسمي ذلك بقياس الأشباه. ومعناه أن الفرع يتردد بين أصلين يشبه هذا الأصل في الحكم ويشبه هذا الأصل في الصورة. مثل قتل الحر للعبد فهل دية العبد تقدر بالقياس على دية الحر، لأن العبد يشبهه في الصورة أم أنها تقدر على ما له قيمة، لأنه يشبهه في الحكم. وعندئذ قد يكون مقدار الدية أكثر من مقدارها إذا قيست على دية الحر أو يكون أقل من ذلك المقدار.(35/195)
لذا عبر الإمام الجويني عنها بقوله: "ومن أبواب الشبه: ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا ونحو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة؟ فالذي يقتضيه
القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات. والذي يقتضيه الشبه اعتباره بالحر. ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبد بالسبب الذي يقدر به أطراف الأحرار. فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير، واعتبار ما ينقص من القيمة نظرا إلى المملوكات. سيما على رأي من لا يرى تقدير قيمة العبد، وتنز يلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها". وهذا هو مذهب ابن سريج.
باب: الاستصحاب
مسألة في صورة من صور الاستصحاب:
المراد بهذه المسألة هو: أن الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي بأن يتفق على حكم في حالة، ثم تتغير صفة عليه فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال. ومثاله: إذا استدل من يقول إن المتيمم إذ رأى أن الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته، لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة.
وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد. لأن الإِجماع انعقد على جوار بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء. فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاء وهذا النوع هو محل الخلاف فذهب أبو العباس ابن سريج إلى القوال: بالاحتجاج به. وقال عنه الشوكاني بأنه الراجح وحجته في ذلك أن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل قائم في مقام المنع، فلا يجب علبه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك. فمن ادعاه جاء به.
وأورد عبد العزيز البخاري المسألة بقوله: "إذا كان الحكم الثابت ثابتا بدليل مطلق غير معترض للزوال وقد طلب المجتهد الدليل المزيل بقدر وسعه ولم يظهر، فقد اختلف العلماء فيه.
فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه حجة ملزمة متبعة في الشرعيات". وقد استدل على قوله هذا بما يلي:(35/196)
وهو أن الحكم متى ما ثبت شرعا فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية، ولا بتغير المصلحة في زمان قريب وإنما تحتمل التغيير عند تقادم العهد، فمتى طلب المجتهد الدليل المزيل، ولم يظفر به، فالظاهر عدمه. وهذا نوع اجتهاد، وإذا كان البقاء ثابتا بالاجتهاد لا يترك باجتهاد مثله ترجيح، ويكون حجة على الخصم كمن تعلق بقياس صحيح، فأنكر خصمه، وعارضه بقياس لا رجحان له على الأول. يجب أن يكون المنكر محجوبا به لأن ذلك حكم قد ثبت بقاؤه بالاجتهاد، فلا يزول إلا بدليل بترجح على الأول، وإن كان أوجب شبهة في الأول. وهذا معنى قول الفقهاء ما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله. ألا ترى أن الحكم المطلق في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان محتملا للنسخ ثم هو ثابت في حق من كان بعيدا عنه في حق وجوب العمل به، والإلزام على الغير، ودعوة الناس في ذلك. فعرفنا أن الاستصحاب حجة ملزمة.
باب النسخ
(1) مسألة: أنهل النسخ:
قال أبو العباس بن سريج: "إذا قيل لك النسخ على كم ضرب؟ فقل على ضروب ثلاثة".
نسخ للحكم وتبقية للخط. ونسخ للخط وتبقية للحكم، ونسخ للخط والحكم جميعا.
والحجة في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضاع عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس". فهذا ما نسخ حكمه وخطر.
وأما ما نسخ خطه وثبت حكمه، فالحجة فيه ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة} ". فهذا مما نسخ خطه وثبت حكمه وهو الرجم.
وأما ما نسخ حكمه وثبت خطه فمثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران آية: 102.(35/197)
ومثل قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (1) . فهذا مما نسخ حكمه وثبت خطه.
(2) مسألة: نسخ القرآن والسنة:
معنى ذلك هل يمكن أن يكون القرآن ناسخاً للسنة أم لا؟.
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال:
فقال أبو العباس ابن سريج: "بجواز ذلك، إلا أنه لم يرد ولم يقع".
وجاء في أحكام الفصول، أنه قال: "روي عن ابن سريج أنه كان يجيز ذلك إلا أنه زعم أن ذلك لم يقع في الشرع". ومعنى ذلك أن ابن سريج يقول بجوار ذلك عقلا إلا أنه لم يقع شرعا.
(3) مسألة: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة:
معنى ذلك هو أن السنة المتواترة يمكن أن تكون ناسخة للكتاب أم لا؟. اختلف العلماء في حكم هذه المسألة.
فقال أبو العباس ابن سريج: "بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، إلا أنه لم يقع شرعا". وجاء في كشف الأسرار أنه قال: "يجور عقلا، ولكن الشرع لم يرد به، ولو ورد به كان جائزا، وهو إحدى الروايتين عن ابن سريج".
وجاء في الإبهاج أنه قال: "وذهب ابن سريج إلى جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة والسنة المتواترة بالكتاب إلا أنه لم يقع ولم يرد".
وجاء قوله في كتاب: الودائع بمنصوص الشرائع أنه قال: "ولا ينسخ القرآن بالسنة لأن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن".
وللتوفيق بين هذه النقول عنه نقول: إن ابن سريج يقول بجوار ذلك عقلا، وعدم تحققه ووقوعه شرعا. وقد استدل عام قوله هذا بالأدلة الآتية:
أولاً: استدل بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)
وجه الاستدلال: أن النسخ بيان للمنزل، فيجب أن يكون ذلك بيانا له.
ثانيا: النسخ إنما يتناول الحكم. والكتاب والسنة المتواترة في إثبات الحكم واحد، وإن اختلفا في الإعجاز. فيجب أن يتساويا في النسخ، لذا جاز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة.
__________
(1) سورة الأنبياء آية: 98.
(2) سورة النحل آية: 44.(35/198)
ثالثا: أن متواتر السنة قاطع، أن يحصل القطع بثبوته وذلك لأن المتواتر يفيد العلم الضروري، وبذلك يكون متواتر السنة من عند الله في الحقيقة، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه" (2) .
وإذا كان متواتر السنة قاطعا، وهو من عند الله تعالى صار كالقرآن في نسخ القران به.
رابعا: بأنه لو استحال لاستحال لذاته، أو الأمر خارج عن ذاته، لكنه لا يستحيل لذاته ولا لأمر خارج، فلا يكون مستحيلا مطلقا، فيكون جائزا مطلقا.
(4) مسألة نسخ الكتاب بأخبار الآحاد:
اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على أقوال متعددة فقال أبو العباس ابن سريج: "بعدم جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد". وقد استدل بالأدلة الآتية.
أولاً: الحكم الثابت بالقرآن آكد من الحكم الثابت بالسنة الآحادية، لأن سببه أقوى، وتأكد الحكم بتأكد سببه وقوته تدل على قوة موجبه، فلم يجز نسخه.
ثانيا: بالقياس على الإجماع حيث قال: وإن كان الحكم الثابث به كالحكم الثابت بالقرآن، وكذلك الحكم الثابت بالإِجماع، ولما لم يجز نسخ القرآن بالإجماع فكذا لم يجز نسخه بخبر الآحاد.
(5) مسألة: النسخ بالقياس:
اختلف علماء الأصول في صلاحية القياس للنسخ فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز النسخ بالقياس" وحجته في ذلك أن النسخ بيان كالتخصيص، فما جاز التخصيص به، جاز النسخ به أيضا.
باب: التعاون والترجيح
مسألة: المعارضة (3) في الأصل والفرع:
__________
(1) سورة النجم آية: 3 _ 4.
(2) انظر: مختصر سنن أبي داود _ باب لزوم السنة _ 7/ 7، ومعالم السنن 7/ 7.
(3) المعارضة لغة: عارضت فلانا في السير إذا سرت حياله وعارضته مثلما صنع إذا أتيت مثلما أتى إليك. انظر: معجم مقاييس اللغة 4/272.
والمعارضة اصطلاحا: هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم. انظر: التعريفات 235.(35/199)
من العلماء من ذكرها بقوله: "إذا كان الفارق معنى من الفرع يضاد الجامع هل يشترط رده إلى أصل يشهد له بناء على قبول الفارق". وقد اختلف العلماء القائلون بقول الفرق على أقوال.
فقال أبو العباس ابن سريج: "أنه ليس بمعارضة العلة بعلة أخرى مستقلة، والمعارضة مقبولة، وهي أصحهما". ثم قال: "حيث أنه وإن اشتمل على المعارضة لكنها غير مقصودة. فإن قلنا إنها معارضة لم يمنع الزيادة، وإن قلنا أنه معنى يضاد الزيادة اكتفى بإثباته في الأصل، ونفيه في الفرع. وهذه الزيادة في الفرع ليس لها في جانب الأصل ثبوت، فلا حاجة إليها".
وجاء في كاشف الرموز أن ابن سريج قال: "أنه سؤالان جواز الجمع بينهما، لأنه أضبط للغرض وأحرى للمقصود وأجمع لشعب الكلام".
وجاء في البرهان أن ابن سريج قال: "أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله، وإنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة مستقلة، ومعارضة العلة بعلة مقبولة، فإن تردد المترددون في معارضة الأصل، فالفرق عند هذا القائلَ أيل إلى ما ذكره، والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة".
أما جاء في الكافية بأنه ذكر المسألة هكذا: "وقد اختلف الذين قالوا: بالفرق في أنه هل يكفي في الفرق الاقتصار على ما ذكر معنى آخر في الأصل بحكمه من غير أن يصرف عكسه في خلاف حكمه إلى الفرع؟ ".
فذهب أبو العباس ابن سريج إلى أنه يكفيه ذلك ويصير بذلك مانعا له من علته في حكمه.
قال: "لأنا إذا سميناه: معارضة في الأصل اكتفى بمعنى واحد في المعارضة، ولا يكون من شرط المعارضة ذكر معنى آخر في موضع آخر على عكسه في حكمه، كما أن ابتداء المعارضة يكتفي فيها بذكر معنى آخر".
باب: الاجتهاد والتقليد
(1) مسألة: هل للمجتهد أن يستفتي مجتهدا آخر؟:(35/200)
معنى ذلك هل أن المجتهد يمكن أن يستفتي مجتهدا آخر في حكم مسألة من المسائل لم يجتهد بعد في معرفة حكمها أم لا؟. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدا آخر فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت". وقد استدل بالأدلة الآتية:
أولاً: قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} (1) .
وجه الاستدلال: أن العالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال.
ثانيا: قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) .
وجه الاستدلال: العلماء من أولي الأمر، لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة.
ثالثا: قوله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} (3) .
وجه الاستدلال: أوجب الشارع الحذر بإنذار من تفقه في الدين مطلقا. فوجب على العالم قبوله، كما وجب على العامي ذلك.
رابعا: إجماع الصحابة: إذ روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لعثمان رضي الله عنه: "أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الشيخين" فقال: "نعم". وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا.
خامسا: أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر. بل عن عاص، وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله، ودينه، فهنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة. فلأن يجوز العمل به كان أولى.
سادسا: أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لاستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به، دفعا للضرر المظنون.
__________
(1) سورة النحل آية: 43.
(2) سورة النساء آية: 59.
(3) سورة التوبة آية: 122.(35/201)
سابعا: أن بعض الصحابة كان يرجع إلى قول بعض عند سماعه من غير أن يسأله عن دليله، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع إلى قول علي ومعاذ رضي الله عنهما ولم ينكر عليه أحد من السلف.
ثامنا: أن قول المجتهد صواب وكل صواب جائز اتباعه.
تاسعا: أن المجتهد العالم هنا مضطر إلى التقليد، لأنه إذا اشتغل بالاجتهاد فاتته العبادة، فوجب أن يجوز له التقليد.
عاشرا: أن المجتهد إذا عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له. فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء.
(2) مسألة: تقليد العامي للعلماء:
من المعروف أن العامي لا قدرة له على معرفة الأحكام الشرعية بنفسه، لذا لابد من أن يقلد أهل العلم في ذلك. إلا أن أهل العلم اختلفوا في أن للعامي أن يقلد من يشاء من العلماء أم أنه لابد أن يبحث عن الأعلم الأدين من أجل أن يقلده؟.
فقال أبو العباس ابن سريج: "يلزم العامي الاجتهاد في أعيان المفتين ولا يجور له أن يترك تقليد الأعلم الأدين إلى تقليد من هو دونه". وقد استدل بالأدلة الآتية:
أولاً: أن هذا طريقه الظن، والظن في تقليد الأعلم أقوى، فوجب المصير إليه.
ثانيا: أن الثقة به أقوى.
(3) مسألة: هل كل مجتهد مصيب:
معنى ذلك أن المجتهد إذا اجتهد هل يكون مصيبا في اجتهاده ولا يخطئ أم أنه محتمل للإصابة والخطأ. ومن أجل أن يتضح معنى هذه المسألة نقول بأنها مبنية على أمر آخر وهو أن لله عز وجل حكما في كل واقعة أم لا؟ فمن العلماء من قال: "بأن لله عز وجل حكما معينا لكل واقعة من الوقائع. إلا أنه لم يصلنا فإذا اجتهد المجتهد فأصابه فهو المصيب وإذا أخطأه فهو مخطئ".(35/202)
ومنهم أن قال: "بأنه ليس لله عز وجل حكم معين في كل واقعة من الوقائع فالوقائع التي لم يصلنا حكمها من الله تعالى فالحكم فيها موكول لاجتهاد المجتهد". لذا كل مجتهد مصيب عندهم. فهذا الخلاف نشأ عنه الخلاف في مسألتنا وهو هل كل مجتهد مصيب في اجتهاده أم لا؟. اختلف أهل العلم في ذلك.
فقال أبو العباس ابن سريج: "أن الحق في واحد، ولكن الله تعالى يكلفنا إصابته، وإنما كلف الاجتهاد في طلبه فكل من اجتهد في طلبه فهو مصيب. وقد أدى ما كلف سواء كان مصيبا أو مخطئا".
وقد اختلف القائلون بأن الحق واحد في الاجتهاد.
فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه وإن أخطأ في الحكم فهو مصيب في الاجتهاد".
وقد استدل ابن سريج بما يلي:
أولاً: إجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ولا يجوز أن يكون إجماعهم على خطأ.
ثانيا: أن المجتهد قد أدى ما كلف به.
وبهذا انتهت الآراء والأقوال االأصولية لابن سريج رحمه الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد والمنة والفضل لله تعالى في أن أعانني على إكمال هذا العمل وإظهاره على الهيئة التي هو عليها الآن.
المصادر والمراجع
أولاً: (1) القرآن الكر يم.
(2) المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم. وضعه محمد فؤاد عبد الباقي.
ثانيا: كتب الحديث:
(1) صحيح البخاريَ لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. مكتبة الإسلامي. استانبول. تركيا.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي: للإمام النووي. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض.
(3) جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 هـ. نشرمكتبة الحلواني ومكتبة دار البيان.
(4) الموطأ للإمام مالك بن أنس. مطبوع مع شرحه للزرقاني.
(5) شرح الزرقاني على الموطأ للإمام محمد الزرقاني. دار الفكر.(35/203)
(6) مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري. تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي. دار المعرفة. بيروت.
(7) المستدرك على الصحيحين في الحديث لأبي عبد الله محمد النيسابوري المعروف بالحاكم المتوفى سنة 405 هـ. مكتبة النصر. الرياض.
(8) سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة المتوفى سنة 279 هـ. تحقيق أحمد محمد شاكر. دار إحياء التراث العربي.
(9) سنن الدارمي: لأبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255هـ. تحقيق عبد الله هاشم المدني. الناشر حديث آحادي. باكستان.
(10) فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة852 هـ. مكتبة الرياض الحديثة. الرياض.
(11) نيل الأوطار: للشيخ الإِمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ. دار القلم. بيروت.
(12) كشف الخفاء لإسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 162هـ. مؤسسة الرسالة. بيروت.
(13) سنن ابن ماجة: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة المتوفى سنة 275 هـ. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر.
(14) مصنف عَبد الرزاق: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ. تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. منشورات المجلس العلمي.
(15) الموضوعات لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي المتوفى سنة 597 هـ. تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. الناشر محمد عبد المحسن. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.
(16) المقاصد الحسنة لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ. تحقيق عبد الله الصديق وعبد الوهاب عبد اللطيف. دار الكَتب العلمية. بيروت
(17) جامع بيان العلم لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.
(18) تلخيص الحبير في تاريخ أحاديث الرافعي الكبير لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ.(35/204)
(19) المعتبر في تاريخ أحاديث المنهاج والمختصر: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. تحقيق حمدي عبد المجيد. دار الأرقم.
(20) سنن النسائي بشرح السيوطي. نشر دار الكتب العلمية. بيروت.
(21) صحيح ابن خزيمة للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري المتوفى سنة 311 هـ. تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي. المكتب الإسلامي.
(22) تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب للإمام ابن كثير. تحقيق الدكتور عبد الغني الكبيسي. دار حراء للنشر والتوزيع. مكة المكرمة.
ثالثا. كتب أصول الفقه:
(1) أصول السرخسي: لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 490 هـ. نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية. حيدر آباد. الدكن. الهند.
(2) البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ. تحقيق الدكتور عبد العظيم الذيب. قطر.
(3) أحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي. تحقيق الدكتور عبد المجيد تركي. نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت.
(4) الأحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآَمدي. مكتبة محمد علي صبيح. القاهرة.
(5) المحصول في علم أصول الفقه: لفخر الإِسلام محمد بن عمر بن الحسن الرازي المتوفى سنة 606 هـ. تحقيق الدكتور طه جابر العلواني. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض.
(6) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ. دار المعرفة. بيروت.
(7) قواطع الأدلة: للسمعاني. مخطوط.
(8) كشف الأسرار: لعبد العزيز البخاري. طبع المكتب الصنائع سنة 1307 هـ. القاهرة.
(9) الإبهاج شرح المنهاج: لعلي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756 هـ. وولده تاج الدين عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.(35/205)
(10) شرح الكوكب المنير: لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار المتوفى سنة 972 هـ. تحقيق الدكتور نزيه كمال حماد والدكتور محمد مصطفى الرحيلي. نشر مركز البحث العلمي. جامعة أم القرى. مكة المكرمة.
(11) شرح اللمع: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق عبد المجيد التركي. دار الغرب الإسلامي. بيروت.
(12) سلاسل الذهب للإِمام بدر الدَين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ. رسالة دكتوراه. الجامعة الإسلامية. المدينة المنورة. تحقيق الدكتور محمد المختار الشنقيطي.
(13) الفقيه والَمتفقه: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفى سنة 462 هـ. نشر دار إحياء السنة المحمدية.
(14) التبصرة في أصول الفقه: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو. نشر دار الفكر. دمشق.
(15) نهاية السول: لجمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي الشافعي المتوفى سنة 772 هـ. نشر عالم الكتب. بيروت.
(16) كاشف الرموز ومظهر الكنوز للشيخ ضياء الدين التباذكاني الطوسي المتوفى سنة 706 هـ. رسالة ماجستير. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض. تحقيق يحي عبد الله السعدي.
(17) بيان المختصر لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني المتوفى سنة 749 هـ. تحقيق الدكتور محمد مظهر بقا. جامعة أم القرى. ومركز إحياء التراث الإسلامي.
(18) الوصول إلى علم الأصول: لأبي الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي المتوفى سنة 518 هـ. تحقيق الدكتور عبد الحميد عاب أبو زنيد. مكتبة المعارف. الرياض.
(19) تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه للشيخ أمين الدين مظفر بن أبي أمير التبريزي المتوفى سنة 621 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتوراه حمزة زهير حافظ.(35/206)
(20) شرح مختصر روضة الناظر في أصول الفقه: لسليمان بن عبد القوي الطوفي المتوفى 716 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتور بابا بن بابا بن آدو.
(21) بيان معاني البديع: لشمس الدين محمود الأصفهاني المتوفى سنة 729 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتور حسام الدين موسى محمد عفانه.
(22) المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي الطيب البصري المتوفى سنة 436 هـ. تحقيق محمد عبد الله. نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية. دمشق.
(23) مسائل الخلاف في أصول الفقه: لأبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري المتوفى سنة 436 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة الإمام أمحمد بن سعود الإسلامية. الرياض. تحقيق الدكتور راشد بن علي الحاي.
(24) منهاج الوصول إلى علم الأصول: للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر القاضي المتوفى سنة 685 هـ. مطبوع مع شرحه مع نهاية السول للأسنوي.
(25) أصول البزدوي لأبي الحسن علي بن محمد البزدوي. مطبوع مع شرحه الأسرار للبخاري.
(26) الكافية في الجدل: لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني المتوفى سنة 478 هـ. تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود. مطبعة عيسى البابي الحلبي. القاهرة.
(27) الملخص في الجدل: في أصول الفقه لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. رسالة ماجستير. جامعة أم القرى. تحقيق الطالب محمد يوسف.
(28) التمهيد في أصول الفقه: لمحفوظ بن أحمد به الحسن الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرىَ. تحقيق الدكتور مفيد أبو عمشه والدكتور محمد علي إبراهيم. نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
رابعا: كتب الفقه:
(1) الودائع بمنصوص الشرائع لابن سريج المتوفى سنة 306 هـ. رسالة دكتوراه. الجامعة الإسلامية. المدينة المنورة.(35/207)
(2) أدب القاضي: للإمام أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاصر المتوفى سنة 335 هـ. تحقيق الدكتور حسين بن خلف الجبوري. مكتبة الصديق. الطائف.
(3) مجموع الفتاوى: لشيخ الإِسلام أحمد بن تيميه. مكتبة المعارف. الرياض.
(4) أدب القاضي: لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفى مسنة 450 هـ. تحقيق الدكتور محي هلال السرحان. رئاسة ديوان الأوقاف. العراق.
خامسا: كتب التراجم والرجال:
(1) طبقات الفقهاء للشافعية: لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي المتوفى سنة 458 هـ.
(2) طبقات الشافعية: لأبي بكر بن هداية الله الحسيني المتوفى سنة 1014هـ تحقيق عادل نويهض. دار الآفاق الجديدة. بيروت.
(3) طبقات الفقهاء: لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الرائد. بيروت.
(4) تذكرة الحفاظ: لأبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ. دار إحياء التراث العربي.
(5) العبر في أخبار من غبر: الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هـ. تحقيق محمد السعيد بسيوني. دار الكتب العلمية. بيروت.
(6) تهذيب الأسماء واللغات: لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. إدارة الطباعة المنيرة بيروت.
(7) شذرات الذهب: لأبي الفرج عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت.
(8) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. دائرة المعارف. حيدر آباد. الدكن. الهند.
(9) سير أعلام النبلاء: لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 749 هـ. مؤسسة الرسالة. بيروت.
(10) تاريخ بغداد: لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 630 هـ. الناشر دار الكتاب العربي. بيروت.
(11) البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ بن كثير المتوفى سنة 774 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.(35/208)
(12) النجوم الزاهرة: لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الاتابكي المتوفى سنة 874 هـ. طبعة مصورة من طبعة دار الكتب المصرية. القاهرة.
(13) طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 هـ. تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. مطبعة عيسى الحلبي. القاهرة.
(14) وفيات الأعيان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر قاضي شهبة المتوفى سنة 851هـ. تحقيق عبد العليم خان. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية. الهند.
(15) الفتح المبين في طبقات الأصوليين: للشيخ عبد الله مصطفى المراغي. الطبعة الثانية. بيروت.
(16) هدية العارفين: لإسماعيل باشا البغدادي المتوفى سنة 1339 هـ. دار الفكر. بيروت.
(17) تاريخ التراث العربي: لفؤاد سزكين. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض.
(18) الفهرست: لابن النديم. الناشر دار المعرفة. بيروت.
(19) الكامل في التاريخ لأبي المحاسن علي بن أبي المكارم المعروف بابن الأثير. دار الكتاب العربي. بيروت.
(20) تاريخ الملوك والأمم: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. دار القلم. بيروت.(35/209)
العدد 83-84
فهرس المحتويات
1-التنبيهات على ما وقع في مطبوعة الجزء الأول من المسند المعتلي من السهو والتحريفات:
للدكتور/ زهير ناصر الناصر
2- وصول بني أمية إلى منصب الخلافة: أ. د/ محمد ضيف الله البطاينة
3- الأحاديث القدسية في الجرح والتعديل ومصادرها وأدوار تدوينها: د. عبد الغفور عبد الحق البلوشي
4- فَعَل في دلالتها على الجَمْعِيَّة: د/ سليمان إبراهيم العايد
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(35/210)
التنبيهات على ما وقع في مطبوعة الجزء الأول من المسند المعتلي
من السهو والتحريفات
للدكتور/ زهير ناصر الناصر
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للمخلوقات، وأكرم بالخصوصية في ذلك من آمن بالمغيبات من مقروءات ومسموعات.
وبعد: فإن كتاب "إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي"للحافظ ابن حجر، هو من أجلّ كُتبه التي اعتمد عليها في مؤلفاته العامة، وحظي بالرضى والقبول لدى الخاصة والعامة، وقد امتدحه المتقدمون والمتأخرون كما عوّل عليه المحققون.
وكنت من مدة طويلة عملت في إخراجه وتحقيقه، وبذلت جهدي في إتمامه سائلاً من الله التوفيق، ماداً إليه سبحانه يد العجز والافتقار للتأييد والتسديد، فنلت منه سبحانه البغية، وكملت فيه الحلية.
ولما اطلعت على عمل الأخ الكريم فضيلة الشيخ: سمير بن أمين الزهيري في تحقيقه الجزء الأول من الكتاب المذكور 1 حمدت الله على ذلك، وقلت عسى الله أن يوفقه لقوة إخلاصه وسابقة إسهامه.
فلما نظرت في الجزء المذكور باستبصار، رأيت الواجب عليّ أن أبين ما وقع فيه من الخلل باختصار، فجمعت في ذلك رسالة سميتها: "التنبيهات على ما وقع في مطبوعة المسند المعتلي من السهو والتحريفات" فأقول وبالله التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
مسرد الأبحاث التي تعرضت لها في تتبعي لعمل فضيلة المحقق في الجزء الأول فقط، والذي يساوي ثلاثاً وثلاثين لوحة خطية، وهي تتفق مع المناهج العامة المتبعة في فن تحقيق المخطوطات في هذا العصر:
1- نقد عنوان الكتاب.
2- اعتماده على نسخة خطية واحدة، ووصفه لها بأنها غير متقنة.
3- موقف المحقق في تتبعه للحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- في انتقاداته المذكورة ص (11- 13) من مبحث "رموز الكتاب".(35/211)
4- إهماله العزو إلى المسند المطبوع أحياناً، ويعلق بقوله "لم أجده في المطبوع " وهو فيه.
5- قد ينص الحافظ على مصادر أخرى في كتابه، فيهمل المحقق العزو إليها أحياناً وهي مطبوعة متيسرة.
6- قد يربط المؤلف بين أحاديث فيقول: "تقدم" أو "يأتي" والجدير بالمحقق عزوها إلى أماكنها لتتحقق الفائدة، لكنه يهمل ذلك أحياناً فيترك الربط بين هذه الإحالات.
7- وقوعه في التحريف لعدم الدقة في الضبط أحياناً.
8- طبيعة تعامله مع الأصل الخطي:
أ- وجود سقط في المطبوع والمخطوط معاً ولم يتنبه له.
ب- وجود سقط في الأصل الخطي ولم يتنبه له فلم ينبه عليه.
جـ- طبيعة محافظته على الأصل الخطي في عمله التحقيقي.
د- قد يصحح المحقق النص متابعة للمطبوع مع عدم بيان ما في الأصل الخطي.
هـ- قد يصحح النص من غير إشارة إلى ما في الأصل الخطي أو المطبوع، ولا يذكر الدليل.
9- طبيعة تعامله مع المسند المطبوع الذي هو أصل الكتاب:
أ- وجود سقط في المسند المطبوع ولم يبينه.
ب- وجود زيادة في المسند المطبوع وهي خطأ مع عدم التنبيه عليها عند العزو.
جـ- لم ينبه على ما في المسند المطبوع مع مغايرته للأصل، مع أن الصواب ما في المطبوع.
د- عدم الدقة في التنبيه على ما في الأصل أو ما في المطبوع.
هـ- التحريف في المطبوع ولم يبين.
و على أن المحقق قد يذكر المفارقات بدون تصحيح.
ز- إهماله ذكر المغايرات أحياناً بين ما في الأصل وبين ما في المطبوع.
10- ليس عنده دقة في تتبعه للحافظ.
11- اعتبار الحديث من الزيادات مع عدم تنبيه المحقق.
12- نظرة فاحصة لما استدركه المحقق على المصنف، وهو يحتوي على عدة نقاط:
الأولى: استدراك المحقق أحاديث في غير موضعها الصحيح.
الثانية: استدراك المحقق أحاديث وقد ذكرها الحافظ ابن حجر في موضعها من التراجم المذكورة.(35/212)
الثالثة: استدراك المحقق أحاديث وقد ذكرها الحافظ في تراجم أخرى، وكان على المحقق أن يربط بينها.
الرابعة: استدراك المحقق تراجم وأحاديث وهي مذكورة في الورقة التي نقصت من المخطوطة التي اعتمد عليها.
الخامسة: فات المحقق تراجم لم يستدركها بسبب نقص ورقة من المخطوط الوحيدة التي اعتمد عليها في التحقيق.
السادسة: استدرك المحقق أحاديث بسبب نقص ورقة من المخطوطة الوحيدة التي اعتمد عليها.
السابعة: استدرك المحقق أحاديث وهي طرف من أحاديث تقدمت.
الثامنة: استدراكه أحاديث وهي موجودة في النسخة الهندية.
13- إهماله لوضع فهرس عام للكتاب.
1- نقد عنوان الكتاب:
جاء عنوان الكتاب في الغلاف والصفحة التي بعدها هكذا: "المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي".
ولو نظرنا إلى "صورة عن عنوان المجلد الأول"وإلى "صورة عن لوحة غلاف المجلد الثاني"الموجودتين بعد ص (48) من الكتاب لرأينا أن صواب عنوان الكتاب هو "إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي".
2- اعتماده على نسخة واحدة، ووصفه لها بأنها غير متقنة:
أقول: وهذا ما صرح به ص (15) .
أما قوله: بأنها غير متقنة، فهذا أمر منازع فيه، لأنها بخط الحافظ ابن قمر تلميذ المؤلف وناسخه، واشتدت ملازمته للحافظ ابن حجر حتى حمل عنه جملة من الكتب الكبار، وكان ضابط الأسماء عنده، وكتب الكثير، حتى إنه كتب "فتح الباري" مرتين وهو من العشرة الذين أوصى لهم ابن حجر- رحمه الله تعالى- عند موته ووصفهم بالحديث [1] .
ولدى تعاملي مع النسخة المذكورة وجدت بأنها في غاية الإتقان إلا في مواضع نادرة، وهذا لا يخلو منه كتاب.(35/213)
ولو استعرضنا عدد الأحاديث في هذا الجزء وقابلناه بنسختنا المحققة على أصلين خطيين له لوجدنا الفارق بينهما ثمانية وسبعين حديثاً في ثلاث وثلاثين لوحة وهو أمر يعطي مؤشراً بالغ الأهمية في عمل الأستاذ الفاضل في اعتماده على مخطوطة واحدة فقط.
3- موقف المحقق في تتبعه للحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- في انتقاداته المذكورة ص (11- 13) من مبحث "رموز الكتاب":
- الجواب: في الواقع هو أن فضيلة المحقق أبعد النجعة في تتبعه للحافظ في موضوع رموز الكتاب المذكورة ص (11- 13) منه، ولم يتفطنَ لحقيقة مراد المصنف في كتابه هذا. ولدى النظرة الأولى يتبين للناظر أمران:
الأول: أن الحافظ أراد أن يوثق الربط بين كتابه هذا وبين كتاب الحافظ المزي "تحفة الأشراف"وبدليل الرموز التي ذكرها المحقق استدراكاً وانتقاداً على المصنف وهي ما ذكره ص (13) من (سي، تم، خت، ع) مع العلم أن كل ما ذكره من الرموز لم تخرج عن رموز الكتب الستة وملحقاتها التي التزمها الحافظ المزي في كتابه "تحفة الأشراف".
الثاني: هو أن الحافظ- رحمه الله تعالى- أراد أن يضمن كتابه هذا بعض ما أفرده بالتأليف فيما بعد في كتابه "إتحاف المهرة" وذلك على طريقة العمل الموسوعي.
- ومن اطلع على الكتب الثلاثة (تحفة الأشراف، وأطراف المسند، وإتحاف المهرة) عرف مقصد الحافظ ومنهجه ولم يسارع بالانتقاد عليه.
- والغريب في الأمر قول فضيلة الأخ سمير ص (12) : "إضافة إلى ذلك استعمل
الحافظ رمزاً جديداً لم يشر إليه في مقدمته، ولم أهتد أنا إلى أي كتاب يقصد بهذا الرمز ألا وهو (يد) كما في الحديث رقم (583) "اهـ.
- والجواب: هو أن رقم الحديث صوابه (587) لا (583) ، وقد خفيت عليه القراءة السليمة للنص إذ قال فيه (يد، خز) بينما لو رجعنا إلى الأصل الخطي لرأينا أنه (يؤخر) لا (يد، خز) وبعده جاء حديث كتب عليه لفظ (يقدم) وهذا أمر معروف في المخطوطات.(35/214)
- وكذلك قوله ص (13) في الرمز لأبي عوانة (عو) .
- والجواب: هو أن رقم الحديث الذي أشار إليه إنما هو (531) لا كما ذكره (527) وبالرجوع إلى المخطوط يتبين أن الرمز هو (عه) أيضاً فلم يخرج الحافظ عن شرطه في مقدمته.
- أما عدم اضطراد استعمال الحافظ لفظ (ع) رمزاً للكتب الستة مجموعة فهذا أمر طبيعي في التتبع الموسوعي، لأن الحافظ يضيف الرموز واحداً واحداً في تتبعه لتحفة الأشراف، بحيث لو أكمل الحافظ عمله في هذا الكتاب من حيث الربط، ثم أعاد النظر فيه بتأمّل لوحد المنهج لكنه لم يتابع ذلك ولم يكمله، بل وقف في أوائل كتابه هذا عن متابعة العمل.
- أما الرمز للحاكم ب (ك) و (كم) فالأمر فيه هينّ، لأنهما استعملا في كتب الحديث في الرمز للحاكم، وخاصة في كتابه "إتحاف المهرة"فقد استعمل رمز "كم" والعذر واضح في أنه لم يكمل العمل ولم ينقحه.
4- إهماله العزو إلى المسند في مواضع، ويقول: "لم أجده في المطبوع"وهو فيه، فمن ذلك:
1- ص (49) ، حديث (85) طر يق "بهز"تعليقة "4".
قلت: هو في المسند المطبوع (1/177- 178) .
2- ص (58- 59) ، حديث (111) طريق "عبد الأعلى" تعليقة "1".
قلت: هو في المسند المطبوع (5/208) .
3- ص (99) ، حديث (206) تعليقة "8".
قلت: هو في المسند المطبوع (3/ 120) .
4- ص (115) ، حديث (282) تعليقة "8".
قلت: هو في المسند المطبوع (3/ 199) وفيه: "عبد الواحد" بدل "عبد الوهاب".
5- ص (120) ، حديث (298) تعليقة "2".
قلت: هو في المسند المطبوع (3/203) بلفظ مقارب.
6- ص (124) ، حديث (315) تعليقة "6".
قلت: هو فيه (3/247) . وكذلك قال في تعليقة "4" (3/ 209) صوابه (3/208) ، وكذلك قال في تعليقة "هـ" (3/247) صوابه (3/209) .
7- ص (151) ، حديث (411) تعليقة "2".
قلت: هو فيه (3/ 229) وأبو خالد هو سليمان بن حيان.
8- ص (151) ، حديث (411) تعليقة "4".(35/215)
قلت: هو في المسند المطبوع (3/243) .
9- ص (155) ، حديث (428) تعليقة "6".
قلت: هو فيه (3/ 239، 257، 281) . ولهذا الحديث طرق أخرى من رواية "حميد الطويل عن أنس"لم يستدركها المحقق، وهي: (3/216) عن عبد الله بن الوليد عن سفيان و (3/233) عن عبد الوهاب و (3/243) عن علي بن عاصم و (3/262) عن عبد الله بن محمد، كلهم عن حماد، كلهم عنه به.
10- ص (169) ، حديث (494) تعليقة "8".
قلت: هو فيه (3/156-157) ولكن: عن خلف عن أبي جعفر، عن الربيع، عنْ أنس، خلاف ما ذكره الحافظ هنا "عن حميد عن أنس". ولأبي جعفر الرازي رواية عن حميد الطويل وعن الربيع بن أنس كما في "تهذيب الكمال" (9/ 61) و"تهذيب التهذيب" (12/ 56) .
11- ص (171) ، حديث (500) تعليقة "2".
قلت: هو في المطبوع (3/ 251) عن عفان، ورواه أحمد (3/ 212) عن عبد الصمد، به.
12- ص (231) ، حديث (722) تعليقة "5".
قلت: هو فيه (3/ 206- 207) لكن عن "شعبة"بدل "سعيد".
13- ص (248) ، حديث (771) تعليقة "2".
قلت: هو فيه (3/126) .
14- ص (248) ، حديث (771) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (3/126) .
15- ص (226) ، حديث (4 70) تعليقة "4".
قلت: هو في المطبوع (3/122) .
16 - ص (251) ، حديث (782) تعليقة "4".
قلت: هو في المطبوع (3/222، 278) .
17 - ص (251) ، حديث (783) تعليقة "7".
قلت: هو في المطبوع (3/ 216، 278) .
18 - ص (271) ، حديث (851) تعليقة "9".
قلت: هو فيه (3/ 275- 276) .
19- ص (282) ، حديث (886) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (3/168) .
20 - ص (288) ، حديث (911) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (3/378) .
21- ص (295) ، حديث (944) تعليقة "6".
قلت: هو فيه (3/266) . وكذا قوله تعليقة "5": (3/266) صوابه (3/266) .
22- ص (303) ، حديث (980) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (3/99) .(35/216)
23- ص (3 30) ، حديث (981) تعليقة "8".
قلت: هو فيه (3/282) .
24- ص (352) ، حديث (1109) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (4/295) .
25- ص (391) ، حديث (1220) تعليقة "3".
قلت: هو فيه (2/55) .
5- قد ينص الحافظ على مصادر أخرى في كتابه- غير المسند- فيهمل المحقق أحياناً العزو إليها، وهي مطبوعة متيسرة، فمن ذلك:
1- ص (8) ، حديث (6) : فيه عزو لأبي يعلى في مسنده (3/336) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 4/ 110-111) .
قلت: وقد أَهملهما المحقق.
2- ص (262) ، حديث (828) قال فيه المصنف: "قلت: رواه الشيخان".
قلت: ولم يخرجه المحقق عنهما. وقد رواه البخاري في كتاب الدعوات:. باب التوبة،
ومسلم في التوبة: باب سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة، وانظر تحفة الأشراف 1/359.
3- ص (252) ، حديث (787) ، قال فيه المصنف: قلت: رواه الشيخان وغيرهما ... ".
قلت: ولم يخرجه المحقق. وقد رواه البخاري في الإيمان: باب (14) من كره أن يعود في الكفر، وفي الأدب: باب (42) الحب في الله، ومسلم في الإيمان: باب (16) بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، والنسائي فيه: الباب الثالث. وانظر "تحفة الأشراف" (1/ 327) .
6- من أهم فوائد فن الأطراف الربط بين طرق الحديث ومعرفة مخارجها وهذا ما فعله المصنف عند الحاجة، فيقول: "تقدم"أو "يأتيِ" ومن واجب المحقق عزوها إلى أماكنها لتتحقق الفائدة، لكن المحقق يهمل ذلك أحياناً فيترك الربط بين هذه الإحالات، فمن ذلك:
1- حديث (462) ص (163) تعليقة "2"ولم يعزها المحقق.
قلت: هي عنده في الحديث رقم (415) .
2- حديث (753) ، ص (242) ، س "9"قال: "وله طريق تقدمت"ولم يعزها المحقق. قلت: تقدمت في الحديث رقم (749) .
3- حديث (860) ، ص (275) ، س "6"قال: "وقد مضى في أثناء ترجمة قتادة عن أنس ... "ولم يعزه.
قلت: هو في الحديث المتقدم برقم (808) .(35/217)
7- وقوعه في التحريف لعدم الدقة في الضبط:
- ففي ص (3) سطر (11) جاء قوله: (عليك) .
قلت: وهو تحريف، صوابه (غُلْبُك) كما ضبطه ابن حجر- رحمه الله تعالى- في "الدرر الكامنة"، (3/ 218) فقال: "بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه بلام، ثم موحدة، ثم كاف".
- وفي ص (325) سطر (1) قوله: (إياس بن عبد الله) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وهو خطأ، وصوابه (إياس بن عبد) كما في تهذيب الكمال (3/ 406 -407) والإصابة (1/90) وتهذيب التهذيب (1/ 389- 390) .
- وفي ص (8) سطر (5) قوله: (عيسى بن حارثة) .
قلت: كذا وقع في المطبوع وصوابه (عيسى بن جارية) بالجيم، كما في تهذيب التهذيب (8/207) والإكمال لابن ماكولا (2/6) .
- وفي ص (10) س (13) قوله: (البزار) .
قلت: صوابه (البزاز) بزايين كما في سير أعلام النبلاء (12/296) وفيه: "كان بزازاً"وانظر تهذيب التهذيب (9/ 311) .
8- طبيعة تعامله مع الأصل الخطي:
أ- وجود سقط لم يتنبه له المحقق:
- ففي حديث رقم (109) ص (58) ، سطر (8) قوله: "وعن هشيم عن عبد الملك ببعضه، وفيه زيادة".
قلت: صوابه "وعن هشيم عن عبد الملك [عنه به. وعن هشيم عن عبد الملك] ببعضه وفيه زيادة". فسقط ما بين المعقوفين من مطبوعته والمخطوط، والطريقان موجودان في المطبوع (5/209) فجعلهما المحقق طريقة واحدة.
- وفي حديث (736) ص (236) ، س (4) قوله: "عن شعبة عنه به".
قلت: صوابه: "عن شعبة [كلهم] عنه به". فسقط ما بين المعقوفين من مطبوعته والمخطوط، ولم يتنبه له، لأن الطرق المتقدمة هي أربعة، وهم: هشام وسعيد وهمام وشعبة".
- وفي حديث (759) ص (245) ، س (5) قوله: "وعن بهز عن قتادة".
قلت: صوابه: "وعن بهز [عن همام] عن قتادة"كما هو في المطبوع الذي ذكره المحقق 3/191و269، وجاء ذكره على الصواب عنده في الحديث رقم (788) . وقوله: (عن همام) ساقط من المخطوط، وهو خطأ.(35/218)
ب- وجود سقط في الأصل الخطي ولم يتنبه له فلم ينبه عليه في التعليق:
- ففي ص (2) س (5) قوله: "أخبرنا عبد الله بن محمد الخطيب حدثنا أبو القاسم البغوي".
قلت: فكيف يروي الخطيب المولود سنة (384 هـ) عن البغوي المتوفى سنة (317 هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (18/330 و14/440) . وصواب السند هو: "أخبرنا عبد الله ابن محمد الخطيب [أنا أبو حفص عمر بن إبراهيم الكتاني] حدثنا أبو القاسم البغوي".
وعلى هذا الوجه الصحيح أورده الحافظ ابن حجر في كتابه "المعجم المفهرس" الورقة 17-18، وفي "المعجم المؤسس " الورقة 41 في ترجمة شيخه إسماعيل بن إبراهيم الحاكم، وفي "إتحاف المهرة" (1/5) .
- وفي ص (2) ، س (16) قوله: "وإيتاء الزكاة وأن تعطوا ... ".
قلت: صوابه: "وإيتاء الزكاة [وصوم رمضان] وأن تعطوا…" فسقط منه ما بين المعقوفين. وعلى هذا الوجه الصحيح هو في المسند (1/228) ، وسنن أبي داود في السنة: باب في رد الإرجاء.
- وفي ص (185) س (6) قوله: "أربعتهم عنه به".
قلت: صوابه: "أربعتهم [عن حماد بن زيد] عنه به" فسقط ما بين المعقوفين من الأصل، ولم يتنبه له، وثبوته في المطبوع في المصادر المذكورة للحديث.
- وفي ص (194) س (15) قوله: "بين الأنصار في دارنا".
قلت: صوابه: "بين [المهاجرين و] الأنصار في دارنا". فسقط ما بين المعقوفين، وهو ثابت في المطبوع (3/111) .
- وفي ص (202) س (4) قوله: "عن شريك عنه بلفظ".
قلت: صوابه: "عن شريك [عن عبد الله بن عيسى] عنه بلفظ"فسقط ما بين المعقوفين كما هو ثابت في المطبوع (3/179) .
- وفي أول حديث (280) قوله: "امرأة إلى".
قلت: صوابه: "] جاءت [، امرأة" فسقط ما بين المعقوفين في المخطوط، وهو ثابت في المطبوع (3/268) .
- وفي ص (135) س (5) قوله: "حدثنا عفان عنه به".(35/219)
قلت: صوابه: "حدثنا عفان [ثنا حماد] عنه به"فسقط ما بين المعقوفين من المخطوطة ولم يتبين له وهو ثابت في المطبوع (3/247) .
- وفي ص (192) س (9) قوله: "ثنا حماد بن زيد بهذا".
قلت: صوابه: "ثنا حماد بن زيد [عنه] بهذا"وهي ضرورية لربط الإِسناد بصاحب الترجمة، وجاء النص كذلك في الأصل الخطي الثاني للكتاب.
- وفي ص (201) س (1) قوله: "ابن زيد عنه به".
قلت: صوابه: "ابن زيد [أنا أيوب] ، عنه به"وهذه الزيادة من المطبوع (3/ 241-242) وتحفة الأشراف (1/258) ، ولابد منها لاتصال السند.
- وفي ص (204) س (3) قوله: "وإبراهيم بن أبي العباس كلاهما".
قلت: صوابه: "وإبراهيم بن أبي العباس [عن أبي أويس] كلاهما"كما في المطبوع (3/237) وبدليل الطريق بعده، وإبراهيم يروي عن أبي أويس كما في تهذيب الكمال (2/116) .
- وفي ص (224) س (4) قوله: "محمد بن إسماعيل".
قلت: كذا وقع في المخطوط وصوابه: "محمد بن أبي إسماعيل"كما في المطبوع (3/167) ، و"تهذيب التهذيب" (9/ 64) و"تعجيل المنفعة"ص (295) .
- وفي ص (265) سطر (10) قوله: "حدثنا أبي عنه به".
قلت: صوابه: "حدثنا أبي [عن يونس] عنه به" والمثبت من المطبوع (3/130) وتحفة الأشراف (1/ 365 ـ366) حديث رقم (1444) وسير أعلام النبلاء (12/268) وهذا الحديث أورده فيه على الصواب.
- وفي ص (274) حديث (859) قوله: "عليه أجره يوم القيامة".
قلت: صوابه: "عليه أجره [إلى] يوم القيامة" وما بين المعقوفين ساقط من المخطوطة، وهو في المطبوع (3/ 266) ، وانظر "الثقات"لابن حبان (9/ 164) و"تعجيل المنفعة"ص (390) .
- وفي ص (280) س (2) قوله: "حاتم بن إسماعيل عنه به".(35/220)
قلت: صوابه: "حاتم بن إسماعيل [ثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير] عنه به"فما بين المعقوفين سقط من المخطوطة، وهو موجود في المطبوع (3/254) وتحفة الأشراف (1/375) ، وانظر تهذيب الكمال (5/188) وتهذيب التهذيب (9/443) .
- وفي ص (285) آخر حديث (901) .
قلت: ثمة أمور عجيبة، فقوله: "وعن يعقوب عن أبيه، عن صالح، عنه به"كذا في المطبوع، ونصه كما في المخطوطة التي اعتمد عليها هو: "وعن يعقوب عنِ أبيه، عن صالح [كلهم] عنه به"فسقط من مطبوعته لفظ [كلهم] التي ستشير أن هناك محذوفاً.
وبيانه وهو الصواب: "وعنِ يعقوب عن أبيه عن صالح [عن ابن شهاب بقصة الحجاب. حديث: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لأحب أن يكون له وادٍ آخر ... "الحديث.
عن حجاج، عن ليث، عن عقيل. وعن قتيبة، عن رشدين، عن قرة وعقيل ويونس. وعن يعقوب، عن أبيه، عن صالح] كلهم عنه به".
فما بين المعقوفين ساقط من المخطوطة التي اعتمد عليها، وهو موجود في نسخة مخطوطة أخرى، ويؤيد هذا المطبوعُ من مسند أحمد، انظر على التوالي: طريق يعقوب في (3/236) ، وطريق حجاج في (3/168، 247) . وطريق قتيبة في (3/247) . وطريق يعقوب الأخير في (3/236) . على أن المحقق غفل عن هذا، فاستدرك الحديث المذكور بين معقوفين في ص (287) برقم (2) .
- وفي ص (294) آخر حديث (940) قوله: "عن حماد به".
قلت: صوابه: "عن حماد [عنه] به"وهذا ضروري لربط الإسناد بالعنوان. وهو ساقط من مخطوطته، وموجود في مخطوطة أخرى للكتاب.
- وفي ص (303) س (4) قوله: "عن يحيى بن إسحاق".
قلت: صوابه: "يحيى بن أبي إسحاق"كما في المطبوع (3/99) والثقات لابن حبان (5/ 524) ، و"تهذيب التهذيب" (11/177) .
- وفي ص (393) س (10) قوله: "عن الحكم بن أبي ليلى".
قلت: صوابه: "عن الحكم [عن] ابن أبي ليلى"كما في المطبوع (6/ 15) وإتحاف المهرة (1/ 166/أ) ومصادر ترجمتهما.(35/221)
ولم ينبه المحقق على أمر آخر هنا وهو: أن رواية "معاوية بن عمرو ويحيى بن أبي بكير في المطبوع إنما هي عن (البراء عن بلال) وكذلك هي عند النسائي كما في تحفة الأشراف (2/105) .
جـ - طبيعة محافظته على الأصل الخطط في عمله التحقيقي:
ويلاحظ عليه عدم تنبيهه على ما كتب على حواشي النسخة الخطية:
- ففي ص (14) سطر (2) قوله: "حماد بن شعيب ".
قلت: "كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "صوابه: زيد" انظر لوحة (3/ ب) .
- وفي ص (49) س (4) قوله: (وأنتم ليس بها) .
قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "لعله: ولستم" انظر لوحة (7/ ب) .
- وفي ص (132) بين حديثي (350) و (351) .
قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "حديث: لغدوة، تقدم". انظر لوحة (15/أ) .
- وفي ص (122) بين حديثي (307) و (308) .
قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "حديث: كان أزهر اللون، يأتي "انظر لوحة (14/أ) .
- وفي ص (265) بين حديثي (837) و (838) .
- قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "حديث: النغير، تقدم"انظر. لوحة (27/ ب) .
- وفي ص (297) عند نهاية حديث (954) .
قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "حاشية بخطه: وله حديث في ترجمة قتادة"انظر لوحة (29/ ب) .
- وفي ص (336) س (1) عند قوله: "كأولاد".
قلت: كتب على حاشيته في المخطوط ما نصه: "بخطه كأولاولاد"انظر لوحة (33/أ) .
د- قد يصحح المحقق النص متابعة للمطبوع مع عدم بيان ما في الأصل المخطوط:
- ففي ص (21) س (10) قوله: (سعيد السمان) .
قلت: هو الصواب كما في المطبوع وتعجيل المنفعة ص (151) من ترجمته، لكن جاء في الأصل (سَعْد السمان) ولم ينبه عليه.
- وفي ص (13) س (13) قوله: (وعبيد الله بن عمر القواريري) .(35/222)
قلت: كذا هو الصواب كما في المطبوع (و "سير أعلام النبلاء "11/ 442 و"التاريخ الكبير" 5/ 395 و"تاريخ بغداد" 10/ 320 و "تهذيب التهذيب " 7/ 40) ، لكن جاء في الأصل المخطوط (عبد الله) مكبراً، ولم يبين المحقق.
- وفي ص (19) س (1) قوله: (عن عمرو بن الحارث) .
قلت: هو الصواب كما في المطبوع و ("التاريخ الكبير" (6/ 320) و"الجرح والتعديل " (6/ 225) و"ميزان الاعتدال" (1/ 252) و"سير أعلام النبلاء" (6/ 349) و "تهذيب التهذيب" (8/ 14) ، وفي الأصل الخطي "عن عمر بن الحارث" ولم ينبه عليه.
- وفي ص (34) السطر الأخير قوله: (الرصافي) .
قلت: كذا وقع في المطبوع و ("الأنساب"للسمعاني (6/135) و"التاريخ الكبير" (2/380) و"تهذيب الكمال" (5/459) و"تهذيب التهذيب" (2/207) وهو الصواب ووقع في الأصل الخطي (الوصافي) ، وهو تحريف ولم ينبه عليه.
- وفي ص (36) س (9) قوله: (المصيبات) .
- قلت: هو في المطبوع وهو الصواب كما في صحيح مسلم بشرح النووي (17/143) وفي الأصل الخطي (المصليان) وعليها علامة التوقف ولم ينبه عليه.
- وفي ص (43) س (13) قوله: (شيبان) .
قلت: هو من المطبوع وكذا هو في إتحاف المهرة (1/ 10/ ب) وفي الأصل الخطي (سفيان) ولم ينبه عليه، وانظر ("تهذيب التهذيب"4/ 374) .
- وفي ص (92) س (11) قوله: (عن المبارك) .
قلت: هو من المطبوع وهو الصواب (وانظر "تهذيب التهذيب"10/ 28) وفي الأصل الخطي (عن ابن المبارك) ولم ينبه عليه.
وفي ص (93) س (7) قوله: (على الوليد) .
قلت: هو من المطبوع، وهو الصواب، وفي المخطوطة (عن الوليد) ولم ينبه عليه.
- وفي ص (121) س (4) قوله: (عن حسن) :
قلت: تابع فيه المطبوع وهو تصحيف، وفي الأصل الخطي (جسر) وهو الصواب كما في "المؤتلف والمختلف"للدارقطني (1/452) و"ميزان الاعتدال" (1/398) و"لسان الميزان" (2/104) .(35/223)
- وفي ص (138) حديث (378) قوله: (ثمانون) .
قلت: تابع فيه المطبوع وهو الصواب، وفي الأصل الخطي (ثمانين) . ولم ينبه عليه.
- وفي ص (159) س (5) قوله: (وعن ابن بكر) .
قلت: هو من المطبوع، وهوا الصواب وفي المخطوطة (عن أبي بكر) ولم ينبه عليه، وهو (عبد الله بن بكر) كما جاء في المطبوع. انظر: "التقريب" وأصوله، و"طبقات ابن سعد" (7/ 334) و"التاريخ الكبير" (5/ 2 5) و"الجرح والتعديل " (5/ 6 1) و"تاريخ بغداد" (9/ 421) و"سير أعلام النبلاء " (9/ 450) .
ومثله ص (160) س (أخير) قوله: (عن ابن أبي عدي وابن بكر) .
قلت: وفي الأصل (وأبي بكر) .
- وفي ص (179) س (11) قوله: (وحسن) .
قلت: تابع فيه المطبوع (3/239) وهو الصواب وهو حسن بن موسى، وكتب على حاشية النسخة الهندية ما نصه: "وحسن هو حسن بن موسى"على أن المحقق لم ينبه على أنه في المخطوطة كتب (حسين) .
- وفي ص (186) س (12) قوله: (سليمان بن أبي سليمان) .
قلت: تابع فيه المطبوع وهو الصواب ولم يبين ما كتب في الأصل وهو (سليم) ، وانظر "التاريخ الكبير" (4/15) و"تهذيب الكمال" (11/442) و"تهذيب التهذيب" (4/196) .
- وفي ص (215) س (17) قوله: (عبد الله بن أبي بكر) .
قلت: تابع فيه المطبوع والصواب ما في المخطوط (عبيد الله بن أبي بكر) كما في التقريب وأصوله، و"التاريخ الكبير" (5/ 375) و"الثقات"لابن حبان (5/ 65) .
- وفي ص (220) س (5) قوله: (وعفان) .
قلت: تابع فيه المطبوع (3/259 و284) وهو الصواب ولم يذكر ما في المخطوط من أنه (عثمان) .
- وفي ص (226) س (11) قوله: (وعن مكي) .
قلت: زاد المحقق الواو، وهو الصواب، ولم يشر إلى أنها ساقطة من المخطوط.
- وفي ص (243) س (4) قوله: (عن همام) .
قلت: زادها المحقق تبعا للمطبوع (3/289) وهو الصواب، وهي ساقطة من الأصل
الخطي.
- وفي ص (246) س (7) قوله: (عن شيبان) .(35/224)
قلت: تابع المحققُ المطبوع (3/207) وهو الصواب ولم يشر إلى أن في الأصل الخطي (وشيبان) .
- وفي ص (256) س (10) قوله: (عن سعيد) .
قلت: تابع فيه المحققُ المطبوع حيث فيه (ثنا ابن أبي عروبة) وهو (سعيد) ولم يذكر إلى أنه في الأصل (شعبة) .
- وفي ص (261) س (أخير) قوله: (كلاهما عن سعيد) .
قلت: تابع فيه المحقق للمطبوع ولم يذكر إلى أنه في المخطوط (شعبة) .
- وفي ص (286) س (15) قوله: (عبد الله بن مسلم) .
قلت: تابع فيه المحققُ للمطبوع وهو الصواب، ولم يذكر إلى أنه في المخطوط (مسلمة) ، وانظر "التاريخ الكبير" (5/ 190) و"الثقات" لابن حبان (5/ 47) ، 59- 60 و"تهذيب التهذيب " (6/ 29) .
- وفي ص (291) س (7) قوله: (أبو هلال) .
قلت: تابع فيه المحقق المطبوع وهو الصواب ولم يذكر إلى أنه في الأصل الخطي (ابن هلال) ، وانظر "تهذيب التهذيب " (9/ 195، 10/ 167) .
- وفي ص (299) س (10) قوله: (يسم) .
قلت: تابع فيه المطبوع وهو الصواب ولم يذكر ما في الأصل الخطي (يقسم) ، وانظر "تحفة الأشراف" (1/ 419) .
- وفي ص (310) س (4) قوله: (يعمر بن بشر) .
قلت: تابع فيه المطبوع وهو الصواب، ولم يشر إلى أنه في الأصل (معمر) ، وانظر "الثقات" لابن حبان (9/291) و"الإكمال" (7/ 432) و"المؤتلف" لعبد الغني ص (127) و"المؤتلف والمختلف" للدارقطني (4/ 2239، 2349) و"تعجيل المنفعة"ص (457) .
- وفي ص (312) س (5) قوله: (وإن كان كافراً) .
قلت: لفظة (كان) من المطبوع ولم يبين أنها ساقطة من الأصل.
- وفي ص (336) س (11) قوله: (بَجْلة) .
قلت: تابع فيه المطبوع وهو الصواب، ولم يبين ما في الأصل الخطي (بجيلة) ، وانظر "الإكمال" (1/ 386) و"الأنساب " (2/94) و"تبصير المنتبه" (1/127) و"المؤتلف والمختلف" للدارقطني (1/ 276) .
- وفي ص (351) س (أخير) قوله: (ابن نمير) .(35/225)
قلت: تابع فيه المطبوع، وهو الصواب ولم يبين أنه في المخطوط (ابن أعين) ، وانظر "تحفة الأشراف" (2/ 36) و"تهذيب الكمال" (2/ 276) ، ولعل الذي وقع في المخطوطتين مصحف عن (نمير) فتأمل.
- وفي ص (368) س (3) قوله: (ابن بريدة) .
قلت: تابع فيه المطبوع، ولم يبين أنه في الأصل الخطي (أبي بريدة) .
هـ- قد يصحح النص من غير إشارة إلى ما في الأصل الخطي أو المطبوع، ولا يذكر دليل التصحيح، فمن ذلك:
- في ص (44) س (4) قوله: (سلم بن قتيبة) هو الصواب.
قلت: ولم يذكر أنه تحرف في المخطوط (سليم بن قتيبة) وفي المطبوع (مسلم ابن قتيبة) . ولم يذكر دليل التصحيح.
- وفي ص (50) س (10) قوله: (عن أسامة) .
قلت: ولم يذكر أنه تحرف في الأصل إلى (بن أسامة) .
- وفي ص (52) س (9) قوله: (عَزْرة) .
قلت: تحرف في الأصل إلى (عرمه) ولم ينبه عليه، وانظر "التاريخ الكبير" (7/65) و"تهذيب التهذيب" (7/ 192) .
- وفي ص (191) س (15) قوله: (وعبيد) .
قلت: تحرف في الأصل إلى (عبيدة) وفي المطبوع (3/233) إلى (عبيد الله) ولم ينبه على ذلك، وانظر ترجمته في التاريخ الكبير (6/ 2) و"الثقات" لابن حبان (8 /431) و"تاريخ بغداد" (11/95) و"تعجيل المنفعة"ص 276-277.
- وفي ص (275) س (أخير) قوله: (عن معمر) .
قلت: وقع مكانه في الأصل (كلاهما) ولم ينبه، وانظر"إتحاف المهرة" (1/188) و"تحفة الأشراف" (1/ 371) .
- وفي ص (340) س (15) قوله: "وعن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عنه".
قلت: و (كلاهما) زيادة لا معنى لها، فحذفها المحقق بدون بيان.
- وفي ص (344) س (9) قوله: (بن هشام) .
قلت: هكذا وقع في المطبوع وتحرف في الأصل إلى (بن هشيم) ولم يبين، وانظر "تهذيب التهذيب" (10/ 196-197) .
- وفي ص (355) س (3) قوله: (وأبي داود عمر) .(35/226)
قلت: تحرف في الأصل إلى (وأبي داود وعمر) وفي المطبوع (4/ 299) : (وأبي داود عمرو) ولم يبين، وانظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" (6/403) و"الجرح والتعديل" (6/112) ، و"سير أعلام النبلاء" (9/415) و"الكاشف" (2/311) و"تهذيب التهذيب" (7/452) .
- وفي ص (358) س (15) قوله: (أبو الحكم علي) .
قلت: هو الصواب كما في المسند المطبوع (4/293-294) وتحرف في الأصل إلى (أبو الحكم عن) ولم يبين، وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير" (3/396) و"تعجيل المنفعة"ص (292-293) . وانظر لزاماً تحقيق الحافظ ابن حجر في اسمه.
- وفي ص (369) س (4) قوله: (عن بشير) .
قلت: وهو الصواب وتحرّف في المطبوع (5/352) إلى (عن بشير) ، وهو مترجم في "التقريب وأصوله".
- وفي ص (361) س (14 و16) قوله: (حسين بن محمد) .
قلت: وهو الصواب كما في المطبوع وتحرف في الأصل في الموضعين إلى (حسن ابن محمد) ولم يبينه، وانظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (364) س (2) قوله: (أسلموا عليه) .
قلت: تحرف في الأصل إلى (أسلموا عليهم) ولم يبينه.
- وفي ص (373) س (4) قوله: (عتبة) .
قلت: تحرف في الأصل إلى (عبيد) ولم يبينه، وانظر ترجمته في "التقريب وأصوله".
- وفي ص (391) س (9) قوله: (عثمان بن سعد) .
قلت: وهو الصواب كما في المسند المطبوع (6/13) وتحرف في الأصل إلى (عثمان ابن سعيد) ، ولم يبينه، وانظر "التقريب وأصوله".
أما التصحيحات من غير ذكر الدليل سوى ما قدمناه فكثيرة منها: ص (79) تعليقة "5"وص (89) تعليقة "1"و (127) تعليقة "6"و (144) تعليقة "8"و (277) تعليقة "5"و (320) تعليقة "1"وغيرها.
9- طبيعة تعامله مع المسند المطبوع الذي هو أصل الكتاب.
أ- وجود سقط في المسند المطبوع ولم يبينه، فمن ذلك:
- ففي ص (6) س (8) قوله: (حدثنا يحيى بن سعيد) .(35/227)
ففي المطبوع (5/122) : (حدثنا سعيد) وسقط منه (يحيى بن) ، وجاء على الصواب في الأصل والموضع الثاني من المسند (5/ 114) وتحفة الأشراف (1/ 11) .
- وفي ص (10) س (2) قوله: (عن معمر) .
قلت: هو ساقط من المطبوع (5/134) ، وجاء على الصواب في الأصل الخطي، وانظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (6/ 311) .
- وفي ص (31) س (5) قوله: (حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي) . (كذا وقع في المخطوط، وهو الصواب) ، وجاء في المطبوع (5/ 116) : (حدثني أبو بكر المقدمي) ، وانظر كتاب "التاريخ الكبير" (1/ 49) و "الجرح والتعديل " (7/213) ، و"سير أعلام النبلاء" (10 /0 66) و"تهذيب التهذيب " (9/ 79) .
- وفي ص (100) س (8) قوله: (عن أبيه) . سقط من المطبوع (3/150) .
والصواب إثباته كما في المخطوط و"تهذيب التهذيب" (9/82) .
- وفي ص (110) س (أخير) قوله: (وعفان) . سقط من المطبوع (3/285) .
- وفي ص (168) س (3) قوله: (لعله) . سقط من المطبوع (3/282) .
- وفي ص (168) س (11) قوله: (عنه به) . أي: عن حميد عن أنس.
قلت: سقط لفظ (عن حميد) من المطبوع (3/132) من رواية عبد الرحمن، وجاء على الصواب في الباقي.
- وفي ص (182) س (2) قوله: (عن سعد) . سقط من المطبوع (3/ 280) .
والصواب إثباته كما في إتحاف المهرة (1/ 81/ ب) و"التاريخ الكبير" (4/ 55) .
- وفي ص (183) س (10) قوله: (عبد الله بن) . ساقط من المطبوع (3/162 -163) ، وهو خطأ. والصواب إثباته كما في المخطوط و"تحفة الأشراف"1/ 224 و"تهذيب التهذيب" (5/137) .
- وفي ص (185) س (14) قوله: (عن حسن) . ساقط من المطبوع (3/154) .
- وفي ص (200) س (1) قوله: (وأبي سعيد) . ساقط من المطبوع (3/145) .
- وفي ص (200) س (6) قوله: (عنه) . أي عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، وهو ساقط من المطبوع (6/ 186) ، وهو ثابت في الأصل الخطي، وانظر النكت الظراف (1/254) .(35/228)
- وفي ص (216) س (8) قوله: (وعفان) . ساقط من المطبوع (3/142) .
- وفي ص (303) س (10) قوله: (عن عبد الأعلى) . ساقط من المطبوع (3/187) .
- وفي ص (304) س (3) قوله: (ثنا يحيى بن سعيد) . ساقط من المطبوع (3/114) .
- وفي ص (312) س (7) قوله: (أخبرني يحيى بن أيوب) . ساقط من المطبوع (3/153) .
وهو خطأ، والصواب إثباتها كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (8/ 259) و"سير أعلام
النبلاء" (5/505،506) و"تهذيب التهذيب" (11/176ـ 186) و"تاريخ بغداد" (14/157) .
- وفي ص (323) س (7) قوله: (بن عمرو) . فلفظة (ابن) ساقطة من المطبوع (4/10) . والصواب إثباتها كما في المخطوطة وتحفة الأشراف (2/6) حديث (1740) .
- وفي ص (333) س (5) قوله: (عنه) . أي (عن عبد الله بن مرة) فسقط لفظ (ابن) من المطبوع (4/286) .
- وفي ص (370) س (14) قوله: (وعن ابن نمير) . ساقط من المطبوع (5/ 351) .
ب- وجود زيادة في المسند المطبوع وهي خطأ مع عدم التنبيه عليها عند العزو، فمن ذلك:
- ما في ص (188) س (5) قوله: (ويحيى) ، في المطبوع في هذه الرواية (3/ 115) زيادة وهي (عن شعبة) وهي مقحمة.
- وفي ص (228) س (13) قوله: (حدثنا هاشم) ، في المطبوع (3/ 226) زيادة (ثنا محمد بن عبد الله) . وهي مقحمة من السند الذي قبله.
- وفي ص (247) س (7) قوله: (قال عبد الله) في المطبوع (3/143) زيادة وهي (قال أبو عبيد بن عبد الله) فلفظة (أبو عبيد بن) مقحمة، وعبد الله بن أحمد كنيته: أبو عبد الرحمن.
- وفي ص (258) س (3) قوله: (عن معمر) ، في المطبوع (3/137) زيادة (عن الزهري) ولعلها مقحمة، ورواية عبد الرزاق في تحفة الأشراف (1/347) وليس فيها (عن الزهري) بين معمر وقتادة.(35/229)
- وفي ص (246) س (9) قوله: (عن معمر) في المطبوع (3/ 165) زيادة (عن الزهري) ولعلها مقحمة، ورواية عبد الرزاق في تحفة الأشراف (1/ 344) وليس فيها ذكر للزهري بين معمر وقتادة.
- وفي ص (249) س (4) قوله: (عن معمر) وفي المطبوع (3/ 162) زيادة (عن الزهري) بين معمر وقتادة، وهي مقحمة.
- وفي ص (345) س (أخير) قوله: (حدثنا يزيد حدثنا شريك) وقع في المطبوع (4/298) زيادة (أنا شعبة) بينهما وهي مقحمة. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (4/367) .
- وفي ص (347) حديث (1092) وقع في المطبوع (4/ 290-291) في أول إسناده زيادة وهي (ثنا بهز ثنا شعبة) وهي مقحمة من السند الذي بعده.
وفي ص (370) س (11) جاء (عن مالك بقصة الدعاء) أي (عن مالك عن عبد الله بن بريدة عن أبيه) لكنه جاء في المطبوع (5/349) بزيادة (عن مالك بن مغول، ثنا يحيى بن عبد الله بن بريدة) فلفظة (يحيى بن) مقحمة.
جـ- لم ينبه على ما في المسند المطبوع مع مغايرته للأصل، مع أن الصواب ما في المطبوع:
- ففي ص (13) س (15) قوله: (جابر بن زيد) ، ومثله ص (177) س (12) .
قلت: كذا وقع في المخطوط (زيد) في الموضعين وهو تحريف، صوابه (يزيد) كما في المطبوع و "تهذيب الكمال" 4/ 472 و"التاريخ الكبير" 2/210 و"تهذيب التهذيب" 2/51.
- وفي ص (19) س (14- 15) قوله: (يحيى بن سعيد عن سعيد به) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وفي المطبوع (5/126- 127) ، (يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن شعبة) ولعل الصواب (يحيى بن سعيد، عن شعبة به) .
- وفي ص (22) س (12) قوله: (عبيد الله) .
قلت: كما في المطبوع (5/138- 139) ، و "تهذيب التهذيب" 7/42، ووقع في المخطوط (عبد الله) .
- وفي ص (33) س (2) قوله: (سفيان بن سلمة) .(35/230)
قلت: كذا وقع في المخطوط (بن) وهو خطأ، وصوابه (عن) كما في المطبوع (5/123) وسلمة بن كهيْل من مشايخ سفيان كما في "تهذيب الكمال" (11/ 314) و"سير أعلام النبلاء" (5 /298) و"تهذيب التهذيب" 4/ 155.
- وفي ص (39) س (1) قوله: (عبد الله) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وصوابه (عبيد الله) كما في المطبوع (5/136) و"طبقات ابن سعد" (7/350) و"التاريخ الكبير" (5/395) و"تاريخ بغداد" (10/320) و"سير أعلام النبلاء" (11/ 442) و"تهذيب التهذيب " (7/ 40) .
- وفي ص (52) س (13) قوله: (يحيى بن أبي إسحاق) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، والصواب (يحيى بن إسحاق) كما في المطبوع (5/ 200، 201) ولفظة (أبي) مقحمة، وانظر "طبقات ابن سعد" (7/340) و"التاريخ الكبير" (8/ 259) و"تاريخ بغداد" (14/157) و"تهذيب التهذيب " (11/176) .
- وفي ص (87) س (9) قوله: (عبد الله السدوسي) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وهو تحريف، وصوابه (عبيد الله السدوسي) كما في المسند المطبوع و"تهذيب التهذيب"، (6/433) .
- وفي ص (56) س (2) قوله: (السلمي) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وعليها إشارة توقف، وصوابه كما في المطبوع (5/205) .
(السلّي) وضبطه السمعاني في "الأنساب" (7 /201) بفتح السن المهملة وتشديد اللام، وله ترجمة في "التاريخ الكبير" (4/355، 356) ، و"تهذيب التهذيب" (5/12) ، وللمعلمي- رحمه الله- في تعليقه على "التاريخ الكبير" (2/328) تحقيق في نسبة أبي تميمة وهل هما اثنان أم واحد؟ فانظره إن شئت.
- وفي ص (59) س (4) قوله: (عياض بن عمر) عن أسامة عنه.
قلت: كذا وقع في المخطوط- وفيه تحريف، والصواب (عياض بن عمِّ أسامة عنه) كما في الحديث الذي بعده.
- وفي ص (115) س (4) قوله: (المبارك) .(35/231)
قلت: هو من المطبوع ووقع في المخطوط (عن ابن المبارك) ولفظة (ابن) مقحمة، والمبارك هو ابن فضالة، انظر "تحفة الأشراف" (1/ 149) و"تهذيب التهذيب (10/28) .
- وفي ص (119) س (5) قوله: (يلقّحون) .
قلت: وقع في المخطوط (يلحقون) وهو خطأ.
- وفي ص (126) س (14) قوله: (يصلّي) .
قلت: كذا وقع في المخطوط زيادة (يصلّي) وليست في المطبوع.
- وفي ص (127) س (4) قوله: (إلى) .
قلت: هو من المطبوع، وفي المخطوط (على) .
- وفي ص (176) س (14) قوله: (سعد) .
قلت: وقع في المخطوط (سعيد) وهو خطأ، والصواب (سَعْد) كما في المطبوع و"طبقات ابن سعد" (7/ 456) و"تهذيب الكمال" (9/8) و"سير أعلام النبلاء" (4/490) و"تهذيب التهذيب" (3/ 225) .
- وفي ص (88) س (1) قوله: (وهشام) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وهو تصحيف، وصوابه (هاشم) كما في المخطوطة الثانية والمسند المطبوع (3/226) والتقريب و"تهذيب التهذيب " (11 /18) .
- وفي ص (185) س (4) قوله: (حسين بن محمد) .
قلت: وقع في المخطوط (حبيب بن محمد) والمثبت من المطبوع (3/238) لأنه ليس في مشايخ الإمام أحمد من يسمى حبيباً. والله أعلم.
- وفي ص (197) س (3) قوله: (عيسى) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وهو تحريف، وصوابه (عَبْس) كما في المطبوع و"إتحاف المهرة"ج 1 الورقة 88/أو"المؤتلف والمختلف"للدارقطني (3/1619) و"الإكمال" (6/89) .
- وفي ص (204) س (5) قوله: (أبي أويس) .
قلت: وقع في المخطوط (ابن أبي أويس) ولفظة (ابن) مقحمة، وهو مترجم في "التاريخ الكبير" (5/ 127) و"تهذيب التهذيب" (5/0 28) .
- وفي ص (206) س (13) قوله: (وعبد الرحمن) .
قلت: وفي المخطوط (يحيى بن عبد الرحمن) وهو خطأ.
- وفي ص (262) س (12) قوله: (عُمَر) .(35/232)
قلت: وقع في المخطوط (عمران) وهو خطأ، والصواب كما في المطبوع (عُمَر) و"الثقات"لابن حبان (8/ 446) و"تهذيب التهذيب" (7/ 425-426) .
- وفي ص (274) س (18) قوله: (عبد الله) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وصوابه (عُبَيد الله) كما في المطبوع (3/ 266) و"الثقات"لابن حبان (9/ 164) و"تعجيل المنفعة"ص 390.
- وفي ص (295) س (17) قوله: "صَلّى النبي صلى الله عليه وسلم والسماء ... ".
قلت: كذا وقع في المخطوط وهو تحريف، صوابه كما في المطبوع (3/266-267) "يبعث الناس يوم القيامة والسماء…".
- وفي ص (88) س (6) قوله: (أبو أسامة) .
قلت: كذا وقع في المخطوط ومثله في المخطوطة الثانية وصوابه: (أبو سلمة) كما في المسند المطبوع (3/240) وأبو سلمة هو منصور ابن سلمة الخزاعي يروي عن مالك، وروى عنه أحمد بن حنبل كما في "تهذيب التهذيب" (10/308) .
- وفي ص (348) س (11) قوله: (قريش) .
قلت: كذا في المخطوط والصواب (قيس) كما في المطبوع (4/280، 281،282،289) .
- وفي ص (365) س (3) قوله: (إسرائيل) .
قلت: صوابه (أبو إسرائيل) كما في المطبوع (5/347) ، وسقط لفظ (أبو) من المخطوط وهو خطأ، وأبو إسرائيل هو إسماعيل بن خليفة العبسي له ترجمة في "تهذيب الكمال" (3/ 77) و"تهذيب التهذيب" (1/293) .
- وفي ص (372) س (3) قوله: (الحسين) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وهو خطأ، وصوابه (الحَسَن) ، كما في المطبوع (5/346) ، وهو علي بن الحسن بن شقيق، وهو مترجم في "طبقات ابن سعد" (7/376) و"التاريخ الكبير" (6/268) و"الجرح والتعديل" (6/ 180) و"تاريخ بغداد" (11/370) و"سير أعلام النبلاء" (10/349) و"تذكرة الحفاظ " (1/ 370) و"تهذيب التهذيب" (7/298) .
- وفي ص (375) س (13) قوله: (دينار) .
قلت: كذا في المخطوط وصوابه (كهيل) كما في المطبوع (5/356) .
- وفي ص (375) س (15) قوله: (عبد الله) .(35/233)
قلت: كذا وقع في المخطوط وصوابه (عُبَيْد الله) كما في المطبوع (5/357) و"التاريخ الكبير" (5/ 388) و"الأنساب" (9/231) و"ميزان الاعتدال" (3/11) و"تهذيب التهذيب" (7/ 26-27) .
- وفي ص (380) س (7) قوله: (المغيرة) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وصوابه (أبي المغيرة) كما في المطبوع (4/ 210) و"التاريخ الكبير" (6/ 120) و"الجرح والتعديل" (6/ 56) وغيرهما.
- وفي ص (391) س (12) قوله: (عن عمرو) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وهو خطأ، وصوابه (بن عمرو) كما في المطبوع (6/14) . وانظر "التاريخ الكبير" (1/ 391) ، و"الثقات "لابن حبان (6/ 48، 49) و"تهذيب الكمال" (2/428) و"تهذيب التهذيب" (1/233) .
د- عدم الدقة في التنبيه على ما في الأصل أو ما في المطبوع، فمن ذلك:
- ففي ص (14) س (10) قوله: (الحجاج) .
قلت: وقع في المخطوط (الحجا) وهو سهو من الناسخ.
- وفي ص (31) س (10) قوله: (عبد الرحمن) .
قلت: وقع في المخطوط (عبد الله) وصوابه (عبد الرحمن) ، وله ترجمة في "طبقات ابن سعد" (5/462) وغيره.
- وفي ص (13) س (14) قوله: (أبو يوسف يعقوب) .
قلت: وقع في المطبوع (أبو يوسف بن يعقوب) والصواب حذف (ابن) ، وهو مترجم في "الثقات"لابن حبان (9/ 286) و"تعجيل المنفعة"لابن حجر ص (456) .
- وفي ص (33) س (16) قوله: (سماه عبد الرحمن) .
قلت: وقع في المخطوط (سماه أبو عبد الرحمن) ولفظة (أبو) مقحمة، لأن عبد الرحمن بن مهدي كنيته أبو سعيد كما في "تهذيب التهذيب" (6/ 279) .
- وفي ص (91) س (16) قوله: (ببعضه) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، والصواب (به) لأنه أورده كاملاً في الموضعين من المطبوع (3/ 289، 210) .
- وفي ص (237) س (3) قوله: (شعبة) .
قلت: تابع فيه المسند المطبوع (3/112) وفي المخطوط (سعيد) .
- وفي ص (238) س (10) قوله: (شعبة) .(35/234)
قلت: وفي المطبوع (3/ 166) ، (سعيد) بدل (شعبة) .
- وفي ص (241) س (4) قوله: (بهز) .
قلت: رواية بهز في المطبوع (3/193) عن (حماد) لا عن (همام) .
- وفي ص (241) س (6) قوله: (حسن) .
قلت: في المطبوع (3/262) : (حسين) ، وكلاهما من الرواة عن شيبان كما في "تهذيب التهذيب "4/373.
- وفي ص (239) س (13) قوله: (ثلاثتهم عن سعيد) .
قلت: ينبغي البيان في هذا، ففي المطبوع (3/170) : (ثنا محمد ابن جعفر ومحمد بن بكر، قالا: ثنا شعبة، والخفاف عن سعيد، عن قتادة) فتنبه.
- وفي ص (242) س (4) قوله: (يزيد) .
قلت: تحرف في المطبوع (3/ 191-192) إلى (زيد) وانظر "التاريخ الكبير" (8/318) و"الثقات"لابن حبان (7/ 631) و"تهذيب التهذيب" (11/ 311) .
- وفي ص (242) س (12) قوله: (سعيد) .
- قلت: كذا وقع في المسند المطبوع والمخطوط (سعيد) وهو تحريف والصواب (سَعْد) كما في "الثقات" لابن حبان (8/ 366) و"تهِذيب التهذيب" (5/ 234) .
- وفي ص (260) س (9) قوله: (حسن) .
قلت: في المسند المطبوع (3/ 260) : (حسين) ، وكذلك هو في رواية البخاري كما في "تحفة الأشراف" (1/338) ، ولعله الصواب.
- وفي ص (261) س (8) قوله: (حسين) .
قلت: كذا وقع في المسند المطبوع (3/ 260) وفي المخطوط (حسن) والحسين بن محمد والحسن بن موسى من الرواة عن شيبان كما في "تاريخ بغداد" (9/ 271) .
- وفي ص (316) س (3) قوله: (وبه) .
قلت: هذا يفيد أنه بسند الحديث الذي قبله، والذي قبله من رواية "عبد الرزاق عن سفيان"أما هذا في المطبوع (1/ 181) فهو من رواية "وكيع عن سفيان"فتنبه.
- وفي ص (316) س (13) قولي: (إبراهيم بن إسحاق) .
قلت: قد انقلب اسمه في المطبوع (3/266) فجاء هكذا: (إسحاق ابن إبراهيم) ، وترجمته في "التاريخ الكبير" (1/273) و"تهذيب الكمال" (2/ 39) و"تهذيب التهذيب" (1/103) .
- وفي ص (393) س (10) قوله: (عنه به) .(35/235)
قلت: أي صاحب المسند بلال رضي الله عنه لكن في المطبوع رواية معاوية بن عمرو ويحي بن أبي بكير (6/15) إنما هي (عن البراء عن بلال) فتنبه.
- وفي ص (394) س (14) قوله: (عن إسرائيل) .
قلت: كذا وقع في المخطوط (عن إسرائيل) ، ووقع في المطبوع (عن ابن إسرائيل) ، وكلاهما خطأ، والصواب (عن أبي إ سرا ئيل) كما في "تحفة الأشراف" 2/ 110 و"تهذيب الكمال" 3/ 82.
- وفي ص (279) س (8) قوله: (عبيد الله) .
قلت: كذا وقع في المخطوط (عبيد الله) وهو تحريف، والصواب: (عُبَيْد) كما في "التاريخ الكبير" (1/172) ، و"الثقات" لابن حبان (5/380) و"تعجيل المنفعة"ص 514-515.
هـ- التحريف في المطبوع ولم يبين:
- ففي ص (15) س (7) قوله: (سَلْم) .
قلت: وقع في المطبوع (مسلم) ، وهو تحريف، وصوابه (سَلْم) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (4/158) و"سير أعلام النبلاء" (9/308) و"تهذيب الكمال " (4/133) .
- وفي ص (17) س (14) قوله: (يزيد) .
قلت: وقع في المطبوع (زيد) وهو تحريف، والصواب (يزيد) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (4/ 324) و"سير أعلام النبلاء" (6/ 31) و"تهذيب الكمال" (11/318) .
- وفي ص (24) س (13) قوله: (خيثمة) .
قلت: وقع في المطبوع (حثمة) وفي الموضع الثاني منه (أبو حثمة وزهير) وفيه تحريفان، والصواب (خيثمة) كما في المخطوط "تهذيب الكمال" (9/ 402) و"تهذيب التهذيب" (3/342) . وهو أبو خيثمة زهير بن حرب.
- وفي ص (29) س (7) قوله: (عمر بن سعد) .
- وفي ص (35) س (15) قوله: (عن شعبة به) .
قلت: أي بالسند المتقدم (شعبة عن الحكم) لكن وقع في المطبوع (5/128) : (في سنده) : (عن الحسن) بدل (عن الحكم) وهو تحريف، والصواب أن شعبة يروي عن الحكم كما في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (7/202) و"تهذيب التهذيب" (4/338) .
- وفي ص (37) س (4) قوله: (يزيد بن زياد) .(35/236)
قلت: وقع في المطبوع (يزيد بن أبي زياد) ، ولفظة (أبي) مقحمة، وانظر "الثقات"لابن حبان (7/ 621) و"تهذيب التهذيب" (11/328) .
- وفي ص (0 4) س (5) قوله: (شريك بن عبد الله) .
قلت: وقع في المطبوع (شريك عن عبد الله) وهو تحريف، والصواب (شريك بن عبد الله) كما في المخطوط و "التاريخ الكبير" (4/ 236) و"الجرح والتعديل" (4/363) و"سير أعلام النبلاء" (6/ 9 5 1) و"تهذيب التهذيب" (4/337) .
- وفي ص (31) س (13) قوله: (شيبة) .
قلت: وقع في المسند المطبوع (5/123) : (شيبان) ، وهو تحريف، وهو (عثمان بن أبي شيبة) مترجم في "التاريخ الكبير" (6/ 250) والتقريب وأصوله.
- وفي ص (44) س (6) قوله: (حُبَاب) .
قلت: تصحف اسمه في المطبوع إلى (عُبَاب) والصواب (حُبَاب) كما في المخطوط و"تعجيل المنفعة"ص 82 و" المؤتلف والمختلف"للدارقطني (1/ 477) و) الإكمال" (2/141) .
- وفي ص (54) س (1) قوله: (أحمد) .
قلت: وقع في المطبوع (أبو أحمد) ، ولفظة (أبو) مقحمة، ولأحمد ابن الحجاج ترجمة في "تاريخ بغداد" (4/116) و"تهذيب الكمال" (1/287) و"تهذيب التهذيب" (1/22) .
- وفي ص (62) س (4) قوله: (عَديّ) .
قلت: وقع في المطبوع (علي) وهو تصحيف، والصواب (عَديّ) كما في المخطوط و"طبقات ابن سعد" (6/407) و"التاريخ الكبير" (3/ 424) و"الجرح والتعديل" (3/ 600) و"تاريخ بغداد" (8/ 455) و"تهذيب الكمال" (9/ 364) و"سير أعلام النبلاء" (10/ 442) و"تهذيب التهذيب" (3/ 331) .
- وفي ص (63) س (2) قوله: (عمر بن الحكم) .
قلت: وقع في المطبوع (عَمرو بن أبي الحكم) وهو تحريف والصواب (عُمر بن الحكم) كما في المخطوط و "الثقات" لابن حبان (5/147) و"تهذيب التهذيب" (7/ 436) .
- وفي ص (70) س (6) قوله: (بن حارثة) .(35/237)
قلت: وقع في المطبوع (عن حارثة) وهو خطأ، والصواب (بن حارثة) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (8/ 310) و"الثقات"لابن حبان (5/525) و"تعجيل المنفعة"ص 447.
- وفي ص (93) س (14) قوله: (المَخْرميّ) .
قلت: هكذا ضبطه الحافظ السمعاني في "الأنساب" (12/ 130) وله ترجمة في "التاريخ الكبير" (5/ 62) و" الجرح والتعديل" (5/ 22) و"ميزان الاعتدال" (2/ 403) و"سير أعلام النبلاء" (7/328) و"تهذيب التهذيب" (5/ 171) ، ووقع في المطبوع (5/240) : (المخزومي) وهو تصحيف.
- وفي ص (94) س (4) قوله: (الحداني) .
قلت: وقع في المطبوع (الحراني) وهو تصحيف، والحُدَّاني مترجم في "تهذيب الكمال" (3/272) وغيره.
- وفي ص (98) س (16) قوله: (أبي أسد) .
قلت: وقع في المطبوع (3/183) : (سهيل بن أبي الأسد) وهو خطأ، وصوابه: (سهل أبي الأسد) كما في "المؤتلف والمختلف" للدارقطني (4/1847) و"الإكمال" (1/83) و"توضيح المشتبه" (1/199) و"تهذيب التهذيب" (7/397) وجاء في المطبوع في السند الذي قبله (3/129) : (علي أبي الأسد) ، وهذا الاختلاف في اسمه حققه الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (3/398) فقال: "قلت: جَزَمَ الدارقطني وجماعة قبله أن شعبة وهَمَ فيه إذ سماه علياً، وإنما هو سَهْل، وكناه أبا الأسود، وإنما هو أبو الأسد ... وروى عنه الأعمش ومسعر والمسعودي على الصحة".
- وفي ص (110) س (6) قوله: (سُهَيْل) .
قلت: وقع في المطبوع (سهل) وهو تحريف، وصوابه (سُهَيْل) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (4/103) و"الجرح والتعديل" (4/ 245) و"سير أعلام النبلاء" (1/ 194) و"تهذيب التهذيب" (4/ 264) .
- وفي ص (124) س (14) قوله: (ثنا بهز وحجاج) .
قلت: وقع في المطبوع (ثنا بهز، ثنا حجاج) والصواب: (ثنا بهز وثنا حجاج) . انظر "تهذيب الكمال ترجمة سليمان بن المغيرة وبهز وحجاج".
- وفي ص (128) س (12) قوله: (حسن) .(35/238)
قلت: وقع في المطبوع (3/156) (حسن) ، والأمر محتمل.
- وفي ص (134) س (13) قوله: (عنه به) .
قلت: أي: (حماد عن ثابت) بينما تحرف في المطبوع (3/242) إلى (حماد عن سالم) .
- وفي ص (136) س (12) قوله: (العبسي) .
قلت: وهو تحريف، ووقع في المطبوع (عن حبيب عن قيس) وهو تحريف أيضاً، وصوابه: (عن حبيب القيسي) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (2/316) و"الثقات"لابن حبان (6/249) و"تعجيل المنفعة"ص 85.
- وفي ص (141) س (7) قوله: (شريح) .
قلت: وقع في المطبوع (3/184) : (شعيب) ، وهو خطأ، وصوابه: (شريح) كما في المخطوط و"الثقات"لابن حبان (7/ 335) ، و"تعجيل المنفعة"ص 338.
- وفي ص (151) س (1) قوله: (سهل) .
قلت: وقع في المطبوع (3/106) : (سهيل) وهو خطأ، وصوابه: (سَهْل) كما في المخطوط وهو مترجم في "التاريخ الكبير" (4/ 102) و"الثقات" لابن حبان (6/407) و"تهذيب التهذيب" (4/ 259) .
- وفي ص (176) س (7) قوله: (نصر) .
قلت: وقع في المطبوع (نضرة) وهو تحريف، صوابه: (نَصْر) كما في المخطوط و"تحفة الأشراف" (1/ 217) و" تهذيب الكمال" (7/ 403) ، (8/ 369) .
- وفي ص (182) س (13) قوله: (عنه) .
قلت: أي سعد بن سعيد كما في العنوا ن، ووقع في المطبوع: (سعيد بن سعد) وهو خطأ، وصوابه: (سعد بن سعيد) وترجمته في "التاريخ الكبير" (4/56) و"الجرح والتعديل" (4/ 84) و"تهذيب الكمال" (0 1/ 262) و"سير أعلام النبلاء" (5/ 482) و"ميزا ن الاعتدال" (2/ 120) و"تهذيب التهذيب" (3/ 470) .
- وفي ص (184) س (9) قوله: (عنه) أي: سعيد بن يزيد.
قلت: لكن وقع في المطبوع (3/166) : (سعيد) يعني: (ابن زيد) وهو تحريف، وانظر: "التاريخ الكبير" (3/ 520) و"التقريب"وأصوله.
- وفي ص (190) س (1) قوله: (عَارِم) .(35/239)
قلت: وقع في المطبوع (عامر) وهو تصحيف، وعَارِم هو لقب الحافظ محمد بن الفضل السدوسي البصري، ترجمته في "طبقات ابن سعد" (7/ 305) و"التاريخ الكبير" (1/208) و"الجرح والتعديل" (8/58) و"سير أعلام النبلاء" (10/ 265) و"تهذيب التهذيب" (9/ 402) .
- وفي ص (193) س (14) قوله: (يحيى) .
قلت: وقع في المطبوع (حسين) بدل (يحيى) وهو خطأ، صوابه (يحيى) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (8/298) و"الثقات" لابن حبان (9/ 261) و"تهذيب التهذيب" (11/263) .
- وفي ص (197) س (7) قوله: (عمرو) .
قلت: وقع في المطبوع (3/221) : (عمر) وصوابه (عمرو) كما في المخطوط و"تعجيل المنفعة"ص 333.
- وفي ص (202) س (4) قوله: (عن أسود بن عامر) .
قلت: وقع في المطبوع (3/ 179) : (عن أسود بن عامر ثنا شاذان) ولفظة (ثنا) مقحمة، لأن (شاذان) لقب (أسود بن عامر) ، انظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (202) س (4) قوله: (عنه) ،
قلت: أي عن عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك صاحب العنوان، فوقع في المطبوع (3/ 179) : (ابن جبير) وهو تحريف.
- وفي ص (206) س (13) قوله: (ووكيع) .
قلت: جاءت روايته في المطبوع (3/119) : (ثنا وكيع، عن يحيى) صوابه (ثنا وكيع ويحيى) .
- وفي ص (218) س (7) قوله: (وكيع) .
قلت: وقع في رواية وكيع من المطبوع (3/ 120) : (غياث) بدل (عتاب) ، وهو تصحيف، وله ترجمة في "التاريخ الكبير" (7/ 55) و"الثقات" لابن حبان (5/ 274) و"تهذيب التهذيب" (7/93) .
- وفي ص (220) س (9) قوله: (عبد الله بن أبي بكر) .
قلت: وقع في المطبوع (3/213) : (عبد الله بن أبي بكر) ولفظة (أبي) مزيدة، وهو مترجم في "التاريخ الكبير" (5/52) و"الثقات"لابن حبان (7/26) و"تهذيب التهذيب") (5/163) .
