قال ابن أبى حاتم: "سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل ولا لقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة" [25] . وهو قول جمهور الشافعية واختيار إسماعيل القاضي وابن عبد البر وغيرهما من المالكية والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة كثيرون من أئمة الأصول.
والحجة في رد المرسل هو أنا إذا قبلنا خبر من لا نعلم حاله في الصدق والعدالة ممن حاله على خلاف ذلك، فنقول على الدين والشرع ما لم نتحقق من صحته، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} , وقال عز وجل: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
وروى الحاكم في كتابه (علوم الحديث) عن يزيد بن هارون قال: "قلت لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن؟ "قال: "نعم، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} , فهذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع به إلى من وراءه ليعلمهم إياه"، وقال الحاكم: "في هذه الآية دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع دون المرسل" [26] .
ومن الأدلة على رد المرسل ما رواه أبو داود في سننه في حديث عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم". وما رواه الشافعي- رحمه الله - قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها". والحديثان دلا على أن شأن الرواية اتصال الإسناد، فمتى جوزنا للفرع قبول الحديث من شيخه من غير وقوف على اتصال السند الذي تلقاه شيخه أدى ذلك إلى اختلال السند لجواز أن يكون هذا الساقط غير مقبول الرواية، فلا يجوز الاحتجاج بخبره.(30/366)
قال الإمام ابن عبد البر: "الحجة في رد الإرسال ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه، وأنه لابد من معرفة ذلك، فإذَا حكى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة، إذ قد صح أن التابعين أو كثيرا منهم رووا عن الضعيف" [27] .
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: "إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه" [28] .
هذا وقد وجد بعد الصحابة من القرنين، من وُجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، إذ كثر آنذاك وانتشر، وقد روى الشافعي- رحمه الله - عن عمه: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، قال: "إِني لأسمع الحديث أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أي يسمعه سامع فيقتدي به، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به وقد حدث به عمن أثق به، أو أسمعه من الرجل أثق به، قد حدث عمن لا أثق به". وهذا كما قال ابن عبد البر: "يدل على أن ذلك الزمان, أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره".
ج - المذهب الثالث: التفصيل في المرسل:
للاحتجاج بالحديث المرسل عمد الفقهاء والأصوليون إلى اعتماد معيار لنقد الحديث المرسل وتمحيصه للتأكد من صلاحيته في استنباط الأحكام الشرعية.(30/367)
قال الإمام الشافعي- رحمه الله -: "وأحتجُّ بمرسل كبار التابعين، إذا أسند سن جهة أخرى، أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه" [29] . أما أئمة الجرح والتعديل كيحي بن سعيد القطان وعلى بن المديني وغيرهما فوضعا قاعدة للتفصيل في قبول وردّ الحديث المرسل وذلك في التفريق بين من كان لا يرسل إلا عن ثقة، وبين من يعرف بإرساله عن كل أحد سواء كان ثقة أم ضعيفاً، فيقبل مرسل الأول ويرد مرسل الثاني. قال ابن أبى حاتم في بداية كتابه (المراسيل) : "كان يحي بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح" [30] .
إن عدالة كبار التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومكحول وأمانتهم تحول دون روايتهم عن غير الثقة, فلا يستجيز هؤلاء الجزم بحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وعدم وجود ما يقتضي القدح في المرسل, والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا أبيه عمر- رضي الله عنه- وأحكامه مع علمه بأنه لم يدركه ولم يختلف عليه اثنان في قبولها منه مرسلة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله: "إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل" [31] .
وإذا جاء المرسل من وجهين، وكل من الراويين أخذ العلم عن شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب، والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمداً وخطأ.(30/368)
قال إمام الحرمين: "إذا قال أحد أئمة الجرح والتعديل حدثني الثقة أو حدثني من لا أتهم ونحو ذلك وكان ممن يقبل تعديله ويرجع إليه فهو مقبول محتج به بالرغم من إرساله؛ وذلك لأنه لا يقول ذلك إلا عند تحققه من ثقة ذاك الراوي وصدقه. وقد روى عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" فأرسله ولم يسنده، فقال له عمر بن عبد العزيز: "أتشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ "فقال: "نعم أخبرني بذلك العدل الرضي", فلم يسم مَنْ أخبره، فاكتفى منه عمر بن عبد العزيز بذلك.