- وفي ص (226) س (6) قوله: (عنه) .(35/240)
قلت: أي عن صاحب الترجمة وهو (عمرو بن عثمان بن جابر) ، بينما وقع في المطبوع (3/ 224) : (عثمان بن جابر) ، وقد ذكر هذا الحديث الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 320) (باب الحرب خدعة) ، وقال: "رواه أحمد بإسنادين في أحدهما عمرو بن جابر، وثقه أبو حاتم، ونسبه بعضهم إلى الكذب"وعمرو بن جابر هو أبو زرعة الحضرمي له ترجمة في "ميزان الاعتدال" (3/ 250) و"تهذيب التهذيب" (8/ 11) .
- وفي ص (227) دس (11) قوله: (عن يونس) .
قلت: وقع في المطبوع (3/ 144) في رواية يونس: (عن عمرو بن أنس) ، وصوابه: (عن عمرو، عن أنس) وهو صاحب الترجمة عن أنس رضي الله عنه.
- وفي ص (230) س (1) قوله: (أيوب) .
قلت: وقع في المطبوع (3/ 111) : (أبي أيوب) ، ولفظة (أبي) مقحمة، وهو أيوب السختياني المترجم في "تهذيب التهذيب" (1/397) .
- وفي ص (233) س (12) قوله: (عبد الله بن سعد) .
قلت: وقع في المطبوع (3/279) : (عبيد الله) وهو خطأ، والصواب (عبد الله ابن سعد) كما في المخطوط و "الثقات" لابن حبان (8/ 366) و"تهذيب التهذيب" (5/ 234) .
- وفي ص (266) س (8) قوله: (أزهر بن القاسم) .
قلت: وقع في المطبوع (3/147) : (بهز بن القاسم) بدل (أزهر بن القاسم) وهو تحريف، وانظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (275) س (13) قوله: (عنه به) .
قلت: أي عن صاحب الترجمة، وهو: محمد بن أبي بكر الثقفي، ووقع في المطبوع (3/147) : (عن محمد عن أبي بكر الثقفي) وصوابه (عن محمد بن أبي بكر الثقفي) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (1/ 46) و"الثقات"لابن حبان (5/368) و"تهذيب التهذيب" (9/79) .
- وفي ص (279) س (7) قوله: (عنه) .(35/241)
قلت: أي محمد بن عبد الله بن أبي سليم صاحب الترجمة، ووقع في المطبوع (3/168) : (محمد بن عبد الله بن أبي سليمان) ، وهو تحريف وصوابه (محمد بن عبد الله ابن أبي سليم) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (1/128) و"الثقات"لابن حبان (5/367) وانظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (286) س (5) قوله: (عن قرة) .
قلت: وقع في المسند المطبوع (3/247) : (قرة بن شهاب) وصوابه: (قرة، عن ابن شهاب) كما في المخطوط، وابن شهاب هو الزهري صاحب الترجمة عن أنس.
- وفي ص (292) س (16) قوله: (مُعَيْد) .
قلت: وقع في المطبوع (3/187) (سعيد) بدل (مُعَيْد) وهو تحريف، انظر "الإكمال" (7/ 264) ، و"التبصير" (3/1297) ، و"التاريخ الكبير" (3/ 364) ، و"المؤتلف والمختلف"للدارقطني (4/2029) ، و"تحفة الأشراف" (1/410) ، و"تهذيب التهذيب" (2/418) .
- وفي ص (293) س (14) قوله: (هشام) .
قلت: وقع في المطبوع (3/223) (هاشم) بدل (هشام) . وهو تحريف. انظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (296) س (13) قوله: (عنه) .
قلت: أي نبيط بن عمر الراوي عن أنس، وقع في المطبوع (3/155) (نبيط ابن عمْرو) ، وصوابه: (نبيط بن عُمَر) كما في المخطوط، وهو مترجم في "الثقات"لابن حبان (5/483) ، و"تعجيل المنفعة"ص 420.
- وفي ص (300) س (7) قوله: (عَوْن) .
قلت: وقع في المطبوع (3/190) : (عوف) وهو خطأ، وصوابه: (عَون) كما في المخطوط و"تهذيب الكمال" (11 /338) ، و"تهذيب التهذيب" (5/ 346) .
- وفي ص (301) س (3) قوله: (عُمر) .
قلت: وقع في المطبوع (3/ 255) : (عَمرو) وهو تحريف، وصوابه: (عُمر) كما في المخطوط و"تهذيب التهذيب" (11/ 80، 7/ 495) ، و"التاريخ الكبير" (6/ 190) و"الثقات"لابن حبان (7/ 165) و"القول المسدد"ص 9.
- وفي ص (306) س (7) قوله: (مثنى) .(35/242)
قلت: وقع في المطبوع (3/ 190) (موسى) ، وهو تحريف، والصواب: (مثنى) كما في المخطوط و"الثقات"لابن حبان (5/443) و"تهذيب التهذيب" (10/34- 35) .
- وفي ص (324) س (5) قوله: (مؤمل) .
قلت: وقع في المطبوع (6/393) : (مؤيد) وهو خطأ، انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 380) .
- وفي ص (332) س (5) قوله: (ومنصور) .
قلت: وقع في المطبوع (4/ 281) : (قال زبيد أخبرني منصور) وهو تحريف، ويؤيده قول الإمام أحمد آخر هذا السند: (وهذا حديث زبيد) .
- وفي ص (338) س (16) قوله: (يزيد) .
قلت: وقع في المطبوع (4/292) : (زياد) وهو تحريف، والصواب: (يزيد) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (8/ 334) و"الجرح والتعديل" (9/ 265) و"سير أعلام النبلاء" (6/129) و"ميزان الاعتدال" (4/423) و"تهذيب التهذيب" (11/ 329) .
- وفي ص (343) س (4) قوله: (عنه) .
قلت: أي عن (عزرة) الراوي عن أنس، ووقع في المطبوع (4/ 292) : (عروة) وهو خطأ، وعَزْرة هو ابن الحارث الشيباني كما جاء مصرحاً به في "مسند أبي يعلى الموصلي" (3/239) رقم الحديث (1677) وفي "الثقات " لابن حبان (5/279) وفيه هذا الحديث.
- وفي ص (353) س (13) قوله: (عن مسلم بن صبيح) .
قلت: وقع في المطبوع (4/304) : (عن مسلم بن الضحاك) ، وصوابه: (عن مسلم ابن صبيح) كما في"التقريب وأصوله".
- وفي ص (359) س (1) قوله: (عنه) .
قلت: أي: أبو بسرة الغفاري، ووقع في المطبوع (4/292) : (أبو سبرة) ، وصوابه (أبو بُسْرة) كما في المخطوط و"الثقات"لابن حبان (5/573) و"ميزان الاعتدال" (4/ 495) و"تهذيب التهذيب" (12/20) .
- وفي ص (369) س (4) قوله: (بشير) .(35/243)
قلت: وقع في المطبوع (5/352) : (بشر) ، وهو تحريف وصوابه: (بشير) كما في المخطوط وهو مترجم في "طبقات ابن سعد" (6/ 361) و"التاريخ الكبير" (2/ 101) و"الإكمال" (1/ 286) و"ميزان الاعتدال" (1/ 329) و"تهذيب الكمال" (4/ 176) و"تهذيب التهذيب" (1/ 468) .
- وفي ص (376) س (11) قوله: (غَنِية) .
قلت: وقع في المطبوع (5/347) : (عيينة) ، وهو تصحيف، وصوابه: (غَنِيَّة) كما في المخطوط و"المؤتلف والمختلف"للدارقطني (3/ 1656) و"الإكمال" (6/119) و"التبصير" (3/ 927) و"التاريخ الكبير" (2/ 356) و"المؤتلف"لعبد الغني ص 89 و"ذكر أخبار أصبهان" (2/129) و"تهذيب التهذيب" (6/392) و"تحفة الأشراف" (2/ 94) .
- وفي ص (376) س (11) قوله: (الحكم) .
قلت: وقع في المطبوع (5/347) : (الحسن) ، وهو خطأ، والصواب: (الحكم) كما في المخطوط و"تحفة الأشراف" (2/94) و"إتحاف المهرة"جـ1 الورقة 162/ ب، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 110) في كتاب معرفة الصحابة.
- وفي ص (387) س (8) قوله: (عوف) .
قلت: وقع في المطبوع (3/500) : (عون) وهو تصحيف، وصوابه: (عوف) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (5/ 156) ، و"الثقات" لابن حبان (5/42) و"تعجيل المنفعة"ص 231.
- وفي ص (390) س (13) قوله: (شَهر) .
قلت: وقع في المطبوع (6/12) : (سلمة) ، وهو تحريف، وصوابه: (شَهْر) كما في المخطوط و "المعرفة والتاريخ" (2/97) و"طبقات ابن سعد" (7/ 449) و"ذكر أخبار أصبهان" (1/ 343) و"تهذيب التهذيب" (4/ 369) ، و"شذرات الذهب" (1/ 119) .
- وفي ص (392) س (2) قوله: (شجاع) .
قلت: وقع في المطبوع (6/ 14) : (الحكم) ، وهو تحريف، وصوابه: (شجاع) كما في المخطوط و"التاريخ الكبير" (7/ 372) و"طبقات ابن سعد" (7/ 485) و"ميزان الاعتدال" (4/ 91) و"تهذيب الكمال" (8/ 258) .
- وفي ص (393) س (9) قوله: (بُكير) .(35/244)
قلت: وقع في المطبوع (6/ 15) : (كثير) ، وصوابه: (بُكَيْر) كما في المخطوط، "والتقريب وأصوله".
- وفي ص (394) س (3) قوله: (حماد بن سلمة) .
قلت: وقع في المطبوع (6/15) : (يعنى ابن أبي سلمة) ، ولفظة (أبي) مقحمة وانظر "التقريب وأصوله".
- وفي ص (396) س (12) قوله: (إليّ) .
قلت: وقع في المطبوع (6/ 15) : (أبي) ، وهو تحريف.
- وفي ص (228) س (6) قوله: (محمد بن إسحاق) .
قلت: وقع في المطبوع (محمد بن أبي إسحاق) ، ولفظة: (أبي) مزيدة وهو خطأ، ترجمته في "طبقات ابن سعد" (7/321) و"التاريخ الكبير" (1/40) و"الجرح والتعديل" (7/191) و"سير أعلام النبلاء" (7/33) و"تهذيب التهذيب" (9/38) .
و على أن المحقق قد يذكر المفارقات بدون تصحيح:
- ففي ص (57) تعليقة (3) قوله: (وفيه ليث عن عقيل) .
قلت: كذا قال ولم يحرر فيه، والصواب هو ما في المسند المطبوع (5/203) من (ليث عن عقيل) كما في "تحفة الأشراف" (1/ 52) و"المعجم الكبير"للطبراني (1/ 162) و"تهذيب التهذيب" (7/255) ، وما وقع في المخطوط والمطبوع (ليث عن يزيد) فتحريف.
- وفي ص (229) س (4) قوله: (ثنا هاشم، عنه به) .
قلت: كذا وقع في المخطوط وهو خطأ، وصوابه: (ثنا يحيىبن إسحاق، ثنا مهدي، عنه به) ، كما في "تحفة الأشراف" (1/297) رقم الحديث (1129) و"تهذيب التهذيب" (10/326-327) .
ز- إهماله ذكر المغايرات أحياناً بين ما في الأصل الخطي وبين ما في المطبوع:
- ففي ص (99) س (10) قوله: (ابن أبي خزيمة) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، ولفظة (ابن) مقحمة، وأبو خزيمة هذا مختلف في اسمه، فقيل: صالح بن مرداس، وقيل: نصربن مرداس، له ترجمة في "التاريخ الكير" (4/ 289) ، 290) و"الثقات "لابن حبان (6/ 465) و"تهذيب التهذيب " (12 /85) .
- وفي ص (124) س (3) قوله: (وعن عبد الرزاق عن معمر، كلاهما عنه به) .(35/245)
قلت: كلاهما أي: معمر وحماد، عنه أي: ثابت البناني صاحب العنوان، به أي: بالحديث.
قلت: لكن رواية عبد الرزاق في المسند المطبوع (3/165) هي (عن معمر، عن الأشعث بن عبد الله، عن أنس) ، ولم يبين المحقق ذلك.
- وفي ص (152) س (3) قوله: (وعن يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن حميد، نحوه) .
قلت: ترك المحقق هذه التعليقة غفلاً والواقع أنها مكررة من الحديث الذي بعده ولا يقابلها شيء من المسند المطبوع فتنبه.
- وفي ص (169) س (14) قوله: (عن خلف) .
قلت: رواية خلف في المطبوع (3/ 156 -157) : عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أنس، وليس كما قال الحافظ: عن أبي جعفر، عن حميد، عن أنس، ولأبي جعفر الرازي رواية عن حميد الطويل وعن الربيع بن أنس كما في "تهذيب الكمال" (9/ 61) و"تهذيب التهذيب" (12/56) .
- وفي ص (193) س (1) سقط لم يتنبه له وهو ساقط من أصل المخطوط وهو قوله "فيشفعون له"وهو موجود في نسخة خطية أخرى وفي المطبوع (3/266) أيضاً.
- وفي ص (219) س (9) قوله: (ثنا سليمان بن داود، ثنا فليح، عنه به) . علق عليه بقوله (لم أجده) .
قلت: هذا السند إنما هو للحديث الذي قبله (674) وانظر المسند المطبوع (3/150) وفيه (عن قريش) صوابه (من قريش) .
- وفي ص (220) س (3) قوله: (ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، حدثني أبي بهذا) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وفيه تحريف وزيادة، والصواب: (ثنا روح عن عطاء بن أبي ميمونة بهذا) كما في المطبوع (3/112) ، و"تحفة الأشراف" (1/ 289) و"تهذيب الكمال" (9/252) ، وانظر ترجمة عطاء بن أبي ميمونة في التقريب وأصوله.
- وفي ص (220) س (5) قوله: (عن عطاء) .(35/246)
قلت: وقع في المسند المطبوع (3/259) : (ثنا شعبة، عن أبي معاذ عن عطاء بن أبي ميمونة) ، ولفظة (عن) الثانية مقحمة، لأن (أبا معاذ) كنية عطاء بن أبي ميمونة كما في ترجمته في "التاريخ الكبير" (3/ 469) و"الجرح والتعديل" (6/337) و"ميزان الاعتدال" (3/ 76) و"تهذيب التهذيب" (7/215) .
- وفي ص (228) س (5) قوله: (عن عبد الرحمن، عن مالك. وعن محمد ابن فضيل عن محمد بن إسحاق كلهم عنه به) .
قلت: إنما هي في أصل المخطوط أوردها الحافظ للحديث بعده سهواً، وإن كان الصواب إلحاقها هنا، وتصرف المحقق بذلك ولم يبين حقيقة الأمر.
- وفي ص (309) س (8) قوله: (كلاهما) .
قلت: وقع في المطبوع زيادة: (كلاهما عن منصور، عن ربعي) ، وهي ضرورية لأن سفيان وزائدة المذكورين في الأسانيد من الرواة عن منصور بن المعتمر كما في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (10/313) .
- وفي ص (346) س (14) قوله: (معتمر بن سليمان، عن حجاج، كلاهما، عنه، به) ، وعلق عليها برقم (10) بقوله: لم أجده.
قلت: هذا السند مقحم من الحديث الذي بعده، وهو موجود في المسند المطبوع (4/ 295 و 301) .
- وفي ص (379) س (7) قوله: (عبد الله بن سعيد) .
قلت: كذا وقع في المخطوط (بن) ، وصوابه: (عن) كما في المسند المطبوع (4/181) ، وعبد الله هو ابن المبارك يروي عن سعيد بن زيد القِتْباني كما في "تهذيب الكمال " (11/118) و"تهذيب التهذيب " (5/383، 4/101) .
- وفي ص (381) س (2) قوله: (أو أبو بشر) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، ولفظة: (أبو) مقحمة، وقيل في اسمه: بشير أو بُشير، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/156) (ط السعادة) و"تعجيل المنفعة" ص 51-52.
- وفي ص (388) س (9) قوله: (ربيعة) .(35/247)
قلت: وقع في المطبوع: (ابن ربيعة) ولفظة: (ابن) مقحمة. وسقط لفظ (أبي) من المخطوط وهو (ربيعة بن أبي عبد الرحمن) ، المعروف بربيعة الرأي، له ترجمة في "التاريخ الكبير" (2/286) و"تاريخ بغداد" (8/420) و"تهذيب الكمال" (9/123) و"سير أعلام النبلاء" (6/ 89) و"تذكرة الحفاظ" (1/157) و"تهذيب التهذيب" (2/ 258) و"شذرات الذهب" (1/ 194) .
10- ليس عنده دقة في تتبعه للحافظ:
- ففي ص (234) س (8) قوله: (وليس في حديث محمد بن جعفر وحده ذكر عبد الرحمن بن عوف) .
قلت: بل في رواية محمد بن جعفر (3/373، 255) ذكر لعبد الرحمن ابن عوف، فتأمل.
- وفي ص (275) س (5) قوله: (ابن سعيد لم يدرك أنساً) .
قلت: لكن الذين ترجموا له أثبتوا له رؤية أنس بن مالك كما في "التاريخ الكبير" (7/418) و"تهذيب التهذيب" (10/34) ، وفي المطبوع تصريح المثنى بالسماع من أنس، ففيه: "قال سمعت أنساً يقول ... " والله أعلم.
- وفي ص (322) س (8) قوله: (عن بهز، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء عن أوس، نحوه) .
قلت: هذا السند إنما هو للحديث الذي بعده (1033) وأوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ… وهو سهو، وحقه أن يذكر هنا.
- وفي ص (377) س (10) قوله: (عبد الرحمن بن أبي بكرة) .
قلت: كذا وقع في المخطوط، وصوابه: (عبد الرحمن بن جَوْشَن صِهْر أبي بكرة) . انظر "تهذيب التهذيب" (6/155) و"طبقات ابن سعد" (7/228) .
- قوله في ص (238) التعليقة (1) : [المسند (3/125) والأولى به أن يكون من مسند أبي هريرة إذْ هو: عن همام، حدثنا قتادة، عن أنس، أو عن رجل، عن أبي هريرة ... فذكره. كذا وقع في المطبوع، والله أعلم] .
قلت: وفي كلامه تخليط عجيب:
1- لأن قوله (الأولى به أن يكون من مسند أبي هريرة) خطأ، لأن هذا الحديث مروى من وجهين:
أ- عن قتادة، عن أنس.
ب- وعن رجل، عن أبي هريرة.(35/248)
2- قوله (كذا في المطبوع) فيه إشارة إلى عدم صحة ما في المطبوع، قلت: بل الصواب ما في المطبوع.
والحديث ذكره الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" (1/ 360- 361) حديث رقم (1411) بهذا السند، وأعاده الحافظ المزي في مسند أبي هريرة رضي الله عنه برقم (15466) والله أعلم.
- وفي ص (127) س (8) قوله: (ثنا عبد الرزاق) .
قلت: وقع في المخطوط: (عبد الرحمن) ، والمثبت من المطبوع، والروايات التي قبل هذا الحديث والتي بعده في المطبوع كلها من رواية عبد الرزاق، وقد روى هذا الحديث أبو داود من طريق الإمام أحمد عن عبد الرزاق كما في "تحفة الأشراف" (1/ 105) .
11- اعتبار الحديث من الزيادات مع عدم تنبيه المحقق:
- ففي ص (246) حديث (765) قوله: (قال عبد الله، حدثنا محمد بن يسار، حدثنا سعيد بن عامر، حدثنا شعبة، عنه به) ، أورد هذا الحديث من زيادات عبد الله وعزاه للمسند المطبوع (3/278) .
قلت: هو في المسند المطبوع (3/278) من طريق الإمام أحمد ولم ينبه عليه المحقق، ولعل الصواب أنه من زيادات عبد الله على المسند كما ذكره الحافظ، ومحمد بن بشار من مشايخ عبد الله بن أحمد كما هو مذكور في "تاريخ بغداد" (2/ 101) و"سير أعلام النبلاء" (12/ 145) و"تهذيب التهذيب " (9/ 71) ، ووقع عنده أيضاً "محمد بن يسار"والصواب "محمد بن بشار"كما في "التقريب وأصوله"والمصادر السابقة.
- وفي ص (358) حديث (1126) قلت: أورده الحافظ ابن حجر من الزوائد، وعزاه المحقق إلى المسند المطبوع (4/292) وقال: "ولكنه في المطبوع ليس من الزوائد".
قلت: بل هو في المطبوع من الزوائد كما ذكره المؤلف.
12- نظرة فاحصة لما استدركه المحقق على المصنف، وهو يحتوى على عدة نقاط:
الأولى: استدراك المحقق أحاديث في غير موضعها الصحيح:
1- ص (342) ، التعليقة رقم (8) في ترجمة عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب.(35/249)
قلت: هذا الحديث المستدرك إنما هو من رواية البراء بن عازب، عن عمّه أو خاله، وموضعه الصحيح في المبهمات في آخر الكتاب.
2- ص (357) ، التعليقة رقم (4) في ترجمة يزيد بن البراء، عن البراء بن عازب.
قلت: هو أيضاً من رواية البراء، عن خاله، وموضعه في المبهمات.
الثانية: استدراك المحقق أحاديث وقد ذكرها الحافظ ابن حجر في موضعها من التراجم المذكورة:
1- ص (141) ، حديث مستدرك في ترجمة ثابت البناني، عن أنس رقم (1) .
قلت: تقدم برقم (259) وفيه هذا السند.
2- ص (145) ، ترجمة (حبيب الشهيد، عن أنس بن مالك) ، حديث مستدرك برقم (1) .
قلتُ: هذا الحديث ذكره الحافظ برقم (418) من نسختنا، ورواية سليمان ابن حرب في المطبوع إنما هي من رواية حبيب بن الشهيد، عن الحسن- وهو البصري- عن أنس بن مالك، فتأمل!!
3- ص (171) ، ترجمة (حميد الطويل، عن أنس) ، حديث مستدرك برقم (3) .
قلتُ: هذا الحديث ذكره الحافظ برقم (408) من نسخة المحقق، وفيه السند المذكور في الاستدراك، والعزو الذي ذكره المحقق للحديث (408) لم أجده في المطبوع، فتأمل!!
4- ص (172) ، ترجمة (حميد الطويل، عن أنس) ، حديث مستدرك برقم (15) .
قلتُ: هذا الحديث المستدرك من رواية عفان إنما هو طرف من الحديث المتقدم في نسخة المحقق برقم (500) وفيه رواية عفان، وعلّق المحقق عليها في الحاشية: "ولم أجده عن عفان"!.
5- ص (173) ، ترجمة (حميد الطويل، عن أنس) ، حديث مستدرك برقم (24) .
قلتُ: تقدم هذا الحديث في نسخة المحقق برقم (411) وفيه رواية أبي خالد- وهو سليمان ابن حيان- وعلي بن عاصم التي استدركها المحقق، وعلّق عليها، في الحاشية بعد ذكر الحديث (411) : "لم أجده"، فتأمل!.
6- ص (273) ، ترجمة (قتادة، عن أنس) ، حديث مستدرك برقم (3) .(35/250)
قلتُ: تقدم في نسخة المحقق برقم (771) ، وفيه الروايات المذكورة في الاستدراك والتي قال المحقق في ص (248) تعليقة (2) و (3) : "لم أجده"!.
الثالثة: استدراك المحقق أحاديث وقد ذكرها الحافظ في تراجم أخرى، وكان على المحقق أن يربط بينهما:
- ص (213) ، حديث مستدرك برقم (1) في ترجمة عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
قلتُ: سيذكر الحافظ هذا الحديث برقم (980) من نسخة المحقق، وفيه هذه الرواية المستدركة.
الرابعة: استدراك المحقق تراجم وأحاديث وهي مذكورة في الورقة التي نقصت من المخطوطة التي اعتمد عليها:
1- ص (145) ترجمة (جعفر بن عَمْرو بن أمية الضمري، عن أنس) .
قلت: له حديث مذكور في نسختنا برقم (407) .
2- ص (145) ترجمة (حجاج بن حسان، عن أنس) .
قلت: له حديث واحد رقمه (409) في نسختنا المحققة.
3- ص (145) ترجمة (الحسن بن أبي الحسن البصري، عن أنس) .
قلتُ: له أحاديث من رقم (410) - (418) بتحقيقنا.
4- ص (146) ترجمة (الحضرمي بن لاحق، عن أنس) .
قلت: له حديث واحد ذكر في نسختنا برقم (419) .
5- ص (146) ترجمة (حفص بن عبيد الله، عن جده أنس بن مالك) .
قلتُ: له حديثان في نسختنا برقم (420) و (421) .
6- ص (146) ترجمة (حفص بن عمر بن عبد الله، عن عمّ أبيه أنس) .
قلتُ: له في نسختنا ستة أحاديث، من رقم (422) - (427) .
7- ص (147) ترجمة (حماد بن أبي سليمان، عن أنس) .
قلت: له حديث واحد مذكور في نسختنا برقم (428) .
8- ص (147) ترجمة (حمزة الضبي، عن أنس) .
قلت: له ثلاثة أحاديث في نسختنا برقم (429) و (430) و (431) ، وفي كر المحقق حديثين فقط.
الخامسة: فات المحقق تراجم لم يستدركها بسبب نقص ورقة من المخطوطة الوحيدة التي اعتمد عليها في التحقيق:(35/251)
1- ترجمة (جبر بن عبد الله، عن أنس بن مالك) ورقمها (30) في كتابنا المحقق. في هذه الترجمة حديث واحد، ورقة (404) .
2- ترجمة (الجعد أبو عثمان، عن أنس) ، ورقمها (31) . له حديثان برقم (405) و (406) .
3- ترجمة (جعفر بن معبد ابن أخي حميد بن عبد الرحمن الحِمْيَري، عن أنس) ، ورقمها (33) . له حديث واحد برقم (408) في كتابنا المحقق.
السادسة: استدراك المحقق أحاديث بسبب نقص ورقة من المخطوطة الوحيدة التي اعتمد عليها.
1- ص (171) ، حديث مستدرك برقم (2) في ترجمة حميد الطويل، عن أنس.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (444) .
2- ص (171) ، حديث فستدرك برقم (4) .
قلت: رقمه في نسختنا (442) .
3- ص (172) ، حديث مستدرك برقم (6) .
قلتُ: ذكر برقم (440) في نسختنا المحققة.
4- ص (172) ، حديث رقم (9) مستدرك.
قلت: هو مذكور برقم (437) في نسختنا.
5- ص (172) ، حديث مستدرك برقم (10) .
قلت: هو في نسختنا برقم (436) .
6- ص (172) ، حديث رقم (12) مستدرك.
قلت: رقمه (435) في نسختنا.
7- ص (172) ، حديث رقم (13) مستدرك.
قلت: رقمه (434) في نسختنا.
8- ص (172) ، حديث رقم (14) مستدرك.
قلت: رقمه (433) في نسختنا.
9- ص (172) ، حديث رقم (16) مستدرك.
قلت: رقمه (432) في نسختنا.
10- ص (173) ، حديث رقم (26) مستدرك.
قلت: هو في نسختنا برقم (445) .
11- ص (173) ، حديث مستدرك برقم (27) .
قلت: رقمه في نسختنا (439) .
السابعة: استدراك المحقق أحاديث وهي طرف من أحاديث تقدمت:
1- ص (141) ، حديث رقم (3) استدركه المحقق في ترجمة ثابت البناني، عن أنس ابن مالك.
قلت: وهو طرف من الحديث المتقدم عنده برقم (300) .
2- ص (141) ، حديث رقم (4) استدركه في ترجمة ثابت البناني، عن أنس.(35/252)
قلت: وهو موافق للحديث المتقدم برقم (330) ، ولم يذكر المحقق في الاستدراك أوله وهو: "كان يلعق أصابعه الثلاث"، ولم يُنبّه عند ذكر الحافظ ابن حجر للحديث (330) بأنَّ الطرف المذكور له تتمة.
3- ص (141) ، حديث رقم (5) ، استدركه في ترجمة ثابت البناني، ولفظهُ: "كان يُعجبه القرع".
قلت: هو طرف من حديث تقدم عنده برقم (287) ، ومنه قول الحافظ رحمه الله تعالى: ... مختصراً: "كان يُعجبه القرع".
4- ص (141) ، حديث مستدرك برقم (6) في ترجمة ثابت البناني، عن أنس.
قلت: تقدم مثله برقم (361) فينبغي أن يزيده فيه.
5- ص (142) ، حديث رقم (18) مستدرك في ترجمة ثابت البناني، عن أنس.
قلت: هو طرف من الحديث المتقدم برقم (309) وفيه رواية عفان أيضاً.
6- ص (142-143) ، حديث مستدرك برقم (19) في ترجمة ثابت البناني، عن أنس.
قلت: هذا الحديث فيه طرف من الحديث (276) ، والحديث المستدرك في أوله زيادة ينبهّ عليها بعد زيادته في موضعه المذكور.
7- ص (173) ، حديث مستدرك برقم (25) في ترجمة حميد الطويل عن أنس.
قلت: هذا الحديث طرف من الحديث (428) وفيه رواية حسن التي استدركها المحقق، وعلّق عليها في ص (155) : "لم أجده "، فتأمل!.
8- ص (273) ، حديث مستدرك برقم (9) في ترجمة قتادة، عن أنس.
قلت: هو طرف من حديث تقدم في نسخة المحقق برقم (770) .
9- ص (287) حديث مستدرك برقم (1) في ترجمة محمد بن مسلم الزهري، عن أنس. قلت: هو طرف من حديث تقدم في نسخة المحقق برقم (883) .
الثامنة: استدراكه أحاديث وهي موجودة في النسخة الهندية:
1- ص (94) ، التعليقة رقم "3"، في ترجمة أشعث بن عبد الله الحُدّاني، عن أنس.
قلتُ: والحديث مذكور برقم (186) بتحقيقنا.
2- ص (142) ، حديث مستدرك برقم (7) في ترجمة ثابت البناني، عن أنس.
قلتُ: هذا الحديث ذكر في كتابنا المحقق برقم (288) .(35/253)
3- ص (173) ، حديث مستدرك برقم (22) في ترجمة حميد الطويل، عن أنس.
قلتُ: هذا الحديث في نسختنا برقم (441) .
4- ص (194) ، حديث مستدرك في ترجمة طلحة بن نافع، عن أنس، تعليقة رقم "4".
قلتُ: هذا الحديث في نسختنا برقم (638) ، وسقط العزو إلى المسند من نسخة المحقق، وهو (3/113) .
5- ص (213) ، حديث مستدرك برقم (2) في ترجمة عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (696) .
6- ص (213) ، حديث مستدرك برقم (3) في ترجمة عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (708) .
7- ص (273) ، حديث مستدرك برقم (1) في ترجمة قتادة، عن أنس.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (902) .
8- ص (273) ، حديث مستدرك برقم (6) في ترجمة قتادة، عن أنس.
قلتُ: هو حديثان ذكرهما الحافظ برقم (796) و (797) في نسختنا.
9- ص (287) ، حديث مستدرك برقم (2) في ترجمة محمد بن مسلم الزهري، عن أنس.
قلتُ: هو حديث مذكور في نسختنا برقم (972) .
10- ص (294) ، حديث مستدرك في التعليقة (4) في ترجمة موسى بن أنس، عن أنس.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (1011) .
11- ص (353) ، حديث مستدرك برقم (1) في ترجمة عَمْرو السبيعي، عن البراء ابن عازب.
قلتُ: هو مذكور في نسختنا برقم (1173) .
12- ص (354) ، حديث مستدرك في التعليقة (5) في ترجمة المسيب بن رافع، عن البراء.
قلتُ: هو في نسختنا برقم (1172) .
- ص (396) ، التعليقة رقم (4) في آخر مسند بلال بن رباح رضي الله عنه.
قلتُ: هو مذكور في نسختنا برقم (1306) .
13- إهماله وضع فهرس عملي للجزء المحقق:(35/254)
من المعروف أن المدخل إلى كتب الأطراف والاهتداء في الوصول إلى المراد هو الفهرس العام الذي يوضع في مقدمة الكتاب أو في خاتمته كما عمله محقق تحفة الأشراف، وقد خلا منه الجزء الذي قام بتحقيقه فضيلة الأستاذ سمير، فأصبح الوصول إلى المطلوب منه عسراً، لا يمكن إلا بتتبع صفحات الكتاب، وهذا الأمر فيه من الصعوبة مالا يخفى.
هذا آخر ما أردنا إيراده بإيجاز، والله الهادي إلى سبيل الرشاد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الضوء اللامع 8/ 176.(35/255)
وصول بني أمية إلى منصب الخلافة
إعداد
ا. د/ محمد ضيف الله البطاينة
قسم التاريخ بكلية الدعوة وأصول الدين- الجامعة الإسلامية
وصول بني أمية إلى منصب الخلافة:
لا تعدّ خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فاتحة سلطان بني أمية، فاختيار عثمان لم يكن لاعتبارات عائلية، وإنما كان لاعتبارات إسلامية محضة أساسها السبق إلى الإسلام والصحبة، ولم يخلف عثمان بن عفان في الخلافة أحد من ولده أو من بني أمية، ولولا أن الخلافة ظلت من بعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في ولده ثم في بني أمية لما كانت خلافة معاوية بن أبي سفيان فاتحة سلطان بني أمية.
وصول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى منصب الخلافة:
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أُختير أبو بكر رضي الله عنه عام11 هـ خلفا له، ولما توفي عام 13 هـ، اجتمع المسلمون على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فلما طعن الطعنة التي توفي فيها عام 23 هـ، وعزم عليه الصحابة أن يستخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن [1] .
وذكر أبو جعفر الطبري: أن عمر بن الخطاب قال للرهط: وإني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم وقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض [2] .(35/256)
وهي إشارة إلى أن هؤلاء الرهط كانوا من الجماعة الإسلامية في المكانة الأولى، ولعل غيرهم والحال هذه لا يقدر معهم أن يحدث الجماعة الإسلامية عن نفسه في مسألة الخلافة فضلا عن أن يرشح نفسه لها، إلا أن يكون ذلك من أحاديث النفس، ثم أفضت الاتصالات بالناس في عملية الشورى التي أوصى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اختيار عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وتوفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عام 32هـ في حياة عثمان بن عفان، ثم قتل عثمان عام 35 هـ، واختير علي بن أبي طالب رضي الله عنه خليفة، ولكن قتل عثمان بن عفان أحدث فتنة [3] انقسمت لها الجماعة واختلفت فيها الآراء والمواقف، وكانت امتحاناً عسيراً ألقى بين يدي المسلمين بعامة ويدي علي بن أبي طالب بخاصة قضية معقدة لم يكن الْبَتُّ فيها بأهون من قضية القتل نفسه، هذا إلى ما كان من شكاوى الثائرين على عثمان ومطالب المعارضين له والمعترضين على إدارته.
وبعد استخلاف علي بن أبي طالب، خرج طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، والزبير بن العوام رضي الله عنه تقف إلى جانبهما عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون بدم عثمان بن عفان وإصلاح الأمر [4] ، ومناقشة الروايات التي تتحدث عن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام أنهما بايعا علي بن أبي طالب طائعين أو مكرهين لا يغيّر من أنهما خرجا بالسبب الآنف الذكر شيئاً، وقد وقع خروجهم من غير مشورة علي بن أبي طالب ورضاه [5] ، فلما بلغه خبرهم اغتمّ، وقيل إنه قال: أتدرون بمن بليت؟ أطوع الناس في الناس عائشة، وأشد الناس الزبير، وأدهى الناس طلحة، وأيسر الناس يعلى ابن أمية [6] ، وكان يعلى خرج معهم يطلب بدم عثمان وأمدّهم بما يلزم من المال وجهزّهم.
وخشي علي بن أبي طالب أن ينفتق بخروجهم فتق ويفسد الأمر فخرج إلى العراق يتبعهم، فلما اجتمع عنده ما اجتمع من الجند من أهل الكوفة وغيرهم سار إليهم نحو البصرة.(35/257)
وفي البصرة، شق على الناس اختلافهم، ولما سألوهم أجاب كل منهم إنه على الحق، ولكن علي بن أبي طالب زاد على ذلك فقال: إنهم بايعوني وخالفوني [7] .
وفي موضوع الخلاف، ذكر الجاحظ أنه لما حضر علي بن أبي طالب إلى البصرة سفرت الرسل بين الجانبين لفض الخلاف وجمع الكلمة، وكان ممن سفر بين الجانبين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أرسله علي بن أبي طالب إلى الزبير يسأله ويقول له: يقول لك ابن خالك، عرفتني بالحجاز وانكرتني بالعراق، فماعدا مما بدا لك؟ فقال الزبير لعبد الله، أبلغه السلام وقل له: بيننا وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأم مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف فنحلّ ما أحلت ونحرّم ما حرمت [8] .
وقد أورد ابن عساكر في تاريخه رواية مشابهة لرواية الجاحظ أسندها إلى مصعب ابن عبد الله عن أبيه عن موسى بن عقبة بن أبي عياش مولى الزبير بن العوام عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: أتانا ابن عباس بالبصرة في يوم شديد الحرّ، فلما رآه الزبير قال: مرحبا بابن لبابة أزائراً أم سفيراً؟ قال: كل ذلك، أرسلني ابن خالك إليك فقال لك: ما عد مما بدا؟ (أي ما الذي صرفك ومنعك وحملك على التخلف بعدما ظهر منك من التقدم في الطاعة والمتابعة) ، عرفتني بالمدينة وأنكرتني بالبصرة! قال، فجعل الزبير ينقر بالمروحة في الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال: نرفع لكم المصاحف غدا، فما أحلت حللنا وما حرمت حرّمنا، فانصرف، فناداني ابن الزبير وهو في جانب البيت، ابن عباس، عليّ أقبل، قال ابن عباس، فأقبلت عليه وأنا أكره كلامه، فقال: بيننا دم خليفة، وعهد خليفة، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة، وأم مبرورة، ومشاورة العامة، قال: يعنى الثلاثة: الزبير وطلحة وسعد، أقام بالمدينة، وعهد خليفة: عمر بن الخطاب، قال: إذا اجتمعوا وتشاوروا اتبع الأقل الأكثر، ودم خليفة: عثمان بن عفان [9] .(35/258)
وإذا صح ما ذكره الجاحظ وأورده ابن عساكر، فإن طلحة وصحبه كانوا يريدون إعادة النظر في الموقف برمته، من الطلب بدم عثمان وإقامة الحد على قتلته من جهة والالتزام بشورى عمر بن الخطاب في اختيار الخليفة من جهة أخرى، وتحكيم القرآن في كل ما جرى، وهو مطلبٌ جعل عائشة وغيرها من المسلمين يدعون إليه وينصرونه.
ولكن علي بن أبي طالب، وقد سبقت البيعة إليه، كان يرى الدخول في الجماعة والمحافظة على وحدتها وتعزيزها السبيل إلى صلاح الأمر، وباعتباره يمثل الدولة، وأن اليد العليا لا تكون إلا يد الدولة، وأن الناس جميعاً في أخذ الحقوق يرجعون إليها، كان علي بن أبي طالب يرى أن يدخل الجميع في الطاعة: معاوية وآل عثمان والمطالبون بدم عثمان، ثم يحاكمون القتلة إليه، أي إلى الدولة فيحملهم وإياهم على ما في كتاب الله وسنة نبيّه [10] .
وبالرغم من الخلاف بين الجانبين، فلم ينقل أحد في معنى الخلاف أنهم أحدثوا بيعة، ومن أجل فض الخلاف وحلّ النزاع ذكر ابن أبي شيبة [11] ، أنهم ضربوا فسطاطاً بين العسكرين ثلاثة أيام، فكان علي والزبير وطلحة يأتونه فيذكرون فيه ما شاء الله، حتى إذا كان بعد الظهر من اليوم الثالث ولم يكونوا توصلوا إلى اتفاق بدأ القتال بين الجانبين، وقيل إن السباب وقع بين صبيان العسكرين وتراموا وتبعهم الغوغاء فحرشوا بين الناس وأفسدوا مساعي الصلح، فلما انتشبت الحرب لم يكن بدّ من القتال، واشتبك الناس على أية حال، واستمر القتال لساعات، قتل فيه طلحة، وترك الزبير القتال ورجع، فقتل في أثناء رجوعه في الطريق [12] .
وبذلك لم يبق من الرهط الذين سمىّ عمر بن الخطاب للخلافة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ إلا علي بن أبي طالب وهو الخليفة، وسعد بن أبي وقاص الذي اعتزل. وبانتهاء معركة الجمل، أصبح العراق كله في جانب علي بن أبي طالب.(35/259)
أما في بلاد الشام، فكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والياً عليه منذ أيام عمر بن الخطاب، فلما نظر عليّ في أمر الولاة على البلدان قيل إن عبد الله بن عباس والحسن بن عليّ والمغيرة بن شعبة الثقفي كل منهم أشار على عليّ بن أبي طالب أن يُقِرَّ من كان على الولايات من العمال وبخاصة معاوية بن أبي سفيان فلا يعزلهم، فإذا بايع الناس وأتته طاعتهم أقر من شاء واستبدل بمن شاء، وقيل إن عليّ بن أبي طالب أبدى مخاوفه من أن معاوية سيحترز بأخذ المواثيق والعهود عليه لا يعزله، فلما بلغ معاوية ذلك حلف أن لا يلي لعليّ ولا يبايعه ولا يقدم عليه [13] ، وقيل إن عليّ بن أبي طالب عزل معاوية بإشارة أكثر أمرائه عليه ولكن عزله لم يستقم [14] .
والمعلوم أن الولاة من عهد عثمان بن عفان كانوا من أسباب الشكوى والتذمر، وقد يكون عزلهم جاء اقتضاء للأجواء السياسية التي كانت تسيطر على المدينة وضروراتها، وقد يكون قول من قال إنه أشير على عليّ بألا يعزل معاوية، قد يكون ذلك القول جاء تالياً من باب أنه لو لم يعزل عليّ معاوية ما خالفه معاوية ولا اعترض عليه، وهو على آية حال اتهام لمعاوية بأن خلافه مع عليّ كان غضباً للإمارة فحسب.
واتهام معاوية بالحرص على الإمارة فحسبْ في خلافه مع عليّ يَردُ في رواية يحيى ابن سليمان الجعفي [15] بإسناد له قال: إن معاوية قال لجرير البجلي لما قدم علَيه رسولا بعد محاولة طويلة، أكتب إلى عليّ أن يجعل لي الشام، وأنا أبايع له ما عاش، فكتب بذلك إلى علي، ففشا كتابه، فكتب إليه الوليد بن عقبة:
بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
معاوية إن الشام شامك فاعتصم
ولاتك مخشوش الذراعين وانيا
وحام عليها بالقنابل والقنا
فاهد له حربا تشيب النواصيا [16]
فإن علياً ناظر ما تجيبه(35/260)
والقول بفشو كتاب معاوية إلى عليّ بين الناس إنه يعرض عليه تلك المقايضة يهدم الركن الأساسي الذي كان يستند إليه في معارضة عليّ واحتجاجه عليه والتف به الناس من حوله، والتضحية بهذا السند وهذه الحجة لابد أن يقابلها ضمان، وحيث لا ضمان فهل يتصور أن يفعل معاوية ذلك!
وأما الشعر المذكور في الرواية فلا يشير إلى المقايضة، وإنما يؤكد أن مركز معاوية بالشام قويّ ومنيع يحضه على نصب الحرب لعليّ والاستعداد لها ويحذره أن يلين له أو يضعف أمامه.
وذكر صاحب البدء والتاريخ [17] ، أن عليّ بن أبي طالب بعث جرير بن عبد الله البجلي رسولا إلى معاوية يدعوه إلى البيعة فكتب إليه معاوية، إن جعلت لي الشام ومصر طعمة أيام حياتك، وإن حضرتك الوفاة لم تجعل لأحد بعدك في عنقي بيعة بايعتك، فقال عليّ لم يكن الله يراني اتخذ المضلين عضدا.
وهي مثل سابقاتها من الروايات في اتهام معاوية بمخالفة عليّ حبّاً في السلطة، ولكنها تؤكد سوء رأي عليّ فيه، ولو صحت هذه الرواية لكان معاوية يعرف رأي عليّ فيه، ولعلم وهو يقايضه إنما يدخل معه صفقة خاسرة لا يعقل أن يقدم معاوية على إبرامها معه.
ولكن لم يرد منذ أن استخلف عليّ أن معاوية بايعه، وقيل أن أبا مسلم الخولاني جاء وأناس إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً في الخلافة، أوَ أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه والطالب بدمه، فأتُوه، فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان واسِّلمُ له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه، وقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليّ فامتنع معاوية [18] .(35/261)
وقيل كتب عليّ مع جرير البجلي إلى معاوية، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه، فلم يكن لشاهد يختار ولا لغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطَعْنِ أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين، ووصفَ عليَ بن أبي طالب تعليق معاوية البيعة على تسليم القتلى إليه بأنها خدعة الصبي عن اللبن [19] .
وذكرت بعض الروايات أن معاوية بن أبي سفيان، طلب إضافة إلى تسليم القتلة إليه أن يكون الأمر شورى، ذكر ابن شهاب الزهري أن معاوية دعا أهل الشام بعد حرب الجمل إلى قتال عليّ على الشورى والطلب بدم عثمان، فبايعوه أميراً غير خليفة [20] .
وذكر أبو مخنف أن وفد معاوية برئاسة حبيب بن مسلمة الفهري إلى عليّ بن أبي طالب في صفين طلب إليه أن يدفع قتلة عثمان إليهم وأن يعتزل أمر الناس فيكون شورى بينهم [21] .
ولا يبعد أن يكون ذلك صحيحاً، فهو يتفق مع امتناع معاوية بن أبي سفيان عن البيعة لعليّ من جهة، ويتفق مع الدعوة إلى حق أهل الشام في المشاركة في اختيار الخليفة من جهة أخرى، فلما كتب عليّ إلى معاوية بخصوص أهل الشورى، وذكر أنها إنما تكون للمهاجرين والأنصار أجابه معاوية، فما بال من هاهنا، أي في بلاد الشام، من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في الأمر [22] . ويبدو أن الدعوة إلى جعل الأمر شورى جاءت نتيجة للتطورات التي تمثلت بخروج من خرج على عليّ بن أبي طالب من الصحابة.(35/262)
وعلى أية حال، فإن معاوية لم يبايع عليّا، وأظهرَ الطلب بدم عثمان وأخْذ القَوِدَ من قتلته محتجاً بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} الإسراء (33) .
وأما أهل الشام، فكانوا مقتنعين بوجوب أخذ القود من قتلة عثمان، وأن علي بن أبي طالب لم يقتص من أحد منهم، وهو ما يفسر بعض أسباب وقوفهم إلى جانب معاوية.
وإضافة إلى حادثة مقتل عثمان التي أخذت من معاوية كل مأخذ، كان خروج طلحة وصحبه للطلب بدم عثمان وإصلاح الأمر، ووقوف أهل الشام إلى جانب معاوية قد زاد معاوية قوة وشجعه على معارضة عليّ بن أبي طالب، وربما يكون ما رواه هو عن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طرق تفكيره وحدّث به نفسه في هذا الوقت أكثر من ذي قبل، قال معاوية: مازلت أطمع في الخلافة منذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: "يا معاوية إن ملكت فأحسن" [23] .
وإزاء هذا الحال الذي وقف فيه كل جانب يتمسك برأيه واجتهاده، وعجزت السفارات بينهما أن تفعل شيئا لرفع الخلاف، صار الاحتكام إلى السيف لابد منه لإعادة وحدة الأمة الممثلة بوحدة الخلافة.
فسار عليّ بن أبي طالب بأهل العراق يريد الشام، وخرج معاوية بن أبي سفيان بأهل الشام للقائه، واجتمع الطرفان في صفين، وجرت محاولات الإصلاح ثانية بينهما، وطالت الأيام، ولكن مساعي الصلح فشلت مرة أخرى، وقيل إن عبد الله بن عمرو قال من الشعر في هذه المناسبة:
بصفين يوماً شاب منها الذوائب
لو شهدت جمل مقامي ومشهد
سحاب ربيع رفعته الجنائب
عشية جاء أهل العراق كأنهم
من البحر مدٌّ موجهُ متراكب
وجئناهم نمشي كأن صفوفنا
سراة النهار ما تولى المناكب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم
كتائب منهم فأرجفت كتائب(35/263)
إذا قلت قد ولو سراعاً بدت لنا
عليّا، فقلنا: بل نرى أن نضارب [24]
فقالوا لنا: إنا نرى أن تبايعوا
ودار القتال بين الجانبين في الأول من صفر لعام 37 هـ، ومرت الأيام والقتال يشتد فيها ضراوة، وذكر ابن كثير قال: "كان أهل صفين عرباً يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام فتصابروا واستحيوا من الفرار" [25] وقاتلوا حتى كرهوا القتال وكرهوا الحرب ورأوا أن الحرب تأكلهم، وأنهم إنما يقطعون أيديهم بأيديهم، ويجدّون أجنحتهم بأسيافهم، فلما رفعت المصاحف من جانب أصحاب معاوية، ونودي هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور العراق بعد أهل العراق، قال أصحاب عليّ ننيب إلى كتاب الله، ومالوا إلى الموادعة والكف وتداعوا إلى الصلح والأئتمار بما في القرآن وتحكيمه [26] ، وقيل إن الأشعث بن قيس كان من أكثر أصحاب علي بن أبي طالب تحمسا لوقف القتال وقبول التحكيم، وقيل إنه قال من الشعر [27] .
عليها كتاب الله خير قرآن
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا
أما تتقي الله أن يهلك الثقلان
ونادوا عليا يا ابن عم محمد
وجاء عن معاوية أنه كتب إلى عليّ بن أبي طالب يقول له: إن أول من يحاسب على هذا القتال أنا وأنت، وأنا أدعوك إلى حقن هذه الدماء وألفة الدين، وإطراح الضغائن، وأن يحكم بيني وبينك حكمان [28] .
وقد نسب رفع المصاحف من جانب معاوية إلى عمرو بن العاص، وقيل إنها فكرة ابتدعها لينقذ معاوية من الهلاك بعدما رأى أمر علي يعلو ويشتد [29] .
ولكن رفع المصاحف كان قد جرى من قبل، ففي معركة الجمل قيل إن عليّ بن أبي طالب قال لفتى من أصحابه تطوع أن يعرض المصحف على الناس قال له: اعرض عليهم هذا، وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره والله في دمائنا ودمائكم [30] .(35/264)
وقيل إن عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لكعب بن سور قاضي البصرة، خلّ عن البعير وتقدم بكتاب الله عز وجل فادفعهم إليه ودفعت إليه مصحفاً [31] .
وقيل لما اشتد القتال في الجمل قام رجل من عبد القيس قال: ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل [32] .
وفي صفين اشتدت الحرب دون أن ينتصف فريق على الآخر، وكان أصحاب علي ينكشفون مرة ويزول أصحاب معاوية عن مواقعهم مرة أخرى [33] .
وروى أبو مخنف أنه لما كتبت صحيفة التحكيم، أبى الأشتر أن يكتب اسمه في الشهود عليها وقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خطّ لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أولست على بينة من ربى، ومن ضلال عدوى، أو لستم قد رأيتم الظفر لو لم تجمعوا على الجور، فقال له الأشعث بن قيس: إنك والله ما رأيت ظفراً ولا جورا، هلم إلينا فإنه لا رغبة بك عنا [34] .
ورفع المصاحف من جانب أصحاب معاوية دون أصحاب علي كان مظنة القول برجحان كفة علي، وأن رفع المصاحف كانت خدعة دبرها أصحاب معاوية.
كان جانب علي بن أبي طالب يمثل الدولة، وكان عليّ قال لمعاوية قبل نشوب القتال: حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على ما في كتاب الله وسنة نبيه، وفشلت المفاوضات ومحاولات الصلح ووقعت الحرب بين الجانبين ظنا منهما أن يكون لأحدهما الاقتدار على الآخر فينفذ ما يرى من حكم الله في الأمر ولذلك لم يكن من المأمول أن تقوم الدولة برفع المصاحف ودعوة أصحاب معاوية إلى تحكيم كتاب الله مرة أخرى وهي لم تبلغ حد الاقتدار، ولكن رفع المصاحف من جانب معاوية والدعوة إلى تحكيم كتاب الله يعنى أنهم رجعوا إلى ما دعوا إليه واستجابوا [35] .(35/265)
والدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة عليّ والبيعة له، تطوّرٌ فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي استمرت نحو أسبوعين وأودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاها جماعيا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات، وقيل لما رفعت المصاحف ونودي إلى التحكيم لم يرض علي بن أبي طالب بذلك وحذّر أصحابه منه وأعلمهم إنما هو مكيدة وخدعة، ولكن ابن أبي شيبة ذكر أنه لما استحرّ القتال في أهل الشام بصفين، قال عمرو لمعاوية: أرسلْ إلى عليّ بالمصحف فلا والله لا يرده عليك، فلما جاء به رجل يحمله وينادي بيننا وبينكم كتاب الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} سورة آل عمران آية (23) ، قال عليّ بن أبي طالب: نعم بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم، واعترض الخوارج وكانوا يسمونهم القراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين لا نمشي إلى هؤلاء القوم حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقام سهل بن حنيف وذكر قصة الحديبية وبينّ وجه الشبه بينها وبين صفين في هذا الجانب، وذكر أن نفوس المسلمين طابت وقبلوا الصلح في الحديبية وكذلك قبل علي وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعدّ ذلك فتحا ورجع [36] وقيل كان يعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة [37] ، ولعل ما جرى لعليّ من بعد التحكيم من الضعف هو الذي شبّه على الرواة في ما قالوا عن رفع المصاحف والتحكيم ووصف ذلك بالمكيدة والخديعة، ويكونون بذلك قد خلطوا في روايتهم بين الحادثة والنتائج، وجاء تفسيرهم بالحادثة يحكي النتائج أكثر مما يحكي الحادثة نفسها.(35/266)
التحكيم:
عقد مؤتمر التحكيم برواية أبي مخنف [38] عام 37 هـ، وكذلك قال خليفة بن خياط [39] ، ولكن [الواقدي، وابن سعد، واليعقوبي، وابن عساكر] [40] ، ذكروا أن مؤتمر التحكيم كان عام 38 هـ. ومما يرجح روايتهم على الرواية السابقة، أن ابن شهاب الزهري [41] قال: وإنهما، أي الحكمين، يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، أي أن الزهري ذكر ميعادين لانعقاد المؤتمر هما عام 37 هـ وعام 38 هـ، وذكر أبو مخنف [42] ، أن معن بن يزيد بن الأخنس السلمي قدم من الشام في استبطاء إمضاء الحكومة رسولاً من عند معاوية إلى علي، ومما قال معن لعلي، أن معاوية قد وفى، فَفِ أنت لا يلفتنك أعاريب بكر وتميم، وهذا يتصل بموقف الخوارج من التحكيم ومحاولاتهم في حمل علي بن أبي طالب على إلغائه وثنيه عن إنفاذه، وقد أشاعوا أنه رجع عن التحكيم، فأتاه الأشعث بن قيس يسأله فنفى عليّ ما نسب إليه [43] .
لهذا فقد يكون انعقاد المؤتمر قد تأخر إلى عام 38 هـ.
وأرسل علي بن أبي طالب أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ، وبعث عبد الله ابن عباس يصلي بالناس ويلي أمورهم، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل من الشام وذكر أبو مخنف أن عليّا ومعاوية لم يحضرا التحكيم، وقال الزهري وخليفة ابن خياط إن معاوية حضره من دون علي [44] .
واجتمع الحكمان في (أذرح) مكان عدل بين أهل الكوفة والشام [45] ، ولابد أنهما كانا يدركان ثقل المسئولية التي أنيطت بهما بعدما تقارع الناس بالسيوف وتناجزوا بالرماح، ويحرصان على أن لا يردّا الناس ثانية في الفتنة [46] ولكن بعض الروايات قدمت قصة التحكيم على أنها مثال للدهاء والمكر والخديعة بعيداً عن نظر الإسلام ومفاهيمه والتزام الحكمين بها في تقدير مصلحة الجماعة وتقويم الأفراد.(35/267)
قال أبو مخنف إن عمرو بن العاص أخذ يقدّم أبا موسى الأشعري في الكلام ويقول، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت أسنّ مني [47] ، فتكلمْ وأتكلمْ، فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في كل شيء أراده أن يقدّمه فيخلع عليا [48] .
وهذا القول عليه ما عليه، فتقديم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري للصحبة والسن قولٌ لم يصح، فعمرو وأبو موسى كلاهما صحابي، وأما السن فعمرو أسن من أبي موسى، توفي عمرو بن العاص في أرجح الأقوال عام 43 هـ وله مائة سنة، وتوفي أبو موسى الأشعري عام 44 هـ وله ثلاث وستون سنة [49] .
وقول أبي مخنف وغيره إن عمرو بن العاص خدع أبا موسى وخالف ما اتفقا عليه يضعف أمام دين الرجل وصحبته وعظم المسئولية التي ألقت بها الأمة إليهما، مما يبعد معه أن يركب أحدهما أو كلاهما سبيل الخديعة والمكر والمكيدة في هذه الظروف الحرجة، ولو فعل أحدهما ذلك لعلمه الناس ولفقدت الخديعة غايتها ولأوهن الفاعل بفعلته جانب صاحبه.
فماذا بحث الحكمان في مؤتمر التحكيم، وعماذا أسفر اجتماع الحكمين؟ …(35/268)
ذكر أبو جعفر الطبري [50] برواية أبي مخنف ما جاء في كتاب القضية بين علي ومعاوية وفيه "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان، قاضى عليّ على أهل الكوفة، ومن شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه، ولا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل- وهما أبو موسى الأشعري- عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي- عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة، وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة من الناس، أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنّا على ما في هذه الصحيفة، وأن قد وجبت قضيتهما على المؤمنين، فإن الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة، ولا يردّاها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما، وإن توفي أحد الحكمين، فإن أمير الشيعة يختار مكانه، ولا يألو من أهل المعدلة والقسط، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام، وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثم يكتبان شهادتهما علىِ ما في هذه الصحيفة، وهم أنصار على من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيه إلحاداً أو ظلماَ، اللهم إنا نستنصرك على من ترك هذه الصحيفة".(35/269)
ومما يلاحظ على هذه الصحيفة أنها أعطت الحكمين ووفرت لهما كل ما يلزم لنزاهة القضاء وحيدته وحريته من الأمان على النفس والمال والأهل، والنصرة من الأمة ولكنها لم تحدد القضية التي سينظر الحكمان فيها واستنباط الحكم لها من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك سنحاول من خلال الروايات التي تحدثت عن مؤتمر التحكيم أن نتحرى ما دار فيه من الحديث، وما نوقش فيه من القضايا.
ذكر أبو جعفر الطبري [51] برواية الزهري أن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص اتفقا على أن يسمي كل منهما رجلا لولاية أمر الأمة، فسمى أبو موسى عبد الله ابن عمر، وسمى عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان، وذكر [52] برواية أبي مخنف، أن من الأسماء التي استعرضت للخلافة عبد الله بن عمر ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله ابن عمرو، وفي رواية أبي مخنف [53] أيضا، أن عمر بن سعد بن أبي وقاص سأل أباه سعداً أن يحضر التحكيم، فهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل في شيء كرهته قريش، وأنه أحق الناس بالخلافة.
وبمثل ما قال أبو مخنف حول خلع علي والاختلاف حول معاوية، قال اليعقوبي [54] ، وابن أعثم [55] ، كما ورد الخير نفسه عند ابن كثير [56] .
ولم يختلف الخبر الذي جاء عند أبي حنيفة الدينوري [57] ، والمقدسي [58] في هذا الجانب عما جاء في الروايات السابقة.
والقدر المشترك بين هذه الروايات أن القضية التي كانت محور الحديث بين الحكمين هي مسألة الخلافة.
وحتى الرواية التي ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي [59] عن الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر تشترك مع الروايات السابقة في تأكيد ذلك، فقد جاء فيها:(35/270)
أن معاوية أرسل حضين بن المنذر إلى عمرو بن العاص ليتأكد مما بلغه من الأخبار عنه، فلما جاء حضين إلى عمرو سأله، قال عمرو: والله ما كان الأمر على ما قال الناس، ولكن قلت لأبي موسى، ما ترى في هذا الأمر، فقال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما.
وإذا كان الحديث في مؤتمر التحكيم دار حول الخلافة، فلماذا بحث الحكمان أمرا لم تنص عليه صحيفة التحكيم؟.
وحوْلَ مؤتمر التحكيم وموضوع التحكيم، قال بعض الباحثين: أما نقطة الخلاف التي تم الاتفاق على الرجوع إلى كتاب الله وتحكيمه فيها فلم تكن الفصل في أي من الرجلين هو أحق بالخلافة بل ما هو حكم كتاب الله في أمر تسليم القتلة وإقامة الحدود فيما يتعلق بالجريمة. وعلى الرغم من هذا كله فإن المصادر كلها، على ما يظهر تخفي هذه النقطة الخطيرة في خضمّ من الكلام وتتابع البحث في قصة التحكيم، كأن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص إنما انتخبا حكمين لاختيار أحد الاثنين، عليّ ومعاوية، أو واحد غيرهما، خليفة. أما كيف تم الانتقال المفاجئ من تحكيم في أمر تسليم القتلة إلى تحكيم فيِ أمر اختيار الخليفة فمن الصعب أن نعينه، ومن الأصعب أن نصدّقه. والأرجح أن شيئاً من هذا لم يحدث قط. ولعل ما حدث فعلاً هو أن الهدنة التي توصل إليها الفريقان المتخاصمان حتى يتم تحكيم كتاب الله في أمر الخلاف الرئيسي، أي القبض على القتلة وتسليمهم إلى القضاء، أدت إلى وقوع الخلاف بين أتباع علي، وحال هذا الخلاف دون تمكن علي من استئناف القتال ضد غريمه، ولا تعدو الروايات التي وصلتنا كلها كونها محاولات لتبرير موقف علي وتفسير فشله غير المنتظر [60] .(35/271)
وقول الباحث بعدم انعقاد مؤتمر التحكيم وإن الروايات حوله مصنوعة مسار عقلي بحت لا يستند إلى النقل، وحسب تصوّر مغاير لتصوّر الباحث فإن العقل يجيز انعقاد المؤتمر، والروايات التي تقول بانعقاد مؤتمر التحكيم تعزز ذلك وهي كثيرة وتمثل وجهات النظر السياسية المختلفة في ذلك الوقت، ومع ضعف بعضها فإن منها ما يعتدّ بسنده ويترك في النفس ثقة، بمتنها، مثل الروايات التي وردت عند خليفة بن خياط وعند أبي جعفر الطبري وعند القاضي أبي بكر العربي وابن كثير [61] .
وأما أن صحيفة التحكيم لم تنص على مسألة الخلافة فقول صحيح، ولكنها لا تمنع الحكمين أن يبحثا ذلك، وأي شيء من شأنه أن يرفع الخلاف بجمع كلمة المسلمين.
ولما كان عليّ بن أبي طالب يدعو معاوية وأهل الشام إلى البيعة والدخول في طاعته، ويأبى هؤلاء إلا تسليم قتلة عثمان أولا، وعليّ يرفض ذلك، ويأبى منهم إلا البيعة والدخول في الطاعة أولا، صار التوفيق بين الجانبين غير ممكن، وصار طلب معاوية وأهل الشام جعل الخلافة شورى بين المسلمين له ما يبرره من وجهة نظرهم، وقد رفضوا أن يقرن عليّ اسمه في كتاب القضية بينهما بلقب (أمير المؤمنين) ، وجاء الحكمان، فوجدا أمر قتلة عثمان، وموقف معاوية وأهل الشام، ووحدة الأمة واجتماع الكلمة، أموراً كلها معصوبة بالخلافة، لذلك كانت مناقشة الأصل وهو الخلافة، محاولة منهما لحل كل فرع مرتبط بالأصل ومعصوب به بعد ما فشلت المفاوضات وفشل القتال في حل الخلاف.
فهل توصل الحكمان إلى شيء؟ وهل اتفقا على شيء؟.
وقبل الدخول في الحديث عن ذلك، لابد من أخذ الأمور التالية بعين الاعتبار.
- قيل إن الأحنف بن قيس ودّع أبا موسى الأشعري عند ذهاب أبي موسى إلى المشاركة في مؤتمر التحكيم وقال له: واعلم بأنك إن ضيعت العراق فلا عراق [62] .(35/272)
- وذكر أبو مخنف عن النضر بن صالح العبسي، أن شريح بن هانئ الحارثي حدث النضر وهما معا في غزوة سجستان قال: إن عليّ بن أبي طالب لما بعثه على رأس الجند إلى مؤتمر التحكيم، أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص قال له: قل لعمرو إن عليّا يقول لك، إن أفضل الناس عند الله عز وجل من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن حنّ إليه وزاده ... [63] .
- كان عمرو بن العاص يرى نفسه ندّاً لمعاوية، فقد جاء في رواية الدارقطني أن عمرو بن العاص سأل أبا موسى قال: فأين تجعلني أنا ومعاوية [64] ، وهناك روايات أخرى تصور عمرو بن العاص يريد أن يوهن معاوية، وإن معاوية كان لا يطمئن إليه تماما [65] ، وهي روايات قد لا تصح، ولكنها تحكي الحال بين اثنين لم تكن العلاقة بينهما علاقة تبعية، وإنما هي إلى الندية أقرب.
- وفي مؤتمر التحكيم، ضرب فسطاط للحكمين، فكان أبو موسى وعمرو يجتمعان في كل يوم فيتحدثان وينصرفان، فأقاما على ذلك أياما كثيرة حتى ارتابت الناس وغمهم ذلك [66] .
وإضافة إلى ما جاء في كتاب القضية من التأكيد على الحكمين أن يحكما بين الأمة ولا يرداها في حرب ولا فرقة، فإن هذه الأخبار التي سبقت الإشارة إليها تؤكد أن لم يبق مجال للغفلة أو الخديعة، وأن القضية لم تعد بخافية على أحد، ناهيك عن الحكمين، وأنها أصبحت ملء السمع والبصر.(35/273)
وبعد ذلك، لابد من القول إن الحكمين تدارسا مسألة الخلافة، وكانا مهتمين في البحث عمن يكون محل إجماع الأمة واتفاقها، وقادراً على القيام بأعباء الخلافة، ولاشك أن عزم سعد بن أبي وقاص على الاعتزال والبعد عن الأحداث الجارية جعله لا يلتفت إليه من جانب الروايات، وربما من جانب الحكمين أيضا، وقد يكون عبد الله بن عمر وهو ممن جعله عمر بن الخطاب في أهل الشورى ولا شيء له فيها، أقرب الناس في نظر أبي موسى إلى محبة الناس والإجماع عليه، ولكن عمرو بن العاص كان لا يراه أهلا للخلافة، فلم يوافق أبا موسى عليه، وطالت الاجتماعات ويبدو أن ثقل المسئولية والحرص على جمع الكلمة جعل الاتفاق على شخص يأمنا الإجماع عليه موضع تردد منهما، وقد وصف خليفة بن خياط ذلك بعدم الاتفاق، فقال: فلم يتفق الحكمان على شيء [67] .
وأما الذهبي، فقد فسر عدم الاتفاق تفسيرا آخر قال: لما اجتمع أبو موسى وعمرو بدومة الجندل للتحكيم لم يتفقا، لأن أبا موسى وعمرو بن العاص اتفقا على خلع علي ومعاوية بينهما واختلفا أمام الناس، فخلعهما أبو موسى وخالفه عمرو فخلع عليّا وولى معاوية، وقول الذهبي فيما يتصل بموقف عمرو من معاوية يخالف ما جاء في رواية الدارقطني وعند خليفة بن خياط، والمقدسي في البدء والتاريخ في بعض رواياته، قال المقدسي: وقال قوم، خلع عمرو عليّا ولم يُدْخِلْ معاوية [68] .(35/274)
وسواء أعلن الحكمان ما توصلا إليه وأظهراه للناس على الصورة التي حكتها بعض الروايات أم لم يفعلا ذلك، فإن عدم اتفاقهما على من يقوم بأمر المسلمين جعل ما دار بينهما لا سبيل لهما به على أحد من الجانبين، ولا سبيل به لأحد على أحد، وحتى لو قيل اتفق الحكمان على خلع علي ومعاوية، وردّ الأمر إلى شورى المسلمين [69] ، فإن الحكمين لا يكونان قد أوفيا ما أوكل إليهما تماما من حل الخلاف، ويكونان فتحا بابا آخر للخلاف أوسع، وسوف لا يكون الحكمان مقتنعين أنهما توصلا إلى حل الخلاف، ويكون وصف نتائج المؤتمر بعدم الاتفاق أقرب ما يكون إلى حقيقة عمل الحكمين ومباحثاتهما في مؤتمر التحكيم.
وقد بنى الشاميون، كما قال الذهبي [70] ، على خلع عليّ جواز استخلاف معاوية.
وفي حين زال الحرج من نفوس أهل الشام، وقووا بمبايعة معاوية، أدى فشل التحكيم في إزالة الخلاف وجمع الكلمة إلى استفزاز الذين كانوا اعترضوا على عليّ من قبل وعادوا إلى الخروج ثانية وتجمعوا في منطقة النهروان بقيادة عبد الله بن وهب الراسبي عام 38 هـ وأخذوا يعتدون، فخرج إليهم عليّ فاعذرهم ونصب راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، وناداهم أبو أيوب، من جاء هذه الراية ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدِائن وخرج عن هذه الجماعة فهو آمن، فتركهم بهذا السبب كثير ممن كان معهم، ومن ظلَّ تعبأّ للقتال، فقتل منهم ألفان وثمانمائة، ثم لم يلبث من كان انفصل عن أهل النهروان منهم ممن كان استأمن إلى أبي أيوب أو رجع منهم إلى الكوفة وغيرها من المدن أن تجمعوا ثانية بالنخيلة، فخرج إليهم علي فدعاهم ورفق بهم غير مرة، فلم يستجيبوا، فقاتلهم وقتلهم جميعا [71] .(35/275)
ويبدو أن علي بن أبي طالب رأى في مشاعر جنده تغيرا إزاء قتل من قتل من أبنائهم وإخوانهم وأقاربهم من الخوارج، فلما بلغه أنهم دفنوهم قال: أتقتلونهم، ثم تدفنونهم، وأمر بالرحيل [72] ، وذكر ابن أبي شيبة عن بعض جند علي أنهم قالوا: غرّنا ابن أبي طالب من إخواننا حتى قتلناهم ولكن الناس سكنوا وفرحوا لما وجدوا جثة ذي الثدية بين قتلى الخوارج [73] .
ولاشك أن مباينة الخوارج وقتلهم أضعف جانب علي كثيراً، ثم تتابعت الفتوق على علي من بعد، فخرج الخريت بن راشد، وقيل اسمه الحارث بن راشد، في قومه من بني ناجية، وكان من ولاة علي على الأهواز، فدعا إلى خلع علي، فأجابه خلق كثير واحتوى على البلاد وجبى الأموال، فبعث إليه علي جيشا بقيادة معقل بن قيس الرياحي فهزمه وقتله [74] .
وأخذت أطراف علي تتعرض للغارات من جانب معاوية في عين التمر وهيت والأنبار والقطقطانة والبصرة وتيماء والحجاز واليمن تدعو الناس إلى احترام ما قضى به الحكمان بتقديرهم [75] ،فوجه علي الجيوش إلى صد هذه الغارات، وطمع أهل الخراج في ناحية علي في كسر الخراج، وانتقض أهل الأهواز، ولابد أن عليّا واجه من أجل ذلك بعض الصعوبات المالية والعسكرية وقد روي عن الشعبي في هذا الخصوص قوله:
لمّا قتل علي أهل النهروان، خالفه قوم كثير، وانتقضت عليه أطرافه، وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي البصرة وانتقض أهل الأهواز، وطمع أهل الخراج في كسره، وأخرجوا سهل بن حنيف عامل علي بن أبي طالب من فارس [76] .
وفي مصر، تقدم عمرو بن العاص من الشام بجيش إلى مصر، وقيل بقيادة معاوية ابن خديج الكندي [77] ، فلم يقو محمد بن أبي بكر والي مصر من قبل علي على ردهم، ولم يقدر علي بن أبي طالب على إنجاده وهزم محمد وقتل وصارت مصر إلى جانب معاوية، ولابد أن معاوية قوى جانبه بصيرورة مصر إلى صفه ماليا وبشريا وعسكريا.(35/276)
ولما لم تُجْدِ المحاولات التي جرت بين علي ومعاوية سلمية كانت أو عسكرية في توحيد الصف وجمع الكلمة، ذكر أبو جعفر الطبري أن المكاتبات جرت بين الجانبين لوضع الحرب، ويكون لكل واحد منهما ما بيده من البلاد، قال أبو جعفر: وفي هذه السنة أي سنة أربعين للهجرة، جرت بين علي ومعاوية المهادنة، بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب، على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة وتراضيا على ذلك [78] ، ولكن المهادنة لا تذكر شيئا عن مصر التي كانت قد دخلت في طاعة معاوية قبل ذلك، وإذا صح وقوع مهادنة فإن ذلك كان من قبيل قبول علي بإمرة معاوية على ما بيده من البلاد.
وبينما كان علي بن أبي طالب يدخل مسجد الكوفة لصلاة الصبح من شهر رمضان لسنة أربعين للهجرة، تعرض لعملية قتل نفذها ضده رجل اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكندي توفي على أثرها بعد يومين [79] ، فهل كان وراء ذلك أحد؟.
ذهبت بعض الروايات إلى اتهام الأشعث بن قيس، قال اليعقوبي [80] : إن عبد الرحمن بن ملجم نزل على الأشعث بن قيس، فأقام عنده شهرا يستحد سيفه.
وذكر ابن سعد في الطبقات [81] قال: وبات عبد الرحمن بن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل عليا صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس في مسجده حتى كاد أن يطلع الفجر، فقال له الأشعث: فَضَحَك الصبح، فقام عبد الرحمن بن ملجم وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي.(35/277)
ولعل اتهام الأشعث بن قيس بالتواطؤ على قتل علي بن أبي طالب يتصل بما قيل عن مواقف الأشعث السابقة، قيل لما رفعت المصاحف في صفين ودعا أصحاب معاوية إلى التحكيم كان الأشعث أكثر الناس تحمسا لوقف القتال وقبول التحكيم، وقيل كان الناس يرون الأشعث يرى رأي الخوارج، ولم يتبينوا مباينته لهم إلا عندما دعا إلى المسرى إلى حربهم في النهروان [82] .
وعندما حض علي بن أبي طالب أهل العراق على المسير بعد النهروان إلى حرب معاوية وأهل الشام، لم يوافقه الأشعث بن قيس وأجابه بقوله: يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا، وكلّت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا، فارجع إلى مصرنا فلنستعد بأحسن عدتنا ... وانكسر على علي رأيه في المسير [83] .
وأما اليعقوبي، فإنه يذهب أبعد من ذلك ويتهم الأشعث أنه كان ممالئا لمعاوية، وإن معاوية استماله إلى جانبه [84] .
ويبدو أن ضعف حماسة الأشعث لحرب الشام من بعد صفين جعل البعض يتهمه هذا الاتهام، ومات الأشعث من بعد مقتل علي بأربعين ليلة، وصلى عليه الحسين بن علي بن أبي طالب [85] ، وهو زوج بنت الأشعث بن قيس [86] ، ولم ينقل عن آل علي بن أبي طالب أنهم اتهموا الأشعث بهذه التهمة أو كشفوا أحدا من آل الأشعث بهذا السبب، ويظل قتل علي عملا من تدبير الخوارج جاء في الأرجح ثأرا لقتلى النهروان.
استخلاف الحسن بن علي ومصالحة معاوية:
ولما ضرب علي بن أبي طالب الضربة التي مات فيها، قيل له يا أمير المؤمنين، إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم [87] .
وبويع الحسن بعد وفاة أبيه بيومين في شهر رمضان من عام أربعين للهجرة [88] ، وقيل كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري أول من بايعه ثم تتابع الناس وبايعوه [89] .(35/278)
ولكن خلافة الحسن لم تطل، إذ لم تتجاوز الأشهر قيل سبعة أشهر وأحد عشر يوما [90] ، وقيل سبعة أشهر وسبعة أيام [91] ، وقيل ستة أشهر وثلاثة أيام [92] ، وقيل ستة أشهر [93] ، وقيل أربعة أشهر [94] ، وقيل شهران [95] وهي تعود إلى الاختلاف في الوقت الذي استخلف فيه الحسن، والوقت الذي تنازل فيه لمعاوية عن الخلافة، ثم وقع الصلح بين الحسن ومعاوية وتنازل الحسن عن الخلافة وتم اجتماع المسلمين على معاوية.
وقد تجاذبت الروايات المختلفة الحديث عما جرى بين الحسن ومعاوية في هذه الفترة:
فقال ابن أعثم: إن الحسن بن علي لما استخلف كتب إلى معاوية كتابا ذكر الحسن في مقدمته احتجاج قريش على العرب بقرابتها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن العرب اعترفت لهم بهذا الفضل فلم تنازعهم السلطان، ولكن قريشا لم تنصف آل محمد ودفعتهم عن الخلافة، ثم ذكر ابن أعثم أن الحسن خاطب معاوية في كتابه إليه فقال ... والآن، فلا غرو إلا منازعتك إيانا بغير حق في الدين معروف، ولا أثر في الإِسلام محمود إلى أن قال لمعاوية: ... فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت ولاني هذا الأمر من بعده، فاتق الله يا معاوية، وانظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما تحقن به دماءهم وتصلح به أمورهم والسلام.
ووجه الحسن الكتاب مع رجلين إلى معاوية ليدعواه إلى البيعة والسمع والطاعة.(35/279)
وتمضي رواية ابن أعثم فتقول إن معاوية بعث بكتاب إلى الحسن جوابا على كتابه رد فيه عن المسلمين بعامة والمهاجرين والأنصار بخاصة ما فرقوا به من دفع الخلافة عن آل محمد، وإنهم وضعوها في أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى الحسن فقال يخاطبه في كتابه إليه:… فالحال بيني وبينك على ما كانوا عليه، ولو علمت أنك أضبط لأمر الرعية وأحوط على هذه الأمة، وأحسن سياسة، وأكيد للعدو، وأقوى على جميع الأمور، لسلمت لك هذا الأمر بعد أبيك، لأني قد علمت بأنك إنما تدعي ما تدعيه نحو أبيك، وقد علمت أن أباك سار إلينا فحاربنا، ثم صار من أمره إلى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما يصلح عليه أمر الأمة وتعود به إلى الألفة والجماعة وأخذنا على الحكمين بذلك عهد الله وميثاقه وأخذا منا مثل ذلك على الرضا بما حكما، ثم إنهما اتفقا على خلع أبيك فخلعناه، فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك، وقد خرج أبوك منه؟ انظر لنفسك أبا محمد ولدينك والسلام [96] .
واتهام الصحابة على لسان الحسن بن علي في رواية ابن أعثم يدحض الثقة بهذه الرواية في هذه القضية، إذ لا يعقل أن يعرّض الحسن، وهو من هو، أن يعرض بالصحابة ويرميهم بالظلم والجور ومجانبة الحق، فضلا عن أن عام 40 هـ لم تتحدد فيه بعد هوية الأحزاب والفرق المذهبية، ولم تتضح معالم القواعد والدعاوى الكلامية لها أو تتبلور مقالاتها على نحو المحاورة التي تديرها الرواية على لسان الحسن ولسان معاوية.
والرواية من بعد ذلك تُعدُّ فيما يتعلق بموقف الحسن من معاوية امتداداً للروايات التي سبق أن تحدثت عن موقف علي بن أبي طالب ودعوته معاوية إلى البيعة والطاعة باعتبار علي بن أبي طالب هو الخليفة الشرعي، وتغفل الرواية الأوضاع الجديدة التي أعقبت قتل علي بن أبي طالب.(35/280)
وأما فيما يتعلق بموقف معاوية، فالرواية تقدم بعض الأبعاد الجديدة في موقف معاوية وأهمها، أن معاوية لا يرى الحسن في مثل ضبطه للأمور وحيطته وقيامه عليها وليس الحسن مثله في حسن سياسته ومكايدته للعدو، والثاني: أن خلافة الحسن بسبب خلافة علي وحقه فيها لم تعد بهذا السبب ملزمة لمعاوية بعد ما جرى خلع علي في مؤتمر التحكيم حسب قول الرواية.
وموقف هذا شأنه بين الجانبين لابد إذا ظل كل طرف متشبثا بموقفه أن يفضي إلى الحرب.
وبعد أن وجه معاوية بكتابه إلى الحسن، قال ابن أعثم: ودعا معاوية الضحاك ابن قيس واستخلفه على الشام، وجمع ستين ألفا وخرج يريد العراق، وحسب قول اليعقوبي، كان خروج معاوية إلى العراق بعد مقتل علي بن أبي طالب بثمانية عشر يوما [97] .
ولكن بعض الروايات تذكر أن معاوية تعرض للقتل في اليوم الذي قتل فيه علي ابن أبي طالب، ولكن السيف وقع في أليته، وعولج حتى برأ [98] ، ولابد أن معاوية حتى برأ، وصحّ عنده مقتل علي واستخلاف الحسن احتاج إلى مدة أطول مما ذكر اليعقوبي حتى يجمع معاوية أطرافه ويسير بالجيش إلى العراق، ولعل اليعقوبي وَهِمَ فيما قال أو أنه قصد وصف معاوية بالاستعجال ليظهر مدى حرصه على الإمارة وحبه في الحكم.
وعلى أية حال، فإن مسير معاوية إلى العراق يريد الحسن أمر قد جرى بلا خلاف بين الروايات [99] .
ويبدو أن معاوية بعد موت علي بن أبي طالب، تحلّل من الهدنة التي كان عقدها مع علي لوضع الحرب بينهما، فخرج يريد العراق.
أما في جانب الحسن، فقيل لما سمع بمسير معاوية سار نحو المدائن يريد لقاءه، وجعل على الجيش عبيد الله بن العباس، وكان عدد أفراد الجيش أربعين ألفا قيل كانوا أطوع له وأحب إليهم من أبيه [100] ، وجعل على المقدمات قيس بن سعد بن عبادة وعدتها اثنا عشر ألف رجل [101] .(35/281)
وبعد أن سار معاوية إلى العراق وخرج الحسن من الكوفة للقائه، تتباين الروايات حول ما جرى في جانب الحسن وأدى به إلى مصالحة معاوية.
قال الزهري: كان الحسن لا يرى القتال، ولكنه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة، وعرف أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه فنزعه عن الجيش وأمر عبيد الله بن عباس عليه [102] .
وقيل كان الحسن ينهى أباه عن القتال ويشير عليه بتركه وكان أكره الناس للفتنة [103] .
وقيل عن علي بن أبي طالب أنه قال فيه: أما حسن فصاحب جفنة وخوان وفتى من الفتيان ... [104] .
فهذه الروايات وأمثالها تشير إلى ما كان عند الحسن من الميل إلى السلم والكف عن القتال والكراهة للفتنة.
والروايات عن ميل الحسن إلى السلم لا تقف عند هذا الحد وتذهب إلى أبعد من ذلك.
قال الزهري: بايع أهل العراق الحسن بن علي بالخلافة، فطفق يشترط عليهم إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتاب أهل العراق في أمرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال، فلم يلبث الحسن بعد ما بايعوه إلا قليلا حتى طعن طعنة أشوته، فازداد لهم بغضا وكتب إلى معاوية بشروط ويطلب الصلح [105] .
وذكر المقدسي في البدء والتاريخ بسند جمعي أن الحسن نظر إلى ما يسفك من الدماء وينتهك من المحارم، فقال لا حاجة لي في هذا الأمر، وقد رأيت أن أسلمه إلى معاوية فيكون في عنقه تباعة هذا الأمر وأوازره، ورفض الحسين ذلك وقال له: أنشدك الله أن تكون أول من عاب أباه ورغب عن رأيه، فغضب الحسن، ولم يلبث الحسين أن تابعه [106] .(35/282)
وقيل إن الحسن خطب وذكر رأيه وإيثاره السلامة، ومما قاله: أيها الناس، إنكم قد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، والله لقد أصبحت وما أنا محتمل على أحد من هذه الأمة ضغنة في شرق ولا غرب، ولما تكرهون في الجماعة والأمن وصلاح ذات البين خير مما تحبون من الفرقة والخوف والتباغض والعداوة، فلما سمع الناس ذلك وقع في قلوبهم أنه خالع نفسه لمعاوية فشق عليهم ذلك وقد بايعوه على الموت فثاروا به وقطعوا عليه كلامه وخرقوا عليه سرادقه، وطعنه رجل اسمه سنان بن الجراح الأسدي وهو ممن يرى رأي الخوارج، طعنه طعنة أشوته وانصرفوا عنه.
ثم تتابع الرواية الحديث فتذكر أن الحسن أرسل إلى معاوية يسأل الأمان للناس وأموالهم وأولادهم ونسائهم لقاء البيعة له [107] .
ويبدو أن خطبة الحسن الآنفة الذكر وما جاء فيها كانت في أثناء مقام الحسن بالمدائن وبعد حضور رسل معاوية إليه بقصد الصلح بين الجانبين.
وهناك روايات أخرى تذكر أن ميل الحسن إلى الصلح كان للظروف الصعبة التي كان يمر بها.
جاء في رواية إسماعيل بن راشد ورواية عوانة بن الحكم أن الحسن لما نزل المدائن وبعث قيس بن سعد على المقدمات صرخ في الناس صارخ، ألا إن قيس بن سعد ابن عبادة قد قتل، فثار الناس فانتهبوا سرادق الحسن، وطعنه رجل من الخوارج، فوثب الناس على الخارجي فقتلوه، فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية في الصلح، وقيل إن الحسين اعترضه وقال: نشدتك الله أن تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة علي، فقال له الحسن: اسكت فأنا أعلم بالأمر منك [108] .(35/283)
وبعد أن ذكر أبو حنيفة الدينوري خروج الحسن من الكوفة للقاء معاوية قال، لما رأى الحسن الفشل من أصحابه، وإن أكثر من معه قد نكل عن القتال لم ير أن يحملهم على ما يكرهون، ولذلك خطبهم وأعلمهم أنه يريد أن يسلم الأمر إلى معاوية، فقام نفر منهم فانتهبوا سرادقه، وطعنه رجل خارجي اسمه الجراح بن قبيصة من بني أسد، فقتل الناس الخارجي وحمل الحسن إلى المدائن للعلاج [109] .
وأما المسعودي فذكر أن الحسن صالح معاوية لما ناله من أهل الكوفة، وقال أيضا، لما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح [110] .
وقد حمّل اليعقوبي معاوية بن أبي سفيان وأنصاره من أهل العراق ما وقع في جانب الحسن من الاضطراب والفشل واضطره إلى مصالحة معاوية، قال اليعقوبي: وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيسا صالح معاوية، ويدس إلى عسكرِ قيس من يتحدث أن الحسن صالح معاوية، وقال أيضا: وجّه معاوية إلى الحسن وفداً فأتوا وهو بالمدائن نازل في مضاربه، فلما خرجوا من عنده، أخذوا يقولون يسمعون الناس، إن الله حقن بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء وسكّن الفتنة وأجاب إلى الصلح، فلما سمع عسكر الحسن ما قاله وفد معاوية لم يشكّوا في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وطعنه الجراح بن سنان الأسدي، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه صالح معاوية [111] .
وبذلك نكون أمام طائفتين من الروايات، الأولى تجعل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية إيثاراً منه للسلم وكراهة الفتنة، والثانية تجعل الحسن تنازل مكرها للفشل الذي رآه في أصحابه.(35/284)
وقد يبدو الفرق في اتجاه هذه الروايات مثل ما بين العلة والمعلول، ومع ذلك فإن التجاوب بين هذه الروايات موجود، فالحسن ميال إلى السلم والصلح كراهية للفتنة والفرقة وإراقة دماء المسلمين وهو ما أشارت إليه الطائفة الأولى من الروايات، وقد يعترض على ذلك من يحتج باستعدادات الحسن العسكرية وخروجه للقاء معاوية، وهناك من يعتذر عن الحسن ويقول إنه كان لا يرى القتال وإنما خرج مكرها، وسواء كان الحسن في خروجه مكرها أم غير مكره، فلا يعقل أن يظل قاعدا في عقر داره بالكوفة حتى يدخل عليه معاوية بالجيش، هذا وقد كان من حول الحسن كثرة من الناس كثيرة كانت تريد لقاء معاوية، وعندما دخل معاوية بجيشه أرض العراق، وجد بإزائه من مقدمات الحسن وجيشه عددا كبيرا وصفه البخاري في صحيحه (كتائب أمثال الجبال) ولكن ما أن أرسل معاوية يطلب الصلح حتى وجد الحسن يساند التئام الجماعة ووحدة الكلمة، ومما جاء في الرواية عند البخاري في صحيحه [112] : ... فقال عمرو بن العاص إني لأرى كتائب لا تولّي حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية.. وكان والله خير الرجلين، أيْ عمرو: إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله ابن عامر بن كريز فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه ... إلى قوله- فصالحه (أي صالح الحسن معاوية) .(35/285)
وأما ما تعرض له الحسن من القتل والاعتداء فإنه يعود إلى أسباب تتصل بظروف القتال والصلح مع معاوية حقيقة أو إشاعة كما مر، ولكن الفشل الذي أصاب جانب الحسن لم يؤد إلى انهيار قوته ويدفعه إلى مصالحة معاوية كرها، وظل زمام الموقف في جانبه بيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخاري والروايات الأخرى، وهزم المرجفون وقتل الرجل الذي قام بالاعتداء عليه، وتقدم هو من بعد ذلك واجتمع بمعاوية ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه ومطالبه.
وتفوق جانب معاوية على الحسن لأمراء فيه، فهل صالح الحسن معاوية بهذا السبب؟.
قال ابن تيمية في منهاج السنة [113] :… وإذا قال القائل إنما ترك الحسن القتال للعجز لأنه لم يكن له أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة، قيل له، وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وإضافة إلى ذلك، فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتل معاوية بمن كان معه وإن كان أقل ممن كان مع معاوية صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلة من كان معهم من الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خلق يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، وجعل الله به رأب الصدع وجمع الكلمة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك فقال: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" [114] .
شروط الصلح بين الحسن ومعاوية:(35/286)
اختلفت الروايات حول صاحب المبادأة في الصلح، فذكرت بعض الروايات أن الحسن هو الذي بدأ معاوية بالصلح، ولكن رواية البخاري السابقة الذكر نسبت المبادأة إلى معاوية، ورواية البخاري مقدمة على غيرها من الروايات [115] ، ومعاوية باتفاق الروايات كان يتمتع بتفوق جانبه على الحسن، وهو الآن بجيشه في العراق، وعرض الصلح من جانبه ومحادثة الحسن عن التنازل له عن الخلافة أمر ينسجم مع الموقف المتفوق الذي كان ينفرد به دون الحسن، وينسجم أيضا مع وضع الحسن الذي يقتضي عدم التعجل حتى يأخذ ما يستطيع من الضمانات من معاوية.
وبعد المفاوضات بين الحسن ووفد معاوية، قيل التقى الحسن ومعاوية في مسكن فاصطلحا ثم سارا إلى الكوفة [116] ، وقيل: التقيا على منزلة من الكوفة ثم دخلا الكوفة [117] ،
وقال الشعبي [118] : وكان ممن شهد اللقاء وحضر الصلح، إنهما التقيا بالنخيلة [119] .
وبخصوص شروط الصلح ذكر الزهري أن الحسن كتب في صحيفة بعث بها إلى معاوية الشروط التي أراد من معاوية أن يعطيه إياها، وكان معاوية قد بعث هو الآخر بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها ليكتب الحسن ما شاء فيها من الشروط، فكتب الحسن أضعاف ما كان قد سأل معاوية أن يعطيه في الصحيفة التي بعثها إلى معاوية، فلما وقعت صحيفة الحسن بيد معاوية وطالب الحسن عند لقائه بمعاوية أن يفي له بالشروط التي شرط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله، لم ينفذ معاوية للحسن شيئا من ذلك وقال له: لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه [120] .
ولكن المفاوضات المباشرة التي جرت بين الحسن ووفد معاوية، وتناولت أمورا تحددت بين الجانبين، وتحدث البخاري عنها في روايته، تنفي شبهة استمرار وجود عروض سلمية عائمة أو مفتوحة، ولكن ماذا طلب الحسن إلى معاوية أن يعطيه؟.(35/287)
تفاوتت الروايات حول ما طلب الحسن من معاوية من الشروط والضمانات وتم الاتفاق عليه بين الجانبين، ويمكن تصنيف الشروط حسب موضوعاتها إلى خمسة هي:
الأول: المال: قيل إن الحسن اشترط أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة ملايين درهم [121] ، وقيل اشترط أن يسلم له بيت المال فيقضي منه دينه ومواعيده، ويتحمل منه هو وآله [122] ، وقيل اشترط أن يأخذ ما في بيت مال الكوفة وكان فيه خسة ملايين درهم [123] ، وقيل اشترط أموالا وضياعا [124] ، ووفى له معاوية بذلك وأعطاه سبعة ملايين درهم من بيت المال [125] .
وإضافة إلى ذلك، قيل طلب خراج بجرد (كورة من بلاد فارس) ، مسلما له في كل عام [126] ، وأن يجرى عليه كل سنة مليون درهم [127] ، وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس [128] .
وإحساس الحسن بمصالح الأمة في هذه الروايات يبدو ضعيفا أمام مصالحه الخاصة، ولكن الروايات الأخرى تختلف مع هذه الروايات في الاتجاه الذي ذهبت إليه.
ذكر البخاري في صحيحه، أن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن ابن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز: إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به [129] ، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية بها، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه في قادم.
وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: وأما المال فليس لمعاوية أن يشرط لي في المسلمين [130] .
وذكر أبو جعفر الطبري برواية عوانة بن الحكم أن أهل البصرة حالوا بين الحسن وبن خراج دارا بجرد، وقالوا، فيئنا [131] ، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية إشارة إلى أن خراج دارا بجرد لم يكن في الأموال التي صيّرت إلى الحسن.(35/288)
وعليه فقد لا يكون الأمر تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية، ثم قام معاوية في هذه المناسبة فوصل الحسن وأجازه، قيل أجازه بثلاثمائة ألف درهم، وألف ثوب، وثلاثين عبدا، ومائة جمل [132] ، وأما العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشر معشار ما ذكرته الروايات.
الثاني: الدماء: وتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون لا يؤخذ أحد منهم بهفوة أو أحنة، ومما جاء في رواية البخاري، أن الحسن قال لوفد معاوية: ... وأن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء [133] .
ولكن الرواية عن الزهري ذكرت أن عبيد الله بن عباس قائد جيش الحسن لما علم بما يريد الحسن من معاوية، بعث إلى معاوية يسأله الأمان ويشرط لنفسه على الأموال التي قد أصاب، ثم خرج إليهم ليلا ولحق بهم، وأن قيس بن سعد الذي خلفه على الجيش تعاهد والجيش على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم [134] .(35/289)
وقد استبعد فلهوزن أن يكون قائد الجيش هو عبيد الله بن عباس، وذكر أن قائد الجيش كان عبد الله بن عباس، واستند فلهوزن في ذلك إلى أن الاسم الذي ورد في بعض النسخ المخطوطة من تاريخ أبي جعفر الطبري هو عبد الله بن عباس، وأن الاختلاف بين المخطوطات في عبد الله وعبيد الله ليس مرجعه إلى الناسخ، وإنما إلى الرواة الذين لم يريدوا أن يلحق هذا العار بعبد الله بن عباس جد العباسيين، وأما أخوه عبيد الله فلم يروا بأسا من التخلي عن الدفاع عنه، وذكر فلهوزن سببا آخر لاستبعاد أن يكون عبيد الله ابن عباس قائدا للجيش أو يكون هو الذي صالح معاوية، فقال: إن عبيد الله بن عباس كان واليا لعلي باليمن، وكان يقيم فيها عندما هاجمها بسر بن أبي أرطاة في النصف الثاني من عام أربعين للهجرة برواية عوانة، وعام اثنين وأربعين للهجرة برواية الواقدي، وذبح بسر ولدي عبيد الله، وهذا يعني أن عبيد الله بن عباس كان يقيم باليمن معاديا لمعاوية، ولا يعقل أن يكون عبيد الله قد انتقل إلى جانب معاوية قبل عام أو عامين من الحادثة، أو يكون قد تعجل إلى هذا الحد في مصالحة قاتلي ولديه [135] .
وأما أن قائد الجيش كان عبد الله بن عباس أو عبيد الله بن عباس، فإن رواية المسروقي عن إسماعيل بن راشد، ورواية زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة بن الحكم تذكر أن قائد الجيش كان الحسن بن علي، وأن قائد مقدمته كان قيس بن سعد ولا ذكر لعبد الله بن عباس أو أخيه عبيد الله في هذا الجانب [136] .
كما يفهم مما ورد عند أبي حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال، وابن حجر في المطالب العالية، وابن أعثم في الفتوح، أن قطبي الرحى في الجيش كانا الحسن بن علي وقيس بن سعد ولا ذكر لعبد الله بن عباس أو عبيد الله بن عباس [137] .(35/290)
وتأكيد فلهوزن على أن عبد الله بن عباس كان قائدا للجيش لا عبيد الله واحتجاجه على ذلك بما سبق الإشارة إليه يخالفه ما نقله زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة بن الحكم الذي لا يتهم بمحاباة العباسيين قال: إن عبيد الله بن عباس كان واليا لعلي على اليمن، ولما بلغه مسير بسر بن أبي أرطاة إليه استخلف على اليمن عبيد الله ابن عبد المدان الحارثي وهرب إلى علي بالكوفة وذلك عام أربعين للهجرة، وأرسل علي بن أبي طالب جيشا إلى اليمن يتعقب جيش بسر، وقتل علي في نفس العام، ولم يرد ما يشير إلى أن عبيد الله بن عباس ترك الكوفة إلى اليمن [138] .
ويخالف فلهوزن أيضا ما جاء في الروايات الأخرى التي نقلها اليعقوبي والبلاذري وعمر بن شبة والمدائني [139] ، وذكرت أن قائد الجيش كان عبيد الله بن عباس، كما جاء في قول عامة أهل السير أن عبد الله بن عباس كان خرج عام أربعين للهجرة من البصرة ولحق بمكة على أثر ما جرى بينه وبين علي [140] ، ولكن فلهوزن يتهم هذه الروايات بمحاباة العباسيين، واتهام فلهوزن يبدو مما سبق ضعيفا عند المعارضة.
وسواء كان قائد الجيش عبد الله بن عباس أو عبيد الله بن عباس أو غيرهما فإن دواعي اتصال قائد جيش الحسن بمعاوية وطلب الأمان منه غير قائمة، فجيش الحسن قوي وممتنع كما جاء عند البخاري، والاتصالات والتنسيق بين الحسن وقيادته موجودة نقلا وعقلا، والحسن ولي الأمر ورأسه، وقد جرت المفاوضات بينه وبين وفد معاوية، وأخذ الأمان لأتباعه ومن كان في جانبه فضلا عن بني العباس وغيرهم من بني عبد المطلب بشأن الدماء والأموال، وأعلم الحسن قيادته بالصلح وتنازله عن الخلافة لمعاوية، وأمرها بالدخول في الجماعة ومبايعة معاوية، ولما رأى قيس ومن معه أنهم لم يعودوا مع إمام مفترض الطاعة، تركوا القتال وبايعوا معاوية، ودخلوا في الجماعة [141] .(35/291)
ولكن في رواية الزهري ثناء على قيس دون الحسن وولدي العباس من غير ما ضرورة.
الثالث: ولاية العهد: قيل ومما اتفق الجانبان عليه من الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن [142] ، وإن معاوية وعد إن حدث به حدث والحسن حي ليسمينه وليجعلن الأمر إليه [143] ، ولكن ابن أعثم روى في هذا الخصوص عن الحسن أنه قال: أما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك، ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه [144] ، وهو كلام ينسجم مع تنازل الحسن عن الخلافة، فقد كان الحسن خليفة وتنازل عن الخلافة فكيف يطلبها من بعد ذلك.
وقيل إن الاتفاق نص على أن لا يعهد معاوية إلى أحد بعده ويكون الأمر شورى [145] .
ومثل هذا القول في مثل هذا الوقت موضعه في غير هذا الصلح، فلا أحد يعلم ما سيكون من معاوية بخصوص الخلافة، ولكن الرواية أرادت التعريض بالبيعة ليزيد واتهام معاوية بالخروج عن الشورى في استخلافه ولده يزيد، وهي قضية جرت في فترة تالية على الصلح بين الحسن ومعاوية.
الرابع: العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء: ورواية البخاري ذكرت أن الحسن ما سأل الوفد: عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر شيئا إلا قال له: نحن لك به، والتذكير بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء لا شية فيه، ولكن إيراد ذلك ضمن شروط الصلح تعريف من الرواية [146] بمعاوية واتهامه بمجافاة ذلك، مما ينفي أن يكون هذا الشرط من شروط الصلح بين الجانبين.
الخامس: وقيل إن الحسن اشترط على معاوية ألا يُسبَّ علي وهو يسمع [147] : وكأن الحسن عفا عن سب علي وهو لا يسمع، ولذلك فقد لا تكون هذه القضية بحثت بين الحسن ومعاوية.
وبعد أن تم الصلح وتنازل الحسن عن الخلافة، قيل إن معاوية قال للحسن، أما إذا كان ذا فقم فتكلم وأخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي، فقام الحسن فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(35/292)
"أما بعد، فإن أكيس الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، إما كان حقا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقا كان لأمرئ أحق به مني ففعلت ذلك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} " [148] الأنبياء (آية 111) .
وقيل لما برأ الحسن من جراحته خرج إلى مسجد الكوفة فقال: "يا أهل الكوفة، اتقوا الله في جيرانكم وضيفانكم وفي أهل بيت نبيكم صلى الله عليه وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فجعل الناس يبكون ثم تحمّل وأهل بيته إلى المدينة" [149] .
وبذلك طويت صفحة من الخلاف والفرقة، واجتمعت الكلمة، وصار معاوية خليفة مجمعا عليه، قيل عام أربعين للهجرة [150] ، ولكن ابن إسحاق [151] والواقدي [152] وخليفة ابن خياط [153] يجعلون ذلك عام واحد وأربعين للهجرة ويختلفون في الشهر الذي وقع فيه الصلح من ذلك العام، أهو ربيع الأول، أو ربيع الآخر، أو جمادى الأولى، أو جمادى الآخرة، فقال المسعودي: ثم صالح الحسن معاوية نحو شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقد رأى قوم إن ذلك كان في جمادى الآخرة أو الأولى من هذه السنة، والأول أشهر وأصح عندنا من مدة أيامه [154] .
ومضى معاوية يقود مسيرة الأمة من غير أن يجعل للفتنة وأحداثها سبيلا على أحد يعيق حركة البناء والجهاد.(35/293)
وقد يسأل سائل عما فعل معاوية بقتلة عثمان بعد صيرورة الخلافة إليه، ويجيب ابن قتيبة في (عيون الأخبار) قائلاً: إن معاوية بن أبي سفيان لما قدم المدينة بعد عام الجماعة، دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أماناًَ، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، لأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس [155] .
والذي يُعتدُّ به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن وقضيت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب، وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان والنخيلة ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب، وكانوا على التعريض بخصوم عثمان والشنآن للخارجين، فعلى سبيل المثال، قيل إن بسر بن أبي أرطاة أقام عام 43 هـ شهراً بالمدينة يستعرض الناس، ليس أحد ممن يقال هذا أعان على عثمان إلا قتله [156] ، ومعْ أن هذا الخبر لا يعتدُّ به، فإنه يشير إلى أن انتصار بني أمية لعثمان بن عفان كان حقيقة لا شبهة بها.
هذا وقد قيل في وصول معاوية إلى الخلافة أقاويل، وجرت في تعليل ذلك أحاديث:
قيل كان علي بن أبي طالب يَعدُّ الخلافة منصبا دينيا، وكان دقيقا في محاسبة العمال ومتصلبا في رأيه ولا يحيد عما يقتضيه ضميره كما كان يفعل أبو بكر وعمر، أما معاوية فكان يلين لمن في جانبه ويتساهل في محاسبة العمال مع أن رجاله كانت قد ذهبت منهم حرمة الدين وذاقوا لذة الثروة وتعودوا على السيادة.(35/294)
ولكن المسلمين في عهد أبي بكر وعمر كانوا لا يزالون في أبان الحمية الدينية والأريحية العربية ولذلك كانوا ينصاعون لأبي بكر وعمر بكلمة، وأما في أيام علي فقد تغيرت الأحوال وعدّ المسلمون سياسة علي ضعفا، فلما رأوا ضعفه انحازوا إلى معاوية بعد أن كانوا معه، وتنتهي المقولة إلى الاستنتاج بأن الفوز دائماً لأهل الدهاء وأن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها، وما دولة الراشدين برأي المقولة بدولة سياسية وإنما هي خلافة دينية [157] .
وقيل إن علي بن أبي طالب جاء يسير وفق الاتجاه الإِسلامي في ظروف استعلاء الاتجاه القبلي وانتصاره، وقد اصطدمت سياسة علي بالاتجاه القبلي في الكوفة التي كانت لا تفهم فكرة الدولة، ولم تتأثر بالتقاليد الحضرية وأفسد هذا الاتجاه على علي بن أبي طالب التفاهم مع خصومه في موقعة الجمل ودفعوه في معركة صفين إلى التحكيم كرها، وفرضوا عليه أبا موسى الأشعري، فكان بسياسته الإسلامية في هذه البيئة القبلية كمن يطرق في حديد بارد.
وأما معاوية فكان خروجه للمطالبة بدم عثمان على أساس قبلي واضح، لأن هذا واجب الدولة وحقها وليس حق الأقرباء، والتفاف الكثيرين حول معاوية يدل على قوة الاتجاه القبلي.
وعليه فإن الخلاف بين علي ومعاوية برأي هذه المقولة صدام بذهن ممثلي تيارين: بين ممثل التيار الإسلامي وهو علي بن أبي طالب، يسير على سياسة إسلامية في وسط قبلي فيصطدم بظروفه وبخصمه في آن واحد وبين ممثل التيار القبلي وهو معاوية بن أبي سفيان، يسير على سياسة قبلية في وسط قبلي، فلا غرابة أن انتصر معاوية لأن الظروف والأوضاع كانت مواتية لمعاوية وكان انتصاره انتصاراً واضحا للتيار القبلي، وكانت دولة الأمويين نتيجة طبيعية لتطور الأوضاع العامة في عصر الراشدين وتفوق الاتجاه القبلي بدون أن يحدث انقطاع في التطور التاريخي [158] .(35/295)
وقيل إن الخلاف بين علي ومعاوية كان صراعا بين عصرين هما: عصر الحكم الراشدي الذي كان مركزه في المدينة والحجاز، وكان يمثل الزهد والتقشف، والشورى والعدل والمساواة في الحكم وتوزيع الأموال بين أفراد الأمة ويمثله علي بن أبي طالب، والعصر الجديد الذي تمثل بظهور جيل جديد وتكون مفاهيم جديدة وعقلية جديدة واتجاه جديد نحو الحياة والتمتع بمباهجها نتيجة تغير رقعة العالم الإسلامي بنتيجة الفتوحات، وتغير طبيعة الحياة المادية وتحول الناس من الزهد والتقشف إلى البذخ والترف، وتغير المجتمع وظهور الجيل الذي لم يعد جيل الصحابة ولا يعيش في عصر الصحابة ولا يتصف بصفاتهم، وهو عصر لم يكن برأي المقولة مؤهلا للاستفادة من الحكم الراشدي والانطباع به، لذلك كان لابد من أن يحل محل الحكم الراشدي حكم جديد بعقلية تشابه عقلية الجيل الجديد واتجاهه ومفهومه للحياة، وخول هذا العصر الجديد أن يستلم هذا الحكم رجل من رجال أسرة كانت في الجاهلية مقاربة في عقليتها ومفهومها للصفة التي كان يتطلبها ذلك المجتمع الجديد، وكان معاوية يمثل هذا الجيل في مفهومه وعقليته ورغباته في الحياة، وكانت بلاد الشام بما هي عليه من مستوى حضاري متقدم على العراق أهلا لأن تكون مركزا وعاصمة لهذا المجتمع الجديد، وتنتهي هذه المقولة إلى القول بأن وصول معاوية كان انقلابا عظيما في تاريخ الإسلام جاء على إثر غلبة العصر الجديد على العصر الراشدي [159] .(35/296)
والمقولات السابقة كما نرى تكاد تكون واحدة وتدور حول محور واحد من غير ضرورة أن يكون اللاحق قد أخذ من السابق، فهي ترد انتصار معاوية ووصوله إلى منصب الخلافة إلى غلبة الاتجاه السياسي على الاتجاه الديني أو غلبة الاتجاه القبلي على الاتجاه الإسلامي، أو غلبة العصر الجديد على العصر الراشدي، فهي لا ترد وصول معاوية إلى الخلافة إلى عامل بسيط يتمثل بالاختلاف بين الأفراد في مؤهلاتهم وقدراتهم، وإنما ترده إلى عامل مركب يشمل التغير في الظروف والعصور والمفاهيم والأفراد، وتجعل هذه المقولات وصول معاوية إلى الخلافة معلم انقلاب في حياة المجتمع الإسلامي وتحول عصر إلى عصر، من العصر الراشدي إلى عصر جديد مختلف في الملامح والخصائص.
فهل كان الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان خلافا بين عصرين؟ وهل كان وصول معاوية إلى الخلافة انتصارا لعصر جديد على عصر الراشدين؟.
والقول بأن وصول معاوية إلى منصب الخلافة كان نتيجة للتناقض بين السياسة والدين في قول، والصراع بين القبلية والإسلام في قول ثان، وبين العصر الجديد والعصر الراشدي في قول ثالث، وإن غلبة معاوية كانت غلبة للسياسة على الدين وللقبلية على الإسلام والعصر الجديد على العصر الراشدي كلام يحتاج إلى إعادة نظر وتدقيق.
ففي الإسلام لا انفصال بين الدين والسياسة ولا انفصام بينهما، والسياسة في الإسلام سلوك موجه بالشرع وقائم على قواعده ومضبوط بأحكامه، ووصف علي بن أبي طالب بالدين دون السياسة ورميه بالبعد عن الدهاء السياسي كلام لا يستند إلى أساس تاريخي [160] ، فهو إن لم يكن أكثر من معاوية دهاء ونبوغا فلا يقل عنه على أقل تقدير [161] ، ووصف معاوية بالسياسة دون الدين تضليل وتشويه، ولكن المقولة تريد أن تقول إن الإسلام لم يعد يصلح لمواكبة الحياة وسياستها.(35/297)
وعلي بن أبي طالب أفضل من معاوية من غير شك، وما كان في معاوية خصلة ينازع عليا بها [162] ، ومع تأخر معاوية عن علي بالفضل فإنه ما تعدى الإسلام في أفعاله وعلاقاته أو تجاوزه، ولم يكن سياسياً بلا دين على نحو ما صورته بعض المقالات السابقة [163] ، هذا فضلا عن أن الفرد ليس بقادر على أن يسيّر المجتمع في العاجلة بغير ما عليه المجتمع من المفاهيم والأفكار والأنظمة المنبثقة عن عقيدته.
وبالنسبة للمجتمع الإسلامي فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل قواعده الرئيسية، وأتم ما يلزم لتحديد إطار شخصيته، وتكونت في حياته عليه السلام النخبة القيادية الواعية التي أخذت من بعده ترسي مبادئ الإسلام في نفوس الناس وحياتهم ثقافة وتطبيقا، والمعلوم أن المجتمع الإسلامي من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يكبر ويتسع، وأخذت أشكال الحياة القديمة قبلية وغير قبلية تتراجع في الصراع أمام المد الإسلامي، وصارت الشخصية الإسلامية للبلاد من حول جزيرة العرب تتضح أكثر فأكثر، وصارت هذه البلاد بفعل الثقافة تتجه أكثر فأكثر نحو الوحدة في العقيدة الإسلامية وما ينبني عليها من المفاهيم والأفكار والأنظمة وينبثق عنها.
والقول بأن هذا المجتمع، أو هذا العصر، أو هذا الاتجاه قد تنحّى أو أخذ يتنحّى بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام عصر جديد ومفاهيم مغايرة واتجاهات مخالفة يخالف مفهوم المجتمعات وطبيعة قيامها وتحولها من حال إلى حال، ويخالف سنن تطور النظم والأفكار والمفاهيم فيها، ولو فرضنا أن المجتمع الإِسلامي في أواخر خلافة عثمان وفي زمن الخلاف بين علي وخصومه كان يقع بين قطبي المحافظة والتغيير لما أمكن لقوى التغيير إذا صح وجودها أن تنجح في مهمتها بمثل هذه السرعة والسهولة إلا أن يكون بناء المجتمع هشا ابتداء.(35/298)
هذا وقد ظل معاوية في أيام خلافته كما كان في أيام خلافة عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان يفتح الله على يديه الفتوح، ويغزو الأعداء، ويقسم الفيء والغنيمة ويقيم الحدود ولا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه جمع من الصجابة والتابعين [164] .
ونظرة إلى نواب معاوية وولاته في الأقاليم والبلدان نجدهم من أولئك الذين ولاّهم الخلفاء الراشدون من قبل، منهم، المغيرة بن شعبة الثقفي وعمرو بن العاص وعبد الله ابن عامر ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وزياد بن أبيه وأمثالهم.
وأخرى إلى القضاة الذين كانوا يفصلون فيما شجر بين الناس في زمنه نجد في المدينة أبا هريرة ثم عبد الله بن نوفل بن الحارث ثم أبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف وهو من أفقه الناس، ثم أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف.
ونجد في البصرة عميرة بن يثربى الضبي ثم عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصم بن فضالة ثم زرارة بن أوفى، وفي الكوفة شريح بن الحارث الكندي، وكان شريح يلي القضاء فيها منذ أيام عمر بن الخطاب وظل قاضيا إلى ما بعد خلافة معاوية، وفي بلاد الشام فضالة بن عبيد الأنصاري، أحد من بايع بيعة الرضوان، ثم النعمان بن بشير، ثم بلال بن أبي الدرداء، وفي مصر، سليم بن عتر اليحصبي، وقيل ابن عنز، وكان كثير التلاوة للقرآن ويدعى الناسك لشدة تألهه وكثرة تعبده [165] .
والمعلوم أن القضاء من أبرز العوامل التي تحدد شخصية المجتمع.(35/299)
وأما إذا كان مفهوم المجتمع لا يعني إلا أشخاص الحاكمين ومن فيه من الأفراد، فلاشك أن أبا بكر وعثمان وعليا وأمثالهم من الصحابة من أبناء العصر الراشدي لا يماثلهم أبناء العصر الأموي وحكامه، والاختلاف بينهم بيّن وواضح، ولكن الفرق بينهما لا يدعو إلى وصفه بالانقلاب، والمجتمع بالمفهوم السابق لا يطابق حقيقة المجتمع وواقعه، ففهم المجتمع على أنه مجموع ما فيه من الحكام والأفراد يغفل جوانب المجتمع وخصائصه الأخرى في العقيدة والمفاهيم والأنظمة والأفكار المنبثقة عن العقيدة وآثارها في العلاقات بين الناس وانضباط العلاقات بها.
وعليه فإن وصول معاوية إلى منصب الخلافة لابدَّ أنْ يُدرَسَ من خلال وسط آخر غير مقولات تبدل المجتمع وتغير شخصيته، لابد أن يدرس من خلال مقتل عثمان ابن عفان وما تبعه من ظروف وتطورات تلاحقت لا علاقة لها بتبدل مفاهيم المجتمع وتغير عقليته ومعاييره.
فقد جاءت خلافة علي بن أبي طالب من بعد قتل عثمان. وفي الوقت الذي سيطر فيه على المدينة أولئك الذين فصلوا من الأمصار إلى عثمان منحرفين عنه، ولذلك لم يكن الجو الذي استخلف فيه علي بالمدينة كالأجواء التي استخلف فيها من سبقه من الخلفاء، وقيل للاستبراء من عوالق هذا الجو نصح عبد الله بن عباس عليا أن يبتعد عما كان يجرى في المدينة وبينّ له أن الناس عند ذلك لن يتركوه حتى يأتوا به ويبايعوا له، ولكن عليا عصاه [166] ، وقيل نصحه ابنه الحسن بمثل ذلك وأشار عليه أن لا يقبل البيعة حتى تأتيه وفود العرب وبيعة كل مصر فإنهم لن يقطعوا أمرا دونه ولكن عليا أبى [167] .(35/300)
كان علي بن أبي طالب يرى أنه أحق الناس بالخلافة، فلما بايعه من بالمدينة قبلها خشية على الدين كما قال، ومخافة أن يرجع الناس إلى أمصارهم ولم يقم بعد عثمان قائم فيقع الاختلاف والفساد [168] ، ولم ير لنفسه أن يتنحّى عن حمل المسؤولية أو يفرط بالأمر، ورأى أن يقاتل بمن أطاعه من خالفه [169] ، وسار على هذه السياسة مع خصومه في الجمل وصفين والنهروان وغيرها، ولكن النتائج آلت إلى غير ما كان يهوى وتنغصت عليه الأمور، وانكسر عليه رأيه [170] ، فلم حدث ذلك؟.
كان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرجوا بعد استخلاف علي إلى البصرة من غير مشورة علي ورضاه يطلبون بدم عثمان وإصلاح الأمر [171] ، وقيل لما سأل علي بن أبي طالب سعد بن أبي وقاص أن يقاتل معه، قال له سعد: قد كان ما بلغك فأعطني سيفا يعرف المسلم من الكافر حتى أقاتل به معك، وقال له عبد الله بن عمر: أنشدك الله أن تحملني على مالا أعرف، وقال له محمد بن مسلمة: إن رسول الله أمرني أن أقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل أهل الصلاة أضرب به صخر أحد حتى ينكسر وقد كسرته بالأمس، وقال أسامة بن زيد: أعفني من الخروج في هذا الوجه فإني عاهدت الله ألا أقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله [172] . وقيل لزم أكثر أهل بدر بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم [173] .(35/301)
وإضافة إلى كراهة من سبق ذكرهم من أهل المدينة للقتال بين المسلمين كان هناك في الكوفة من يدعو إلى القعود عن القتال واعتزال الفتنة مثل أبي موسى الأشعري، وكان يرى من اعتزل وكره الدماء هو من خيار الناس ممن قد خفّ ظهره من مظالم الناس [174] ، والقعود عن القتال واعتزال الفتنة اتجاه إسلامي عند هؤلاء أداهم إليه اجتهادهم وأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بهم، وليس بالضرورة بواجب، إذ لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد ولا أبطل باطل [175] ، فقد مال بالمقابل أغلب أهل الكوفة إلى علي بن أبي طالب وقاتلوا في طاعته في الجمل لاقتناعهم بحاجة الناس إلى إمارة تنظمهم وتزع الظالم وتعز المظلوم [176] ، وهي جميعاً لاشك مفاهيم إسلامية، ولكننا أوردناها لبيان الآراء والمواقف التي نجمت عن مقتل عثمان بن عفان ومعرفة منطلقاتها الفكرية وآثارها على الخلاف بين الأطراف.
وفي البصرة، اعتزل بعض أهلها مثل الأحنف بن قيس وقومه القتال في الجمل، ومنهم من ناصر الخليفة علي بن أبي طالب، ومنهم من ناصر طلحة وصحبه، وهي جميعاً مواقف وآراء ومفاهيم إسلامية، ولما مرّ علي بن أبي طالب بقتلى الجمل قال: إني لأرجو أن لا يكون أحد نقّى قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة [177] .
ولاشك أن ما هو أفضل من هذا الاختلاف في الآراء والمواقف أن يكون رأي الناس واحدا وجماعتهم واحدة، ولكن أنىّ يكون ذلك وقد جعل قتل عثمان والأجواء التي خلفها قتله تفكير الناس وآراءهم ومواقفهم في اختلاف!.
وبعد الجمل، خرج علي بالناس إلى صفين، وبعد أن نشب القتال في صفين واشتد، رفعت المصاحف ونودي إلى التحكيم، فتوقف القتال ونزل علي بن أبي طالب على التحكيم وأجاب، فَلِمَ أجاب علي إلى التحكيم ورضيه؟(35/302)
قيل كان أبو سعيد الحسن البصري ينكر الحكومة، وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثا ولعن قتلته ثم يذكر عليا فيقول: "لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه النصر ويساعده الظفر حتى حكم، فلم تحكّم والحق معك" [178] .
ولمعرفة ما جرى يحسن إِيراد بعض الشواهد التي وقعت قبل صفين وعززت قبول التحكيم والموادعة والصلح.
نهض الحارث بن حوط الليثي بعد الجمل إلى علي بن أبي طالب وهو على المنبر فقال: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على ضلال، فقال علي: يا حار، إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، فاعرف الحق تعرف أهله [179] .
وقال رجل من فزارة يسمى أربد لعلي: أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم؟ كلا، ها الله إذاً لا نفعل ذلك، وهرب الفزاري، ولكن الناس وطئوه بأرجلهم حتى مات [180] .
واستخلف علي بن أبي طالب على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر البدري الأنصاري في أثناء خروجه إلى صفين [181] ، وكان رجال من أهل الكوفة استخْفُوا، وكان ناس يأتون أبا مسعود فيقولون: قد والله أهلك الله أعداءه وأظفر المؤمنين، فيقول أبو مسعود: "إني والله ما أعده ظفرا ولا عافية أن تظهر إحدى الطائفتين، ولكن نعدها عافية أن يصلح الله أمة محمد ويجمع ألفتها" [182] ، وقال الأشتر النخعي لقومه النخع، "وإنكم تسيرون غدا إلى أهل الشام قوم ليس لكم عليهم بيعة، فلينظر امرؤ منكم أين يضع سيفه" [183] .
وقيل كان الناس في العراق منهم المسرور لما كان بين علي ومعاوية وهم أغشاء الناس، ومنهم المكبوت الآسف وهم نصحاء الناس لعلي، هذا إضافة إلى ما كان من أصوات أخرى انطلقت تندد بالقتل [184] ، وما روي عن علي بن أبي طالب أنه تحسر لما رأى قتلى الجمل وتمنى لو أنه مات قبل ذلك [185] .(35/303)
وهي شواهد تشير إلى أن القتال بين المسلمين (قتال أهل القبلة وأهل الصلاة) دون القتال في سبيل الله ومجاهدة الأعداء كان قد أخذ يتعرض للنقد قبل معركة صفين، ثم أصبح التخلي عنه واللجوء إلى حل بديل عنه وهو التحكيم والصلح مطلبا في صفين.
ولابد من القول بأن القتال يوم الجمل ويوم صفين لم يكن بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا رآه علي [186] ، ولم يوافقه عليه كثير من الصحابة، ولما وجد علي أن عظم من كان معه قد مالوا إلى الصلح في صفين، وأن من آثر منهم مواصلة القتال لا يتحقق بهم المصلحة أجاب إلى الحكومة ورضي التحكيم.
وسواء كان الذين مالوا إلى الصلح وحقن الدماء بعد أن كانوا مشوا من قبل درب القتال مالوا مشفقين على أنفسهم من القتل أو مالوا مشفقين من القتل على المسلمين، فإننا مع الجميع في ظلال آراء ومفاهيم ومواقف إسلامية، ولا يقلل من ذلك أن معاوية وصحبه هم الذين رفعوا شعار التحكيم، فلولا أن حقن دماء المسلمين كان يلاقى هوى في النفوس ما استجابوا له، ولولا أن كتاب الله وتحكيمه في العلاقات بين الناس له سلطانه عليهم ما رفعوه.
وسار التحكيم بما لا يرتضيه علي بن أبي طالب، وكان علي أراد أن يجعل عبد الله ابن عباس عنه حكما، ولكن أهل العراق اختاروا أبا موسى الأشعري، وقيل إن الذي أشار بأبي موسى الأشعري هو الأشعث بن قيس الكندي، ورفض عبد الله بن عباس وقال: لا والله، لا يحكم فينا مضريان [187] .
وهذا إن صح، له مدلول قبلي، ولكن قبلية هذا الكلام لا تصيب أبا موسى الأشعري، لا في موقفه من الأحداث ولا في حكمه في القضية، فأبو موسى صحابي وموقفه من الأحداث معروف، وفضلا عن ذلك، ذكر الهيثم بن عدي، أن أول من أشار بأبي موسى هو الأشعث بن قيس الكندي، وتابعه أهل اليمن لأن أبا موسى كان ينهى الناس عن الفتنة والقتال، ولم يدخل فيما دخل فيه الناس، واعتزل في بعض أرض الحجاز [188] .(35/304)
وذكر أبو حنيفة الدينوري أن الأشعث وقراء العراق رضوا بأبي موسى لأنه رجل هو من علي ومن معاوية سواء ليس إلى أحد منهما بأدنى منه إلى الآخر [189] .
وقال ابن أعثم إنهم قالوا: فإننا قد رضينا بأبي موسى الأشعري، فإنه وافد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وصاحب مقاسم أبي بكر وعامل عمر بن الخطاب [190] .
وقيل إن علي بن أبي طالب بعدما لم يوافقوه في عبد الله بن عباس وأشاروا عليه بأبي موسى أراد أن يبعث الأشتر النخعي عنه حكما، فلم يوافقوه وقالوا: وهل سعّر الحرب وسعّر الأرض إلا الأشتر [191] .
والأشتر النخعي مثل أبي موسى يماني، وهذا دليل علِى أن يمانية أبي موسى الأشعري ليست هي المقصودة، ويبدو أن اختيار أبي موسى كان اختياراً لاتجاهه واستمراراً لمطلب وقف القتال بين المسلمين، وحل الخلاف عن طريق الصلح.
وفي مؤتمر التحكيم طرح الحكمان وجهات نظر إسلامية، انطلقت من الحرص على جمع الكلمة ووحدة الأمة، فناقشا مسألة الخلافة، واتفقا على النظر فيمن يكون محل إجماع الأمة واتفاقها، ولكنهما اختلفا حول تسمية من يقدمانه للإمامة ويختارانه للخلافة، وبنى أهل الشام على ذلك جواز استخلاف معاوية وتعلّل بعضِ أهل العراق على علي بسبب التحكيم العلل وخرجوا عليه، مما أضعف جانب علي كثيراً، ولكن ذلك لم يحسم المسألة لصالح معاوية وظل عليا خليفة حتى قتل عام 40 هـ.
وحتى هذا الحد لا نزال أمام نتائج كانت جميعها إفرازات آراء ومفاهيم ومواقف إسلامية متباينة، ومحصلة اجتهادات متفاوتة.
والى جانب عامل القتال بين المسلمين وتطوراته كان عامل الطلب بدم عثمان بعداً آخر من أبعاد فهم وصول معاوية إلى الخلافة.(35/305)
فقد قتل عثمان بن عفان، وقام بنو أمية بالحجاز يطلبون بدم عثمان منهم عبد الله ابن عامر وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب ابن أسيد ويعلي بن أمية وغيرهم من بني أمية [192] ، ومما قاله الوليد بن عقبة من الشعر يحرض به معاوية على الطلب بدم عثمان [193] :
النهار ولم يثأر بعثمان ثائر
والله ما هند بأمك إن مضى
ولم يقتلوه، ليت أمك عاقر
أيقتل عبد القوم سيد أهله
وأشعار أخرى قالها يحرض فيها على الطلب بدم عثمان.
وقد يوصف تحرك بني أمية في الطلب بدم عثمان بالقبلية، ولكن عثمان كان خليفة، وقتله قضية تهم المسلمين عامة، ولم يتحرك بنو أمية في هذا الوجه وحدهم من دون الناس، فقد خرجوا مع طلحة وجمع كثير من المسلمين، وطلب بدم عثمان أهل الشام ومصر وغيرهم.
وفي حين انتهت حركة المطالبة بدم عثمان في العراق عند حدود معركة الجمل في البصرة، حظيت بنصير قوي لها في الشام.
ومثلما أقام طلحة وصحبه حركة المطالبة بدم عثمان في العراق، أقامها في الشام معاوية، ومثلما كانت سابقة طلحة وصحبه ومكانتهم وعضوية طلحة والزبير وعثمان في الشورى- شورى عمر- من أسباب التفاف من التف حولهم [194] ، كانت إمرة معاوية وأثره الطيب في ولايته وقرابته من عثمان من أسباب التفاف من التف حوله من أهلِ الشام وغيرهم، ومثلما كانت حركة المطالبة بدم عثمان بقيادة طلحة وصحبه تمثل بعداً إسلامياً كانت مثلها حركة المطالبة بدم عثمان في الشام بقيادة معاوية.(35/306)
وهي جميعاً مواقف صادرة عن اجتهادات متأولة، وقد اختلفت هذه الاجتهادات فاختلفت المواقف، وأصاب البعض وهو علي بن أبي طالب وأخطأ غيره [195] ، وكان الأولى، وقد بويع علي بن أبي طالب بالخلافة أن يتابع القوم ويبايعوه تجنباً للفرقة، وسفك الدماء، وكان يمكن في اجتماع الكلمة ووحدة الأمة أن يكون خير كثير، ولكن طلحة وصحبه وقفوا مع شورى عمر بن الخطاب والطلب بدم عثمان وهي قيم إسلامية محضة، ووقف معاوية بن أبي سفيان يطلب بدم عثمان، واستفظع أن يقتل عثمان وأن يعلو اتجاه الذين ثاروا عليه وأن ينجو الذين قتلوه، ولم ير علي بن أبي طالب يزيد في قوله بصددهم عن محاكمتهم إليه ليحملهم وإياهم على ما في كتاب الله وسنة نبيه، وأنهضت الظروف وتطوراتها في نفسه الإمارة، ووجد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما يطمئن إليه، فتحرك من غير تردد ولا إصغاء إلى أحَد.
ذكر ابن عساكر [196] ، أن معاوية كان كتب إلى عبد الله بن عباس كتاباً فأجابه ابن عباس: من عبد الله بن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، عصمنا الله وإياك بالتقوى، أما بعد ...
فقد جاءني كتابك، فلم أسمع منه إلا خيراً، وذكرت شأن المودة بيننا، وإنك لعمر والله، لمودود في صدري، من أهل المودة الخالصة والخاصة، وإني للخلة التي بيننا لراع ولصالحها حافظ ولا قوة إلا بالله.(35/307)
أما بعد. حفظ الله، فإنك من ذوي النهي من قريش وأهل الحلم والخلق الجميل منها، فليَصْدُر رأيك بما فيه النظر لنفسك والتقية على دينك والشفقة على الإسلام وأهله، فإنه خيرٌ لك وأوفر لحظك في دنياك وآخرتك، وقد سمعتك تذكر شأن عثمان بن عفان، فاعلم أن انبعاثك في الطلب بدمه فرقةٌ وسفك للدماء وانتهاك للمحارم، وهذا، لعمر الله، ضرر علي الإِسلام وأهله، وأن الله سيكفيك أمر سافكي دم عثمان، فتأنَّ في أمرك، واتق الله ربِّك، فقد يقال، إنك تكيد الإمارة (تحتال لها) ، وتقول، إن معك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقول نبي الله الحق، فتأنَّ في أمِرك، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للعباس: إن الله يستعمل من ولدك اثنى عشر رجلاً، منهم السفاح والمنصور والمهدي والأمين والمؤتمن وأمير العصب، أفتراني استعجل الوقت أو انتظر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق، وما يُرد الله من أمر يكن ولوكره العالم ذلك، وأيم الله لو أشاء لوجدت متقدما وأعواناً وأنصاراً ولكني أكره لنفسي ما أنهاك عنه، فراقب الله ربك واخلف محمداً في أمته خلافة صالحة، فأما شأن ابن عمك علي بن أبي طالب، فقد استقامت له عشيرتك وله سابقته وحقه ونحن له على الحق أعوان ونصحاء لك وله ولجماعة المسلمين والسلام عليك ورحمة الله.
وجرى ما جرى وأفضت الحال إلى صفين والتحكيم والنهروان والنخيلة، وتضعضع جانب علي بن أبي طالب، ولعلّ ابن عباس من خلال استقراء ما حدث قال قولته التي رويت عنه، قال ابن عباس: والله ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [197] .(35/308)
ثم قتل علي بن أبي طالب على يد الخوارج، وقام ابنه الحسن بن علي مقامه، ولكن الحسن آثر أن يتنازل عن الخلافة رغبة منه في الصلح بين طائفتين من المسلمين وحقن دمائهم، ووصل معاوية إلى الخلافة من غير أن تكون شخصية المجتمع الإِسلامي تبدلت ومفاهيمه وعقليته تغيرت ومعالمه انقلبت، وظلت الاستمرارية في خصائصه ومعالمه قائمة على تفاوت بين أفراده قوة وضعفا، ولكنها ظلت قائمة في ركيزته القضائية والتنفيذية ومصونة في عقيدة الإِسلام وشريعته.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري/ صحيح البخاري، فضائل أصحاب النبي، مناقب عمر بن الخطاب ج5 ص 14- 15.
[2] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج4 ص 234.
[3] انظر: ابن كثير/ البداية والنهاية ج7 ص 293.
[4] ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 271- 272، أبو جعفر الطبري ج4 ص 508- 509، المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 213، ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج3 ص 122.
[5] الذهبي/ العبر في خبر من غبر ج1 ص 27، ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 61.
[6] ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 60.
[7] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 8، الهيثمي/ مجمع الزوائد ج7 ص 236، ابن حجر/ المطالب العالية ج4 ص 297- 299، ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 55- 57.
[8] الجاحظ/ البيان والتبيين ج4 ص 222.
[9] ابن عساكر/ تاريخ دمشق- تراجم حرف العين تحقيق شكري فيصل ورفاقه ص 426- 427 ترجمة عبد الله ابن الزبير.
[10] ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 56. 60، ابن حزم/ الفصل في الملل ج4 ص 238- 239.
[11] ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 262-263، 286.(35/309)
[12] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 147، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج4 ص 292، 5، 7، ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 283، 284، المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 213، ابن حجر/ المطالب العالية ج 4 ص 301، ابن حزم/ الفصل في الملل ج4 ص 239، الذهبي/ العبر في خبر من غبر ج1 ص 7، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 7 ص 253.
[13] انظر المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 209، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص 703، ترجمة معاوية ابن أبي سفيان، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 136، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 239.
[14] ابن كثير/ البداية والنهاية ج 8 ص 22.
[15] يحي بن سليمان بن يحي بن سعيد الجعفي الكوفي المقرئ الحافظ نزيل مصر روى له البخاري وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. مات سنة 237 هـ أو التي بعدها.
[16] انظر: الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 140 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[17] المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 217.
[18] انظر أبو جعفر الطبري/تاريخ الطبري ج5 ص 6، أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 157، نصر ابن مزاحم/ وقعة صفين ص 29، 58. 85، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج 16 ص 708، ترجمة معاوية ابن أبي سفيان، ابن حجر/ فتح الباري ج 13 ص 60- 61، 92، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 210، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج 3 ص 140، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 7 ص 269- 270.
[19] انظر: ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص 708 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[20] المصدر نفسه ج 16 ص 707، ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[21] انظر: البلاذري/ أنساب الأشراف ص 302 تحقيق المحمودي، ابن أعثم/ الفتوح ج2 ص 416، حيدر اباد 1970 م، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 7، المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 217، ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج3 ص 148، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 266.(35/310)
[22] ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 270.
[23] انظر: البيهقي/ دلائل النبوة ج 6 ص 446، ابن حجر/ المطالب العالية ج 4 ص 108، الهيثمي/ مجمع الزوائد ج5 ص 186، ابن كثير/ البداية والنهاية ج ص 117، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج 3 ص 131 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[24] انظر: ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 298، اليافعي/ مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان ج1 ص 137.
[25] انظر: ابن كثير/ البداية والنهاية ج7 ص288.
[26] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 48، ابن سعد/ الطبقات الكبرىج3 ص 32، أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 189- 191، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص172 ترجمة معاوية بن سفيان.
[27] انظر: المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 220.
[28] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 191.
[29] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 48.
[30] خليفة بن الخياط/ تاريخ خليفة ص 185، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج4 ص 59، 511، 514، 529.
[31] نفس المصدر السابق.
[32] نفس المصدر السابق.
[33] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 18، 41.
[34] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 55.
[35] انظر: أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 189، 191، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 7 ص 284.
[36] انظر: ابن أبي شيبة/ المصنف ج 15 ص 317- 318، ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 86.
[37] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 66.
[38] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 54.
[39] خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 192.(35/311)
[40] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 71، ابن سعد/ الطبقات الكبرىج3 ص 33، اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 190، المسعودي/ التنبيه ص 295- 296، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص 703 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[41] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 57، 66.
[42] نفس المصدر السابق.
[43] المبرد/ الكامل في اللغة ج3 ص 210- 211.
[44] انظر: خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 192، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 57، 67.
[45] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 54، 57، 66، 67.
[46] المصدر نفسه ج5 ص 69.
[47] انظر: أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 199.
[48] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 70، ابن اعثم/ الفتوح م 2 ج 3- 4 ص 210.
[49] انظر: ترجمة عمرو بن العاص وترجمة أبي موسى الأشعري عند: ابن عبد البر/ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن حجر/ تهذيب التهذيب، ابن الأثير/ أسد الغابة في معرفة الصحابة.
[50] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 53- 54.
[51] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري/ ج5 ص 57- 59.
[52] المصدر نفسه ج 5 ص 67- 71.
[53] المصدر نفسه ج5 ص 67.
[54] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 190.
[55] ابن اعثم/ الفتوح م 2ج3- 4، 207- 210.
[56] ابن كثير/ البداية والنهاية ج7 ص 293.
[57] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 199، 201.
[58] المقدسي/ البدء والتاريخ ص 5 ص 229.
[59] أبو بكر العربي/ العواصم من القواصم ص 178- 179.
[60] نبيه أمين فارس/ تطور كتابةْ التاريخ عند العرب المحدثين كما تبدو في معالجتهم قضية النزاع بين علي ومعاوية ص 173، الأبحاث، الجامعة الأميركية، بيروت، السنة 16 الجزء2 حزيران سنة 1963 م.(35/312)
[61] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 57- 59، القاضي أبو بكر العربي/ العواصم من القواصم ص 178، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 7 ص 293.
[62] ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3- 4 ص 206.
[63] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 69.
[64] ابن العربي/ العواصم من القواصم ص 178 - 179.
[65] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 42.
[66] ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3- 4 ص 207- 208.
[67] خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 192.
[68] المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 229.
[69] الدينوري/ الأخبار الطوال ص 200، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 293.
[70] الذهبي/ العبر في خبر من غبرج1 ص 31.
[71] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 72- 92، المبرد/ الكامل في اللغةج3 ص 187، 195-196.
[72] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 89.
[73] ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 319.
[74] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 122- 124، ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3-4 ص 240، الهيثمي/ مجمع الزوائدج7 ص 246، ابن كثير/ البداية والنهاية ب 7 ص 320.
[75] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 133 - 136، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4 ص 237، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 229، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 7 ص 331- 334.
[76] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 122.
[77] الذهبي/ العبر في خبر من غبرة ج 1 ص 32.
[78] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 140.
[79] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 212، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 152.
[80] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 212.
[81] ابن سعد/ الطبقات الكبرىج3 ص 36.
[82] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 55، 82.
[83] المصدر نفسه ج5 ص 89- 90.(35/313)
[84] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 188- 189.
[85] ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج3 ص 202.
[86] انظر: ابن حجر/ تهذيب التهذيب ج 2 ص 300 ترجمة الحسن بن علي، ابن قدامة المقدسي/ التبيين في أنساب القرشيين ص 106، ترجمة الحسن بن علي.
[87] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 146- 147.
[88] المسعودي/ مروج الذهب ج3 ص 4.
[89] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 158.
[90] الذهبي/ سير أعلام النبلاء ص 3 ص 263، رواية الكلبي.
[91] خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 203.
[92] المسعودي/ التنبيه والأشراف ص 301.
[93] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج ص 648.
[94] الطبراني/ المعجم الكبير ج 3 ص 26، اليعقوبي/ تاريخ اليعقوي ج2 ص 4 21.
[95] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 214.
[96] ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3، 4 ص 287- 288.
[97] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 213.
[98] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 143، 149.
[99] الدينوري/ الأخبار الطوال ص 216، 218، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4ص 88-، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 235، ابن قدامة المقدسي/ التبيين في أنساب القرشيين ص 105، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 264.
[100] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 158 رواية الزهري، ابن أعثم/ كتاب الفتوح م 2ج3-4 ص 289، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 235، ابن حجر/ تهذيب التهذيب ج2 ص 298- 299، ابن قدامة المقدسي/ التبيين في أنساب القرشيين ص 105، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 8 ص 16.
[101] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 159، الذهبي/ سير أعلام النبلاءج3 ص 263 رواية عوانة بن الحكم.
[102] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 158، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 8 ص 16.(35/314)
[103] ابن تيمية/ منهاج السنة ج 4 ص 299، 535- 536، ابن كثير/ البداية والنهاية ج 8 ص 1 25.
[104] الطبراني/ المعجم الكبير ج 3 ص 102.
[105] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 162، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4 ص 295.
[106] المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 235.
[107] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 216 - 217، ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3 -4 ص 289- 292، 295، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 236.
[108] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 159- 160، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 263- 264، ابن كثير/ البداية والنهاية ج8 ص 16.
[109] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 217- 218.
[110] المسعودي/ مروج الذهب ج 3 ص 8، 9.
[111] اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 214- 215.
[112] البخاري/ صحيح البخاري، كتاب الصحاح ج2 ص 962- 963.
[113] ابن تيمية/ منهاج السنةج4 ص 536.
[114] البخاري/ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، مناقب الحسن والحسين ج3 ص 1369، كتاب الفتن ج6 ص 2602.
[115] انظر: ابن حجر/ فتح الباري ج 13 ص 68 - 69.
[116] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 165، الذهبي/ سير أعلام النبلاءج3 ص 264.
[117] خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 203، المقدسي/ البدء والتاريخ ج 5 ص 237.
[118] الشعبي/ تابعي ثقة، ولد عام 19 هـ وقيل عام 20هـ انظر: الذهبي/ تهذيب التهذيب ترجمة عامر الشعبي.
[119] الطبراني/ المعجم الكبير ج 3 ص 26.
[120] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 162- 163.
[121] ابن أعثم/ الفتوح م ج 3 -4ص 293، ابن كثير/ البداية والنهايةج8 ص 16.
[122] الذهبي/ سير أعلام النبلاءج3 ص 264.
[123] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 160.
[124] المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 236.(35/315)
[125] الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 264.
[126] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 218.
[127] الذهبي/ سير أعلام النبلاءج3 ص 264.
[128] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 218.
[129] البخاري/ صحيح البخاري، كتاب الصلح ج 2 ص 963.
[130] ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج3-4 ص 293.
[131] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 165.
[132] انظر: ابن حجر العسقلاني/ فتح الباري ج13 ص68.
[133] البخاري/ صحيح البخاري، كتاب الصلح ج 2 ص 963.
[134] أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 163- 164، ابن أبي شيبة/ ج15 ص 79- 80.
[135] فلهوزن/ تاريخ الدولة العربية ص 103- 106.
[136] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 159 - 160، ابن أبي شيبة/ المصنف ج 15 ص 79.
[137] انظر: أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 217، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4 ص 289، المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 235، ابن حجر/ المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانيةج4 ص 318، 319.
[138] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 139- 140، ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج 3 ص 192.
[139] انظر: اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 214، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 141- 143، 163، فلهوزن/ تاريخ الدولة العربية ص 100- 106.
[140] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 141- 143.
[141] انظر: ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3-4 ص 291، 293، 294، أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 218، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 160، ابن حجر/ المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ج 4 ص 318، 319، ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 79- 80.
[142] ابن حجر/ تهذيب التهذيب ج 2 ص 299 ترجمة الحسن بن علي، الذهبي/ سير أعلام النبلاءج3 ص 264.(35/316)
[143] ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4 ص 293.
[144] المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 236، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3 4 ص291.
[145] ابن أعثم/ الفتوح م2ج 3-4 ص 293، ابن حجر/ فتح الباري ج 13 ص 70.
[146] انظر: المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 236، ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3 4 ص 293.
[147] ابن كثير/ البداية والنهاية ج 8 ص 16، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج3 ص 264 ترجمة الحسن بن علي.
[148] الطبراني/ المعجم الكبير ج3 ص 16، ابن حجر/ تهذيب التهذيب ج2 ص 300 ترجمة الحسن بن علي، ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 68، ابن قدامة المقدسي/ التبيين في أنساب القرشيين ص 105، وانظر: اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 215، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 163.
[149] الطبراني/ المعجم الكبيرة ج 3 ص 93، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 165.
[150] الطبراني/ المعجم الكبير ج 3 ص 26.
[151] انظر: ابن حجر/ تهذيب التهذيب ج 2 ص 299 ترجمة الحسن بن علي.
[152] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 164.
[153] انظر: خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 203.
[154] المسعودي/ التنبيه والأشراف ص 301.
[155] ابن قتيبة الدينوري/ عيون الأخبار ج 1 ص 14، ابن عبد ربه/ العقد الفريد ج4 ص 364.
[156] انظر: أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 176، ج6 ص 207.
[157] انظر: جورجي زيدان/ تاريخ التمدن الإسلامي ج3 ص 335- 336.
[158] انظر: الدوري/ مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص 58- 62.
[159] انظر: يوسف العش/ الدولة الأموية ص 118- 123.
[160] انظر: الدوري/ مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص 58.(35/317)
[161] انظر: العش/ الدولة الأموية ص 119، ومن أجل الأمثلة على ذلك انظر: اليعقوبي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 189،أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 192، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 66، ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج3-4 ص 65، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 293.
[162] ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص 714 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[163] انظر: زيدان/ تاريخ التمدن الإسلامي ج3 ص 335- 336.
[164] ر: ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج16 ص 671، 674، الطبراني/ المعجم الكبير ج 19 ص 319 - 393.
[165] انظر: وكيع/ أخبار القضاة ج 1 ص 111- 119، ج 2 ص 189، 194، 396-397، ج3 ص 201، 222، 291، 292، الذهبي/ سير أعلام النبلاء ج 4 ص 132 ترجمة سليم بن عتر.
[166] الهيثمي/ الزوائد العاليةج7 ص 236، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج 16 ص706 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
[167] ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج 3 ص 114.
[168] ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 62، 99.
[169] ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج3 ص 114.
[170] انظر: ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3 -4 ص 235، ابن حجر/ المطالب العالية ج4 ص 323- 324، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 235، ج 8 ص 13.
[171] ابن حجر/ فتح الباري ج 13 ص 61، الذهبي/ العبر في خبر من غبر ج 1 ص 27.
[172] الدينوري/ الأخبار الطوال ص 143، البخاري/ التاريخ الكبير ج 1 ص 12 ترجمة محمد بن مسلمة.
[173] ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 214.
[174] ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3-4 ص 208- 209.
[175] ابن حجر/ فتح الباري ج 13 ص 37.
[176] الدينوري/ الأخبار الطوال ص 145، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 4 ص 485 وما بعدها.
[177] ابن الأثير/ الكامل في التاريخ ج 3 ص 132.(35/318)
[178] المبرد/ الكامل في اللغة ج 3 ص 215- 216.
[179] الجاحظ/ البيان والتبيين ج 2 ص 211.
[180] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 164.
[181] ابن كثير/ البداية والنهاية ج7 ص 269.
[182] الهيثمي/ مجمع الزوائد ج7 ص 248، ابن أبي شيبة/ المصنف ج 15 ص301.
[183] ابن أبي شيبة/ المصنف ج 15 ص 265.
[184] انظر: خليفة بن خياط/ تاريخ خليفة ص 186، ابن أعثم/ الفتوح م 2 ج 3-4 ص 240، ابن كثير/ البداية والنهاية ج7 ص 251.
[185] ابن أبي شيبة/ المصنف ج15 ص 282.
[186] ابن حجر/ المطالب العالية ج4 ص 294- 296، ابن تيمية/ منهاج السنة ج 4ص 496، الهيثمي/ مجمع الزوائد ج5 ص 175.
[187] اليعقويي/ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 189، ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3 -4 ص 194، المسعودي/ مروج الذهب ج 2 ص 402، المقدسي/ البدء والتاريخ ج5 ص 220.
[188] ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 287.
[189] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 192، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج 5 ص 51.
[190] ابن أعثم/ الفتوح م 2ج3-4 ص 193.
[191] أبو حنيفة الدينوري/ الأخبار الطوال ص 192، ابن كثير/ البداية والنهايةج7 ص 287، أبو جعفر الطبري/ تاريخ الطبري ج5 ص 51-52.
[192] أبو جعفر الطبري/تاريخ الطبري ج4 ص450، 520، ابن الأثير/الكامل في التاريخ ج 3 ص 106.
[193] انظر: ابن عساكر/ تاريخ دمشق، تحقيق سكينة الشهابي، ترجمة عثمان بن عفان ص 552- 553، نوري حمودي القيسي/ شعراء أمويون قسم 3 ص 46، 47.
[194] انظر: ابن عساكر/ تاريخ دمشق، تحقيق سكينة الشهابي، ترجمة عثمان بن عفان ص 503 وما بعدها.(35/319)
[195] انظر: ابن حزم/ الفصل في الملك والأهواء والنحل ج240- 242، ابن حجر/ فتح الباري ج13 ص 72، ابن تيمية/ منهاج السنة ج 4 ص 1 39- 394، ابن خلدون/ المقدمة، باب انقلاب الخلافة إلى الملك ج 1 ص 259.
[196] ابن عساكر/ تاريخ دمشق، تحقيق شكري فيصل ورفاقه، تراجم حرف العين، ترجمة عبد الله بن حماد ص 197-198.
[197] انظر: الهيثمي/ مجمع الزوائد ج 7 ص 236، ابن عساكر/ تاريخ دمشق (مخطوط) ج 16 ص 06 7 ترجمة معاوية بن أبي سفيان.(35/320)
الأحاديث القدسية في الجرح والتعديل
ومصادرها وأدوار تدوينها
بقلم
د. عبد الغفور عبد الحق البلوشي
الباحث بمركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذا بحث علمي عن موضوع "الأحاديث القدسية في دائرة الجرح والتعديل ودراسة مصادرها وأدوار تدوينها"ولما رأيت بأن الأحاديث القدسية لها أهمية كبيرة ومكانة عظيمة عند العامة والخاصة في المجتمع الإسلامي عزمت على الكتابة فيها وشمرت عن ساق الجد بعد طلب العون من الله القدير.
وقد كانت الرغبة عندي قديماً لدراسة مثل هذه الأحاديث التي تتميز بإضافتها إلى الله تعالى وهي منسوبة إليه تعالى ومن كلامه سبحانه حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فيها قال الله تعالى، ويقول الله تعالى، فالذي يسمع ذلك يزعم بأن هذا كلام الله تعالى فهو صحيح حتماً فلا يخطر بباله بأن الضعف يتطرق إليه لإضافته إلى الله تعالى وهذا هو فهم كثير من العوام وقد يقع فيه بعض الخواص ويغيب عنهم أن مدار الصحة والضعف فيها على السند، ولا مانع من عرض قصة واقعية جرت بين أستاذين فاضلين في المسجد النبوي الشريف وهي في صميم الموضوع- حيث كانا يتناقشان فيما بينهما إمكانية تطرق الضعف إلى الأحاديث القدسية وعدم إمكانية ذلك فأحدهما يُثبتُ ذلك والآخر ينفي، فإذا بأحدهما- وهو أستاذي- وقع نظره علي وأنا جالس عند باب الرحمة فسر بذلك وناداني- وكنت حينذاك طالباً في الدراسات العليا شعبة السنة في مرحلة الدكتوراه وكان يعرف ذلك- وطرح علي ما جرى بينهما من النقاش في الموضوع ثم قال باستغراب؟!: هل الأحاديث القدسية يمكن أن تكون ضعيفة؟!(35/321)
فقلت: بلى وقد تكون موضوعة لأن الذي يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- يكذب على الله تعالى، ولأن مدارها على الرواة وتوفر صفات القبول فيهم وعدمها.
الخلاصة أن هذه القصة أثارت أول بذور الرغبة والاندفاع عندي لدراسة هذا الموضوع وتعميم نفعه، وزادني عزماً وإقداماً طلب مجلة المنهل الكتابة في بعض البحوث المتعلقة بالأحاديث القدسية ومن ضمنها الموضوع الذي أنا بصدد البحث فيه فلم أتردد في اختياره مستعيناً بالله تعالى مع انشغالي بأعمال علمية أخرى ومعرفتي بأن دراسة هذا الموضوع بحاجة إلى وقت وجهد فَثَبّت العزيمة وبدأت في جمع المرام واقتناء المصادر المؤلفة في الموضوع حسب التيسر لأخذ العلم عن مناهجهم في جمع الأحاديث ومدى التزامهم بالأحاديث القدسية الصحيحة وبيان درجتها فتبين لي بعد إلقاء النظر وفحص هذه الكتب وأحاديثها ثغرة جديدة في هذا الموضوع وهي حاجة دراسة الأحاديث القدسية وكشف صحيحها من سقيمها حيث لم يتعرض مؤلفو الكتب السابقة الذكر في الموضوع ولم يلتزموا بذلك، فعلى سبيل المثال سأذكر في آخر البحث بعض المصادر المهمة وعدد أحاديثها وحصر ما صح من أحاديثها وما لم يصح وما هو مسكوت عنه مما توصلت إليه وهي بحاجة إلى دراسة أسانيدها بعد تخريجها من مظانها وإعطائها ما تستحق من الأحكام صحة وضعفا وقد بدأت والحمد لله بسدّ هذه الثغرة والعمل جار بفضل الله تعالى- في جمعها وإنجازها إتماما للفائدة، وها أنا أبدأ في المقصود وقبل أن أدخل في صميم الموضوع أريد أن أوضح للقارئ الكريم معنى الحديث القدسي لغة واصطلاحا وأهم الفروق بين الحديث القدسي والقرآن الكريم وبينه وبين الحديث النبوي الشريف.
فأقول وبالله التوفيق:
الحديث: لغة الجديد، ويجمع على أحاديث على خلاف القياس.(35/322)
اصطلاحا: ما أضيف إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، هذا إذا أطلق، أما كلامنا فعَلى المقيد بالقدسي هنا، والقدس: بسكون الدال وضمها- لغة الطهر [1] والقدسي نسبة تكريمية إلى الذات القدسية وهو الله سبحانه وتعالى المسمى بالقدوس.
وقد يسمى بالحديث الإلهي أو الرباني نسبة إلى الإله المعبود أو إلى الرب تبارك وتعالى.
تعريفه بجزئيه: "الحديث القدسي اصطلاحا":
هو الحديث الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن ربه تبارك وتعالى مسنداً ذلك إليه بقوله: قال الله تعالى أو يقول الله تعالى أو أوحى الله تعالى إليّ ونحوها من [2] الألفاظ وهذا التعريف هو الذي أراه صواباً.
فتبين من التعريف بأن الأحاديث القدسية هي من كلام الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ناقل لها فقط ولا داعي إلى القول بأن معناها من عند الله واللفظ من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِطلاق وإن رجح عدد من العلماء المتأخرين وبعض المتقدمين من المتكلمين والأشاعرة هذا القول واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة التي لا تقوم بها الحجة كما سأبين ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر أبو البقاء في كلياته [3] في الفرق بين القرآن والحديث القدسي:
"أن القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي وأما الحديث القدسي فهو ما كان لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه من عند الله بالإِلهام أو بالمنام".
وبه قال الطيبي: وهذا نصه.. "القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، والقدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروه عنه تعالى" [4] .
وهذا مذهب الشريف الجرجاني علي بن محمد حيث قال:(35/323)
"الحديث القدسي هو من حيث المعنى من عند الله تعالى ومن حيث اللفظ من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو ما أخبر الله تعالى به نبيه بإلهام أو بالمنام فأخبر عليه السلام عن ذلك المعنى بعبارة نفسه فالقرآن مفضل عليه لأن لفظه منزل أيضاً" [5] .
وهذا ما قاله الشيخ محمد المدني [6] ونقل أيضاً عن ملا علي القارئ أنه قال: "الحديث القدسي ما يرويه صدر الرواة وبدر الثقات عليه أفضل الصلوات وأكمِل التحيات عن الله تبارك تارة بواسطة جبريل عليه السلام وتارة بالوحي والإلهام والمنام مفوضاً إليه التعبير بأي عبارة شاء من أنواع الكلام....".
وتمسك الدكتور محمد عبد الله دراز بقول من تقدم ذكرهم بأن الحديث القدسي منزل بمعناه حيث قال: "وهذا هو أظهر القولين عندنا، لأنه لو كان منزلا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله ... إلى أن قال: فالقول بإنزال لفظه قول بشيء لا داعي في النظر إليه ولا دليل في الشرع عليه اللهم إلاّ ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة يقول الله تبارك وتعالى كذا، لكن القرائن التي ذكرناها آنفا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه ... " [7] .
ورجح هذا القول د/ محمد بن لطفي الصباغ فقال:"الحديث القدسي كلام الله تعالى بالمعنى أما اللفظ فللرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول هو الذي نرجحه، وهناك قول آخر مرجوح في نظرنا يدعى أن الحديث القدسي كلام الله تعالى بلفظه ومعناه، لكان ينبغي أن يكون له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للقرآن إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله..". [8] .(35/324)
وأخذ محقق كتاب الإتحافات السنية محمود أمن النواوي في مقدمته [9] على الكتاب المذكور بقول الدكتور محمد عبد الله دراز وادعى بأنه- أي دراز- أبطل القول بأن الحديث القدسي منزل على النبي- صلى الله عليه وسلم - بأسلوب قوي- كما زعم- ثم نقل كلامه فيه وأتبعه بقوله "والتحقيق في نظرنا أن البرهان على كون الحديث القدسي موحى بمعناه دون لفظه أن له صفة الحديث النبوي دون فارق سوى النسبة إلى الله سبحانه للإيذان بأهمية الخبر…" انتهى.
فهذه خلاصة ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي وأهم حججهم في الحياد عن الحقيقة وتأويلها ولنا كرة في بيان الصواب ورد شبههم إن شاء الله تعالى.
والآن أذكر من ذهب إلى أن الحديث القدسي كلام الله تعالى فقط
مسلك السلف في الأحاديث القدسية
يجدر هنا أن أشير بأن المتقدمين وسلف هذه الأمة لم يكونوا يعرفون هذه التأويلات وما كان يخطر ببالهم فكانوا يجرون النصوص كما هي سواء كانت في صفة الكلام أوفي غيرها من الصفات وذلك لوضوح دلالتها ومعانيها، فلذا لم ينقل عنهم بخصوص القرآن الكريم ما جرى في القرن الثالث من بدعة خلق القرآن وإثارتها إلى حد تعذيب العلماء وقتلهم لمن لا يقول بذلك ولا يعتقده ووقف إمام أهل السنة أحمد بن محمد ابن حنبل بصمود أمام هذه المحنة والفتنة وثبت على الحق حتى أحيى الله تعالى به السنة.
وهكذا لم يرد عنهم بخصوص الأحاديث القدسية شيء من ذلك إنما نقلوا تلك الأحاديث ضمن كتبهم كما رواها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى وهي صريحة في ذلك وواضحة في عزوه صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث إلى ربه- عز وجل- بقوله قال الله تعالى ويقول الله تعالى.(35/325)
ومن هنا عنون البخاري في صحيحه بقوله باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه تعالى وذكر فيه ثلاثة أحاديث يرويها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وكذا عنون في مواضع من كتاب التوحيد في إثبات كلام الرب وذكر فيها الأحاديث القدسية ومن ذلك عنوان [10] باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة وذكر فيه ثلاثة أحاديث قدسية، ومما يؤيد بأن رأي البخاري في الأحاديث القدسية هو أنها هي من كلام الله تعالى بلفظه ومعناه عنوان [11] : باب قول الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله} ثم ساق تحت العنوان المذكور في حدود عشرة من الأحاديث القدسية مما يشير بأنها من كلام الله تعالى.
وهو يستشهد لترجمة الباب بها وقد سبقني إلى هذا فضيلة الشيخ عبد الله غنيمان في شرحه لكتاب التوحيد من صحيح الإمام البخاري وكما أفادني شفهياً أيضاً بذلك حينما سألته.
وصنيع الكرماني كذلك يدل على أن الأحاديث القدسية كلام الله تعالى بلفظه ومعناه كما سيأتي بيانه منه عند بيان الفرق بينها وبين القرآن الكريم.
وكذا الشهاب بن حجر الهيثمي في شرح الأربعين النووية في شرح الحديث الرابع والعشرين المسلسل بالدمشقيين وهو حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا......." - رواه مسلم-[12] .
حيث قال:
الأحاديث القدسية من كلامه تعالى فتضاف إليه وهو الأغلب ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء لأنه المتكلم بها أولا، وقد تضاف إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - لأنه المخبر بها عن الله تعالى بخلاف القرآن فإنه لا يضاف إلا إليه. فيقال: قال الله تعالى وفي القدسية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى.(35/326)
وقال فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان في مقدمة كتابه الضياء اللامع "الأحاديث القدسية هي الأحاديث التي يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل لفظا ومعنى وهي قسم من السنة المطهرة لها ميزة نسبتها إلى الله عز وجل وأن الله جلّ وعلا تكلم بها وأوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغها للناس أما بقية الأحاديث فلفظها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناها من عند الله عز وجل لأن السنة كلها وحي ... ولكن ما كان منها من الله لفظا ومعنى فهو الحديث القدسي، وما كان معناه من الله عز وجل دون لفظه فهو حديث نبوي غير قدسي، وقال أيضاً: في معرض الفرق بين الحديث القدسي وغير القدسي أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله عز وجل يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه والحديث غير القدسي معناه وحي من الله عز وجل ولفظه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تخصيصها بهذا الوصف- أي القدسي- يضفي عليها ميزة خاصة من بين سائر الأحاديث، لأن الحديث القدسي هو ما يرويه النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل فيكون المتكلم به هو الله عز وجل والراوي له هو النبي- صلى الله عليه وسلم- وكفاها بذلك شرفاً" [13] .
واختار هذا التعريف د/ محمد عجاج الخطيب أيضاً [14] .
فعلى هذا القول الذي يعتبر الأحاديث القدسية من كلام الله تعالى باللفظ والمعنى وهو الذي نرجحه ونراه صواباً- إن شاء الله تعالى- يرد بعض الشبهات وبسببها لجأ أصحاب القول الأول إلى التأويل وصرفها عن الحقيقة بدون أي مبرر وضرورة لذلك، وقد سبق فيما نقلت- عن بعضهم أنهم قالوا: "لو كان منزلا بلفظه لكان له من الحرمة
والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله…" [15] .
فالجواب عن هذه الشبهة كالآتي:(35/327)
أولا نقول بأن هناك فرقاً كبيراً بين اللفظين المنزلين فالقرآن كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته والمتحدي بأقصر سورة منه بخلاف الأحاديث القدسية حيث لم يقصد بها التحدي ولم يرد نص شرعي بتعبدها ولا بحرمتها مثل ما جاء في القرآن الكريم فلا يثبت لها شيء من ذلك لأنه لم يرد بخصوصها دليل بخلاف القرآن.
وهذا ما أقره أصحاب القول الأول عند تعريفهم لكلام الله "القرآن"حيث قالوا: بعد التعريف هذان القيدان: التعبد بالتلاوة والتحدي بالإتيان بسورة منه يخرج الأحاديث القدسية إذا اعتبرنا أنها منزلة بلفظها على النبي صلى الله عليه وسلم [16] .
وحقاً أنزل القرآن الكريم كمعجزة باقية حتى تقوم الساعة فهو معجز في أسلوبه وصناعته ونقرأ التحدي بالإتيان بمثله في آيات عديدة بل بسورة مثله قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة آية: 23، 24) .
فعجز البشرية أن يأتي بمثله وتعجز إلى الأبد وبذلك لزمتهم الحجة بخلاف الحديث القدسي فإنه لم يقصد منه ذلك.
فإليك أقوال بعض العلماء الذين يرون لفظ الحديث القدسي من الله تعالى والقرآن كذلك وبيان الفرق بينهما قال الكرماني شمس الدين محمد بن يوسف بن علي المتوفى 796 هـ في شرحه لصحيح البخاري في أول كتاب الصوم:
"القرآن لفظ معجز ومنزل بواسطة جبريل عليه السلام وهذا- أي القدسي- غير معجز وبدون الواسطة ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني ... إلى أن قال وقد يفرق بأن الحديث القدسي ما يتعلق بتنزيه ذاته وصفاته الجلالية والجمالية" [17] .(35/328)
وذكر ابن حجر الهيثمي في شرح الأربعين النووية في شرح الحديث الرابع والعشرين [18] ما نصه فائدة يعم نفعها، ويعظم وقعها، في الفرق بين الوحي المتلو وهو القرآن والوحي المروي عنه صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل وهو ما ورد من الأحاديث الإِلهية وتسمى "القدسية"وهي أكثر من مائة حديث.
وقد جمعها بعضهم في جزء كبير وحديث أبي ذر هذا- الرابع والعشرين- من أجلها، ثم قال: اعلم أن الكلام المضاف إليه تعالى أقسام ثلاثة:
أولها: وهو أشرفها "القرآن" الكريم لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجه كثيرة، وكونه معجزة باقية على ممر الدهر، محفوظة من التغيير والتبديل وبحرمة مسّه لمحدث وتلاوته لنحو الجنب، وروايته بالمعنى، وبتعينه في الصلاة وبتسميته قرآنا وبأن كل حرف منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا وبتسمية الجملة منه آية وسورة، وغيره من بقية الكتب والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيء من ذلك".
قلت: أما بالنسبة للأحاديث القدسية فبالاتفاق لا يثبت لها شيء من ذلك كما ذكر الهيثمي وأما بالنسبة لبقية الكتب السماوية فكذلك في بعض الأمور حيث حُرِّفت وغُّيرت ولم يُقصد بها التحدي والإعجاز حسب علمنا ولا التعبد بها في شريعتنا أما في شريعة من نزلت هذه الكتب عليهم قبل التبديل والتحريف فلا علم لنا بذلك حيث لم يرد نص عندنا يثبت ذلك أو ينفيه فلا نستطيع الجزم بعدم حرمة مسّها وعدم التعبد بتلاوتها عندهم كما لا نستطيع الجزم بإثبات العكس- والله تعالى أعلم.
ثم قال الهيثمي:
ثانيها: كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قبل تغييرها وتبديلها.
ثالثها: بقية الأحاديث القدسية وهي ما نقل إلينا آحادا عنه صلى الله عليه وسلم مع إسناده لها عن ربه فهي من كلامه تعالى ... ".(35/329)
فتبين لنا أن الأحاديث القدسية من كلام الله تعالى وليس للنبي صلى الله عليه وسلم إلا نقلها وروايتها بدليل إضافته هذه الأحاديث إلى الله تعالى فهي تسمى قدسية أو إلهية أو ربانية، فلو كان لفظها من عنده صلى الله عليه وسلم لما كان لها فضل اختصاص بالإضافة إليه تعالى دون سائر أحاديثه صلى الله عليه وسلم ويؤكد ذلك اشتمال هذه الأحاديث على ضمائر المتكلم في كثير منها الخاصة به تعالى أو الإضافة إليه تعالى مثل حديث أبي ذر المذكور وحديث يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" [19] وحديث "قال الله المتحابون في جلالي لهم منابر من نور" [20] وحديث "الحمى ناري أسلطها على عبدي المؤمن ... " [21] ونحوها كثير.
ولجأ أصحاب القول الأول إلى تأويل ما ذكرنا بقولهم "إذا كان لفظ الحديث القدسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف نؤول قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى:
فقالوا: "إن المقصود نسبة مضمون الحديث لا نسبة ألفاظه وهذا التعبير كثير الاستعمال في اللغة العربية قديمها وحديثها، ثم مثلوا لذلك بأمثلة ومن أهمها قالوا قد ورد هذا الاستعمال في القرآن حيث حكى الله تبارك وتعالى عن نوح وموسى عليهما السلام وفرعون عليه اللعنة وغيرهم مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم وبأسلوب غير أسلوبهم ونسب ذلك إليهم…" [22] .
فأقول في رد هذا التأويل بأن ما ذكرتم مقبول لو ثبت فهم هذا المراد من أحد من سلف هذه الأمة من الأئمة المشهورين في الحديث وغيره ولكنه لم يثبت عنهم إلا سوق مثل هذه الأحاديث القدسية وغيرها من أحاديث الصفات وإجرائها كما وردت.(35/330)
وثانيا ما هي الحاجة التي تدعو إلى هذا التأويل، بخلاف ما مثلوا به من القصص والأحكام التي أنزلها الله تعالى في القرآن الكريم بلسان عربي مبين من قصص الأمم السابقة وأنبيائهم- التي هي نزلت بلغتهم ودارت بينهم- حيث علمنا علم اليقين بأن الله تعالى نقلها لنا بكلامه ولفظه لأن لغتهم غير لغتنا والحاجة قائمة في ضرورة فهمنا هذه القصص، بخلاف الأحاديث القدسية فإن أصلها باللغة العربية وليس هناك ما يجعلنا أن نلجأ إلى هذا التأويل ولا دليل من الشرع على هذا.
توضيح: ونعني من قولنا المذكور بأن الأحاديث القدسية من كلام الله تعالى هذا عند تلقي الرسول- صلى الله عليه وسلم- هذه الأحاديث ورِوايته لها عن ربه تعالى وقبل تصرف الرواة في نقلها بالمعنى أو نقل بعضها حيث إن كثيراً من العلماء الذين يجيزون رواية الأحاديث النبوية بالمعنى للعالم البصير بمدلولات الألفاظ ومفاهيمها أجازوا أيضا رواية الأحاديث القدسية بالمعنى بالشروط التي شرطوها في رواية الحديث النبوي بالمعنى وإن لم أقف على هذا التصريح فيما بحثت من السلف بالتخصيص أعني على جواز رواية الأحاديث القدسية بالمعنى وإنما قاسوها على الأحاديث النبوية بصفة كونها أحاديث، ولأجل ذلك ما نستطيع الجزم في حديث ما من الأحاديث القدسية بأن لفظه ومعناه من كلامه تعالى جزمنا بآية أو بسورة بأنها من كلام الله تعالى وذلك لعدم جواز رواية القرآن بالمعنى بالاتفاق ولكونه متواترا.
ومن هنا نجد في الأحاديث القدسية بعض الاختلاف في ألفاظها زيادة ونقصانا في الرواية الواحدة لعله من هذا القبيل- والله أعلم-.
فنذكر نماذج من ذلك على سبيل المثال:(35/331)
ففي صحيح البخاري [23] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: "من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة"، وعنده في رواية أخرى بتقديم "فليخلقوا حبة" وبدون قوله "أو شعيرة" وجاء عند مسلم [24] بزيادة "خلقا" بعد قوله: "يخلق" وكذا عنده "فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة" بدل حبة.
وأيضاً في صحيح البخاري [25] عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة" وأخرجه الترمذي [26] أيضاً من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: إن الله يقول: "إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة".
وكذا رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال: يقول الله عز وجل: "من أذهبت حبيبتيه وصبر واحتسب، لم أرض له ثوابا إلا الجنة" [27] .
ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري [28] عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه- عز وجل- قال:
"إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله سيئة واحدة".(35/332)
وكذا رواه عن أبي هريرة مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ قال: يقول الله: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإذا عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد عبدي أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" [29] ، فنلاحظ بين الروايتين الفرق والتقديم والتأخير وجاء عند مسلم [30] بلفظ قال الله عز وجل: "إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها، كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة"، وفي رواية أخرى عنده "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها" فذكر الحديث مع اختلاف في اللفظ.
وهكذا ترى الاختلاف في الحديث الواحد وذلك في نظري لعله نتيجة لجواز رواية الحديث القدسي بالمعنى وتصرف الرواة في نقلها والله أعلم.
وكذلك يحصل في الأحاديث النبوية مثل هذا الاختلاف ولكننا لا نقول في جميع ما يُضيفه إليه أصحابه أن الألفاظ منهم والمعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في أحاديث معينة صرّح العلماء بأنها رواية بالمعنى فكذلك لا نقول في جميع ما يُضيفه رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى الله تعالى- بأن اللفظ منه صلى الله عليه وسلم والمعنى من عند الله تعالى، نعم يمكن أن يصدق في بعض الأحاديث القدسية التي رويت بالمعنى وتبين لنا ذلك أو في الأحاديث التي فيها قرائن تدل على أن اللفظ من الرسول والمضمون من الله تعالى ولا سيما فيما لم يصرح بقال الله أو يقول الله مثل حديث: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين"، حيث جاء في رواية أخرى هكذا "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر" [31] .(35/333)
ومثل "فأوحى الله إليه أن قد أذن الله لكن في الخروج لحاجتكن" [32] .
أو حديث: "من أتى حائضاً في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" [33] ، وحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: "وأوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم" [34] وغيرها من الأحاديث التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإضافة الحكم إلى الله تعالى مثل قوله صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم: "أن يأخذ العفو من أخلاق الناس" [35] .
وأمرنا الله تعالى بوفاء النذر ونهانا أن نصوم يوم النحر [36] .
وحديث "أمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب""يعني خديجة رضي الله عنها" [37] .(35/334)
وما ورد عن أحاديث اللعن: لعن الله اليهود ... ولعن الله الواشمات ... ولعن الله من غير منار الأرض [38] وغيرها من الأحاديث التي عدها بعض العلماء من الأحاديث القدسية، فهذه الأحاديث ليست من الأحاديث القدسية حسب التعريف وإن عدها بعضهم منها لإضافة الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم أو الأمر إلى الله تعالى ولا شك أن الحكم المضاف الصريح إلى الله تعالى أوكد من حيث الوقع في القلوب من الأحاديث التي لم يُضِفها إليه تعالى وإلا فالجميع من الله وكلها وحي بلا شك سواء أضافها إلى الله تعالى أو لم يُضِفها لما جاء في النص القرآني بأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم آية 3- 4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ... " [39] فكل الأحاديث النبوية بمقتضى الأدلة السابقة الذكر لا تخرج من دائرة الوحي [40]- مع اختلاف أساليب الوحي بينهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله إلا أنه خص بعض الأحاديث بمزيد من العناية والتأكيد فصرح فيها بإضافة الحكم أو الأمر إلى الله تعالى صريحا أو صرح صلى الله عليه وسلم بأنه أوحي إليه كما تقدم ضرب بعض الأمثلة. "يجدر هنا توضيح معنى الوحي وأقسامه".
بيان أقسام الوحي:
والوحي: لغة: بمعنى الإيحاء ومعناه: الإعلام بالشيء على وجه الخفاء والسرعة [41] وشرعا: هو إعلام الله لأنبيائه ما يريد إبلاغه إليهم من الشرائع والأخبار وبطريق خفي بحيث يحصل عندهم علم ضروري قطعي بأن ذلك من عند الله تعالى جل شأنه [42] .
وينقسم إلى قسمين:
- الوحي المتلو والوحي غير المتلو ويسميه بعضهم بالوحي المروي:(35/335)
فالوحي المتلو: القرآن الكريم، والمروي- أو غير المتلو- الأحاديث القدسية والنبوية لما سبق أنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} إلا أن الوحي المتلو يختلف عن غير المتلو في كيفية الوحي وأسلوبه، وقد ذكر ابن القيم [43] لمراتب الوحي وطرقه أقساما سبعة، نسردها كالتالي:
- وهي: إحداها الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وَحيه صلى الله عليه وسلم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
"قلت: وقد عنون إمام المحدثين أبو عبد الله البخاري في أول باب من كتابه الجامع الصحيح بقوله باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تحت الباب حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ... ".
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب لا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته" [44] .
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً [45] .
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد [46] وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها [47] .
ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها [48] .
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم (آية 7، 13) [49] .(35/336)
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج في فرض الصلوات وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج انتهى.
"الفرق بين الوحي المتلو وغير المتلو":
وبعد هذا التعريف بالوحي أوضح بأن الوحي المتلو- وهو القرآن الكريم- لا يكون إلا بواسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام وذلك لما ورد في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله..} (البقرة: 97) .
وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} (الشعراء: 193) وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} (النحل: 102) وغيرها من الأدلة.
بخلاف الوحي المروي أو غير المتلو فإنه لا يختص بنوع من المراتب المذكورة ولا يشترط أن يكون بواسطة جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وقد يكون بالإلهام أو بالمنام أو الإِلقاء في الروع ونحوها مما تقدم ذكره.
وقد سبق بيان بعض الفروق في كلام ابن حجر الهيثمي وألخصها فيما يلي بأرقام محددة:
1- القرآن معجز من أوجه كثيرة.
2- وهو معجزة باقية على ممر الدهور.
3- محفوظة من التغيير والتبديل.
4- يحرم مسه للمحدث وتلاوته لنحو الجنب.
5- حرمة روايته بالمعنى.
6- وتعينه في الصلاة.
7- بتسميته قرآناً.
8- وامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا.
9- وبتسمية الجملة منه آية وسورة.
10- وبأن كل حرف منه عشر حسنات- أي بتلاوته- ونضيف بعض الفروق الأخرى على كلام الهيتمي وهي:
11- أن القرآن بوحي جلي بواسطة جبريل كما سبق بيانه بخلاف القدسي.
12- أن القرآن مقسم على سور وأجزاء وأحزاب، وآيات بخلاف الحديث القدسي.(35/337)
13- "وهذا ذكره بعض العلماء" أن جاحد القرآن يكفر- لثبوته بالتواتر- بخلاف جاحد الحديث القدسي- لاحتماله التأويل بتطرق الخطأ إليه أو لخلاف في بعض رواته أو لتصرف بعض الرواة فيه ونحو ذلك، يعني لوجود هذه الاحتمالات إذا جحدها متأولا فلا يكفر، أما إذا جحدها مع ثبوتها ومن غير وجود الاحتمالات المذكورة فيكفركما لو أنكر حديثا نبويا بعد ثبوته وصحته.
14- ويتعلق هذا الفرق بطريقة النقل حيث إن القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر بجميع ألفاظه وكلماته وحتى أسلوبه وصناعته بخلاف الأحاديث القدسية فإنها نقلت إلينا كما نقلت الأحاديث النبوية عن طريق الآحاد فيندرج تحتها ما يندرج تحتها وينطبق عليها ما ينطبق على الأحاديث النبوية وتجدها متفاوتة في الدرجات تفاوت الرواة الذين ينقلونها من حيث مراتب الجرح والتعديل ولذلك تجد في الأحاديث القدسية: المتواتر، والصحيح، والحسن والضعيف والواهي والموضوع وما ليس له أصل كما سأبين نماذج من كل ذلك إن شاء الله تعالى بعد بيان الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي فإليك بيان الفرق بينهما:
1- علمنا أن الحديث القدسي من قول الله تعالى وكلامه- على الراجح- والحديث النبوي من كلامه صلى الله عليه وسلم كما تقدم حيث لم يضفه إلى الله تعالى وكلاهما وحي.
2- أن الحديث القدسي يُسنِده ويضيفه إلى الرب تبارك وتعالى صريحا بخلاف الحديث النبوي فإنه لا يضيفه إليه وإن كانا كلاهما وحي كما تقدم.
3- نلاحظ الفرق بينهما من حيث المضمون والمحتوى والأسلوب أيضاً فإن الأحاديث القدسية موضوعاتها ومحتواها محدودة وتركز على جوانب معينة فنجدها أنها تركز على فضل التوحيد وإصلاح العقيدة والحث على الإخلاص وتحذر من الشرك وسؤ عاقبته، والكبر والظلم والرياء وغيرها من الرذائل وترغب عباده الرجوع إليه بالتوبة والاستغفار والإنابة إليه وعدم القنوط من رحمته.(35/338)
4- وتبين فضائل الأعمال من صوم وصلاة وجهاد وغيرها من الأعمال الصالحة.
5- وترغب بأداء الفرائض والتقرب إليه بالنوافل وقراءة القرآن وفضلها.
6- تحث على الذكر ومجالسة الصالحين والآثار الطيبة من ذلك على النفوس.
7- تحض على حسن التعامل وفضل إنظار المعسر والتجاوز عنه والود والتراحم بين المسلمين والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
8- فهي ترغب العبد المؤمن فيما أعده الله تعالى لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وتوجهه بإحسان الظن بربه تبارك وتعالى، وبأن يحب لقاءه ويستعد لذلك وليوم الحساب.
9- تبين فضل الله تعالى وكرمه وجوده في جزاء الأعمال ومضاعفة الأجر ولا سيما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
10- وتبين عظم جزاء الصبر على المصيبة وتبشره بالجنة وأنها كفارة لعبده المؤمن سواء كان حمى أو طاعون أو أي مرض آخر.
11- كما تبين قصص بعض الأنبياء مع أممهم التي تحصل بينهم يوم القيامة وصفات المؤمنين وصفة الجنة وأهلها وأحوال الكفرة ومآلهم السيئ وغير ذلك وتتلخص كل ذلك في توثيق المؤمن صلته بالله تعالى وأداء ما لعباده من الحق عليه.
فتلاحظ مما ذكرنا بأن الأحاديث القدسية لا تتضمن تفاصيل الأحكام وأصولها ولا المعاملات وتفاصيلها ولا الجنايات وحدودها ولا التاريخ والسير وتفاصيلهما وغير ذلك مما تناولته الأحاديث النبوية على صاحبها الصلاة والسلام من التفصيل.
وإليك نماذج من الأحاديث القدسية المتفاوتة الدرجات كما وعدنا:
1- ومما عد في الأحاديث القدسية حديث المعراج وحديث الشفاعة وحديث نزول القرآن على سبعة أحرف وغيرها من الأحاديث المتواترة [50]
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم قال "لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" متفق عليه [51] .(35/339)
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك"، رواه أحمد بإسناد حسن [52] .
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عاد مريضاً ومعه أبو هريرة من وعك كان به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر إن الله عز وجل يقول: ناري- أي الحمى- أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة" رواه الترمذي وأحمد واللفظ له وابن ماجه [53] حسن كسابقه.
"نماذج من الأحاديث القدسية الضعيفة المتفاوتة الدرجات"
1- قال الله تعالى: "يا ابن آدم ما ذكرتني شكرتني وما نسيتني كفرتني" في إسناده من له مناكير، رواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر والخطيب والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة [54] .
2- قال لي جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال الله عز وجل: "يا محمد من آمن بي ولم يؤمن بالقدر خيره وشره فليلتمس ربا غيري" رواه الشيرازي في الألقاب عن علي رضي الله عنه موضوع [55] .
3- عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي" [56] موضوع.
4- ونمثل بمثال آخر من الأحاديث القدسية مما لا أصل له أصلا أي لم يوقف له على إسناد "ما وسعني سمائي ولا أرضي بل وسعني قلب عبدي المؤمن" [57] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا مذكور في الإسرائيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الحافظ العراقي: "ولم أر له أصلا" [58] .
وكذا مثله حديث "كنت كنزا لا أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي، فبي عرفوني" [59] .(35/340)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف". قلت: معنى كلامه أنه لم يوقف له على إسناد حتى يعرف به صحته أو ضعفه.
بعد عرض نماذج من الأحاديث القدسية المتفاوتة الدرجات أحب أن أشير إلى كمية الأحاديث القدسية فأقول وبالله التوفيق:
"كمية الأحاديث القدسية":
إن تحديد كمية الأحاديث القدسية مبنية على التعريف الذي تقدم ذكره وهو ما يُضيفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وُيسندُه إليه تبارك وتعالى بصيغة: "عن رسول الله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أو عن الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فلو اقتصرنا عِلى هاتين الصيغتين في الأحاديث القدسية لكان عددها أقل بكثير مما ذكرها العلماء وعلى هذا يحمل كلام ابن حجر الهيثمي [60] حيث قال:
"إن مجموع الأحاديث القدسية المروية يتجاوز المائة كما أن بعضهم جمعها في جزء كبير"وكذا ما ذكره ابن علاني من أن الأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث جمعها بعضهم في مجلد [61] ولكن صَنيع المؤلفين في الأحاديث القدسية وإيرادهم لها عكس ذلك فمنهجهم واضح وبين في عدم التقيد بالتعريف المذكور وصيغها المعروفة بل أدخلوا في مؤلفاتهم الأحاديث النبوية التي ذكر ضمنها جملة من كلام الله تعالى مثل حديث الإسراء والمعراج والشفاعة وحديث إخراج الموحدين من النار ونذكر لفظه لاتضاح المثال:(35/341)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُدخِل الله أهل الجنة الجنة، وُيدخل من يشاء برحمته، وُيدخِل أهلَ النار ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حمما قد امتحشوا فيبقون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحية إلى جانب السيل، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية" رواه مسلم [62] . في صحيحه "1/172".
فاعتبروا هذا الحديث- وأمثاله كثير جداً-، من الأحاديث القدسية لأنه ذكر فيه ثم يقول- أي الله تعالى-: "انظروا من وجدتم في قلبه ... الخ" فمن ثَم عدوه في الأحاديث القدسية ويغلب مثل هذا النوع على غيره من الصِيغ المصرحة فعلى سبيل المثال لو أخذنا أكبر المؤلفات في الأحاديث القدسية حجماً باعتبار الكم وهو كتاب الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية لمحمد المدني حيث رتب كتابه على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: فيما صدر بلفظ قال.
الباب الثاني: فيما صدر بلفظ يقول.(35/342)
الباب الثالث: فيما لم يصدر بهما بل يذكر أثناء الحديث كلام الله تعالى ممزوجا بالحديث [63]- لرأينا بأن عدد أحاديث الباب الأول، والثاني أقل بكثير من الأحاديث المذكورة في الباب الثالث حيث إن عدد الأحاديث المذكورة في البابين الأولين "259"حديثا من مجموع "863"حديث والبقية من الباب الثالث، مع العلم بأن الأحاديث المذكورة في البابين الأولين ليست منحصرة بالرواية الصريحة بصِيغ الأحاديث القدسية الخاصة بها فعلى سبيل المثال ذكر في الباب [64] الأول أحاديث "رقم 142 -159"وهي مبدوءة بـ قال موسى، وقال داود، قال إبليس، قالت الملائكة، قالت الجنة، قالت بنو إسرائيل، وفي الباب الثاني ذكر: "يقول العبد يوم القيامة..، يقول البلاء كل يوم.." [65] ، وأمثالها فهي لا تدخل في الأحاديث القدسية حسب صيغها المختصة وتدخل فيها باعتبار وجود ذكر كلام الله تعالى وقوله في الحديث فمن هنا عدًّها العلماء الذين ألفوا في هذا الموضوع في الأحاديث القدسية ووصلها محمد المدني إلى العدد المذكور مع وجود التكرار باعتبار المتون في كثير منها ولكن بغض النظر عن التكرار فلا شك أن كتابه استوعب الأحاديث القدسية إلى حد كبير جداً فاق جميع من ألف في ذلك مع وجود ثغرة بيان درجة الأحاديث عنده وعند غيره، فها أنا أعرض الكتب المؤلفة في الأحاديث القدسية وأبين مدى الاهتمام بالجانب النقدي للأحاديث القدسية عندهم.
الكتب المؤلفة في الأحاديث القدسية التي وقفت عليها ومقدار اهتمام مؤلفيها أو محققيها بالجانب النقدي للأحاديث:(35/343)
قبل أن أدخل في دراسة الكتب المؤلفة في الموضوع أريد أن أوضح بأن الأحاديث القدسية لم تنل من الاهتمام ما ناله القرآن الكريم حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اتخذ لكتابة القرآن كتبة يكتبونه، بجانب حفظهم القرآن في الصدور وحرصهم في ذلك ولذلك أجمعِت الأمة الإسلامية قاطبة على أن القرآن نقل إلينا بالتواتر وكان محفوظا في صدور الآلاف جيلاً بعد جيل.
أما الأحاديث القدسية فشأنها في النقل إلينا شأن الأحاديث النبوية وتدوينها مرتبط بتدوينها وعاملها المحدثون معاملة الأحاديث النبوية ولم أقف فيما بحثت عند المتقدمين إفرادها بالتصنيف زمن التدوين بل أدمجوها في الأحاديث النبوية فمظانها ومصادرها هي مظان كتب السنة النبوية ومصادرها ووسائل نقلها هي الوسائل نفسها، فلو استعرضنا الكتب المدونة في السنة من الصحف والمصنفات والمسانيد والصحاح والسنن لنجد فيها الأحاديث القدسية منثورة في ثناياها مع فارق الكم من كتاب لآخر، فعلى سبيل المثال نجد في صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه التي دونت في حياة أبي هريرة الأرقام التالية من الأحاديث "14، 17، 31، 40، 41، 54، 66، 81، 107، 118" [66] ، وقس على هذا غيره من المصادر وسأذكر بعد قليل عدد الأحاديث القدسية في الموطأ والكتب الستة إن شاء الله تعالى.
فالغرض من ذلك بيان بأن الأحاديث القدسية لم تأخذ صفة الاستقلال في مرحلة تدوين السنة وتصنيفها فكانت تحتل المكانة التي تحتلها الأحاديث النبوية وتخضع للقواعد النقدية التي تخضع لها.