فالقول المختار في التفصيل هو أن من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة عدل مشهور بذلك فمرسله مقبول ومن لم تكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وبهذا القول يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة. فلا يمكننا إنكار قبول المرسل في الصدر الأول, وقد رد جماعة منهم الكثير من المراسيل، فيعزى قبولهم إلى الثقة بمن يرسل الحديث, وإلى هذا أشار ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: "كنا إذا سمعنا أحدنا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
وأما من يرسل عن غير المشهورين، وإن كانوا عنده ثقات فاحتمال جواز كونه ضعيفاً يبقى قائماً، ويندفع هذا الاحتمال ببعض الوجوه التي قالها الإمام الشافعي- رحمه الله- وبدونه لا يمكن اعتماد هذا المرسل.
(5) رواة المراسيل والموارنة بينهم:
قال الحاكم: "وأكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن ابن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول" [32] .(30/369)
وقد صحح المحدثون مراسيل بعض الأئمة من التابعين، فمراسيل ابن المسيب في مقدمة المراسيل، قال الحاكم: "وأصحها مراسيل ابن المسيب لأنه من أولاد الصحابة، وأدرك العشرة، وفقيه الحجاز ومفتيهم، وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس" [33] . أما مراسيل الشعبي، فقال أحمد العجلي: "مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحا" [34] . ومراسيل إبراهيم النخعي صحيحة إلا حديث "تاجر البحرين"و "حديث القهقهة" [35] .
وينبغي أن يكون مرسل شريح القاضي أيضاً صحيحاً كمراسيل ابن المسيب والنخعي، فإنه مخضرم ثقة من أجل التابعين الكبار. أما مرسلات الحسن فقال ابن المديني: "مرسلات الحسن التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها" [36] ، وكذا مراسيل ابن سيرين صحاح أيضا.
وممن أرسل الحديث من ثقات التابعين: سعيد بن جبير، مجاهد، طاووس، عمرو بن دينار، ومرسلات مالك بن أنس أصحهم. واختلف في مراسيل الزهري لكن الأكثر على تضعيفها، قال يحي بن معين: "مراسيل الزهري ليست بشيء، وهو قول الشافعي أيضاً" [37] .
خاتمة:
لقد تنازع الناس في قبول المراسيل وردها، فغالى البعض بالقبول بها مطلقاً وهذا غير مقبول؛ لأن هذا يؤدي إلى إزالة فائدة الإسناد، وغالى الآخرون برد المرسل مطلقاً، فرد بذلك شطراً من السنة ومصدراً من مصادر الأحكام الشرعية.
وأصح الأقوال أنّ منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن علم أنه حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة: قُبل مرسله، ومن عرف أنه يرِسل عن الثقة وغير الثقة، فإن إرساله عمن لا يعرف فهو موقوف، وما كان ومن المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات كان مردودا.
إنّ معيار نقد الحديث المرسل الذي تبنّاه كبار الفقهاء والأصوليين، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والغزالي، والآمدي، وغيرهم- رحمهم الله - يؤكد على:(30/370)
1- اعتضاد المرسل بمسند بآخر.
2- اعتضاد المرسل بمرسل آخر بمعناه عن آخر، فيدل على تعدد المخرج.
3- موافقة قول بعض الصحابة للمرسل.
4- أن يكون قول أكثر أهل العلم به.
فإذا اعتضد المرسل المروى عمن يرون عن الثقات بأحد هذه الأربعة دل على حجة صحته وإمكانية اعتماده في استنباط الأحكام الشرعية.
المراجع
(1) ابن منظور: لسان العرب، الجزء الحادي عشر، 1375 هـ، الطبعة الأولى، دار صادر- بيروت.
(2) ابن همام الدين، كمال الدين محمد بن عبد الواحد. التحرير. الطبعة الأولى. 1351 هـ. مطبعة بابي الحلبي- القاهرة.
(3) الشيخ أحمد رضا: معجم متن اللغة. الجزء الأول، الطبعة الأولى. 1377هـ. دار مكتبة الحياة- بيروت.
(4) أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة. الجزء الأول. الطبعة الأولى. 1366 هـ. دار إحياء الكتب العربية- القاهرة.