"بدء التأليف في الأحاديث القدسية استقلالا":(35/344)
أخذ العلماء بعد تقدم علم الحديث وتصنيفه في القرون المتأخرة يهتمون بإفراد الأحاديث القدسية في مؤلفات مستقلة مستخرجة تلك الأحاديث من كتب السنة النبوية. فأذكر هنا كل ما وقفت عليه سواء أكان مطبوعاً أو مخطوطاً وموجوداً أو مفقوداً ثم أعود إلى الكتب المطبوعة للكلام عليها.
1- فأول من وقفت عليه ممن اعتنى في موضوع الأحاديث القدسية، وخصها بالتأليف مستقلا هو المحدث زاهر بن طاهر بن محمد النيسابوري المتوفى "533 هـ"يعني في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس ويمكن أن نعتبر هذه الفترة أول زمن لبدء التأليف وجمع الأحاديث القدسية في مؤلفات مستقلة حسب علمي.
وذكر الحافظ ابن كثير في الفصول [67] اختصار سيرة الرسول فقال:
"وقد أفرد العلماء في هذا الفصل مصنفات في ذكر الأحاديث الإلهية، فجمع زاهر ابن [68] طاهر في ذلك مصنفاً".
2- وجمع الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل اللخمي المقدسي [69] المتوفى سنة "611 هـ"أربعين حديثاً إلهية باسم "الأربعين الإلهية" [70] .
3- ألف الصوفي الكبير المشهور محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الطائي الأندلسي المتوفى "638 هـ" صاحب الشطحات والكفريات والقائل بوحدة الوجود [71] كتابا سماه "مشكاة الأنوار في ما روى عن الله سبحانه وتعالى من الأخبار" [72] ضمنه الأحاديث القدسية المروية عن الله تعالى بأسانيده فجاءت مائة حديث وحديثاً واحداً إلهية [73] .
4- وممن أفرد الأحاديث القدسية في مصنف خاص ضياء الدين أبو عبد الله محمد ابن عبد الواحد المقدسي المعروف بضياء الدين المقدسي المتوفى في سنة "643 هـ" [74] .
5- وممن ألف في ذلك محي الدين أبو بكر يحي بن شرف النووي المتوفى سنة "676 هـ"وسماه "الأحاديث القدسية" [75] وسيأتي الكلام عليه بالتفصيل.(35/345)
6- وأبو القاسم علي بن بلبان المتوفى سنة "739 هـ"حيث ألف كتابه "المقاصد السنية في الأحاديث الإلهية" [76] وسيأتي الكلام عليه.
7- وعبد الرحمن بن الديبع الشيباني المتوفى "944 هـ"حيث ألف كتاباً باسم "الأحاديث القدسية"وجمع فيه ثمانين حديثاً قدسياً [77] وسيأتي الكلام عليه.
8- والمحدث علي بن سلطان المشهور بملا علي القارئ الهروي المتوفى سنة "1014 هـ"جمع رسالة حوت في طيها أربعين حديثاً قدسياً [78] ولم يتيسر لي الوقوف عليه.
9- وصنف عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين الحدادي المناوي المتوفى سنة "1035 هـ"كتابا سماه "الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية"وسيأتي الكلام عليه [79] .
10- الأحاديث القدسية لعبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي "ت1143 هـ" [80] .
11- الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية جمع وتأليف محمد بن محمود بن صالح الطربزوني الحنفي المتوفى سنة "1200 هـ"وسيأتي الكلام عليه [81] .
12- أحاديث قدسية تتضمن ثلاثين موعظة لمؤلف مجهول [82] .
13- الأحاديث المائة المشتملة على مائة نسبة إلى الصانع تخريج محمد بن طولون الصالحي الحنفي المتوفى سنة "953 هـ" [83] .
14- "الأحاديث القدسية" جمع مصطفى العتباوي المتوفى سنة "1221 هـ" [84] .
15- "الأحاديث القدسية" المستخرجة من الموطأ والكتب الستة: الصحيحين والسنن الأربعة، إخراج لجنة من العلماء بتوجيه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة وقد جمعت فيه أربعِمائة حديث [85] وسيأتي الكلام عليه.
16- أخيراً نشر كتاب باسم "الصحيحِ المسند من الأحاديث القدسية"تأليف مصطفى بن العدوي جمع فيه خمسة وثمانين حديثا ومائة حديث [86] وسيأتي الكلام عليه.(35/346)
17- وذكر ابن علاني في الفتوحات الربانية على الأذكار النووية [87] : أن الحافظ العلائي جمع أربعين حديثاً قدسياً- خرجها ثم ذكر مخرجيها من الأئمة المشهورين [88] .
18- "الضياء اللامع من الأحاديث القدسية الجوامع"تأليف فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان جمع فيه المؤلف خمسة عشر حديثاً قدسياً صحيحاً مع شرحها وأكثرها من الصحيحين أو أحدهما سوى ثلاثة أحاديث واحد منها من سنن الترمذي وقال: صحيح، وحديثين من صحيح ابن حيان ومستدرك الحاكم وصححهما ووافقه الذهبي [89] .
هذه معظم المصادر المؤلفة في الأحاديث القدسية التي توصلت إليها.
تنبيه:
أريد أن أنبه هنا بمناسبة ذكر الكتب المختصة بالأحاديث القدسية إلى بعض الأمور التي قرأتها في مقال الأستاذ عبد الهادي بو طالب الذي نشر في مجلة المنهل [90] عن شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى حيث جاء فيه "بما أن الأحاديث القدسية رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاملها المحدثون معاملة الحديث من حيث التحقيق في الإسناد وجمع الروايات وتدوين الأحاديث، ولهذا كانت ضمن الكتب، ثم أخذ المحدثون بعد تقدم علم الحديث يخصونها بكتب خاصة بها من أشهرها:
"جمع الجوامع"- "الجامع الكبير والجامع الصغير"- للسيوطي المتوفى "911هـ" ... "والأحاديث القدسية"مصطفى عاشور ... و"التعريفات للجرجاني"، "والفتح المبين لابن حجر الهيتمي".
هذا ما جاء في مقال الأستاذ عبد الهادي، فأحببت أن أنبه على الآتي:
أولاً: معلوم لدى الأوساط العلمية بأن كتاب "جمع الجوامع"- "الجامع الكبير والجامع الصغير"- ليسا من الكتب المختصة بالأحاديث القدسية بل شأنها شأن غيرها من كتب السنة فيهما الأحاديث النبوية والقدسية وبدون أسانيد.(35/347)
ثانياً: كتاب "الأحاديث القدسية"ليس لمصطفى عاشور إنما الكتاب للإمام النووي المتوفى "676 هـ" وحققه وعلق عليه مصطفى عاشور كما تقدم.
ثالثاً: كتاب "التعريفات" للجرجاني كذلك ليس من الكتب الخاصة بالأحاديث القدسية ولا الأحاديث النبوية، بل هو كتاب لتعريف الاصطلاحات العامة كما هو واضح من العنوان والمحتوى.
رابعاً: كتاب "الفتح المبين" لابن حجر الهيثمي ليس من الكتب الخاصة بالأحاديث القدسية بل هو شرح لكتاب الأربعين النووية كما هو معلوم لدى طلاب العلم.
هذا ما أحببت تنبيهه هنا فما أدري أهكذا جاء في مقال الأستاذ أو حصل تصرف من المجلة والله أعلم.
بعد هذا العرض عن أدوار تدوين الأحاديث القدسية ضمناً واستقلالاً أعود إلى دراسة تفصيلية لأهم هذه الكتب وحجم رواياتها في الجانب النقدي من حيث مقاييس الجرح والتعديل.(35/348)
لا شك كما ذكرت سابقاً- بأن الكتب المؤلفة الخاصة بالأحاديث القدسية مستخرجة من مدونات السنة وغيرها ولكن لو أمعنا النظر في مصادر الأحاديث القدسية لرأينا أكثريتها في غير الكتب الستة والمسانيد والسنن المشهورة وقد تقدم بيان ما قامت اللجنة باستخراجه من الأحاديث القدسية من الكتب الستة والموطأ ووصل العدد مع المكرر- بالطرق- إلى أربعمائة وبدونه لم يتجاوز الثلاثين ومائة حديث، وكذا ذكر النووي خمسة وتسعين حديثاً من الستة وفي الصحيح المسند لابن العدوي ذكر أربعة وعشرون ومائة حديث من الكتب الستة فتلاحظ أن عدد الأحاديث القدسية قد وصّلها محمد المدني إلى "864"أربعة وستين وثمانمائة حديث فلو بحثنا عن مصادرها ماعدا الكتب الستة- وقد عرفنا حجم الموجود فيها- لوجدنا أن ما يذكر في صحيحي ابن حبان وابن خزيمة ومسند أحمد وسنن الدارقطني والمستدرك وسنن البيهقي الكبرى وغيرها من المسانيد والسنن المشهورة قليل جدا بالنسبة للعدد الكبير الذي نجده عند غيرها متفرقا مثل الديلمي في مسند الفردوس والحكيم الترمذي في كتبه والخرائطي في مساويء الأخلاق ومكارم الأخلاق والخطيب في التاريخ وغيره والحاكم في تاريخه والطبراني في معاجمه وابن عساكر في تاريخه والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ في كتبه خصوصاً كتابه العظمة وأبو نعيم في الحلية وغيره وابن سعد في الطبقات وابن عدي في الكامل وابن أبي الدنيا في كتبه وسَمُّويَه في كتبه ومحمد بن نصر في كتبه وابن منيع وابن النجار وتمام والعقيلي والعجلي والرافعي وأبو يعلى الموصلي وابن السني والبزار والدارمي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والطيالسي في كتبهم.(35/349)
وكذا الطيبي في الترغيب وأبو موسى المديني وسعيد بن منصور وابن أبي عاصم والباوردي وابن قانع وأبو عوانة وعبد بن حميد والشاشي في كتبهم وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات وأبو أحمد الحاكم في الكنى والشيرازي في الألقاب وابن الأنباري في الوقف وأبو عمرو الداني في طبقات القراء والرهاوي في الأربعين وابن الجوزي في الموضوعات وابن مردويه وأبو بكر محمد بن إبراهيم الإسماعيلي وقاسم بن الأصبغ في مسنده وابن أبي حاتم وابن جزو وابن صصري في أماليه وابن منيع وأبو سعيد النقاش في معجمه وكتاب القضاة والآجري في الشريعة ونعيم بن حماد في الفتن وابن مندة في التوحيد وابن زنجويه والرؤباني وأحمد بن فارس "في أماليه"والخليلي والحسن بن سفيان وابن الجارود وابن الضريس في كتبهم وابن المديني في تعليل الأحاديث المسندة وإسحاق ابن راهويه والحارث والأصبهاني في الحجة والمرهبي في العلم وابن لال في مكارم الأخلاق وغيرهم في كتبهم، فمن خلال هذه المصادر المذكورة نعرف أولا بأن أكثرية الأحاديث القدسية أخرجت من طريقها، وثانيا نعرف بأن معظم هذه المصادر ليست من المصادر الأساسية في السنة وهي أشبه بجمع الغرائب والعجائب والأفراد وبيان العلل فيها بل وغالبية رواياتها إما ضعيفة أو واهية أو موضوعة، فمن هنا يلاحظ في أكثرية الأحاديث القدسية الضعف، كما سأبين ذلك بالتفصيل من خلال دراسة أحاديث أهم الكتب المؤلفة في الأحاديث القدسية كتاب بعد كتاب، وإليك بيان ذلك.
"الكتب المؤلفة في الأحاديث القدسية ومراتب أحاديثها من حيث الجرح والتعديل".
*الأحاديث القدسية للإمام النووي "ت 676 هـ":(35/350)
ذكر فيه خمسة وتسعين حديثاً مجردة الأسانيد ولم يتجاوز مصادره الكتب الستة وأغلب الأحاديث من الصحيحين وبالتحديد عدد أحاديثهما "82"اثنان وثمانون حديثاً والبقية من السنن الأربعة ولم يتعرض المؤلف لبيان درجتها حتى لم ينقل عن الترمذي حكمه فيما عزاه له فهي بحاجة إلى بيان درجتها ومعرفة حكمها.
* المقاصد السنية في الأحاديث القدسية لابن بلبان المقدسي "ت 739 هـ":
رتب الكتاب في عشرة أجزاء وجمع في كل جزء عشرة أحاديث فصار المجموع عنده مائة حديث كما قال في مقدمته [91] :
"وقد خرج العبد الفقير علي بن بلبان من مسموعاته ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر والإسكندرية هذه المائة حديث الإلهية مما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى، وعن الله تعالى فيالها من منقبة علية ورتبة علوية، وأضفت إلى كل جزء طرفا من الحكايات الوعظية والأشعار الزهدية ... ".
قلت: ليس في كثير من الأحاديث المذكورة تصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رواها عن جبريل عن الله تعالى كما ذكر المؤلف بل فيها يقول الله أو قال ربكم أو قال الله ونحوها بدون ذكر جبريل عليه السلام [92] مما يحتمل التلقي بالإلقاء في الروع أو الإلهام أو المنام أو عن طريق جبريل عليه السلام أيضاً.
ويا ليت أنه لم يضف هذه الحكايات المنكرة غالبيتها والأشعار الزهدية كما علق المحققان للكتاب في مقدمتهما [93] وهذا نصهما:
"الحكايات التي أوردها ابن بلبان لا تخلو كل واحدة منها من موعظة وذكرى ولكنه فيما يبدو لم يكلف نفسه عناء الاختيار، ولم يعرضها على مقاييس السنة والكتاب فقد اشتمل بعضها على نكارة واضحة وغرائب فاضحة يرفضها العقل والنقل، كما يظهر على بعضها أثر الصنعة والوضع لأغراض مذهبية مغالية، واتجاهات صوفية خاطئة".(35/351)
ومنهج المؤلف فيه أنه يسند الأحاديث القدسية بإسناده ومن مسموعاته من شيوخه ويعقبها بعد سرد الحديث ببيان درجته في الغالب، وقد حصرت الأحاديث الصحيحة فيه سواء بتصحيحه هو أو باعتبار مخرِجيها- أعني الصحيحين - أو تصحيح غيره من الأئمة فبلغ عددها "88"ثمانية وثمانون حديثاً والذي لم يتعرض المؤلف لبيات درجتها "31"واحد وثلاثون حديثاً، منها "12"اثنا عشر حديثاً ضعيفاً أو واهياً، وخمسة ما بين صحيح وحسن والبقية بحاجة إلى دراسة نقدية لمعرفة حكمها.
* الأحاديث القدسية لابن الديبع الشيباني "ت 944 هـ":
وقد جمع فيه المؤلف ثمانين حديثاً قدسياً مجردة عن الأسانيد وذكر الرواة فيها وهي عارية عن ذكر المصادر وخالية عن بيان درجة الحديث من جهة المؤلف.
وقام المحقق الدكتور/ يوسف صديق بتخريج كثير من الأحاديث حسب التيسر وبدون التزام وأهمل جملة كبيرة منها ولم يتعرض فيما أخرجه لدراسة الأسانيد وبيان الحكم إلا في القليل من الذي خرجه، وبالفحص والنظر فيها تبين لِي بالتحديد أن الأحاديث الصحيحة فيه- حسب ما ثبت من التخريج- تسعة عشر حديثاً والضعيفة والموضوعة اثنا عشر حديثاً والبقية من الثمانين "وهي 49 حديثاً"بحاجة إلى الدراسة للوصول إلى معرفة حكمها وتمييز صحيحها من سقيمها.
*الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية للمناوي "ت 1535 هـ":
وقد جمع فيه مؤلفه اثنين وسبعين حديثاً ومائتي حديث مجردة من الأسانيد مع عزوه لها إلى مصادرها غير أنه لم يتعرض لبيان درجة الأحاديث إلا لستة أحاديث قدسية [94] فقط ولكن بالنظر في مصادرها تبين لي أنه يوجد فيها خمسة وثلاثين حديثاً رواها الشيخان أو أحدهما فهي صحيحة من قبل مخرجيها ومظانها والبقية "وهي 231"بحاجة إلى التخريج ودراسة أسانيدها والحكم عليها على ضوئها.
*الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية لمحمد المدني "ت 1200 هـ":(35/352)
وهو أكبر كتاب في هذا الموضوع حيث جمع فيه كمية كبيرة من الأحاديث القدسية بلغ عددها أربعة وستين وثمانمائة حديث قدسي بالمكرر وقد تقدم بيان ترتيب الكتاب [95] والذي يهمنا هنا الكشف عن بيان درجة الأحاديث ما أمكن ذلك في هذه الدراسة المستعجلة فأقول وبالله التوفيق.
بأن الأحاديث القدسية في الكتاب المذكور تنقسم من حيت معرفة الحكم فيها ودرجاتها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
ما علم صحته سواء بتصحيح المؤلف أو بوجوده في الصحيحين أو أحدهما أو بتصحيح من أحد الأئمة مثل الترمذي وغيره، وعدده "134"أربعة وثلاثون ومائة حديث بالمتون المكررة.
القسم الثاني:
ما علِم ضعفه سواء من جهة المؤلف أو غيره من الأئمة وعدده "78"ثمانية وسبعون حديثاً قدسياً.
القسم الثالث:
ما هو مسكوت عنه ولم يعلم عنه شيء ولم يتعرض المؤلف لبيان حكمه وعدده "609"تسعة وستمائة حديث قدسي.
فمن هنا يتبين لنا حجم الروايات التي تحتاج إلى معرفة حكمها صحة وضعفا وضرورة القيام بهذه الخدمة الجليلة وأهميتها في ديننا الحنيف حيث لا يصح لنا أن نبني أعمالنا إلا على أسس ثابتة ومعلومة لدينا.
فهذه الثغرة شجعتني إلى القيام بأداء هذه المهمة خدمة للسنة المشرفة على صاحبها الصلاة والسلام مستعيناً بالله تعالى.
* الأحاديث القدسية للجنة من العلماء المستخرجة من الكتب الستة وموطأ مالك:
وجمعت اللجنة في الكتاب المذكور "400" أربعمائة حديث بالطرق والمكرر ولا يتجاوز العدد الحقيقي لها عن "130" ثلاثين ومائة حديث باعتبار المتون وأخرج الشيخان أو أحدهما منها "77" سبعة وسبعين حديثاً وحكم الترمذي على تسعة عشر حديثاً إما بالصحة أو الحسن فقط أو بهما معاً وعلى خمسة بالغرابة والضعف.
والبقية "وهي 29"تسعة وعشرون حديثاً بحاجة إلى دراسة الأسانيد ومعرفة الحكم فيها.(35/353)
* الصحيح المسند من الأحاديث القدسية لمصطفى بن العدوي:
وقد جمع فيه خمسة وثمانين ومائة حديث قدسي، أربعة وعشرون ومائة حديث من الكتب الستة وتسعة وخمسون من غيرها، أربعون حديثاً من مسند أحمد وخمسة أحاديث من صحيح ابن حبان وثلاثة من عند الحاكم وحديث من أبي يعلى وحديث من الحلية لأبي نعيم وحديث من السنة لابن أبي عاصم والتزم المؤلف بالصحيح المسند كما يدل العنوان على ذلك ولم أدقق في منهج تصحيحه عن طريقته فيه، ويبدو لي أنه لم يستوعب جميع الأحاديث القدسية كما يظهر من المصادر وحجم الأحاديث المذكورة والله أعلم.
هذا ما توصلت إليه في هذا الموضوع وأسأل الله تعالى العون والتوفيق في إكمال الدراسة لجميع الأحاديث القدسية بعد حصرها وجمعها قدر الإمكان في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
وصلى الله تعالى على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتبه: د/ عبد الغفور عبد الحق البلوشي
الباحث بمركز خدمة السنة والسيرة
النبوية بالجامعة
بالمدينة المنورة في: 6/20/ 1411 هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كما في مختار الصحاح/ 524 والقاموس (1/248) .
[2] مثل أمرني ربي عز وجل، أو أتاني جبريل أو ملك فقال إن الله يأمرك ... إن الله عز وجل أمرني، أو إن الله عز وجل يقول أو قال ونحوها حيث عدها العلماء من الأحاديث القدسية.
[3] انظر: ص 228.
[4] انظر: قواعد التحديب للقاسمي/ 66.
[5] انظر: التعريفات له/83،84.
[6] انظر: الإتحاف السنية في الأحاديث القدسية/ 274.
[7] انظر: النبأ العظيم / 16.
[8] انظر: الحديث النبوي مصطلحه، بلاغته/ 133.
[9] انظر: ص 11.
[10] انظر: (13/ 460) مع الفتح.
[11] انظر: صحيح البخاري (13/ 464) مع الفتح.(35/354)
[12] انظر: صحيح مسلم ص 1994.
[13] انظر: مقدمة الضياء اللامع من الأحاديث القدسية الجوامع/ 6-7 و 10، 11-12.
[14] انظر: الوجيز المختصر في علوم الحديث له/ 20 وهو من علماء عصرنا وله عدة مؤلفات.
[15] انظر: النبأ العظيم/ 16والحديث النبوي ومصطلحه للصباغ/ 133.
[16] انظر: النبأ العظيم للدكتور محمد دراز/ 15 ومقدمة الإتحافات السنية/ 10 لمحمود النواوي.
[17] انظر: الكوكب الدراري (9/ 75- 80) وكذا نقله عنه المدني في الإتحافات السنية/ 336.
[18] وكذا نقله عنه القاسمي في قواعد التحديث/ 64 وهو حديث إني حرمت الظلم.
[19] انظر: صحيح البخاري حديث رقم (7405) وصحيح مسلم (267 () .
[20] انظر: سنن الترمذي حديث رقم (239) .
[21] سيأتي تخريجه في مبحث نماذج من الأحاديث القدسية المتفاوتة الدرجات إن شاء الله تعالى.
[22] انظر: النبأ العظيم للدكتور محمد دراز/ 6 والحديث مصطلحه وبلاغته للصباغ/ 133.
[23] انظر: صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (9/ 162) .
[24] انظر: صحيح مسلم (/1671) .
[25] صحيح البخاري كتاب الطب باب فضل من ذهب بصره (7/116) .
[26] سنن الترمذي باب ما جاء في ذهاب البصر (2/ 64) وقال: حديث حسن غريب.
[27] المصدر السابق نفسه وقال: حديث حسن صحيح.
[28] صحيح البخاري كتاب الرقاق (8/103) .
[29] المصدر السابق نفسه كتاب التوحيد باب {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه}
[30] انظر: صحيح مسلم (1/117) .
[31] انظر: جامع الأصول (5/ 184 -185) .
[32] صحيح البخاري (8/430- 431) وصحيح مسلم (7/ 6-7) .
[33] انظر: جامع الأصول (5/ 65) و (7/ 342) .
[34] انظر: مسند عائشة ح 335 من مسند إسحاق بتحقيقي وإسناده حسن.(35/355)
[35] انظر جامع الأصول (2/143) .
[36] المصدر نفسه.
[37] المصدر نفسه (9/ 121) .
[38] المصدر السابق نفسه (1/450ـ 451) و (4/ 779) و (10/768) .
[39] رواه أبو داود (5/ 10-12) كتاب السنة باب في لزوم السنة والترمذي في سننه كتاب العلم حديث رقم (6666) وقال: حديث غريب من هذا الوجه وابن ماجه في المقدمة حديث 12 واللفظ لأبي داود.
[40] أما ما يتعلق باجتهاده ورأيه- صلى الله عليه وسلم - فهو وإن لم نحكم عليه بأنه وحي ولكنه في منزلة الوحي حيث إن الله تعالى لا يقر نبيه صلى الله عليه وسلم على الخطأ بل ينزل الوحي ويبين له الصواب كما حصل في قصة أسرى بدر وفي صلاته على المنافقين والإذن لهم وفي قصة الأعمى ابن أم مكثف وغيرها وانظر: قواعد التحديث للقاسمي/33 و255 والأنوار الكاشفة للمعلمي/ 22 و104.
[41] انظر: مختار الصحاح/ 713 بتصرف.
[42] انظر: الحديث والمحدثون/ 12.
[43] انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/78 - 79) تحقيق شعيب الأرناؤوط.
[44] رواه أبو نعيم في الحلية (10 /26، 27) والطبراني كما في مجمع الزوائد (4/72) وأعله بعفير بن معدان وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم (2/4) ومن حديث جابر عند ابن ماجه وابن حبان وصححه المحقق لزاد المعاد بمجموع الطرق والشاهد.
[45] انظر: صحيح مسلم حديث عمر في أول كتاب الإيمان.
[46] انظر: صحيح البخاري (1/ 20) في بدء الوحي.
[47] انظر مسند إسحاق منه مسند عائشة حديث 213 وتخريجه.
[48] انظر: صحيح البخاري (8/ 196) كتاب التفسير والرَّضُ/ الدق الجريش.
[49] انظر: صحيح مسلم برقم 177.
[50] انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي (برقم 60، 96 و112ص 163، 263، 303 ولقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة/ 75 لمحمد مرتضى الزبيدي.(35/356)
[51] حديث متفق عليه خ (13/512) مع الفتح ومسلم (برقم 1151) .
[52] انظر: مسند أحمد (2/ 509) وفي إسناده عاصم بن أبي نجود يحسن حديثه وبقية رجاله ثقات.
[53] انظر: مسند أحمد (2/ 440) والترمذي (4/ 412) برقم 2088 وابن ماجه (برقم 3470) في إسناده أبو صالح الأشعري قال أبو حاتم لا بأس وبقية رجاله ثقات.
[54] انظر: الإتحافات السنية حديث رقم 9 وقال: فيه المعلى بن الفضل له مناكير.
[55] المصدر السابق نفسه برقم 631 في إسناده محمد بن عكاشة الكرماني كذاب يضع الحديث انظر: ميزان الاعتدال (3/650) .
[56] رواه أبو نعيم في الحلية (6/98) في إسناده محمد بن يعلى قال الذهبي: واه وكذا عمر بن صبح قال فيه ليس بثقة ولا مأمون، وقال ابن حبان كان ممن يضع الحديث وقال الازدي: كذاب وقال الدارقطني: متروك. انظر: الميزان (3/ 206-207) .
[57] أحاديث القصاص/ 67- 68 وأورده السخاوي في المقاصد الحسنة/ 373 وابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث/ 146 وملا على القارئ في الأسرار المرفوعة/ 310 وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/148) والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 195) والسيوطي في الدرر المنتثرة/ 236.
[58] انظر: تخريجه على إحياء علوم الدين (3/14) .
[59] انظر: أحاديث القصاص/ 69-70 وتنزيه الشريعة (1/148) والمقاصد الحسنة/ 327.
[60] تقدم ذكر المصدر لكلامه عند بيان الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وفي التعريف أيضاً.
[61] انظر: الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (7/ 389) .
[62] انظر: الأحاديث القدسية للنووي/ 118 برقم 3 والاتحافات السنية في الأحاديث القدسية لمحمد المدني/ 256.
[63] انظر: خطبة كتابه/ 17.
[64] انظر: ص 49-54.
[65] انظر: ص 73، 74.(35/357)
[66] راجع صحيفة همام أرقام الأحاديث المذكورة وانظر: مقال الأستاذ الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب الذي نشر في مجلة المنهل في العدد (484) المجلد 52 ربيع الآخر وجمادى الأولى عام 1411 هـ/ ص 234 وقد ذكر نص الأحاديث المذكورة.
[67] انظر: ص 243.
[68] انظر: ترجمته في سير النبلاء للذهبي (20/9-13) وذكر له عدة مؤلفات ومنها السباعيات وقال أيضاً خرج لنفسه عوالي مالك وعوالي ابن عيينة وما وقع له من عوالي ابن خزيمة جاء أزيد من ثلاثين جزءاً وعوالي السراج وعوالي عبد الرحمن بن بشر وعوالي عبد الله بن هاشم وتخفتى العيدين، و (مشيخته) وأملى نحوا من ألف مجلس وكان لا يمل من التسميع.
[69] ترجم له الذهبي في سير النبلاء (22/66) فقال: "الشيخ الإمام المفتي الحافظ الكبير المتقن شرف الدين أبو الحسن ... مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ... وجمع وصنف ... وكان ذا دين وورع وتصون وعدالة وأخلاق رضية ومشاركة في الفضل قوية ... توفي في مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة".
[70] انظر: الرسالة المستطرفة/ 60 وشذرات الذهب (5/ 48) .
[71] انظر: ترجمته في الميزان (3/ 659) .
[72] انظر: الرسالة المستطرفة/ 61 وشذرات الذهب (5/ 190) وكشف الظنون طبع الكتاب في حلب منذ ثلاثين عاما وإلى الوقوف عليه.
[73] انظر: الرسالة المستطرفة/ 61.
[74] انظر: الفصول في اختصار سيرة الرسول للحافظ ابن كثير/ 243 والإعلام للزركلي (7/ 134) ،لم أقف فيما بحثت عن وجوده أو فقدانه.
[75] الكتاب مطبوع بتحقيق مصطفى عاشور ونشر في مصر بالقاهرة.
[76] الكتاب مطبوع بتحقيق محي الدين مستوود/ محمد العيد الخطراوي.
[77] والكتاب مطبوع متداول بتحقيق د/ يوسف صديق أستاذ الحديث في جامعة الكويت.
[78] طبع الكتاب في حلب وانظر: البدر الطالع (1/ 445) .
[79] طبع الكتاب في بيروت ومصر.(35/358)
[80] طبع الكتاب في القاهرة ولم أقف عليه.
[81] طبع الكتاب في القاهرة المكتبة الأزهرية للتراث بتحقيق محمود أمين النواوي، وقد رتبه على ثلاثة أبواب: الباب الأول ما صدر بـ (قال) والثاني ما صدر بـ (يقول) والثالث ما لم يصدر بهما ورتب الباب الثالث على حروف المعجم ليس كل الكتاب كما جاء في مقال الدكتور/ زاهر الألمعي في مجلة المنهل العدد (484) المجلد 52 ص 239.
[82] مخطوط بدار الكتب المصرية المكتبة التيمورية انظر: مقال الدكتور رفعت فوزي المنشور في مجلة المنهل العدد (484) المجلد 52 ربيع الآخر وجماد الأولى/ 235.
[83] المصدر السابق نفسه.
[84] المصدر السابق نفسه وهي أربعون صحيفة.
[85] طبع مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى 1403هـ.
[86] طبع في دار الصحابة للتراث بطنطا عام 1410 هـ.
[87] انظر: (7/ 389) .
[88] انظر: مقال الشيخ إسماعيل الأنصاري المنشور في مجلة المنهل العدد 484 ص 250.
[89] طبع الكتاب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية طبعتين الثانية في عام 1410 هـ.
[90] العدد السابق نفسه ص 246 وهناك ملاحظات أخرى تخص التعريف للحديث القدسي في مقاله ومقال غيره لم أتعرض لها لأني بحثت الموضوع بهذا الخصوص عند الكلام على الحديث القدسي والرد على من يقول بمثل ما جاء في مجلة المنهل بخصوص التعريف فمن هنا أعرضت عن مناقشتها.
[91] انظر: ص 58.
[92] انظر: حديث رقم 4 1 و 21 و22 و45 و67.
[93] انظر: ص 40.
[94] حكم على الاثنين بالصحة ونقل عن المنذري توثيق رجال واحد منها وفي البقية الثلاثة ذكرها بأنها مروية مرسلا.
[95] في مبحث الكتب المؤلفة في الأحاديث القدسية.(35/359)
فَعَل في دلالتها على الجَمْعِيَّة
د/ سليمان إبراهيم العايد
الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدراسات العليا العربية في جامعة أم القرى
ملخص البحث
جمع هذا البحث آراء اللغويين، وما قالوه في الكلمات الواردة على وزن (فَعَل) مفيداً الجمعية ودرس اشتقاقها وتصريفها من خلال:
مقدمة عن وزن (فَعَل) في العربية، وجموع التكسير، وأن دلالة الكلمة على الجمعية تكون بالمادة أو بالزيادة في آخرها، أو بتغيير صورتها ولو تقديراً، أو بالاستعمال. ثم التفريق بين جمع التكسير واسم الجمع من حيث المعنى واللفظ.
ثم سرد الباحث ما جمعه من كلمات دالة على الجمعِ، وهي على (فَعَل) ومفردها (فاعل) وأورد فيها ما قاله أهل اللغة، ثم عرض لما ورد على (فَعَل) ومفرده ثلاثي قبل آخره حرف مدٍ زائد. ثم عرض لما جاء على (فَعَل) مما يفرق بينه وبين واحدة بالتاء، وهذا هو اسم الجنس الجمعي. ثم عرض لما جاء من الأسماء على (فَعَل) مفيداً الجمعية، ولا واحد له من لفظه، وهو ضربان: ضرب وضع للدلالة على الجمع، وضرب يصلح للدلالة على الجمع وغيره وضعاً، والاستعمال يُعين المراد. ثم فرق الباحث بين اسم الجمع واسم الجنس الجمعي بما هو معروف عند أهل العربية.
ثم ذكر الباحث مسائل تتعلق بصيغة (فَعَل) وما ورد عليها من ألفاظ تفيد الجمع: فَعَل جمع تكسير أو اسم جمع؟ وعرض رأي الأخفش، والفرّاء، وما يرتب عليهما من أحكام، وانتهى من هذا إلى أن إطلاق الجمع على (فَعَل) من باب التجوز. ونوقش ما يفهم من كلام بعضهم من أن (فَعَل) أصله (فَعَلة) ثم نقص بحذف تائه.
ثم عرض لما ورد من أسماء الجمع على وزنين، أحدهما (فَعَل) ، ونقل (فَعَل) عن المصدرية، وورود (فَعَل) على خلاف الأصل، في تصحيح عينه، وفك إدغامها مع استحقاقه.
ثم ختم البحث بدلالةْ (فَعَل) حين تفيد الجمعية، وأنها تفيد الكثرة.(35/360)
مقدمة: عن فعل، والجمع، واسم الجمع، والتفريق بينهما:
من أوزان العربية الدَّوارة (فَعَل) وهو وزن كثير الشيوع في كلم العربية، ترد عليه الأسماء والأفعال، بل هو أم باب الأفعال الماضية، والأسماء ترد عليه، سواء كانت أسماء معنًى، أو أسماء ذاتٍ، مثل جَبَل وقَمَر، وكرم، وسَخَط، وهو من أخف أوزان العربية، ولهذا كثر استعماله، وورود الكلم عليه، وامتنعوا من تخفيفه إلى أخف منه، كأن تسكن عينه، وامتنعوا من التفريع فيه في الأفعال، فلا يقولون في (ضرَبَ) : ضَرْبَ، كما امتنعوا من التفريع فيه في الأسماء، فلا يقولون في (جَبَل) و (قَمَر) : جَبْل وقَمْر. وما ورد منه عنهم يحفظ ولا يقاس عليه.
ومجيء المفرد عليه أمر لا يستغرب، بل المستغرب ورود الجمع، وهو غير معدود من أوزانه؟ لأن الجمع الذي كُسرت فيه صورة المفرد: إما أن يكون جمع قلة، أو جمع كثرة. فالقلة له أوزان أربعة، جمعها ابن مالك بقوله:
ثُمّتَ أفعال جموعُ قِلّةْ [1]
أَفْعلَةٌ أَفْعلُ ثم فِعْلَةْ
وأما جمع الكثرة فقد حصروا أوزانه- غالباً - في ثلاثة وعشرين وزناً، هي: فُعْلٌ كحُمرِ، وفُعُل كحُمُر، وفُعَل كغُرفَ، وفِعَل كحِجَج، وفُعَلَة كقضاة، وفَعَلَة ككتبة، وفَعْلَى كقَتْلَىَ، وفِعَلَة كدِرَجَة وقِرَدَة، وفُعَّل كَرُكَّع، وفعَّال كصُوَّام، وفِعَال كجمَال، وفُعُول ككُعُوب، وفِعْلان كغِرْبان، وفُعْلان كقُضْبَان، وفُعَلاء كظُرَفاء، وأَفْعِلاء كأَغنِياء، وفَواعِل كجَواهِر، وفَعائل كرَسائِل، وفَعالي وفَعالَى كصَحاريَ، وفَعاليُّ ككَراسِيّ، وفَعالِل كَبراثِن، وشبه فَعالِل، وهو ما يُماثِل فَعالِل فَي عدد الحروف وضَبطها، وإن خالفها في الميزان الصرفي، كأفاضل ومساجد وصيارف.(35/361)
هذه هي الأوزان التي ترد عليها الجموع، ولكل وزن مواضع يرد فيها، قياساً، أو غالبا، أو قليلاً، وهو مبين في موضعه من كتب العربية. وأنت ترى أنهم لم يعدوا (فَعَلاً) من أوزان جموع التكسير، وهي قد وردت دالة على الجمع، فهل هي جمع أو غير جمع؟.
إن ما يدل على الجمع في العربية أنه:
نوع يدل على الجمع بمادته مثل حزب، وفئة، وطائفة، وثُلَّة، وغير ذلك، فهذا لا يتناوله الجمع بالمصطلح الصرفي، وإن دل عليه.
ونوع يدل على الجمع بزيادة تزاد في آخره: واو أو ياء ونون، أو ألف وتاء، دون أن يحدث في صورة المفرد تغيير ما، فهذا النوع من الجمع يسمى جمع التصحيح، وهو نوعان: جمع مذكر سالم، وجمع مؤنث سالم.
ونوع يدل على الجمع بتغيير في صورة المفرد ولو تقديراً، وهذا نوعان: نوع يكون من الأوزان المعروفة السبعة والعشرين، فهذا يسمى جمع التكسير، ونوع يكون من غير الأوزان المعروفة، فهذا يسمى اسم الجمع. ثم إن هذا النوع إما أن لا يكون له مفرد فالتفريق بينه وبين الجمع سهل، إذ يكون على غير أوزان الجمع. وإما أن يكون له مفرد، فيفرق بينه وبين جمع التكسير بأن يقال:
يتفق جمع التكسير قلة أو كثرة، واسم الجمع في الدلالة على ثلاثة فأكثر وضعاً، ويختلفان في الأحكام اللفظية، لأن اسم الجمع في حقيقتِه اسم مفرد وُضع لمعنى [2] الجمع فقط، ولا فرق بينه وبين الجمع إلا من حيث اللفظ، وذلك لأن لفظ هذا مفرد، بخلاف لفظ الجمع. ولهذا أخذ أحكام المفرد اللفظية، مثل:
1- التصغير؛ إذ المسموع في تصغير نحو ركب: رُكيب، قال الشاعر:
إلى أهل نارٍ من أُناس بأسودا
وأين رُكَيْبٌ واضعون رحالهم
وأنشد أبو عثمان عن الأصمعي لأُحَيْحَةَ بن الجُلاح:
أخشى رُكَيباً أو رُجَيْلاً عاديَا
بنيته بِعُصبَةٍ من مالِيَا(35/362)
وهذا نص في محل النزاع، إذ لو كان جمعاً مكسراً لرُد إلى الواحد، فأما قول أبي الحسن: رُويكبون فهو شيء يقوله على مقتضى قياس مذهبه، والمسموع غيره [3] .
ولا يعترض على هذا بتصغير جموع القلة على لفظها، دون الرد إلى المفرد، لأن دلالة اسم الجمع على الكثرة، والقلة داخلةٌ فيها.
2- الإخبار باسم الجمع عن (هو) بخلاف الجمع المكسر، لأن الجمع مؤنث، واسم الجمع مذكر، تقول: هو الرَّكْب، وهذا السَّفْر، وهو الجامِل والباقِر، والأدَم والعَمَد، ونحو ذلك، ولو كان مكسراً لقلت: هي، وهذه [4] . وتقول: هي الجمال، وهذه الجمال.
3- الإشارة إليه بالمذكر، وهو مثل ما تقدم، تقول: هذا الركب ... الخ.
4- عودة ضمير المفرد إليه، تقول: الرَّكْبُ رجع، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [5]
5- النسب في اسم الجمع إلى لفظه، دون حاجة للرد إلى المفرد، وأما الجمع فالنسب فيه إلى المفرد، ثم يجمع بعد ذلك؟ إن كان المنسوب جمعاً [6] .
وكل اسم جاء وقد دل على الجمع بغير مادته، أو زيادة في آخره، وهو على غير وزن من أوزان جمع التكسير المعروفة، وجازت عليه الأحكام اللفظية المتقدمة، فليس بجمع، وإنما هو اسم للجمع ومن ذلك ما ورد على (فَعَلٍ) .
الفصل الأول: ما ورد على (فَعَلٍ) دالا على الجمعية، وهو أنواع أربعة:
النوع الأول: ما ورد على (فَعَلٍ) ومفرده (فاعِل) وأقربه في التناول ما جمعه ابن مالك من ألفاظ، جمعت على (فَعَل) ومفردهَا على (فاعل) ، في كتابه (نظم الفوائد) ، قال:
فصل في فَعلٍ جمع فاعل
جمعاً بالنقلِ فخذ مثلا
فعلِ للفاعل قد جعلا
خدماً رصداَ روحاً خَوَلاً
تبعاَ حرساً حفداً خبلا
غيباً فرطاً قفلاً هملا [7]
سلفاً طلباً ظعناً عسساً
فهذه ألفاظ مفردها على ورن (فاعل) وبعضها ألفاظ قرآنية، مثل:(35/363)
حَرَس: في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} [8] .
قال الراغب: (الحرس والحراس: جمع حارس، وهو حافظ المكان) [9] . وقال الزمخشري: الحرس: اسم مفرد في معنَى الحراس، كالخدم في معنى الخدام، ولذلك وُصف [بالمفرد] ولو ذهب إلى معناه لقيل: شداداًَ، ونحوه:
أخشى رُجيلاً أو رُكيباً عاديَا [10]
وقال أبو حيان: (الحرس: اسم جمع، الواحد حارس.... جمع على أحراس) [11]
رصد: في قوله تعالى: {مَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [12] وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} . قال الراغب: والرصد: يقال: للراصد الواحد، وللجَماعة الراصدينِ، وللمرصود واحداً كان أو جمعاً. وقوله تعالى: {يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [13] يحتمل كل ذلك [14] . وقال الزمخشري: "الرصد: مثل الحرس، اسم جمع للراصد على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويجوز أن يكون صفة للشهاب بمعنى الراصد" [15] .
تبع: وهي لفظة، قد وردت في قوله: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} [16] قال الزمخشري: تبعاً: تابعين، جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم، وغائب وغيب، أو ذوي تبع، والتبع: الأتباع) [17] . وقال أبو حيان: "تبعاً: يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع كخادم وخدم، وغائب وغيب، ويحتمل أن يكون مصدراً، كقوله: عدل ورضاً" [18] . وفي اللسان التبع: اسم للجمع، ونظيره: خادم وخدم، وطالب وطلب، وغائب وغيب، وسالف وسلف، وراصد ورصد، ورائح وروح، وفارط وفرط، وحارس وحرس، وعاس وعسس، وقافل من سفره وقَفَلٌ، وخائل وخول، وخابل وخبل، وهو الشيطان، وبعير هامل وهَمَل، وهو الضال المهمل، قال كراع: كل هذا جمع، والصحيح ما بدأنا به، وهو قول سيبويه فيما ذكر من هذا، وقياس قوله فيما لم يذكره منه.(35/364)
والتبع يكون وٍاحداً وجماعة. وقوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} يكون اسماً لجمع تابع، ويكون مصدرا، أي: ذوي تبع، يجمع على أتباع [19] .
عبد: في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوت} [20] . قرأ ابن عباس وابن أَبي عبلة "وعبد الطاغوت"يريد: وعبدة جمع عابد كفاجر وفجرة، وحذف التاء للإضافة، أو اسم جمع كخادم وخدم، وغائب وغيب، وقُرِيء "وعبدة الطاغوت"بالتاء، نحو فاجر وفجرة [21] .
خدم: يأتي بمعنى خُدَّام، واحده خادم غلاماً كان أو جارية، وإنما وقع على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال كحائض وعاتق، وفي حديث عبد الرحمن: أنه طلق امرأته فمتعها بخادم سوداء، أي: جارية، وهذه خادمنا بغير هاء، لوجوبه، وهذه خادمتنا غداً.
والخدم: اسم للجمع كالعزب والروح. والأنثى خادم وخادمة، عربيتان فصيحتان، والخدم أيضاً: جمع الخَدَمةِ، وهي السير الغليظ المحكم، مثل الحلقة، يشد في رسغ البعير، ثم يشد إليها سرائح نعلها [22] .
الحفد والحفدة: الأعوان والخدمة، واحدهم حافد، مثل القاعد والقعد، ... قال ابن عرفة: الحفد عند العرب: الأعوان، فكل من عمل عملاً أطاع فيه وسارع فهو حافد ... قال:
لها حفَدٌ مما يُعَدُّ كَثِيرُ
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت
أي: خدم، حافد وحَفَدٌ، وحَفَدَةٌ جميعا، ويقال: حفدت وأحفدت، وأنا حافد ومحفود، وحفد وحفدة جمع حافد [23] .
الخبل: له معانٍ: الجنُّ، والإنس، والجراحة، والمزادة، وجودة الحُمق بلا جنون، والقربة الملأى، وخبلت يده: إذا شلت يده، والخبل، بالتحريك: الجنُّ وهم الخابل، وقيل: الخابل: الجنُّ، والخبل: اسم الجمع كالقعد والروح اسمان لجمَع قاعد ورائح، وقيل: هو جمع، قال ابن بري، ومنه قول حاتم:
مهلاً! ولو كنت أعطي الجن والخبلا
ولا تقولي لشيء كنت مهلكه(35/365)
قال الخبل: ضرب من الجنَّ، يقال لهم: الخابل، أي: لا تعذليني في مالي ولو كنت أعطيه الجن، ومن لا يثني عليَّ [24] .
الخلف: انظر السلف.
الخول: اسم لجمع خائل كرائح وروح، وليس بجمع خائل، لأن فاعلاً لا يكسر على (فَعَل) وقد خال يخول خولاً، وخال على أهله خولاً وخيالاً، ويقال: إنه لخال مال، وخائل مال، وخول مال، أي: حسن القيام على نَعَمِهِ، يدبره ويقم عليه.
وخول- كعرب- مفرده خوليّ كعربيّ، وهو الراعي الحسن القيام على المال والغنم. والخول أيضاً: أصل فأس اللجام. وخول الرجل: حشمه، الواحد خائل. وقد يكون الخول واحداً، وهو اسم يقع على العبد والأمة، قال الفراء: هو جمع خائل، وهو الراعي، وقال غيره: هو مأخوذ من التخويل، وهو التمليك، قال ابن سيده: ... الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء، وهو مما جاء شاذاً عن القياس، وإن اطرد في الاستعمال [25] .
الروح: مفرده الرائح اسم فاعل، من راح يروح رواحاً، مقابل قولك: غدا يغدو غدواً، ورجل رائح من قوم رَوَحٍ، اسم للجمع. وطير رَوَحٌ: متفرقة، قال الأعشىَ:
من غراب البين، أو تَيس سنحْ
ما تعيف اليوم في الطير الروَحْ
ويروى: الروح، وقيل: الروح في هذا البيت: المتفرقة، وليس بقوي، إنما هي الرائحة إلى مواضعها، فجمع الرائح على رَوحٍ، مثل خادم وخدم.
قال الأزهري في هذا البيت: قيل: أراد الروحة، مثل الكفرة والفجرة، فطرح الهاء. قال: والروح في هذا البيت: المتفرقة [26] .
سلف: سلف يسلف سلفاً، مثل طلب يطلب طلباً أي: مضى وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسُلافٌ. وقال ابن بَري: سُلاف ليس بجمع لسلف، وإنما هو جمع سالف للمتقدم، وجمع سالف أيضاً: سلف، ومثله خالف وخلف. ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [27] . والسلف: القوم المتقدمون في السير، قال قيس ابن الحطيم:
رَيْثَ يُضَحي جِمالَهُ السلفُ(35/366)
لو عرَّجُوا ساعة نُسائلهم
وسمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالحين [28] .
طلب: يقال: طالب وطلب، مثل خادم وخدم [29] .
ظعن: الظُّعُنُ والظَّعَنُ:- الظاعنون، فالظُّعُنُ جمع ظاعن، والظَّعَنُ: اسم الجمع- ظعن يظعَن ظَعْناً، وظَعَناً بالتحريك، وظعُوناً: ذهب وسار [30] .
عزب: العزب اسم للجمع كخادم وخدم، ورائح وروح، وكذلك العزيب اسم للجمع كالعزيّ. والعزب: الرجل لا أهل له، والمرأة لا زوج لها [31] ، قال الشاعر:
وللعَزَب المسكين ما يَتَلَمَّسُ [32]
هنيئاً لأرباب البيوتِ بيوتُهُم
عَسَس: اسم من العَسِّ، كالطلب، وقد يكوَن جمعاً لعاس كحارس وحرس، ورجل عاس جمعه عُسَّاسٌ وعَسَسة ككافر وكفار وكفرة، والعسس: اسم للجمع، كرائح وروح، وخادم وخدم، وليس بتكسير، لأن فعلاً ليس مما يكسر عليه فاعل، وقيل: العسس جمع عاس، وقد قيل: إن العاس أيضاً يقع على الواحد والجمع، فإن كان كذلك فهو اسم للجمع أيضاً كقولهم: الحاج والداج، ونظيره من غير المدغم: الجامل والباقر، وإن كان على وجه الجنس فهو غير متعدًّى به، لأنه مطرد، كقوله:
أو تصبحي في الظاعن المولِّي [33]
إن تهجري يا هند، أو تعتلي
غيب: قوم غُيَّبٌ وغُيَّابٌ وغَيَبٌ: غائبون، والأخيرة اسم للجمع، وصحت الياء فيها تنبيهاً على أصل غاب، وإنما تثبت فيه الياء مع التحريك، لأنه شبه بصيد، وإن كان جمعاً، وصيد: مصدر قولك: بعير أصيد، لأنه يجوز أن تنوي به المصدر، وفي حديث أبي سعيد: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب، أي: رجالنا غائبون، والغيب بالتحريك: جمع غائب كخادم. وخدم [34] .
الفرط: فعل بمعنى فاعل، مثل تبع بمعنى تابع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض"، أي: أنا متقدمكم إليه، رجل فرط، وقوم فرط، ورجل فارط، وقوم فراط، قال:
أصواتها كتراطن الفُرسِ
فأثار فارطهم غطاطاً جثماً(35/367)
..... والفرط: اسم للجمع، وفي الحديث: "أنا والنبيون فُرَّاطٌ لقاصفين"جمع فارط، أي: متقدمون إلى الشفاعة، وقيل: إلى الحوض، القاصفون: المزدحمون. وفي حديث ابن عباس قال لعائشة رضي الله عنهم: تَقْدَمينَ على فَرَطِ صِدْقِ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، وأضافهما إلى صدق وصفاً لهما ومدحاً، وقولهَ:
إن لها فوارساً وفرطا
يجوز أن يكون من الفَرَط الذي يقع على الواحد والجمع، وأن يكون من الفَرَطِ الذي هو اسم لجمع فارط، وهو أحسن، لأن قبله: فوارساً، فمقابلة الجمع باسم الجمع أولى، لأنه في قوة الجمع. والفرط: الماء المتقدم لغيره من الأمواه [35] .
قَعَدٌ: القَعَد: الذين لا ديوان لهم، وقيل: القعد الذين لا يمضون إلى القتال، وهو اسم للجمع، وبه سمي قعد الحرورية، ورجل قعدي منسوب إلى القعد كعربي وعرب، وعجمي وعجم. ابن الأعرابي: القَعَدُ: الشّراة الذين يُحَكِّمون ولا يحاربون، وهو جمع قاعد، كما قالوا: حارس وحَرَسٌ [36] .
قَفَلٌ: من القفول، وهو الرجوع من السفر، رجل قافل من قوم قُفَّال، والقَفَل: اسم للجمع، قال الأزهري: وهم القفل بمنزلة القعد، اسم يلزمهم، والقفل- أيضاً-: القفول، تقول: جاءهم القَفَلُ والقُفُول، واشتق اسم القافلة من ذلك، لأنهم يقفلون. وقد جاء القفل بمعنى القفول، قال الراجز:
عِلباء، أبْشِرْ بأبيكَ! والقَفَلْ
أتاك، إن لم ينقطَع باقي الأجَلْ
هَوَ لْوَلٌ، إذا ونى القوم نَزَل [37]
نَهَل: إبل نواهِلُ ونِهالٌ ونَهَلٌ ونُهُولٌ ونَهِلَةٌ ونَهْلَى ... قال أبو الهيثم: ناهِلٌ ونَهَلٌ مثل خادِم وخَدَم، وغائبِ وغيَبِ، وحارِسٍ وحَرَس، وقاعِدٍ وقَعَد [38] .(35/368)
هَمَل: بعير هَامل، مَن إبل هوامل وهُمَّلِ وهَمَلٍ، وهو اسم الجمع، كرائح ورِوَح، لأن فاعلاً ليس مما يكسر على فَعَل، وفي حديث الَحوض "فلا يخلص إليهم مثل هَمَل النّعَم" الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل، أي: أن الناجي منهم قليل في قلة النعم اَلضالةَ، والهَمَل بالتحريك: الإبل بلا راع، مثل النَّفَش، إلا أن الهَمَلَ بالنهار، والنَّفَش لا يكون إلا ليلاً، يقال: إِبلٌ هَمَلٌ وهامِلَة، وهُمَّالٌ وهَوَامِلِ، وفي الحديث: فسألته عن الهَمَل يعني الضوال من النعم، واحدها هامل مثل حارس وحرس، وطالب وطَلَب [39] .
ضَأَن: في ضائن، وسيأتي الحديث عنها.
مَعَز: في ماعز [40] ، وسيأتي الحديث عنها.
نشَأٌ: الناشئ هو الحدث الذي جاوز الصغر، أو فويق المحتلم والأنثى ناشئ بغير هاء أيضاً، والجمع منهما نَشَأٌ مثل طالب وطَلَب، وكذلك النّشْءُ مثل صاحِبٍ وصَحْبٍ، وناشئ ونَشَأٌ: جماعة مثل خادم وخَدَم، قال نُصَيْبٌ:
لقلت: بنفسي النَشَأُ الصِّغارُ
ولولا أن يقال: صباً نصيب
وقال ابن السكيت: النَشَأُ: الجواري الصِّغار.
وفي الحديث "نشأ يتخذون القرآن مزامير" يروى بفتح الشين: جمع ناشئ، كخادم وخدم، يريد جماعة أحداثاً، وقال أبو موسى (الأصفهاني) : المحفوظ بسكون الشين، كَأَنَّهُ تسمية بالمصدر.
وقال أبو عمرو: النَّشَأُ: أحداث الناس، غلام ناشئ، وجارية ناشئة، والجمع نشأٌ [41] .
نَبَهٌ: اسم جمع، يحتمل أن يكون جمع نابه أو نبيه، أو منقولا من المصدر [42] .
فهذه الألفاظ كلها- كما ترى- لها مفرد على وزن (فاعل) وهذا هو النوع الأول مما ورد له اسم جمع على وزنِ (فَعَلً) .
والنوع الثاني:
مما ورد جمعه على (فعل) الاسم الثلاثي الذي قبل آخره حرف مد، سواء أكان ذلك الحرف ألفاً أو ياءً أو واواً.(35/369)
وقد حصر ابن دريد ذلك في أربعة، حيث قال: "ولم يجيء فعيل وفعال على (فَعَل) إلا أربعة أحرف: أديم وأدم، وأفيق وأفق، وهو الأديم أيضا، وإهاب وأهب، وعمود وعماد وعَمَد، وقد قالوا: عُمُدٌ في هذا وحده" [43] .
وهذا الذي قاله ابن دريد مقارب، وقد وقفت على حرفين لم يوردهما، وهما: بَعَدٌ وقَضَم.
وبالتأمل في الأمثلة التي أوردها يمكن قسمها إلى ثلاثة أنواع:
1- ما كان ثلاثياً قبل آخره ألف زائدة، وفيه كلمتان: إهاب وعماد، قالوا فيهما: أهب وعمد.
والإهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ، والجمع القليل الآهبة، والكثير: أُهَب وأَهب، على غير قياس، مثل أدم وأفق وعمد، جمع أديم وأفيق وعمود، وقد قيل: أُهب، وهو قياس، وقال سيبويه: "أَهب اسم للجمع، وليس بجمع إهاب، لأن فعلاً ليس مما يُكسر عليه فِعالٌ" [44] .
العِماد: ما أقيم به الشيء، والأبنية الرفيعة، ومنه: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [45] أي: ذات الطول، وجمعه عُمُد، والعمد: اسم للجمع ... ويقال لأصحاب اَلأخبية الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل عمود، وأهل عماد. والعماد والعمود: الخشبة التي يقوم عليها البيت، وأعمد الشيءَ: جعل تحته عَمَداً، ويجمع جمع قلة على أعمدةٍ.
وقد يراد بالعمود الخباء المعمَّد، وقيل: كل خباء كان طويلا في الأرض يُضرب على أعمدة كثيرة، فيقال لأهله: عليكم بأهل ذلك العَمُود، ولا يقال: أهل العَمَد.
وقرئ قوله: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [46] في عُمُد بضمتين، وهو جمع عماد، كما قالوا: إِهاب وأَهَب وأُهُب. ومعناه: أنها في عمد من النار [47] .
وقال سيبويه في باب: "ما هو اسم يقع على الجميع لم يُكَسَّرْ عليهِ وَاحِدُة ولكنه بمنزلة قوم ونَفَرٍ وذَوْدٍ، إلا أَنَّ لفظه من لفظ واحدِه": "ونظيره أفيق وأفق، وعمود وعمد، وقال يونس: يقولون: هو العَمَدُ" [48] .(35/370)
وقال الفراء: العَمَدُ والعُمُد جميعاً جمعان للعمود، مثل أديم وأَدم وأُدم، وقضيم وقَضَم وقُضُم [49] .
وقال أبو حيان: العَمَدُ: "اسم جمع، ومن أطلق عليه جمعاً، فلكونه يفهم منه ما يفهم مِن الجمع، وهي الأساطين ... والمفرد عِماد كإهاب وأَهب، وقيل عمود وعمد كأديم وأدَم" [50] .
وقد عاد الضمير إليها مؤنثاً في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [51] .كما سبق وصفه بالمؤنث، وتقدم نقل يونس عن العرب تذكيره.
2- ما كان ثلاثياً قبل آخره واو زائدة، وفيه كلمة عمود، ومضى القول فيها في عماد، فلا داعي لإعادته.
3- ما كان ثلاثياً قبل آخره ياء زائدة، وفيه كلمات: أديم وأدم، وأفيق وأفق، وبعيد وبعد، وقضيم وقضم، ونبيه ونبه.
فالأدم: مفرده الأديم، وهو الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ. وقيل: هو بعد الأفيق، وذلك إذا تَمَّ واحْمَرَّ، وجمعه آدِمَةٌ وأَدَمٌ بضمتين، ويجوز تخفيفه، فيقال: أدْم بإسكان الدال، والأدم: اسم للجمع عند سيبويه [52] مثل أفيق وأفق، والآدام جمع أديم كيتيم وأيتام، وإن كان هذا في الصفة أكثر، وقد يجوز أن يكون جمع أَدَمِ.
وقد يجوز أن يكون الأدم جمعاً للأدمة، وهي باطن الجلد الذي يلي اللحم، والبشرة ظاهرها، وقيل: ظاهره الذي عليه الشعر، وباطنه البشرة والقياس أن يجعل جمعاً للأدمة إلا أن سيبويه جعله اسماً للجمع، ونَظَّره بأفيق وأفق، وهو الأديم أيضاً. الأصمعي: يقال للجلد: إهاب، والجمع أُهُب وأَهَب، مؤنثة، فأما الأدم والأفق فمذكران إلا أن يقصد قصد الجلود، والآدِمَة. فتقول: هي الأدم والأفق، وآدِمَةٌ جمع القلة، مثل رغيف وأرغفة، والمشهور في جمعه أُدَمٌ [53] .(35/371)
والأفق: مفرده أفيق، وهو الجلد الذي لم يدبغ، أو الذيِ لم تتم دباغته، وجمعه أفق، مثل أديم وأدم، أو هو اسم للجمع وليس بجمع، لأن فعيلاً لا يكسر على (فَعَلٍ) قال اللحياني: لا يقال في جمعه: أفق البتة، وإنما هو الأفق بالفتح، فأفيق- على هذا- له اسم جمع، وليس له جمع. وقال الأصمعي: يقال للأديم إذا دبغ قبل أن يخرز: أفيق، والجمع آفِقة، مثل أديم وآدمة، ورغيف وأرغفة.
والأفَقَة: المرقة من مرق الإهاب، والأفَقَة: الخاصرة، وجمعها أَفَقٌ، قال ثعلب: هي الآفِقَةُ، مثل فاعلة [54] .
والقَضَم: مفرده القضيم، وهو الجلد الأبيض يُكتب فيه، وقيل: هو الأديم ما كان، وقيل: غير ذلك، والجمع من كل ذلك أَقْضِمَة وقَضَمٌ، فأمّا القَضَم فاسم للجمع عند سيبويه. وفي اللسان- أيضاً- قضيم يجمع على قَضَمٍ بفتحتين كأديم وأدم ... وقال ابن سيده: والقضيمة: الصحيفة البيضاء كالقَضِيم، عن اللحياني قال: وجمعها قُضُم كصحيفة وصُحُف، وقَضَمٌ أيضاً، قال: وعندي أَنَّ قَضماً اسم لجمع قضيمة، كما كان اسما لجمع قضيم [55] .
والنَّبَهُ: تطلق على المفرد والجمع، فتحتمل في حال دلالتها على الجمع أن يكون مفردها نابه أو نبيه. أو منقولاً عن المصدر [56] .
والنوع الثالث:
ما جاء على (فَعَلٍ) مما يفرق بينه وبين واحده بالتاء وذلك مثل بقرة وبقر، وهذا عند أهل العربية ليس جمعاً، بل هو اسم جنس، أو اسم جنس جمعي، كما هو عند المتأخرين، تنطبق عليه أحكامه.(35/372)
ويفرق بينه وبين الجمع أن دلالة الجمع على الجمعية وضعية، وأما دلالة اسم الجنس على الجمعية فراجعة إلى الاستعمال، أي: أن هذا النوع (وضع في الأصل للدلالة على الماهية، فهو صالح للقليل والكثير، ويفرق بينه وبين مفرده عند قصد التنصيص على الوحدة بالياء، مثل عرب وعربيّ، أو بالتاء، مثل بقر وبقرة، والأكم والأكمة) . وقد يعرض له في الاستعمال ما يوجب إطلاقه على معنى الجمع كالكلم، والأكم (المواضع المرتفعة) إلا أن هذا قليل [57] .
وهذه التاء التي تدخل أسماء الأجناس لا تفيد التأنيث، وإنما تفيد الوحدة أو التنصيص على الوحدة، لصلاحية هذه الأسماء للقليل والكثير. ولحاق التاء قياسي في أسماء الأجناس من المصادر، كما هو معروف في اسم المرة، وغالبي في أسماء الأجناس من المخلوقات، كتمر ونخل وحمام. وسماعي في أسماء الأجناس من المصنوعات كسفينة وسفن، ولبن ولبنة، وقَلنسوة وقَلنس [58] .
وهذا الضرب ليس من الضروري التفريق بين جمعه وواحده بالياء أو التاء؛ لأن التفريق راجع إلى الاستعمال، ومراد المتكلم كما تقدم.
وقد ورد على وزن (فَعَل) من هذا الضرب ألفاظ منها:
الأسل: وهو نبات له أغصان كثيرة دِقاق، بلا ورق، واحدته أسل، والأسل: الرماح، والنبل، وشوك النخل، واحدته أسلة.
وروي عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: (لا قود إلا بالأسل) فالأسل عند علي: كل ما أُرِقَّ من الحديد، وحُدِّدَ من سيف أو سكين أو سنان.
وجمع الفرزدق الأسل: الرماح أسلات، فقال:
عَضْبٌ برونقه الملوك تُقَتَّلُ
قَدْ مات في أسلاتنا، أو عَضَّهُ
أي: في رماحنا، وقيل للقنا: أَسَلٌ لما ركب فيها من أطراف الأسنة [59] .(35/373)
البقر: اسم جنس، والبقرة من الأهلي والوحشي، يكون للمذكر والمؤنث، ويقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء على أنه واحد من جنس، والجمع البقرات ... قال ابن سيده: الجمع بقر، وجمع البقر أبقر، كزمن وأزمن، عن الهجري، فأما بقر وباقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة، فأسماء للجمع، ونقل عن الأصمعي: بواقر [60] .
الخدم: واحدته الخدمة، وهي السَّير الغليظ المحكم، مثل الحلقة، يشد في رسغ البعير، ثم يشد إليها سرائح نعلها، والخَدَمَة: الخلخال، وقد تسمى الساق خدمة حملاً على الخلخال، لكونها موضعه، والجمع خَدَمٌ وخِدامٌ [61] .
الحصى: وهي صغار الحجارة، الواحدة منه حصاة، جمعها حصيات، وحصىً، وحُصِيٌ، وحِصيُّ.
الحلق: جنس، والواحد حلقة بالتحريك، وهي حلقة الباب والأذن، وقد أنكر بعضهم التحريك، وقال: إنما يقال: حلقة بالإسكان لا غير، حكى يونس عن أبي عمرو ابن العلاء: حلقة بالتحريك، والجمع حلق، قال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه، وحكى ابن السكيت عن أبي عمرو الشيباني قال: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في قولهم: هؤلاء قوم حلقة، للذين يحلقون الشعر، فمن قال: حلقة وحلق، كان مثل تمرة وتمر، فهو جنس [62] .
والألفاظ من هذا الضرب كثيرة، يصعب حصرها في هذا الموضع، وذلك مثل بعر وبعرة، وقناً وقناة، ونوىً ونواة، وثمر وثمرة، وهي مطردة في كل ما كان واحده على فعلة، بل عُدَّ هذا الموضع من مواضع القصر القياسي، قال الشيخ الطنطاوي: الخامس (يعني من مواضع القصر القياسي) : اسم الجنس الجمعي الذي على وزن (فَعَل) ويفرق بالتاء بينه وبين واحده، نحو: حصىً وحصاة، وقطاً وقطاة، وصفاً وصفاة (الصخرة الملساء) ، وأضاً وأضاة (المستنقع من سيل وغيره) ، ولهاً ولهاة (اللحمة المشرفة على الحلق) ، وسفاً وسفاة (شجر له شوك) ، لأنها نظيرة مدر ومدرة (الطين المتحجر) [63] .
والنوع الرابع:(35/374)
ما جاء من الأسماء على (فَعَل) مفيداً الجمعية ولا واحد له من لفظه ورد من ذلك ألفاظ، منها:
الوَلَد: وهي من ألفاظ القرآن، قال الراغب: "الولد: المولود، يقال للواحد وللجمع، وللصغير وللكبير"، قال أبو الحسن: "الولد: الابن والابنة، والولد هم الأهل والولد" [64] وقال أبو حيان: "على قراءة الجمهور"يقصد في قوله {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} يكون المعنى على الجنس لا ملحوظاً فيه الإِفراد، وإن كان مفرد اللفظ) [65] وقال أبي خالويه: "الوَلد والوُلد سواء، مثل السَّقم والسُّقم، وقال آخرون: الولد جمع ولد، كأسد وأُسد، وأن يكون لغة في الولد" [66] .
والولد في القرآن لم يوصف، ولم يعد عليه ضمير أو خلافه [67] .
بَشَر: قال الراغب: البشرة: ظاهر الجلد ... وجمعها بشر وأبشار، وعبر عن الإنسان بالبشر ... واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع، وثنى، فقال تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْن} [68] وقال أبو حيان: "البشر يطلق على الواحد والجمع، والمراد هنا النفي العام، وسمي بشراً لظهور بشرته، وهو جِلْدُهُ" [69] .
النعَمُ: هي المال الراعية، وقيل: النعم: الإبل والشاء، يذكر ويؤنث، جمعه أنعام، وأناعيم جمع الجمع. وقال ابن الأعرابي: "النعم: الإبل خاصةً، والأنعام: الإبل والبقر والغنم" [70] . والنعم لفظ مفرد، دل على الجمع، لا واحد له من لفظه، يجمع في القلة على أنعام ... " [71] .
نَفَر: بالتحريك بمعنى الرَّهط، وهو ما دون العشرة من الرجال، ومنهم من خصص، فقال للرجال دون النساء، والجمع أنفار. قال أبو العباس: "النفر والقوم والرهط هؤلاء معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم". قال سيبويه: "والنسب إليه نفري ... ويقال: هؤلاء عشرة نفر، أي عشرة رجال. وقيل: النفر: الناس كلهم، عن كراع" [72] .
وهذا النوع من الأسماء على ضربين:(35/375)
ضرب وضع للدلالة على الجمع. وضرب يصلح للدلالة على الجمع وغيره، والاستعمال هو الذي يعينه.
فالضرب الأول: مثل نفر، وهذا اسم جمع، وهو يوافق الجمع في أنه وضع للدلالة على الجمع، ويخالفه في أنه جاء على غير صور الجمع المعروفة، والأحكام اللفظية من تصغير، ونسب، وعودة ضمير، وإشارة إليه، كما تقدم.
والضرب الآخر: مثل ولد وبشر، وهذا اسم جنس جمعي، وهو يخالف الجمع، واسم الجمع في "أنه في الأصل وضع للماهية، سواء أكانت مشخصاتها قليلة أو كثيرة، فالقلة والكثرة فيه غير داخلتين في نظر الواضع، بل إنما وضعه صالحاً لهما، بخلاف اسم الجمع ... " [73] .
ولزيادة الإيضاح نفرق بين الجمع واسم الجنس الجمعي، فنقول: إن اسم الجنسي الجمعي يوافق اسم الجمع في الناحية اللفظية، لأن لفظه لفظ المفرد مثل روم وتمر. ويخالف الجمع في هذا، لأن للجمع صيغاً معدودة، واسم الجمع، واسم الجنس الجمعي يردان على خلافها لأنه مفرد لفظاً. أما الناحية المعنوية فقد تقدمت.
واسم الجمع واسم الجنس الجمعي- وإن اتفقا في عدم ورودهما بلفظ الجمع- يختلفان لفظا ومعنىً. أما اللفظ فاسم الجمع لا يتميز من واحدة بالتاء أو الياء. وأما المعنى فكما تقدم من أن دلالة اسم الجمع وضعية، بخلاف اسم الجنس الجمعي. هذا رأي جمهور البصريين، وخالفهم الكوفيون، فعدوا اسم الجنس الجمعي من جموع التكسير. وهو مردود عليهم من جهة اللفظ والمعنى، إذ يصغر وينسب إليه على لفظه، ويعود الضمير إليه مفرداً. كما تقدم في اسم الجمع، وأما المعنى فبتغاير المدلولين، كما سبق [74] .
والمتأخرون حين قيدوا اسم الجنس بوصف (الجمعي) أرادوا التفريق بينه وبين اسم الجنس الإفرادي، وهو ما صدق على القليل والكثير، ولم يفرق بينه وبين واحدة بالتاء أو الياء كعسل ولبن وماء وخل وتراب. والتفريق بينه وبين اسم الجنس الأحادي، وهو ما أريد به واحد غير معين، مثل أسد [75] .(35/376)
الفصل الثاني: مسائل تتعلق بطبيعة فَعَلٍ.
وإذا انتهينا إلى هذا من العرض، فإنا نورد هذا السؤال:
هل (فَعَلٌ) الذي مفرده (فاعل) جمع تكسير أو اسم جمع؟.
الجواب: أنه اسم جمع وإن ورد تجوزاً في عبارة الأقدمين: فَعَل جمع فاعل، أو فَعَل مفرده فاعل، وقول ابن مالك المتقدم في نظم الفوائد:
فصل في فَعَلٍ جمعِ فاعل.
جمعاً بالنقل فخذ مثلا ... الخ
فعل للفاعل قد جُعلا
فهذا من باب التجوز، وقد سبق إيضاح الفرق بين الجمع واسم الجمع بما يغني عن إعادته، فليرجع إليه هناك. وهذا الحكم ليس خاصاً ب (فَعَل) بل يشاركه ما كان مثله، مثل (فَعْلٍ) التي لها مفرد على (فاعل) ، مثل رَكْبٍ ورَاكِبٍ، وجَلْسٍ وجالسٍ، وغيرهما.
بل إن هذا الحكم في كل ما دلَ على الجَمع وضعاً، وأخذ أحكام المفرد اللفظية، وليس على صيغة من صيغ جمع التكسير.
وما نسب إلى الأخفش من القول بأن ما كان من هذا الضرب فهو جمع تكسير قول باللازم والمقتضى لأنه قال: كل ما يفيد معنى الجمع على وزن (فعل) وواحده اسم فاعل، كصحب وشرب في صاحب وشارب، فهو جمع تكسير، واحدة ذلك الفاعل ...
ومقتضى مذهب الأخفش- وإن لم يصرح به- أن يكون مثلِ صُحْبة في صاحب، وظُؤار في ظِئْرِ، وجامل في جمل، وسَراة في سري، وفُرْهة في فاره، وغزِيّ في غاز، وتُؤَام في تَوْأَم، وغَيَبَ وخَدَم وأَهَب في خادم وغائب وإهاب، وبَعَد في بعيد، ومشيوخاء ومعيوراء ومأتوناء في شيخ وعير وأتان، ومَعِيز وكَلِيب في معز وكلب، ومشيِخة في شيخ، وعمد في عمود، كل ذلك جمع مكسر، إذ هي مثل ركب وسفر ونحوهما لأنّ الجمع من تركيبه لفظاً يقع على مفرده [76] .(35/377)
وقال ابن يعيش: "وذهب أبو الحسن إلى أنه تكسير" [77] ثم ألزموه بمقتضى قوله، وما يلزمه، فقالوا: تجري عليه أحكام جمع التكسير، ولأنه لا يدل على القلة، وإنما يدل على الكثرة، أخذ أحكام جمع الكثرة، فإذا صُغر على مذهبه رُد إلى الواحد، وصُغر عليه، ثم تلحقه الواو والنون إن كان مذكراً، والألف والتاء إن كان مؤنثاً، فنقول في تصغير ركب: رويكبون، وفي سفر: مسيفرون، ورويكبات، ومسيفرات، إذا كان مؤنثاً" [78] .
وقال الرضي: "فعلى هذا القول تُصَغِّرُ لفظ الواحد، ثم تجمع جمع السلامة، كما في رجال ودور، فتقول في تصغير ركب وسفر: رويكبون وسويفرون، كما يقال: رجيلون، ودويرات في تصغير رجال ودور، وقول الشاعر:
أخشى ركيباً أو رجيلاً عاديا
رد عليه [79] . وقال ابن جني: (فهذان تحقير ركب ورجل، وهما اسمان للجمع بمنزلة رُكَّاب ورَجَالة" [80] .
ولعل قول ابن جني: "وكان أبو الحسن يقول في تحقير ركب: رويكبون، لأنه عنده جمع كسر عليه راكب، وقوله: ركيب يدل على خلاف مذهبه، وهو قول سيبويه، وهو الصواب" [81] . لعل هذا القول قول بما يلزم ما قاله أبو الحسن، وإن لم يصرح به. وقول الرضي المتقدم أدق وأصوب.
وهل شارك أبا الحسن أحد غيره في القول بهذا أولا؟.
نعم، "وافقه ابن الأثير في البديع، قال: يجمع فَعُول على فَعَل، نحو عَمُود وعَمَد، وقيل: هو اسم الجمع" [82] . وقال: "فَعَل جمع- وعلى (فَعَلٍ) بفتح الفاء والعين قالوا: أديم وأدم، وقيل: إنه اسم الجمع" [83] . وقال: "فِعال يجمع على (فعل) - بفتح الفاء والعين، نحو إهاب وأهب" [84] .
وقد ذهب الفراء مذهباً فيه تفريق وتفصيل، فقال: "كل ماله واحد من تركيبه، سواء كان اسم جمع كباقر وركب، أو اسم جنس كتمر وروم، فهو جمع، وإلا فلا" [85] .(35/378)
وعلى هذا لنا أن نعد قول من قال: فَعَل جمع فاعل قولاً فيه شيء من التجوز والتسامح، وأنهم لا يقصدون بالجمع هنا الجمع المكسر الذي له صيغ معروفة وأحكام خاصة، وإنما يقصدون به مطلق الجمع، ولو لم يكن على تلك الصيغ، وخالف في الأحكام.
ثم هل لنا بعد هذا أن نقول: إن (فَعَل) كان في الأصل (فعلة) ، ثم نُقص بحذف التاء، كما قد يفهم من بعض النصوص المتقدمة [86] ؟.
فالجواب: لا، ليس لنا أن نقول ذلك، لأنه قول ينقصه الدليل، ويمكن أن ينقض بما يأتي:
1- فعل لم يقتصر ورودها على فاعل كما تقدم، بل وردت جمعاً لفِعال وفَعول وفَعيل، كما تقدم، فلو سلمنا جدلاً بأن (فَعَل) منقوصة من (فَعَلة) فيما كان له مفرد على (فاعل) فما العمل في غيره؟.
2- أن ما جمع على (فَعَل) ورد أحياناً جمعه على (فَعَلة) وأحياناً لم يرد، بل يمتنع قياساً، فنحن لو سلمنا جدلاً بإمكانه في الأول، فما القول في الآخر؟.
3- أن (فَعَل) إذا كان أصله (فَعَلة) فلابد أن يشترط فيه ما اشترط في أصله، والمعروف أنَّ (فَعَلة) ينقاس في الوصف المستوفي أربعة شروط: على وزن فاعل، صحيح اللام، للمذكر، العاقل، نحو: كامل، وساحر، وكافر وفاجر، وخازن، فتقول في جمعها: كملة ... إلى آخره. قال تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ} [87] ، {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [88] {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [89] . ومن هذا جَوَلة وخَوَلة جمعي جائل (ذاهب في الأرض) وخائل (متكبر) ، إلا أن هذين الجمعين لم يعلا شذوذاً، غير أنه يقل هذا الجمع في المضاعف. قال ابن خالويه: "ليس في كلام العرب من المضاعف فاعل وفعلة إلا شاب وشَبَبة، وبار وبَرَرة، وعاق وعَقَق". وشذ جمع ما ليس على فاعل كسيِّد وخبيث [90] .
ثم إن فاعلاً إن كان اسماً فله إذا جمع ثلاثة أمثلة: فواعل، فُعلان، فِعلان، نحو: كواهل، وحُجران، وجنان [91] .(35/379)
"وللصفة تسعة: فُعَّل، فُعَّال، فَعَلة، فُعَلة، فُعَّل، فُعَلاء، فُعلان، فِعال، فُعُول، نحو: شُهَّد، وجُهَّال، وفَسَقة، وقُضاة، وتختص بالمعتل اللام، وبُزَّل، وشُعَرَاء، وصُحْبان، وتجَار، وقُعُود، وقد شذ نحو: فوارس" [92] .
هذا، و (فَعَل) في فاعل سماعي، لا قياس، يوقف فيه على ما سمع عن العرب، ويحفظ ما ورد عنهم منه.
ورود اسم الجمع على وزنين أحدهما (فَعَل) :
قد يرد اسمه الجمع على وزنين، أحدهما (فَعَل) والآخر غيره، مثل: الضَّأْن، والمَعْزَ. فالضَّأْن لغة في الضأْن على وزن (فَعْل) قال ابن مالك:
"فصل: لغات في الضأن
وقُلْ: ضَئينٌ أَوِ الفا اكْسِرْ، وقُلْ: ضَانَا" [93]
في الضأْن ضَين وضيِنٌ مع ضوائن قُلْ
والضَّأَن مما فات ابنَ مالك، وقد وردت في اللسان والقاموس، ففي اللسان " ... الضائن: خلاف الماعز، والجمع الضأْن والضأَن، مثل المَعْز والمَعَز، والضَّئين والضِّئين تميمية، والضَّين والضِّينُ غير مهموزين، عن ابن الأعرابي: كلها أسماء لجمعهما، فالضأْن كالركْب، والضَّأَن كالقَعَدِ، والضَّئين كالغزيّ والقَطِين، والضِّئين داخل على الضَّئين، أتبعوا الكسر الكسر، يطرد هذا في جميع حروفِ الحلق إذا كان المثال فَعِلاً أو فَعِيلاً، وأما الضَّين والضِّين فشاذ نادر، لأن ضائناً صحيح مهموز، والضِّين والضَّين معتلّ غير مهموز… قال أبو الهيثم: جمع الضائن ضَأَنٌ، كما يقال: ماعزٌ ومَعَزٌ، وخادم وخَدَم، وغائب وغَيَبٌ، وحارس وحَرَس، وناهِل ونَهَلٌ، والضَّان أصله الضًّأن، فخفف" [94] .
المَعَز: مفرده الماعز: ذو الشعر من الغنم، خلاف الضأْن، وهو اسم جنس، وهي العنز، والأنثى ماعزة ومِعْزَاة، والجمع مَعْز ومَعَز ومَواعِزُ ومعيز، مثل الضئِين، ومِعاز [95] . نَقْل (فَعَل) عن المصدرية:
بعض ما جاء على (فَعَل) وهو يدل على الجمع يمكن أن يكون منقولاً عن المصدر، ومن ذلك:(35/380)
عَزَبٌ: قال الشاعر:
وللعَزَب المسكين ما يتلمس [96]
هنيئاً لأرباب البيوت بيوتهم
والعزب: الذي لا أهل له، أي: لا زوج، وزعَم الشنتمري: أن عَزَباً في الأصل مصدر وصف به ولا فعل له يجري عليه. وفي معاجم اللغة: العزب اسم للجمع، كخادم وخَدَم [97] .
النَّهَل: أول الشرب ... نَهلَتِ الإبل نَهَلا، وإبل نوِاهل، ونهال، ونَهَلٌ، ونُهُول، ونهَلَة، ونَهْلَىَ ... قال أبو الهيثم: نَاهل ونَهَل، مثل خادم وخدَم.... وجمع الناهل نَهَل، مثَل طالب وطَلَب [98] .
الطَّلَبُ: تحتمل النقل عن المصدر كذلك.
تَبَعٌ: تحتمل النقل عن المصدر كذلك.
نبه: رجل نبه وقوم كالواحد، عن ابن الأعرابي، كأنه اسم للجمع، والنبه يطلق على الضالة، والمشهور، ومصدرٌل (نَبهَ) [99] .
وغير هذه مما تقدم في أثناءَ الحديث عن الألفاظ.
تصحيح (فَعَل) وترك إدغامه:
رأيت فيما مضى أن بعض ما ورد من أسماء الجمع على (فَعَلِ) ومفرده فاعل ورد مصححاً، والقواعد الصرفية تقتضي إعلالهُ، بقلب الواو والياء ألفاً لتحركهما وانفتاح ما قبلها، فما الحكمة في ورودهما خلاف الأصل؟. وما الحكمة في ترك الإدغام فيما استحق الإدغام من (فَعَل) ؟.(35/381)
مجيئه هكذا شاذ عن القياس، وإن اطرد في الاستعمال، ولا يكون مثل هذا في الياء، أعني أنه لا يجيء مثل البَيَعَةِ والسًّيرَة في جمع بائع وسائر، وعلة ذلك قرب الألف من الياء، وبعدها عن الواو، فإذا صحت نحو: الخولِ والحوكة والخونة، كان أسهل من تصحيح نحو البيعة، وذلك أن الألف لما قربت من الياء أسرع انقلاب الياء إليها، وكان ذلك أسوغ من انقلاب الواو إليها لبعد الواو عنها، ألا ترى إلى كثرة قلب الياء ألفاً استحساناً لا وجوباً قالوا: في طيء: طائي، وفي الحيرة: حاري، وفي عيعيت وحيحيت وهيهيت: عاعيت وحاحيت وهاهيت؟. وقلما يرى في الواو مثل هذا، فإذا كان مثل هذه القربى بين الألف والياء، كان تصحيح نحو: بيعة وسيرة أشق عليهم من تصحيح نحو: الخول، والحوكة، والخونة، لبعد الواو من الألف، وبقدر بعدها عنها يقل انقلابها إليها، ولأجل هذا الذي ذكرنا كثر عنهم نحو: اجْتَوِروا واعْتَوُنوا واحتوشوا...." [100] .
والعلة في القلب ألفاً موازنة الفعل، وطلب الخفة، فقلبتا للاستثقال، والمراد بمشابهة الفعل أو موازنته مساواته له في عدد الحروف والحركات المعينة وإن باينه في تعيين الزيادات وأمكنتها، فمَفْعَل على وزن يَفْعَل، وإن كانت زيادته غير زيادته، وفاعل موازن ليفعل، وزيادته غير زيادته، ومكانها غير مكانها [101] .
"وإنما اطرد قلب العين في (فَعَل) نحو: دار وباب ونار وناب، لأن القلب لا يوجب التباس فَعَلٍ بفَعْل، إذ بالألف يعرف أنه متحرك العين لا ساكنها ... وقد جاء لأجل الخفة كثير من المعتل على (فَعَل) غير مُعل، نحو: قود وميل، وغيب، وصيد، وخونة، وحوكة" [102] . (وقولهم الروح والغيب والخول، والقود شاذ" [103] .(35/382)
وتصحيح الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما- وإن كان القياس يقْتَضي قَلْبَهُمَا- "لا يورد نقضاً على ما أصَّلوه من أن حرف العلة متى تحرك وانفتح ما قبله وجب أن يقلب ألفاً، لقلته وشذوذه ... ، لأن القواعد الكلية لا تنقض بالصور الشاذة النادرة.
فإن قيل: فما الفائدة في مجيء هذه الشواذ في كلامهم، وهي ترجع على العلة، بالإبطال؟.
قيل: الفائدة في مجيئها التنبيه على الأصول المرفوضة بالعللِ الموجبة ألا ترى أنّ في تصحيح القود والحوكة تنبيهاً على أن الأصل في دار: دَوَر، وفي باب بوَب… ومخالفة القياس للتنبيه على الأصول كثيرة في كلامهم" [104] .
ونحو من هذا يقال في ترك إدغام (عَسَس) [105] ، بل الثقل في ترك التضعيف أكثر من ثقلِ ترك الإعلالَ [106] .
خاتمة: في دلالة (فَعَل) :
إذا كانت (فَعَلٌ) اسم جنس، فدلالتها على الكثرة، يقول المرزوقي: "… وأما الخامس- وهو ما يفيد الكثرة، ولفظه لفظ الواحد- فهي الأسماء المصوغة للجمع، نحو: كل من جزء وبعض، ونحو: قوم من رجل، ونساء من امرأة، وإبل من ناقة وجمل، وأولاء من ذا.
والثاني: أن يكون من لفظ المجموع بالاسم المفرد المصوغ للكثرة، وذلك نحو: الجامل من جمل، والباقر من بقر، ونحو: الضئين والكليب من ضأن وكلب) [107] . و (فَعَلٌ) التي مفردها فاعل من هذا الضرب، فتدل دلالته.(35/383)
وتقدم في البحث ما يؤذن بهذا من أن (فَعَلاَ) ونحوها من الصيغ ليست تدل على القلة، وإنما تدل على الكثرة، وتأخذ أحكام جمع الكثرة. قال ابن يعيش: "اعلم أن هذا الضرب من الأسماء- وإن دل على الكثرة- فليس بجمع كسر عليه، على حد رجل ورجال"وقال- أيضاً: "فثبت بما ذكرناه: أنه اسم مفرد دال على الجمع، وليس بجمع على الحقيقة" [108] . وقال الرضي: "اسم الجمع اسم مفرد موضوع لمعنى الجمع فقط، ولا فرق بينه وبين الجمع إلا من حيث اللفظ، وذلك لأن لفظ هذا مفرد، بخلاف لفظ الجمع، والدليل على إفراده جواز تذكير ضميره ... " [109] .
هذا ما تيسر لي من صيغة فعل الدالة على الجمعية أرجو أن ينفع الله به.
دليل المراجع والمصادر
-الأشباه والنظائر / السيوطي (911) تحقيق طه عبد الرءوف سعد / مكتبة الكليات الأزهرية 1395/ القاهرة.
- ألفية ابن مالك (672) مكتبة المؤيد/ الطائف ط أولى 1389.
- البحر المحيط / أبو حيان النحوي (745) مكتبة النصر/ الرياض/ صورة.
- البديع في علم العربية / المبارك بن محمد مجد الدين بن الأثير (606) القسم الثاني منه / رسالة دكتوراه من تحقيق د/ صالح بن حسين العايد / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية /كلية اللغة العربية.
- تصريف الأسماء محمد الطنطاوي () ط الخامسة/ 1375 كلية اللغة العربية/ الأزهر.
- تهذيب اللغة/ أبو منصور الأزهري (370) تحقيق جماعة / القاهرة.
- جمهرة اللغة / ابن دُريد (321) صورة عن طبعة الهند.
- الخلاصة / ألفية ابن مالك.
- دراسات لأسلوب القرآن الكريم / محمد عبد الخالق عضيمة (1404) جامعة الإمام محمد بن سعود / الرياض.
- رسالة الملائكة / أبو العلاء المعري (449) الناشر المكتب التجاري / بيروت.
- سيبويه عمرو بن عثمان (180 تقريباً) / تحقيق عبد السلام هارون.(35/384)
- شرح الشافية / رضي الدين الإستراباذي (686) تحقيق محمد نور الحسن ورفيقيه / صورة.
- شرح الكافية / الرضي الإستراباذي (686) صورة عن الطبعة الأولى/ دار الكتب العلمية / بيروت.
- شرح المفصل / يعيش بن علي بن يعيش (643) صورة.
- القول في ألفاظ الشمول والعموم والفصل بينهما / أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي (421) تحقيق د/ إبراهيم السامرائي ضمن رسائل في اللغة / سنة 1964 مطبعة الإرشاد/ بغداد.
- كتاب سيبويه = سيبويه.
- الكشاف / الزمخشري (538) ط طهران.
- الكلام على عصي ومغزو/ أبو البركات بن الأنباري (577) تحقيق د/ سليمان العايد.
- لسان العرب/ ابن منظور (711) بيروت/ دار لسان العرب.
- ليس في كلام العرب/ ابن خالويه (370) نشر أحمد عبد الغفور عطار/ ط ثانية 1399.
- المحكم لابن سيده (458) تحقيق جماعة/ ط أولى/ الناشر مصطفى الحلبي/ مصر.
- معجم مفردات ألفاظ القرآن/ الراغب الأصفهاني (503) تحقيق نديم مرعشلي/دار الكاتب العربي.
- المفردات = معجم المفردات.
- المنصف/ابن جني (392) تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين/ 1373/ القاهرة.
- نظم الفوائد/ ابن مالك (672) مجلة جامعة أم القرى/ العدد الثاني لعام 1409هـ/ تحقيق د/. سليمان العايد.
- النحو الوافي/ عباس حسن/ دار المعارف/ مصر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الخلاصة 65.(35/385)
[2] وقد يقال في اسم الجمع ما يقال في اسم المصدر، إذ قال بعضهم في اسم المصدر: إنه يدل على لفظ المصدر، والمصدر يدل على الحدث، ويمكن أن يقال في اسم الجمع: إنه لا يدل على ما يدل عليه الجمع مباشرة، فلا يدل على ثلاثة إلى عشرة أو على عشرة فأكثر، كما هو معروف في تقسيم الجمع إلى قلة وكثرة، وإنما يدل على اللفظ الذي يدل على الجمع، فخدم لا يدل على الجمع، وإنما يدل على اللفظ الذي يدل على الجمع. وبعضهم لم يعتد بهذا في اسم المصدر، فجعله دالاً على الحدث كالمصدر، وعلى هذا يقال: إن اسم الجمع دال على ما يدل عليه جمع الكثرة، كالجمع. والله أعلم.
[3] شرح المفصل لابن يعيش 5/77.
[4] انظر شرح المفصل 5/77 والأشباه والنظائر 2/216.
[5] سورة القمر آية: 20.
[6] انظر تصريف الأسماء (235) .
[7] مجلة جامعة أم القرى (1/2) لعام 1409/. ص75.
[8] سورة الجن آية: 8
[9] المفردات (حرس) (112) .
[10] الكشاف 4/168.
[11] البحر المحيط 8/ 344.
[12] سورة الجن آية: 9.
[13] سورة الجن آية: 27.
[14] المفردات (رصد) 202.
[15] الكشاف 4/168.
[16] سورة إبراهيم آية: 21. وغافر آية: 47.
[17] الكشاف 2/373.
[18] البحر المحيط 5/416.
[19] اللسان (تبع) .
[20] سورة المائدة آية: 60.
[21] البحر المحيط 3/ 519.
[22] اللسان (خدم) .
[23] اللسان (حفد) .
[24] اللسان (خبل) .
[25] اللسان (خول) وانظر المحكم 5/ 181 وانظر في شذوذه ص 37 من هذا البحث.
[26] اللسان (روح) ، والتهذيب 5/ 222.
[27] سورة الزخرف آية: 56.
[28] اللسان (سلف) .
[29] اللسان (طلب) .
[30] اللسان (ظعن) .
[31] اللسان (عزب) .
[32] رسالة الملائكة 71.
[33] اللسان (عسس) .(35/386)
[34] اللسان (غيب) .
[35] اللسان (فرط) .
[36] اللسان (قعد) .
[37] اللسان (قفل) ، والتهذيب 9/ 160.
[38] اللسان (نهل) ، والتهذيب 6/ 301.
[39] اللسان (همل) .
[40] سيبويه 3/ 626.
[41] اللسان (نشأ) .
[42] انظر: اللسان والقاموس (نبه) .
[43] الجمهرة 3/512.
[44] اللسان (أهب) ، وسيبويه 3/626.
[45] سورة الفجر آية: 7.
[46] الهمَزَة الآيتان: الثامنة والتاسعة.
[47] اللسان (عمد) ، وانظر التهذيب 2/ 251.
[48] سيبويه 3/625.
[49] اللسان (عمد) .
[50] البحر المحيط 5/357.
[51] سورة لقمان آية: 10.
[52] سيبويه 3/625.
[53] انظر اللسان (أدم) .
[54] اللسان (أفق) .
[55] اللسان (قضيم) .
[56] انظر اللسان والقاموس (نبه) .
[57] انظر تصريف الأسماء 234-235.
[58] انظر شرح الشافية 2/ 199-200 وتصريف الأسماء 149، 235.
[59] اللسان (أسل) .
[60] اللسان (بقر) والمحكم 6/ 241 والتهذيب 9/ 137.
[61] اللسان (خدم) .
[62] شرح المفصل 5/77.
[63] تصريف الأسماء 165.
[64] المفردات (ولد)
[65] البحر المحيط 6/213، والآية من آل عمران 47.
[66] البحر المحيط 5/ 435، ودراسات لأسلوب القرآن 2/ 4/393.
[67] دراسات لأسلوب القرآن 2/ 4/ 393.
[68] سورة المؤمنون آية: 47.
[69] البحر 2/462.
[70] اللسان (نعم) .
[71] شرح المفصل 5/75.