(5) الآمدي، سيف الدين أبي الحسن على بن أبى على بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام. الجزء الثاني. 1387 هـ. مؤسسة الحلبي وشركاؤه- القاهرة.
(6) البغدادي، الخطيب: الكفاية في علم الرواية. الطبعة الأولى. 1347 هـ- حيدر آباد الدكن.
(7) الزييدى: تاج العروس. الجزء السابع. الطبعة الأولى. 1306 هـ. دار ليبيا للنشر والتوزيع - ليبيا.
(8) الزيلعي: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية. الجزء الأول. 1357 هـ. دار المأمون.
(9) السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن: فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي. الطبعة الأولى، 1388 هـ، المكتبة السلفية - المدينة المنورة.
(10) العلائي، الحافظ صلاح الدين أبى سعيد خليل بن كيكلدى، جامع التحصيل في أحكام المراسيل. الطبعة الأولى. 1398 هـ. الدار العربية للطباعة - بغداد.(30/371)
(11) السيوطي، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر: تدريب الراوي شرح تقريب النووي. الطبعة الثانية. 1385 هـ. دار الكتب الحديثة – القاهرة.
(12) النووي. الحافظ محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف. التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير. الطبعة الثانية، 1385هـ. دار الكتب الحديثة - القاهرة.
(13) المؤلف نفسه: المجموع شرح المهذب، الجزء الأول. الطبعة الأولى. بدون تاريخ. مطبعة العاصمة - القاهرة.
(14) النيسابوري، الإمام الحاكم أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله، معرفة علوم الحديث. المكتبة العلمية - المدينة المنورة.
(15) الحنبلي، رضي الدين، قفو الأثر. 1326 هـ. مطبعة السعادة.
(16) القرافي، شرح التنقيح. الطبعة الأولى، 1306 هـ. المطبعة الخيرية القاهرة.
(17) ابن أبى حاتم، المراسيل، بدون تاريخ.
(18) القرطبي، ابن عبد البر النمري، التمهيد، الجزء الأول. 1387 هـ. الرباط.
(19) الدكتور صبحي الصالح: علوم الحديث ومصطلحه. الطبعة العاشرة. 1978. دار العلم للملايين- بيروت.
(20) القاسمي، محمد جمال الدين: قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث. الطبعة الثانية. 1380 هـ. دار إحياء الكتب العربية - دمشق.
(21) التهانوي، ظفرأحمد العثماني: قواعد في علوم الحديث. الطبعة الثالثة. 1392 هـ. دار القلم - بيروت.
ترجمان الشافعي
لما مرض الإمام محمد بن إدريس الشافعي ـ رحمه الله ـ مرضه الذي مات فيه، قال لمن كان عنده:
"إذا أنا متُّ فقولوا لفلان يغسلني".
فلما توفي وأبلغوا كلمة الشافعي إلى ذلك الرجل قال:
"ائتوني بتذكرته", فجئ بها فوجد فيها على ذلك الشافعي سبعين ألف درهم لفلان وفلان، فكتبها الرجل على نفسه وقال:
"هذا هو الغسل الذي أراده" ...(30/372)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التهانوي: قواعد في علوم الحديث. ص 23.
[2] ابن منظور: لسان العرب. ج ا 1 ص283.
[3] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص 14.
[4] الزييدى: تاج العروس. ج 7 ص345.
[5] القرافي: شرح التنقيح. ص164.
[6] أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة. ج 1 ص 393.
[7] الشيخ أحمد رضا: معجم متن اللغة ج اص 393.
[8] السخاوى: فتح المغيث شرح ألفية الحديث للقراقى. ص128.
[9] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 14.
[10] السيوطى: تدريب الراوي. ج اص 207.
[11] نفس المصدر. ص 211.
[12] الحاكم: معرفة علوم الحديث ص25.
[13] الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص 26.
[14] الخطيب البغدادي: الكفاية. ص 384.
[15] ابن همام الدين: تيسير التحرير. ج 1 ص 102.
[16] موفق الدين الحنبلي: الروضة. ص 64.
[17] الآمدى: الإحكام في أصول الأحكام، ج2. ص112.
[18] الغزالى: المَستصفي. ج ا. ص 169.
[19] ابن الحنبلي: قفو الأثر. ص 14.
[20] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 27.
[21] المصدر نفسه: ص 28.