[72] اللسان (نفر) .
[73] شرح الشافية 2/ 201.
[74] تصريف الأسماء 235-237.
[75] تصريف الأسماء 237.
[76] شرح الشافية 2/203-204.
[77] شرح المفصل 5/77.
[78] نفس المصدر السابق.
[79] شرح الشافية 2/203.
[80] المنصف 2/101(35/387)
[81] المنصف 2/ 101 وانظر سيبويه 3/ 624.
[82] البديع 2/ 298.
[83] البديع 2/297.
[84] البديع 2/ 295.
[85] شرح الكافية للرضي 2/178.
[86] انظر ما نقلته عن الأزهري ص 131، 133، وما نقلته عن البحر المحيط ص 130 من هذا البحث.
[87] سورة الأعراف آية: 113.
[88] سورة عبس آية: 42.
[89] سورة الزمر الآيتان: 71، 73.
[90] تصريف الأسماء216 وليس في كلام العرب 359.
[91] شرح المفصل 5/53.
[92] شرح المفصل 5/54.
[93] نظم الفوائد (ضمن العدد الثاني من مجلة جامعة أم القرى) 79.
[94] اللسان (ضأن) .
[95] اللسان (معز) .
[96] رسالة الملائكة 71 وانظر ص 132 من هذا البحث.
[97] انظر لسان العرب (عزب) وما تقدم ص 132.
[98] اللسان (نهل) .
[99] انظر اللسان والقاموس (نبه) .
[100] المحكم 5/ 181 وانظر اللسان (خول) .
[101] شرح الشافية 3/ 95-112.
[102] شرح الشافية 3/ 242.
[103] شرح الشافية 3/103.
[104] الكلام على عصي ومغزو 27 28.
[105] انظر شرح الشافية 3/108، 240، 241، 242، 243.
[106] انظر شرح الشافية 3/ 244.
[107] القول في ألفاظ الشمول والعموم 76-77.
[108] شرح المفصل 5/78.
[109] شرح الشافية 2/ 202.(35/388)
العدد 85-100
فهرس المحتويات
1- التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ونماذج منه: للدكتور/ أحمد بن عبد الله الزهراني
2- دراسة أهل الكتاب
3- معاني الأمر بالمعروف في القران الكريم
4- تفسير الكتاب العزيز وإعرابه: لأبي الحسين عبيد الله بن أبي جعفر بن أحمد بن أبي الربيع القرشي الأموي الأندلسي الإشبيلى؛ تحقيق ودراسة الجزء الأول الدكتور علي بيت سلطان الحكمي
5- استدراكات على كتاب ((تاريخ التراث العربي)) في كتب التفسير والقراءات: للدكتور حكمت بشير ياسين
6- جولة في كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني) : بقلم الشيخ محمد المجذوب
7- تنبيه واعتذار: هيئة التحرير
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(35/389)
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
ونماذج منه
للدكتور/ أحمد بن عبد الله الزهراني
أولا: معنى التفسير لغة:
يطلق التفسير في اللغة على الكشف والبيان والإيضاح والتفصيل ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} الفرقان 33.
كما يطلق ويراد به التأويل ومنه قوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِه} يوسف 36. يقوله ابن كثير في معنى قوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
أي ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، إلا جئناك بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم (1) .
قال ابن فارس: "فسر" الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدل على بيان شيء وإيضاحه. من ذلك فسر، يقاله: فسرت الشيء وفسرته "اهـ.
وجاء في القاموس: الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير.
ثانيا: معنى التفسير في الاصطلاح:
تنوعت عبارة المفسرين وكثرت أقوالهم في بيان حدّه وتعريفه والذي ظهر لي منها "أن التفسير علم جليل يفهم به كتاب الله سبحانه المنزل على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم.
وهذا التعريف ذكره الزركشي (2) ويندرج تحته التعاريف المتعددة في حدّ التفسير.
ثالثا: معنى موضوعي:
هذه نسبة إلى موضوع: الذي هو المادة التِي يؤخذ أو يتركب أو يبنى منها جزئيات البحث ويضم بعضها إلى بعض ليصير موضوعا.
يقول الدكتور محمد أحمد القاسم: "وموضوعي"نسبة إلى موضوع وإضافة "تفسير"إلى "موضوعي"لما صارت علما على هذا الفن بعد أن ركبت معها وصارت كلمة واحدة كتركيب "معد يكرب "لما فتنوسيت تلك الإضافة ".
رابعا: تعريف التفسير الموضوعي:
__________
(1) تفسير القرآن العظيم6/118 ط الشعب.
(2) البرهان في علوم القرآن1/13.(35/390)
هو إفراد الآيات القرآنية التي تعالج موضوعا واحدا وهدفا واحدا، بالدراسة والتفصيل، بعد ضم بعضها إلى بعض، مهما تنوعت ألفاظها، وتعددت مواطنها - دراسة متكاملة مع مراعاة المتقدم والمتأخر منها، والاستعانة بأسباب النزول، والسنة النبوية، وأقوال السلف الصالح المتعلقة بالموضوع.
فوائد التفسير الموضوعي:
1- أنه تفسير للقرآن بالقرآن، فما أطلق في مكان منه قيد في مكان آخر وما ذكر موجزا في موطن منه ذكر مفصلا في آخر.
2- الوقوف على عظمة القرآن الكريم من خلال مواضيعه المتنوعة والتعرف على تشريعاته النيرة والمتعددة.
3- بيان ما تضمنه القرآن الكريم من أنواع الهداية الربانية من خلال تلك المواضيع المتنوعة.
4- التخلق بأخلاق القرآن والانتفاع به من حيث زيادة الإيمان.
5- التمكن من فهم القرآن الكريم فهما جيدا.
6- الاطلاع على أساليب القرآن الكريم المتنوعة.
7- جمع الآيات المتناثرة في القرآن ذات الموضوع والهدف الواحد في مكان واحد ثم دراستها دراسة متكاملة.
8- الرد على أهل الأهواء والشُّبه قديما وحديثا لكون دراسة مثل هذا النوع من التفسير يجمع شتات الموضوع الواحد ويحيط بجميع أطرافه فيمكن دراسته والرد على الآخرين.
9- إزالة ما يوهم التعارض بين آيات القرآن الكريم وتوجيه ذلك توجيها سليما (1) .
نشأة التفسير الموضوعي:
قد يخيل للقارئ أو الباحث أن هذا العلم أو الاصطلاح "التفسير الموضوعي"لا يعرف لدى علمائنا الأقدمين، وإنما الكتاب المعاصرون هم الذين اعتنوا به وقدموا فيه جهودا قيمة بل صرح بعض الكتاب المعاصرين بهذا الرأي فقال: "هذا النوع لم نجد من عنى به من الأقدمين وإنما جهود متأخرة في الرسائل العلمية تقدم طرفا منه مثل الجهاد في القرآن، المشركون في القرآن، الآيات الكونية في القرآن إلا أننا ما نزال في أمسّ الحاجة إلى المزيد من ذلك" اهـ.
__________
(1) انطر البداية في التفسير الموضوعي ص68-70 د/ عبد الحي الفرماويَ.(35/391)
وهذا القول مجانب للصواب، بعيد عن الحقيقة. وهو من فضول الكلام الذي ألقي على عواهنه بدون دراسة ولا بحث ولا رؤية.
وبعضهم يذهب إلى عدم تحديد بداية لهذا الاصطلاح "التفسير الموضوعي"لما عند الأقدمين، كما في عصرنا الحاضر حيث يقول: "إذ إِنه حتى لو وجد هذا اللون من التفسير لدى بعض المتقدمين فإنه لم يكن معروفا وشائعا بينهم بهذا الاسم فيما أعلم"اهـ.
والذي يجدر التنبيه عليه حول هذا الرأي. أن لا مشاحة في الاصطلاح فكون هذا الاصطلاح "التفسير الموضوعي" ما عرف إلا في العصر الحاضر لا ينفي عدم وجود هذا العلم لدى الأقدمين، ولأن قوله "إذ إِنه حتى لو وجد"الخ يثير التشكيك في عدم وجوده وهذا غير وارد بل هو موجود كما سأبين ذلك- إن شاء الله تعالى-.
إن هذا الفن من التفسير اعتنى به العلماء الأقدمون جمعا وترتيبا ودراسة واستنباطا وجالوا فيه وصالوا. وكان من فرسان ميدانه العلم العالم مقاتل بن سليمان الأزدي ت 150 هـ حيث ألف فيه كتابا قيما سماه "تفسير الخمسمائة آية في الأمر والنهي والحلال والحرام " جعل ترتيبه على طريقة الفقهاء- رحمهم الله- في تأليفهم، بدأه بتفسير الإيمان، ثم ذكر أبواب الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم المظالم، ثم المواريث، ثم الربا، ثم الخمر، ثم النكاح، ثم الطلاق، ثم الزنا، ثم ذكر بعض الآداب والمعاملات في دخول البيوت، ثم ذكر أبواب الجهاد.
ومقاتل - رحمه الله - وإن لم يستقص ذكر الآيات ذات الموضوع الواحد في مكان واحد، فهو بحق من أوائل العلماء الذين كتبوا فيما نحن بصدده من التفسير الموضوعي (1) .
__________
(1) وكتابه حقق رسالة ماجستير وقام بتحقيقه عبيد الله لعلى السلمي بالجامعة الإسلامية وانظر ص 60 منه.(35/392)
والمتتبع لجهود علمائنا الأقدمين في هذا الفن التخصصي يجد لهم جهودا قيمة، وأيادي علمية مشرقة وقد تعددت المواضيع القرآنية التي ألفوا فيها فمنها ما وصل إلينا، ومنها الذي لازال حبيسا بين جدران المكتبات وظلامها الدامس ومنها الذي فقد ولم نعلم عنه إلا من خلاله الكتب العلمية أو الثبت العلمي لصاحبها، ومن تلك المواضيع.
كتاب الوجوه والنظائر في القرآن الكريم. للحافظ مقاتل بن سليمان رحمه الله.
وهذا العلم الجليل علاقته بالتفسير الموضوعي واضحة وقد اعتنى به علماؤنا الأقدمون والمتأخر ون وألفوا فيه كتبا قيمة.
يقول الحافظ ابن الجوزي:
"وقد نسب كتاب في الوجوه والنظائر إلى عكرمة، وكتاب آخر إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وممن ألف في الوجوه والنظائر الكلبي، ومقاتل بن سليمان، وأبو الفضل العباسي بن الفضل الأنصاري، وروى مطروح بن محمد بن شاكر عن عبد الله بن هارون الحجازي عن أبيه كتابا في الوجوه والنظائر، وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش، وأبو عبد الله الحسن بن محمد الدامغاني، وأبو علي بن البناء من أصحابنا، وشيخنا أبو الحسن علي بن عبيد الله ابن الزاغوني، ولا أعلم أحدا جمع الوجوه والنظائر سوى هؤلاء" انتهى.
زاد الزركشي: "وأبو الحسن بن فارس وسمى كتابه "الأفراد" وزاد السيوطي: "ومحمد بن عبد الصمد المصري، ثم قالا وقد أفردت في هذا الفن كتابا سميته "معترك الأقران في مشترك القرآن ".
قلت: وقد سبق السيوطي في التأليف ابن العماد بن الحنبلي المتوفى سنة 887 هـ وعنوان كتابه "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر"مطبوع وقد بين أهل العلم معنى أو المقصد بالوجوه والنظائر.(35/393)
فقال ابن الجوزي: "واعلم أن معنى الوجوه والنظائر أن تكون الكلمة الواحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد، وحركة واحدة وأريد بكل مكان معنى غير الآخر، فلفظ كل كلمة ذكرت في موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة في الموضوع الآخر. وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الآخر هو الوجوه.
فإذا النظائر اسم للألفاظ، والوجوه اسم للمعاني، فهذا الأصل في وضع كتب الوجوه والنظائر.
والذي أراده العلماء بوضع كتب الوجوه والنظائر أن يعرفوا السامع لهذه النظائر أن معانيها تختلف، وأنه ليس المراد بهذه اللفظة ما أريد بالأخرى" انتهى.
وعلى هذا المنوال مشى الزركشي في البرهان فقال: "فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ "الأمة". والنظائر كالألفاظ المتواطئة "وذكر غير هذا وتبعه السيوطي في الإتقان.
طريقة البحث في التفسير الموضوعي:
يرى الدارسون للتفسير الموضوعي أن الكتابة والبحث فيه له طريقان، وأن للدراسة أو البحث فيه منهجا محددا.
أما الطريق الأول لكيفية البحث فيه فهي أن ينظر الباحث إلى السورة القرآنية من أولها إلى آخرها على أنها وحدة متكاملة الفكرة والمنهج والموضوع وقد عالجت ذلك الموضوع العام من خلاله موضوعاتها المتعددة مثال ذلك: سورة المنافقين: موضوعها: فضح المنافقين والتحذير منهم.
وقد عالجت السورة هذا الموضوع من خلال موضوعاتها المتعددة نحو:
1- بيان كذب المنافقين وأنهم يقولون مالا يعتقدون.
2- جرأتهم على الأيمان الكاذبة تسترا على نفاقهم وخوفا على دمائهم.
3- صدهم عن سبيل الله بأساليبهم الخبيثة الماكرة.
4- سيطرة الجبن والخوف عليهم مع أن الناظر لهم يراهم أصحاب أجسام ضخام.
5- إعراضهم عن الهدى وعدم الاستجابة لهم وصد الناس عنه.
6- فضح دسائسهم ومناوراتهم وما تحمله نفوسهم اللئيمة من الخبث والغدر والخيانة للإسلام والمسلمين.(35/394)
7- تحذير المؤمنين من أن يقعوا في أدنى صفة من صفات المنافقين "وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات".
والطريقة الثانية: هي أن ينظر الباحث إلى الآيات القرآنية المتنوعة في القرآن كله، بجمع تلك الآيات ذات الموضوع الواحد والهدف المشترك في موضوع واحد، ويقوم بدراستها دراسة متكاملة مراعيا ترتيبها حسب أسباب النزول لكي يعرف المتقدم منها من المتأخر مستعينا في ذلك بالسنة الصحيحة وفهم السلف لذلك. ومحاولا قدر جهده وطاقته الإحاطة بجوانب الموضوع كله.
وهذه "الطريقة الثانية هي المعمول بها في مجال البحوث العلمية الموضوعية، وإذا ما أطلقت كلمة "تفسير موضوعي"فلا يفهم منها إلا بحث موضوع من موضوعات القرآن الكريم على مستوى القرآن جميعه".
أهمية منهج الدراسة في التفسير الموضوعي.
وبناء على هذه الطريقة فلابد من تحديد منهج لدراسة الموضوع المختار، من أجل الإلمام بأطراف الموضوع، والربط بين أجزائه وإظهاره في صورة متكاملة تكشف للقارئ عظمة القرآن الكريم وأهدافه السامية. وتقضي على الدراسات المبتورة والدعاوى المضللة من المستشرقين وأتباعهم (1) .
تحديد المنهج:
أولا: اختيار الموضوع المراد دراسته.
ثانيا: جمع الآيات القرآنية المتعلقة به.
ثالثا: ترتيبها وفق أسباب النزول لمعرفة المتقدم من المتأخر منها.
رابعا: شرحها شرحا وافيا يجلي مضمونها ويكشف عن مكنونها ويربط بين أجزائها. وإزالة ما يتوهم أنه اختلاف وتناقض بينها أو ناسخ ومنسوخ أو خاص وعام أو مطلق ومقيد أو مجمل ومفسر.
__________
(1) انظر البدايةَ في التفسير الموضوعي ص 57- 61.(35/395)
خامسا: الاستعانة في الموضوع بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله من السنة الصحيحة المبينة لما أجمل، والمفسرة لما أشكل والمقيدة لما أطلق. والمخصصة لما جاء عاماً (1) .
سادسا: الاستعانة في هذا كله بفهم السلف الصالح لنصوص الوحيين. وعدم الاتكال على العقل أو الاجتهاد الشخصي إلا بعد استكمال أسباب الأهلية.
أولا: العقائد في القرآن الكريم
الإسلام هو دين الأنبياء والرسل جميعاً لا يقبل الله سبحانه من أحد ديناً سواه قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإسْلامُ} آل عمران 19. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران 85.
والله سبحانه أكمل هذا الدين وأتم به على الأمة النعمة ورضيه لهم ديناً فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} المائدة 3.
واختار سبحانه محمداً صلي الله عليه وسلّم أن يكون خاتما لجميع الأنبياء وأن تكون رسالته خاتمة كذلك لجميع الأديان وناسخة لها. فقال تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ" الأحزاب 40.
وأمر الله سبحانه الناس جميعاً أن يؤمنوا بالله ورسوله وأن يتبعوه فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف 158.
__________
(1) انظر البداية في التفسير الموضوعي ص 61 للفرماوي والتفسير الموضوعي ص 17، 18 للدكتور محمد القاسم. والتفسير الموضوعي ص 23/ 24 للدكتور أحمد الكومي ومحمد القاسم.(35/396)
ووصف الله سبحانه دينه بأنه الحق وأن من تمسك به أظهره الله ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} الصف 9.
وجعل الله سبحانه لهذا الدين الهيمنة على من سبقه من الكتب والتصديق بها. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} المائدة 48.
وأول واجب على المكلف فرضه الله عليه هو معرفة ربه الذي خلقه من العدم وهو ليس بحاجة إليه، تكفل سبحانه برزقه لعبده مع عصيان المخلوق لخالقه قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا} هود 65.
ومعرفة الرب سبحانه لا تكون إلا بتوحيده، الذي خلقهم سبحانه من أجله وفطرهم عليه، وأخذ الميثاق عليهم وهم في الأصلاب، وشهدوا بذلك وأقروا.(35/397)
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الأعراف (172-174) . فهذا إخبار منه سبحانه في استخراج ذرية بني آدم من ظهور آبائهم وأصلابهم وأنه أخذ عليهم الإِقرار والشهادة بأنه ربهم غير غافلين، ولا مقلدين لمن أشرك من آبائهم وأنهم أقروا بذلك. وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الروم.3. وإقامة الوجه هنا بمعنى الاستمرار على الدين الذي شرعه الله سبحانه لخلقه والعزم على الثبات عليه.
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى فسدد وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله من الحنيفيّة ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكمّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة".
وفي رواية لمسلم "ما من مولود يولد إلا وهو على الملة".
وفي رواية له أيضا "إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه ".(35/398)
وفي رواية "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (1) .
وفي رواية لمسلم "كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم، كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها" (2) .
وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:
"ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا. كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت ربي إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك (3) ..الخ.
__________
(1) رواه البخاري في الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات1/417 وباب ما قيل في أولاد المشركين 1/424 وفي التفسير باب لا تبديل لخلق الله3/275 وفي كتاب القدر باب الله أعلم بما كانوا عاملين 4/209 ورواه مسلم في كتاب القدر باب معني كل مولود يولد على الفطرة 4/2047 رقم 22، 23،24،25.
(2) رواه مسلم في القدر4/2048رقم 25.
(3) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها 4/3197رقم 63.(35/399)
ومن أجل التوحيد وتحقيقه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب وشرع الجهاد تحقيقاً للحق وإزهاقا للباطل فبالتوحيد يسعد الإنسان ويدخل الإسلام، وتكون له النجاة في الأولى والآخرة وببعده يشقى ويخرج من الإِسلام، وتكون عاقبته الخزى والعار.
والإسلام له جانبان متلازمان ومترابطان لا ينفك أحدهما عن الآخر الأول العقائد والثاني التشريع. إذاً الإسلام عقيدة وشريعة والترابط بين العقيدة والشريعة ترابط قوي لا ينفصل أحدهما عن الآخر فلا شريعة بلا عقيدة، ولا عقيدة بلا شريعة فالفصل بينهما فصل لوجهين لعلمة واحدة.
أصول العقيدة:
أما أصول العقيدة فهي المعروفة والمشهورة بأركان الإيمان وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره:
والدليل على هذه الأركان قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية177 البقرة.
ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر (49-50) وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان 2 وقولهتعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الإنسان 3.(35/400)
قال الثوري في تفسير آية البقرة {لَيْسَ الْبِرَّ} "هذه أنواع البر كلها". قال ابن كثير معلقا على قوله هذا: "وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسوله، والكتاب وهو إسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرافها وهو القرىن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي إنتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين".
وقال ابن كثير في تفسير آية القمر: "ولهذا يستدل بهذة الآية الكريمة أئمة السنة على قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها الخ".
وفي الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام سأل النبي له عن الإيمان فقال: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت (1) فهذه ستة أصول للعقيدة الإسلامية نص عليها كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم. وكل أصل من هذه الأصول يندرج تحته أمران.
الأول: ماذا يتضمن كل أصل.
الثاني: ما هي ثمرة الإيمان بهذا الأصل.
الإيمان بالملائكة:
الإيمان بهذا الأصل يتضمن أربعة أمور:
ا- الإيمان بوجودهم جملة أو إجمالا.
2- الإيمان ببعضهم تفصيلا.
3- الإيمان بصفاتهم التي وردت فيهم.
4- الإيمان بأعمالهم التي يقومون بها.
وثمرة الإيمان بهذا الأصل يتلخص في الآتي:
1- زيادة الإِيمان بالله سبحانه.
2- العلم بعظمة الله سبحانه فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
3- شكر الله على آلائه ونعمه الذي أوكل ببني آدم من يحفظهم بالليل والنهار ويكتب أعمالهم ويحفظون لهم.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان 1/37 رقم 1.(35/401)
4- محبة الملائكة واحترامهم وتقديرهم لما يقومون به من العبادة لله رب العالمين.
5- الاطمئنان النفسي على حفظ أعمال الإنسان وعدمِ ضياعها.
6- الخوف من الله سبحانه مادام يعلم أن عليه كراماَ كاتبين.
7- أن من آمن بأحدهم يلزمه الإِيمان بكلهم وأن من كفر بأحدهم كفر بجميعهم.
تفصيل القول في هذا الأصل:
1- تعريف الملائكة: هم عالم غيبي، خلقهم الله من نور وهم عباد مكرمون يسبحون الله بالليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون ولا يستكبرون بريئون مما وصفهم به الظالمون، لهم أوصاف وأعمال متنوعة وعددهم لا يعلمه إلا الله سبحانه.
2- الإِيمان بهم: الإِيمان بهم ركن من أركان الإِيمان، ومن أنكرهم كفر. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية 177 البقرة.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الآية 285 البقرة.(35/402)
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لايرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي فيها فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإِسلام؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعث إليه سبيلا. قال صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه قال أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. الحديث (1) .
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية الأولى: "اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة، وقواعد عميقة، وعقيدة مستقيمة ... فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل فما عرى الإِسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإِيمان بالله، وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله".
3- أسمائهم: ورد في القرآن الكريم ذكر الملائكة عليهم السلام مجملا في مواطن عديدة كثيرة، وورد في بعض المواطن منها ذكر بعض أسماء الملائكة خصوصاً. فمن ذلك.
أ- جبريل عليه السلام:
قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} البقرة/97،98. ومن أسمائه عليه السلام.
أ- الروح الأمين:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/36 رقم 1.(35/403)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} . الشعراء192-194.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية (نزل به الروح الأمين) : "وهو جبريل عليه السلام قاله غير واحد من السلف: ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريح وهذا مما لا نزاع فيه. قال الزهري: وهذه كقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (1) .
ب- روح القدس:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..} الآية 87 البقرة.
وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..} الآية 253 البقرة.
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} الآية 102 النحل.
والدليل على أن روح القدس هو جبريل عليه السلام ما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحسان بن ثابت رضي الله عنه وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ فقال: اللهم نعم (2) .
__________
(1) تفسير الَقرآن العظيم 5/205 دار الفكر.
(2) رواه البخاري في بدء الخلق باب ذكر الملائكة 4 /304، ومسلم في فصائل الصحابة4/1933رقم151، 153.(35/404)
وفي رواية: أن رسول الله صلي الله وسلم قال لحسان: "أهجهم أو هاجهم وجبريل معك" (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" (2) .
قال ابن كثير رحمه الله:.
"فهذا من البخاري تعليقاً، وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزارى ثلاثتهم عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن هشام بن عروة كلاهما عن عروة عن عائشة به. قال الترمذي حسن صحيح وهو حديث أبي الزناد".
والقول بأن روح القدس هو جبريل عليه السلام نص عليه من السلف - رحمهم الله - عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ومحمد بن كعب، وإسماعيل ابن خالد والسدى والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة. وجبريل عليه السلام موكل بالوحي الرباني من دون الملائكة إلى الرسل أجمعين عليهم السلام.
ج: وصفه:
"وقد ذكر الله سبحانه شأن جبريل عليه السلام في كتابه ووصفه بأنه قوى شديد.
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} النجم (4-9) . وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} . التكوير (19-21) .
__________
(1) المصدر السابق.
(2) رواه البخاري في المغازي باب حديت الإفك 7/436، ومسلم في فضائل الصحابة4/1933رقم155،154.(35/405)
وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها مرتين. الأولى رآه في الدنيا على خلقته وله ستمائة جناح كما ورد في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي علميه رأى جبريل له ستمائة جناح (1) .
والمرة الثانية رآه عند سدرة المنتهى. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ولقد رآه نزلة أخرى: قال رأى جبريل (2)
وسأل مسروق عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسوله الله صلي الله عليه وسلم فقال:"إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء سادا عظيم خلقه ما بين السماء إلى الأرض" (3) .
أما بقية الأوقات الأخرى فكان يراه على صورة رجل كما ورد يا الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لايرى عليه أثر السفر، لا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه (4) الحد يث.
2- ميكال:
قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} الآية 98 البقرة.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان1/158 رقم 0280، 282، 283، 287، وانظر صحيح البخاري كتاب التفسير8/606 مع الفتح، وانظر تفسير ابن كثير 6/ 444،451،450 ط الفكر ومعارج القبول 1/64.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) انظر تخريجه ص 23.(35/406)
وهو موكل بالقطر وتصاريفه إلى حيث أمره الله عز وجل وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه، ويصرفون الرياح، والسحاب، كما يشاء الله عز وجل. وقد جاء في بعض الآثار: ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها من الأرض.
وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلي الله عليه وسلم: "قال لجبريل: على أي شيء ميكائيل؟ قال على النبات والقطر".
ولأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم: "أنه قال لجبريل- عليه السلام- مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟ فقال عليه السلام- ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار" (1) .
3-مالك:
وهو خازن النار كما ذكر ابن كثير قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} الزخرف (74- 78) . وفي الحديث الصحيح عن يعلي بن أمية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي الله وسلم يقرأ على المنبر {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ... } (2) .
قال ابن كثير عقبه: "أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى: لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها".
4- ملك الموت:
ورد في بعض الآثار اسمه عزرائيل. وأيا كان فإنه ورد في القرآن باسم ملك الموت. قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} السجدة 11.
__________
(1) معارج القبول 1/ 65. وحديث أنس رواه أحمد في المسند 3/ 224.
(2) رواه البخاري في كتاب التفسير تفسير سورة الزخرف 8/568.(35/407)
قال ابن كثير: "الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم. وقد سمى في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور، قال قتادة وغير واحد وله أعوان، وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم، تناولها ملك الموت ".
قلت: حديث البراء بن عازب حديث طويل والشاهد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد لبصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ... الحديث" (1) .
رابعا: صفاتهم:
للملائكة صفات متعددة ومتنوعة منها ما هو خاص بذواتهم. ومنها ما يشاركهم فيه غيرهم. وسأقتصر في هذا الموضوع على ما ورد به نص صحيح.
أ- أنهم يحملون الأشياء. قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 248 البقرة.
وهذا فيه رد على الذين يقولون إن الملائكة ليسوا أجساما وإنما هم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات.
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4/287.(35/408)
2- أنهم يتكلمون مع البشر. ودليل هذا من الكتاب والسنة المطهرة. أما الكتاب فقوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام:. {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران 39. وقال تعالى في شأن مريم عليها السلام: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ, يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} آل عمران (42-43) . وقال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} الذاريات 28. وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران (45-46) . وقال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} هود 81.
ومن السنة: مساءلة جبريل عليه السلام للنبي صلي الله عليه وسلم عن الإِيمان والإِسلام والإحسان. ومخاطبته له بعد غزوة الأحزاب أن لا يضع السلاح ...(35/409)
3- أنهم يتمثلون أحياناً في صورة البشر وهذا ثابت بالقرآن والسنة. أما القرآن فقال تعالى في شأن مريم عليها السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} مريم16-21. وقال تعالى في قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} هود (69-71) .
وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} الذاريات (24-28) .(35/410)
4- الله سبحانه يصطفي منهم رسلا: قال الله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الحج 75. قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته" واصطفاء الله من الملائكة رسلا المراد منه أن يكونوا رسلا بينه سبحانه وبين أنبيائه من عباده، ليبلغوا ماكلفوا به.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} فاطر آية (1) . قال ابن كثير: "وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي بينه وبين أنبيائه".
وقوله تعالى في حق جبريل عليه السلام: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} التكوير 19.
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} الأنعام 61.
5- أن الرسل من الملائكة لهم أجنحة. ذكر الله سبحانه في سورة الفرقان أنه سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً. وذكر سبحانه في هذه الآية أن أولئك الرسل من الملائكة لهم أجنحة وتلك الأجنحة متعددة منهم. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فاطر آية (1) .(35/411)
قال ابن كثير رحمه الله: "وأولي أجنحة أي يطيرون بها ليبلّغوا ما أمروا به مثنى وثلاث ورباع أي منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ولهذا قال جل وعلا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
6- إنهم غلاظ شداد. وهذا وصف لنوعيّة منهمِ وهم القائمون على جهنم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم 6.
قال ابن كثير:"أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله شداد أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج ".
7- تنفيذهم لأمر الله وعدم عصيانه. قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم آية 6.
قال ابن كثير "مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه وهؤلاء الزبانية- عياذاً بالله منهم- ".
وقال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء آية 27.
قال ابن كثير: "أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم".
__________
(1) تفسير القرآن العظيم5/567. ط دار الفكر.(35/412)
8- النزول والمعراج: قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر (4،5) . وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} المعارج آية 4. ونزولهم وعرجهم بمهمات متنوعة فبعضهم ينزل بالوحي والآخر يصعد بالأرواح والثالث بلا عمل وغير ذلك مما نقل إلينا ومما لم ينقل وربك يخلق ما يشاء ويفعل. وله الحمد في الأولى والآخرة.
9- الاصطفاف بين يدي الرحمن يوم القيامة: قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} يقول ابن كثر: "فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفاً صفا. وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} النبأ آية 38.
10- لا يتكلمون إلا بعد الاستئذان: قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} النبأ آية 38. وقال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء آية 27.
11- إنهم عباد مكرمون: ووصفهم بالعبودية من الله سبحانه فيه تشريف وتكريم لهم، ثم فيه تنزيه لهم عمن اتخذهم آلهة تعبد من دون الله. قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الأنبياء27-29.(35/413)
12- إن لهم أيادي: قال الله تعالى: {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام آية 93. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الأنفال آية50. وقد ورد في معنى الآية الأولى أن الملائكة تضرب العصاة الفجار وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال! والسلاسل والجحيم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه لا جسده، وتعصي وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ} الآية.
خامسا:أعمالهم:
هذا الخلق من خلق الله والذين وصفهم الله بأنهم عباد مكرمون يسبحون له بالليل والنهار ولا يفترون لهم أعمال يقومون بها طاعة لله سبحانه وتنفيذاً لأمره. لا يسبقونه بالقول وهم يعملون. فمن ذلك:
1- العبادة
أ- التسبيح: والتسبيح هو تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن العيوب والنقائص.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} البقرة آية 35.
وهذا السؤال الصادر من الملائكة لربهم سؤال استكشاف واستعلام عن الحكمة من خلق بني آدم كما قرر هذا ابن كثير: "فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك ... الخ".(35/414)
وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} البقرة 31. قال ابن كثير: "هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وهو أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام وقال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} الرعد آية 13. وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} الأنبياء آية.20. وهذا إخبار من الله سبحانه عن حال الملائكة وعبوديتهم له سبحانه وأن دأبهم طاعته ليلا ونهارا دون تعب ولا ملل (1) وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} سبأ (40، 41) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم4/556. ط دار الفكر.(35/415)
وهذا موقف من الملائكة يوم يقوم الأشهاد وتقف الخلائق بين يديه سبحانه وتكون الخصومة والمسألة فلما تسأل الملائكة عن صنيع البشر في عبادتهم إياهم يهرعون إلى الله بالتنزيه والتقديس والتعالي والتوحيد أن يكون معه إله يعبد بل العبادة لك وحدك ونحن عبيدك الطائعون نبرأ إليك مما ألصق بنا واتهمنا به ونتبرأ من كل من أشرك مع الله غيره (1) وقال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} الصافات (164-166) . إجمال ثم تفصيل. هذا الخلق له مقام معلوم يقوم بما كلف به دون إخلال به أو التجاوز والتعدي فيه بل هم يقفون صفوفاً في طاعتهم وفي هذه الهيئة من الجمال في أداء الطاعة ما لا يستطيع الوصف بيانه. ولذا شبهت صفوف المسلمين في الصلاة في الحياة الدنيا كصفوف الملائكة.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلي الله عليه وسلم: "فضلنا عن الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" (2) .
واصطفاف الملائكة هنا من أجل تسبيح الله سبحانه وتعظيمه وتنزيه عن العيوب والنقائص.
يقول ابن كثير في معنى قوله {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه (3) .
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الملائكة يوم القيامة يحفون بالعرش مسبحين لله وحامدين ومنزهين لله تعالى من الجور والنقائص.
قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الزمر 75.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 5/559 ط دار الفكر
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد 1/371 رقم 4
(3) تفسير القرآن العظيم 6/ 40 ط دار الفكر(35/416)
قال ابن كثير: "أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور وقد فصل القضية وقضي الأمر وحكم بالعدل".
وفصل القول سبحانه فيمن يحمل العرش ومن حوله في آية غافر فقال سبحانه
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الآيات 7-9.
وفي هذه الآية وآية الزمر جمعت أو قرنت الملائكة بين التسبيح والتحميد.
وحكمة ذلك أن التسبيح يتضمن تنزيه الباري عن العيوب والنقائص.
والتحميد يتضمن إثبات صفة المدح والثناء عليه (1) . وهذا النص في سورة غافر يتضمن عدة أعمال تقوم بها الملائكة غير التسبيح وهي الحمد لله سبحانه والإيمان به والاستغفار للمؤمنين ودعاء الرب سبحانه بالمغفرة لمن تاب واتبع سبيله والشهادة لله سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء وأن علمه محيط بكل شيء كما أنه سبحانه عزيز فيما يفعل وحكيم فيما يفعل وحكيم فيما يصنع.
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الشورى هـ.
وقد امتدح الله سبحانه الملائكة في أداء عملهم وأنهم يقومون بأدائه دون سآمة أو ملل وعاب على الذين يستكبرون عن عبادته. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف 206.
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم 6/1241(35/417)
وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} فصلت 38.
قال ابن كثير: "وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم".
وقال ابن العربي: "هذه الآية مرتبطة بما قبلها ومنتظمة مع ما سبقها وهي إخبار من الله تعالى عن الملائكة بأنهم في عبادتهم التي أمروا بها دائمون وعليها قائمون وبها عاملون فلا تكن من الغافلين فيما أمرت به وكلفته وهذا خطابه والمراد جميع الأمة".
ب- الحمد: والحمد هو إثبات صفة المدح لله تعالى والثناء عليه سبحانه وقد سبق ذكر الآيات التي تنص على حمد الملائكة عليهم السلام لربهم في الفقرة السابقة.
ج- السجود: ورد السجود في القرآن بالنسبة للملائكة على صورتين:
الأولى: أن من عمل الملائكة عليهم السلام السجود - لله سبحانه - المستمر الدائم فهم به قائمون وعاملون دون فتور أو ملل.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف 206.
الثانية: أنهم مأمورون بالسجود لغير الله سبحانه وهو السجود لآدم عليه وعليهم السلام.
قال تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} الأعراف 11.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الحجر (28- 31) .(35/418)
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} الإسراء 61. وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} الكهف 50.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} طه (115-117) .
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} ص (71-74) .
وتنفيذ الملائكة لهذا السجود لآدم عليه السلام هو تنفيذ لأمر الله وامتثالا له وتعظيماً واحتراماً لما أمر به سبحانه وهو في الوقت نفسه كرامة من الله سبحانه امتن بها على أبينا آدم حيث أسجد له ملائكته. كما ورد في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ِ قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك ... " الحديث.
قال قتادة "فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته".
د- قبض الأرواح:(35/419)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} النساء (97-99) .
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} الأنعام 61.
والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح.
قال ابن عباس: "لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم".
قال ابن كثير: "وقوله (لا يفرطون) أي في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين عياذاً بالله من ذلك "
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا َنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام 93.
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} الأنفال 51.(35/420)
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ... } الآية28 النحل.
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ... } الآية النحل (31-33) وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} السجدة آية 11.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية. "الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة كما هو المتبادر من حديث البراء ... وقد سُمّي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور قاله قتادة. وغير واحد وله أعوان وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت (1) اهـ وقد ذكر بعض الآثار عن ملك الموت فتراجع.
وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} محمد آية 27. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية. "أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب".
هـ- الحفظ:
وهذا العمل من الملائكة نوعان:
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 5/407 ط دار الفكر(35/421)
الأول: حفظهم للعبد في حله وترحاله وفي نومته ويقظته من كل سوء وحدث. قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الرعد آية 11. قال ابن عباس: "المعقبات من الله هي الملائكة. وعنه قال "ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه" وقال مجاهد: "ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له: "الملك وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه" وقال تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} الأنعام آية61". قال ابن كثير: "أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان (1) قلت ويحتمل أن المراد منها أيضا حفظ أعمال بني آدم خيرها وشرها. فإن لفظ حفظة نكرة. وقد وردت في سياق الإثبات فهي تفيد الإطلاق.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} الأنبياء42.
وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} قال ابن كثير: "أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ الله} " (2) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/33.ط دار الفكر
(2) تفسير القرآن العظيم 7/365.ط دار الفكر.(35/422)
الثاني: حفظ أعمال العباد خيرها وشرها. قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} الأنعام 61. وسبق أن ذكر أن الحفظة هنا يحتمل الأمرين حفظ الإِنسان، وحفظ أعماله. لكن ورد ما هو نص في حفظ الأعمال. قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} الانفطار (10-12) . قال ابن كثير "يعنى وإن عليكم لملائكة حفظة كراماً فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم". وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق آية 17-18.
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف.8. قال ابن كثير: "أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها".
و الشفاعة:
قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء28.
وقد ورد في الحديث القدسي: "فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين" وفي رواية "فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي" (1) .
ز- القتال مع المؤمنين:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/421 مع الفتح.(35/423)
إن مشاركة الملائكة للمؤمنين في القتال ثابتة بالقرآن والسنة وهي منة عظيمة من الله على عباده المؤمنين ونصرة لهم على عدوهم وكرامة لهم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} آل عمران (123-125) . وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال 10.
وعن معاذ بن رفاعة الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تعدون أهلِ بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين- أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدراَ من الملائكة" (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب" (2) .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض" ... فأمده الله بالملائكة ...
__________
(1) رواه البخاري في المغازي باب شهود الملائكة بدرا 3/90/91.
(2) رواه البخاري في المغازي باب غزوة أحد 3/102.(35/424)
قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خُطِمَ أنفه، وشق وجهه كضربة السوط فاخضّر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة. فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين" (1) الحديث. قال ابن كثير:
"المشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أيد الله نبيه خيالها والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، ميكائيل في خمسمائة مجنبة".
والمراد بالمجنبة هي التي تكون في الميمنة والميسرة.
وهذه المشاركة القتالية من الملائكة مع المؤمنين بأمر الله سبحانه تفيد أيضاً تثبيت المؤمنين وتقوية عزائمهم وقد بين الله ذلك في كتابه وامتن به على المؤمنين فقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} الأنفال 12.
قال ابن كثير: "وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهوانه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنن يوحى إليهم فيما بينه وبينهم أن ثبتوا الذين آمنوا".
ح- النزول:
أولا: النزول بالوحي:
سبق البيان أن الله سبحانه اصطفى من الملائكة رسلا. وكذلك من الناس قال تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وهو ومهمة أولئك الملائكة المصطفين النزول بالوحي.
__________
(1) رواه مسلم في الجهاد 3/1383 رقم 58,واحمد في المسند 1/30(35/425)
قال سبحانه {أَتَى أَمْرُ الله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} النحل (1-2) .
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} الشعراء (192- 195) .
قال ابن كثير في معنى قوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} : "وهو جبريل- عليه السلام - قاله غير واحد من السلف. ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريح، وهذا مما لا نزاع فيه".
وقال تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً} المرسلات 4- 6.
نقل ابن كثير في معناها عن السلف أنها الملائكة ثم قال: "قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد وقتاة والربيع بن أنس والسدي والثوري ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره".
وقال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ , سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر آية (4-5) . وهذا النص ذكر تنزيل الملائكة عموماً ثم تنزيل الروح - وهو جبريل عليه السلام - خصوصاً وهو من باب عطف الخاص على العام ونزول الملائكة أو تنزيلهم مشروط بإذن الله سبحانه لهم. قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} مريم آية 64.(35/426)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} (1) وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدارس القرآن مع جبريل عليه السلام كل عام مرة إلا في العام الذي قبض فيه فإنه عرض القرآن مرتين.
ثانيا: النزول عند تلاوة القرآن الكريم:
عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: "بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكت الفرس ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف
وكان ابنه يحي قريباً منها فأشفق أن تصيبه فلما أجتَّره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير. قال فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحي، وكان منها قريباً فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال: وتدري ما ذاك؟ قال لا قال "تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحتْ ينظر الناس إليها لا تتواري منهم" (2) .
ثالثا: النزول عند حلق الذكر والقعود معهم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاء يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء". الحديث هذه رواية مسلم.
__________
(1) رواه البخاري في التفسير باب وما نتنزل إلا بأمر ربك 9/428 مع الفتح.
(2) رواه البخاري في فضائل القرآن باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن 9/63 مع الفتح.(35/427)
وفي البخاري "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا". وعن أبي مسلم الأغر أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ... ومن سلك طريقاً يلتمس فيها علماً سهل الله بها طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (2) .
رابعا: النزول لشهود الصلاة ورفع أعمال العباد:
قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين يأتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وآتيناهم وهم يصلون" (3) .
__________
(1) رواه مسلم في الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/2074 رقم 39.
(2) رواه مسلم في الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/2074 رقم 38.
(3) رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب فضل صلاة العصر 2/33 مع الفتح.(35/428)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر فيجتمعون في صلاة الفجر فتصعد ملائكة الليل، وتثبت ملائكة النهار ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار، وتثبت ملائكة الليل. فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون فاغفر لهم يوم الدين" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر. قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ".
قال ابن حجر: وفي الترمذي والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال تشهده ملائكة الليل والنهار.
الإِيمان بالرسل
الرسل جمع رسول: وهو كل من أوحى إليه من البشر بشرع وأمر بتبليغه.
والإيمان بهم أحد أركان الإِيمان الستة وهو يتضمن الآتي:
1- الإِيمان بجميعهم تفصيلا فيما فصل، وإجمالا فيما أجمل
2- الإِيمان بأن دعوتهم جميعا متفقة في الأصل وهي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه ونفي ما يضاد ذلك.
3- الإِيمان بأنهم صادقون فيما قالوا وفيما دعوا الناس إليه وأنهم على الحق المبين والصراط المستقيم. يقول ابن تيميه: "ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى، لم يقل أحد أن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال تعالى ما يبين إنه لا يقر كاذبا عليه بقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الحاقة 44-47.
4- الإِيمان بأنهم بلغوا رسالة ربهم كما أوحاها الله إليهم بدون زيادة أو نقص.
__________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه 1/165 وانظر فتح الباري 2/36.(35/429)
5- الإيمان بأن الله بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده.
آ- الإيمان بأن الله سبحانه فضل بعضهم على بعض ورفع بعضهم على بعض درجات.
7- الإيمان بأن الله سبحانه خص بعضهم بخصائص دون بعض فخص إبراهيم ومحمد بالخلّة وموسى بالتكليم، وإدريس بالرفع في المكان العلي، وعيسى روح منه، حيث خلقه من غير أب، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
8- الإيمان بأن من كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.
9- الإيمان بأن خاتمهم هو محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا نبي بعده.
10- العمل بشرعيته عليه السلام دون من سواه.
11- الإيمان بكل ما أخبروا به.
أما ثمرة الإيمان بهذه الركن العظيم فتتمثل في الآتي:
أ- العلم بعناية الله سبحانه بخلقه ورحمته بهم حيث خلقهم ورزقهم ولم يتركهم هملا. بل أرسل إليهم رسولا منهم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة 128.
2- شكر الله سبحانه والثناء عليه على تفضله وإنعامه على خلقه ورعايته لهم.
3- محبة الرسل وتقديرهم وتعظيمهم والثناء عليهم لما قاموا به من تنفيذ الأوامر الإلهية. ولما تحمّلوه من الأذى والتعب والمشقة في سبيل ذلك من أقوالهم.
4- الاتباع وعدم الابتداع {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران 31.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} آل عمران 32.
5- معرفتهم ومعرفة ما يدعون إليه وعدم الإعراض عنهم فإن الإعراض ناقض من نواقص الإسلام.
6- التمسك بهديهم وعدم الخروج عنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام 90.(35/430)
ولفظ الرسل ورد في القرآن الكريم والمراد به معنيان.
الأول: الرسل من البشر ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} الحاقة 40-41. فالمراد بالرسل هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الرسل من الملائكة. وقد نص الله سبحانه على اتخاذ الرسل منهم في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} الحج 75. ونص سبحانه على جبريل - عليه السلام - ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} التكوير19-20 فالمراد بالرسل هنا جبريل.
وأول الرسل من البشر نوح - عليه السلام - وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم (1) .
قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} النساء163.
وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الأحزاب 40.
وثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: "أن الناس يذهبون إلى نوح، فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهلِ الأرض" الحديث.
فهذا نص صحيح وصريح في أن نوحاَ - عليه السلام - أول الرسل.
وقد ذكر الله سبحانه من أخبارهم وقصصه وأنبائهم مافيه ذكرى للذاكرين، وموعظة للمتعظين.
ورسل الله سبحانه كثر لا يحصيهم عدداً إلا خالقهم ولذا قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} النساء164.
__________
(1) انظر معارج القبول 1/80 ودروس وفتاوى من الحم المكي ص201 لابن العثيمين وتفسير القرآن العظيم 3/182.ط دار الفكر.(35/431)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ} الآية غافر 78.
وخص الله سبحانه منهم خمسة بالذكر في سورتي الأحزاب والشورى.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} الأحزاب 7.
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} الشورى 13.
وهؤلاء الخمسة يسمون أولي العزم من الرسل. "لما تميزوا به الحزم والجد والصبر وكمال العقل، ولم يرسل الله تعالى من رسول إلا وهذه الصفات فيه مجتمعة، غير أن هؤلاء الخمسة أصحاب الشرائع المشهورة هم الذين يتراجعون الشفاعة بعد أبيهم آدم - عليه السلام - حتى تنتهي إلى نبينا محمد عليه السلام فيقول: أنا لها ... والقول! بأن أولي العزم هم هؤلاء الخمسة هو قول ابن عباس وقتادة ومن وافقهما وهو الأشهر".(35/432)
وقد أخذ الله تعالى العهد على النبيين جميعا بأن يصدق بعضهم بعضا، ويؤمن بعضهم ببعض، وبنصر اللاحق السابق، وأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} آل عمران 81،82.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} الأحزاب 7.
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} الشورى 13.
والدين الذي يبلغونه ويدعون إليه واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء25. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} الزخرف 45. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} النحل 36.(35/433)
وفي الحديث "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" (1) .
أولا: نوح عليه السلام
تنوع أساليبه في الدعوة.
أ- دعا قومه إلى عبادة الله وحده.
أول ما بدأ به قومه - عليه السلام - دعوتهم إلى توحيد الله سبحانه وعبادته وحده لاشريك له وهذا هو أساس استقامة أمر الناس في حياتهم، والنجاة لهم بعد مماتهم. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الأعراف 59.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هود 25-26.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} المؤمنون 23.
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَإِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الشعراء106-110.
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} نوح 1-4.
__________
(1) قال ابن كثير "أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد"3/517.(35/434)
2- حرصه - عليه السلام - على نجاة قومه من العذاب، وتخوفه عليهم، وشفقته بهم.
قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الأعراف 59. وقال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هود 26.
3- تذكيره إياهم أنه - عليه السلام - لا يطلب منهم أجرا فيما يدعوهم إليه فلا تتولوا وتبتعدوا فإن أجري على من أرسلني.
وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} يونس 72.
وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} هود 29.
وقال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} الشعراء109.
4- إخباره إياهم أنه مرسل من رب العالمين نذير مبين ورسول أمين، ليكون من المسلمين، ومبلغا لهم ما أرسل به من ربهم، وناصحا لهم أمين، وأنه - عليه السلام - يعلم من الله مالا يعلمون.
قال تعالى: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} الأعراف 61-62.
وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يونس 72.
وقال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} هود 25.
وقال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} الشعراء107.
5- تجهيله لقومه لكونهم لا يعرفون القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس عند الله سبحانه وتذكيره - عليه السلام - إياهم بعقاب الله إن أجاب إلى قيمهم الجاهلية الأرضية.
قال تعالى: { ... وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} هود 28-29.(35/435)
6- تذكيره - عليه السلام - لهم بالقيم الحقيقية الصحيحة. في شخصه الكريم ورسالته الطاهرة بعيدا عن كل ما يشوبه أو يشوه رسالته من المظاهر الزائفة ونحوها قال تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} هود 31.
يقول سيد قطب: "وهكذا ينفى نوح - عليه السلام - عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة، وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة، ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأغراض السطحية، ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول وودّه إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا نموذجا للداعية، ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان، بالحق المجرد، دون اسزضاء لتصوراتهم ودون ممالأة لهم مع المودة التي لا تنحنى معها الرؤوس".
7- السخرية بهم مع التوعد لهم بالعذاب المخزي والمقيم.
قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} هود 38-39.(35/436)
"وهنا ينبغي أن نقف وقفة لها مغزاها عند قوله "عذاب يخزيه"لننبه القارئ إلى أن من العذاب ما هو مشرف لذات المعذب رافع له فوق الهامات، كالعذاب الذي يحل بالرسل عند قيامهم بواجبهم، وعذاب المصلحين، وأرباب المبادئ الحقل حينما يدعون الناس إلى عقائدهم فأولئك عذابهم مر على الأجساد، حلو على القلوب، عذابهم رافع لدرجاتهم، وتمحيص لنفوسهم، وهذا عذاب المجاهدين في سبيل الله، والمقاتلين لإعلاء كلمته، يتقدم إليه المؤمنون، وشمارع إليه المخلصون، لا لأنه حلو المذاق، لذيذ الطعم، بل لأن من ورائه من النعيم مالا عين رأت ولا أذن سمدت، ولا خطر على قلب بشر، ذلك هو العذاب، العذاب الذي يجعل صاحبه مثلا كاملا في الفضيلة، ونكران الذات.
أما عذاب أعداء الحق، وحزب الشيطان، وأنصار الشهوة والهوى، فذلك هو العذاب الذي يخزي صاحبه، ويفضح من وقع به، ذلك هو عذاب أعداء الرسل، وخصوم الحق" اهـ.
8- دعوته إياهم إلى تقوى الله وطاعته.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الشعراء 108 وقال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} نوح 3.
9- تذكيرهم بالأجل المسمى لهم قبل مجيئه.
قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} نوح 4
15- دعوته لقومه بالليل والنهار والسر والعلن دون يأس ولا قنوط. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} نوح هـ.
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} نوح 9.(35/437)
11- الترغيب في طاعة الله سبحانه وذلك بتذكيرهم بفضل الله سبحانه وإحسانه إليهم وعظيم آياته في أنفسهم وفي الكون المشاهد. قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .
12- الترهيب من عدم الاستجابة لله. وذلك بتذكيرهم إلى خلق الله سبحانه وآياته في أنفسهم وفي الآفاق. قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً , ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً, لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} نوح 13-20.
موقف الملأ منه:
ا- تكذيبه ووصفه بالضلال البين والافتراء.
قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الأعراف 65.
وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} الأعراف 64.
وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} يونس 73.
وقال تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} هود 27.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} هود 25.
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} الشعراء105.
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} الشعراء117.(35/438)
إنها مواقف مخزية، وهي مواقف الفجار ضد الأبرار في كل زمان ومكان فالأبرار يدعونهم إلى النجاة والفجار يدعونهم إلى النار، وما يستوي الأعمى ولا البصير، ولا الظلمات ولا النور.
2- اتهامهم لنوح أنه بشر مثلهم وهذا بزعمهم أنه لا يصح أن يكون مرسلا. بل الأولى أن يكون ملكا.
قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَراً مِثْلَنَا} هود 27.
وقال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} المؤمنون 24.
3- إن اتباعه هم من أراذل القوم أصالة وعقلا ومكانة قال تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي} هود 27.
وقال تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} الشعراء111.
وهذه قولة أهل الباطل فيمن سلك طريق الحق والصواب، ويدفعهم في ذلك الكبر والاستعلاء بغير حق ولا برهان وإلا فالحق في ذاته صحيح سواء اتبعه وأخذ به الأشراف من القوم أو الأراذل كما يزعم الظالمون.
يقول ابن كثير رحمه الله: "هذا اعتراض الكافرين على نوح - عليه السلام- وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لاشك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء، ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته" اهـ.(35/439)
وشاهد هذا الكلام الرصين ما ورد في الحديث الصحيح أن هرقل سأل أبا سفيان فقال له: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت ضعفاؤهم. قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون ... وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل الحديث.
4- تنكرهم لنوح- عليه السلام- ومن معه وزعمهم أنه ليسن لهم فضل عليهم لا في خلق وغير ذلك بل وصموه زيادة على هذا الزعم بالكذب قال تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} هود 27.
5- استعجالهم نقمة الله وعذابه وسخطه.
قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} هود 32.
6- السخرية والاستهزاء به - عليه السلام - قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} هود 38.
7- اتهامهم له - عليه السلام - بالجنون والتربص به قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} المؤمنون 25.
8- اللجوء إلى القوة بعد أن أعوزتهم الحجة. قال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} الشعراء116.
9- الإصرار والاستكبار عن سماع دعوته.
قال تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} نوح 7.(35/440)
15- العصيان والمكر الكبار مع الإصرار على الآلهة الباطلة وتضليل الناس قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً} نوح 21-24.
مواقف نوح - عليه السلام -.
لقد اصطفى الله سبحانه نوحا - عليه السلام - كما اصطفى غيره من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام- على سائر أهل الأرض لما قام به من الدعية إلى دين الله، والصبر على ما لاقى من ذلك مع رباطة في الجأش وحزم في الرأي وقوة في الإرادة وثبات في الطريق، ووضوح في المنهج ونصح في القول، وتخوف على القوم، وتحد للباطل وأهله مع قوة توكل على ربه ولجوء إليه من البدء حتى النهاية.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} آل عمران 33-34.
يقول ابن كثير: "واصطفى نوحا عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعهم إلى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن أخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به " اهـ.
وإن هذا المقام الذي قام به نوح - عليه السلام - في قومه مع ما وجد منهم لمقام عظيم لا يقوم به إلا المصطفون الأخيار ألف سنة إلا خمسين عاما وهو يتودد إليهم ويدعوهم بالليل والنهار والسر والعلانية. وما آمن معه إلا قليل.(35/441)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} العنكبوت 4 1-15.
ومع هذا العمر الطويل والمليء بالمشاهد والأحداث العظيمة والاستمرار على التبليغ والبيان بالليل والنهار في حالتي الجهر والأسرار لم يسلم معه ويؤمن به إلا قليل.
قال تعالى: { ... وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} هود 40.
يقول ابن كثير: "أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما".
وبعد هذا العمر الطويل لنوح - عليه السلام - ودعوته الطاهرة، وما لاقاه من الكرب العظيم من أولئك الممحوقين الذين تنكبوا الطريق المستقيم ووصموه بكل قول مشين، عرفوا أنه فعلا دعا ربه فاستجاب له، وجعل له ذكرا في الآخرين.
قال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} الأنبياء76-77.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الصافات 75-82.(35/442)
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} القمر 9-15.
وقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} نوح 26-27.
مواقفه من قومه:
1) الحلم والأناة وعدم الرد بالمثل.
قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} الأعراف 62-65.
2) الحوار الهادئ الودود والمقنع المفيد:
أ- الإِنكار عليهم في عدم قبولهم الموعظة الربانية والتي جاء بها نوح - عليه السلام - من ربه.
قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأعراف 63.
قال ابن كثير: "أي لاتعجبوا من هذا فإن هذا ليس بعجب أن يوحى الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإحساناً إليكم لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به".
2- عدم استطاعته هدايتهم إلى ما جاء به وهم له كارهون.(35/443)
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} هود 28.
وقال تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هود 34.
3) تقديمه دعوته وشخصه لا صفاء ونقاء بعيداً عن كل ما يشوهها أو يكدر صفوهما. ويتجلى ذلك في الآتي:
ا- عدم طلب الأجر على تبليغ دعوته.
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} الآية هود 29.
2- عدم الاستجابة لقومه في طرد المؤمنين.
قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} هود 29.
3- بيان قدر نفسه والبعد عن الادعاء أو الكمال الزائف.
قال تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} هود 31.
4) شجاعته - عليه السلام - مع ثقته المطلقة بربه وتوكله عليه.
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} يونس 71.
موقفه من أهله:
من سنن الله سبحانه في خلقه أنه سبحانه يبتليهم ليعلم من يطيعه أويعصاه وهو أعلم بكل شيء والابتلاءات متعددة ومتنوعة.(35/444)
ومن أعظم والابتلاءات. الابتلاء بالأهل الملاصقين بالمبتلى ليل نهار ولذا أخبر الله سبحانه في كتابه العزيز بعداوتهم وفتنتهم وحذر منهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} التغابن 14.
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} التغابن 15.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المنافقون 9.
ومع أنهم عدو وفتنة فهم زينة ومتاع الحياة الدنيا.
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران 14.
وقد ابتلى رسول الله نوح - عليه السلام - بأمرين في أهله.
الأمر الأول: ابتلى في زوجته حتى أصبحت مثلا يضرب بها في الخيانة في الإِيمان وفي نقل أخبار زوجها ونشر أسراره.
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} التحريم 15.
وإنها لإحدى الكبر أن تصبح حليلته في الفراش وضجيعته والمخالطة للمسلمين بالليل والنهار، عوناً لأعداء زوجها وبوقاً ينفخ فيه، وعيناً للأعداء على الأقرباء.(35/445)
أما الأمر الثاني: فهروب ابنه منه - عليه السلام - ولجوءه إلى أهل الضلالة والغاوية وعلى مرأى ومسمع من أبيه، وإنها لهي الكبرى الثانية التي ابتلى بها نوح في فلذة كبده، وقرة عينه، لكن قضاء الله نافذ لا مرد له يضل من يشاء ويهدي من يشاء لقد انعزل الابن عن أبيه في حالة يلزم منها عادة الإتمام حول بعضهما وحتى لا ينكشف ما وقع بهم.
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} هود 42-43.
وانطلق نداء نوح - عليه السلام - صاعداً من الأرض إلى عنان السماء تحدوه عاطفة الأبوة إنه من أهله راجياً رحمة ربه ولطفه في قضائه وقدره ومعزفا بالوعد الحق من الله والحكم الحكيم.
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} هود 45.
ولكن جاء الرد من الرب تبارك وتعالى واضحاً جليا يبين لنوح - عليه السلام – إن هذا الابن ليس من أهلك. لأنه كافر وخارج من دائرة الإسلام فلا تنفعه أبوتك ولاتشفع له لأن الرابطة بينك وبينه هي رابطة العقيدة الإيمانية. وهي مفقودة فيما بينكما ثم يبين الرب سبحانه إنه عمل غير صالح ومادام الأمر كذلك فلا تحرص عليه بل تبرأ منه فلا لقاء بينك وبينه لأن القول قد سبق عليه بالغرق كما تبؤ به من الكفر بالله والعصيان لأبيه.
قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود 46.(35/446)
وفوق هذا يأتي النهي الصارم لنوح - عليه السلام - أن يتجاوز في الدعاء أو أن يسأل ما ليس له به علم فإن من فعل أو صدر منه شيء من ذلك فإنه من الجاهلين.
الإيمان بالبعث
الإيمان بالبعث جزء من الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة، وقد كثر الاستدلال القرآني على البعث حساً وعقلاً وشرعاً وقبل الشروع في بيان ذلك لابد لنا من بيان معنى البعث وتعريفه:
فالبعث في اللغة بمعنى الإرسال والإشارة، يقال بعثه وابتعثه: أي أرسله.
وقال ابن فارس: "الباء والعين والثاء أصل واحد، وهو الإثارة، ويقال بعثت الناقة، إذا أثرتها".
وقال الأزهري: "والبعث في كلام العرب على وجهن: أحدهما: الإرسال، كقول الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} الأعراف 103 ويونس 75. معناه أرسلنا. والبعث أيضا الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البقرة 56، أي أحييناكم.
وأما البعث في الشرع: فهو إحياء الله سبحانه للموتى مرة ثانية من قبورهم، وإخراجهم منها، وعرضهم للحساب يوم القيامة ثم جزاؤهم إما الجنة وإما النار. والإيمان بالبعث يتضمن أموراً عدة:
ا- الإيمان بأن الله سبحانه يحي الموتى مرة ثانية، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء104، وقال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الحج 7.
2- الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب عباده، ويجازيهم على ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} الغاشية 25-26، وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الأنعام 165.(35/447)
3- الإيمان بالجنة والنار، وأن مآل العباد بعد الحساب إليهما، فالجنة للمتقين، والنار للمجرمين.
4- الإيمان بما يحدث بعد البعث من الأهوال والمواقف.
5- الإيمان بأن الله سبحانه لا يظلم أحداً، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء47.
أما ثمرة الإيمان بهذا فتتلخص في الآتي:
1- إن المسلم يعيش بين حالتين: الرجاء لما عند الله من الخيرات والخوف مما عنده من العذاب.
2- الجد في فعل الطاعات، والاستكثار منها.
3- الجد في الابتعاد عن المعاصي والإِقلاع عنها.
4- محاسبة النفس في كل ما تقدم عليه.
5- الإيمان بعظمة الله في إحياء الموتى.
الكلمات المرادفة لكلمة البعث.
ورد في القرآن كلمتان مترادفتان لكلمة البعث ومعناهما واحد.
الأولى: المعاد قال ابن فارس: "والمعاد: كل شيء إليه المصير، والآخرة معاد للناس، والله تعالى المبدي والمعيد، وذلك أنه أبدأ الخلق ثم يعيدهم" ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} القصص85.
قال الأزهري: "وأكثر التفسير في قوله "لرادك إلى معاد"لباعثك، وعلى هذا كلام الناس"أذكر المعاد أي اذكر مبعثك في الآخرة قاله الزجاج.
قال الأزهري: "ومن صفات الله سبحانه وتعالى: (المبدء المعيد) بدأ الله الخلق أحياء ثم يميتهم ثم يحييهم كما كانوا قال الله جل وعز: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وقال: إنه هو يبدأ ويعيده بدأ وأبدأ بمعنى واحد".
والثانية "النشور: قال الزجاج: "نشرهم الله أي بعثهم كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) ونشر الله الموتى فنشروا، أنشروا الموتى أيضا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (2) .
__________
(1) تهذيب اللغة 11/338.
(2) معجم المقاييس اللغة 5/420.(35/448)
إطلالات كلمة البعث في القرآن:
والبعث يطلق في القرآن على عدة معان متنوعة:
ا- يطلق ويراد به الاهام، كما في قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} المائدة 31.
2- يطلق ويراد به الإحياء في الدنيا، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البقرة. وكقوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} البقرة.
3- يطلق ويراد به اليقظة من النوم، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} الأنعام 60.
4- يطلق ويراد به التسليط، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الإسراء هـ.
5- يطلق ويراد به الإرسال، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} الجمعة 2. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} البقرة 129، وكما في قوله تعالى: {َابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} الكهف 19.
6-يطلق ويراد به النصب والبيان، كما في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} النساء35. وكما في قوله تعالى: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} البقرة 246. وكما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} البقرة 247.
7- يطلق ويراد به النشور من القبور، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الحج 7.
والبعث حق ثابت، لا مرية فيه ولاشك، وقد دل الدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} المؤمنون 15-16.(35/449)
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون 115.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} القصص 85.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (1) .
منهج القرآن الكريم في الاستدلال على البعث:
يتلخص المنهج القرآني في الاستدلال على البعث في ثلاثة أمور:
الأول: الشرع. والثاني: الحس. والثالث: العقل.
أما الشرع: فإن القرآن اعتنى بهذا المبدأ عناية عظيمة، وعرضه عرضا جليا لا خفاء فيه، وأكثر من ذكره حتى لا تكاد تقرأ سورة من سور القرآن الكريم إلا وتجد للبعث فيها ذكرا، سواء كان ذلك بعبارة صريحة، أو غير ذلك. وقد أقسم الله سبحانه على وقوع البعث والمعاد في عدة مواطن في كتابه فمن ذلك:
أ- قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهو يونس 53-56.
__________
(1) رواه البخاري في الرقاق باب الحشر 11/378،377 مع الفتح. ورواه مسلم في كتاب الجنة باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة رقم 56.(35/450)
2- وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} سبأ 3-5 وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} التغابن 7.
وهذه الآيات الثلاث لا رابع لهن في القرآن الكريم ولا نظير لهن، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهن، حيث أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ووجوده، ولاشك في ذلك {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) .
وأما الاستدلال بالحس على البعث، فيتلخص في الآتي:
أولا: إن الله سبحانه أرى عباده إحياء الموتى عيانا في الحياة الدنيا وقد ورد بيان ذلك في القرآن الكريم.
1- ما ذكره الله سبحانه في شأن بني اسرائيل مع موسى عليه السلام عندما امتنعوا عن الإيمان بالله تعالى حتى يروا الله جل شأنه جهرة - أي علانية - أو عيانا، فأرسل الله عليهم صاعقة تأخذهم، وهم ينظرون، ثم منّ الله تعالى عليهم بالإحياء والبعث مرة ثانية، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} البقرة 55،56.(35/451)
2- ما ذكره الله سبحانه في شأن القتيل المختلف فيه من قتله، فأبان الله تعالى أمره، حيث أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ثم يضربوه بعضو منها ولما فعلوا ذلك قام من مقامه وأوداجه تشخب دما، فسألوه: من قتلك؟ فقال فلان. فكان في هذا الصنيع أكبر دليل على عظمة الله تعالى، وقدرته على بعث الموتى، بما رأوا وشاهدوا، كما فيه الحجة القاطعة عليهم في وقوع البعث والمعاد مرة ثانية. قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} البقرة 72-73.
3- ما أخبر الله سبحانه به عن القوم الذين فروا من الوباء بعدما استوخموا أرضهم، وأصابهم منه وباء شديد، ففروا إلى مكان آخر من البرية هربا من الموت، فلما تكاملوا جميعا كتب الله عليهم الموت، فماتوا ثم أحياهم الله مرة ثانية، وفي هذا أكبر دليل على وقوع المعاد، وإعادة الأجسام وبعثها بعد فنائها. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} البقرة 243.(35/452)
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فرارا من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا مابين عدوتيه، فأرسل الله إليهم ملكين: أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة، ففنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر، مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وعصبا وجلدا فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت، وكان في إحيائهم عبرة، ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة".اهـ
4- ما أخبر الله سبحانه به من قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فلما تفكر فيما آل إليه أمرها بعد بنائها وعظمتها استبعد إحياءها مرة ثانية، فجعل الله تعالى له العبرة منه وفيه وفي من حوله فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فرأى بأم عينيه أعظم آية تدل على المعاد.(35/453)
قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 259.
5- ما أخبر الله به سبحانه من قصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة التي أُمِرَ عليه السلام بتقطيعهن، وجعلهن أجزاء على عدد من الجبال ثم دعوتهن، فعدن أحياء مرة ثانية كما كن من قبل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة 260.
6- ما حكاه الله سبحانه في شأن قصة أصحاب الكهف، حيث كتب الله عليهم النوم في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم بعثهم بعد ذلك لم يتغير منهم شيء.
قال ابن كثير رحمه الله: "ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث، في أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح، ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.(35/454)
وقد سطر الله أمرهم في كتابه العزيز فقال سبحانه {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} الآية الكهف 19.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} الآية الكهف 12.
7- ما أخبر الله سبحانه - به عن عيسى بن مريم - عليه السلام - في قصة إحيائه للأموات، قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية آل عمران 59. وقد ذكر أهل العلم بالتفسير أن عيسى - عليه السلام - أحيا أربعة أنفس بإذن الله وهذه من الآيات المعجزات والتي لا سبيل لأحد في إيجادها إلا بتأييد من الله تعالى، وفي الوقت نفسه برهان واضح على أن الله تعالى قادر على الإِحياء للخلق مرة ثانية فما دام أن المخلوق استطاع بإذن الله على ذلك فالخالق من باب أولى.
ثانيا: الاستدلال القرآني على البعث بالنشأة الأولى:
وذلك في عدة مواضع من القرآن الكريم:
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئا..} الخ الآيات سورة الحج هـ.(35/455)
يقول ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم، اتباعا منه للشيطان المريد، وتنبيه له على موضع خطأ قيله، وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه، قال يا أيها الناس إن كنتم في شك في قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم عليه السلام من تراب، ثم إنشائنا لكم من نطفة آدم، ثم تصريفنا لكم أحوالا حالا بعد حال، من نطفة إلى علقة ثم من علقة إلى مضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلمون أن من قدر على ذلك، فغير متعذر عليه إعادتكم بعد فنائكم، كما كنتم أحياء قبل الفناء".
2- قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الروم 27.
قال ابن جرير: "والذي له هذه الصفات تبارك وتعالى، هو الذي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه، ويوجده بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه بعد فنائه، وهو أهون عليه".
3- قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يس 77-79.(35/456)
وقد ورد في سبب نزولها أن بعض منكري البعث من المشركين حمل في يده عظما باليا ففته أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذراه في الهواء ثم سأله سؤال استنكار واستهزاء وسخرية: هل يستطيع ربك بعث هذا وإحياءه؟، وذكرت الروايات أن النبي عليه السلام أجابه بقوله: "نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم"، وفي رواية: "نعم، يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار" (1) .
4- قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء104.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قام فينا رسول الله عليه السلام خطيباً بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} " (2) الخ الأنبياء 104.
5- قال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً} الاسراء49-52.
6- قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ق 15، ومعنى الآية أن الخلق الأول للإنسان لم يعجزنا، أو يعيينا، فالخلق الجديد الثاني يكون أهون وأسهل.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 5/631.ط دار الفكر.
(2) رواه مسلم في صفة الجنة رقم 58 والبخاري في الرقاق باب الحشر 11/377.(35/457)
7- قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} الواقعة 57-62. يقول ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مقررا للمعاد ورادا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد من الذين قالوا: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وهو وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد".
8- قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} القيامة 36-40.
نقل ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات معان لأهل العلم، فقال السدي: "يعني لا يبعث"، وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "يعني لا يؤمر، ولاينهى". قال ابن كثير: "والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولاينهى، ولابترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة، والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد، ولهذا قال تعالى مستدلا بالبداءة، فقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين، ثم قال: أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه" أهـ.(35/458)
9- قال تعالى: {وَيَقُولُ الأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً. أَوَلا يَذْكُرُ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} مريم 66-67.
قال ابن كثير: "يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئا، أفلا يعيده وقد صار شيئا".
10- قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الرعد هـ
ثالثا: الاستدلال القرآني على البعث بإحياء الأرض بعد موتها:
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة 22.
وإحياء الأرض بعد موتها من الأمثال التي يكثر ذكرها في القرآن، وتعتبر من البراهين المشاهدة المحسوسة على البعث بعد الموت، فأرض قحلة وخاشعة ومجدبة ينزلق عليها الماء فإذا هي جميلة المنظر تسر الناظرين، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
2- قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصلت 39.(35/459)
قال ابن كثير في تفسيرها: وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي الدالة على قدرته على إعادة الموتى {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} أي هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي أخرجت من ألوان الزروع والثمار {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اهـ.
3- قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَْ} الأعراف 57. قال ابن كثير: "أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، ينزل الله سبحانه وتعالى من السماء ماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض، وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها، ولهذا قال: {َلعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَْ} (1) .
4- قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} الروم 19.
5- قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الروم 24.
6- قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الروم 50.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/181.ط دار الفكر.(35/460)
7- قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} يس 33.
8- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الحج 5-7.
9- قال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} فاطر 9.
10- قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} الزخرف 11.
11- قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} ق 9-11.
رابعا: الاستدلال القرآني على البعث بآيات الله العظمى كالسماوات والأرض:(35/461)
أ- قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُوراً} الا سراء98- 99.
2- قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ, إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يس 81-83
3- وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} غافر 57.
4- وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الأحقاف 33.
خامسا: الاستدلال القرآني على البعث بأسمائه وصفاته وآثارهما:(35/462)
فمن أسمائه: الحكيم والعدل، فمن حكمة الله وعدله أنه يحق الحق ويبطل الباطل ويميز الخبيث من الطيب ويعطي كل ذي حق حقه {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وقد قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} والخلق في الحياة الدنيا يظلم بعضهم بعضا فمنهم من يموت ظالما ومنهم من يموت مظلوما، فلابد إذن من يوم يحضر الجميع فيه بين يدي الله ليقتص من الظالم للمظلوم ولينال كل من المحسن والمسيء جزاءً، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1) .
__________
(1) محاضرات في التفسير الموضوعي ص 47-48 لعبد اللطيف نصار.(35/463)
دراسة أهل الكتاب
أولا: عقيدة أهل الكتاب في الله جل جلاله:
إن عقيدة أهل الكتاب في ربهم عقيدة فاسدة تنبئ عن طوية سيئة، وقول مشين، وضلال مبين، ولولا أن القرآن ذكرها لما تجرأ القلم بذكرها خجلا وحياء وخوفا وذلا ورغبة ورهبة من فاطر السماوات والأرض. وإن قولهم المشين لتنشق منه السماء وتنهد منه الجبال لما فيه من الكذب الصراح والبهتان الواضح، فاستحقوا غضب ربهم ولعنة خالقهم ومسخهم قردة وخنازير.
إن أهل الكتاب أخفوا كثيرا مما أنزل إليهم ظلما وعدوانا وقد نبه عنه سبحانه فقال جل شأنه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15-16.
وإن أهل الكتاب أعظموا الفرية على ربهم فيما نسبوا إليه من الولد والصاحبة وغير ذلك من الزور والبهتان فمن عقيدتهم في ربهم: ادعوا أن لله سبحانه ولدا.
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة 116-117.(35/464)
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} مريم 88-93. وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الصافات 152. نعم إن قولهم هذا لأفك عظيم والذين تولوا كبره هم أهل الكتاب عليهم لعائن الله، وقد ورد تفصيل نوعية ذلك الولد المزعوم في مواطن من القرآن الكريم.
فاليهود زعموا أن عزيرا هو ابن الله سبحانه والنصارى زعموا أن عيسى هو ابن الله. وهذا صادر من أهل الكتاب مضاهاة لقول الكافرين من قبلهم.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ} التوبة 30.
إنها مقالة شنيعة، وفرية كبيرة تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً ثم تطور هذا الزعم الباطل إلى أن جعلوا أنفسهم هم الأنبياء والأحباء لله دون غيرهم.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المائدة 18.(35/465)
قال ابن كثير: "ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري فحملوا هذا على تأويله وحرفوه، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ربي وربكم ".
ثم تطور هذا الزعم الكاذب إلى أن ادعى النصارى أن عيسى ابن مريم عليهما السلام هو الله سبحانه قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدة 17. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة31. وزعمهم أن الله سبحانه فقير وادعاؤهم أنهم أغنياء.
قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} آل عمران 181.
زعموا أن الله فقير وأنه سبحانه بحاجة إليهم وزعموا أنهم ليسوا بحاجة إليه سبحانه فرد الله عليهم قولهم.
وصف اليهود الله سبحانه أن يده جل شأنه مغلولة. أي بخيلة.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} المائدة 64.(35/466)
وفسر السلف قولهم المشين {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي بخيلة.
قال ابن عباس: لايعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
قال ابن كثير: "وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدى والضحاك " وقد رد الله تعالى عليهم هذه المقالة المزعومة بقوله سبحانه: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} .
فهم البخلاء بأموالهم كما قال في حقهم {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} النساء53.
ثانيا: موقفهم من الملائكة:
إن عقيدة اليهود في الملائكة عقيدة كافرة لا خير فيها لكونهم كفروا ببعض وادعوا بعضا آخر فقالوا: جبريل عدونا وميكائيل ولينا. وهذا تفريق بين المتماثلات بدون بيان ولا برهان، وإنما بناء على زعمهم الباطل أن جبريل يأتي بالشدة وسفك الدماء وميكال يأتي بالخير والرخاء والخصب والمطر.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كَانَ عَدُوّاً لله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} البقرة 97-98.
قال الطبري "أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكال ولي لهم..".(35/467)
قال ابن كثير: "من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أو الآيتين. فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (1) انتهى.
كشف حال أهل الكتاب:
شدة عداوة أهل الكتاب للمؤمنين:
قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} البقرة 105. هذا النص يثبت لنا عداوة اليهود والنصارى لعباد الله المؤمنين عداوة قلبية، وهي أشد وأنكى من العداوة القولية. وإن كان قد اجتمع في أهل الكتاب العداوات الثلاث، القلبية والقولية والفعلية، كما يتبين إن شاء الله.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/ 231) . ط دار الفكر.(35/468)
ولقد حكم الله عليهم بالكفر لجحدهم وسترهم ما من الله به عليهم من الحق والهدى والنعمة والعطاء وهذا اللؤم والخبث المتمكن من قلوبهم المغلفة ونفوسهم الملتوية جعلهم لا يحبون ولا يتمنون أي خير ينزل على عباد الله المؤمنين بل يكرهون ذلك ويبغضونه ولذا صدر هذا النص ب (ما) النافية. وقوله سبحانه {مِنْ خَيْرٍ} نكرة وردت في سياق النفي فتعم.
قال الشوكاني: "والظاهر أنهم لايودون أن ينزل على المسلمين أي خير كان، فهو لا يختص بنوع معين كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي، وتأكيد العموم بدخول (من) المزيدة عليها، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص ".
حرصهم على فتنة المؤمنين في دينهم والتشكيك فيه والتربص بهم.
قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 109.
وقال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وهو آل عمران 69.
وقال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} آل عمران 72.(35/469)
إن هذا الخبر من الله سبحانه يحمل في طياته التحذير لعباده المؤمنين من عباده الجائرين الذين جبلت نفوسهم على الخبث والحسد، واللؤم والنكد، والعداوة والبغضاء لمن خالفهم أو امتاز عنهم بشيء من فضل الله ورحمته {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد 28. والتحذير من سلوك طريقهم، أو الوقوع في شراكهم، فإن عداوتهم معلومة في الظاهر والباطن، وقد علل الله سبحانه تمنيهم الخاسر بالحسد المتأصل في نفوسهم للخير الذي أنزل على المؤمنين من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء من الهدى والطريق المستقيم.
وقد وردت روايات في السيرة تبين بعض مواقف الملأ من يهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف وغيرهم من جلامدة الكفر وصناديد الظلم (وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان، فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز الإيمان ويرتد إلى الكفر، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد واللسان) ومع هذا أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم والصبر على ما يلاقونه من أهل الظلم والطغيان حتى يفتح الله بينهم جميعا وهو خير الفاتحين.(35/470)
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 109. وكان رسوله الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش" إن هذه الأساليب الماكرة، والصادرة من الكثرة أو القلة أو الطائفة من أهل الكتاب عائدة نتائجها على أصحابها، إنهم يمكرون بغيرهم، وهم ممكور بهم {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} إنهم حاولوا إضلال المسلمين مجاهرة لكنهم لم يستطيعوا فحاولوا إضلالهم بالمخادعة ليلبسوا على الضعفاء من المسلمين أمر دينهم فاشتوروا ورأوا أن يؤمنوا أول النهار بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويكفروا آخره حتى يزعزعوا الثقة في قلوب المسلمين ويوقعوا الإرجاف في صفوفهم {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} الكهف هـ.
يقول ابن كثير "هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ولهذا قالوا: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .
وذكر نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة والسدى والربيع وأبي مالك.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2/56، 57. ط دار الفكر.(35/471)
كما عقدوا العزم، وتواصوا بالباطل ألا يكشفوا أسرارهم ويطمئنوا إليه إلا لمن تبع دينهم وسلك طريقهم ووقع في ضلالهم خوفا من إقامة الحجة عليهم بما عندهم، وكفرا بالآيات البينات الواضحات وحسدا من عند أنفسهم أن يمتاز عليهم غيرهم.
قال تعالى: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} آل عمران 73-74.
وقد رد الله سبحانه عليهم مؤامراتهم الكاذبة وبين أن الهدى والفضل بيده سبحانه
وأن الأمور كلها تحت تصرفه فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
يقول ابن كثير عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} .
"أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع، يمن على من يشاء بالإِيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة التامة والحكمة البالغة".
التعنت والعناد والكفر والإِلحاد:
إن المتتبع لسيرة أهل الكتاب من خلال النصوص القرآنية وغيرها يجد أنهم أهل نفوس ملتوية، وقلوب مجخية، عنادهم ظاهر وتعنتهم باهر، وكفرهم واضح، وإلحادهم جلي وخفي.
قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} الآية النساء153.(35/472)
وهذه الآية تفسرها آية البقرة وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} البقرة 55، 56. إنهم قوم يجهلون عظمة الله سبحانه وعظيم آياته، وانظر إلى موقفهم المشين عندما منّ الله تعالى عليهم بمجاوزة البحر قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأعراف 138-139.
ومن تعنتهم وجهلهم اتخاذهم من حليهم عجلا نصبوه إلاها يعبدونه من دون الله, قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف 148 -149. وقد توعد الله تعالى هؤلاء المماحكين بالغضب من عنده وبالذل والصغار في الحياة الدنيا جزاء ما افتروه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الأعراف 152.
الغلو والإطراء في الدين:(35/473)
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى الله إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً} النساء 171.
يقول ابن كثير: "ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياها، فنقلوه من خير النبوة إلى أن اتخذوه من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيه العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالاً أو رشادا أو صحيحا أو كذبا، ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله} الآية. انتهى.
وخوفا من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب من الغلو والإطراء جاء التوجيه النبوي من المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله " (1) .
__________
(1) رواه البخاري في الأنبياء باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} 6/478 مع الفتح عن عمر.(35/474)
وفي رواية "أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " (1) . ولذا حكم الله سبحانه بكفر الذين جعلوا الله سبحانه هو المسيح ابن مريم. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدة 17.
قال ابن كثير: "يقول الله تعالى مخبرا وحاكيا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم وهو عبد الله، وخلق من خلقه أنه هو الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
التبديل والتحريف والتأويل الباطل والافتراء الكاذب:
إن هذه الكلمات الأربع (التبديل، والتحريف، والتأويل، والافتراء) في أهل الكتاب سمة واضحة ولذا قال الله تعالى مبيناً عوارهم وكاشفا فضائحهم وأسرارهم. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15، 16.
__________
(1) رواه أحمد في المسند 3/153، 241 من حديث أنس رضي الله عنه، ورواه أيضاً في المسند 4/ 25 وأبو داود في الأدب باب كراهية التمادح 5/ 154 من حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير.(35/475)
وقد أخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} فكان الرجم مما أخفوه. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدة 19.
وقال تعالى منكرا على المؤمنين أو متعجبا من طمعهم في إيمان أهل الكتاب بقوله سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} البقرة 75.
ومن تحريفهم ما ورد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة 104.
وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} النساء 46.(35/476)
وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلّموا إنما يقولون السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم، وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا (1) انتهى.
إنهم يوهمون السامع أنهم يقولون حقا فإذا تمعنت فيما قالوا علمت فساد قولهم الناتج عن فساد قصدهم وخراب فهمهم.
ولقد حرفوا كلمة راعنا وجعلوها مشتقة من الرعونة أو من السخرية، كما حرفوا كلمة السلام إلى السام. ولذا غضبت عائشة رضي الله عنها لما سمعت منهم ذلك وشتمتهم ولعنتهم كما ثبت عنها ذلك في الصحيحين قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم قالت عائشة ففهمتها فقالت: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" فقالت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلت وعليكم؟ (2) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/ 259- هـ 26. ط دار الفكر.
(2) رواه البخاري في الأدب باب الرفق في الأمر كله 10/ 449 مع الفتح وهو في مسلم أيضاً.(35/477)
لقد فسدت فهومهم وساءت تصرفاتهم في آيات ربهم فتأولوا كتاب الله على غير ما أراده الله وأنزل فاستحقوا لعنة الله تعالى فقال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المائدة 13. قلوب قاسية، وخيانة مستمرة إلا من عوفي منهم وقليل ما هم فلا تلين لموعظة ولا تسمع لنداء ولا تستجيب لأمر ولا تقف عند نهى. ومن تبديلاتهم الكاذبة ما ورد في قصة الرجم في حق الزانيين قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} المائدة 41.
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلالوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والاركاب على حمار مقلوبن، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم، تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوه عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك" اهـ.(35/478)
وقال القرطبي: "قال علماؤنا رحمة الله عليهم- نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية، وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله ليقبلوها عنهم، فتتأكد رياستهم، وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها.. " اهـ.
وهذا التبديل والتحريف كما هو ثابت عنهم في القرآن الكريم، كذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبدا لله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة". وهذا لفظ البخاري.(35/479)
وفي رواية له "فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا نسخم وجوههما ونخزيهما. قال "فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاءوا فقالوا لرجل منهم مما يرضون أعور: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم تلوح. قال يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما". وعند مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسوله الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: "ماتجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسود وجوههما ونحممهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: "فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقن " قال: فجاؤا بها فقرءوها حتى إذا مر بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ مابين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
قال عبد الله بن عمر: "كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه".(35/480)
وعن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال لا والله ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقالوا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه. قال فأمر به فرجم قال فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وهو قال في اليهود {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال في الكفار كلها".
ومن افتراءاتهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة تحريفهم لكتاب الله تعالى وينسبون ذلك الكلام المحرف إلى الله سبحانه تمويها للناس وتضليلا عليهم.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران 78.(35/481)
يقول ابن كثير: "يخبر الله تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ولهذا قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) اهـ.
الادعاءات الكاذبة والأماني الفاسدة:
عندما يظهر الانهزام على شخص ما أو جماعة أو دولة ما يبحث عن مبرر لإثبات وجوده في محاولة إقناع الآخرين من خلال ذلك المبرر الذي اختاره أو التهويش الذي لا يأوي إلى ركن شديد خوفا على سقوط مكانته الاجتماعية وإصرارا منه على عدم تطويع نفسه على قبول الحق والانقياد له حسدا وكبراً. وهذا ما وقعت فيه اليهود لما رأت محمدا صلى الله عليه وسلم ينشر دعوته بوضوح وبرهان ورأوا إقبال الناس والوفود عليه مستسلمين طائعين بدأوا ينشرون التغرير الكاذب في صفوف الناس ويدعون الأماني الكاذبة، فمن ذلك:
أولا: ادعوا أنهم أهل الجنة فقط ولا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى.
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} البقرة 111.
ثائيا: ادعوا أنهم أهل الهداية والملة القويمة. ويريدون من محمد صلى الله عيه وسلم وأتباعه اتباعهم لكي يهتدوا.
قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} البقرة 134.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2/26. ط دار الفكر.(35/482)
أخرج ابن إسحاق بسند فيه نظر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله ابن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عيه وسلم ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} (1) .
ثالثا: ادعاؤهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لا يغرهم ذنب ارتكبوه، وهم كاذبون فيما ادعوا ومحرفون لما نطقوا به.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المائدة 18.
أخرج ابن إسحاق بسند فيه نظر عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آصا، وبحر بن عمرو، وشاس بن عدي فكلموه. وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته.
فقالوا ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى. فأنزل الله فيهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ..} إلى آخر الآية.
رابعا: ادعاؤهم أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة كذباً وزورا.
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ. بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة 80، 81.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/328 ط دار الفكر.(35/483)
أخرج ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن اليهود كانوا يقولون هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، إلى قوله {خَالِدُونَ} (1) .
ويقول ابن كثير: "يقول تعالى: (إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينجون منها فرد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} أي بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى ب "أم "التي بمعنى. بل أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
خامسا: ادعاؤهم وزعمهم أنهم أغنياء وأنهم ليسوا بحاجة إلى الله سبحانه بل الله جل شأنه بحاجة إليهم فوصموه سبحانه بالفقر، وافتروا عليه أنه أباح لهم الربا.
قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} آل عمران 181، 182.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/206 ط دار الفكر.(35/484)
أخرج ابن إسحاق بسند فيه نظر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- المدراس فوجد من يهود أناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه جد يقال له أشيع فقال أبو بكر: ويحك يا فنحاص. اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وإنه إلينا لفقير ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطنا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا.
فغضب أبو بكر- رضي الله عنه- فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً وقال والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبصر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت؟ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عدو الله قد قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص رداً عليه وتصديقاً لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ..} . الآية.
إن هذا سوء تصور عن الله سبحانه وسوء أدب معه جل شأنه.
سادسا: افتراؤهم على الله سبحانه أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسوله حتى يأتي بقربان تأكله النار ثم بعد ذلك يؤمنوا.
وهذا فيه كغيره تغرير بالأميين منهم ومن غيرهم وتشكيك في صحة وصدق نبوة محمد صلى عليه وسلم حتى يأتي ويتحقق ما قذفوه في روع السذج ولن يتحقق لأنه باطل وزور وبهتان.(35/485)
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} آل عمران 183.
يقول ابن كثير: "يقول تعالى تكذيبا- أيضاً- لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما".
ويقول سيد قطب: "وهي مجابهة قوية تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله ".
سابعا: قولهم الباطل "ليس علينا في الأميين سبيل ".
ويقصدون بالأميين. العرب وهذه الفرية المكشوف عوارها والأكذوبة الموتورة أرادوا من ورائها أكل أموال الناس بالباطل وأنها حلال لهم.
قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران 75.
يقول ابن كثير:
"يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم فإن منهم (من إن تأمنه بقنطار أي من المال (يؤده إليك) ...
ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه ".
ثامنا: ادعاء كل طائفة من أهل الكتاب أن إبراهيم- عليه السلام- منهم.(35/486)
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} آل عمران 65-66.
يقول ابن كثير: "ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل- عليه السلام- ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم ".. وقال "هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم، وأمرهم برد مالا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها".
تاسعا: ادعاؤهم أنهم قتلوا المسيح- عليه السلام-.
قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء158.157.(35/487)
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قالت أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب فقال اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا فقالت: هو أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء قالت: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام.
قال ابن كثير "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحو وكذا ذكره غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة.
إن الدافع لهم على قتله عليه السلام كونه ذكر لهم أنه رسول الله فدفعهم الحسد دفعاً إلى التخلص منه ولذا قالوا من باب التهكم والسخرية والاستهزاء فيما حكاه الله تعالى عنهم {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه} .
عاشرا: دعواهم أن الله سبحانه هو المسيح- عليه السلام- تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولذا حكم الله بكفرهم.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المائدة 72.(35/488)
إن المسيح عليه السلام أول كلمة نطق بها وهو في المهد صغيرا قال إني عبد الله، وطلب عليه السلام من بني إسرائيل عبادة الله وحده وعدم الإشراك به في حال نبوته وكهولته فيهم. قال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} المائدة 72. ففي حال صغره وحال كهولته ديدنه عليه السلام المناداة بالعبودية لله بدءا بنفسه عليه السلام ودعوة لغيره.
وقد قال الله في حقه وحق أمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} المائدة 75.
وقال سبحانه أيضا: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} .
الحادي عشر: دعواهم أن الله سبحانه ثالث ثلاثة.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} المائدة 73.
ورد في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال.
الأول: أنها نزلت في اليهود والنصارى. وذلك عندما قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وصار الله سبحانه ثالثهم. تعالى الله عن هذا علوا عظيما. واستغرب هذا القول الحافظ ابن كثير في تفسيره وهو مروي عن أبي صخر عند ابن أبي حاتم.
الثاني: أنها نزلت في النصارى خاصة وهذا قول مجاهد وغيره وصححه ابن كثير في تفسيره.
ومرادهم الأقانيم الثلاثة، أقنوم الأب ثم الابن ثم أقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن.(35/489)
الثالث: أنها نزلت في كونهم جعلوا المسيح وأمه الصديقة الاهين مع الله جل شأنه. فصار الله ثالث ثلاثة.
قال ابن كثير: "وهذا القول هو الأظهر. وهو مروى عن السدي واستشهد له بقوله تعالى في آخر سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} المائدة 116.
الزكاة
في القرآن الكريم
تعدد ذكر الزكاة في القرآن الكريم في مواطن كثيرة مما يدل على أهميتها والعناية بها. والمتتبع لسور القرآن، المكي منها والمدني، يجد أن الزكاة ذكرت في النوعين، أعني: المكي والمدني، فهي من آكد العبادات بعد الشهادتين والصلاة، وقد قرنت بالصلاة كثيرا، كما سيأتي بيان ذلك.
قال ابن جرير: قال قتادة: وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإِسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردة بعد نبي الله قالوا: أما الصلاة، فنصلي، وأما الزكاة، فوالله لا تغصب أموالنا، قال أبو بكر: والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، والله لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه (1) .
ويقول ابن تيمية: وجعل الإِسلام مبنيا على أركان خمسة، ومن آكدها الصلاة, وهي خمسة فروض، وقرن معها الزكاة، فمن آكد العبادات: الصلاة وتليها الزكاة ففي الصلاة عبادته وفي الزكاة الإحسان إلى خلقه، فكرر فرض الصلاة في القرآن في غير آية، ولم يذكره إلا وقرن معها الزكاة (2) .
وقال تلميذه ابن كثير:
__________
(1) تفسير ابن جرير (24/93) .
(2) الفتاوى (25/6) .(35/490)
كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأمواال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه، والإِنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات الأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت"، والأحاديث في هذا كثيرة. انتهى.
وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} النساء77.
كان المؤمنون في ابتداء الإِسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النصب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم.
ويقول المراغي في تفسيره ما نصه:
"وقد فرضت الزكاة المطلقة في أول الإسلام، وكانت اشتراكية، والباعث عليها القلوب والضمائر، لا إكراه الحكام، ثم جعلت معينة محددة عندما صار للإسلام دولة، وسرُّ الوضع الأولى: أن جماعة المسلمين في مكة قبل الهجرة كانوا محصورين، ومنهم الموسر والمعسر، وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم.
ويقوله رشيد رضا:
فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك مقدارها ودفعها إلى شعور المسلمين وأرحيتهم، ثم فرض مقدارها من كل نوع من أول الأموال في السنة الثانية على المشهور.. اهـ.(35/491)
ويشهد لهذا قول الضحاك: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات: سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المثبتات.
ولقد وردت الزكاة في القرآن مجملة غير مفصلة ولا معروفة المقدار والأنصبة، لكن ثبت في السنة تفاصيلها وبيان مقدارها.
ولقد اعتنى القرآن بهذا الركن العظيم وتنوعت صيغه يا الدلالة عليه كما سيأتي بيانه، وكيفية الاعتناء بهذا الغرض في كتاب الله تتضح لنا وتتجلى الأمور التالية:
أولا: أهمية الزكاة في القرآن والعناية بها:
إن الله سبحانه تولى بنفسه العظيمة قسمتها وبيان حكمها، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة. 6. وأخرج أبو داود في سننه بسند فيه ضعف من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك (1) . وقال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية:
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إيّاه في قسم الصدقات، بيّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين.
ثانيا: أنها أحد أركان الإسلام الخمسة:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب من يعطي الصدقة 2/ 281 رقم 1630 وفي سنده الأفريقي فيه ضعف.(35/492)
فإن الزكاة المفروضة أحد مباني الإسلام الخمسة، كما ثبت ذلك النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (1) .
بل هي الركن الثالث من أركان الإسلام، جعلها الله قرينة للصلاة في مواطن كثيرة من كتابه الحكيم.
قال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة.
ثالثا: إن المرء يستحق أخوة الِإيمان والدخول في جماعة المسلمين إذا حقق ثلاثة أمور وهي: الشهادة والصلاة والزكاة، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} التوبة 11.
قال الزين ابن المنير معلقا على هذه الآية: لأنها تضمنت أنه لا يدخل في التوبة من الكفر وينال أخوة المؤمنين في الدين إلا من أقام الصلاة وآتى الزكاة. أهـ (2) .
رابعا: إن الله سبحانه لا يقبل توبة المشرك به إلا إذا حقق الثلاثة الأمور السابقة، وهي الشهادة والصلاة والزكاة.
قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} التوبة هـ.
يقول ابن كثير رحمه الله ت 774 هـ.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب دعاؤكم إيمانكم (1/ 49) مع الفتح طبعة السلفية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) تفسير القرآن العظيم (3/ 65) . ط دار الشعر.(35/493)
"ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه لا قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد للفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة". ويقول القرطبي رحمه الله:
"والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة، وهذا بين في هذا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة، وذكر معها لشرطين آخرين، فلا سبيل إلى الغائهما".
خامسا: إن البيعة على الإسلام لا تتم إلا بإيتاء الزكاة:
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب البيعة على إيتاء الزكاة، ثم ساق حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
يقول الزين ابن المنير رحمه الله معلقا على ترجمة البخاري: هذه الترجمة أخص من التي قبلها لتضمنها أن بيعة الإسلام لا تتم إلا بالتزام إيتاء الزكاة وأن مانعها ناقض لعهده، مبطل لبيعته (1) أهـ.
سادسا: كونها معلومة في كل دين من الأديان:
ا- قال الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} مريم 31.
2- وقال تعالى في شأن إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} مريم 55.
__________
(1) فتح الباري (3/267) .(35/494)
3- وقال تعالى في حق إبراهيم وذريته عليهم السلام: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء73.
4- وقال تعالى في أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا} البقرة 83.
5- وقال تعالى أيضاً: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} المائدة 12.
6- وقال تعالى في أهل الكتاب عامة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} البينة هـ
سابعا: إن القرآن حدد المصارف التي تصرف فيها الزكاة:
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة 65.(35/495)
وهذا النص يبين لنا أن الله سبحانه تولى أمر صرف الزكاة بنفسه العليّة وقسّمها وبين حكمها، ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فجزأها سبحانه بين هذه الأصناف الثمانية، وهذا يدل على العناية بأمر الزكاة وعظم شأنها، وأنه لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يتصرف في هذه الفريضة وفق استحسانه أو هوا5 أو رغبته سواء كان المعطى قريباً أم بعيداً.
وعن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك (1) .
ثامنا: كونها وردت في القرآن الكريم بصيغ متنوعة ومتعددة:
فقد وردت صراحة بلفظ الزكاة في عدة أماكن من القرآن الكريم.
ومرة وردت بلفظ الصدقة.
ومرة وردت بلفظ النفقة.
ومرة وردت بلفظ العفو.
وسيأتي بيان هذا كله إن شاء الله تعالى في باب معاني الزكاة في القرآن الكريم.
تاسعا: كونها مفروضة في العهد المكي جملة، ومفصلة في العهد المدني حيث ذكرت الزكاة صراحة في بعض السور المكية، مثل قوله تعالى في سورة المزمل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وفي سورة المؤمنون: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
__________
(1) رواه أبو داود في الزكاة باب من يعطي الصدقة وحد الغنى رقم 1630، وفي سنده الأفريقي فيه ضعف. وانظر تفسير ابن كثير (4/ 105) .(35/496)
ووردت في بعض السور الأخرى بغير لفظ الزكاة، كما في سورة الأنعام: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وفي سورة الذاريات: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، وفي سورة المعارج: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} إلى غير ذلك من السور المكية التي ذكرت فيها الزكاة صراحة، إلا أن الزكاة في ذلك العهد لم تفصل أحكامها، وتتضح مقاديرها، وتذكر شروطها، ويعرف مستحقها، لكن جاء في الآيات المدنية بيان مستحقيها، والحث على ايتائها. وبينت السنة المطهرة أحكامها ومقاديرها وشروطها. يقول ابن كثير في أول سورة المؤمنون ما نصه:
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} آية 141.
وقال في آخر سورة المزمل ما نصه:
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} : أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة، والله تعالى أعلم.
معاني الزكاة في القرآن الكريم(35/497)
تكرر لفظ الزكاة في القرآن الكريم حوالي اثنين وثلاثين مرة، وردت معرفة بالألف واللام في ثمانية وعشرين موضعا، ووردت منكرة في بقية المواضع، وفي أحد هذه المواضع المعرفة وردت في سياق واحد مع الصلاة، وإن كان يفصل بينهما آية واحدة، وذلك في أول سورة المؤمنون، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
وقرنت الزكاة بالصلاة في ستة وعشرين موضعا.
ووردت في القرآن الكريم بغير لفظها الصريح، كالإنفاق والصدقة والعفو وهي بمعنى الزكاة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
والقرآن الكريم لما عبر عن الزكاة بلفظها الصريح، لم يقصره ويحصره على الزكاة المفروضة، بل جعل له دلالات ومعان أخر، كما أنه لم يحصر أو يقصر التعبين عن الزكاة المفروضة بلفظ الزكاة الصريح، بل عبر عنها بألفاظ أخرى كما أشير إليه أعلاه.
يقول ابن العربي رحمه الله: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والحق والعفو. (1)
وقال: والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض.
ولنبدأ الآن في الشروع في بيان معاني لفظ الزكاة الواردة في القرآن الكريم بلفظ الزكاة أو مشتقاتها:
أولا: أطلق القرآن الكريم لفظ الزكاة، وأريد بها معان عدة
المعنى الأول: الزكاة المفروضة:
وهذا المعنى تكرر في القرآن في أغلب المواطن التي ذكر فيها لفظ الزكاة خاصة إذا كانت مقرونة بالصلاة، ومن ذلك:
ا- قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} البقرة 43.
قال قتادة: فريضتان واجبتان فأدوهما إلى الله. (2) .
وقال الطبري: أما إيتاء الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة.
وقال الحسن: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها مع الصلاة.
__________
(1) نقلاً عن فتح الباري (3/262) .
(2) تفسير ابن جرير (1/257) .(35/498)
وقال أبو محمد بن أبي حاتم وكذا روى عن عائشة.
وقال البغوي: أدوا زكاة أموالكم المفروضة وقال ابن عطية: والزكاة في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها.
وقال القرطبي: أمر أيضاً يقتضي الوجوب. والإيتاء: الإعطاء، ثم قال: واختلف في المراد بالزكاة هنا، فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها بالصلاة (1) ، وحكى أن هذا قول أكثر العلماء.
2- وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} البقرة 83.
روى ابن جرير بسند فيه ضعف عن الضحاك عن ابن عباس قال: إيتاء الزكاة ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها فكان ذلك تقبله، ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمر الله به وبينه له.
وقال أبو الليث السمرقندي: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} : المفروضة.
3- وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة 115.
قال مقاتل بن سليمان: يعني: أعطوا الزكاة المفروضة (2) .
4- وقوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} البقرة 177.
قال سعيد بن جبير: {وَآتَى الزَّكَاةَ} : يعني الزكاة المفروضة (3) .
وكذلك قال مسلم بن يسار.
وقال مقاتل بن سليمان: {وَآتَى} : وأعطى، {الزَّكَاةَ} : المفروضة (4) وكذلك فسرها أبو الليث السمرقندي.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (1/343-344) ، وابن كثير (1/ 85) .
(2) تفسير الخمسمائة آية ص 135.
(3) الدر المنثور (1/ 416-417) .
(4) تفسير مقاتل (1/ 157) .(35/499)
5- وقوله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة 277
قال ابن جرير: وآتوا الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم (1) .
وقال مقاتل بن سليمان: يعني: وأعطوا الزكاة من أموالهم (2) .
6- وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة ... الآية} النساء77.
قال ابن جرير: "ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق ذلك عليهم، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
وهذا السبب الذي ذكره ابن جرير ساقه بإسناده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا فأنزل الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... الآية} .
وهذا الحديث رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم وابن مردويه كما ذكر ذلك ابن كثير.
المعنى الثاني: المراد به الشهادة:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} فصلت 6-7.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الذين لا يشهدون لا إله إلا الله.
وقال عكرمة: الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
__________
(1) تفسير ابن جرير (3/106) .
(2) تفسير مقاتل (1/226) .(35/500)
قال ابن كثير: والمراد بالزكاة ههنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالآية المذكورة زكاة الأموال، وهذا مروي
عن قتادة والسدي.
وصوّب هذا القول الحافظ ابن جرير بناء على أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة، وقال ابن كثير: وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير، وفيه نظر، لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد، وهذه الآية مكية.
المعنى الثالث: إن المراد بها تزكية البدن، وتطهيره من الذنوب والمعاصي:
قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} مريم 31.
فسرت الزكاة في هذا الموضع بمعنيين:
الأول: أن المراد بها زكاة الأموال.
والثاني: تطهير الجسد من دنس الذنوب، وهو الذي مال إليه الحافظ ابن جرير.
ومنذ قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} مريم 13.
قال ابن جرير: الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه (2) . وكذلك قوله تعالى: بوليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبي!! ن واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلن وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ... الآية! هو البقرة 177. قال ابن كثير:
وقوله:! ووءاتى الزكاة! يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنية الرذيلة، كقوله: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها! والشمس 9-15، وقول موسى لفرعون: كوهل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى! والنازعات 8 ا-19. وقوله تعالى:! ووويل للمشركين الذين لأ يؤتون الزكاة! وفصلت 7.(36/1)
ويحتمل أن يكون المراد زكاة المالي، كما قال سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من اعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا ورد في الحديث عن فاطمة بنما قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم (3) أهـ.
(1) تفسير ابن جرير (16/ 81) ، وانظر زاد المسير (5/ 229) . (2) تفسير ابن جرير (57/16) .
(3) تفسير ابن كثير (1/ 299) .
ثانيا: عبر عن الزكاة في القرآن الكريم بغيريفظها الصريح، وهو أنلا:
ا- أطلق لفظ الصدقة والمراد به الزكاة:
قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمسحن والعاملن عليها والمؤلفة قلويهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله "والله علينم حكيم وهو التوبة 60.
فقوله: (فريضة من الله وهو: أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه.
ومن ذلك قوله تعالى:! وومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن
لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وهو التوبة 58.
وقوله تعالى:! وخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم وهو التوبة 103.
وقوله تعالى:! ويمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لايحب كل كفار أثيم! البقرة 276.
2- الإِنفاق: أطلق وأريد به الزكاة، ومن ذلك:
قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون! البقرة 3
وقوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم وهو التوبة 34.
من أوجه اليسر في الزكاة:
أولا: كون الزكاة مفروضة في الأموال الفضليّة دون الأموال المعدة للقنية والاحتياج (كالمنزل الذي يسكنه والعقار الذي يحتاج إليه والأواني والفرش والأثاث التي يستعملها، وعبيد الخدمة وحيوانات العمل) (1) .
ثانيا: أن ايجابها مشروط بشرطين:
أ- بلوغ النصاب.
2- أن يحول عليه الحول.
(1) إرشاد أولى البصاثر والألباب للسعدي ص 71.(36/2)
ثالثا: أمر الشارع بالتوسط في أخذ الزكاة، فلا يؤخذ من المزكى كرائم ماله، ولا الرديء المغمض فيه.
رابعا: فرق الشارع الحكيم في الزكاة في الخارج من الأرض من الثمار فما خرج منها بمؤنة كسقي ففيه نصف العشر، وما خرج منها بلا مؤنة كسقي المطرففيه العشر، وهذا مشروط بأن تبلغ ثلاثمائة صاع فصاعدا.
خامسا: ما عثرعليه من دفن الجاهلية سواء كان كثيرا أوقليلا ففيه الخمس، وهو المعروف بالركاز، للحديث المتفق عليه: في الركاز الخمس (1) ، وهذا من اليسر، حيث لم يأخذه كله أو نصفه.
سادسا: أوجب الشرل الزكاة في الخارج من الأرض من الثمار عند حصاده، لقوله تعالى:! الووءاتوا حقه يوم حصاده! الأنعام 141، وهذا فيه يسر من ناحيتين:
الأولى: يسر اخراجه على مالكه.
والثانية: تعلق طمع المحتاج إليه في تلك الحالة (2) .
سابعا: لم يوجب الشرع الزكاة في بهيمة الأنعام حتى تبلغ النصاب المقدر شرعا
(ثم من تسهيله لم يوجب ثا هذا النوع حتى تتغذى بالمباح، وتسوم الحول أوأكثره، فإذا كان صاحبها يعلفها، فلا يجمع عليه بين مؤنة العلف وايجاب الزكاة عليه (3) .
الاَثار المترتبة على أداء الزكاة:
أولا: تحقيق الطاعة والعبودية لله سبحانه، والِإتباع لرسوله علميه، قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيمامهو الأحزاب 71.
ثانيا: كونهاتطهيراللنفس وتزكية لها.
قال تعالى:! وخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..! التوبة 103.
(1) رواه البخاري في الزكاة باب في الركاز الخمس 1/ 465 ومسلم في الحدود باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار 1334/3 رقم 45، 46.
(2) إرشاد أولى البصائر والألباب ص 73.
(3) المصدر السابق ص 73.
يقول ابن سعدي رحمه الله: ولهذا سميت زكاة لأنها تزكى صاحبها فيزداد إيمانه
ويتم إسلامه.
ثالثا: كونها تطهيراً للمال وزيادة يا نمائه وسببا في بركته:
قال تعالى: (وماءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون مهو
الروم 39.(36/3)
وقال تعالى:! ويمحق الله الربا ويربب الصدقات وهو البقرة 268.
وقال تعالى:! ووما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازق!! ن وهو سبأ 39.
رابعا: القضاء على الشح فإنه خصلة ذميمة وخلق سيء:
قال تعالى:! الووكان الانسان قتوراً! هو الِإسراء100.
وقال تعالى:! ووأحضرت الأنفس الشح وهو النساء128.
والإِقتار والشح قيود للإِنسان وعبودية، والمطلوب منه أن يكسرتلك القيود ويخلص العبودية لخالقه، فبإخراجه الزكاة طيبة بها نفسه خالصة بها نيته علو وارتفاع.
خامسا: التعود على الِإنفاق والبذل والعطاء.
والِإنفاق خصلة كريمة، وصفة رفيعة، وخلق جميل، ضد الشح تماما، بل هو علامة على الإِسلام والإِيمان والتقوى.
قال تعالى:! والذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وهو
البقرة 3.
وقال تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا
لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم أو الأنفال 2، 3.
يقول عبد القادر عودة:
"على أن الإِنفاق يعتبرها الاسم أصلا من أصول البر، أي الخير، فلا يتم الخيرإلا بالِإنفاق، لقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر منءامن بالله واليوم الاَخر والملائكة والكتاب والنبي!! ن وءاتى المال على حبه ذوي القربى
واليتامى والمساكن وابن السبيل والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون! (1) .
ولقد ورد الحث على الِإنفاق في القرآن في مواطن متعددة، ومن أهم ذلك أن القرآن المكي اعتنى بهذا الخلق العظيم:
قال تعالى:! ووالذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما
ر زقناهم ينفقون! الشورى 38.
وقال تعالى:! ووالذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم لأبو المعارج 25.(36/4)
وقال تعالى:! وفأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ومايغني عنه ماله إذا تردى! الليل 5- اا.
وقال تعالى:! ووسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلأ ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى كان (2) .
سادسا: كونها عونا لأهل الحاجات ورفعا لكرامتهم وصونا لها:
يقول القرضاوي: والزكاة بالنظر لأخذها تحرير للِإنسان مما يمس كرامة الإِنسان، ومؤازرة عملية ونفسية له في معركته الدائرة مع أحداث الحياة، وتقلبات الزمان، فمن الذي يأخذ الزكاة ويستفيد منها من الأفراد:
إنه الفقيى الذي أتعبه الفقر.
أو المسكين الذي أرهقته المسكنة.
أو الرقيق الذي أذله الرق.
أو الغارم الذي أضناه الدين.
أو ابن السبيل الذي أبأسه الانقطاع عن الأهل والمال (3) .
(1) المال والحكم في الِإسلام، ص 52 ط 4، الدأر السعودية للنشر. (2) انظر فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 59 هـ 862) .
(3) فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 872) .
الصوم في القرآن الكريم
فرض الله سبحانه الصوم على هذه الأمة كما فرضه على الذين من قبلهم، طاعة لربهم، ووقاية لهم من الذنوب والمعاصي: قال تعالى: (يا أيها الذينءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وهو البقرة 183.
والصوم سوأء كان فرضا أو نفلًا له فضل عظيم عند الله، بينت السنة الصحيحة
ثوابه ومنزلته.
ففي الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله سظ أن النبيء! ييهأ
قال: إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لايدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون، فإذا أغلق عليهم لم يدخل منه أحد (1) .
ومن فضل الصوم أن الله سبحانه تولى الجزاء عليه، وأضافه إليه سبحانه:(36/5)
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ع! حم قال: "والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يقول الله عزوجل: إنها ترك شهوته وطعامه من أجلي فالصيام لي، وأنا أجزي بهإ (2) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي لمج! ها قال: من صام
يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النارسبعين خريفا (3) .
قال القرطبي:
وإنما خص الصوم بأنه له، وإن كانت العبادات كلها له، لأمرين باين الصوم بهما
سائر العبادات:
أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها، مما لايمنع منه سائر
العباد ات.
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري (33/2 1) السلفية، ومسلم في الصوم 8/2 0 8 رقم 66 1.
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري (2/ 125) السلفية ومسلم لا الصوم 806/2 رقم 161، 164. (3) صحيح مسلم كتاب الصوم 808/2 رقم 168.
الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه، لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا
به، وماسواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره، وقيل غيرهذا (1) .
تعريف الصوم لغة وشرعاً:
يطلق الصوم في اللغة على الكف والِإمساك عن الكلام، ومنه قوله تعالى عن مريم عليها السلام:! الوإني نذرت للرحمن صوما فلن كلم اليوم إنسيا! ومريم 26.
ومنه قول النابغة الذيباني:
خيل صيام وخيل غيرصائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
قال ابن فارس في مادة صوم:
الصاد والواو والميم أصل يدل على امساك وركود في مكان، من ذلك صوم الصائم،
وهو امساكه عن مطعمه ومشربه وسائرمامنعه، ويكون الامساك عن الكلام صوما (2) . وأما في الشرع، فهو الِإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر حتى غروب الشمس، كما حدده الشارع الحكيم.
قال تعالى:! ووكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل! البقرة 187.(36/6)
قالط القرطبي: وتمامه وكماله باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه الصلاة والسلام: من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " (3) .
معاني الصوم في القرآن:
يطلق الصوم في القرآن الكريم على معنيين:
الأول: الصوم الشرعي المعروف الذي هو الِإمساك والكف عن الأكل والشرب
(1) الجامع لأحكام القرآن (2/ 274) . (2) معجم مقاييس اللغة (323/3) .! 3! الجامع لأحكام القرآن! 273/2!.
والجماع، من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، ومنه قوله تعالى:! الويا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وهو البقرة 183. وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه مهو البقرة 185.
الثاني: الصمت والكف عن الكلام.
ومنه قوله تعالى: حالو إني نذرت للرحمن صوما فلن كلم اليوم إنسيا! هه (1) مريم 26.
عناية القرآن الكريم بالصوم:
تتجلى العناية القرآنية بالصوم في الأمور التالية:
أولا: إن الصوم كان مفروضا على الأمم السابقة.
ثانيا: إن الصوم مفروض على هذه الأمة، وهذه زيادة في العناية به على من سبق،
ويدل على هذين الأمرين قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وهو البقرة 183.
ثالثا: إن الصوم مفروض على المريض والمسافر، لقوله تعالى:! الوفمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر! هو البقرة 184.
وهذا يدل على الاهتمام والعناية به، حتى في حالات الطوارىء التي تطرأ على الإِنسان.
رابعا: تعدد أنواعه يا القرآن الكريم كما سيأتي بيانه.
أنلا الصيام في القرآن الكريم:
أولا: صوم الفرض، الذي هو صوم شهررمضان:(36/7)
قالت تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهو البقرة 183: 185.
(1) انظر نزهة الأعين النوأظر (2/ 4) .
ثانيا: صوم الفدية، وهو نوعان:
النوع الأول: مقداره عشرة أيام، ولايكون إلا عند العجز عن الاتيان بالفدية، ولؤدى على مرحلت!! ن:
المرحلة الأولى: صوم ثلاثة أيام في الحج.
المرحلة الثانية: صوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله:
قال تعالى:! وفمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب أو.
النوع الثاني: مقداره ثلاثة أيام، وذلك عندما يخل الِإنسان ببعض نسك الحج لطارىء طرأ عليه، كالمرض والأذى: قال تعالى:! وفمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام..! الآية البقرة 196.
وقد بينت السنة النبوية مقدار هذا الصيام:
أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في
هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- فسألته عن فدية من صيام، فقال: حملمت إلى النبي! سَبيهإِ، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكن، لكل مسكيئ نصف صاع من طاعم، واحلق رأسك، فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة (1) .
ثالثا: صوم الكفارة، وهي أنلا:
الأول: صح كفارة القتل، ومقداره شهران متتابعان:
قال تعالى:! ووما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير(36/8)
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيمات النساء92.
(1) صحيح البخاري (8/ 34) رقم 4517 مع الفتح. -112-
وصوم هذين الشهرين الشرط فيه التتابع، لا إفطار فيها إلا من عذر شرعي كالمرض أو النفاس أو الحيض، فإن قدر أنه أفطر من غيى عذر، استأنف الصيام من جديد.
الثاني: صح كفارة الظهار، ومقداره شهران متتابعان:
لقوله تعالى:! ووالذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعن من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ... الآية! هو المجادلة 3، 4. الثالث: صوم كفارة اليمين، ومقداره ثلاثة أيام:
وذلك بعد العجز عن اعتاق رقبة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم:
قال تعالى: الايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدّتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ماتطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبذلن الله لكم آياته لعلكم تشكرون وهو المائدة 89.
الرابع: صوم كفارة قتل الصيد وهومحرم:
قال تعالى: قويا أيها الذين آمنوا لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ماقتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه. والله عزيز ذو انتقام مهو المائدة 95.
ومقدار الصيام في هذه الكفارة مطلق غيى مقيد، ولم يرد بتحديده وتعيينه نص شرعي في حد علمي، وبناء على هذا اختلفت أقوال أهل العلم في تقديره.(36/9)
والذي يدل عليه ظاهر الاَية أن المحرم الذي ارتكب ذلك المحظور فهو مخدر بين
أحد ثلاثة أمور: إما المثل، وإما اطعام مساكين، واما عدل ذلك من الصيام، أي عدل الطعام صياما، سواء كثر ذلك الطعام أو قل.
يقول الشيخ الشنقيطي:
"واعلم أن ظاهر الآية الكريمة أنه يصوم عدل الطعام المذكور. ولوزاد الصيام عن
شهرين أو ثلاثة، وقال بعض العلماء: لايتجاوز صيام الجزاء شهرين، لأنهما أعلى الكفارات، واختاره ابن العربي، وله وجه من النظر، ولكن ظاهر الاَية يخالفه (1) انتهى. الخامس: صوم كفارة الجماع، ومقداره شهران متتابعان:
وهذا النوع من الصيام لم يرد له ذكر في القرآن الكريم، وإنما السنة النبوية هي التي نصت عليه وبينته.
ففي الصحيحن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي! ييهأ إذ جاءه رجل فقال: يارسول الله هلكت، قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله عييه: هل تجد رقبة تعتقها، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا ... الحديث (2) واللفظ للبخاري. رابعا: صوم النفل:
وهو أنه، منها ماهو مطلق، ومنها ماهو مقيد.
خامسا: صوم محرم:
وهذان الأخيران ورد بيانهما في السنة النبوية، ولم يرد لهما ذكر أو اشارة في القرآن الكريم، فلم أدخل في بيان تفصيلاتها وذكر أفى لتها.
أوجه اليسر في الصيام:
الصيام عبادة تولى الله سبحانه الاجزاء عليها، ومضاعفة الثواب لمن قام بها خير قيام، ومع هذا، فهي ميسرة، ليس فيها تكليف بما لايطيق العبد، أو تذمر وملل، وسبحان العالم بما يصلح أحوال النفوس البشرية ويهذبها وبربيها ويخضعها للامتثال الشرعي سرا وعلانية، ومن أوجه اليسر يا الصيام الآتي:
أولا: إن الله سبحانه لما كتب على عباده الصوم جعل له مدة معينة محدودة، وأياما معدودة، ولم يفرضه على الاطلاق في جميع الأوقات على الِإنسان، حتى لايشق عليه، بل وعينه في شهرواحد، وهوشهررمضان المبارك:(36/10)
(1) أضواء البيان (150/2) .
(2) رواه البخاري في الصيام باب إذا جامع في رمضان (2/ 1 4) ، ومسلم في كتاب الصيام 2/ 1 78 رقم 1 8.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ... وهو الاَية. البقرة 83 أ-184.
ثانيا: إن الله سبحانه لما فرض علينا صيام تلك الأيام المعدودة شرع لنا صيام النهار، والاقتصار عليه من الفجر حتى غروب الشمس، وأباح لنا الافطار والأكل والشرب لا بقية الجزء الاَخر وهو الليل: قال تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتب!! ن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل وهو البقرة 187. ثالثا: إن الله سبحانه لم يكلف المريض صيام ما افترض عليه حتى يبهأ من مرضه، وكلفه القضاء من أيام أخر:
قال تعالى:! وفمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ... وهو البقرة 184.
رابعا: إن الله سبحانه رخص للمسافر أن يفطر في سفره، وألزمه القضاء في أيام أخر: قال تعالى:! وفمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ... وهو البقرة 184.
خامسا: إن من فاته شيء من رمضان لعذرما وجب القضاء موسعاً، فله قضاؤه
من رمضان إلى رمضان وهذا من اليسرفي قضاء الصوم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(المعروف) : اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والِإحسان إلى الناس، وكل ماندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات.
وهو من الصفات الغالبة: أي أمر معروف بين الناس، إذا رأوه لاينكرونه (1) . (والمنكيأ: ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهومنكر (2) .(36/11)
ومن خلال هذا التعريف للمعروف والمنكر يتضح للناظر شمولية كل من المعروف والمنكر للشرع كله: أمره ونهيه، بمعنى أن المعروف يشمل كل ما أمر به الشارع، والمنكر يشمل كل مانهى عنه الشارع، وعلى هذا، فإن أل التعريف تفيد الاستغراق الذي يفيد العموم (3) . وباب الأمر والنهى لايختصان بجانب واحد من الحياة بل يعمان جميع جوانب الحياة كلها (4) . وقد فهم السلف الصالح رحمهم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك يقول ابن جرير:
"وأصل المعروف كل ماكان معروفا فعلا، جميلا مستحسنا غيرمستقبح في أهل الِإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفا، لأنها مما يعرفه أهل الِإيمان، ولا يستنكرون فعله.
وأصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحا فعله، ولذلك سميت معصية الله منكرا،
لأن أهل الِإيمان بالله يستنكرون وششعظمون ركوبها (ْ) .
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى:! ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف أو آل عمران 104.
يقول:! وولتكن منكم أو أيها المؤمنون! وأمة! يقول جماعة،! ويدعون وهو الناس! يوإلى الخر! ويعني الِإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده،! وويأمرون بالمعروف!
(1) النهاية في غريب الحديث (3/ 216) .
(2) المرجع السابق (5/ 115) .
(3) التنوير والتحرير (4/ 40) .
(4) انظر الأمر بالمعروف والهي عن المنكر للعمري ص 52. (5) تفسير الطبري (7/ 105) شاكر.
ويقول: يأمرون الناس باتباع محمد! ييه، ودينه الذي جاء به من عند الله،! الوويخهون عن المئكر! يعني عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد عنه وبما جاء به من عند الله بجهادهم بالأيدي والجوارح حتى ينقادوا لكم بالطاعة (1) .
وقال في تفسير قوله تعالى: له كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف مهو
آل عمران 109.(36/12)
وأما قوله:! وتأمرون بالمعروف وهو فإنه يعني: تأمرون بالإِيمان بالله ورسوله والعمل بشرائعه ... ، (وتنهون عن المئكر! ويعني وتنهون عن الشرك بالله وتكذيب رسوله، وعن العمل بمانهى عنه (2) .
وعن أبب العالية الرياحي قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإِسلام، والنهي عن المنكر هو عبادة الأوثان (3) .
وقال الجصاص:
المعروف هو أمر الله ... والمنكر هو مانهى الله عنه (4) .
وقال أبو حيان:
فسر بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالكفر، ولاشك أن التوحيد رأس المعروف، والكفررأس المنكر، ولكن الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع، وفي كل منهي عنه في الشرع (ْ) .
وقال ابن حجر الهيثمي:
المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته (6) .
(1) تفسير الطبري (7/ 90، 91) شاكر.
(2) تفسير الطبري (7/ 105) .
(3) فتح القدير (1/ 270) ، وتفسير الطبري (1 1/ 39) . (4) أحكام القرآن (2/ 41) .
(5) البحر المحيط (3/ 20) .
(6) 1 لزوا جر (2/ 146) .
وقال الألولصي: والمتبادر من المعروف الطاعات، ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع (1) .
ويقول ابن تيميه:
ويدخل يا المعروف كل واجب، وفي المنكركل قبيح، والقبائح هي السيئات وهي المحظورات كالشرك والكذب والظلم والفواحش (2) .
وقال أيضا:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، وهو
من الدين، فإن رسالة الله إما اخبار وإما إنشاء: فالاخبار عن نفسه عز وجل، وعن خلقه، مثل: التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد، والانشاء: الأمر والنهي والاباحة (3) .
ويقول عبد القادر عودة:(36/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الأمر بكل ما أوجبت الشريعة عمله، وأوجبت للناس فعله من صلاة وصيام وحد وتوحيد وغيرذلك، والنهي عن كل ماخالف الشريعة من أفعال وعقائد، فيدخل فيه النهي عن التثليث وعن القول بصلب المسيح وقتله، ويدخل فيه النهي عن الترهيب، وعن شرب الخمر، وعن أكل لحم الخنزير، وغير ذلك مما خالف فيه الشريعة الِإسلامية الأديان الأخرى (4) .
فهذا هو فهم بعض السلف الصالح لبعض نصوص الكتاب والسنة الواردة في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي نصوص مطلقة في هذا بحيث لايصح لانسان حصرها في مفهوم معين كما هومعروف يا هذا الزمان لدى طلاب العلم وغيرهم من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محصور في الوعظ والِإرشاد فقط (ْ) ْ
(1) روح المعا ني (4/ 28) .
(2) العقيدة الأصفهانية ص 121.
(3) رسالة الأمر بالمعروف والخهي عن المنكرص 9. (4) التشريع الجنائي (497/1) .
(5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعمري ص 51.
عناية القرآن الكريم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أولا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا على الأمم المتقدمة.
قالت تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبي!! ن بغير حق ويقتلون
الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم وهو آل عمران 21.
قال القرطبي في تفسيىه:
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة، وخلافة النبوة (1) .
قال تعالى:! وأتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون وهو البقرة 44.
وهذه الاَية نزلت يأ اليهود، وبالأخص منهم العلماء:
قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته، ولمن بينه
وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل - يريدون محمدا! ا- فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولايفعلؤله (2) .(36/14)
قال تعالى: (يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على
ما أصابك إن ذلك من عزم الأمورمهه لقمان 17.
يقول القرطبي:
وصى ابنه بعظم الطاعات، وهي الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجرعن المنكر، وهذه هي الطاعات والفضائل أجمع.
وقال تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل
وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحن وهو آل عمران 13 ا-114.
(1) تفسيرالقرطبي (47/4، 68) . (2) تفسيرالقرطبي (365/5) .
ثانيا: أن الله سبحانه أوجب اللعنة على بعض تلك الأمم لتركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى:! ولعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون! المائدة 78، 79.
قال ابن كثير:
"أي كان لاينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبته، فقال: لبئس ماكانوا يفعلون (1) .
وأخرج الِإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله!: لما وقعت بنو اسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم.
قال يزيد: أحسبه قال: في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم! وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون لأن، وكان رسول الله علييه متكئا فجلس، وقال: لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً (2) .
ثالثا: الايجاب والتأكيد على الأمة المحمدية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى:! وولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر وأولئك هم المفلحون! آل عمران 104.
ذكر القرطبي أن (من) تحتمل أمرين:
الأول: أنها تبعيضية.(36/15)
الثاني: أنها لبيان الجنس.
والفرق بين الأمرين:
أن المعنى على القول الأول: أن الأمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماءبل بعضهم.
(1) تفسير القرآن العظيم (618/2) . (2) انظر المسند (1/ 391) .
وعلى الثاني فالمعنى: لتكونوا كلكم كذلك.
قال القرطبي: قلت: القول الأول أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله:! والذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة.. وهو الاَية. وليس كل الناس مكنوالا أهـ (1) .
وقال الشوكاني في تفسيى هذه الآية:
وفي الاَية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها وبه يكمل نظمها ويرتفع سنامها. أهـ (2) .
وقال ابن كثير: والمقصود من هذه الاَية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من هذه الأمة بحسبه (3) .
وهذا هو الذي يظهر لي، وأنه واجب على كل فرد مسلم كل بحسبه وطاقته وأنه
على مراتب، ولايمنع هذا من تكليف فرقة من الأفةِ بالقيام بهذا الركن العظيم.
رابعا: إن الله سبحانه رتب على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخير والصلاخ، وأن هذه الأمة استحقت الخيرية لقيامها بهذا الأمر العظيم:
قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... وهو آية عمران: 115.
قال مجاهد: له كنتم خير أمة أخرجت للناس وهو على الشرائط المذكورة فى الآية (4) .
قال القرطبي: وعلى قول مجاهد: كنتم خيرأمة إذا كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر (5) .
(1) تفسيرالقرطبي (4 م/165) . (2) فتح القدير (1/ 369) .
(3) تفسير القرآن العظيم (2/ 86) . (4) تفسيرالقرطبي (170/4) . (5) تفسيرالقرطبي (4/ 171) .(36/16)
وهذه الاَية الكريمة نص عزيز في مدح هذه الأمة المحمدية لقيامها بهذا الشأن العظيم، ولقد تبوأت منزلة عظيمة في الحياة الدنيا عندما قامت به، وسفلت عندما تركته وضيعته فسامها العدوسوء العذاب فكان من شأنها ضعف في الإِيمان، وتعد لحدود الله، وانتهاك للحرمات وتشريد من الديار، وتعلق بغير الله، ولجوء إلى غيره، حتى وصل بها الحال إلى تحكيم غيرشرع الله، والرضا به، والدفاع عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول القرطبي عند تفسيرهذه الاَية:
مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك، واتصفوا به، فإذا تركوأ التغييروتواطئوا على المنكر
زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان سببا لهلاكهم (1) .
خامسا: إن الله سبحانه علق الفلاح، بل حصره وقصره في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى:! وولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وهو آل عمران: 104.
يقول ابن عاشور رحمه الله:
وجملة (أولئك هم المفلحون) : معطوفة على صفات (أمة) وهي التي تضمنتها جمل: (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكيأ، والتقدير: وهم مفلحون، لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث، جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوزجعل جملة (أولئك هم المفلحون) حالا من (أمة) ، والوأو للحال ...
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهوإما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه، وإما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاخ غيرهم، وهو معنى قصر الدلالة على معنى الكمال (2) أهـ.
سادسا: إن الله سبحانه جعل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة من صفات المؤمنيئ:
(1) تفسيرالقرطبي (173/4) .
(2) التنوير والتحرير (4/ 42) .
قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون(36/17)
عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وهو التوبة: 71.
وقال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمن!! ن 6أو التوبة: 112.
وقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودله عاقبة الأمور! الحج: 41.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: فينا نزلت (الذين إن مكناهم ذأ الأرض ... الاَية) ، فأخرجنا من ديارنا بغيرحق، إلا أن قلنا ربنا الله، ثم مكنا في الأرض، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهى لي وللأصحابي (1) .
سابعا: آن الله سبحانه جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينا للصلاة والزكاة:
قال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودله عاقبة الأمور! هو الحج: 41.
وهذا فيه دلالة على عظم أمره وعلو شأنه، حيث قرن بركنين عظيمين من أركان الِإسلام، وهما الصلاة والزكاة.
ثامنا: إن الله سبحانه أخبر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من خير الكلام:
قال تعالى: الا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروت أو إصلاح
بذهن الناس لأن النساء: 114.
تاسعا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة ما بين المؤمن والمنافق:
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 650) .
قال تعالى:! ووالمؤمن!! ن والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ... ! التوبة: 71.
وقال تعالى: أو المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقن هم الفاسقون له التوبة: 67. قال القرطبي:(36/18)
"أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق لما (1) .
عاشرا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان والعلماء:
قال تعالى: ميوالذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودله عاقبة الأمورمهو الحج: 41.
ورد فى معنى الاَية أقوال متعددة، ومنها قول سهل بن عبد الله قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه، وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم عليه، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم (2) . أهـ.
وهذا القول يتفق معه، أو يشهد له الخبى صنفان إذا صلحا صلح المجتمع واذا فسدا فسد المجتمع: الأمراء والعلماء.
أما الأمراء، فلأن بأيديهم السلطة، وأما العلماء، فلأن بأيديهم التوجيه والِإرشاد، وبيان الحلال من الحرام، والتمكين الحاصل للأمراء بالولاية، وللعلماء بالعلم. الحادي عشر: إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في نجاة صاحبه
من الوقوع في الماَثم والعذاب الأليم.
الثاني عشر: إن القيام بهذا الركن العظيم فيه إظهار للحق ورفعة لأهله، ودفع للباطل وذلة لأهله، فإذا تساهل أهل الحق في القيام به انعكست عليهم الحال، وما نراه ونشاهده اليوم فى بلاد المسلمين لأكبرشاهد على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) تفسيرالقرطبي (199/8) . (2) تفسيرالقرطبي (73/12) .(36/19)
معاني الأمر بالمعروف في القران الكريم
أولا: دلالة المعروف المعرف بأل
أولا: معاني المعروف في القرآن الكريم:
المعروف من المعاني القرآنية الشاملة لكل ما أمر الشرع به، وقد وردت في القرآن الكريم على صيغتين:
إحداهما: معرفة بالألف واللام الدالة على الشمول والاستغراق.
والثانية: مجردة عنهما. ولكل من هاتين الصيغتين دلالة ومعنى.
أما كلمة "المعروف"المعرفة بالألف واللام فقد وردت في القرآن الكريم في مواطن عدة ولها معان متنوعة. وسأذكر الموطن الذي ذكرت فيه والمعنى المراد منها.
الموطن الأول: وردت في قضية الحدود وفيما يخص القصاص في القتل:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو البقرة: 178.
وقد فسرأهل العلم المعروف ههنا بأن على العافي أن يحسن الطلب، وعلى المعفى عنه أن يحسن الأداء.
قال ابن كثير: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية.
{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني من القاتل من غيرضرر ولامعْك يعنى المدافعة.
الموطن الثاني: فيما يتعلق بالوصية للأقارب عند الممات من غيرتقتير ولا إسراف، والمطلوب العدل من الموصي فيما أوصى به.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} البقرة: 180.
وهذه الآية الكريمة أوجبت الوصية لصنفين من الناس للوالدين والأقربين.(36/20)
أما الوالدان فأوجب الله تعالى لهما الميراث الشرعي، ونسخ الوصية في حقهم، وأما الأقارب فبقي في حقهم الوصية، دون إجحاف بغيرهم، والنصوص الشرعية في البر بهم والإحسان إليهم كثيرة.
فالمراد بالمعروف في الآية العدل في الوصية بعيداً عن الوكس والشطط.
وخوفاً من الحيف أو الجنف تولى الشرع الحنيف تعيين المقدار الموصى به من المال وهو الثلث. والثلث كثير.
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجرمنها قال: "يرحم الله ابن عفراء". قلت: يارسول الله أوصى بمالي كلّه؟ قال: "لا". قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: الثلث؟ قال: "فالثلث. والثلث كثير" (1) الحديث.
قال القرطبي: "وحكم النبي- صلى الله عليه وسلم - بأن الثلث كثير هو حكم بما أنزل الله فمن تجاوز ما حدّه رسول الله-صلى الله عليه وسلم - وزاد على الثلث فقد أتى على ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكان بفعله ذلك عاصياً إذا كان بحكم رسول الله عالماً لما".
الموطن الثالث: ورد فيما يتعلق بأداء الحقوق بين الزوجن بالمعروف والحقوق بينهما قد تكون قبل الدخول، وقد تكون بعد الدخول وقد تكون بعد الفراق.
قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة: 228.
__________
(1) رواه البخاري في الوصايا باب أن يترك ورثته أغنياء287/3 ومسلم.(36/21)
وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف ... } إلى قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة: 233.
وقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} البقرة: 236.
وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} البقرة: 241.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} النساء: 19.(36/22)
والمعروف في هذه الآيات متنوع ومختلف عن الاَخر، ففي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} يراد به الحق الذي لهن على أزواجهن من حسن الصحبة وطيب العشرة والتجمل والتزين لهن وعدم المضارة بهن وتطييب القول وتحسين الفعل وتزين الهيئة والبعد عن التضييق عليهن من الإِسلام، والقدوة في ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم – القائل: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (1) الحديث "وكان من أخلاقه – صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهن، ويوسعهم نفقته، يضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها- يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله-صلى الله عليه وسلم - فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحم فسبقني فقال: "هذه بتلك"، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع على كتفيه الرداء، وينام بالإِزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك- صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) .
أما المعروف المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
فالمراد به ما تعارف عليه أهل البلد، وجرت به العادة في الكسوة والنفقة شرعاً، من غير إسراف ولا تقتير.
__________
(1) حديث صحيح انظرسلسلة الأحاديث الصحيحة1/169.
(2) تفسير القرآن العظيم (2/ 229) . ط دار الفكر.(36/23)
قال ابن كثير: "وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف. أي بما جرت به عادة أمثالهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (1) وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء ... ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (2) . وأما المعروف في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ففسره الحافظ ابن جرير: "بالإجمال والإحسان وترك البغض والظلم فيما وجمب للمراضع".
وقال ابن كثير: "إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليه".
وأما المعروف في قوله تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} فهويتعلق بحق المرأة المطلقة التي لم يُدخل بها، ولم يفرض لها صداق، فلها المتعة من زوجها تعويضاً لها عما فاتها منه وذلك بحسب حاله كما في قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه} وفسر المعروف "بما عرف في الشرع من الاقتصاد" وأن يتناسب مع حال الزوج، وأن يدفع إليها بغير ظلم ولا مدافعة.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/503) . ط دار الفكر، وانظر زاد السير 1/272، وتفسير البغوي 1/212، والقرطبي (3/163) .
(2) رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.(36/24)
وأما المعروف المذكور في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فهو يتعلق بشأن المتعة للمطلقة عموماً سواء كانت مدخولا بها أو لا وسواء كانت مفروضاً لها أو مفوضة وإن كان هناك قول لبعض أهل العلم أن المراد بالمطلقة في هذه الآية المدخول بها، وأن المراد بالمتعة لها، ما تستمتع به من ثياب وكسوة ونفقة أو خادم وغير ذلك مما يستمتع به.
الموطن الرابع: ورد في قضية المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً وانقضت عدتها ولم يراجعها زوجها، إلا أنه حنّ إليها وحنت إليه، فأبى وليها إرجاعها.
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة: 232.
ورد في سبب نزول الاَية أن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها ثم جئت تخطبها والله لا ترجع إليك أبدا- وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. قال: ففيّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه.
وقد فسر المعروف بالعقد المستأنف والمهر الجائز المماثل لسواها.(36/25)
الموطن الخامسِ: ورد في شأن المرأة التي انقضت عدتها سواء من طلاق أو وفاة، وإن كانت الآية نصاَ في المتوفى عنها زوجها قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} البقرة: 234.
واختلف أهل العلم في تفسير المعروف المذكور في الآية وهو اختلاف تنوع فابن عباس رضي الله عنهما فسره بأنه التزين والتصنع والتعرض للزواج، ومجاهد فسره بأنه النكاح الحلال الطيب. ونسبه ابن كثير إلى جمع من السلف. وذهب ابن جرير إلى أن المراد به "ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن". وهذا يشمل الأقوال السابقة، والله أعلم.
الموطن السادس: ورد في شأن الدعوة إلى الإسلام، وامتثال شرائعه والنهي عن الكفر وطرائقه.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران: 154.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران: 110.
وقال تعالى: { ... يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران: 114.
والخير في الآية الأولى فسر "بالإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده". وما بعده معطوف عليه "من باب عطف الخاص على العام".
وفسر هذا الخاص بأمر الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ولا شك أن هذا داخل في الخير العام.(36/26)
وقد ذكر في الآيات عموماً أمران متقابلان، المعروف والمنكر، وفسر المنكر بالكفر والشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تفسير عام فكذلك المعروف عام وإنما خص بالذكر لأهميته وشرفه وعلو منزلته، ولذا فسره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، والمقاتلة عليه ".
المعنى السابع: ورد في معالجة مالك اليتيم عند وليّه وعدم الأكل منه إلا لحاجة قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} النساء:6.
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنها نزلت في مال اليتيم وفي رواية: في والي اليتيم. إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف.
وقد فسر المعروف في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الإِسراء: 34.
قال ابن كثير: "أي لا تقربو إلا مصلحين له، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف".
والنصوص الشرعية دالة على إباحة الأكل لولي اليتيم من مال يتيمه بقدر الحاجة إذا كان فقيرا.
وأخرج أهل السنن وغيرهم ماعدا الترمذي عنِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عندي يتيماَ له مال وليس عندي شيء أفآكل من ماله؟ قال: "بالمعروف " قال ابن حجر: وإسناده قوي.(36/27)
قلت: هكذا ذكر ابن حجر لفظه في الفتح إلا أنه في السنن: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم، قال: "كل من مال يتيمك غيرمسرف ولا مباذر ولا متأثل" هكذا عند النسائي وأبى داود، أما ابن ماجه فبنحوه.
فالمعروف هو الحاجة والأكل بالتي هي أحسن، واختلف أهل العلم هل على الولي القضاء إذا أيسر أم لا؟ على قولين؟ وليس هذا موضع بسط القول فيهما.
ثانيا: دلالة المعروف المجرد عن أل
ثانيا: وردت كلمة (المعروف) مجردة عن الألف واللام في عدة مواضع في كتاب الله عز وجل، واختلف في المعنى المراد منها:
ا- المعنى الأول: قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف ... } البقرة: 231.
قيل المراد به: الإِشهاد على الرجعة، وذلك قبل انقضاء العدة، وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة، وأخذ به ابن جرير والبغوي وابن كثير. وقيل المراد به: القيام بحقوقها الواجبة على زوجها، وسطر هذا القول الطبري وابن الجوزي.
2- المعنى الثاني: قال تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} البقرة: 231.
قيل المراد به: عدم الإضرار بها، أو أن لا يقصد الإضرار بها، سواء في عدتها، أو فيما لها من الحقوق والواجبات.
3- المعنى الثالث: قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ... } البقرة: 235.
قيل إن المراد به: التعريض لها.
وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن زيد، والثوري، والسدي، والقاسم بن محمد، والشعبي، وقتادة، وإبرا هيم.
وذكر ابن الجوزي قولا آخر في هذه الآية، وهو أن المراد به: إعلام وليها برغبته فيها، ونسبه إلى عبيدة.(36/28)
وقد ذكر هذا أيضا ابن كثير، وأسنده إلى ابن أبى حاتم من طريق محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة: ما معنى قوله: {إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} ؟ قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها، يعني: لا تزوجها حتى تعلمني. وهذا أيضا من التعريض.
المعنى الرابع: قال تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة: 24.
قيل المراد به: التزين والتشوف للنكاح بما يوافق الشرع.
وقيل المراد به: ترك الحداد، وهذا قول ابن جرير.
قلت: ويلزم من ترك الحداد: التزين والتطيب والتشوف، فيكون هذا موافقا لما سبقه، وقد بين ابن جرير ذلك.
وقيل المراد به: الخروج من المنزل الذي اعتدت فيه.
وهذا القول ذكره ابن كثير، وقال عنه: وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة، ومنهم الإِمام أبو العباس ابن تيمية.
5- المعنى الخامس: قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة: 263.
المراد به: الكلمة الطيبة والدعاء الحسن ومنه الحديث الصحيح: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولوأن تلقى أخا لك بوجه طلق" رواه مسلم.
ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} النساء 5.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} النساء 8.
6- المعنى السادس: قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} النساء: 114.
قيل المراد به: أفعال البر عموما.(36/29)
7- المعنى السابع: قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} لقمان: 15.
المراد به: المعاملة الحسنة قولا وفعلا.
8- المعنى الثامن: قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} الأحزاب: 6.
المراد به: الإحسان والوصية، الإحسان في حالة الحياة والوصية عند الممات.
وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة.
9- المعنى التاسع: قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب: 32.
المراد به: القول الصحيح العفيف الذي لا يطمع الفاجر.
" الإِحسان إلى الوالدين ""في القرآن الكريم "
تعريف الإِحسان:
نقل الأزهري عن الليث أنه قال: الحسن نعت لما حسن، تقول: حسن الشيء حسنا، وقال الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وقرئ {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَناً} (1) . ووجه القراءتين بأن القراءة بالفتح المراد بها: قولا حَسَنا، وقراءة الضم والسكون (حُسْنا) المراد بها: المصدر من حسن يحسن حسنا، فتكون أعم من قراءة الفتح.
وأما تعريفه في الاصطلاح: فالإحسان ضد الإساءة، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام فسره بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (2) . وقد فسر الحافظ ابن رجب رحمه الله هذا الجزء من الحديث بأن المراد منه استحضار مراقبة العبد ربه في كل ما يقول ويعمل، كأنه بين يديه سبحانه، بما ينتج عن ذلك الخوف والخشية والإخلاص والنصح في العبادة عموماً.
__________
(1) تهذيب اللغة (4/ 214) .
(2) جزء من حديث طويل، رواه مسلم في الإِيمان رقم 1 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(36/30)
وقد تنوع ورود الإِحسان في القرآن الكريم وتكرر على معان متعددة، "تارة مقروناً بالإِيمان، وتارة مقروناً بالإِسلام، وتارة مقروناً بالتقوى أو العمل الصالح"، وغير ذلك من المعاني الأخرى.
وسأقصر الحديث في هذا الموضع على الإِحسان فيما يتعلق بشأن الوالدين، وإن شأنهما لعظيم عند الله، والدليل على ذلك كون الله سبحانه ربط الوالدين بعبادته سبحانه في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ... } الآية.
والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة لهما بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، وبرهما وحفظهما وصيانتهما، وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما وفي الحديث الصحيح عن عبد الله قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قال: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قال: ثم أي؟ قال: ا"لجهاد في سبيل الله" (1) .
قال القرطبي: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة، التي هي أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك بـ (ثم) التي تعطي الترتيب.
"عناية القرآن الكريم بالإحسان للوالدين "
تتجلى عناية القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين في أمور عدة منها:
أولا: أن الله سبحانه لما أمر الخلق بعبادته، جعل بر الوالدين مقروناً بعبادته، فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الإسراء: 23. قال ابن كثير: أي: وأمر بالوالدين إحسانا.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ... } النساء: 36.
ثانياً: أن الله سبحانه قرن شكر الوالدين بشكره جل شأنه:
__________
(1) رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها 1/ 184.(36/31)
قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} لقمان: 14.
ثالثاً: أن البر بالوالدين والإحسان إليهما لا يختص بهما إذا كانا مسلمين، بل حتى إذا كانا كافرين:
قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة: 8.
والحديث الصحيح يفسر هذه الآية الكريمة، الوارد في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"قدمت أمي، وهى مشركة في عهد قريش ومدتهم، إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك" (1) . وأقوى من هذا في الدلالة على صلة الأبوين الكافرين قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً..} لقمان: 15.
قال القرطبي رحمه الله: والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإِلانةِ القول، والدعاء إلى الإِسلام برفق.
رابعاً: إن الأمر بالإِحسان للوالدين قد كتبه الله سبحانه على الأمم السابقة، مما يدل على عظم حقهما وعلو شأنهما:
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ... } البقرة: 83.
__________
(1) أخرجه في الجزية والموادعة 6/ 281 وفي الأدب باب صلة الوالد المشرك وباب صلة المرأة أمها ولها زوج 10/413 مع الفتح. ورواه مسلم في الزكاة رقم 50.(36/32)
قال القرطبي: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، أي: وأمرناهم بالوالدين إحسانا وقرن الله عز وجل حق الوالدين بالتوحيد في هذه الآية، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية- من جهة الوالدين.
وقال ابن كثير: وهذا هو أعلى الحقوق، وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين أهـ. ويعني بالمقارنة بين حق الله سبحانه وحق الوالد ما جاء في هذه الآية وآية الإِسراء والنساء وغيرهن من الأمر بعبادته وحده، ثم بالإحسان إلى الوالدين، وكذلك ما جاء في قضية الشكر لله سبحانه ومقارنته بشكرهما في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
خامساً: إن الله سبحانه جعل العقوق للوالدين قرينا للشرك في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا ... } الأنعام: 151.
ففي هذه الآية نهى عن الشرك بالله سبحانه، ثم أتبعه بالأمر بالإحسان للوالدين، والأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده، وهو تحريم ترك الإحسان، ولما كان ترك الإساءة في حق الوالدين غير كاف في البر بهما أمر بالإحسان إليهما ليشمل الأمرين، وهما تحريم الإساءة إليهما والأمر بالإحسان إليهما.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عقوق الوالدين من السبع الموبقات، كما جاء في الحديث الصحيح.
سادساً: الأمر بالدعاء لهما والاستغفار لهما:
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} الإسراء: 24.
قال القرطبي: الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، إذ لم يكن له- عليه السلام- في ذلك الوقت أبوان.
وسطر الله سبحانه مواقف إبراهيم عليه السلام مع أبويه:(36/33)
قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41.
وذكر أهل العلم أن هذا الموقف الحاني من إبراهيم عليه السلام نحو أبيه كان قبل أن يتبين له أمره وأنه عدو لله تعالى.
وله موقف آخر عليه السلام نحو أبيه، حيث قابل الإساءة من أبيه بالإحسان إليه، قال تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} مريم: 47.
قال ابن كثير: ومعنى قول إبراهيم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ} يعني أما أنا فلا ينلك مني مكروه، ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر لك ذنبك ... وقد استغفر إبراهيم- صلى الله عليه وسلم - لأبيه مدة طويلة ... وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإِسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل عليه السلام في ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } إلى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ... } الممتحنة: 4. يعنى إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به، ثم بين تعالى إن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} التوبة: 114.(36/34)
ومن قبل إبراهيم نوح عليه السلام، عندما لجأ إلى ربه وسأله المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين، فقال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} نوح: 38.
وذكر بعض أهل العلم أن أبويه كانا مسلمين.
سابعا: إن الله سبحانه عرض لنا في كتابه العزيز نماذج من سيرة بعض الأنبياء عليهم السلام، في برهم بوالديهم من أجل الاقتداء والاتساء وهذا من الاهتمام بشأن الوالدين، فمن ذلك:
أ- موقف يحيى بن زكريا عليهما السلام من والديه:
قال تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} مريم: 14.
إنه موقف البر والإِحسان ومجانبة العقوق والعصيان.
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما قولا أو فعلا، أمرا أو نهيا، ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: ٍ {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
2- موقف عيسى عليه السلام من أمه عليها السلام:
قال تعالى: ٍ {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} مريم: 32.
إن بر عيسى عليه السلام بوالدته ذكره بعد الزكاة، والاستمرار عليها ثم جاء التنبيه على بره بوالدته، وهذا من المقارنة بين طاعة الرب سبحانه، وطاعة الوالدين.
قال ابن كثير: وقوله: ٍ {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} أي: وأمرني ببر والدتيْ ذكره بعد طاعة ربه، لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين.
وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي: ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.(36/35)
3- موقف إسماعيل من أبيه إبراهيم عليهما السلام:
قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} الصافات: 101:158.
ثامنا: إرشاد القرآن إلى الإنفاق عليهما:
قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} البقرة: 215. هذه الآية بينت الوجوه التى تصرف فيها النفقة:
قال ابن ميمون بن مهران بعد أن تلا هذه الآية: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا، ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان.
وفي الحديث بيان لذلك: أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك..
تاسعا: تخصيص الأم بالذكر بعد العموم للأهمية:
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ... } الأحقاف: 15.
ولقد قاست الأم بسبب الحمل أضعافا من الابتلاء والأتعاب والمشقة بداية بالوحم وحمل له وثقل، وهذه الآية نصت على أمرين شاقين: الأول: الحمل، والثاني: الوضع.
ونصت السنة الصحيحة أن أحق الناس بالصحة الحسنة هي الأم ثلاثا ثم الأب.
عاشرا: بين القرآن كيفية التعامل مع الوالدين:
فبين القرآن أن الذرية أو الأبناء على نوعين:(36/36)
الأول: ذرية طائعة بارة بالوالدين.
الثاني: ذرية شقية وعاقة للوالدين.
أما الصنف الأول فيتمثل في مواقف الأنبياء كنوح وإبراهيم ويحيى وعيسى وإسماعيل ويوسف عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- من دعاء لهما ولين جانب في القول لهما واعتراف بالجميل لهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما.
أما الصنف الثاني: فيتمثل في نوعين:
ا- موقف ابن نوح، وهروبه من أبيه وعدم السماع والطاعة لأبيه، فكان من المغرقين.
2- وأما الموقف الثاني فيتمثل في كل من عق والديه وكذب بالحق، وعبر عنه القرآن في قوله تعالى:
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} الأحقاف: 17-18.
نظام الأسرة في القرآن الكريم
تمهيد:
إن نظام الأسرة الذي شرعه الإسلام هو النظام الذي يتفق ويتلاءم مع الفطرة الإنسانية وتكوينها.
وعندما أتحدث عن الأسرة ونظامها في القرآن، فإن المراد بها الزوج والزوجة، لأنهما الأصل في تكوين الأسرة أيا كانت، والله سبحانه عندما خلق الأشياء خلق من كل زوجين، قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات: 49.
قال ابن كثير عند تفسي رهذه الآية:
"أي جميع المخلوقات أزواج، سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، ضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنبات".
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... } هود: 40.(36/37)
قال ابن كثير:
"فحينئذ أمر الله نوحا عليه السلام أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنن من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، قيل: وغيرها من النباتات اثنين: ذكرا وأنثى".
وقال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} المؤمنون: 27.
ومعناها معنى الآية التي قبلها فسبحان الذي خلق فسوى. وقدر فهدى.
وقد نزه الله سبحانه نفسه عند خلقه للأزواج المتعددة والمتنوعة، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} يس: 36.
قال ابن كثير:
أي: من زروع وثمار ونبات، {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} : فجعلهم ذكرا وأنثى. {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} : أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال جلت عظمته: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) .
ثم ذكر الله سبحانه أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة، ومن تلك النفس خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} النساء: ا.
__________
(1) المصدر نفسه (5/613) .(36/38)
فـ"أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة، ليعطف بعضهم على بعض ويحننهم على ضعفائهم" كما بيّن ذلك ووضحه رسوله الله صلى الله عليه وسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباءة متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّه} تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإِسلام حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (1) .
والشاهد فيه تذكير الناس بأصلهم، وأنهم من نفس واحدة، وحثهم على الصدقة، وعطفهم على بعضهم البعض.
وجعل الله سبحانه من هذا الأصل (الأب والأم) شعوبا وقبائل ليتعارفوا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: 13.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الزكاة (2/ 704، 705) .(36/39)
وجعل بين تلك الشعوب والقبائل روابط وعلاقات يلتقون عليها، وأعظم تلك الروابط هي رابطة الإيمان، وما بعدها من الروابط مرتبط بها أو مبني عليها، كالمودة والمحبة والرحمة والإخاء وغير ذلك، ولذا حرم الله سبحانه النكاح أو التزاوج بين المسلم والمشركة، لفقد رابطة الإيمان بينهما.
قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} البقرة: 221.
إن الإيمان هو الحوض الذي يلتقي عليه الزوجان المسلمان، سواء كانا أبيضين أو أسودين، أو أحدهما أبيض والآخر أسود، وسواء كانا حرين أو عبدين، أو كان أحدهما حرا والآخر عبداً، فلله الحمد على هذه الرابطة العالية الشريفة،، وعلى هذا الحوض الصافي من الكدر والشوائب، وعلى هذا النسب الرفيع الذي هو أعلى، نسب وجد.
وإن الحكمة من هذا المبدأ الشرعي واضحة جلية:
قال تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
ومادام أن المرأة تعتبر النصف الثاني في نظام الأسرة، لكونها أخد أصول الأسرة، أعرض لبيان حالها قبل الإسلام، وما هي عليه من خلال القرآن الكريم باختصار مستعينا في ذلك ببعض الآثار الصحيحة. وفق النقاط التالية:
أولا: ظاهرة التبرج وعلاج الإسلام لها.
ثانياً: كراهية المرأة في الجاهلية كما صورها القرآن.
ثالثاً: ضياع حقوقها وإلحاق الضرر بها.
رابعاً: ممارسة أنكحة الجاهلية عليها.
أولا: ظاهرة التبرج أو السفور وعلاج الشرع لها.(36/40)
التبرج أو السفور من مظاهر الجاهلية قديماً وحديثاً، وسماه الله في كتابه العزيز: التبرج، حيث قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الأحزاب: 33. "وهو مأخوذ من السعة يقال: في أسنانه بَرَج إذا كانت متفرقة قاله المبرد" ومعناه "التكشف والظهور للعيون".
قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية الأولى.
وقال قتادة: إذا خرجتن من بيوتكن- وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج- فنهى الله عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخِلّها، فينفرد خِلّها بها فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل".
فهذه بعض أقوال السلف في معنى التبرج الذي هو السفور بل هي تفسير لبعض معاني السفور.
ولقد عاشت المرأة قبل الإسلام عيشة مضنية وإن خيل لها أنها طليقا تختار من تشاء - زوجاً أو خدينا- وتترك من تشاء. وتُلْحقُ ولدها بمن تشاء دون خجل ولا حياء {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
وقد وصفت عائشة رضي الله عنها النكاح في الجاهلية، وأنه كان على أربعة أنحاء وذكرت من تلك الأربعة. قولها:
"ونكاح آخر. يجتمع الرهط مادون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يافلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل".(36/41)
انظر إلى هذه الفوضى في الحرية الجاهلية، وإلى فساد موطن الحرث الذي توارد عليه السقاء الملوث من كل شعب، فماذا ترى تكون نتائج زراعته، إنها زراعة فاسدة سقيت من قنوات متعددة بماء غير صاف.
ولقد كانت حالة السفور للمرأة سمة من سمات الجاهلية نوّه القرآن بها على سبيل الذم والتنفير، ونهى أمهات المؤمنين من الوقوع فيها. قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ... } الأحزاب: 33.
وقد سبق تفسير السلف لكيفية التبرج في الجاهلية.
وفي الحديث: "إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (1) .
إن المجتمعات الجاهلية تنظر إلى المرأة نظرة هابطة فلا تقيم لها وزنا، وإنما هي عبارة عن أداة للمتاع يقضى الإنسان وطره منها ثم يستخدمها استخدام السائمة في الزرع والحرث دون مكانة ولا كرامة.
وإن الجاهلية المعاصرة في التعامل مع المرأة لتذكرنا بجاهلية القرون الأولى، من تبرج سافر، وعضل قاهر، وظلم ظاهر، وتحايل ماكر، وتعامل مشين.
لقد أخرجتها من بيتها، واستغلتها لتكون جندية في الشوارع العامة، ومضيفة في الطائرة، وممثلة في الشاشات المرئية، وموظفة بين الرجال الأجانب، ومطربة في النوادي المختلطة، وممرضة باسم الإنسانية، ودعائية لبعض المبيعات التجارية، بل أصبحت أحياناً تقود الجيوش وتصرّف الرجال وتدعو إلى السلام وتحضر المؤتمرات، وتعلن في غير حياء ولا خجل بالتصريحات إلى غير ذلك من الأمور التي لا شأن للمرأة بها، والجاهلية تزين لها عملها وتصفق وتروّج لما تقوم به، ظلما وعدوانا، من أجل إشباع الغريزة. وإيجاد الفوضى في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، وأن يكون نظام الأسرة مخلخلا لا ضابط ولا زمام ولا خطام له.
__________
(1) رواه البزار بسنده عن ابن مسعود، انظر تفسير ابن كثير 5/ 451. دار الفكر ومعنى "استشرفها" أي زينها أو نظر إليها من أجل فتنتها.(36/42)
"والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان إنما هي حالة اجتماعية ذات تصورات معينة للحياة، ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان فيكون دليلاً على الجاهلية حيث كان، وباختصار فكل ما خالف أمر الشرع فهو من الجاهلية.
ولقد عالج الإسلام هذه الظاهرة السيئة، علاجاً شافياً كافياً، وفق قواعد شرعية معينة، احترم فيها وضع المرأة والأسرة وصانها مما يشينها ويوصم جبينها، فلله الحمد والمنة.
"وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبداً، لولا أن تنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها، وفي تكريم الإنسان: الذكر والأنثى، وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام لا من أي عامل من عوامل البيئة" ومن تلك القواعد الشرعية التي عالج من خلالها ظاهرة التبرج:
ا- أمر الإسلام المرأة أن تلزم بيتها، وتقر فيه، ولا تخرج منه إلا لحاجة، فإن قدر لها الخروج لحاجة، فلا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى:
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} .
وبين الإسلام أن المرأة عورة. والعورة يجب سترها، وستر المرأة جلوسها في بيتها.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها" (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الرضاع 4/153، والبزار انظر تفسير ابن كثير 5/ 451.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب التشديد في ذلك 1/383، والبزار انظر تفسير ابن كثير 5/451.(36/43)
وهذا يرشد إلى أن لزومها بيتها هو الأصل فإذا كانت الصلاة التي أداؤها في المسجد هو الأصل فإن صلاة المرأة الأصل أداؤها في بيتها حفاظا عليها من الخروج أو التعرض للفتن.
2- أمر الإسلام الرجل والمرأة بغض البصر وحفظ الفرج، وفي هذا تمييز لنساء المؤمنين عن صفة نساء الجاهلية، وفعال المشركات، كما يقول الحافظ ابن كثير:
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم} النور: 30.
وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ} النور:31.
3- أمر الإسلام المرأة أن تستر زينتها، ولا تبديها إلا في حالتين:
الحالة الأولى: يستثنى ما ظهر منها:
الحالة الثانية: أن تبدي زينتها لمن أحل الله لها أن تريه:
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... } النور: 31.
وقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ... } النور: 31.
4- أمرها الإِسلام بوضع الخمار أو الجلباب عليها، لكي لا تُعرف فلا تُؤذى:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ... } الأصاب: 9ِ
وفي الحديث الصحيح الوارد في قصة الإفك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما استيقظت من استرجاع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، قالت: فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ... " الحديث.
5- أمر الإِسلام المؤمنين أن يسألوا النساء من وراء حجاب معللا ذلك بالطهر للقلوب، وبعداً لها عن الأمراض القلبية.(36/44)
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ... } وهو الأحزاب: 54.
6- حرم الإِسلام على المؤمنين دخول البيوت المسكونة إلا بعد الاستئذان والاستئناس من أهلها، حفاظا على عورات المسلمين وعدم الاطلاع عليها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ... } وهو النور: 27.
7- حرم الإِسلام على المرأة السفر إلا مع محرم لها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة لها".
وفي رواية عنه: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".
وفي رواية: "يوم وليلة". وفي رواية: "يومين". وفي رواية: "ثلاثة". وكل هذه الروايات صحيحة، رواها مسلم وغيره.
8- حرم الإسلام على المرأة الاستثارة الظاهرة والباطنة، وحذرها من التشبه بنساء الجاهلية قديما وحديثاً:
قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} النور: 31.
يقول ابن كثير رحمه الله: كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق، وفي رجلها خلخال صامت (لا يسمع صوته) ضربت برجلها الأرض، فيعلم الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهيِ، لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} ، ومن ذلك أيضاَ: أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها. أهـ.(36/45)
ويشهد لهذا ما رواه الترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية"، قال الترمذي: حسن صحيح.
9- إذا قدر للمرأة أن تخاطب الرجال الأجانب عنها، فالإسلام يأمرها أن لا تخضع بالقول، وأن تقول قولا معروفا، والحكمة في ذلك: لئلا يطمع مريض القلب فيها، والخضوع بالقول هو ترقيقه وترخيمه:
قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب: 32.
15- جعل الإسلام للحجاب شروطاً، صيانة للمرأة وستراً لها، وبعداً لها عن وصف الكاسية العارية، وهذه الشروط ممكن الاطلاع عليها في كتب الأحكام.
11- رخص الإسلام للمرأة المسنة التي لا ترجو نكاحا أن تضع ثيابها عند الغريب عنها من غير تبرج بزينة، وأرشدها إلى أن الاستعفاف خير لها وأفضل:
قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} النور: 60.
فإذا كان هذا حال المرأة الكبيرة في السن، الغير طامعة في النكاح، ولا متطلعة له، فإن المرأة الأخرى التي لم تبلغ سن القواعد ولها رغبة في النكاح، وطامعة فيه لا يحق لها، ولا يجوز أن تضع ثيابها عنها بحضرة الرجال الغريبين عنها.
ثانياً: كراهية المرأة في الجاهلية كما صورها القرآن
تعتبر المرأة قبل الإِسلام رجساً من عمل الشيطان، لا قيمة لها ولا مكانة بل مبتذلة مهانة، ويتبين كراهيتهم لها في الآتي:
أ- نسبتهم البنات إلى الله سبحانه دون الذكور:(36/46)
قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} النحل: 57.
وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} ولهم البنون الصافات: 149.
وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} النجم: 21.
وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} الصافات: 51 ا-154.
وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} الزخرف: 16.
2- وصفهم الملائكة أنهم إناث:
قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} الزخرف: 19.
وقال تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} الصافات: 150.
وقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} الإِسراء: 45.
3- اسوداد الوجه عندما يبشر بالأنثى:
قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} النحل:58،59.
وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} الزخرف: 17.
يقول ابن كثير: أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلو لله من البنات يأنف من ذلك، يقول تبارك وتعالى: فكيف تأنفون أنتم من ذلك وتنسبونه إلى الله عز وجل.
4- وأدهم لها وهي حية، والتخلص منها بدون أي سبب:(36/47)
قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير: 8، 9.
قال ابن كثير: والمؤودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهة البنات، فيوم القيامة تسُئل المؤودة على أي ذنب قتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها، فإنه إذا سُئل المظلوم فما ظن الظالم إذا.
وفي الحديث أن قيس بن عاصم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله إني وأدت اثنتي عشرة ابنة لي في الجاهلية، أو ثلاث عشرة، قال: "أعتق عددهن نسما"، قال: فأعتق عددهن نسما، فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة فقال: يارسول الله هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين. قال علي بن أبي طالب: فكنا نريحها ونسميها القيسية.
"وكان الوأد يتم في صورة قاسية إذ كانت البنت تدفن حية، وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق:
فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها.
وعند بعضهم: كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة، فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها ودفنتها وإن كان ابنا قامت به معها!
وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي فيلبسها جبة من صوف أوشعر، ويرسلها في البادية ترعى له إبله".
5- حرمانها من بعض الطيبات ظلما وعدوانا:(36/48)
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الأنعام: 139. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وان كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، فنهى الله عن ذلك.
6- إلحاق العقوبات بها:
إن إلحاق أي عقوبة على أي إنسان- بل حتى الحيوان- بدون سبب ولا مبرر شرعي لهو من الظلم الذي حرمه الإسلام، وإن الجاهلية أوقعت على المرأة عدة عقوبات بلا مبرر معتبر، وذلك من ظلمها وعدوانها عليها فمن ذلك:
1- الطلاق: كان الزوج يمارس الطلاق على زوجته مراراً متعددة مادامت في عدتها فكلما أرادت أن تنقضي عدتها طلقها وهكذا من أجل عقوبتها والإضرار بها.
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (1) الاَية.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عروة بن الزبير أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (2) .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث 2/ 644.
(2) تفسير القرآن العظيم (1/482) . ط دار الفكر.(36/49)
وفي رواية عنه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ماشاء مادامت في العدة، وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قال فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيماً ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً، فأنزل الله عز وجل فيه {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} فوقت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره".
وقال ابن كثيرفي تفسيره لهذه الآية:
"هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإِسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} ".
فبينت الآثار السابقة كيف كان يستخدم الطلاق عقوبة على المرأة وإضرارا بها فرفع الله ذلك وحدد ألفاظه وبينّ أوقاته وأمر بالمعروف في حالة الإمساك للمرأة، والإحسان في حالة التسريح ومن تعدي حدود الله فهو من الظالمين.
2- الإيلاء: أحد العقوبات التى كانت توقعها الجاهلية السنة والسنتين على المرأة ظلما وعدواناً، حتى إن بعضِ المسلمين مارس هذه العقوبة في الإِسلام على المرأة، فجعل الله سبحانه لها حداً محدوداَ.(36/50)
قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة: 226، 227.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة فوُقِّتَ لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.
ويقول دروزة: لقد ذكرنا قبل أن العرب قبل الإِسلام كانوا يحلفون بأن لا يعاشروا زوجاتهم معاشرة جنسية، فيغدون معلقات، لا هن زوجات، ولا هن مطلقات، وأنهم كانوا يعمدون إلى ذلك لأسباب متنوعة، منها كراهية ولادتهن البنات، وفي سورات الغضب، أوكراهيتهم لهن مع عدم الرغبة في تطليقهن حتى لا يتزوجن غيرهم أو حتى يمتن عندهم فيرثونهن، أو بقصد ابتزاز أموالهن، أو ليبقين للعناية بأولادهن.
3- الظهار:
وصف الله سبحانه هذا التصرف من القول بأنه منكر وزور، كما ورد في آية المجادلة: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} .
والظهار هو إحدى العقوبات التي كانت الجاهلية المقيتة تمارسها على الزوجة، وقد مارسه بعض المسلمين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي حرمت عليه، فكان أول من ظاهر من الإسلام: أوس.. الخ".
قال ابن كثير: أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسا على الظهر، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم، هكذا قال غير واحد من السلف.(36/51)
إن هذه العقوبة الجاهلية قائمة على غير أصل، فلذا وصفت بأنها زور ومنكر، وإن وقعها على المرأة لعظيم، وصدر سورة المجادلة يدل على ذلك، من كون المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي وتعرض قضيتها عليه وتحاور الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنها وزوجها.
تقول عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزوجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ... } المجادلة: 1.
4- الإضرار بها في الإحداد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} البقرة: 234.
ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"، مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول".
قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمى بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا، حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر- فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها. ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره.
سُئل مالك: ما تفتض به؟ قال: تمسح به جلدها.(36/52)
وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينيها فأتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في التكحل، فقال: "لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها، فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة، فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر".
قال ابن قتيبة: سألت الحجازين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا، ولا تزيل شعرا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض أي: تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه، فلا يكاد يعيش بعدما تفتض به.
5- الإكراه على البغاء:
قال تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 33.
وهذا نوع من الأساليب الجاهلية العفنة التي تعامل بها المرأة قبل الإِسلام، وقد ورد في سبب النزول لهذه الآيات روايات متعددة مفادها أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول كان يُكرهها سيدها على ارتكاب الفجور فتأبى فأنزل الله هذه الآية.
يقول ابن كثير: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذ منها كل وقت، فلما جاء الإِسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم (1) .
إن هذا الصنيع المزعوم فيه هدر لكرامة المرأة، وهتك لعرضها، وتحطيم لشعورها، وامتهان لشخصيتها، وجاء الإسلام واحترم كرامتها وشعورها، وصان عرضها وحفظ شخصيتها فلله الحمد والمنة.
6- التقزز منها والبعد عنها:(36/53)
قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة: 222.
وسبب نزول هذه الآية يبين موقف الجاهلية من المرأة التي كتب الله عليها المحيض، وليس لها فيه أي سبب في منعه أو إخراجه:
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: مايريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يارسول الله إن اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما"رواه أحمد ومسلم.
إن هذا المكتوب على المرأة بقضاء الله وقدره لهو فوق طاقتها، فلماذا يوقف منها هذا الموقف وتشعر بأنها نجس قذر؟!
ولقد عالج الإسلام هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". ولما سأل مسروق عائشة رضي الله عنها عن ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت له: "كل شيء إلا فرجها".
وفي رواية: "كل شيء إلا الجماع".
وأخبرت رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: "كان يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض".
"وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن".(36/54)
وثبت في الصحيح عنها أنها قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب وأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه.
وتقول رضي الله عنها: "كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا حائض طامث فإن أصابه شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه- يعني ثوبه- غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه".
إنه تعامل رفيع، وحسنُ خلقٍ عظيم، يشعر الإنسان من خلاله بإنسانيته وإنه مقدر ومحترم.
ثالثاً: ضياع حقوقها وإلحاق الضرر بها
إن الله سبحانه حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين خلقه محرماً حيث قال: "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً فلا تظالموا" رواه مسلم.
وإن المرأة لاقت في حياة الجاهلية قديماً وحديثاً ألواناً وصوراً شتى من الظلم والعدوان. فمن ذلك:
1- عضلها: وهومنعها من حقها وإلحاق الضرر بها حسياً ومعنويا.
قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... } النساء: 19.
وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ... } البقرة: 232.
والعضل للمرأة من رواسب الجاهلية وعاداتها البغيضة، وقد بقي أثره في الناس، حتى في الإسلام، لكن عولج بالنهي المقتضي للتحريم بلا هوادة أو تراخ فيه، والعضل في هاتين الآيتن مختلف، وإن كانت نتيجته واحدة.
فالعضل المذكور في آية النساء المراد به: الإضرار بالمرأة في عيشتها، وقهرها من أجل أن تتنازل بحقها أو ببعضه من الصداق أو أي حق سواه.(36/55)
قال ابن عباس في قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} : يقول: ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : يعني الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به.
قال ابن كثير: وكذا قال الضحاك وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير.
وأما العضل المذكور في آية البقرة، فالمراد به: منع المرأة من الرجوع إلى زوجها بعد انتهاء عدتها، وهي راغبة فيه، وهو كذلك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها.
قال ابن كثير: وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس أيضا، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك أنها نزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية.
والحديث الصحيح يوضح ذلك ويبينه، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يالكع ابن لكع، أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً. آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ..} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه، فقال: أزوجك، وأكرمك.
قال ابن كثير: زاد ابن مردويه: "وكفرت عن يميني".
وتوجد صورة ثالثة من العضل خاصة في اليتيمة:
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... } النساء: 3.(36/56)
وقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} النساء: 127.
وقد بينت السنة الصحيحة صورة هذا العضل الجاهلي:
أخرج البخاري بسنده عن عروة بن الزبيرأنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ، قالت: يا ابن أختي: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط لا صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن يا الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية، فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} .
قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال.
وأخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله، حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا، فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت الآية، وهو في مسلم أيضاً.(36/57)
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في معنى الآية قال: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة، وهويها تزوجها، وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه.
قال ابن كثير: والمقصود: أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله أن يمهرها أسوة بأمثالها من النساء، فإن لم يفعل، فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل، وهذا المعنى في الآية الأولى في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها.
2- وراثتها على سبيل الإكراه والإضرار بها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً ... } النساء:19.
وسبب النزول كاف في بيان نوعية هذا الإكراه:
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} ، قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الاَية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (1) .
ولهذا الإِرث الإِكراهي صور شتى كانت الجاهلية تمارسه على الزوجة وهي تتقبله، لأنها غير مبين في الخصام، فمن ذلك:
أ- ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والوارد في سبب النزول للآية أعلاه.
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري (8/ 245) . رقم 4579.(36/58)
2- ما رواه عكرمة عن ابن عباس قال: {يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} الآية، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله تعالى عن ذلك.
قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك.
3- روى الطبري من طريق الحسن والسدي وغيرهما: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه الصداق. قال ابن حجر: "وزاد السدي: إن سبق الوارث فألقى عليها ثوبه كان أحق بها وإن سبقت هي إلى أهلها فهي أحق بنفسها".
4- وعن مقسم عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها، فجاء رجل فألقى عليها ثوباً، كان أحق بها، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (1) .
5- وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
6- وروى العوفي عن ابن عباس: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم، ألقى ثوبه على امرأته فورث نكاحها، ولم ينكحها أحد غيره وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (2) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 226-227) . وانظر فتح الباري 8/ 246-247.
(2) تفسير القرآن العظيم (2/ 226-227) . وانظر فتح الباري 8/ 246-247.(36/59)
7- وقال زيد بن أسلم: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، وكان يعضلها حتى يرثها أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
8- وعن أبي أمامة بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (1) .. وحسن إسناده ابن حجر.
9- وعن عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة حبسها أهله على الصبي حتى يكون فيهم، فنزلت: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (2) .
10- وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفي كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء- إذا لم يكن ابنها- أو ينكحها من شاء: أخاه أو ابن أخيه.
11- وقال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس، توفى عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يارسول الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية.
12- وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، جاء وليها فألقى عليها ثوبا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يشب، أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها، ولم يلق عليها ثوبا نجت، فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (3) .
13- وقال مجاهد أيضاً: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها، أويزوجها ابنه.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 226-227) . وانظر فتح الباري 8/ 246-247.
(2) تفسير القرآن العظيم (2/ 226-227) . وانظر فتح الباري (8/ 246-247.
(3) تفسير القرآن العظيم (2/227) .(36/60)
وهذا مروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، ذكر هذا ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: قلت: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم.
رابعاً: الاعتداء عليها بالأنكحة الجاهلية
أشار القرآن الكريم إلى بعض تلك الأنكحة التي كانت تمارس في الجاهلية ووصفها بأوصاف غليظة تنفيراً منها وتقبيحا لها، كما أوضحت السنة بعضاً منها، وقد أبطلها الإِسلام، فمن ذلك:
أ- نكاح المقت: وهو نكاح الابن لزوجة أبيه بعد وفاته:
قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} النساء: 22.
وورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه قيس امرأته، فقالت: إنما أعدّك ولدا، وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا قيس توفي، فقال: "خيرا"، ثم قالت: إن ابنه قيس خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعده ولدا، فما ترى؟ فقال: "ارجعي إلى بيتك" قال: فنزلت: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... } (1) .
وعن عكرمة قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت، خلف على أم عبيد الله ضمرة، وكانت تحت الأسلت أبيه، وفي الأسود بن خلف، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبيه خلف، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية.
قال ابن كثير: وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية، ولهذا قال: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} .
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم، نقلا عن ابن كثير (2/232) .(36/61)
وهذا النوع من النكاح وصفه الله بثلاثة أوصاف بشعة، وهي الفحش الذي هو الزنا، كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} الآية.
ووصفه بالمقت، الذي هو البغض الشديد، ووصفه بإساءة السبيل، أي: الطريق للذي سلكه وتعاطاه.
قال ابن كثير: وعلى كل تقدير، فهو حرام في هذه الأمة، مبشع غاية التبشع، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن} ، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فزاد ههنا: {وَمَقْتاً} ، أي بغضا، أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بإمرأته فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة، لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس، صلوات الله وسلامه عليه.
2- الجمع بين الأختين (نكاح الأختين معا) :
قال تعالى في بيان المحرمات على الرجل نكاحهن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ... } النساء: 23.
أخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} .
قال ابن كثير: وهكذا قالت عطاء وقتادة.(36/62)
وقال محمد بن الحسن: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين، إحداهما: نكاح امرأة الأب، والثانية: الجمع بين الأختين، ألا ترى أنه قال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف} ، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ، ولم يذكر في سائر المحرمات {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف} (1) .
3- نكاح المتعة:
وهو زواج بين رجل وامرأة لمدة معينة لقاء أجر معين، فإذا انتهى الأمد وقع الفراق.
وقال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل، لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق.
وقال ابن عطية: وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعيطها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة، فليس له عليها سبيل، يستبرئ رحمها، لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
وذهب الحافظ ابن كثير إلى أن نكاح المتعة يستدل! له بعموم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... } النساء: 24، حيث قال: "وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولاشك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك".
وقد رد هذا الاستدلال الشيخ الشنقيطي، وبين أن الآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة، وأجاب على الاحتمالات الواردة على أن هذه الآية في نكاح المتعة، فتنظر.
وهذا النوع من الأنكحة ثبت تحريمه بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 119) .(36/63)
وعن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله حرم ذلك إلي يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" رواه مسلم.
4- نكاح السفاح، أو نكاح أمهات الرايات، أو نكاح البغايا:
قال تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَات ... } المائدة: 5.
والسفاح في الآية المراد به الزنا، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح، لا من سفاح".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المسافحات هن الزواني المعلنات، يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحداً أرادهن بالفاحشة".
وقال القرطبي: {غَيْرَ مُسَافِحَات} أي غير زوان أي معلنات بالزنا، لأن أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية ولهن رايات منصوبات كراية البيطار.
وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: ... ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا الولد بالذي يرون فالتاطته به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك.الحديث.
5- نكاد الخدن:
قال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان ... } النساء: 25.
وقال تعالى: {إذاءآتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحن ولا متخذى أخدان ... } المائدة: 5.
والأخدان جمهم خدن، والخدين هو الصديق، وهو قول الحسن البصري.
وقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل ابن حيان وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير: هو الخليل.
والعرب تقول: ما استتر، فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم.(36/64)
وهذا النوع من النكاح، هو ارتباط بين المرأة والرجل ومعاشرتها كمعاشرة الزوج بدون أي عقد يبرم بينهما، ويتم اللقاء بينهما سريا دون المجاهرة بذلك، لأنهم يعتبرون ذلك لوما.
6- نكاح البدل:
وهذا النوع من الأنكحة الجاهلية بيّنه أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه عنه الدارقطني بسند فيه ضعف قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك.
7- نكاح الاستبضاع:
وهو طلب المرأة من الرجل المجامعة لتحمل منه.
8- نكاح الرهط: وهم ما دون العشرة.
وهذان ورد بيانهما في حديث عائشة الصحيح، حيث قالت: إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
فنكاح منها: نكاح النساء اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها.
ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر: يجتمع الرهط مادون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.
9- نكاح الشغار:
وقد ورد النهي عنه وتفسيره في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار ... والشغار: أن يزوج ابنته، على أن يزوجه ابنته، ليس بينهما صداق.
15- نكاح الإرث أو العضل:(36/65)
وقد فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه أبو داود حيث قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك أي نهى عن ذلك.(36/66)
تفسير الكتاب العزيز وإعرابه
لأبي الحسين عبيد الله بن أبي جعفر بن أحمد بن أبي الربيع القرشي الأموي الأندلسي الإشبيلى
المتوفى سنة 688 هـ
تحقيق ودراسة الجزء الأول
الدكتور علي بيت سلطان الحكمي
الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية
(أ)
بين يدي تفسير الكتاب العزيز وإعرابه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن أبا الحسن عبيد الله بن أبي الربيع الأشبيلي الأندلسي كان إمام عصره في بلاد الأندلس، اشتهر بدروسه في مدينة إشبيلية قبل سقوطها في أيدي الفرنجة، وفي مدينة سبتة بعد هجرته إليها. وقد امتد الزمن بدروسه أكثر من نصف قرن وقصده الدّارسون من كل أوب وفج يقيدون عنه ويفيدون منه، ويروون ويحملون ما يجيزهم روايته وحمله. وقد تخرج به الجمع الغفير من العلماء الذين صاروا به أئمة في مختلف الفنون، وكان لبعض منهم مؤلفات لا يحصرها ديوان، ويعز جمعها على ذي البحث والتنقير والافتنان، وقد كان لانقطاعه للعلم والدرس ومباعدته أهل الدنيا أثر واضح في تمكنه العلمي ورسوخه في مختلف الفنون التي كانت شغل الدارسين وحديثهم، ولئن انحصر نشاطه العلمي في التأليف والشرح والتّقيْيد على النحو والصرف، وما يتصل بهما إن له لقدماً راسخة في مختلف العلوم لكنّ علوم العربية كانت تُمَثِّلُ التخصُّص الدقيق الذي تأكد فيه رسوخه وأحاط به معرفة وفهماً، لذلك خصه بالتأليف والشرح والتقييد على أمهات المصادر والأصول، إسعافاً للدارسين، وإثراءً لجوانب من هذا العلم بالتحقيق المستقصي والبحث الموفّي لما بدأه السلف من أئمة هذا الشأن، وقد أراد أن يختم نشاطه العلمي في آخر أيّامِه بمؤلف يجمع فيه ما كان حصله في رحلته الطويلة مع الدرس والمراجعة فكان هذا الكتاب الموسوم بتفسير الكتاب العزيز وإعرابه الذي شرع في إملائه في الأيام الأخيرة من حياته، وسلك فيه النهج الوسط مُتحامياً الإطناب المُمِلّ(36/67)
والإيجاز المخل، لكنَّ القدر لم يُمْهل ابن أبي الربيع كثيراً من الوقت ليتَسنَّى له إتمام هذا التفسير بل عاقته المنية وهو مازال يملي على طلابه ما أعدّهُ من تفسير وبيان وإعراب على آية المائدة (109) : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فرحم الله ابن أبي الربيع وأجزله مثوبته.
أما العمل في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه فيتلخص فيما يلي:
أولا: التعريف بمؤلفه تعريفاً موجزاً امتدّ إلى شيوخه وما حمله ورواه عنهم، أمّا تلاميذه فقد اقتصر البحثُ على بعض المشاهير من تلاميذه، لأنَّ العدد الحاصر لطلابه ليس بُمِتَأت جمعُهُ، فعالم تمتدُّ حلقته للدرس والإقراء واِلإجازة المروية أكثر من نصف قرن، وفي مدينتين من أعظم المدن الأندلسية، ويقصده أفواج الدارسين من الأندلس والمغرب يتعذر حصر طلابه بعد فقد الكثير من المصادر وكتب الفهارس والبرامج التي يظن أن بها الجمع الغفير من طلابه الذين لم يُهتد إليهم بعد، ولذلك فما ذكر له في دراسة كتابه الملخص في ضبط قوانين العربية عددٌ تقريبي، وكذا ما توصل إليه الزميل الدكتور عياد الثبيتي فيما أعدّه على كتاب البسيط هو عدد تقريبي أيضاً وليس حاصراً لهم. وقد كان في ذكر ما سبق في هذين الكتابين غُنيَة عن هذا التّعريف لولا خشية أن يقع هذا البحث بين أيدي من لم يكن لديهم الكتابان السابقان، فيكون في ذلك نقصٌ بالغرض الذي يَهدِفُ إليه هذا التعريف.
ثانياً: دراسة النص الذّي عثر عليه من تفسير ابن أبي الربيع وتوثيق نسبته إليه، وتصحيح ما وقع فيه بعض الباحثين عن حجم هذا التفسير أو كمه.(36/68)
ثالثاً: تحقيق النص وفق المنهج الذي ترسمه أئمة التحقيق، والضوابط التي وضعوها ما أمكن، ولا ادّعي أني وفيته حقه، لكن حرصت على ذلك جهد الطاقة، وقد وجدت صعوبة بالغة في قراءة النص وردّ شوا رده مما أضيف إليه في المقابلة التي ذهب جزءٌ كبير منها بسبب الرطوبة وتقادم النسخ لهذا الكتاب.
هذا والله أسأل أن يعظم الأجر لأبي الحسين عبيد الله بن أبي الربيع وأن يتقبل منه عمله في خدمة العلم وطلابه.