[22] القرافي: شرح التنقيح. ص 164.
[23] الإمام مسلم: الجامع الصحيح. ج. ص 132.
[24] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص30.
[25] ابن أبى حاتم: كتاب المراسيل. ص 7.
[26] الحاكم: معرفة علوا الحديث. ص 26.
[27] ابن عبد البر النمري: التمهيد ج1 ص6.
[28] الخطيب البغدادي: الكفاية. ص 387.
[29] النووي: المجموع. ج1.ص99.
[30] ابن أبي حاتم. كتاب المراسيل. ص3.
[31] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص77.
[32] الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص هـ 2.(30/373)
[33] الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص 26.
[34] الذهبي: تذكرة الحفاظ. ج1 ص 79.
[35] الزيلعى: نصب الراية. ج 1 ص 52.
[36] السيوطى: تدريب الراوي ج اص124.
[37] العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 41.(30/374)
أوّل واجب على المكلّف عبادة الله تعالى
وضوح ذلك من كتاب الله ودعوات الرسل
للشيخ عبد الله الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
الحمد لله الغني الحميد، المبدىء المعيد، غني بذاته عن كل من سواه، وكل من سواه فقير إليه، وصائر إليه، وهو تحت قهره وتصرفه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين ...
وبعد ... فإنّ الله تعالى خلق الإنسان وفضله على كثير من خلقه، بالعقل والفكر والنطق والبيان، ووهبه القدرة على الكَسب والقوة على العمل، ليكون مؤهلاً للأمر والنهى، وجعل له دارين، داراً للابتلاء والاختبار والتمييز بين الصالح والفاسد، ومحلا لكسب الأعمال، التي بها يستوجب الثواب أو العقاب، وجعل لها مدة محددة، وأجلاً قصيراً، ثم ينقل إلى الدار الأخرى التي لا تنتهي ولا تنقطع، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .
فالله تعالى أوجد الإنسان بعد أن كان معدوماً، وأعطاه ما يحتاج إليه في حياته, وما يكون سبباً لسعادته من العقل والفكر الذي يميز به ما ينفعه مما يضره وما يلزم لذلك من السمع والبصر، والقوى التي يتمكن بها من العمل. قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً} . (الإنسان: 1- 3) فقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . وقوله: {نَبْتَلِيهِ} هذا ما خلق الإنسان من أجله، وقد بين ذلك تعالى بيانا واضحاً وضوح النهار.(30/375)
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} . (النحل: 36) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء: 25) .
وفي القرآن آيات كثيرة تنص على وجوب عبادة الله تعالى، وتبيِّن لزوم ذلك للإنسان لزوم أمر أوجبه الله تعالى عليه، وأكثر تعالى من التهديد والوعيد لمن تركه، وأعرض عنه، ومن الترغيب والوعد بالجزاء الجميل لمن امتثل ذلك واتبع الرسل، ومع وضوح هذا الأمر وكثرة ما أحيط به من ترغيب في فعله في الدنيا والآخرة، ومن ترهيب لمن أعرض عنه وجانبه مع ذلك كله فقد ضل عنه أكثر الخلق إما جهلاً، وإما عمداً وعناداً، وذلك أن الذي يحمل العبد على امتثال أمر الله واتباع رسله هو قوة الإيمان بالله، وبما أعده لمن آمن به وعمل صالحاً وما أعده لمن عصاه وبارزه بالمعادات والمحاربة.(30/376)
ومع الإيمان فلابد من العلم بأمره وشرعه، ومع فَقد هذين الأمرين يستحكم الضلال، والبعد عن كل خير، لهذا صار أهم ما على العبد معرفته ما أوجبه الله عليه، والعمل به، وأول ما أوجب الله تعالى على العبد وأعظمه هو الإيمان به تعالى وبرسوله- ثم الاهتداء إلى ذلك وتفاصيله بالوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} . (سبأ: 50) فالاهتداء يكون بالوحي ولهذا أمر الله تعالى أهل العقل بتدبر القرآن واستماعه والإنصات لتلاوته، وحض فيه على التدبر والتفكر والتذكر والعقل والفهم والتأثر منه بالوجل، والبكاء والخشية لما فيه من العلم والهدى، والمقصود من إرسال الرسل إلى العباد، وإنزال الكتب عليهم إصلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله ويصلوا إليه وهو عبادة ربهم وحده لا شريك له.