الفصل الأول: ابن أبي الربيع: حياته وآثاره، وفيه مباحث:
المبحث الأول: اسمه ونسبه ونشأته:
هو أبو الحسين عبيد الله بن أبي جعفر بن أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي الُأمَويّ ثم العثماني الأندلسي الإشبيلي، يتصل في سلسلة نسبه بالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان موطن أجداده قرطبة إبان أزدهارها واستقرار الأمن فيها، فلمّا اجتاحها الصليبيون خرج جده فيمن خرج من أهل قرطبة فقصد لبلة حيث أقام بها فترة هو وبنوه، ثم ما لبث أنْ غادرها إلى مدينة إشبيلية قاعدة دولة الموحدين يومئذ، وفي مدينة إشبيلية كانت ولادة ابن أبي الربيع سنة 599هـ ولا تذكر المصادر شيئاً عن كيفية نشأته الأولى، ولا يبعد أن يكون قد أخذ من حداثة سنه قدراً كبيراً من حفظ القرآن الكريم وتجويده أو حفظه كاملا، ثم امتد به الدرس إلى العلوم الأولية التي تعدّ الدارس لما بعدها من الدراسة الموسَّعة في أمهات الكتب والمصادر المبسوطة في مختلف الفنون التي كانت مقصد الدارسين في الأندلس وشغلهم الشاغل.(36/69)
وقد قدر لابن أبي الربيع الاتصال بنخبة لامعة من أئمة العلم البارزين في الأندلس وأن يأخذ عنهم ويحمل ما أجازوه حمله وروايته من مصنّفاتهم وسائر الكتب التي رووها عن أشياخهم ودرسوها في مجالسهم وحلقات دروسهم العامة، وقد ساعده على جودة التحصيل طموح قاده إلى التّفوق العلمي، وكفاءة سمت به إلى ذروة المجد يوم خلف شيخه أبا علي الشلوبين على درسه في الجامع الأعظم بإشبيلية بتوجيه من شيخه أبي علي فوصل درسه بدرس شيخه وسنده بسنده في كفاءة نادرة لا يجارى فيها وبراعة فائقة لا يشق له غبار، وأداء ما يتقاصر فيه عن شيخه أبي علي الشلوبين، إن لم يكن فاقة في رجاحة العقل ونباهة الضمير وحسن الممالحة، في مقابل الغفلة والبَلَه اللّذين نحس حظ أبي علي الشلوبين بهما، وغيرهما من الصّفات المنغصة في حياة أبي علي الشلوبين رحمه الله.
المبحث الثاني: شيوخه
حفل برنامج ابن أبي الربيع الذي رواه عن شيوخه، وأملاه على تلميذه أبي القاسم ابن الشاط الأنصاري - بأسماء نخبة من العلماء الّذين التقى بهم وصحبهم وقرأ عليهم، أو سمع ما يُقرأ في مجالسهم، أو أجازوه رواية ما روَوه عن أشياخهم أو أذنوا له برواية مصنفاتهم وغير ذلك من طرق الأداء والتحمل وفيما يلي تعريف موجز بأشياخه الذين ورَدَ ذِكْرُهم في برنامجه بحسب الكنية التي تصدرت اسم كلّ شيخ منهم.
1- أبو بكر محمد بن عبد الله الأنصاري الإشبيلي المعروف بالقرطبي المقري (1) .
كان عالماً مقرئاً مجوّداً ورعاً مُتَقَلّلا مِن الدُّنيا عاكفاً على التقييد، حريصاً على استفادة العلم..
قال ابن أبي الربيع فيما أخذ عنه: لزمتُه وحضرتُ مجلَسَهُ وقرأتُ عليه بعض كتاب الموطّأ، وسمعتُ عليه بعض تأليفه في التفسير، وأجازني جميع ما رواه عن جميع شيوخه. توفى سنة 628هـ.
__________
(1) ينظر ترجمته في الذيل والتكملة 6/ 240، وبرنامج شيوخ الرعيني: 11- 14.(36/70)
2- أبوبكر 2محمد بن نبيل الغافقي الإشبيلي. (..- 630هـ) كان قاضياً وفرضيَّا مقصوداً في درسه.
قال ابن أبي الرّبيع: تَعلّمتُ عليه الفرائض 00) .
3- أبو الحسن علي بن جابر اللّخمي الإشبيلي المعروف بابن الدبّاج. (556-646 هـ) . كان إماماً في النحو، حُجّة في النّقل مُسدّداً في البحث، تخَرّجَ به عدد كبيرٌ من العلماء.
قال ابْنُ أبي الرَّبيع: "حضرت مجلَسه في جامع العدَبَّسْ وسمعتُ عليه بَعضَ كتاب سيبويه، وأجازني في جميع ما رواه عن شيوخه".
4- أبو العبّاس أحمد بن محمد اللّخمي العَزَفي السَّبتي (557-633 هـ) عالم بالسنة والفقه، لزم التدريس بجامع سَبّتَة طيلة حياته، وقَصدَهُ الدَّارسون يفيدون منه ويقيدون عنه.
قال عنه ابن أبي الربيع: (كَتَبَ إليَّ بإجازة، ما رواه عن جميع شيوخه) .
5- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن خلفون الأزدي الأندلسي الأونْبي
(555 ـ 633 هـ) كان عالماً حافظاً ناقداً بصيراً بالحديث ورجاله، وله فيه مصنفات مشهورة، منها المنتقى في الرجال، والمفهم في شيوخ البخاري ومسلم، وكتاب علوم الحديث، وغيرها.
قال ابن أبي الربيع: "لقيته بإشبيلية، وأجازني في جميع ما رواه عن شيوخه".
6- أبو علي الشلوبين عمر بن محمد الأزدي (562-646 هـ) كان إماماً في علوم العربية، تصدّر للتدريس سِنِىّ حياته، له العديد من المصنفات والشروحات.
قال ابن أبي الربيع: "لزمت مجلسه وقرأت عليه جميع كتاب الإيضاح وأكثر كتاب سيبويه، وسمعت بعضه بقراءة غيري، وقرأت عليه بعض الحماسة الأعلمية، وبعض الأمثال لأبي عبيد، وسمعت عليه بقراءة غيري بعض شعر حبيب، وبعض الأمالي للبغدادي، وبعض المفصل للزمخشري ... إلى أن يقول: وكانت الجزولية تقرأ عليه وأنا أسمعُ، وأجازني جميع ما رواه عن شيوخه".
7- أبو عمر محمد بن إبراهيم الإشبيلي المعروف بابن زغلل. كان فقيهاً حافِظاً، عارفاً بالنوازل، فرضياً.(36/71)
قال ابن أبي الربيع: فيما حمله عنه: "حملتُ عنه إجازة كتاب ابن القاسم الحوفي في الفرائض، وحدّثني به عن القاضي أبي القاسم المذكور) .
8- أبو عمر محمد بن أحمد بن هارون التميمي الإشبيلي. أخذ عن أبيه أبي القاسم، وأبي الحسن بن خروف، وابن طلحة، وغيرهم.
قال ابن أبي الربيع فيما قرأه وسمعه عليه وأجازه روايته: "قرأت عليه الكتاب العزيز بقراءات السّبعة حسب ما تضمَّنَهُ كتاب الكافي، وبالإدغام الكبير، وبقراءة يعقوب، وسمعت منه كتاب الكافي لأبي عبد الله بن شريح، وقرأت عليه كتاب المفردات من تأليفه وتأليف ابنه شريح، والجمل مَرّتين، والتّبصرة للصّيمري والأشعار السّتةَ والفصيح وعرضتها عليه، وأدب الكاتب وعرضته عليه من أوله إلى (إقامة الهجاء) ، وإصْلاح المنطق، وعرضته عليه دولا، والحماسة الأعلميّة وعرضتها عليه دولا إلاَّ يسيراً من آخرها، وأجازني جميع مما رواه عن جميع شيوخه".
9- أبو الفتوح عمر بن فاخر العبدري ( ... - 636 هـ) كان فقيهاً أصولياً، عالماً بالنحو.
قالت ابن أبي الربيع: ".. أخذت عنه المستصفى بين قراءة وسماع، وسمعت عليه أبعاضاً من كتب الفقه".
10- أبو القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن القرطبي الأموي قاضي الجماعة المعروف بابن بقي (537-625 هـ) .
قال الرعيني في برنامجه: "بيته بقرطبة معروفٌ بالعلم والنّباهة، لم تزل خطَّة القضاء متداولة في سلفه 00".
وكان عالماً باللغة العربية، ألف كتاباً في الآيات المتشابهات أحسنُ شيَءٍ في بابه.
قال ابن أبي الربيع: "قدمَ علينا إشبيلية وهو شيخٌ كبير فسمعت عليه بعض كتاب الكافي لأبي عبد الله بن شريح، وبعض كتاب الموطأ رواية يحيى بن يحيى وأجاز لي جميع ما رواه عن جميع شيوخه. 0".
11- أبو محمد عبد الله بن محمد الجذامي الشّلطيشي. قال عنه الرعيني: "هذا رجلٌ من خيار المسلمين وصلحائهم".(36/72)
كان عالماً بالفقه المالكي، محصلاَ له حفظاً وإتقاناً، مجوداً لتوجيه أقوال أصحابه، مستقلاً بترجيح ما يجري على أصوله..".
قال ابن أبي الربيع: "قرأت عليه بعضاً من كتاب المختصر لأبي محمد بن زيد، وسمعت منه بعضاً ولم أكمله، وسمعت عليه بعضاً من كتب الفقه".
12- أبو محمد عبيد الله بن علي بن محمد الأنصاري الأشجعي المعروف بابن سناري (576-647 هـ) .
يعد من أهل النباهة والفهم والتيقظ والاستنباط الحسن، له جوابات فيما سئل عنه تدل على متانة علمه.
قال ابن أبي الربيع: "سمعت عليه المستصفى وأبعاضاً من كتب فقهيّة، وأجازني كتاب البراذعي، حدَّثني به عن أبي الحسن الأبياري".
المبحث الثالث: تلاميذه
امتدّت الحياة بابن أبي الربيع نحواً من تسعين سنة قضاها أو قضى جُلّها في ميدان العلم الواسع، تحصيلاً له في مرحلة التحصيل وبذلاً له في مجال التعليم والتدريس "معاناً على علمه بما جبل عليه من انقباض عن الناسِ ومباعدة أهل الدنيا وقلّة العيال وشغل البال، منعكفاً على التدريس والتعليم".
وهذا العمر الطويل في ميدان العلم لعالم كابن الربيع قد هيأ الفرصة لجمع غفير من الطلاب والدارسين الذين قصدوا مجلسه وحلقة دروسه في مدينة إشبيلية قبل انتقاله منها، وفي مدينة سبتة بعد هجرته إليها، لكنّ العدد الذي أوردته بعض المصادر وكتب البرامج والفهارس الأندلسية أقلّ بكثير ممّا يتوقع، وربما كان له طلاب غير من ذكروا. وقد سبق لي حديث عن تلاميذه الذين وقفت عليهم في دراسة السفر الأولى من كتاب الملخص في ضبط قوانين العربية، واكتفي بذكر بعض مشاهير طلابه الذين عرفوا بعلمهم وخلدوا بآثارهم الباقية من بعدهم.
أبو إسحاق الغافقي الإشبيلي (641 - 716 هـ) :(36/73)
هو إبراهيم بن أحمد بن عيسى الغافقي الإِشبيلي يكنى بأبي إسحاق، خرجت به أسرته من إشبيلية بعد سقوطها في أيدي الصليبيين، فقصدت به سبتة مهاجر الأندلسيين أيام المحنة، وفي سبتة قدر له الاتصال بابن أبي الربيع وملازمته والأخذ عنه حتى استكمل تحصيله في مختلف العلوم التي واظب على تحصيلها، وقد خلف ابن أبي الربيع للتدريس، فكان منه مكان ابن أبي الربيع من شيخه أبي علي الشلوبين يوم خلفه على كرسي الدرس في جامع إشبيلية، أخذ عنه أبو عبد الله محمد البيري، وشمس الدين محمد بن جابر الوادي آشي، ويوجد الجزء الرابع من الكافي في الإفصاح عن مسائل كتاب الإيضاح بخط إبراهيم الغافقي هذا بالخزانة العامة بالرباط تحت الرقم 379 ك.
أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي الأندلسي (627-708 هـ) : قال عنه ابن جابر في برنامجه: "أشهر من أن يعرف به، ذو التواليف الجمة، والعلم الغزير، أستاذ بلده".
أخذ عن جماعة من العلماء، فيهم ابن أبي الربيع، وأبو الحجاج يوسف بن إبراهي المالقي، وأبو عبد الله محمد بن يوسف المالقى، وابن سيد الناس، ومن تلاميذه ابن جابر الوادي آشي.
ابن الشاط (643- 723 هـ) :
هو قاسم بن محمد الأنصاري السبتي المعروف بابن الشاط، صحب ابن أبي الربيع وأخذ عنه، صنف مصنفات منها كتاب الإشراف على الشرف برجال سند البخاري.
التجيبي (- 730 هـ) :
هو القاسم بن يوسف بن محمد التجيبي البلنسي السبتي. كان عالماً ضابطاً، أخذ عن طائفة من أئمة العلم في عصره، ولازم ابن أبي الربيع أخذاً عنه، وراوياً أو سامعاً، وهو آخر من درسوا في حلقة ابن أبي الربيع، وروى عنه تفسير الكتاب العزيز وإعرابه، قال يا صفة أخذه: "سمعت طائفةً منه من لفظه، وأجازني جميعه".
ابن رشيد (657- 721 هـ) :(36/74)
هو محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن إدريس الفهري أبو عبد الله المشهور بابن رشيد، أخذ العلم عن أئمة عصره، فأخذ عن أبي الربيع النحو والقراءات، وقيد تقييداً حسناً على سيبويه، له مؤلفات نافعة، من أشهرها ملء العيبة، وتقييد على سيبويه، والسنن الأبينَ في السند المعَنْعَنْ.
المبحث الرّابع: مكانته العلمية
قُدِّرَ لابن أبي الربيع نشأة علمية متميّزة حَقَّقتْ له طموحه في التّحصيل العلمي، والاطلاع الواسع على موارد العلم المختلفة، والإحاطة بأكثر العلوم العقلية والنقلية التي كانت شغل العالمين والدارسين في عصره. ولذا نجده ينعت باللغوي والنحوي، والفرضي، وإمام المقرئين، الحافظ، الحسابي المتقن.
وهذه النعوت تدل على تمكنه من أكثر الفنون وتحقيقه فيها، وَلَئن كانت السمة الغالبة على آثاره الموجودة والمذكورة في مصادر ترجمته تنحصر في علم النحو والتصريف وما يتصل بهما إنَّ له مشاركة وتمكناً في أكثر العلوم التي واظب على دراستها طالباً يتلقىَّ، وعالماً يُعطى ثمرة تحصيله العلمي ونتيجة نشاطه وعصارة فكره لطلابه في الحديث وفقه ورجاله إسناده، والفقه وأصوله، وفي القراءات والتفسير، والفرائض، بله النحو والصرف وعلوم اللغة العربية وقد أفاضت كتب التراجم والفهارس والبرامج بابن أبي الربيع وأبانت عن مكانته بين علماء عصره، فتلميذه ابن الشاط يقول: في شأنه: "أعلم مَن لقيناه، وأعظم مَنْ روينا عنه العلم ولقنّاه، وأجلُّ مَنْ نظم بين يديه اجتماعنا وعظم بما لديه انتفاعنا".
ويقول تلميذه التجيبي: "شيخ الأستاذين، وإمام المقرئين، وخاتمة المعربين العلامة الأوحد، الحافظ النحوي اللغوي الحسابي، الفرضي".
وقال السيوطي: "إمام أهل النحو في زمانه، ولم يكن في طلبة الشلوبين أنجب منه".
وقال ابن القاضي: "كان إليه المفزع في المشكلات بصيراً بالفقه وأصوله والقراءات والحساب، والفرائض، وإمام الناس في النحو.".(36/75)
هذه أمثلة من شهادات بعض العلماء الذين اتّصلوا به وقيدوا عنه، والذين رووا طرفاً من سيرته العلمية، وَهِي تدلّ على ما بلغه قَدْرُهُ، وما انتهت إليه شهرتُهُ في العلم والتدريس والإجازة، فقد كان مقصد الدارسين من كل فج، وحديث العلماء في المشرق والمغرب، الذين تناقلوا أخباره وتداولوا كتبه يفيدون منها ويتدارسونها ويفزعون إليها في مواطن الاختلاف وتحرير المسائل، وحسبه أن يَسْتخلفه شيخه أبو علي الشلوبين على كرسيه في الجامع الأعظم بإشبيلية ليقوم بدرسه من بعده، فقام به خير قيام وأدّى أداءهُ في توجيه المسائل الدقيقة، باستقصاء أطرافها واستجلاء غوامضها، مِماَّ أعلى قدره يومئذٍ بين الدارسين فاشرأبت إليه الأعناق، وتزاحمت في حلقة دروسه مناكب طلاب العلم على مختلف مراحلهم ودرجاتهم، وحسبه أن كان من آخر المقرئين لكتاب سيبويه العارفين بغوامضه الفاتحين مغاليقه المقربين ما تناء من مسائله، العالمين بعويصه ومشكله، وقد أُعين على ذلك بالانقطاع إلى العلم ومباعدة أهل الدنيا وقلة الصوارف والعيال.
المبحث الخامس: وفاة ابن أبي الربيع وآثاره
أ- وفاته: كان ابن أبي الربيع مِمّنْ نسأ الله له في الأجل وبارك له في حسن العمل، فقد أمضى سِنيّ حياته- التي قاربت التسعين عاماً في محراب العلم، طالباً يتلقىّ وعالماً يعطى ثمار ما حَصَّلَه من العلم لطلاب العلم والدّارسين علماً منظماً ورواية مُسنَدةً، وإجازةً باقيةً، وكان آخر عمل أراد أنْ يَطْوي به رحلته الطويلة في الدرس والتأليف، ويختم به نشاطه العلمي هو تفسير الكتاب العزيز وإعرابه، فقد شرع في إملاء ما أَعدَّهُ في آخر أيامه من تفسير وإعرابِ وقراءاتٍ على القرآن الكريم، وفيما كان يتوجه هذا العمل بين يديه أتاه اليقين صبيحةَ يوم الجمعة السّادس عشر من شهر صفر من سنة 688 هـ.(36/76)
ب- آثاره: يكاد نشاط ابن أبي الربيع في التأليف، وما أعدَّه من شروحاتٍ على بعض كتب المتقدمين، وتقييدات ينحصر في مجال النحو والصرف وما يتصلُ بهما، أمّا في مجال التدريس فقد امتدّت دروسه إلى العلوم العقلية والنقلية فكان له دروس في القراءات، وفي الحديث ورجاله، والفقه وأصوله، وفي التفسير، والفرائض، وغيرها. ولكن دروسه في النحو والصرف كانت تستأثر باهتمام أكبر منه، لأنَّ هذا الميدان كان ميدان تخصصه، فقد حققّ العلم بهذا الفن وأحاط بشوارده، لذلك كان نشاطه في التأليف والشروح منحصراً فيهما، ولا يبعد أن تكون له آثار في بعض الفنون التي أفسح لها في حلقات دروسه، وأعطى فيها إجازة باقية ورواية متصلة لأنَّ المصادر التي بين أيدينا، وكتب البرامج الموجودة لا تنفي أن يكون له نشاط علمي في غير النحو والصرف ولكنها غير صريحة في ما تعزو إليه فيما عدا الرواية وإجازتهُ لبعض العلوم، فيْبقى البحث مع ما ذكر له من الآثار الباقية والمفقودة، المطبوعة والمخطوطة، وقدْ سبق لنا دراسة هذه الآَثار في السفر الأوَّل من كتابه الملخَّص في ضبط قوانين العربية بما يغني عن الإِعادة والتكرار لما تطرّق إليه البحث هناك، وإنما نُشير في البحث هنا إشارة موجوزة إلى هذه الآثار، ونتوجه بالدراسة لكتابه (تفسير الكتاب العزيز وإعرابه) موضوع هذه الدراسة، وبخاصة ما يتعلق بالقضايا النحوية والصرفية في السفر الموجود من هذا الكتاب. والسمة الغالبة على ابن أبي الربيع في أعماله وآثاره الموجودة أو المفقودة هي الشرح والتقييد على كتب المتقدمين التي كانت تقرأ عليه في حلقة دروسه، ولذا تعددت شروحاته عليها، حسب ما يقتضيه حال الدارسين في الإِيجاز والبيان والتفصيل، ونعرض هنا لآثار ابن أبي الربيع وفق ما أوردته المصادر التي وقفنا عليها:
كتاب البسيط:(36/77)
وهو شرحٌ على كتاب الجمل للزجاجي، وله على هذا الكتاب عِدّة شروحات فيها المختصر والمبسوط، وقد أورده بهذا الاسم غير واحد من علماء عصره وممّن جاء من بعده، قال تلميذه القاسم بن يوسف التجيبي في برنامجه: (وله على كتاب الجمل المذكور عدة شروحات أعظمها الكتاب الموسوم بالبسيط، وَهُو في عدّة مُجلّدات ظَهَرَ فِيهِ حفظُهُ وتبريزه.
ويبدو أنه شرع في هذا الشّرح وهو في مدينة إشبيلية، وأتّمهُ في مدينة سبته، هذا ما توصل إليه مُحقّق الكتاب الزميل الدكتور عياد الثبيتي لقول ابن أبي الربيع في مقدمة الكتاب: (..وكان الذّي أعانني على إكماله وتتميمه الذّي اتفق الأنام على فضله وتقديمه، فخر الزّمان المذكور بكل مكان، المشكور على كلّ لسان، الّذي عَمّت فضائله، وانتشرت في الورى فواضله.. الفقيه الأوحد، الأسنى الأفضل أبو القاسم محمد ابن الإمام العلامة المحدث الراوية أبو العباس أحمد ... ) .
وأبو القاسم هذا هو أمير سبتة وطنجة إبّان قدوم ابن أبي الربيع إليها، ولا يبعدُ ما ذُكِر في زمن تأليف هذا الشرح عن الصواب، فإن الفترة التي أمضاها ابن أبي الربيع في مدينة إشبيلية أكثر من الفترة التي قضاها في مدينة سبتة، والمظنون أنّ حياته في مجال التدريس في مدينة إشبيلية لا تقل عن خمس وعشرين سنة، وهي فترة حافلة بالحيوية وحسن الأداء في الدرس والتأليف والشرح والتقييد.
يُوجدُ من هذا الكتاب السفر الأول يبدأ بالكلام على قول الزجاجي: (أقسام الكلام ثلاثة) (1) وينتهي بالكلام على قول الزجاجي في الصفة المشبهة (والوجه الحاد عشر أجازه سيبويه، وهو قولك: مررت برجلٍ حسنٍ وجههِ 00) (2) . (وقد قام بتحقيقه ونال به درجة الدكتوراه الزميل عياد الثبتي وهو مطبوع في دار العرب الإسلامي في مجلدين) .
الشرح الأوسط على كتاب الجمل:(36/78)
أورده التجيبي في برنامجه (3) ويوجد الجزء الأول منه في المغرب بخزانة ابن يوسف بمراكش، تحت الرقم (100) كتب سنة 724 هـ بخط أندلسي، واسم الناسخ محمد بن أحمد بن مخلوف، وعليها تملك باسم إبراهيم الرشيد بن عبد الله بن محمد (4) .
ـــــــــــــــ
(1) البسيط 1/157. (2) البسيط 2/1099- 11 10.
(3) برنامج التجيبى 280. (4) ينظر البسيط 1/ 70.
كتاب الكافي في الإِفصاح عن مسائل كتاب الإيضاح (1) :
هذا هو عنوان الكتاب وفق ما أثبته ابن أبي الربيع في المقدمة التي استهل العمل بها في هذا الشرح، وسمَّاه القاسم بن يوسف التجيبي في برنامجه الكافي في الإفصاح عن نكت الإِيضاح (2) ، وفي بعض المصادر سُمِّيَ بالإفصاح (3) ، وربّما سُمّي شرح الإِيضاح في أكثر المصادر التي تورده أو تورد نقلاً عنه، والكتاب من أوسع الشروحات التي قدمت على كتاب الإيضاح وأفضلها في عَرْض المادة العلمية ومناقشتها وتَقصِيّ مسائل الخلاف، وتحرير القول فيه بالدليل وبالقياس.
وقد سبق لي حديث عنه فيما كتبته على الملخص في ضبط قوانين العربية (4) .
توجد لهذا الكتاب نسخ مفرقة في مكتبات وخزائن المغرب، وهي تكمل الكتاب بأجزائه الأربعة.
فيوجد منه الجزء الأول في خزائن القرويين تحت الرقم (513) ، وله نسخة ثانية في الخزائن الحمزية تحت الرقم (17) ، وله نسخة ثالثة في مكتبة الجامع الكبير بمكناس تحت الرقم (411) .
الجزء الثاني. توجد له نسختان: الأولى بالخزانة الملكية تحت الرقم (5298) ، والثانية بالزاوية الحمزية تحت الرقم (17) .
الجزء الثالث، توجد له نسخة نادرة بخط ابن آجروم. بفاس.
وله نسخة ثانية بالخزانة الحمزية تحت الرقم (41) ، وبها خرمٌ من أولها وآخرها.
الجزء الرابع، توجد له نسخة نادرة كتب بخط أحمد بن إبراهيم الغافقي تلميذ ابن أبي الربيع كتبت في شهر شوال سنة 658 هـ. توجد في صدر هذا الجزء إجازة لأبي مروان
ـــــــــــــــ
(1) اللوحة 4 من الكافى السفر الأول.(36/79)
(2) برنامج التجيبى 287.
(3) تاريخ الإِسلام للذهبى حوادث سنة 688هـ.
(4) الملخص 1/51.
عبد الملك بن شعيب القشتالي بخط ابن أبي الربيع نفسه. والنسخة بالخزانة العامة بالمغرب تحت الرقم (379) .
وله نسخة ثانية بالخزانة الحمزية تحت الرقم (41) .
كتاب الملخص في ضبط القوانين العربية:
وله نسخُ في المغرب وأسبانيا ويقع في جزء ين، الأول خاص بالنحو، والثاني خاص بالصرف، وقد حقق الأول لدرجة علمية وطبع في عالم الكتب سنة 1405 هـ.
وحقق الثاني وطبع في الباكستان طباعة مشوهة تداخلت فيها نصوص الكتاب بالحواشي والتعليقات مما دعا إلى إيقاف توزيع الكتاب.
تقييد على كتاب سيبويه:
تذكره بعض المصادر بهذا العنوان (1) ، وبعض منها يذكر أنَّه تعليق على سيبويه (2) ، وبعض منها يورده بعنوان شرح سيبويه (3) ، ولعلّ القول بأنه تقييد على كتاب سيبويه هو الأقرب إلى الصحة من سائر العنوانان التي ذكرت، ولم يرد نقل عن هذا الكتاب في المصادر والكتب التي تورد أقوال ابن أبي الربيع، ممّا يدلّ على اختفاء هذا التقييد في فترة متقدمة من التاريخ قبل أن تتداوله أيدي النُّساخ والوراقين وربما يوجد تحت غير هذا العنوان من الشروح والتقييدات المجهولة المؤلف.
كان ماذا:
هذا كتاب ردّ به ابن أبي الرّبيع على مالك ابن المرحل لورود هذا التركيب في قول مَالِك هذا:
وإذا عشقت يكون ماذا، هل لّه دين علىَّ فيفتدى ويروحُ
ــــــــــــ
(1) ينظر الإحاطة 3/ 146.
(2) ينظر تاريخ الإسلام للذهبي حوادث سنة 688 هـ.
(3) بغية الوعاة 2/ 125.
فأنكر ابن أبي الربيع هذا التركيب بقوله: لحن هذا الناظم، لا يقال كان ماذا،
ولا يكون ماذا، ولا أفعل ماذا، ولا يجوز ما كان على هذه الطريقة (1) .
وهذا الكتاب مفقود مع باقي آثار ابن أبي الربيع المفقودة ومن المحتمل يكون هذا الرد رسالة صغيرة الحجم لا كتاباً مبسوطاً.
الشرح الصّغير على كتاب الإِيضاح:(36/80)
هذا الكتاب من آثار ابن أبي الربيع التي مازالت مفقودة، ولعلّ الله أن يظهره للباحثين والدّارسين، ويبدو أنه من كتبه التي لم يجر تداولها كثيراً بين العلماء بدليل عدم ذكره في أكثر الكتب التي أوردت كتب ابن أبي الربيع، كما لم يرد عنه نقل كما نقل عن غيره، ويكاد القاسم بن يوسف التجيبي ينفرد بذكره فقد أورده لا مقام الاستدراك على شيخه أبي الحسن بن أبي الربيع في عدّهِ عبد الله بن مسعود من العبادلة، وهو ليس منهم، ومما قاله التجيبي:
(وقد سها شيخنا الإمام أبو الحسن بن أبي الربيع- رحمه الله- في ذلك فعدّه فيهم
في شرحه الصغير لكتاب إيضاح الفارسي وفي غيره من تآلفه 00) (2) .
تفسير الكتاب العزيز وإعرابه:
وهو آخر أعمال ابن أبي الربيع العلمية، وخاتمة نشاطه العلمي في الدرس والمراجعة والتأليف، وسيفرد ببحث في هذه الدراسة إن شاء الله، يتناول توثيق نسبته والقدر الذي انتهى إليه فيه ابن أبي الربيع، ودراسة المسائل النحوية والصرفية في الجزء الموجود منه.
ــــــــــــ
(1) النبوغ المغربي 64.
(2) برنامج التجيبي 280.
الفصل الثاني
دراسة المسائل العربية في تفسير الكتاب العزيز وإعرابه، وفيه مباحث
المبحث الأول: توثيق نسبة الكتاب لمؤلفه ابن أبي الربيع(36/81)
هذا الكتاب هو آخر أعمال ابن أبي الربيع، وخاتمة نشاطه العلمي في الدرس والمراجعة والتصنيف، وهو من مُصنّفات ابن أبي الربيع التي لم يرد لها ذكر في أكثر كتب التراجم والبرامج التي ترجمت ابن أبي الربيع وأوردت أسماء مؤلفاته أو شروحا ته على كتب المتقدمين، كما لم يرد عنه نقل في المصادر التي أوردت أقوالا ونقولات عن كتب ابن أبي الربيع، وإنما أورده تلميذه القاسم بن يوسف التجيبي في برنامجه، وقد وثق نسبته إلى شيخه توثيقاً لا يأفكه ارتياب ولا تسنح فيه شبهة، فذكر عنوان هذا التفسير وبدايته ونهايته، والقدر الذي سمعه من إملاء شيخه، ثم إجازته له رواة جميع تفسيره وجميع ما رواه وألفه، وفيما يلي نص كلام التجيبي عن هذا التفسير:
(.. ما تسنى لشيخنا العلامة أبي الحسن القرشي المذكور- رحمه الله- تعالى
من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه، وذلك من فاتحته إلى قوله تعالى في سورة المائدة (109) : (ويَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ، قَالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب) وعاقته المنية عن إتمامه- رحمه الله- ورضى عنه وقدس روحه وبرد ضريحه. وهوَ آخرُ ما ألف. سمعت طائفة منه مِن لفظه في الإملاء وأجازني في جميعه..) .
وأحسب أنّ هذا النص كافٍ في نسبة هذا التفسير لابن أبي الربيع، وهناك من الأدلة التي توثق هذه النسبة وتؤكدها ما يلي:
أولا: ورود اسم هذا التفسير في اللوحة الأخيرة من هذا الكتاب، ونصها: الأول من تفسير القرآن لابن أبي الربيع- رحمه الله- وإن كان في هذه قصور في
البيان ونقص في العنوان فمرده إلى الاختصار أو إلى معلومات الناسخ عن العنوان الحقيقي للكتاب.
ثائياً: بعض الأقوال والآراء التي ناقشتها في هذا التفسير نجدها بنصها أو بنص مقارب في كتبه السابقة على هذا التفسير، ومن الأمثلة التي تؤكد ما أسلفناه ما يلي:(36/82)
أولا: ما قرره في إضافة الوصف- اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال وأضيف إلى المعرفة، كانت إضافة على التعريف والتَّخفيف، وهذا القول أورده في كتابه البسيط بعرض أشمل، وبيان مفصل.
ثانياً: إضافة اسم الفاعل إلى الضّمير.
أورد الخلاف في موضعِ الضمير عند الكلام على قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسَ إِمَاماَ) وهذا الخلاف أورده في كتابه البسيط (2/1048/2-1049) ، والملخص (1/192) .
ثالثاً: خَرّجَ الباء في قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم) على أنها بمعنى الهمزة، قال: والمعنى: أذهب الله نورهم، وأورد شاهدين على مجيء الباء بمعنى الهمزة، ونقل عن ثعلب قوله: ذهبت به وأذهبته، ودخلت به الدار وأدخلته.. إلى أن يقول: ولا أَعلَمُ خلافاً بين النحويين خلافاً في أنَّ الباء تكون بمعنى الهمزة إلا المبر، قال بين الهمزة والباء هنا فرق، وذلك أنك إذا قلت: أذهبت زيداً، المعنى جعلته يذهب وإن كنت غير ذاهبٍ معه، وإذا قلت: ذهبت بزيدٍ فلا تقوله حتّى تذهب معه.
وهذا القول والتوجيه أورده ابن أبي الربيع في كتاب البسيط (1/417) و (2/995) .
رابعاً: وجّه قراءة النصب في "غشاوة"من قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) على إضمار فعلٍ دلّ عليه وختم، قال: لأِنَّ الختم في القلب والعين نظير جعل الغشاوة على العين..) واحتج لذلك بقول امرئ القيس:
وريح سنا في حقّة حميرّية تخصّ بمفروك من المسك أذفرا
المعنى: ويضمّخْن ريح سنا، وحذف يُضمَّخْنَ، لأَن ما قبله وهو يُحلّينْ يَدُلّ عليه.
وهذا التوجيه للشاهد أورده في كتاب الملخص (1/ 385) في احْتِجاجه به على نصب "شركاءهم "من قوله تعالى: (فَأَجْمعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءكُمْ) حيث جعل النصب هنا على إضمار فعل تقديره، وأَجمعوا شركاءَ كم بوصل الألف، ويكون بمنزلة قول امرئ القيس:(36/83)
ريح سنا في حقّة حميرية ... البيت
قال في توجيه البيت: التقدير: ويضَمِّخْن رِيْحَ سَنَا، وحذف لدلالة ما قبلها عليه.
تلك أهم الأدلة التي تثبت نسبة هذا التفسير لابن أبي الربيع إضافة إلى ما أورده القاسم بن يوسف التجيبي تلميذ ابن أبي الربيع، وقد أفاد نص التجيبي بالإضافة إلى نِسْبَهِّ الكتاب أمرين مُهَميْن في التوثيق:
الأول: أن هذا التفسير كان آخر ما ألفه ابن أبي الربيع.
الثاني: تحديد القدر الذي انتهى إليه في هذا التفسير، فهو لم يتمكّن من إتمامه، بل وقف به الجهد عند آية (109) من سورة المائدة كما سبق في نص التجيبي، ورأيت بحثاً للدكتور محمد حجي بعنوان (ابن أبي الربيع السبتي إمام أهل النحو في زمانه) يُقَدّرُ هذا التفسير بما يَنيف عن ثلاثين جزءاً (1) ، ويبدو أنه لم يطلع على ما أورده التجيبي في
ــــــــــــــ
(1) مجلة المناهل العدد 22 الصادرة في عام 1402 هـ عن وزارة الشؤون الثقافية المغربية.
برنامجه عن هذا التفسير، وإنما بَنَى حُكَمُهُ على الظَّنّ والتّخمين وليس على الحقيقة واليقين، فهذا التّقدير الذي انتهى إليه الدكتور محمد حجي مَبْنيُّ على تفسير القرآن كاملاََ، والّذي ثبت أنّ ابن أبي الربيع لم يكمل الجزء السّابع من أَجزاء القرآن الكريم للسَّبب الّذي أورده التجيبي، وهو ثقة فيما أخبر به، وعليه يُعَوّل فيما يَتَعلّق بهذا التفسير، وَصفاً وتوثيقاً.
المبحث الثاني: منهج ابن أبي الربيع في عرض مادة الكتاب(36/84)
تناول ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه العلوم المساعدة على فهم نصوص الكتاب الحكيم وبيان مقاصده، وهي علوم العربية من نحو وصَرفٍ وبلاغة، لأن تحصيل هذه العلوم مُعينٌ على فهم آيات الكتاب الحكيم، وعلى فهم سائر النصوص العربيّة نثراً وشعراً، ويبيّن فحواها ومنطوقها، لأنَّ المعاني تبقى مُستكِنّة في النص حتى تكشف بأنه البيان من تفسير الغريب، وتحليل التراكيب، وتوجيه النص على مقتضى العربيّة في وضوح العبارة وسلامة التراكيب وحسن البيان، ولما كانت مُهِمّة العربيّة هي فهم النصوص وتحرير معانيها أهتم بها سلفنا من العلماء، وأوصوا الدَّارسين بالنظر في علوم العربيّة قبل غيرها من العلوم ليتأتى لهم فهم العلوم الشرعية فهماً سليماً، لأن مَنْ حَسُنَ نظره في علوم العربية توجه له النظر في غيرها، وجرى في تحصيله على وجه السداد، وأخذ في المعرفة مأخذ أهل التّحقيق والاجتهاد ومن هذا التوجه عند المتقدمين ينطلق عمل ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسيره فقد رأى أنها وسيلة الفهم في تجلية معاني النصوص وكشف مكنونها، فأولى القضايا النحوية والصرفية واللغوية جلّ عنايته، وناقش أكثر المسائل مناقشة تنم عن علمٍ وَسِعة اطّلاع على مصادر التراث في مختلف فنونه، كما برزتْ شخصيته العلميّة في المناقشة ونقد الأقوال التي لا تقف مع منهج المتقدمين في الاحتكام إلى الأصول المعتَبرة من السماع والقياس الصحيح أو الاتساع فيما لم يرد به سماع موثوق ولا يُحملُ على وجه في القياس.(36/85)
وقد تنوّع أسلوب ابن أبي الربيع في عرض المادة العلمية التي أوردها في تفسيره، وبخاصةٍ ما يتعلّق بالعربيّة أداةِ الفهم والبيان، فتارةً يستهل الكلام على الآية بتفسير غريبها وما يتبع ذلك من توجيه المعنى، وتارة يأخذ في تفصيل المسائل النحوية والصرفية معرجاً على ما فيها من خلاف أو مُتَوخّياً له ليحكم فيه بما يراه وتارةً تتواردُ القضايا النحوية والصرفية، والبلاغية على النص فيأخذ في بيان كل قضية منها، وغرضه من التنوّع في العرض تقريب المعنى بما يُعينُ على استنباط الحكم الذي تحتمله الآية أو تدلُّ عليه وقد كان هذا الكتاب- أعني تفسير الكتاب العزيز وإعرابه -خاتمة أعمال ابن أبي الربيع في الدرس والتأليف ونتيجة نشاطه الطويل في هذا الميدان، فهو يمثل قمة النُّضج العلمي الذي انتهى إليه في تحرير المسائل العلمية وتوجيه أقوال المتقدمين وتقويمها وفق منهجه الذي ترَسَّمَهُ في دروسه وتواليفه.
المبحث الثالث: دراسة المسائل النحوية وأثر الإعراب في توجيه المعنى
أ- المسائل النحوية:
يتناول هذا المبحث قضيَّتين: الأولى: المسائل النحوية التي تَعرّض لها ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه.
الثانية: الإعراب وأثره في توجيه المعنى، وهذه المسألة أساس في تفسير ابن أبي الربيع كما هو واضح من العنوان.(36/86)
فأمّا المسائل النحويّة التي تطرق لها ابن أبي الربيع فكثيرة في هذا السفر وليس من غرض هذا البحث حصرها، ولكني أقف عند مسائل بعينها، منها السهلة التي لا يختلف في فهمها حذاق العربية وعامة الدّارسين لعلم العربية، ومنها الدَّقيقة التي كانت معترك الاقتران، وقد عرض ابن الربيع كل ذلك بشيءٍ من البسط تارة وأوجز القول تارة أخرى، وكان له موقفٌ من كل ما عرضه، إمّا الترجيح لمذهب ورد ما يعارضه، وإمّا ردّ القول واختيار ما يراه متوجهاً نحو الصحة، وذلك بعد مراجعة طويلة للمسألة أفضت به إلى ما انْتَهى إليه في ترجيح ما رجحه واختيار ما اختاره، ويعرضُ البحث فيما يلي بعضاً من المسائل التي تناولها ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسيره.
أولاً: الخلاف في مُتَعلّق الجار والمجرور:
اسْتهلّ ابن أبي الربيع تفسير الكتاب العزيز وإعرابه بذكر الخلاف في متعلَّقِ الجار والمجرور بين البصريين والكوفيين في "بِسْمِ "ثُمَّ أورد قَوْلاً ثالثاً في المسألة نسبة لبعض المتأخرين ظاهر الموطأة لمذهب الكوفيين، وقد أبدى ابن أبي الربيع على كِلّ قولٍ من الأقوال الثلاثة مأخذاً لكنَّهُ مال إلى ما ذهب إليه البصريون، وَوَهَّن ما ذهبَ إليه الكوفيون، وردّ قول بعض المتأخرين ووجّه ردّه لذلك القول بما أسعفه به فقهه للمسألة ودقّة فهمه، ومِمَّا قاله في المسألة:
(ذهبَ البَصرِيُّون إلى أنَّه في تقدير: ابْتدائي بِسْمِ اللَّهِ، فبسم اللَّهِ عِندَهُم خَبَرْ مُبْتَدَأٍ مَحذُوفٍ.
ونصب الكُوفِيُّونَ إلى أنَّه في تَقْدِيْر: أُبْدَأً بِسم اللَّهِ (1) .
والفعلُ الّذي لا يَصِلُ إلاَّ بِحرْفِ الجرّ يَضْعُفُ حَذْفهُ، وقَدْ جاءَ لكنّهُ قليلٌ.
وجاء بعضُ المَتأَخِّرِينَ وذَهَبَ إلى أنه يَجُوزُ أن يكونَ المجرور مُتعلِّقاً بفعلٍ تَدُلُّ عليهِ الحال، تَقْدِيرُهُ: أقرأ بهذا، وأكتب بهذا، على معنى مُسْتعيناً. ويُحذَفُ الفعل لِدلاَلَةِ الحالَ عَليهِ.(36/87)
وهذا لا يصح لأن الحال لا تدل على الفعل حتى يصل بنفسه لا تقول: بزيد، تريد، مرّ بزيد وإن كان معك من الحال ما يدل على ذلك تقول لمن شال سوطا أو أشهر سيفاً: زيداً، على معنى: اضرب زيدا، فالحال لا تدل على الفعل حتى يكون الفعل يصل بنفسه، ولا يتصرفون في الضعيف تصرفهم في القوى من الإضمار والإظهار، إلا
ــــــــــــ
(1) ينظر تفسير الطبري 1/ 115، ومعاني القرآن وإعرابه 1/ 36، وإعراب القرآن للنحاس 1/ 116، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه ص 9، والبيان في غريب إعراب القرآن 1/ 31- 32، والكشاف 1/ 26- 32.
إنهم يقولون: بمن تمر أو بمن مررت؟ فيقول المسؤول: بزيد، وهو على تقدير: مررت بزيد، لأن هذا وإن كان محذوفاً فكأنه ظاهر لأنه مكنون في السؤال، وليس هذا بمنزلة ما استعملته الأحوال، ولا بمنزلة ما أُخِذَ لِيفَسّرَ.
وأما قوله: (في تِسْعِ آيَاتٍ إلَى فِرْعَوْنَ) (1) فقوله: "في تِسْعِ آيات "خبر لمبتدأ محذوف، أيْ هذه الآيات في تسع آيات، فقد نزل هذه منزلة قد أرسلت أو ترسل، فجاز حذف الفعل هنا وإن كان لا يصل إلا بحرف الجر، لأنه تنزل منزلة بمن مررت؟ فنقول: بزيد.
ومع هذا لا ينكر حذف الفعل الواصل بحرف الجر لكنه قليلٌ لا يُحملُ عليه ما قُدِّر
على غيره (2) .
ثانياً: متعلق الظرف (إذا) :
أورد ابن أبي الربيع الخلاف في متعلق الظرف إذا المتضمنة معنى الشرط، ورجح
أن يكون متعلقها جواب الشرط، وهو قول أبي على الفارسي في المسألة، ومما ذكره ابن أبي الربيع في المسألة: (.. وإذا اختلف الناس في الفعل الذي تتعلق به على ثلاثة مذاهب) :
فمنهم من قال تتعلق بفعل الشرط، لأن فيها معنى السبب، فإذا قلت: إذا جئتني جئتك فإذا تتعلق بجئتني، وهي بمنزلة أن لو قلت: متى جئتني جئتك.(36/88)
ومنهم من قال هي متعلقة بالجواب، والجملة التي بعدها في موضع خفض بإذا، إلا إنها لا يقع بعدها إلا جملة فعلية، لأجل ما فيها من السبب، ولا يقع بعدها المبتدأ أو الخبر إلا في ضرورة الشعر.. إلى أن يقول:
وعلى هذا أكثر النحويين؛ لأنّ إذا في الأصل ظرف، والظرف يطلب ما يضاف
ــــــــــــ
(1) سورة النمل آية: 12.
(2) من قوله: وجاء بعض المتأخرين، وما تعقب به على هذا القول إلى هنا المعنى بهذا الزمخشرى، فالقول قوله في المسألة كما في الكشاف 1/26-32.
إليه، والسببية تطلب مرد الكلام، فيلزم لهذا أن يكون جوابها مؤخراً، فإن جاء: أكرمُك إذا جئتني فجوابها محذوف، تقديره: أكرمك إذا جئتني يكون ذلك، ولا تتعلق بأكرمك، كما أنك إذا قلت: أكرمك إن أكرمتني، فجواب إن محذوف، تقديره: أكرمك إن أكرمتني يكن ذلك، فالفعل الأول دل على الجواب لا هو الجواب.
وتقول العرب: إن زيد قام فأكرمه، فزيد فاعل بفعل مضمر دلت عليه قام الظاهر، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى: (وَإنْ أَحَدٌ منَ اْلمُشْرِكِينَ استجارك فَأَجِرْ هُ) (1) فأحد فاعل بفعل مضمر، وكذلك قوله تعالى: (إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ، وَإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) (2) .
فهذه كلها مرفوعات بفعل محذوف دلت عليه هذه الظواهر، فتعرب الشمس كورت مفعولاً لم يسم فاعله لا مبتدأ، لأن السببية تمنع من ذلك، وقد نص أبو على في الإيضاح (3) على هذا وهو الصواب.
ومنهم من قال: إذا تضاف إلى الجملة الفعلية وإلى الجملة الاسمية، وتتعلق بما قبلها وبما بعدها لأنها ظرف، والظرف يتعلق بما قبله وبما بعده، فجعل "إذا الشمس كورت "الشمس: مبتدأ، كورت خبره، وفي هذا بعد، إذا لو كان كما قيل لجاز: إذا زيد قائمٌ. أكرمك، وهذا لا يقع إلا في ضرورة الشعر، وهو قليل في الضرورة والذي ذهب إليه أبو على (4) أصح الأقوال الثلاثة- والله أعلم. (54) .
ثانياً: مجيءُ نائب الفاعل والمفعول به جملة:(36/89)
خرّج ابن أبي الربيع الجمل الواقعة بعد أفعال القول المبنية للمجهول على أنها بلفظها نائب فاعل وليست جملة في موضع رفع نائب فاعل، قال في توجيه الآية الكريمة: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأرْضِ..) (5) : (.. لا تُفْسِدوا) في
ـــــــــــــ
(1) سورة التوبة آية: 6.
(2) سورة التكوير آية: 1، 2، 3.
(3، 4) ينظر الِإيضاح العضدي 30.
(5) سورة البقرة الآية: 13.
موضع المفعول الذي لم يُسمّ فاعله بقيل، َ لأنه عينُ المفعول فيجري مجرى: "سُبْحانَ اللَّهِ تَمْلأ الميزان " (1) ومجرى: زعموا مطيَّة الكذب. وليس في موضع مفردٍ هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعلهُ؛ لأنَّ هذا لا يكون في المبتدأ ولا في الفاعل ولا في المفعول الذي لم يُسمَّ فاعلهُ ويكون في الأخبار، وقد مضى الكلام على هذا في: (أأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ..) (2) (36) .
وقال في توجيه الآية الكريمة: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَاَ آمَنَ النَّاسُ..) :
(.. و (آمِنوا) هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله بقيل..) (61) .
وقال في توجيه الآية الكريمة: (إِنَّمَا نَحنُ مُصْلِحُونَ) :
(إنما نحنُ مصلحون) في موضع المفعول به لـ"قالوا"وموضعه نصب لأنّ قالوا أخذ عمدته بخلاف "لا تفسدوا، موضعه رفع، لأنه عمدة قيل ".
وبمثل هذا التوجيه عرض لقوله تعالى: (قَالُوا أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهَاء) فقال: "أنؤمن": هي مفعول "قالوا" بنفسه وليس موضوعاً موضع المفعول به على حسب ما تقدم في قول العرب: زعموا مطية الكذب، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "الحمدُ لِلّهِ تَملأُ الميزان وسبحان اللَّه تملأ أو تملاَن ما بين السماء والأرض.. ".
وقد سبق إلى قريب من هذا القول الزمخشري، قال توجيه الآية الكريمة: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلأرْضِ..) :
(وإذا قلت: كيف صح أن يُسند "قيل "إلى "لا تفسدوا"و"آمنوا" وإسنادُ الفعل إلى الفعل لا يصح؟.(36/90)
قلت: الذي لا يصح إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسنادُ إلى لفظة، كأنه قيل: لهم هذا القول أو هذا الكلام. فهو نحو: ألِفٌ ضرب من ثلاثة أحرف، ومنه: زعموا مطية الكذب (3) .
ـــــــــــــ
(1) الحديث بتمامه في صحيح مسلم كتاب الطهارة 1/ 500 هـ.
(2) سورة البقرة آية: 6.
(3) ينظر الكشاف 1/ 181.
وقد رد العكبري ما ذهب إليه الزمخشري وجعل القائم مقام الفعل مضمر يفسره سوق الكلام، وتابعه أبو حيان مع زيادة في البيان وتوجيه الرد على الزمخشري (1) .
رابعاً: تَعدي الفعل "زاد"ولزومه:
يأتي الفعل "زَادَ"مُتعدياً ولازماً، والأكثر في المتَعَدِّي أنْ يأتي من باب كسا وأعطى،
ولكنَّ ابن أبي الربيع أورد قسماً ثالثاً يكون فيه هذا الفعل مُتعديّاً لمفعولٍ واحد.. وهذا التقسيم قلمّا رُوعي في تصانيف المتقدمين وتفاسير المفسرين ولا أظنّ ابن أبي الربيع انفرد به، وإنما له سلفٌ فيما ذهب إليه لكنه لم يشتهر به، وأكثر ما يرد هذا التقسيم في كتب اللغة فلعلّ ابن أبي الربيع أفاد منها وأخذ عنها ما أضافه هنا. قال في توجيه الآية الكريمة: (فَزَادهمُ اللَّهُ مَرَضاً) (2) :
اعْلم أنّ زاد يأتي على ثلاثة أقسام:
أحدُها: أن يكون غير مُتعدٍ، فنقول: زاد المالُ بمعنى كثُرَ، هذه لا تتعدَّى كما أنَّ كثُرَ لا تتعدى، ومن هذا زاد إيمانُ زيد على إيمان عمرو، فإذا قلت: زاد المالُ درهما فالدّرْهمُ اسمٌ في موضع المصدر بمنزلة قوله: ضربت سوطاً، وبمنزلة قوله تعالى: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) فشيءٌ على هذا وُضِعَ موضعَ المصدر، والمعنى: لَنْ يَضُرَّ ضرراً قليلاً ولا كثيراً، ومِنْ هذا: ما زدته زيالاً، والزيال ما تحمله النملة في فيها. هذه كلها أسماءٌ وضعت موضع المصدر.
الثاني: أن تكون متعدية إلى مفعولٍ واحدٍ، فتقول!: زدت المال، أيّ جعلتُهُ يزيدُ.(36/91)
الثالث: أن تتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: (وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُوَرَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيَّكُمْ زَادَتْهُ هَذهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادْتُهْم إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (3) .
ـــــــــــــــ
(1) ينظر إملاء ما من به الرحمن 1/18، والبحر المحيط1/106، والدر المصون1/136.
(2) سورة البقرة آية: 10. (3) سورة التوبة آية: 124، 125.
فزاد في هذه الآية تتعدى إلى مفعولين، وكذلك (فَزَادهمُ اللَّهُ مَرَضاً) تتعدى إلى مفعولين (1) .
خامساً: مجيء الباء بمعنى الهمزة:
ذهب ابن أبي الربيع إلى أنَّ الباء الجارة بعد الفعل اللازم تكون بمعنى الهمزة في إيصال الفعل اللازم إلى المفعول به، واحتج بالسّماع وإجماع النحويين، وردَّ ما ذهب إليه المبرد والزمخشري في القول بالفرق بين الحرفين. قال في توجيه الآية الكريمة: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بنُورِهِمْ) :
(.. الباءُ بمعنى الهمزةَ، والمعنى: أذْهب اللَّهُ نُورهُم، والباءُ بمعنى الهمزة جاء كثيراً، قال امرؤ القيس:
كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمتَنَزّلِ.
وأنشد أبو على:
دِيارُ التَّي كادَتْ ونَحنُ على مِنًى تَحُلُّ بنا لَولا نَجاءُ الرَّكائِبِ
وقال تعالى: (ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالْعُصْبَةِ..) .
وقال ثعلبُ: ذهبتُ به وأذهَبْتُهُ، وَدخَلْتُ به الدّارَ وأَدْخلْتُهُ.. إلى أَنْ يَقُول:(36/92)
ولا أعلم بين النحويين خلافاً في أن الباء تكون على معنى الهمزة إلاّ المُبرِّد قال: بين الهمزة والباء هنا فرق. وذلك أنك إذا قلت: أَذْهَبْتُ زيداً، المعنى: جَعَلْتَهُ يَذْهبُ وإنْ كُنتَ غير ذاهِبٍ؛ وإذا قلت: ذهبت بزيدٍ، فلا تقولُ حتى تذهب معه (2) ، وتَبعهُ على ذلك الزمخشري (3) . واعْتلال محمد بن يزيد لما سَبقَ- حُجَّةَ عَلَيْهِ- أنَّه على القَلْبِ، وهذا اعْتِلاَلٌ بعيدٌ؛ لأنَّ القلبَ قليلٌ، وهذا كثير، فقد جاء في القرآن في مواضع عدّةٍ. (77)
ـــــــــــــــ
(1) ينظر معاني القرآن للأخفش 1/ 39، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 86/1، وإعراب القرآن للنحاس 1/136، والحجة لأبى على الفارسي 1/325.
(2) 1 أقف على ما نسب للمبرد في المقتضب ولا يى الكامل، لكنّ ذكر له هذا القول في البحر المحيط 1/ 130، والجنى الدانى 107، وقد تابعه السّهيلي في روض الأنف 3/412- 413.
(3) ينظر الكشاف 1/ 200- 201.
ب- الإِعراب:
الإِعراب ثمرة الدروس النحوية ونتيجة ضوابطها، وخلاصة ما يُنتهي إليه في تحرير المعنى عند الخلاف. فليس الإعراب نشاطاً ذهنياً يُقصد به شحذ أذهان المتعلمين وإيقاظ الوسنانين، بل هو وسِيلةٌ ماضية في توجيه النصوص وبيان المراد منها، وَرُبّما يصبح غاية في إيضاح ما في الكتاب العزيز من البيان وفصل الخطاب.
وقد حث المتقدمون من أئمة العلم على الأخذ بالإعراب والتبصّرَ فيه والوقوف على أثره في توجيه المعاني وتحرير النصوص من اللبس والغموض.
وفي هذا السفر من تفسير ابن أبي الربيع نجد اهتماماً بالإعراب، وإبرازاً لأثره أحياناً في توجيه النصوص واستنباط الحكم، وقد توخى في الإِعراب أقرب الوجوه وأعدل الأقوال، ولم يوغل لا المسائل المشكلة من دقائق الإعراب وعويصه، بل اعتام السهولة حتى فيما أشكل إعرابه توخى له أقرب الوجوه وأسلمها من الغموض، وفيما يلي نورد نماذج مما أعربه من الآيات، ومما وجه به لإِبراز معنى أو استنباطِ حكم.(36/93)
قال- رحمه الله في توجيه الآية الكريمة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلمْتُقَّينَ) (1) :
"ذا"إشارة وَهو الاسم المبتدأ، واللاّمُ زائدة، والكاف حرف خطاب، وَلَيْسَتْ هنا باسم، إذْ لو كانت اسماً لكانت في موضع خفض أو نصب، ولا خافض لها ولا نَاصِب، فهي حرف خطاب، ونظير هذه التاءُ من كنت وَأَنت، والضمير أنْ خاصة، وكذلك رأيتك، الكاف حرف خطاب، والضمير التاء، وكذلك رُويدك، الضمير مستتر والكاف حرف خطاب.
وهذا يكمل في كتب العربية. وللنحويين في هذا كله خلاف، والأحسنُ فيها ما ذكرتُ لك.
ــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 2.
والكتاب: عَهْدٌ في المتلُوِّ أو بالعكس، يُريد عهدٌ في الموعُود و"ذلِكَ "إشارةٌ لِلمتْلُوّ، والكتاب عهدٌ في المتْلُوّ.. والكتابُ على هذين الوجْهَينْ خبر "ذلك "وقد يكونُ ذلك الكتابُ الذي تقرؤونه وتتلُونهُ هُدىً للمتّقين، ويكونُ على هذا الكتاب نعتاً لـ"ذلِكَ "ويكونُ العهدُ في الإشارة، ويكون هذا بمنزلة قولِكَ: هذا الرّجُلُ الصّالحُ ...
"لاَ رَيْبَ ": رُكِّبَتْ "لا"مع "رَيْبَ"وأصلُها أن تكون ناصبةً كأنَّ لأِنها تقابلُ مِنْ، وَمِنْ عاملةٌ في النكرة، ولا تُركّبُ "لا"مع المنصوب بها إلاَّ إذا كان مفرداً، ولا يُفصلُ بينها وبين معمولها. فَقولُ مَنْ قال: ِ لمَ لَمْ يُقدم "فيه"على "رَيْبَ "ضعُفَ كأنه توهم أنّ التقديم جائز وليس بجائز؛ لأنه لا يفصلُ بين لا ومعمولها، كما لا يفصل بين "مِنْ "ومعمولها، ولا خلاف في هذا بين النحويين.
"فيه" خبر "لا"فيتعلق بمحذوف، وكذلك المجرور والظرف إذا وقعا خبَرْين أو صِفَتَينْ أو حالينْ يتعلقان بمحذوف لا يَظهَرُ.
"هُدىً لِلمتّقين"هُدىً: مصدر هديت وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو هُدىً إذا جعلت "الكتاب"نعتاً لـ"ذلك "فقد يكون "هُدىً"خبراً عنه، و"للمتَّقين "من صِلَةِ "هُدىً"فيتعلّق بمحذوف.(36/94)
وقال في إعراب: (سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) (1) :
"سَواءٌ "في الأكثر لا ترفع الظاهر إلا أن يكون معطوفاً على المضمر، نحو: مررت برجلٍ سواء هُوَ والعَدمُ، ولاتجدُ صِفةً هكذا، وهو هنا مبتدأ و"عَلَيهم"من صلته و (أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) في موضع خبره، ويكون بمنزلة إنْ خيرٌ منك زيدٌ! ان مثلُك عمرو.
وكان الأصل أن يكون "خَيْرُ"هُوَ الخبرُ وعمروٌ المبتدأ، لأن عمراً المخبرُ عنهُ في المعنى لكنهم لمَّا أرادوا تقديم خير للاعتناء به وخبر إن لا يتقدم على اسمها قلبوا فجعلوا (خيراَ مِنْكَ) مبتدأ وعمرو الخبر، وكذلك الآية؛ لأنَّ الإنذار وعدم الإنذار هو المخبر عنه لا
ـــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 6.
"سواء" فلما أرادوا أن يضعوا الإنذار وعدم الإنذار موضع ذلك (أَأَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم) قلبُوا وجعلُوا المخبر عنه خبراً لأنَّ الجملة لا تقعُ موقع المبتدأ وتقع موقع الخبر.
فإن قلت: قد جاء: "الحمدُ لِلَّهِ تَمْلأ الميزانَ.. "وما أشْبَهَ هذا.
قلت: الحمدُ لِلَّهِ هُنا هو المخبرُ عنهُ وليست جملة وُضِعت موضع المخبر عنه كما في (أأنذرتهم أمْ لَمْ تنذرهم) .
ومن قال: إنّ "أأنذرتهم"في موضع المبتدأ و"سَوَاءٌ"خبر فقد قال ما لا نظير له. وكذلك من قال: "إنَّ أأنذرتَهُم"فاعل بـ"سَواء" و"سواء"خبر "إنّ مقدمٌ فقد أخطأ، لأنَّ الجملة لا تقع موقع الفاعل فلَيْسَ في هذا إلا ما ذكرته مِنْ جعل الخبر مُبتدأ وجعل المخبر عنه خبراً على جَهِةِ الاتساع، فتكون بمنزلة: إنْ خْيراً مِنك زَيدٌ وانْ مِثْلَك عمروٌ، ولمَّا لم يكن الخبرُ يحتاجُ إلى ضمير يعود إليه من المبتدأ لم يكن في هذه الجملة ضميرٌ يعودُ إلى "سواء"، لأنَّ الإِنذار وعدم الإنذار هو المبتدأ في الأصل و"سَواءٌ عَلَيهم "هو الخبر في الأصل فلا يحتاجُ "سَواء"إلى ضمير يعود إليه من المبتدأ، وهذا بَيّن.. (36) .(36/95)
ترجيح العطف على التوهم:
أورد ابن أبي الربيع وجهين من الإِعراب للفعل المضارع المقرون بالفاء "فَتكُونا"من الآية الكريمة: (ولاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (1) وَرَجَّحَ النَّصبَ عَطْفاً على التَّوهِمّ على العطف بالجزم، وَوَجَّه النَّصب في الآية، على أنَّه بحرف أنْ مُضمرة لا بالفاء، ومما قاله هنا: (.. فقوله "فتكونا"منصوبٌ بالفاءِ في جواب النّهي كما تقول: لا تَدْنُ من الأسَدِ فَيَأْكُلكَ، والعطف في هذا الموضع جائز (2) ، ويكون مثل قول امرئ القيس:
فَقُلْتُ له: صَوِّبْ ولا تجهدنه فيُذْرِكَ من أخرى القطاه فتزلْقٍ
ـــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 35.
(2) يريد العطف بالجزم على "تقربا"وله استشهد ببيت امرئ القيس.
والأحسن ما ذكرته أولاً، ويكونا منصوب بإضمارِ أنْ.. واَنْ مع الفعل في تأويل المصدر، وهو معطوف على المصدر المتوهم من الفعل المقدم، والفاء هنا عاطفة، وأن لا تظهر، ومَنْ جَعَلَ الفاء هِي النّاصبة، هذا يريد أنها قامت مقام الناصب، فصارت كأنها الناصبة، وإن لم ير هذا فهو قول فاسد.. (146) .
ما اسْتَشْكل إعرابه
أورد ابن أبي الربيع قراءة غير سبعيه في الآية الكريمة: (ياَ أيّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) بفتح الميم في "مَنْ "اسماً موصولاً وقبلها "الذين "فالموصولان تواردا على صلة واحدة، هي شبه الجملة "قَبْلِكُم ل" وقد أورد هذا الإشكال أبو القاسم الزمخشري في كشافه عند تعرضه للقراءة المذكورة آنفاً، فقرر أن هذا من باب االإقحام، فقد أُقْحِم الموصولُ الثاني بين الموصول الأول "الذين"وصلته "قبلكم ": تأكيداً، كما أَقْحم جريرٌ في قوله:
يا تيم- تيمَ- عَدىٍّ لا أيا لكم
تَيمْاً الثاني بين الأول وما أضيف إليه (1) .(36/96)
ولم يسلم هذا التوجيه للزمخشري، بل رده أبو حيان لمخالفته القياس، إذ القياس تكرار الموصول مع صِلَتِهِ لأنها من كماله.. وخرج الآية على جعل "قبلكم"صلةً للموصول الثاني "مَنْ"و"مَنْ" خبرُ مبتدأٍ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول، وهو "الّذينَ "، والتقدير: والذين هم مَن قبلكم (2) .
أما ابن أبي الربيع فقد قرر الإشكال على مقتضى ظاهر القراءة، لكنّه خرجها على وجه أقرب مأخذ وأحسنَ في الحمل، فقال:
(وأمّا (والذينَ مَنْ قبلكم) فمشكلة، وهي عندي بمنزلة قول زهير:
لَدَى حيثُ أَلْقَتْ رحْلَها أمُّ قشعم
ــــــــــــــ
(1) ينظر الكشاف 1/228.
(2) ينظر البحر المحيط 1/ 154، والدر المصون1/187.
المعنى- والله أعُلَمُ- لَدَى إلقاءِ أم قَشْعِمِ، فأتى بلدى وحيثُ والمعنى واحدٌ، ثم جاء بعدَ حيثُ بجملةٍ في مَوْضِعِ خفضٍ دلّت على مخفوضِ لَدى، ولدَى تطلبُ مخفوضاً، وحيثُ تطلبُ جُملة في موضع خفضٍ، فأتى بالجملةِ لحيثُ ودَلّ على مخفوضِ لدَى، فقولك: (والّذين مَنْ قبلكم) الّذين ومَنْ معناهما واحدٌ، فكأنَّ مَنْ بدلٌ مِن الّذين، وكِلاهما يَطْلبُ الصِّلَة فأتوا بالصلةِ لِمَنْ فَدَلّت على صِلةِ الّذين. وقد تحذفُ الصِّلةُ إذا عُلِمَتْ.
وهذا تعليلٌ ما سُمِعَ ولا يُقالُ بالقياس، وإذا تَتَبَّعْتَ مَا قَلْتُ لكَ وجَدْتَهُ.
المبحث الرابع
المسائل الصّرفيّة(36/97)
أورد ابن أبي الربيِع في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه مسائل في التصريف، تناول بعضاَ منها بشيءٍ من الإيجاز وبسط القول في بعضٍ بسطاً قلمّا وُجدَ عند غيره في كتب التفاسير وإعراب القرآن، ووقف عند دقائق من التصريف فجلَّى مبهمها وفصلَ مجملها تفصيلاً يعزّ وجوده في غير الكتب المتخصصة، وعزا الأقوال والآراء التي تذكر في بعض القضايا الصّرفية إلى أصحابها ليمكن للباحث والدارس من المراجعة والنظر على ضوء ما ناقشه من المسائل في هذا السفر، وفيما يلي نوردُ بعضاً من المسائل الصرفية التي تناولها ابن أبي الربيع بالمناقشة والتحليل في هذا السفر من تفسيره.
قال في تصريف كلمة "رَبِّ"من الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ) :
(.. رَبّ "وَزْنُهُ فَعِلٌ بكسرِ العَين، والأصلُ: رَبُبَ، ثُمَّ أدغم، وليْسَ فعلاً بسكونِ العَينَ، لأنهم قالوا في الجمع: أرْبابٌ، وليسَ الأصلُ فعلاً بفتح العين، إذ لو كان كذلك لم يُدغَمْ، ألا ترى الطّللَ والشّررَ لم يُدغما، وليس الأصلُ فعُلَ بضم العين؛ لأن هذا يَقلُّ في الصِّفات، وفعِلٌ بكسر العين يكثُرُ فيه. قالوا: حَذِراً، وبَطِراً، وأشراً
ولم يدغم (1) ، وعثراً وهو كثير ولا ينبغي أن يُحمل على الأقل ما قدّرا على الأكثر.
وقول من قال: إنّه وصْفٌ بالمصدر (2) فيه بُعْدٌ، إذّ لو كان كذلك لم يُثَنّ ولم يُجْمع،
ومَنْ ثنّى مثل هذا في المصادر ثنّاه على القياس، والقياسُ في فَعْل أفْعُلُ نحو كفِّ وأكُفٌّ، فكونه قد جمع على أرْبابٍ يدل على بُعدِ هذا القول. (7) .
الإعلال في "نَسْتَعِين "
قال في توجيه الإعلال في كلمة "نستعين"من الآية: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين)(36/98)
ونَسْتَعين اعتْلَّ، لأنَّ ماضِيهُ اعتْلّ بالحمل على الثلاث وأصلهُ نَسْتَعْوِن ثم اعتُل بنقل حركة العين إلى الفاء، وتقلبُ الواو ياء للكسرَة التي قبلها، وهذا الإعلالُ مُطِّردٌ وقياسيٌ في هذا النوع وما جرى مجراه. فإن جاء صحيحاً فعلى غير قياس، نحو: اسْتَنْوَقَ الجملُ، واستَتْيَست الشاة، فهذا يحفظ ولا يقاس عليه. (4) .
الإعلال في "بالغيب "
وقال في بيان الِإعلال في كلمة "الغيب لما من الآية الكريمة: (الَّذينَ يؤمون بالغيب) (3) :
الغيب يُمكنُ أن يكون وزْنُهُ فَعْلاً، ويكونُ مَصدراً لِغابَ يغيبُ غيباً، ولذلك يقال للمُطْئِنُّ مِن الأرض غيباً لانخفاضه، ويمكن أن يكون الغيبُ وَزْنهً فَيعَلٌ بمنزلة سَيّدٌ وميتٌ فحذفت الياءُ المتحركة طلباً للتخفيف وإن كانت أصلاً، لأنك لوْ حَذفْتَ الساكنة
ـــــــــــــ
(1) لأنه لا وجه للإدغام.
(2) القول هنا للزمخشرى كما في الكشاف 1/53.
(3) سورة البقرة آية:3.
الزائدة لبقيت الياء المتحركة بالأصْلِ بعد فتحة، وهذا مستثقلٌ، يدلُّ على ذلك أن سيّداً وميتاً وزنهما فيعلٌ، وليس وزنهما فعلاً أن عْينهما واوٌ، وانقلبت الواو ياءً في فيعل لاجتماع الواو والياء وسبق الياء بالسكون (27/28) .
الإِعلال في "صَيّب "
أورد ابن أبي الربيع نوعين من الإِعلال في كلمة "صيب"من قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ منَ السَّمَاءِ (1) :
الأول في إبدال الواو ياء، والثاني إبدالهما همزة، قال مفصلاً ذلك:(36/99)
والأصل: صَيْوب، ومتى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياءً إذا كانت الواو متقدِّمَةً أو متأخرة، فمثال المتأخرة: سيّد وميّت، والأصل: سَيود، مَيْوتِ، ومثال المتقدمة: طَويت طياّ، ولَويت ليَّا والأصل طَوْياً ولَوْياً. وإنّما قلبوا ياءً مُتقدِّمة كانت أو مُتأخّرةً، لأنَّ الياء عندهم أخف من الواو وقلبت ياءً ليصح الإدغام، وأدغمت الواو في الياء والياء في الواو (2) وإنْ بَعدتا في المخرج لِقُرْبهما في الصفة، والواو حرف مدّ ولين والياء كذلك. ألا تراهما يًترادفانِ في الرّدفِ فيأتيَ العير مع المور ولا يأتيانِ مع العار لزيادة مَدّةِ الألف، واستيعاب هذا في موضعه.
الثاني: إبدال الواو همزة في جمع "صيب ".
قال في بيان هذا الإِبدال: (وجمع "صيب "صيائب بالهمزة، والأصل: صياوب،
وألف الجمع إذا اكتنفها ياءان أو واوان، أو ياء وواو، والأخيرة تلي الطّرف وجوداً وحكماً تقلبُ الأخيرة همزة، نحو: أوائل وحيائر وصيائب، وأما قوله:
وكَحل العينين بالعواور
ــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 19.
(2) هكذا جاء في الأصل، والأظهرُ هنا أن لا وجه للإدغام؛ لأن قلب الواو ياء جاء لهذا الغرض، والتعليل بقرب الصفة مع تباعد المخرج ليس مسوغاَ لهذا الإِدغام، فهذا من الاتساع عند ابن أبى الربيع.
فالأصل: عواوير، وحذفت الياء للقافية، فلم تل الواو الطّرف على هذا في الحكم، لأنَّ حذف الياء للضرورة؛ لأَنَّه جمع عُوَّارٍ وعلى هذا جمهور النحويين، وقد نقل عن الأخفش خلاف هذا ولم يتابع على ذلك، ووافق في الواوين؛ لأنّ العرب قالت: أوائل، والأصل: اَواوِل. (79) .
الإعلال في "يستحي "من الآية الكريمة
(إنَّ اْللَّهَ لاَ يستحي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً) (1) :(36/100)
أورد ابن أبي الربيع قولين في المسألة: أحدهما لسيبويه والآخر للخليل، ودور ابن أبي الربيع هو النقل ولم يرجح أحد القولين، وإنما وجه الِإعلال يا قول الخليل، بنحو ما وجه به قول سيبويه، فقال:
(وحكى سيبويه: استحيت فأنا استحي. وذهب فيه سيبويه إلى أنّ الياءين استثقلتا مع الكسرة فحذفت المكسورة، وجعلت حركتها على الحاء للاستثقال مع كثرة الاستعمال (2) .
وذهب الخليل إلى أنّ "يستحي "جاء على إعلال العين وترك اللام، كما جاء استقمْتُ لإِعلال قام، واعتلال العين واللام يتطلب بالاعتلال، ولم يثبت من كلام العرب متى اجتمعت العين مع اللام في طلب الاعتلال أعلّوا اللاّم وتركوا العين، نحو الهوى والحيا، ولا تقول حاى ولا هاى (2) ، فيعلون العين ويتركون اللام.. (119) .
الإبدال في "خطاياكم "من الآية: (وَقُولُوا حِطَّةٌ نغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) (3) :
تناول ابن أبي الربيع صور الإبدال في كلمة خطايا واصفاً كلّ صورة بالصفة التي أفضت بها إليها من القلب، وختم المسألة بالعلة التي قلبت بها الهمزة ياء ولم تقلب واواً، فقال:
ـــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 26.
(2) ينظر الكتاب 4/ 399، والأصول 3/ 249-0 25، وإعراب القرآن للنحاس 1/152، والمنصف 2/204-205.
(3) سورة البقرة آية: 58.
(وهي جمع خطيئة، والأصل خطائىُ بمنزلة قرائىُ فاجتمع همزتان يا كلمة واحدةٍ قلبت الأخيرة ياءً للكسرة قبلها فصار خطائى، استثقلت الياء بعد الكسرة في جمع لا نظير له في الآحاد ففتحت الهمزة فصار خطاءَي، تحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفاً فصار خطاءا، جاءت الهمزة بين الفين والألف قريبة من الهمزة فقلبت ياءً، ولم تقلب واواً؛ لأنَّ الياء أنسَبُ إلى الألف وأقرب من الواو، فصار خطايا. (178) .
أصل الياء في الدنيا من الآية الكريمة: (فَمَا جزاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خزي في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (1) :(36/101)
قال في بيان أصل الياء في كلمة الدنيا وما طرأ عليها من قلب:
(والياء في الدّنيا منقلبةُ عن واوٍ ليفرق بين الصفة الجارية مجرى الاسم والصفة التي لم تجر مجرى االاسم؛ لأنَّ الصفة التي لم تجر مجرى الاسم لا تقلبُ فيها الواو ياءً، والصفة التي جرت مجرى الاسم قلبت فيها الواو أبدا، كذلك نص عليه أبو علي في الإيضاح (2) . واختلف في فعلى إذا كانت اسماً هل تقلب واوها ياءً أو لا تقلب، فعلى ما ذكره أبو علي ينبغي ألا تقلب، ويقوى قول أبي علي قولهم: حزوى وهو اسم مكان ولم يقل فيه حزيا.
ومنهم من قال: حزوى شاذ، والقياسُ أن تُقلب في الاسم، وكذلك قلبت في الصفة الجارية مجرى الاسم.
والذي يظهر أنها لا تقلب في الاسم ولا في الصفة التي لم تجر مجرى الاسم.
فإن قلت: سيبويه- رحمه الله- قال: تُقْلَبُ في الاسم.
قلت: قيل بالصفة الجارية مجرى الاسم، قال ذلك، على أنه أطلق الاسم وهو يريد الصفة الجارية مجرى الاسم- والله أعلم-.
ــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 85.
(2) التكملة 269.
المبحث الخامس
"الاشتقاق "
تناول ابن أبي الربيع طائفة من الكلمات في آي القرآن الكريم بشيء من التحليل والمناقشة والتحقيق في أصولها في الاشتقاق، وعرض للخلاف الوارد في اشتقاق بعض الأسماء، وناقش ذلك مناقشة علميّة مدركة مساقط الخلل وجوانب الصحة والصواب، فضعف ما رآه ضعيفاً ورجح ما استقر عنده رجحانه، مبيناً سبب الضعف وحجته فيما ضعّفه، ووجه الصواب فيما رجحه، وفيما يلي أمثلة ونماذج من مسائل الاشتقاق التي أوردها ابن أبي الربيع.
اشتقاق الاسم
قال في بيان اشتقاق الاسم في مُسْتَهَلّ كلامه على (بسم) اختلف البصريون والكوفيون فيه:
فذهب البصريّون إلى أنه من سَما يَسْمو، وأنّ اللاّم فيه محذوفة، وهو بمنزلة ابن واسْت، واستدلّوا على ذلك بالجمع والتصغير، قالوا في الجمع: أسماء وفي التّصغير سمىّ، وقالوا: سميت فردوا اللاّم فيها فدَلّ على أنّ اللاّم هي المحذوفة.(36/102)
وذهب الكوفيون إلى أنه من الوسم، وهو العلامة، وأنَّ فيه تقديماً وتأخيراً. وأمّا أسماء وسُمَيّ فهو مقلوب، وأصلهُ وسم ثمّ أخِّرت الفاءُ وجُعِلَت مكان اللاّم، وقالوا: أسماء، وقالوا: سُمِي، وقول الكوفيون أقربُ مِن جهة الاشتقاق، وهو مع ذلك أضعف مِن جهة القلب، وقول البصريون أقرب؛ لأنه ليس عندهم فيه قلب، والاسم يظهر مُسمّاهُ ويصيره بحيث تراه، فالاشتقاق فيه قريب، وإن كان اشتقاق الكوفيين أقرب إلى إنّ هذا القرب مِن إدْعاء القلب. (41) .
اشتقاق لفظ الجلالة
أورد ابن أبي الربيع ثلاثة أقوال في اشتقاق لفظ الجلالة: "اللَّه "ولم يعز تلك الأقوال، وإنما عرض في شيء من الإِيجاز لما في بعض من النقل والقلب، وبينّ القول الأقرب إلى الاشتقاق وجهة القلب ومما قاله:
(ومنهم من ذهب إلى أنّه مِن الوله، وهو التّحّير، فالعقولُ تتحير عن إدْراكهِ سُبْحانه وتعالى ثمّ جُعِلَتْ الفاءُ عيناً ثُمَّ تحرّكت الياء وقَبْلَها فتحة انقلبت ألفاً.
ومنهم من قال: هو أله إذا تحّير، وَهُوَ أقْرَبُ، لأنه لَيْس فيه قلب.
ويمكن أن يكون لاه يليه إذا استتر، قالوا تَأَلّه الرّجلُ يَتأَلّهُ مشتق مِن هذا. (4) .
اشتقاق "الْعَالمِينَ "
قال في توجيه الاشتقاق في كلمة "العالمين "من الآية: (الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين) :
فاعل بفتح العين لا يكُون في الصّفاتِ ويكونُ في الأسماء قليلاً، وأكثر ما يوجد هذا البناء في الفعل إذا أرادوا أنه فعل بك مثل ما فعلته، نحو: ضاربني زيدٌ وضاربت زيداً، وقد يأتي على غير ذلك، قالوا: عافاك اللَّهُ، وداينت زيداً، هذا قليل وإذا صح ما ذكرته فالعالم اسم لا صفة، وهو اسم لكل مخلوق، لأنَّ المخلوق يدلّ على خالقه، فصار علامة تدل عليه سبحانه، فاشتقاقهُ من هذا وقد قيل: إنه مشتق من العلم، لأن من نظر فيه تحصل له العلم.. والاشتقاق الأول أقرب. (8) .
اشتقاق كلمة النَّاس(36/103)
تناول ابن أبي الربيع مادة "الناس "الواردة في الآية الكريمة: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله) وأصلها في الاشتقاق وما حذف منها، ثم عرض للخلاف في تصغيرها.
والغرض هنا بيان الاشتقاق، فقد قالت ابن أبي الربيع في أصل كلمة الناس واشتقاقها: (وناس أَصْلُهُ أناس، وهو مشتقٌّ من الإنس، ويقال: أنس وآنس، وتحذف الهمزة كثيراً مع الألف واللام، وقد جاءت غير محذوفة قال:
إنّ المنَايَا يطَّلِعـ ـن على الأنُاسِ الآمنينا
تداخل الاشتقاق مع القلب والإعلال.
وقد تَتَوارد المسائل التصريفية في كلمة واحدة، فيأتي الاشتقاق مع القلب والإعلال، وذلك لِقُوّة الارتباط والتلازم بَيْنها، وهذا ما نراه في تصريف كلمة النّار الواردة في الآية الكريمة: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فاتقوا النَّارَ..) فقد تناول ابن الربيع مسائل التصريف الواردة فيها بشيء من الإيجاز فقال: (.. والنّار عينها واو، والأصلُ نور، فانقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، يدلك على ذلك في الجمع أنوار إلى أن يقول: واشتقاق النّار من نارت تنور نور ونياراً، والأصل في نيار نوار لكنها اعتلت لاعتلالها في الماضي، ولو لم تعتل في الماضي لم تعتل في المصدر، قالوا: لاوذ لواذاً فلم تعتل في (لواذاً) لِصحتها في الماضي، وقالوا قام قياما اعتلت في فعال لاعتلالها في الماضي.
الاشتقاق في كلمة شيطان الواردة في الآية الكريمة: (وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مستهزئون) :
أورد ابن أبي الربيع اشتقاقين مختلفين في كلمة شيطان وبين ما يرد على كلّ منهما وما يقوى به كل منهما ومادة كلّ في الاشتقاق، ثم ختم الحديث بذكر المصدر لهذين الاشتقاقين، قال في تفصيل ما أجمل هنا:(36/104)
(.. اختلف النحويَّون في الشيطان، فمنهم مَنْ جعله مشتقاً مِنْ شَطَن إذا أبعدَ، فيكون وزنه فيعالاً بمنزلة بيطار، وهذا القولُ يَقْوى بقولهم: شيطن الرّجل إذا تمرد؛لأنَّ تَفْعِيل مِن كلام العرب وتَفَعْلَنَ ليْسَ مِن كَلامهِم، وجعلهما من مادةٍ واحدةٍ هُوَ البين،
وأمَّا جعلهما من مادَّتَينْ مُخَتلِفَتين فبعيدٌ، لأنَّ معنى تشَيْطَن صار شَيْطاناً فالأصولُ في شَيْطان هي الأصولُ في تشيطن، والزوائد هي الزوائد في تشيطن.
ومنهم من قال: إنَّ شيطانا فعلانٌ وجعل الياءَ أصْلية، وجعلهُ من شاط يشيط إذا احترق، فإذا اعُترِضَ عليه، بتشيطن قال: تَشَيْطنَ من شَطَنَ إذا أبْعدَ وجَعَلَهما من مادتين مختلفتين.
وهذا القولُ يقوى؛ لأنَّ بناء فعلان أكثر من بناء فيعال، لأنّ النون إذا كانت طرفاً بعد ألِفٍ وقبلها ثلاثة أحرف فأكثر فالغالب عليها أن تكون زائدة.
فهذان قولانِ في شيطان مُزجّحان، فيعال أكثر ترجيح بتشيطن، وفعلان ترجّح بأنَّ الزيادة على النّون في هذا الموطن أغَلبُ من الأصالةِ، فهُمَا قَوْلاَنِ مُتساوِيانِ لِما ذَكَرْتُهُ وبناء فعلان أكثر من بناء فيعالٍ، والقولان لسيبويه في الكتاب (1) (1) (63) .
الاشتقاق في "ذُرِّيّهْ "
من قوله عز وجل: (قَالَ وَمِن ذريتي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّاِلمِينَ) () :
أورد ابن أبي الربيع ثلاثة أقوال في اشتقاق "ذُرِّيّه "رجح الأوَّل منها، واستبعد الأخير منها مع ما أورده له من توجيه، وجعل الثاني في درجة القلة لكونه موجوداً في كلام العرب، ومما قاله في هذا الصدد:
.. والذًّرية يمكنُ أنْ تكُونَ من ذرَّ كما تقول: كُلَّما ذَرَّ شارف، أَيّ طَلعَ، وهذا البيّن، فتكون الذُّرية مُشْتقّةُ من هذا، فتكون الياءان لِلنّسب، ويكون كأحمري وكُرْسيّ، ودوارِيّ اللَّفظُ لَفظَ النّسبِ والمعنى على النّسب.
__________
(1) ينظر الكتاب4/260،286.
2سورة البقر آية: 124.(36/105)
ويمكن أنْ يكونَ مِن ذرا يذرو، تَقولُ: ذرَّت الرّيح الحَبَّ إذا أزالت عنْها التّبْنَ، فيكون وزنه على هذا فعيلة، وفعيل موجود في كلام العرب لكِنَّهُ قليلٌ، فيكون بمنزلةِ دُرِّيِّ ومُرِّيقٌ (1) ، فتكون الياءُ الأخيرةُ مُنْقَلِبةً عن واوٍ.
ـــــــــــــــ
(1) ينظر الكتاب 4/ 260، 286.
(2) سورة البقرة آ (ي) ة: 124.
ويمكن أن يكون مِن ذرأ يذرأ إذا خَلَقَ، ويكون الأصْلُ ذُرْئِيّة بهمزةٍ ثم أبْدِلَتْ الهمزة ياءً للتسهيل، كما قالوا: في النّبىء، والنّبيّ، فجاء فُرّية فأدغمت الياء في الياء الأخيرة، وهذا الأخير عندي أبعدُ الثلاثة ة لأنّهُ قضى فيه! بالهمزة، ولو كان من الهمزة لنطق به، ففي هذا زيادة على فعيل. (286-287) .
المبحث السَّادس
موقف ابن أبي الربيع من النحويين البصريين والكوفيين وبعض المتأخرين
أورد ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه أقوالا لبعض أئمة النحو المتقدمين كالخليل، ويونس وسيبويه والكسائي والأخفش والفراء، والمازني، وغيرهم ممن وصفهم بالمتأخرين كالزمخشري، وقد تبينّ من مناقشاته ونقده لبعض الأقوال التي أوردها أنَّ له منهجاً وأسلوباً في المراجعة والترجيح والاختيار ينفرد به، ولا يمنع أن يكون في كثير مما رجّحَ واختار قد تأثر بمذهب أئمة البصريين، وبخاصة سيبويه، فكثيراً ما نراه يُغلّب قول سيبويه ويقدمه في الترجيح والاختيار في مقابل أقوال الأخفش الذي يقف في كثيرٍ من آرائه موقف المعارض للبصريين أو المخالف، فضلاً عن أقوال الكوفيين التي تقف في مقابل أقوال منافسيهم من البصريين.
وأما بعض المتأخرين الذين لم يصرح بأسمائهم إلَّا في موضع واحد، وهو الزمخشري
فقد كان نقده له شديداً، وحجته في أكثر المآخذ التي أخذها عليه دامغة، وإن شابه في بعض المآخذ تَعسُّفٌ لا يحمدُ، وتحمّلٌ لا يقبل في ميزان النقد العلمي، وفيما يلي تفصيلٌ لما أجملته هذه التوطئة:
ـــــــــــ(36/106)
(1) (1) ينظر الكتاب 268/4.
أولاً: ما خالف فيه سيبويه الأخفش وغيره من النحويين.
تناول ابن أبي الربيع طائفة من المسائل جرى فيها الخلاف بين النحويين سيبويه والأخفش، وغيرهما، وقد كان موقف ابن أبي الربيع إلى جانب سيبويه، وبالأخص في المسائل التي كان طرف الخلاف فيها الأخفش، فقد رجح مذهب سيبويه مبيناً سبب الترجيح غالباً، وضعف مذهب الأخفش مبيناً سبب الضعف وجهته، ومن أمثلة ذلك: أولاً: الخلاف في تسهيل الهمزة في "مُسْتهزئِون" الواردة في قوله تعالى: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (2)
أورد ابن أبي الربيع ثلاثة أقوال في هذه الهمزة، هي: إبدالها ياءً، وجعلها بين الهمزة والياء، وبين الهمزة والواو، ثم رجح ما قرره سيبويه في المسألة، ومما قاله في المسألة:
(ونقل عن الأخفش أنه يبدلُ الهمزة ياءَ عند التسهيل، فيقول: "مُسْتَهزِيون " وهذا ليس من كلام العرب) .
وأمّا سيبويه فجعلها بين الهمزة والواو
ومنهم مَنْ جعلها بين الهمزة والياء، وهذا منقول عن العرب، وعلى مذهب سيبويه أكثر النحويين (65) .
ثانياً: الخلافُ في مَوضعِ الضّميرِ المضافِ إليه بعد اسم الفاعل.
اختلف النَّحويّونَ في موضع الضمير المضاف إليه بعد الوصف في قوله تعالى:
(قَالَ إني جَاعِلُكَ للنَّاسِ إمَاماً..) وكذا ما شابهه من كل وصف أضيف إلى معموله الضمير المتصل، وأظهر صور الخلاف وأقدمها ما كان بين سيبويه والأخفش،
التي أوردها ابن أبي الربيع بشيء من الِإيجاز في كلامه على الآية السابقة، وقد رَجّح ما ذهب إليه سيبويه، ولم يبين وجّه الضعف لا مذهب الأخفش في المسألة. ومما قاله- رحمه الله:
(.. والكاف مِنْ (إنّي جَاعِلكَ) مخفُوضَة بالإضافة، والأخفش جعلها مُفّعُولة (3) . وسيبويه اعْتَدّها بالظّاهر العاري عن الألفِ واللام وهو الصواب إن شاء الله. (285) .
__________
(1) ينظر الكتاب 4/268.
(2) سورة البقرة آية: 14
(3) ينظر معاني القرآن للأخفش1/83 ـ 87(36/107)
قياس ما يُجَمعُ عليه فَعَل جمع تكسير:
تناولت في كلامه على قوله تعالى: (.. فَاتَّقُوا النَّارَ التي وَقُودُهَا الناس وَالْحِجَارَةُ..) ما يجمع عليه فَعَل بفتح الفاء والعين، نحو جمل، وحجر، وجبل، وقرر أن القياس فيه أن يجمع على فعال، لأنَّ هذا الجمع هو الَّذي رجحه سيبويه، ومما أورده في المسألة: (.. والحجارة جاءت بالتاء على تأنيث الكلمة، والأكثرُ والأقيس في فَعَلٍ أنْ يُجمع على فعال بغير تاءٍ، قال سيبويه: وقد جاءت حجارة قليلاً، وجاء في الشعر ضرورة، وأنشد:
كأنها من حجار النيل ألَبَسها مضارِبُ الماء لَوْن الطَّحْلب اللزب 4
ورأيتُ بعض المتأخرين يقول: إنَّ حجارة بغير تاء لم يأت إلاَّ في الشّعر للضّرورة،
وقال سيبويه ما ذكرته أنها جاءت في القليل من الكلام (ْ) ، وهو بلا شك أعرف، لأنه ناشد العرب وعلم مِن كلامها ما لم يَعلَمه غيره. (107) .
ثانياً: حذف حرف الجرو بقاء عمله:
اختلف النحويون في موضع أنّ المشدة وما دخلت عليه في قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ..) (1) (1) بعد سقوط حرف الجر، فمنهم ذهب إلى أن موضع أنّ وما دخلت عليه النصب، ومنهم ذهب إلى أن الموضع جر، وهو سيبويه، وقد رجح ابن أبي الربيع ما ذهب إليه سيبويه ولم يذكر أصحاب القول المعارض لقول سيبويه، وقد ذكر سيبويه أنّه قول الخليل، ومما قاله ابن أبي الربيع في المسألة: (.. اختلف النحويّون في أنَّ إذا سَقَطَ حرف الجر أتكون في موضع نصب؟ أو تكون في موضع جر؟.
__________
(1) سورة البقرة آية: 25(36/108)
فذهب سيبويه إلى أنَّها في موضع جر، وأن حرف الجر وإنْ حُذِف بقى عمله، كما بقي عمل "رُبَّ "بعد حذفها، وحمله على هذا الحكم تقولُ العربُ لأنكَ فاضلٌ أتيتُ، ولا تقول: لأنك فاضلٌ عَرَفْتُ، لأنَّ المفتوحة لابدَّ أنْ تعتمد على ما قبلها فاعتمادها على (أنَّ) هنا على حَرْفِ الجر وإنْ حُذفَ دليلٌ على أنّه في حكم الموجود، وإذا كان كذلك فعمله باقٍ.
ومنهم من ذهب إلى أنَّ حرف الجر إذا حذف صار الموضعُ موضع نصب (3) (1) وبكون بِمَنْزلة: أمرتك الخير.
وكلاهما له وجه، وما ذكر سيبويه عندي أَقْوى- والله أعلم-.
وتكرر هذا التوجيه في أن المصدرية الناصبة للمضارع في قوله تعالى: (وإنَّ الله لا يستحي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً) فقال:
(.. إنّ "يَضْرِبَ "على إسقاط حرف الجر، وأصله إنَّ لا يَسْتحي من أن يَضْرِبَ، ثم حُذفت مِنْ، وقد تقدم أن حذفها في هذا الموطن قياسٌ، واختلف الناس في بقاء عمله وزواله، كما اختلفوا في أنْ، وكلا القولين له وجه. والأظهر عندي أن يبقى العمل فيما حذفه كثير، ويجرى مجرى ربّ، فإنها حذفتْ وبقى عملها (120) .
ثانياً: تصغير كلمة "ناس "
__________
(1) هذأ القول للخليل بن أحمد كما في الكتاب 127/3، وقد اضطرب نقل العلماء لهذه المسألة، حتى قال في ذلك بن هشام في المغنى 282: وأمّا نقل جماعة منهم ابن مالك أن الخليل يرى أن الموضع جر، وأنَ سيبويه يرى أنّه نصب فهو سهو.. ومما وقع فيه الإِضطراب نقلُ أبو حيان في البحر 1/ 181 فعزا إلى الخليل والكسائي أن موضع "أنَّ لهم جنات "جر، وعزا إلى سيبويه والفراء أنّ موضعه نصب، لكنه في النهر 112/1 عزا النصب إلى الخليل فقال: قوله: "أن لهم جنات "وحذف منه الحرف، وهوفي موضع نصب على مذهب الخليل خلافاً لمن قال: مذهب الخليل أنه في موضع جر، وهو أبن مالك، قاله في التسهيل: وهو كان قليل إلمام بكتاب سيبويه ...(36/109)
عرض ابن أبي الربيع لتصغير بعض الأسماء والأعلام التي جرى فيها خلاف بين أئمة النحو المتقدّمين وقد رَجّح ما ذهب إليه سيبويه، لأن عليه أكثر النحويين، ومن أمثلة ذلك تصغير كلمة النّاس الواردة في قوله عز وجل: (وَمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله..) قال في تصغيرها:
(.. يقالُ: ناسٌ قليلاً بغيرِ هَمْزةٍ، ويقالُ في تَصْغِيرِهِ نُوَيْسْ، ولا تُرَدُّ الهمزةُ للتصغير؛ لأنَّ بناء التصغير يقومُ مِمَّا بقي من الحروف، فإن لم يكن بناءُ التصغير يقومُ مِمَّا بقيَ من الحرُوفِ رُدَّ المحذوفَ، كقوله: دُمَيٌّ وُيدَيٌّ هذا هو مذهب سيبويه والخليل. ويونُسُ يذهبُ إلى رَدِّ المحذوفِ من المكَبّرِ سَواء كان بناءُ التصغير يقومُ مِمَّا بقي فن الحروف أو لا يقومُ، فيقولُ في هار: هُوَيْئِرٌ، فيلزم أنْ يقولَ في ناسٍ: أنيسٍ، وعلى مذهب سيبويه أكثرُ النحويين، وهو أصح، وبيانُ هذا في كُتُبهم (43) .
تصغير إبراهيم وإسماعيل
أورد ابن أبي الربيع في تصغير إبراهيم، وإسماعيل خلافاً بين المتقدمين ورجح ما قَرَّرَهُ سيبويه في تصغيرهما مُبّيناً وجه الترجيح، ومما قاله في تفسيره للآية الكريمة: (واتخذوا مِن مَّقَام إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعيلَ أَن طَهِّرَا بيتي لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والرُّكَّعِ السجود) .(36/110)
(.. حُكي في تَصْغيرِ إبراهيم وإسماعيل: بُرَيْهٍ وسُمَيْعٍ، ذكر ذلك سيبويه، فالهمزُة والميمُ زائِدتانِ، وكذلك إسماعيلُ الهمزُة واللامُ زائدتان. وتصغير الّترخيمِ هُوَ على حذف الزائد، فَلَوْ صَغّرتَهُ على غير الّترخيم لقلت: بُرَيْهيم وسُمَيعيل (1) وحذفت الهمزة. وقال المبُرِّدُ: أبَيْرِه واُسَيْمِع، والأول أدلُّ على المكُبّرِة لأنه يمكن أنْ يكونَ أُبَيْرِه واسيْمع تصغير إبْره واسمع، وبالقول الَأوّلِ قال سيبويه وعليه أكثرُ النّحويين لما ذكرتُهُ مِن الدّلالَةِ على المكَبَّرِ. أ،.
موقفه من الفراء
أورد ابن أبي الربيع توجيهاً للفراء لكلمة (مَثَلًا ما بعُوضةً! هو الواردة في قوله عز وجل: (إِنَّ اْللَّهِ لاَ يستحي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَهَا..) وَرَدّ ما استدّل به؛ لأنه دليلُ يدخله الاحتمال مِمّا يقتضي بُطْلان الاسْتِدْلال به، ومما قاله في رده. (وأما ما ذهب إليه الفراء، وهو أنَّ المعنى: ما بين بَعُوضَةً فما فوقها خارِجٌ عن طريق كلام العرب؛ لأنَّ الظّرفَ لا يُحذَفُ وُيقامُ مَقامهُ مخفوضُهُ، لا تقول: جلستُ زَيداً تريد جَلَسْتُ عند زيدٍ، هذا ليس من كلامِ العرب، واستدلا له بقول العرب: له عشرون
ما ناقةً فجملاً (1) (2) استدلالا ضعيفٌ، فإنّ ما هنا زائدة، والأصل له عشرون ناقةً فجملاً، والفاءُ جاءتْ لِترتْيب الأخبار، وإلاَّ فكيْفَ تأتي الفاء مع بينَ؟ لا تقل جَلَسْتُ بَيْنَ زيد فعمروٌ، ولا يقولُ أحدٌ جَلَسْتُ القومَ زيدٍ جَلستُ بين القوم، فإذا بَطَلَ هذا كلّهُ بطَلَ قوله. ولا يَصِحُّ الاستدلال على القواعد إلاَّ بغير مُحتَمَل، ومتى احتملَ بطل الاستِدْلال (121) .
موقفه في المازني
__________
(1) المصدر السابق 3/ 446، وشرح السيرافي 2/ 610.
(2) ينظر معاني القرآن 22/1-23.(36/111)
تناول ابن أبي الربيع علة البناء في تابع أيّ المقترنة بأل في النداء عند كلامه على الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدوا رَبَّكُمُ..) وتطرق به الحديث إلى رأْيِ المازني في المسألة، وردّهُ لعدم الدليل على القياس الذي صَوَّغ له ما ذهب إليه، ومما قاله ابن أبي الربيع في المسألة في الرد على المازني ...
(.. يا التي للنداء إذا وقع بعدها اسم مبني على الضم على أنه معرفة فهي مع ضمتها كالألف واللام يفهم ضمنها التعريف، إلى أن يقول:
فإذا قلت: يا أيَّها الرجلُ، فأىَّ هنا هي الرّجلُ، وإذا قلت: يا أيها الناس، فأيّ واقعة على شيء مبهم يَتَبَيّن بما يجرى عليها، وأي مفردة بنيت على الضم؛ لذلك يكون المبين لها مرفوعاً ولم يسمع فيه النصب، لأن المنادى بالحقيقة إنما هو الاسم الذي فيه الألف واللام التابع لها، وأنت لو ناديت ذلك الاسم لم يكن إلاّ مبنياً على الضم، فلم تكن أي وتابعها إلاَ مرفوعين.
وأجاز أبو عثمان المازني النصب في أي تابع، ولم ينقله وإنما أجازه قياساً.
وبما ذكرته يمتنع القياس، لأنك إذا قلت، يازيدُ الظريف، فزيد المقصود بالنداء
لا الظريف، وإذا قلت: يا أيّها الرجلُ، فالرجل هو المقصود بالنداء، وأيّ صلة. (189)
موقِفُهُ مِن الزَّمَخْشَريّ(36/112)
وقف ابن أبي الربيع على كتاب الكشاف لجار الله الزمخشري، وأفاد منه، وترسم نهجه في المناقشة واستجلاء المعاني البلاغيّة والصّور البيانية، لكنَّ إفادته من كشاف الزمخشري لم تكن مانعتُهُ من الأخذ عليه والنقد لبعض أقواله التي نثرها في كتاب الكشاف، وأكثر المسائل التي تناولها ابن أبي الربيع في اللغة والنحو والتصريف، ولم يصرح باسم الزمخشري إلا في مواضع قليلة من هذا السفر في تفسير الكتاب، وإنما ورد نقده له تحت قوله: بعض المتأخرين، ولمّا عُرِضَتْ الأقوال موضع الملاحظة على مواطنها في كتاب الكشاف تبيّن أنه المقصود بذلك، فالأقوال أقوال الزمخشري إن لم تكن بلفظها فهي بلفظ مقارب، أما المعنى فواحد، ونورد فيما يلي أهم المسائل التي تناولها ابن أبي الرّبيع في تعقبه على الزمخشري:
لم كان الرّحمن أبلغ من الرّحيم؟
قال ابن أبي الربيع في بيان السَّبب الذي صار به الرحمن أبلغ من الرحيم في قول الله عز وجل: (الرحمن الرَّحِيمِ) :
(.. (الرّحَمنِ) اسم خاص به سُبْحانه لا يقعُ على غيره وفعلان يأتي عند الامتلاء، نحو غضبان، وسكران، وحيران، وكذلك الرّحمن.
والرّحيمُ مبالغةٌ في رَاحمٍ، والرّحمنُ على هَذا أبْلَغُ مِن الرَّحيم، ولذلك يُقالُ رَحمن الدُّنْيا والآخرة، وَلمْ يُقلْ في الرحيم،لأنَّ الرحمن جرِى مجرى الأسماء، والرَّحيم ليس كذلك، بل هو باقٍ على الصِّفة وجريانه على غيره، فلذلك قدِّم على الرَّحيم.
وجاء أبو القاسم الزّمخشري وقال: هو اكثر حروفاً من الرّحيم، فهو لذلك أبلغ كالشقدف والشّقُنْداف.
وهذا كلام ليس مِن طريق كلام العرب، ألا ترى فَعِلاً، نحو: حَذِر أبلَغُ من حاذِرٍ، وإن كان أقلَّ مِنهُ حروفاً، وإنّما الأمرُ على ما ذكرت لك. (5) .
رَدّ ابن أبي الرَّبيع القول بأنّ "رَبّ "وصفٌ بالمصْدَرِ(36/113)
وَممّا رَدّ به على الزَّمخشري ولم يُصَرّح باسْمِهِ قوله في تَصْرِيف "ربّ "من "رَبّ العالمين ": رَبّ وَزْنُهُ فَعِلٌ بكسر العين، والأصل رَببَ ثُمَّ أُدغم، وليس أصلهُ فعْلاً بسكون العين؛ لأنَّهم قالوا في الجمع: أرْبَابٌ.. إلىَ أن يقول:
وقولُ من قال: إنّه وصفٌ بالمصدَرِ فيه بُعدٌ، إذّ لو كان كذلك لم يثنَّ ولم يجمع، ومَنْ ثنَّى مثل هذا في المصادر ثنّاهُ على القياس في فعلِ أفعل، وذلك نحو: كَفٍّ، وَأَكُف، فكونُه قد جُمِعَ على أرباب يَدُلُّ على بعد هذا القول. (7) .
إضافة اسم الفاعل إلى معموله في "مالك يوم الدين "
ذهب ابن أبي الربيع إلى أن إضافة اسم الفاعل في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْم الدِّينِ) إضافةً محضة واسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال، وأنَّ هذه الإضافة إلىَ معرفة تفيد التعريف، لأنّ اسم الفاعل إذ أضيف إلى معرفة كان على وجهين: على التعريف وعلى التخفيف، وردَّ قول الزمخشري في جعله الإِضافة هنا غير محضة وأنّها لمجرد التخفيف، ومما أورده في تقرير المسألة والرد على الزمخشري قوله:
واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي وأضيف إلى المعرفة تعرّف، وإذا كان بمعنى
الحال والاستقبال وأضيف إلى المعرفة كان على وجهين: على التّعريف وعلى التخفيف، وتكون هنا الإضافة على التعريف، لأنّه جارٍ على المعرفة.
وجاء بعض المتأخرين، وقال: إنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال فلا تكون إضافته إلاَّ غير معرفة، وتكون غير محضة، وإنما تكون للتخفيف.(36/114)
وهذا القول فاسد، والصحيح ما ذكرته أولاً، وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال فله إضافتان: إضافة تعريف وإضافة تخفيف، والذي يضاف ولا يتعرف أبداً بالإِضافة الصفة المشبهة باسم الفاعل خاصة ولا يتعرف إلاَّ بالألف والّلام. وجاء (مالِكِ يوم الدّين) على طريقة نهارُه صائم وليله قائم في الاتّساع لمّا كان فيه نُسِبَ إليه إمّا بالفاعلية وإمّا بالمفعولية. على جِهةِ الاتِساع. (10) .
إعراب كلمة "سواء"وجملة "أأنذرتهم "
أورد ابن أبي الربيع إعراباً لكلمة "سواء"وجملة "أأنذرتهم "من الآية الكريمة: (سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لم يعزه إلى قائله بل طوى ذكره لَعلّه تكَرّه التشهير به وآثر توجيه النقد إلى فحوى القول ومنطوقه، وهو نهج التزمه كثيراً في نقده وتعقباته على بعض العلماء. ومما قاله هنا بعد إيراده الإعراب الذي ارتضاه:
(ومَنْ قال: إنّ (أأنذرتهم) في موضع المبتدأ و (سواء) خبر فقد قال مالا نظير له. وكذلك مَنْ قال إنّ (أأنذرتهم) فاعل (سواء) و (سواء) خبر إنّ مقدم فقد أخطأ (2) (1) ؛ لأنَّ الجملة لا تقع موقع الفاعل فليس في هذا إلّا ما ذكرته، من جعل الخبر
مبتدأ والمخبر عنه خبراً على جهة الاتِّساع، فيكون بمنزلة: إنَّ خيراً منك زيدٌ، وإنّ مثلك عمرو. (36) .
مجيء مِنْ لبيان الجنس عند الزمخشري وَردّ ابن أبي الربيع ذلك
__________
(1) والقولان هنا لأبى القاسم الزمخشرى، قال في الكشاف: وسواء بمعنى الاستواء.. وارتفاعه على أنه خبر لإِنّ، وأأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع المرتفع به على الفاعلية، أو يكون أأنذرتهم في موضع الابتداء، وسواء خبر مقدم. بمعنى سواء عليهم الإنذار وعدم الإنذار.. بتصرف من الكشاف 1/ 1هـ ا-152، وينظر التبيان في غريب إعراب القرآن 1/ 50، وإملاء ما منّ به الرحمن 1/ 20، والدر المصون 1/105.(36/115)
ذهب الزمخشري إلى أنّ "مِنْ "في قوله تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) تُفِيدُ التّبعْيض، وقد تكُونُ لِلْبَيان، كَقَوْلِكَ: أنفقت مِن الدَّراهم ألفاً.
ولم يرتض ابن أبي الربيع معنى البيان في "مِنْ " وأثبت لها معنى التبعيض، وزاد ابتداء الغاية، واستند فيما ذهب إليه في ابتداء الغاية إلى سيبويه وأبي علي الفارسي، ومما قاله في المسألة:
(.. وجاء بعض المتأخرين وقال في "مِنْ "هنا إنها للبيان، واسْتَدَلَّ بقولهم: أنفقت من الدَّراهم ألفاً، لا فرق بينه وبين الآية.
التبعيض فيها هو البيّن، ولم يذكر سيبويه ولا أبو علي في "مِنْ "أَنَّها توجد لِلْبيان، وإنما هي موجودة لابتداء الغاية أو للتبعيض، ومَنْ قال: إنّها تكون للبيان اسْتَدَلّ بقوله سبحانه: (فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ) وهذا التبعيض فيه بينّ، لأنَّ الوثن لا يجتنب فيه إلاّ العبادة والتعظيم وهذا هو الرّجس، وأمّا أَنْ يؤخذ الوثن إذا كان ذهباً أو فضة فيعمل به ما يجوز أن يعمل فلا يجتنب، وهذا ليس برجس. (1) (95) .
إعراب "رِزْقاً " مفعولٌ من أجله
أعرْبَ الزمخشريُّ كلمة (رِزْقاً) من الآية الكريمة: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) مفعولاً من أجله، ومِن الجارّة للتَّبعْيضِ، ولم يَرْتض ابن أبي الربيع هذا الإعراب و"مِن " للتبعيض، وإنمّا خرجه على أنّه مفعول به؛ لأنه الأظهر في الصورة والأقرب في البيان، قال في تعقبه على إعراب الزمخشري:
__________
(1) هذا التخريج الذي أورده ابن أبى الربيع لا يمنع مجيء من لبيان الجنس، وكون سيبويه أيقل به لا يلزم منه النفي لهذا المعنى فقد ذهب إليه غير واحد من العلماء كالهروي في الأزهية 233، وابن مالك في شرح التسهيل 3/134.(36/116)
(.. ورأيتُ بعضَ المتأخرين قال: وإنْ كانت "مِنْ "مِن قوله سبحانه "من الثّمراتِ "للتّبعيضِ فيكونُ "رِزْقاً"مفعولاً من أجله؛ ولا أدْرِي ما حَمَلُه على هذا؟ وإلاّ فقد يقولُ: أكَلْتُ مِن الرَّغيف ثلثه، وأخرجت من النّاسِ زيداً، وَزَيدٌ مفعولٌ به ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يكونَ مُفْعُولاً من أجْلهِ. وجَعَلُ الرّزَق هنا مفعولاً مِن أجله إنَّما يكونُ بعد جعل الرّزْقَ مَصْدَراً، وشرطُ المصْدرِ إذا كانَ مفعولًا من أجله ألاَّ يُنصبَ حتّى يكُونَ فاعلاً لِفاعِلِ الفعل المعلل ومع الفعل المعلّل في زمانٍ واحدٍ، نحو: جئتك ابتغاء الخير، فأنا الجائي، وأنا المبتغي والزّمانُ واحد، فالرّزق على هذا هو من الله تعالى، والإخراج منه سبحانه إلاّ إنّ الزّمان مختلف، إلاّ أن يكون المعنى: إعداداً لرِزْقكم، وفيه اتساع.
وقال: وإنّ جعلت ((مِن)) للبيان كان "رِزْقاً "مفعول به، وقد جعل "من " للبيان وجعل الرزق مفعولاً به، و"من "للتبعيض أبين من جعله مفعوًلا مع من التي للبيان عند من يثبت ذلك. (96) .
رَدّ ابن أبي الربيع إعراب كلمة "لكم "مفعولاً لأجله
خرج ابن أبي الربيع كلمة (لكم) الواردة في الآية الكريمة: (خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَميعاً) على أن اللام لتعدية الفعل قبلها، فهي بمنزلة: جئت لك، فجاء تتعدى بالَلام وليست على معنى جئت لأجلك؛ لأنه لا يعلم الذي جيءَ لأجْلِه، وكذلك (خلق لكم) تتعدى باللاّم، ولَيْسَ المعنى لأجلكم. وبعد أن قرر هذا الوجه
عرض لقول الزمخشري في المسألة دون أنْ يصرح باسمه أو يعزو إلى المصدر، فقال: (.. ورأيت بعض المتأخرين ذهب إلى أن "لكم "مفعولاً لأجله، وهذا ليس بصحيح لما ذكرته..) .(36/117)
وما ذهب إليه الزمخشري هو الأظهر في كلمة (لكم) لما فيه من معنى السبب، وقد أخذ به غيرُ واحد من معربي القرآن، حتى قال أبو حيان إن (الأحسن حمله على السبب فيكون مفعولاً من أجله؛ لأنه بما يا الأرض يحصلُ الانتفاع الديني والدنيوي. أعرب الزمخشري في (سبع سماوات) الواردة في الآية الكريمة: (فسواهن سَبْعَ سَمَواتٍ..) علما أنها تفسير للضمير المبهم "هُنَّ "وأمّا ابن أبي الربيع فقد خَرّجها على وجهين هما: البدلية والحالية، ثم رد قول الزمخشري، وممّا قاله في المسألة:
(.. وسَبْعَ بدلٌ من "هُنَّ "والتقدير: فَسَوّى سَبْعَ سموات، ويمكن أنْ يكون حالاً على تقدير: مقدراً أن يكون سبع سماوات، كما قال سبحانه: (وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي مقدراً أن يكون سَكناً، وهذا بمنزلة قول العرب: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائد به غداً، أي مقدرا به الصّيدِ غداً، والبدل عندي أحسن. ورأيت بعض المتأخرين يذهب في (سبع سموات) إلى أنه بمنزلة: ربه رجلاً، أضمر على شريطة التفسير (5) . وهذا قولٌ لا يُعَوّل! عليه ث لأنَّ الضمير على شريطة التفسير يحفظ ولا يقاس عليه، ولا يقال منه إلّا ما قالت العرب ة لأنه خارجٌ عن القياس، والأصل في الضمير الغائب أنه يأتي بعد الظاهر لفظاً أو مرتبةً، أما إتيانُه قبل الظاهر المفسِّر له لفظاً ومَرّتَبةً فَلَمْ يَقَعْ إلّا في أرْبعةِ أبواب، وبَيانُها في كُتُب العربية، وليس هذا مِنْهَا. (131) .
خرج الزّمَخْشرِيُّ كلمة "أعْلَم "من قوله تعالى: (وَأعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ) (1) على معنى التفضيل، أمَّا ابن أبي الربيع فجعل "اعلَمُ "هنا فعل مضارع واسْتَبْعَدَ ما ذهب إليه الزمخشري، ومما قاله:
(.. "اعْلَمُ "هُنا فِعْلٌ مضارعٌ يُراد به الحالُ المسْتَمِرّة و"ما"مفعول بأعْلَمُ، والتقدير: بما تَعْمَلون أبداً، ودخلَتْ لا هنا لنفي المستقبل، وقدْ قِيلَ في هذا أقوالٌ أحسَنهُا عندي ما ذكرته.
__________
(1) سورة البقرة آية: 30.(36/118)
وجاءَ بعضُ المتأخّرينَ وذهبَ إلى أنَّ "اعلمُ " هُنا أفعلَ تفْضيلٍ، وهُوَ شيءٌ بعيدٌ، مقصُودُه مُتَعَذّر. (135) .
أعربَ الزمخشريّ كلِمة "وَمِنْ ذُرِّيّتي "من الآية الكريمة: (قَالَ إِنّىِ جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً، قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى..) وهو معطُوفةً على الكاف من "جاعِلُك"كأنه قال: جاعلٌ بَعْضَ ذُرِّيّتي..
وقد ردّ ابن أبي الربيع هذا التوجيه بمقتضى الصِّناعة الإِعرابية، والقاعدة النحوية، فقال:
(.. وذهبَ بعضُ المتأخّرِين إلى أنّه، أيْ (وَمِنْ ذُرِّيتي..) مَعْطُوفٌ على الكافِ
مِن (جاعِلُكَ) . ولَيْسَ هذا بالبيّنَ؛ إذْ لو كانَ (وَمِنْ ذُرِّيَّتي) منصوباً لكانَ وَذُرِّيّتي، لأن الكاف مفعولُهُ فهو يصلُ إليها بنفسه، (وَمِنْ ذُرِّيَّتي) مجرور فكيف يُعطفُ المجرورُ على المنصوب. (256) .
أعرب الزمخشريّ (ومَنْ كَفَر) معطوفة على (مَنْ آمن) في قوله تعالى: (وَإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآَخِرِ، قَال وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً..) .
ولم يرتض ابن أبي الربيع هذا الإعراب، بل رَدّهُ بقوله:
(ورأَيتُ بعضَ المتأخّرينَ يذهبُ إلى أنّ (وَمَنْ كَفَرَ) معطوفٌ على (ومَنْ آمن) ، وحقُّ المعْطُوفِ أنْ يكونَ مُشَرّكاً في العامِلِ، والتّشريك هُنا مُمْتْنعٌ؛ لأنَّ الأوَّل دعاءٌ، والثاني إخبارٌ عن الأصل. (98) .
المبحث السابع
عناية ابن أبي الربيع بالقراءات
أورد ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسيره قراءات مختلفة، فيها المتواترة، والشاذة، وقد تناول الكثير من هذه القراءات بشيء من البيان والتوجيه على مقتضى قواعد العربية، ونبّه على ما خرج من القراءات الشاذة عن أصول العربية والقياس الصحيح.(36/119)
ومنهجه في الاحتجاج بالقراءات يقوم على تقديم المتواتر والتعويل عليه، وتَوْجيه القراءات الشاذة غالباً على الأوجه المحتملة في العربية، فإذا لم يجد لها وجهاً في العربية خرجها على قاعدة الاتساع.
وتارة يورد القراءات متواترة كانت أو شاذة دون أن يتبعها بتوجيه أو بيان، كقوله: لم يقرأ في السبع إلاّ بالتخفيف، وأمّا في غير السّبع فقد حكى فيه قراءات (4) ، وقد قرىء في غير السبع (5) ، ومن أمثلة القراءات الموجه ما يلي:
قال في توجيه القراءة الشاذة في قوله تعالى: (أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) قُرىءَ في الشّاذّ (أنذرتهم) وهو على حذف همزة الاستفهام، اسْتغنوا عنها بأم، لأنَّ أم طالبة بالاسْتفهام، ثم ثَقُلَ اجتماع الهمزتين، وهذا لا يَكادُ يُعْرَفُ، ولم يجئ في السبع. وقال في توجيه قراءة (غِشَاوَة) من قوله تعالى: (عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (.. لم يقرأ هذا في السّبع إلاَّ بالرّفع، وقُرِىءَ في غير السبع بنصب "غَشِاوَة " ورُوِيَ ذلك عن عاصم في روايته المشهورة عنه لها وجه، وهو أن يكون منصوباً بإضمار فعل دَلّ عليه (وخَتَمَ) (1) ، لأنَّ الختم في القلب وَالسّمع نظير جعل الغشاوة على العين، فيكون هذا بمنزلة قول امرئ القيس:
يُحَلّين ياقوتاً وشذراً مُفَقَّرا … … … …
وَرَيَحَ سَناً في حِقِّهِ حِمَيريةٍ … … … …
المعنى: وُ يضَمّخْنَ ريح سنا، وحذف يضمخْن؛ لأنَّ ما قبله وهو يُحَيّن يَدُلُّ عليه.
وجاء في غير السّبع "غَشْوَةٌ "والمعنى تغطية، وهو مصدر. و"غُشاوة"يضم العين، وبالعين غير المعجمة. والواو في عشاوة أصل، لأنّهم قالوا: عشا يعشو، قال:
متى تأته تعشو إلى ضَوْءِ نارِه تجد.
__________
(1) ينظر التذكرة في القراءات لابن غليون 309/2، والمحرر الوجيز 1/ 55 ا-56 ا.(36/120)
وأمَّا مَنْ قَرَأَهُ بالغَيْنِ فالواو مُنْقلبةٌ عَنْ يَاءٍ، لأنّهم قالوا: الغشيان. وقالوا: غَشيَة وقُرىءَ "غِشْوَةَ "بكسرِ الغين والواو منقلبة عَنْ ياء، وهذه قراءاتٌ لم تثبت في السبع، والثابت في السَّبع (غِشاوة) بكسر الغين وفتح الواو ورفع التاء. وفِعالة بكسر أوّله يأتي في المصادر إذا كان فيها ولاية، نحو الإِمارة، والحياكة، والكتابة، لأنَّ في هذه كلّها شبهاً بالولاية.29- 30.
تضعيفُ القراءةِ الشَّاذًةِ أو تخريجها على وجه الاتساع
وتارةً يُورِدُ القراءةَ الشّاذة ويخرجها على مقتضى الصنعة الإعرابية ليظهر وجه الضعف فيها، من ذلك ما أورده في توجيه قراءة الرفعِ لكلمة (بَعُوضَةً) من قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يستحي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا) قال توجيه رفع (بَعُوضة) :
(.. لم يَقْرَأُ السبعة إلاّ بنصب "بَعُوضةً"، وَقرِىء في غير السّبع بالرّفع ولَيْسَ بالقويّ، لأنَّ (ما) هنا بمعنى الّذي وَصِلَتُها "بعوضة "ولابدَّ مِن ضميرٍ محذوف تقديره: الّذي هُوَ بعوضة، وهذا الضّمير يَقِلُّ حذفُهُ، وإنّما هُوَ في الأفْصَح ظاهرِّ كما قال تعالى: (وَرَاوَدتْهُ الَّتِى هُوَ فِي بَيْتِهَا) .
وكذا وجه الرفع في كلمة (أحَسّنُ) من قوله تعالى: (تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ) (1) .
ومِمّا قال هنا: ".. قرىء في الشاذ بالرفع وهو على تقدير: الّذي هو أحسنُ، وحذف الضمير العائد من الصّلة إلى الموصول إذ كان مُبتدأً ضعيفٌ إلا في أَيِّ، وقد حَسُنَ بعض حُسْنٍ إذا طال الكلام. (121) .
وقال عن توجيه قراءتي الرفع والنصب في كلمة (مُصَدِّقٌ) من الآية الكريمة:
(ولمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) .
__________
(1) سورة الأنعام آية: 154.(36/121)
(.. لم يقرأ (مُصَدِّقٌ) في السبع إلاّ بالرفع، وهو صفة للكتاب، وقُرىءَ في غير السبع (مصدقاً) بالنّصب، وهُو عِندي حالٌ من الضمير الّذي في (من عندِ اللَّهِ) ، لأنه نائب مناب مُسْتَقِرٌّ، فيكون المعنى: وَلمَّا جاءَهُم اسْتقر من عند الله في حال أنه مصدق بالتوراة؛ أيْ موافقاً لما في التَّوْراة. (233) .
ومما خرج فيه ابن أبي الربيع القراءة السبعية على خلاف القياس والقراءة غير السبعية على مقتضى القياس كلمة (مَثُّوبة) من قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ منْ عِندِ الله خَيْرٌ لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (1) ، قال في بيان القياس في (مَثوبةٌ)
(.. يقالُ مثوبة، ومعناهُ الثَّواب، وكان القياسُ في مثوبة مثابة، ولم يقرأ به في السّبع، وقُرِىء في غيرِ السّبع، لأنَّ الفعل معتل فينبغي أن يكون المصدرُ كذلِكَ، مثل المنابة والمقامة والمقالة والمثابة، لكنّهُ جاء مصححاً على الأصل كما جاء القُصْوَى والقَود. (261-262) .
وتارة يوجّه المعنى وَفْق القراءة الواردة في الآية، كقوله في كلمة (تسأل) من الآية الكريمة) إِنّا أرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم) (2) .
قُرِىء (تسْأل) بالجزم، ولا نَهْيٌ، وقُرىء (ولا تسألُ) بالرَّفعِ وبناء الفعل للمفعول.
فمنْ قرأَهُ بالرفع عطفةُ على (بشيراً) والمعنى: إنَّا أرْسلناك مبشراً ونذيراً وغيرَ سائل عن أصحاب الجحيم، أيْ مَنْ كَفَرَ لا تسأل عن كفره.
ومَنْ قرأ "ولا تسألْ "بالجزم، ففيه تعظيم الجهة، أي: لا تسأل عن هؤلاء، أي إنَّ أمْرَهُم أكبر من ذلك. (283) .
وتارة يخرج القراءة على قاعدة الاتساع، كقوله في توجيه قراءة الضم في (وُقُودها)
من الآية الكريمة: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ التي وَقُودُهَا الناس والحجارة..) .
__________
(1) سورة البقرة آية: 103.
(2) سورة البقرة آية: 119.(36/122)
(.. وقرأ جماعة في الشاذ: (وُقُودُها) بضم الواو، والوُقود بضم الواو المصدر فالإخبار عنه بالنَّاس والحجارة فيه اتساع مِنْ وَجْهَين:
أحدهما: أنْ يكون على حذف مضاف.
الثاني: أن يكون جعل النَّاس والحجارة وقوداً لمّا كان الاتّقاد بهما، كما تقول: زيد زين الكلمة، وأطلق الزّين عليه وهو في الأصل مصدر، كما تقول: حياة المصباح السّليط، وُيسمىّ الشيء باسم ملازمه، وقد مضى الكلام في الاتّساع، وأنّه يكونُ على وجوهٍ، هذا أحدها، وهو تَسْمِية الشيءِ بما يلازِمُهُ. (106) .
المبحث الثامن
الاحتجاج بالشعر
يُعدّ الشعر أحد المصادر السماعية التي أمدّتْ العربية بأفصح التراكيب وأبلغها، وأحسن الأساليب وأجزل المعاني، وأثره في ترسيخ أصول العربية وقواعدها وضبط أقيستها معروف لدى أهل الصنعة، وقد صُنّف في مصادر تثقيف اللسان وتقويمها بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وحَسْبُهُ شرفاً وغايةً أن كان رَدِيفَ هذين الْوَحْيَين في حسن البيان، وفصاحة التراكيب والمفردات. وقد عَلا باللغة العربية إبّان عُصورِ الاحتجاج إلى السماكين، ونأبها بعيداً عن اللحن في البيان والتسكع في الخطأ الذي تفضله سقطات الصّمت..
واحتجاج ابن أبي الربيع بهذا الرافد يلتزم فيه نهج الرّعيل الأول من أرباب الصنعة فهو لا يحتج إلاَّ بما صَحّت لغتهُ وتقادمت روايته. وقد سلك في الاحتجاج طرائق شتى، فتارة يحتَجُّ بالبيت لبيان مفردةٍ من غريب القرآن، وتارةً يأتي به لتوجيه قراءة من القراءات التي احتجّ بها، وتارةً يحتجُّ به على قَضِيّةٍ نحَوِيَّةٍ أوْ صَرفِيّةٍ.. وفيما يلي يُورِدُ البحثُ أمثلةً تُبينُّ ما ألمحت إليه هذه التوطئة.
قال في تفسير كلمة "الصّلاة "من قوله تعالى: (الذين يُؤْمِنُونَ باَلْغَيْب وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (1) .
(.. الصّلاة: الدعاء، قال:
عَليكِ مثل الّذي صَلّيتِ فاغْتَمِضي يوماً فإنّ لجنب المرءِ مُضطّجعا
وقال آخر:
__________
(1) سورة البقرة آية: 3.(36/123)
لها حَارِسٌ لا يَبرُحُ الدّهر بَيْتَها وَإنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْه مَا وزَمْزَما (28)
وقال في تفسير المفلحون من الآية: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1) :
الفلاحُ والفَلَحُ: البقاء، قال الأعشى، وأنشدَهُ يعقوب:
وَلَئِنْ كُنتُ كَقومٍ هَلكوا ما لِحْيّ يالَقومِ مِنْ فلح
أي من بقاء.
وقال عدي بن زيد:
ثمّ بعد الفَلاَح والملكِ والأمْرِ ةِ وَارَتْهُم هُناك القُبُورِ
وقال غيره:
والصّبحُ والمسِىُّ لاَ فَلاحَ مَعه.. (34) .
المعنى: لا بقاء معه.
واحتجّ لقراءة فتح الميم في (مَن) من قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) (2) ،لبيانِ وَجه الإشكال في إعراب "مَنْ"قال في توجيه الإعراب الذي تحتمله "مَنْ ":
(. وأمّا (والذين مَنْ قَبْلِكُم) فمشكلة وَهِيَ عِندي بمنزلة قول زُهير:
... ... ... ... لَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَها أُمُّ قشعَمِ
المعنى لدى إلقَاء أمَّ قشعم، فأتى بلدى وحيثُ، وهما لمعنى واحدٍ، ثم جاء بعد حيثُ بجملة في موضعِ خفض ودلّتَ على مخفوض لدى، فكأنّها. بدلٌ مِن لَدَى، ولَدَى تطلبُ مَخْفُوضاً، وحيثُ تطلب جملةً في موضع خَفَضِ، فأتى بالجملة لحيثُ، ودَلّ على مخفوضِ لَدى كما ذَكَرْتُ لَكَ، فقولك: والّذينَ مَنْ قبلكم، والّذين ومَنْ معناهما واحد، فكأنّ مَنْ بدلْ من الذين، وكلاهما تطلبان الصّلة، فأتوا بالصّلةِ لِمَنْ فدَلّت على صِلَةِ الذين.. (92) .
واحتجّ لِحمْلِ المضُارِع على الماضي في قوله تعالى: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبيَاءَ الله مِن قَبْلُ) (3) فقال:
(وتقتلون وُضِعَ موضعَ قَتَلْتُم والمضارعُ يُوضَعُ موضِعَ الماضي إذا كان معنا ما يدُلُّ على ذلك، قال امرؤ القيس:
__________
(1) سورة البقرة آية: هـ.
(2) سورة البقرة آية: 21.
(3) سورة البقرة آية: 91.(36/124)
لَعمري لَقَوْمٌ قَدْ نَرى الأمْسَ فيهُمُ مَرابط للأمْهَارِ والعَكَرِ الدَّثرُ (1) .
فقوله: الأمْسِ يَدُلُّ على أن نَرى في معنى رأينا، وكذلك "مِنْ قَبْلُ "في الآية يَدُلَّ على أنَّهُ ماض.
واحتجَّ لترجيح الاستعارة على التّشبيه في الآية الكريمة: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْ جِعُونَ..) (2) فقال:
والأنسب الاسْتِعارَةُ، وَإِنَّما تُسمىَّ الاستعارةُ إذا لم يُترك المشبه وطوى ذكْرُهُ، كما قال:
لدى أسدٍ شاكي السّلاحِ مقذفٍ
وعرض للإلتفات في الآية الكريمة: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
وبين صُورَهُ التي يأتي عليها واحتج لكل منها واصفاً ذلك بما له من الفصاحة وحسن البيان فقال:
وفي هذا الخروجُ من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على أوّلِ الكلام لكان إيَّاهُ.
وهذا مِنْ فصيح كلام العرب، قال امرؤ القيس:
تطاولَ ليلُكِ بالاثمُدِ فنام الخليّ ولم تَرْقُدِ
وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمدِ
فانتقل من الخطاب إلى الغيبة، ثم قال في البيت الثالث:
وَذلِكَ مِن نَبأٍ جاَءني وَخُبِّرتُهُ عَنْ أبي الأسودِ
انتقل إلى التكلم، ويسمى هذا الالتفات، وهو كثير في القرآن، وهذا من فصيح كلام العرب ...
المبحث التَّاسع
القياس عند ابن أبي الربيع
عَرّفه ابن الأنباري بأنه: (حملُ غيرُ المنقُول على المنقول إذا كان في معناه) .
وقال السيوطي: (وهو معظم أدلة النحو، والمعول في غالب مسائله عليه، كما قيل: إنما النحو قياس يتبع) .
__________
(1) البيت في ديوانه: 112، والعَكَرُ جمع عكرة، والمراد القطيع من الإبل، الدّثر: الكثير من الإبل وغيرها من أصناف المال..
(2) سورة البقرة آية: 18.(36/125)
ومن يُقلّب صفحات كتب النحو يجد أنَّ القياس كان أحد الركائز التي قام عليها صرح علم النحو وبُسطت به مسائله وأحكمت قواعده، واسْتقَام به الدرس النّحويُّ، وكان أحد الروافد المعينة لأئمة النحو في توجيه المسائل التي لم يكن لها دليلٌ من نقل فحملوها بمقتضى القياس على ما يماثلها مِمّا استقام نهجها على مجاري كلام العرب. وابن أبي الربيع في مؤلفاته النحوية، وفي هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز ينزع منزع السلف من أئمة النحو في التَّعويل على القياس في المسائل التي لا مستند لها من النقل أو السماع الموثوق به، ومِمّا وجهه في هذا الجزء من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه على مقتضى القياس ما يلي:
الجر بحرف الجر المحذوف إذا كان مجروره أنّ أو أن وذلك قياساً على (ربّ) قال في
توجيه الآية الكريمة: (إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً..) (أن يَضْرِبَ) على إسقاط حرف الجر، وأصله: إنَّ الله لا يستحي من أن يضرب ثم حذف مِنْ.. واختلف الناس في بقاء عمله أو زوال عمله كما اختلفوا في (أنّ) وكلا الوجهين له وجه، والأظهر عندي أن يبقى العمل فيما حَذْفُه كثير، ويجرى مجرِى رُبّ، فإنها حُذِفَتْ وبقى عملها 00) . (120) .
المصدر الموضوع موضع الحال القياس أن يكون مفعولاً لأجله
قال في توجيه إعراب (بغياً) من الآية الكريمة: (بئْسَمَا اشترَوا بهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ الله بَغْياً) . .
(.. (وبَغْياً) مصدرٌ في موضع الحالِ، أيْ باغين لأجلِ أنْ ينِزّل الله من فضلهِ، أو يكونَ مفعولاً لأجلهِ، لأنَّ المصدَرَ الموضوع موضع الحال يُحفظُ ولا يقاس عليه، والمفعول من أجله قياس. (135) .
ويتكررُ هذا بتفصيل أدق في المصدر (حسداً) الواردة في قوله عز وجل: (وَدَّ كَثِيرٌ منْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً) (1) .
__________
(1) سورة البقرة آية: 109.(36/126)
قال في توجيه إعراب (حسدا) :
(.. و (حسداً) هو يحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، أيْ ودوا بحَسْدِهِم، ويُحتملُ أن يكون "حسداً"مصدراً في موضع الحالِ، والمعنى: حاسدين لكم. والأوّل أحسنُ، لأن المصدر في موضع الحال يُحفظُ ولا يقاسُ عليه، والمفعول من أجله مطردٌ قياسٌ إذا صحت شروطه، لأنّه مصدرٌ لفاعل الفعل المعلّلِ، وهو معه في زَمن واحدٍ) . (272) .
القياسُ في وزنِ مَرْيَم
قال فيما يقاس عليه وزن مريم من قوله تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى أبْنَ مَرْيَمَ) (1) :
(.. ووزن مريم: مَفْعَل، وشذّ في الصحيح، وكان قياسهُ: مراماً ولا يُدعى أنه فعيل، وأنّ الميم أصلية، لأن الأكثر على الميم إذ كانت أولاً أن تكون زائدة، ولأن فَعيلا بفتح الفاء معدوم من كلام العرب، وإنما يوجد فِعيل وفُعيل، قالوا عثير للتراب، وقالوا ضُمَيد اسم وادٍ. فتجنّبُ العرب فعيلا دليل على أنه مرفوض من كلامهم، فكأنه منقول من رام يريم، تقول العرب: ما يريم، أي ما يزال ما يبرح …) . (231) .
المبحث العاشر
الاتساع
الاتِّساعُ ضربٌ من الحذفِ عند سيبويه وغيره من أئمةِ النحو المتقدمين، كحذفِ المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه، وكإقامة الظرف مقام الاسم في الإِعراب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (واسأل القرية..) فإنه على تقدير: "واسألْ أهل القرية"ومن أمثلة إقامة الظرف مقام الاسم قولهم: صيد عليه يَوْمانِ، وإنما المعنى: صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع فيه واختصر..) (2) .
أمّا الاتساع عند ابن أبي الربيع فيشمل ما ذكر ويمتد إلى مسائل من الإِعراب والتّصريف لم يكن لها دليلٌ من سماعٍ أو قياسٍ تحمل عليه لذلك نراه يحملها على قاعدة الاتساع، ومن أمثلة الاتساع في هذا السّفْرِ من تفسير ابن أبي الربيع ما يلي:
__________
(1) سورة البقرة آية: 87.
(2) ينظر الكتاب 1/ 211، 212، والأصول 3/ 255.(36/127)
أوّلاً: نصبَ (يَومَ الدّين) من قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدين) على المفعولية في قراءة عاصم والكسائي، قال في بيان هذا الوجه:
قرأ عاصم والكسائي: (مَلك يوم الدين) فَيُمكِنُ أنْ يكونَ (ملك) بمعنى مالك كما قالوا: حذر بمعنى حاذر، ويكون من الملِك بكسر الميم، ويكون قد أضيف إلى يوم الدّين بعدما انتصب يومَ الدين نَصْب المفعول على جهة الاّتساع، كما قال:
... ... ... طبّاخ ساعات الكرى زَادَ الكسل
على نصب (زادَ) إلى أن يقول:
ويكونُ الأصلُ: مالكاً يومَ الدّين، أَيْ في يوم الدّين ثمَّ انتصبت على أنّهُ مفعولٌ به على الاتِّساع كما ذكرت لك. (8-9) .
ثانياً: نصب (رِزْقاً) لا يكون إلا على الاتساع:
قال في رده على بعض المتأخرين في إعراب (رِزقاً) من قوله عزّ وجل: (فَأَخَرْجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) (1) :
(.. وجعل "رزقا"مفعولاً لأجله إنما يكون بعد جعل الرزق مصدراً، ومِن شرط المصدر إذا كان مفعولاً من أجله ألا ينصب حتى يكون الفاعلُ للفعل المعُلَّلِ في زمانٍ واحدٍ، والرّزق على هذا هو من الله، والإخراج منه سبحانه إلاّ إنّ الزمانَ مختلفٌ، إلاّ أن يكون المعنى: إعداد الرزق فيكون فيه اتساع. (96) .
ثالثاً: الإخبار عن المصدر في قوله تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..) (2) بالناسِ والحجارة فيه اتساع، قال في توجيه الآية السابقة: والْوُقُودُ بضم الواو المصدر، والإخبار عنه بالنّاسِ والحجارة فيه اتّسِاعٌ من وَجْهَين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف.
والثاني: أن يكون جعلَ الناسَ والحجارة وقوداً لمكان الإتّقاد، كما تقول: زيدٌ زَيْن الكلمة، وأطلق الزّين عليه وهو في الأصل مصدرٌ، كما تقول: حياةُ المصباح السليط. (106) .
رابعاً: الاتساع في المصدر (مثابةً) من الآية الكريمة: (وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) (1) .
__________
(1) سورة البقرة آية: 22.
(2) سورة البقرة آية: 24.(36/128)
قال في توجيه كلمة (مثابة) من الآية السابقة: ويمكنُ أن يكونَ (مثابة) مصدراً يقع على المكان على جهة الاتّساع. (287) .
المبحث الحادي عشر
مذهب ابن أبي الربيع النحوي
لم يصرح ابن أبي الربيع بالانتماء إلى مذهب بعينه من مذاهب النحويين لكنه في عرض المادة العلميّة ومناقشة المسائل التي جرى فيها الخلاف يختار مذهب البصريين وُيرَجّحه على مذهب الكوفيين، وكثيراً ما عَوّل على ما قرّرَهُ سيبويه، وهذا التوجه عند ابن أبي الربيع لا يقف به عند مسائل بعينها بل يمتد على أكثر المسائل التي كان لسيبويه فيها أثر من اختيار أو قول، ويظهر هذا أكثر ما يظهر في شروحات ابن أبي الربيع ومصنفاته في العربية، ويوجد له في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز بعض الاختيارات والترجحات لمذهب سيبويه ومذهب البصريين، وقد يرجح قولاً أو اختياراً لأبي علي الفارسي، لأنّ أبا علي الفارسي عَوّل على مذهب سيبويه كثيراَ وترسم نهجه في أكثر المسائل التي كانت موطن الخلاف بين البصريين، واكتفى هنا بعرض نموذج مما يظهر فيه تأثر ابن أبي الربيع بمذهب البصريين، واختياره له، في مجال الترجيح.
العطف ضمير الرفع المتصل
عرض لهذه المسألة عند تفسيره للآية الكريمة: (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ففصل القول في المسألة على مذهب البصريين ولم يشر إلى مذهب الكوفيين فيها، إمّا لأنه لا يرى مساغاً لذكره لأنَّ محِلَّه كُتُبُ العربية، وإمّا لأنّ قولهم في المسألة لم يكن مَحِلّ بحث وموازنة لاشتهاره بين المعربين فاقتصر على ما يراه في المسألة راجحاً، ومما قاله في توجيه الآية:(36/129)
(.. (أنت) توكيد للضمير في اسكن بدليل قولهم في التّثنية: اسْكنا أنتما، وفي الجمع: اسْكنوا أنتم. (وَزَوْجُكَ) مَعْطُوفٌ على الضَّمِير المُسْتّتر في اسْكُن لا على (أنْتَ) لأنَّ (أنْتَ) توكيد للضّمير فيجبُ أنْ يكونَ المعْطُوف عَليهِ توكيداً ولَيْسَ بتوكيد له ولا معنى فيه للتوكيد، فهو معطوفٌ على الضمير المسُتَترِ نفسه، ولا يُعطَفُ على الضمير المرفوع المتَّصل حتَّى يُؤكد أو يُفصلُ بفاصِل يَتَنَزَّلُ منزلة التوكيد، نحو قوله سبحانهَ: (ولَوْ شاء الله ما أَشْرَكْنَا وَلاَ أَبَآؤُنَا) (1) . (144) .
وما ذكره ابن أبي الربيع هنا هو مذهب البصريين في المسألة أمَّا الكوفيون فَمذهبهم جواز العطف دون فاصل، ولهم شواهد نظماً ونثراً، وقد أخذ بمذهبهم ابن مالك في التسهيل (374/3) ، وشواهد التوضيح (2 11) ، ومن الشواهد على العطف دون فاصل التي أوردها ابن مالك قول عمر رضي الله عنه: (كنت وجارٍ لي من الأنصار (2) ، وقول علي رضي الله عنه فيما حدث به: (.. كنت وأبو بكر وعمر ولما 00) (3) .
الجزم على جواب الأمر
قالت في توجيه الآية الكريمة: (.. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (4) :
(.. أوف مجزوم على جواب الأمر، وأبو علي يرى أنّ الشرط محذوف، والتقدير:
إنْ وفيتم أوف بعَهِدِكُم، كما تقولُ: ادرسْ تَحفِظْ، التقدير: إنْ تَدْرُسْ تحفظ، وهذا
__________
(1) سورة الأنعام آية: 148.
(2) ينظر فتح الباري 114/6 كتاب المظالم.
(3) المصدر السابق 7/ 22 كتاب فضائل الصحابة.
(4) سورة البقرة آية: 40.(36/130)
الجزم جائز في جواب الجملة إذا لم تكُنْ خبراً، فإن كانت خبراً منفيًّا أو موجباً لم تجزم وبقَيَ الفعلُ مرفوعاً. وإذا كان جواباً للنهي فلا يكون مجزوماً حتّى يكونَ جواباً لعدم النقل. فإن كان جواباً للواجب لم يجزم، فتقول: لا تدن من الأسَدِ تَسْلَمْ، لأن السّلامة مُسَبّبةٌ عن عدم الدنو ولا تقول: لا تدنُ من الأسَدِ يأكُلْك. والرفعُ في هذا كله هو كلام العرب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَرْجِعُوا بعدي كفاراً يضرِّبْ بعضكم رِقاب بعض " إدْغَامٌ وليس بجزم بمنزلة: (وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا) (1) في قراءة أبي عمرو في الإِدغام الكبير.. وفي هذين الفصلين خالف الكوفيون، فأجازوا الجزم، والصحيح ما ذكرته لك. (153) .
والذي صححه هنا أهو قول البصريين في المسألة، وقد نبه عليه في كتابه الملخص (1/156-157) ، وذكره غيره من النحويين.
وقد سبق القول في متعلق الجار والمجرور في بسم حيث ظهر ميله إلى مذهب البصريين فيه، وكذلك القول في اشتقاق الاسم، إذ يظهر من مناقشته للمذهبين توجيه قول البصريين في مقابل توهين قول الكوفيين (2) 0 (153) .
المبحث الثاني عشر
مصادر ابن أبي الربيع في تفسير الكتاب العزيز وإعرابه
يعد هذا الكتاب خاتمة أعمال ابن أبي الربيع العلمية في الدرس والمراجعة والتّصنيف، ونتيجة نشاطه في هذا الميدان وخلاصة ما انتهى إليه، ولذا جاءت مصادره مُتعدّدة، وفي فنون مختلفة، منها ما صرح بذكره وهو القليلُ، ومنها ما طوى ذكره واكتفى بالإحالة المسندة إلى مؤلفه تارة، وبالِإحالة غير المسندة تارةً أخرى، وأغلب الإِحالات
المرسلة ترد بصيغ: قال بعضهم، ومنهم من قال، وقال بعض المتأخرين، ورأيت بعض المتأخرين، ومنهم من ذهب، فهي تتفاوت قوة وضعفاً.
وتتلخص مصادره التي أفاد منها في الكتب التالية:
__________
(1) سورة الفرقان آية: 10، وينظر القراءة المعزوة لأبى عمرو في كتاب السبعة 462.
(2) ينظر ص 346، 371.(36/131)
1- كتب التفسير: وأهم هذه الكتب التي أمعن النظر فيها وأفاد منها، تفسير ابن عطية، فقد وقف على هذا التفسير وأدام النظر فيه وأفاد منه كثيراً وكانت له عليه تعقبات صَرّح في بعضِ منها بذكر ابن عطية وتفسيره، ولوح إليه في بعض المواضع تلويحا كعادته في التأدب مع أهل العلم. ويلي هذا المصدر تفسير الكشاف للزمخشري، فقد أفاد من هذا المصدر يا المنافسة والتحليل ودقة النظر في توجيه المعاني، وكانت له عليه تعقبات في مواطن مختلفة من الكتاب، وعلى مسائل في النحو والتصريف واللغة والبلاغة ذُكِر بعضُ منها في هذه الدراسة.
ومن المصادر التي أفاد منها في التفسير كتاب أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن العربي، وتظهر فائدة هذا الكتاب في الأحكام وحسن استنباطها.
وهناك تفسير آخر أفاد منه في المسائل الفقهية هو تفسير القرطبي لكنه طوى ذكره فلم يأت له على ذكرٍ في هذا الجزء من تفسيره.
2- كتب الحديث: يتردد ذكر الموطأ وصحيح مسلم في هذا الجزء من تفسيره في الاستدلال على حكم فقهي أو حادثة مروية أو استشهاد على مسائل في النحو، ولا يبعد أن يكون قد أفاد من بعض المسانيد أو كتب السنن الأخرى.
3- كتب الفقه وأصوله: وردت مسائل فقهية وأصُوليّة عزا بعضاً منها إلى كتاب التلقين لعبد الوهاب المالكي في الفقه، ولم يذكر كتاباً بعينه في أصول الفقه لكنه عزا إلى علماء الأصول في الجملة، وأورد مسائل أصولية في مواضع مختلفة من تفسيره.
4- كتب النحو والتصريف: يزدد في هذا السفر من تفسير ابن أبي الربيع سيبويه وكتابه وأبو علي الفارسي وإيضاحه، وصاحب الكراسة، والخليل ويونس والأخفش والمازني والفراء، والزجاجي، وغيرهم من أئمة النحو، لكنه لم يذكر من مصادر هؤلاء إلا القليل مما تناهى إليه نظره واطلاعه الواسع في هذا المجال، الذي أولاه جلّ عنايته.(36/132)
5- كتب اللغة: لم يُصرح إلا بالقليل النادر ومما يغلب عليه الجانب الصرفي، ولكنه من خلال شرح الغريب يتبيّن رجوعه إلى أمات المصادر فيها، فقد أورد إصلاح المنطق، ونسب إلى ثعلب في أكثر موضع، وقد تبين للبحث أنه أفاد من فصيح ثعلب ومجالسه وغيرهما.
6- وهناك مصادر هامة أفاد منها ابن أبي الربيع هو كتب القراءات المتواترة والشاذة، لكنه لم يعز إلى مصدر بعينه، وإنما عزا إلى أئمة القراءة المشهورين، ابن كثير، ويعقوب، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ونافع، وقالون وورش، وغيرهم وتارة يكتفي بالِإحالات غير المسندة، كقوله ة وقرء في السبع، ولم يقرأ في السبع إلا بكذا، وقرء في غير السبع، ولعلّ السبب الذي حجب أكثر مصادره التي أفاد منها أنه كان يملي هذا التفسير من ذاكرته، وقد عاجلته المنية قبل إتمام هذا التفسير وتوثيق ما فيه من نقولات مرسلة وأقوال غير مسندة.
النسخة الخطيّة
توجد نسخة وحيدة لتفسير الكتاب العزيز وإعرابه في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (315) ، ولها مصورات في معهد المخطوطات بالقاهرة، وعن هذه المصورة صورة في قسم المخطوطات بعمادة شؤون المكتبات في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
تقع النسخة في ثمان وتسعين ومأتي صفحة، عدا الصفحة الأخيرة التي كتب عليها تملك وعنون الكتاب. يوجد بالصفحة الواحدة عشرين سطراً غالباً. وهي مكتوبة بخط أندلسي غي مؤرخ، وبها سقط في أكثر صفحاتها، يصل أحياناً إلى أكثر من خمسة أسطر، وقد يكون كلمةً وحرفاً في بعض الصفحات.. والنسخة مقابلة على نسخة سليمة من السقط الذي لحق بهذه النسخة، وقد أضافت المقابلة الكثير مما سقط إلى حواشي النسخة، إلّا أنّ الرطوبة التي امتدت إلى أكثر أطرف النسخة وحواشيها أثرت فيها تأثيراً بيناً لا يكاد بسببه يتبيّن المراد منها.
توجد أخطاء في مواطن مختلفة لم تعالجها النسخة التي قوبلت عليها وبعضها يعود إلى الرسم الإملائي، وبعضها إلى غفلة أو سهو وقع أثناء النسخ.(36/133)
يوجد بآخر النسخة تملك باسم محمد بن عبد الله بن عبد الجليل الأموي ثم التّنسي المتوفى سنة 899 هـ ثم لولده محمد.
ويلي التملكَ سطران لم أتبينّ محتواهما بسبب الرطوبة التي أصابت هذه النسخة في أكثر من موضع.. ثم يأتي بعدها عنوان مختصر للكتاب. نصه:
الجزء الأول من تفسير القرآن لابن أبي الربيع رحمه الله.
والكتاب يخلو من المقدمة التي تبين مقاصد الكتاب وأهدافه، وما يتبع ذلك من الدوافع والأسباب لتأليفه، وربما كان السبب وراء اختفاء المقدمة هو المنيّة التي عاقت ابن أبي الربيع عن إتمام الكتاب، فقد يكون أرجأ مقدمة الكتاب إلى حين الفراغ منه،
حتى تكون المقدمة مفصلة لما احتواه التفسير، شارحة للنهج الذي ترسمه فيه، وما يتبع ذلك من ذكر الأهداف التي قصَد إليها ابن أبي الربيع من هذا التفسير.
تبدأ اللوحة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ثم يَشْرَعُ بعد ابن أبي الربيع في الِإعراب، مبتدأ بالخلاف بين البصريين والكوفيين في متعلق الجار والمجرور.. وتختم هذه النسخة- وهي الجزء الأول من الكتاب- بالكلام على قوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) . (من الآية 128 في سورة البقرة) . وتنتهي الصفحة (298) بقوله:
(ولم نقل إنّ (أمة) معطوفة على (نا) ، لأنه لا يفصلُ بين حرف العطف والمعطوف لا بالظرف ولا بالجار والمجرور إلا في الشعر، فوجه الكلام أن يقال: إنه منصوب بإضمارٍ..) .
النّصُّ المحقّقّ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلّى الله على سَيّدنا محمد وعلى آلِهِ وصحبه وَسَلّم..
بسم الله الرحمن الرحيم
ذهب البصريون إلى أنّ التقدير: ابتدائي بسم الله، فبسم عندهم خبر مبتدأٍ محذوف (1) .
__________
(1) ينظر: إعراب القرآن للنحاس 1/ 126، ومشكل إعراب القرآن 1/ 6، والتبيان في غريب إعراب القرآن 31/1-32، لإملاء ما منّ به الرحمن 4/1.(36/134)
وذهب الكوفيُّون إلى أنه في تقدير: أبدأ بسم الله (1) ، والفعل الّذي لا يَصلُ إلاّ بحرف الجر يَضْعفُ حَذْفُهُ وقَدْ جاء ولكنَّه قليلٌ (2) ، وأمَّا جَعْلُ المجِرورِ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ فكثير.
وقد جاء بعضُ المتأخّرِينَ وذَهَبَ إلى أنَّهُ يجوزُ أن يكون المجِرور مُتعلّقاً بفعلٍ تدلّ عليه الحال، تقديره: أقرأ بهذا (4) (3) وأكتب بهذا، على معنى مُسْتعيناً به، وقد يحذف الفعل لدلالة الحال عليه.
__________
(1) ينظر المصادر السابقة، وتفسير الطبري 1/ 114.
(2) هذا توهن من أبى الربيع لمذهب الكوفيين في المسألة، وترجيح لما قرره البصريون، وقد رد مكى ابن أبى طالب قول البصريين، وقرر ما فصب إليه الكوفيون، فقال: لأنه لا يحسنُ تعليق الباء بالمصدر الذي هو مضمر؛ لأنه داخل في صلته فبقى الابتداء بدون خبر.. ينظر مشكل إعراب القرآن 6/1.
(3) قريب من هذا القول ما أصرفه الزمخشرى في الكشاف 26/1-27 ويغلب أنه المعني بهذا الرد بدليل ما ورد بعده من تفصيل في بيان متعلق الجار والمجرور في آية النمل في تسع آيات إلى فرعون وتوجيه ابن أبى الربيع لذلك.(36/135)
وهذا لا يصحّ؟ لأنّ الحالَ لا تدُلُّ على الفِعْلِ حتّى يَصلَ بنفسه، لا تقولُ: بزيد، تريدُ مرّ بزيدٍ، وإن كان معك من الحال ما يدلّ على ذلك، وتقولُ لِمَنْ أشالَ سَوْطاً، أو أشَهَرَ سَيْفاً: زَيْداً، على معنى: اضْرِبْ زيداً. فالحالُ لا تَدُلُّ على الفِعلِ حتّى يكون الفعلُ يَصِلُ بنفسِهِ، وكذلِكَ في باب الاشْتِغالِ لابُدَّ للفعل أنْ يصِلَ بنفسِهِ، لأنَّ حذْفَ الفعلِ الواصِلِ بحرف الجرِّ قليلٌ، لأنَّهُ لَيْسَ بقُوّةِ ما يَصِلُ بنفْسِهِ، ولا يَتصرَّفونَ لا الضّعيفِ تَصَرُّفهم في القويِّ من الإضْمارِ، لأنّهُم يقَولُون: بمَنْ تَمرّ؟ وبمَنْ مَررْتَ؟ فَيقولُ المسؤولُ: بزيدٍ، وهو على تقدير: مررْتُ بزيدٍ، لأنَّ هَذا وإن كانْ محذوفاً كأنَّهُ ظاهر، لأنّهُ مَكْنُونُ في السُّؤالِ، وَلَيْسَ هذا بمنزلة ما اسْتعملته الأحوال، ولا بِمْنزلَةِ ما حُذِفَ ليُفسّرِ.
وأمّا/ قوله تعالى: (وفِى تِسْعِ آيَاتٍ إلَى فِرْعَوْنَ) فَقَولُهُ "في تِسْعِ آياتٍ "خبرٌ (3) لمبتدأٍ محذوفٍ، أيْ هذه الآيات في تِسْعِ آياتٍ، فَقدْ نزّلَ منزلة قد أرْسَلْتُ أو تُرْسِلُ، فجازَ حذفُ الفعلِ هُنا وإنْ كانَ لا يَصلُ إلاَّ بحرفِ الجرّ، لأنَّهُ بمنزلة: بمَنْ مَرَرْت؟ فَتَقُولُ: بزيدٍ، ومعَ هذا كُلِّهِ لا يُنكَرُ حذفُ الفعلِ الواصلِ بحرف الجر، لكَنّه قليلٌ ولا يُحملُ عَليه ما قُدِّر على غيرِهِ.
والباء: مَعْناها الإلصاق (1) ، وكانَ أصْلُها أنْ تكونَ مَفْتُوحةً لكِنّها كُسِرَت ليوافقَ لفظُها عَملَها ووضْعَها، فَعَمَلُها الجرُّ وَوَضْعُها أنْ تكُوَن مَوْصُولَةً، وَكُلَّ حَرْفٍ مَوصُولٍ فَهُو خَافِضٌ، وأمَّا كاف التّشبيه فقد تُوجَدُ اسماً، لَيْسَ من شَرْطِ الاسْمِ أنْ يكُونَ خَافِضاً، فَلَيْسَتِ الكَافُ مُلَازِمةً أن تكُون مِن جِنْس ما تَخفِض..
__________
(1) ينظر الكتاب 4/ 217.(36/136)
وأمَّا لاَمُ الجرِّ فَكُسِرتْ لِيُفَرّقَ بَيْنَها وبيْنَ لَامِ الابْتِداءِ في أرْبَعَةِ مَواطِنٍ:
أحَدُهَا: الأسماء المبنيان، نحو: لَهذا زيدٌ.
الثاني: الأسماء المقصوراتُ، نحو: لموسى عمرو.
الثالث: الأسماء المنقُوصَاتُ للقاضي زيدٌ.
الرابع: عند الِإضافةِ إلى ياء المتكَلِّم، نحو: لِكأبي عمرو.
فَلمّا رَأَوْها مُلْتبِسةً لو بُنِيَتْ على الفتح بلام الابْتدِاءِ كَسَرُوهَا مُطْلَقاً إذا دخَلَتْ عَلى الظّاهِرِ ليجريَ مجرىً واحداً.
اسم: اخْتلَفَ البَصْرِيّون والكُوفيّونَ فيه:
فذَهَبَ البُصْريُّونَ إلى أنَّهُ مِنْ سَما يَسْمو (1) ، وأن اللامَ فيه مَحُذوفَةٌ، وَهُوَ بمَنْزلَةِ ابن واست، واسْتَدَلُّوا على ذلِكَ بالجمع والتّصْغير، قالُوا في الجمع: أسْماءُ وفيَ الَتّصْغير سُمَيٌّ، وقَالُوا: سَمَّيْت فَرَدوا اللامَ فيها فَدَلَّ ذلِكَ على أنَّ اللّامَ هي المحذوفةُ.
وَذَهَبَ الكُوفِيًّونَ إلى أنَّهُ مِن الْوَسْمِ، وَهُو العَلامة، وأنَّ فيه تقديماً وتأخيراً، وأمَّا أسماء وسُمِيٌّ فهُوَ مَقْلُوبٌ، وأصْلًهُ: وَسْمٌ ثمَّ أُخّرَتِ الْفَاءُ وَجُعَلِتْ مَكانَ الامِ، فقالوا: أسماءٌ /فقَالُوا: سُمَيّ…. (4)
وَقَوْلُ الكوفِيينٍّ أَقْرَبُ مِن جِهَة الاشْتِقاقِ، وَهُو مع ذلك ضَعِيفٌ من جهَةِ الْقَلْبِ.
وَقَوْلُ البَصْريّينَ أقْرَب، لأنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم فيه قَلْبٌ والاسْمُ يُظْهرُ مسماة وَيصِير بحيث تَراهُ فالاشتِقاق فيه قَريب وَإنْ كانَ اشْتِقاقُ الكوفيين أقْرَبَ، إلاّ إنًّ هذا القُربَ مِن ادعاءِ القَلْبِ.
__________
(1) ،2 ينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/ 40، واشتقاق أسماء الله 255، والإنصات 6- ا، والتبيين132/138.(36/137)
وَحَذَفُوا الألَفَ من بِسْمِ اللَّهِ، لأَنَّهُمُ بَنَوْهُ على الاتصال، فَفَعلُوا ذَلِك لِكَثرةِ الاسْتعمال (1) ، والأصْلُ أنْ تُكْتَبَ الأوائِلُ على حُكْمِ الابْتِدَاءِ، وتُكْتَبُ الأواخِرُ على حُكْمِ الْوَقْفِ، ألا تَرىَ قَوْلُهُ سُبْحانهُ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ، (اقْرَأ باسم رَبّكَ) فهذا كُلُّهُ مَكْتُوبٌ بالألف على الأصْلِ وَلَمْ تُكْتبْ علىَ الاتّصالِ؛ لأنَّهُ لم يَكّثُرَ فيه الاسْتِعمالُ.
وَمِن الكُتَّابَ مَنْ يَمُدّ الباء، كأنّ تِلْكَ المدَّةَ عِوَضٌ مِن الألِفِ التي يَجِبُ أنْ تُكْتبَ. وَمِنْهُم مَنْ لَمْ يَمُدّ.
"الله، أصله: الإله (1) (2) فحذفت الهمزة ليختص الاسم به سُبْحانُهُ؟ فإنَّ لاها يُقالُ في الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وَكذلِكَ الإلَه، وأمَّا الله فمختصٌّ به سُبْحانهُ وَهُوَ المعبودُ حقاً.
وَمِنهُم مَنْ ذهَبَ إلى أنَّهُ مِن الْوُلَهِ (3) ، وَهو التّحّير فالعُقُولُ تَتَحّيرُ عن إدراكه سُبْحانُهُ ثم جُعلِتْ الفاءُ عَيْناً ثُمَّ تَحَّركَتْ وقَبْلَها فتحة انقلبتْ ألفاً.
__________
(1) يعزى هذا القول ليونس والكسائي والفراء وقطرب والأخفش. ينظر: اشتقاق أسماء الله الحسنى 23.
(2) يعزى هذا القول ليونس والكسائي والفراء وقطرب والأخفش. ينظر: اشتقاق أسماء الله الحسنى 23.
(3) أنكر الزجاج هذا القول في اشتقاق لفظ الجلالة، وَممَا قاله في رفه: ولا تعرّج على قول مَنْ ذهب إلى أن مُشتق مِن وَلِهَ يوْله.. ينظر تفسير أسماء اللهّ الحسنى: 25.(36/138)
وَمِنهم مَنْ قال: هُوَ مِن أَلِهَ (1) إذا تَحَّيرَ، وَهُوَ أقْرَبُ، لأنّهُ لَيْسَ عِنْدَهُم فيه قَلْبٌ. وُيمكِنُ أنْ يكُونَ مِن (لاهَ) يَلِيهُ إذا اسْتترَ، وقالوا تَأَلّهْ الرّجلُ يَتأَله مُشَتَقٌ مِن هذا، كما قالوا: بَسْمَلَ واسْتعاذ.
وقالوا: يا أللهُ وادْخَلُوا يا على الألفِ واللامِ لأنّهُم اضطرّوا إلى النْداءِ وَلَم يكن إسقاط الألِفِ واللامِ لأنّهما لازِمَتانِ الاسْمَ عوَضٌ من الهمزةِ عِند مَنْ جَعلَ الأصلَ الإله، ولأنَّ هذا الاسْمَ لاَ يَخْتصَّ به سُبْحانُهُ إلا مَعَ الألفِ واللامِ.
وَمِن العَرَب- وهُوَ الأكْثرُ- مَنْ يُسْقِطُ حرف النّداءِ ويَجعلُ الميم عَوِضَاً من حرف النداء، فيقول: الّلهُمّ، وَلَم يجئ في القرآن إلاَّ هكذا. (5)
ولا في السُّنةِ إلا هَكَذا، وَهُوَ الأكْثرُ في كَلامِ العرب.
ونظيرُ إسْقَاطِ الهمزةِ وَجَعلِ الألفِ واللامِ عِوَضاً: النّاس، أصْلُهُ أناسٌ، قال امرؤ القيس:
كبير أناس في بجادٍ مُزَمَّلِ (2)
__________
(1) 4 هذا لقول سيبويه كما في الكتاب 59/2، 498/3، قال الزجاجي في اشتقاق أسماء الله: والمذهب الثالث مذهب سيبويه بعد أن وافق الجماعة الأوّلين، قال: وجائز أن يكون أصله: لاه على وزن فعل، ثم دخلت عليه الألف واللام للتعريف، فقيل: الله. ينظر ص 27 من اشتقاق أسماء الله.
(2) ذا جحر ضب خربٍ بجر خرب لمجاورته لضب، ومقتضى سوق الكلام أن يكون مزمّل بالرفع لأنه صفة لكبير، وكبير مرفوع لأًنه خبر كأنّ. والبيت في ديوان امرئ القيس 25، والكامل 815/3، وشرح القصائد السبع الطفل الجاهليات 106، والإفصاح 318.(36/139)
وَيقلُّ حَذْفُ الهمزة هُنا، لا تَقُول: نَاسَ إلاَ قليلاً، فإذا دَخَلَت الألفُ واللامُ قُلتَ: النّاسَ، وَلا تقُلْ الأناس إلا قليلاً، قال الشاعر (1) :
إنّ المناياَ يَطَّلِعْ ـن على الأناس الأمنينا
وهذا قَليلٌ. الأكْثَرُ في النَّاسِ مع الألفِ واللام سُقُوطُ الهمزة، والأكثر في النَّاسِ
مَعَ عَدمِ الألفِ واللامِ ثبوتُ الهمزة، كأنَّ الألفَ والَلامَ عِوضٌ مِن الهمزةِ في الأكثر.
(الرِّحمن) : اسْمٌ خاصٌ به سُبْحانُهُ لا يَقَعُ على غَيْرِهِ، وفُعْلانُ يأتي عِندَ الامْتِلاءِ، نحو: غِضْبان وسَكْرانَ وَحَيْرانَ وكذلِكَ رحمن..
(الرّحيم) : مبالغةٌ في راحمٍ، والرّحمنُ على هذا أبلغُ مِن الرّحيَّمِ وَلِذلِكَ يُقالُ: رَحْمَنُ الدّنيا والآخرة، وَلَمْ يُقَلْ هذا في الرَّحِيم، وَجَعَلُوا الرّحِيم تابِعاَ للرحمن؛ لأنَّ الرَّحْمَنَ جَرَى مَجْرى الأسماء، والرّحيمُ لَيْسَ كذلِكَ، بل هُوَ باقٍ على صِفتِهِ وَجَرَيانِهِ عَلَى غيرهِ فَلِذَلِكَ قُدِّمَ الرّحْمَنُ على الرَّحيم.
وَجَاءَ أبو القاسِم الزَّمخشريُّ وقال: هُوَ أكْثَرُ حُرُوفاً مِن الرَّحِيمِ، فَهُوَ لذِلِكَ أبْلَغُ فَهُوَ كالشقدفِ وَالشُّقُنْدافِ (2) .
وَهَذا كُلّهُ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ كَلام العَرَب؟ ألا تَرى أنَّ فَعِلٌ، نحو: حَذِر أَبْلَغُ مِن حاذر وَإنْ كانَ أقلَّ مِنهُ حُرُوفاً، وإنَّماَ الأمرُ على ما ذكرت لَكَ- والله أعلم-.
__________
(1) هو الملك ذو جدين الحميري كما في المعمرين 33، وخزانة الأدب 287/2، وشرح شواهد الشافية 296. والبيت في مجالس العلماء 7 غير منسوب، والخصَائص 3/ 1 15، وأمالى ابن الشجري ا/ 193/2.
والشاهد إثبات الهمزة في كلمة الأناس مع الألف واللام وهو قليل.
(2) النص في الكشاف1/41 بتصرف يَسير.. والشقدف مركب مراكب العرب، وهو الحمار، أمّا الشقنداف فليس بعربي. ينظر القاموس ش. دف والمعجم الوسيط ا/88 4.(36/140)
وهذِه الصّفاتُ جَارِيةٌ على اسْمِهِ تَعالَى وَهُوَ اللَّهُ، فهذا هُوَ اسْمُهُ وَمَا عَدَاهُ جارٍ عَلَيْهِ؟ لأَنَّ لَهُ مَعنىً زائداً على الذّاتِ، فالرّحْمنُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، والْعَلِيمُ يَدُلُّ على الْعِلْم والكَرِيمُ يَدُلُّ على الكَرَمَ والعزيز يَدُلُّ على العِزّةِ، والقَاهِرُ يَدُلُّ على القَهْرِ، فهذه صفاتٌ. جارية على الاسْمِ، وهو ما ذَكَرْتُهُ.
(الحمْدُ لِلَّهِ) : قال سيبويه: هذا لا يُستعْمَلُ إلا في حقّه سُبْحانَهُ إذا أَردْتَ العظمَةَ، فإنْ أرَدْتَ بالألف واللام شيئاً مَخْصُوصاً كما تقول: هذا الثّناءُ على فلان إذا سمِعْتَ شَخْصاً يُثْنيَ عَلَيْهِ، فهذا يكَونُ في غيره سبحانَهُ، فإنْ أرَدْت معنى العظمة فهو مختصٌ به ولا يقالَُ في غيره. وما تَجِدْهُ لِبَعض المولِّدِين فَهُوَ تعنّتٌ وإجراءٌ لِلشيءِ على غير ما أجرته العرب.
قال ثعلبٌ: حمدِت الرّجلَ إذا شكرت له صنيعه، وقال سيبويه وقالوا:: حمدِتُهُ جزيْتُهُ وقضَيْتُهُ حقَّهُ.
فهذا يَدُلّ على أنّ الحمْدَ والشّكْرَ معناهُما واحد في أصل اللغة، إلا إن العرف خصّصَ الحمد بالمدْحِ ولا يكونُ إلا باللّسانِ، والشكر خصّصَهُ بالجزاء، فيقال على ثلاثة أوجه:
تقول: شكرت الرّجل إذا شكرته بلسانك.
وتقول: شكرت الرجل إذا خدمته بإعطائك.
وتقول: شكرت الرجل إذا اعتقدت أنه قد أحسن إليك، قال الشاعر:
أفادتكُمُ النّعماءُ مِنّي ثلاثةً يَدي وَلِساني والضَّمِيْرَ المُحَجَّبا
وقال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً) (1) فتراه واقعاً على العمَلِ.
__________
(1) سورة سبأ آية: 131.(36/141)
فالشّكْرُ على هذا أعَمُّ مِن الحمْدِ، لأنّهُ يكون باللّسانِ وغَيْرِهِ والحمدُ لا يكون إلا باللّسانِ، والحمدُ أَعَمُّ مِن جِهَةٍ أُخْرى، لَأنَّك تحمَدُ على ما فُعِلَ مَعكَ وعلى ما فُعِلَ مَعَ غَيرِكَ، والشُّكرُ إنَّما هُو خاصٌ بما فُعِلَ مَعكَ، لأنَّ شَكَرْتُ بمعنى جازَيْتُ في العرف. وأصلُ الحمد والشّكر في اللّغة أنْ يَكونا لشيءٍ واحدٍ كما ذكرْتُ لك عن سيبويه وثعلب، وهو مُبتدأٌ "لِلَّهِ"هو الخبر، والمجرور إذا وقعَ خبراً أوْ صفةً أوْ صلة تَعلّق بمحذوفٍ لا يَظَهرُ. وسيأتي الكلامُ في قوله تعالى: (فَلَمَّا رآه مُسْتَقِرًّا عِندَهُ) إنْ شَاء الله (1) .
والأكثرُ في الحمدِ الرَّفعُ؛ لأنَّه مَعْرفَةٌ، ويَجوزُ النّصبُ، وإذا كانَ نكرةً فالأكْثرُ فيه النّصبُ، وجاء على طريقة الإخبار كأَنًّ الشيّء قد وَقَعَ والمراد به بالإنشاء وهذا مذكورٌ في كتابِ سيبويه، إلَّا أنّ القُراء لم يقرأه إلا بالرفع، لأنّهُ كلّهُ يصحّ.
وهُناك قراءةٌ نقُلَت، وهي شاذة فيها الاتباع، اتباع الدّالِ اللامَ (2) ، واتباع اللاّم للدّالِ (3) ، ومنها النصبُ (4) في الحمد لِلَّهِ.
__________
(1) هذا ما كان يأمله ابن أبى الربيع في إكمال هذا التفسير، لكنَّ المنية عاقته قبل إتمامه، فقد وقف به العمل عند آية المائدة -109 يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم.. .
(2) هي قراءة زيد بن على، والحسن البصري. ينظر المحتسب ا/ 37كل، ومختصر شواذ القراءات: ا.
(3) قرأ بها إبراهيم بن عبلة، المصدران السابقان، وإعراب شواذ القراءات ق: 3.
(4) قرأ به رؤية كما في شواذ القراآت لابن خالويه:1.(36/142)
"رَبّ العالمين": رَبّ وَزْنُهُ فَعِلٌ بِكَسْرِ الْعَين، وَالأصْلُ: رَببَ ثم أُدْغِمِ وَلَيْسَ أصْلُهُ فَعْلاً بسكُونِ العَين، لأَنّهم قالوا في الجمْعِ أَرْبابُ، وَلَيس الأصْلُ فَعَلا بفتحِ العين؛ إذ لو كان كذلِكَ لم يُدْغم أَلا ترى الطّلَلَ والشّرَرَ لم يًدْغما، وَلَيْسَ الأصْلُ فَعُلاَ بضم العن، لأن هذا يَقِلُّ في الصّفاتِ، وفَعِلٌ بكَسْرِ الْعَين يَكْثُرُ فيها، قالوا: حَذِراً وبَطِراً، وأشِراً وعُثِراً، وهو كثيرٌ، ولا ينبغي أن يُحْمَلَ على الأقَلَِّ ما قدرت على الأكْثَرِ.
وقَولُ منَ قالَ: إنَّه وَصْفٌ بالمصْدَرِ (1) ، فيه بُعْدٌ، إذ لو كان كذلك لم يُثنّ ولم يُجْمَعْ، وَمَنْ ثنّى مثل هذا في المصَادر ثنَّاهُ على القياسِ في فعل أفعل، وذلِكَ نحو: كَفٍّ وَأكفَّ، فكونُهُ قَدْ جُمِعَ على أرْباب يَدُلُّ على بُعْدِ هذا القول.
وُيقالُ: رَبّهُ يَرُبّه إذا مَلكهُ، ويقال: رَبَّهُ يَرُبّهُ إذا أصْلُحَه. وًيصْلُحُ في رَبَّ هُنا أنْ يكُون معناه الصّلاح ومعناه الملك، لأنّهُ سُبْحانُهُ الّذي يَمْلِكُ العَالمَ والّذي يُصْلحُ العالم.
وقد نُقِلَ: "لأن يَرُبّني رجُلٌ من قُرَيشٍ خَيرٌ مِنْ أنْ يُرُبَّنِي رَجلٌ من هوازن".
فَيُحتَمل الملكُ ويُحتَمَلُ الصّلاح، ويكُونُ صِفةً، وَيَجوزُ أن يَكُونَ بدلاً لأنَّهُ اسْتُعْمِلَ
استِعْمَالَ الأسماء.
والرَّبُّ بالإضافةِ مُختَصٌّ به تَعالى، وَإِذا أطْلَقُوهُ على غيرِهِ أطْلَقُوهُ مُقيّداً، نحو: رَبِّ الدّارِ، وَرَبّ الأرْضِ، وما أشبَهَ ذَلِكَ، وُيطْلَقُ عليه تعالى مُطْلَقاً ومُقيَداً ومضافاً.(36/143)
/ (العَاَلمِين) : فَاعَل بفتح العين لا يكُونُ في الصّفاتِ وَيَكُونُ في الأسماء قليلاً، وأكثر ما يوجد هذا البناءُ في الفعل إذا أردت أنَّهُ فُعِلَ بكَ مثل ما فعَلْتَهُ به، نحو: ضَارَبَني زيدٌ وضارَبْتُ زيداً، وقاتَلْتُهُ. وَقَدْ يأتي على غَيْرِ ذلك، قالوا: عَافَاكَ اللَّهُ، وَدَاينْت زَيْداً، وهذا قَليلٌ.
وإذا صَحّ ما ذَكْرتُهُ فالْعَالَمُ اسْمٌ لا صِفَةٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِكلِّ مَخْلُوقٍ، لأنَّ المخْلُوقَ يَدُلًّ على خالقِهِ، فَقَدْ صارَ عَلامَةً تَدُلُّ عَلَيْهِ سُبْحانُهُ، فاشْتِقاقُهُ مِنْ هَذا (3) . وَقَدْ قيلَ: إنَّهُ مُشْتَقٌ مِن العِلْم، لأنَّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ تَحَصَّلَ لَهُ الْعِلمُ بحُدُوثِهِ وافتقاره إلى موجده، والاشتقاق الأوّل أقرب.
وقد قيل: إنّ العالم إنما هو لأهل العلم من الملائِكةِ والثّقلَين: الجن والإنس، والقولُ الأوّل أشهر.
فإن قُلْتَ: فكيفَ جُمعَ بالوَاوِ والنّونِ وليسَ بِعَلمٍ في الأصل وَلا وَصْفٍ؟
قُلْتُ: هو وإنْ لم يَكُنْ وَصْفاً ففيه مَعنى الوصْفِ، ويمكن عندي أن يكون عالمٌ علماً، وتكون عَلَمِيَّتُةُ علميّة الجنس، ثمَّ نُكِّرَ ودَخَلَتْهُ الألف واللام عند الجمع والتثنية، كما قالوا: الزيدان، وجمع بالواو والنون وإن كان فيه مالا يعقل، غَلّبوا مَنْ يَعقلُ على مَنْ لا يعقلُ، وهذا على مَنْ جَعلَهُ اسماً لكلّ مُحدثِ ة وأَمَّا مَنْ جَعلُهُ مختصاً بأهل العلم فلا سؤال فيه.
وقد تقدّمَ أنَّ الأوَّلَ هُو المشهورُ، وهو الوقوعُ على كِّل مُحَدثٍ عاقلا كان أو غَيْرِ عاقل.(36/144)
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : قرأ عاصِمٌ والكسائي (مالِكِ يَوم الدّينِ) . (1) فَيمكِنُ أنْ (مَلكِ) بمعنى مالِك، كما قالوا: حَذِرٌ بمعنى حاذِرٌ، ويكوَن مِن المِلْكِ بكسر الميم، ويكونُ قد أضيف إلى يوم الدّين بعد ما انتصب يومَ الدّين نَصْبَ المفعول به على جهة الاتّساع كما قال:
طبَّاخ سَاعاتِ الكَرَى زاد الكَسَلْ (2)
على نصب "زَادَ"، وَأَمَّا/ مَنْ خفض (زادِ الكسل) فَيكونُ سَاعاتُ ظَرْفاً على أصْلِهِ، وَفُصِلَ بين المضافِ والمضافِ إليه في الشّعْرِ، كما قال: (3)
............ لِلّهِ دَرُّ الْيَوْمَ مَنْ لامَهَا (4)
ويكونُ الأصْلُ: مالِكاً يَوْمَ الدّينِ، أيْ في يَوْم الدّينِ، ثم انتُصِبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به على الاتِّساع كَما ذَكَرْتُ لَكَ.
وَلا تُتَصَوَّرُ الِإضافَةِ وَهُو باقٍ على أصْلِهِ، لأنَّ الظّرْفَ في تَقْدِيرِ حرف الجرِّ، أَلا تَراهُ إذا أُضْمِرَ عَادَ إليهِ حَرْفُ الجرِّ فكأن حرف الجرِّ مُوُجُودٌ.
__________
(1) القراء هنا بألف بعد الميم على وزن فاعل، وقول ابن أبى الربيع: ويمكن أن يكوِن "مَلك، بمعنى مالك-. يريد أنه صيغة مبالغة ليسوغ معه نصب المفعول به. ينظر القراءة المذكورة وتوجيهاَ لها في السبعة في القراءات 4 5 1، والحجة لأبى على 1/ 7-5 1، والحجة لابن زنجله 77-79.
(2) البيت لجبارة بن جزء بن ضرار كما في شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي 1/ 12، ويشرح أبيات الإيضاح لابن برى 168، ونسبه سيبويه في الكتاب 177/1، والمبرد في الكامل للشيخ 1/ 199، وكذا نسب في ديوان الشك 109.
(3) هو عمرو بن قَمِيئة كما في ديوانه 182 والكتاب 1/ 178، وشرح أبيات سيبويه 1/ 368.
(4) صدر البيت: لما رأتْ ساتيدَمَ اسْتعْبَرتْ..
2والشاهد قوله: "در اليومَ مَنْ لامها"حيث فصل بالظّرفِ اليوم بين المضاف درّ والمضاف إليه مَنْ، وتركيب الكلام قبل الفصل لله درّ مَنْ لامها.(36/145)
ولا يُفصَلُ بين المضاف والمضاف إليه بحرفِ الجزِ إلا باللام خَاصّة في بابين: باب (1) النداء وباب النّفي بلا (2) .
وُيمكِنُ أنْ يكونَ مَلِكَ من المُلكِ في مالك، لَأن فَعِلَاَ من أَمْثلَة المُبالَغَة.
وُيمكِنُ أن يكونَ مَلِك من المُلكِ ومالكاً مِن المِلك بكسر الميم، فَقيلَ: مِلكِ يوم الدّين والمراد مَلِك أَوْ مالِكَ النّاسِ.
ولا يُتصَوّر أنْ يكون يوْمَ الدّين قد نُصِبَ نَصبَ المفعول به ومَلكَ من المِلْكِ، وإنّما يُتصَوّرُ هذا إذا كان مَلِك مبالغة في مالك ث لأنَّ المفعولَ به تنصبه الصّفاتِ كاسمِ الفاعلِ وَأَمْثِلَة المُبَالَغَةِ، وتكونُ الإِضَافَةُ على تَقْدِيرِ: مَلِك أصْحابَ يوم الدّين والَّذي يَظْهَرُ- والله أعْلَمُ- أنَّ مَلِكَ مُبالغة في مالِك، وَتَكُونُ القراءتان (3) متّفقتينِ، واسمُ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي وأُضيف إلى المعرفة تعرّف، وإذا كان بمعنى الحال والاستقبال وأُضيفَ إلى المعرفة كان على وجهين: على التّعريف، وعلى التّخفيف، وتكون هناك الِإضافةُ على التّعريف ة لأنَّهُ جارٍ على المعرفة.
وجَاءَ بَعضُ المتأخِّرينَ وَقَالَ: إنّ اسْمَ الفاعِلِ إذا كان بمعنى الحالِ والاسْتِقْبالِ فلا تكونُ إضَافَتُهُ إلَّا غَيرَ مُعَرّفة، وَتَكُونُ غيرَ مَحْضَة وَإنّما تَكُونُ للتخفيف (4) .
__________
(1) وقد استشهد له ببيت النابغة:
قالت بنو عامرِ خالوا بنى أسد يا يؤس للجهل ضراراً لأقوام
(2) كقولهم: لا أبا لك. لا أمَ لك.
(3) في الأصل: القراءتين.
(4) ما ذكره ابن أبى الربيع هو ما ذهب إليه الزمخشرى في الكشاف 1/ 5.57، وقد أخذ به كثر المتأخرين،
قال ابن مالك في الخلاصة:
وَإِنْ يُشابهِ المضاف يفعلُ وصفاً فعن تنكيره لايُعَزلُ(36/146)
وهذا القَوْلُ فاسِدٌ، والصَّحِيحُ ما ذَكَرْتُه أوَّلًا، وهو أنَّ اسمَ الفاعِل إذا كانَ بمعنى الحالِ والاستقبال فَلَهُ إضافتان، إضافة تَعْريفٍ وإضافَةُ تخفيف (1) . والّذي يُضافُ وَلا يَتعرّفُ أبداً بالِإضافة الصفةُ المشبهة باسْمِ الفاعلِ خاصّةً وَلا يَتعَرّف إلّا بالألف واللام.
وجًاءَ (مَلِك يوم الدّين) على طريقة: نهارُهُ صائِمٌ وَلَيْلُهُ قائم في الاتِّساع لَمّا كان فيه نُسِبَ إليْهِ إمَّا بالفاعِليّة وإمَّا بالمفعُولِيّة على جِهَةِ الاتِّساعِ.
(الدّين) : الجَزاء، وَوَزنُهُ فِعْلٌ، ويمكن عند سيبويه أَنْ يكُونَ وزْنُهُ فُعلا وَرُدَّت الضّمَةُ كَسْرةً لمكان الْياءِ. يُقالُ: دِنْتُهُ بما صَنَعَ إذا جازيتُهُ، وُيقَالُ: كَما تْدِينُ تُدانُ، وَكَما تُجازِي تُجازَي.
__________
(1) هذا ما قدره ابن أبى الربيع في البسيط 2/ 40 10، والكافي 1/ 306، وفي الكتاب لسيبويه 1/ 428 ما يدل على ما ذهب إليه ابن أبى الربيع فيما نقل عن الخليل ويونس في الصفات المضافة..(36/147)
وَلَمْ يُقْرأْ في السَّبْعِ إلَّا بالخفْضِ، وَقَدْ قُرِىء في الشّاذ بالنّصب (1) والرَّفْعِ على القَطْع (2) ، تنصبُهُ بإضمار فِعْلٍ أو تَرْفَعُهُ بإضمار المِبْتَدأ، وَلَا يَظْهَرُ الفِعْلُ ولا المبتدأ، لأنَّ الصفَةَ لِلْمَدْحِ والتّعظيم، وكذلِكَ (الرَّحمنُ الرَّحيم) قُرِىء في الشَّاذِّ بالرّفْع والنصب (1) (3) على حَسْبما ذَكَرتُ لَك. وَكَذلِكَ (الورَبِّ العالمين) قُرِىء في الشّاذِّ بالرّفع والنّصب، ولم يُقْرَأْ في السّبعِ إلا بالخفض.
وَقد قُرِئ (مَلَك يومَ الدّين) جَعَلَهُ فِعْلا (4) . والمعنى في هذا كُلِّهِ مَلكَ الخلْقِ يومَ الدّين، وَمَلَك الأمْرَ يومَ الدّين لَكِنّهُ جَعَلَ الدّين هُو المملُوكً على جِهَةِ الاتِّساعِ.
وَقَدْ يمكنُ أن يكون معنى مَلِك يومَ الدّينِ ومَالِك يوم الدّينِ على مَعَنى أبَرزَهُ
وَأَوْجده، والأوَلُ أبْيَنُ.
__________
(1) قرأ بالنصب أبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز وبألف بعد الميم "مالِكَ "وبدون ألف "ملك "قراءة أبى حيوة، وَخُرِخت الأولى على النداء، يا مالكَ، وأمّا الثانية فخرجت على إضمار فعل. ينظر مختصر شواذ القرآن لابن خالوية: ا، والمحرر الوجيز 1/ 06 ا-107، والبحر المحيط 1/ 36- كل.
(2) ينظر المصادر السابقة، وإعراب القراءات الشاذة 1/ 34.
(3) ينظر المصادر السابقة، وإعراب القراءات الشاذة 1/ 34.
(4) تعزى هذه القراءة لعلى بن أبى طالب، وأنا بن مالك، ويحيى بن يعمر.. ينظر المصادر السابقة.(36/148)
(إِيّاكَ نَعْبُدُ) : قال سِيْبَويهِ: إيّا هُوَ المُضْمَرُ المنْصُوبُ المنفَصِلُ، وما يَلْحقُهُ حُرُوفٌ تَجرِي مَجْرَى الكَافِ في رُويدَكَ ة إذ الضمير مُسْتَترٌ في جِميعِ الأحْوال، فجرى إيّاكَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ ضمِيرَ منْصُوبِ مجْرى الضمير المسْتَتر في رُوْيدَكَ لَمَّا احْتِيَجَ إلى بَيَانِهِ بالكافِ وبِالكافِ يَقَعُ الفصلُ بًين المذَكِّر والمؤَنَّثِ والمفْرَدِ والمثنّى والجمْعِ، وكَذلِكَ إيَّا، لماَّ كانَتْ تقع لِلمُذكّرِ والمؤَنَّثِ والمفْرَدِ والمثنى والجمْعِ والغائِب والمتكلّم والمخاطَبِ إذا كان مَنْصُوباً قَرَنوا إيَّا بالكافِ والْهَاءِ والْيَاءِ ليزيل الإشْكًال (1) ، وفيها هُنا معنى الاختصاص، أَيْ لاَ أعْبُدُ غيرَكَ، كما حُكِىَ عنِ العَرَب:
إِيّاكِ أعني واسْمَعي يا جَارَه (2)
والمعنى لا أعْنِي غيره.
والتّقْدِيْمُ يكونُ على هذا اْلمعَنى في المبتدأ، قال سُبْحانُهُ: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ) (3) أيْ لا يُبْدِىءُ غَيْرهُ، ولا يُعيْدُ، أي هُوَ الّذي اخْتَصَّ بهذا.
__________
(1) هذا توضيح لما أجمله سيبويه في الضمير إيا وليس الكلام هنا هو نص سيبويه كما يفهم من صنيع ابن أبى الربيع في هذا الإسناد، ينظر الكتاب 356/2-. 36.
(2) هذا توضيح لما أجمله سيبويه في الضمير إيا وليس الكلام هنا هو نص سيبويه كما يفهم من صنيع ابن أبى الربيع في هذا الإسناد، ينظر الكتاب 356/2-. 36.
(3) سورة البروز آية: 13.(36/149)