والعبادة أصلها عبادة القلب، المستلزمة لعبادة الجوارح، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح الملك صلحت الجنود، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" [1] .(30/377)
والقلب بعبادة الله تعالى والاستعانة به: معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان المتين، فلا يزال في زيادة من العلم والإيمان، أو سلامة من الجهل والضلال، سالماً من جهل أهل التصوف وعباد الخلق، وضلال المتكلمين أهل الشك والحيرة والخذلان. والعبد لما كان مخلوقاً مربوباً، عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه يهتدي وله يعمل، وإليه يصير، فلا غنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده، وبالله له عن كل شيء عوض، وليس لكل شيء عن الله عوض وليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع أو فضول غير نافعة أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن، بخلاف الطرق الكلامية الفلسفية فإنهم يبدأون بنفوسهم فيجعلونها هي الأصل الذي يفرعون عليه، فيتكلمون في إدراكاتهم للعلم، أنه مرة يكون بالحس ومرة بالعقل، أو بهما.
ويجعلون العلوم الحسية والبديهية هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها على حد زعمهم، مثل الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، وبنوا سائر العلوم على هذه الأمور الثلاثة، ولهذا كانوا يمثلون بها في أصول العلم والكلام كقولهم: إن الواحد نصف الاثنين، والعشرة أكثر من الخمسة، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض، هذا في الحسابية والطبيعية، وأما الأخلاق فمثل استحسان العلم، والعدل والعفة والشجاعة.(30/378)
ثم إذا تجاوزوا هذه الأمور إلى العالم العلوي فمقصودهم إثبات خالق العالم والدلائل التي بها تثبت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة تلقوا عنها السمعيات، وهي الكتاب والسنة والإجماع، وهذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، أما الوسائل مع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة. وأما مقاصدها فغايتها إثبات ربوبية الله تعالى للكون فهي كما قيل: "لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى"، مثال ذلك قولهم كما في نهاية المرام والإرشاد وغيرهما: "إن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على محدثه، والدليل على أن العالم حادث، ما فيه من الأعراض، والأعراض هي صفات الأجسام" [2] ، وجمهور المتكلمين يستدلون بهذا الدليل بعينه على نفي صفات الله تعالى حيث قالوا: إن حركات الأجسام وأعراضها هو الذي دل على حدوثها، وسمَّوا الصفات أعراضاً مثل العلم والرحمة والغضب والرضا وغير ذلك وقالوا: إذا اتصف بذلك صار محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فهو حادث.(30/379)
[والقدرية من المعتزلة يعتقدون أن إثبات الرب تعالى لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل] . وكثير منهم جعل سلوك هذا متعينا لأنه الموصل إلى معرفة الله، ومن لم يسلك ذلك لم يعرف ربه. وبطلان هذا معلوم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين, قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: 5) . وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (الزمر:2) . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21) . وهذا كثير في القرآن يأمر الله تعالى أن يعبد ويخلص له الدين، وأن يؤمن به ابتداء، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلى النظر ابتداء إلى الاستدلال على وجود الله تعالى، ولا إلى مجرد إثبات وجوده، بل أول ما دعاهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكان يأمر رسله والدعاة الذين يبعثهم لنشر دعوته بأن يبدؤا بدعوة الناس إلى أن يوحِّدوا الله أولا بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما في حديث معاذ المتفق على صحته حينما بعثه إلى أهل اليمن قال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة, فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فقرائهم" [3] . وقوله في حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين وحديث ابن عمر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" [4] وقد أجمع الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم على أن الكافر يدعى إلى الشهادتين مهما كانت عقيدته وعمله(30/380)
فإذا أجاب ونطق بالشهادتين حكم بإسلامه ظاهراً، فإن كان صادقا في نطقه فهو مسلم ظاهرا وباطنا، وإن كان كاذبا في الباطن فهو منافق.
وليس في كتاب الله أن النظر أول الواجبات، بل ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس الذين لا يحصل لهم الإيمان إلا به كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:184 ـ 185) . فقول الجويني مثلا في الإرشاد (ص 3) : "أول ما ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سِنّ البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم", ومثل ذلك قال الرازي (انظر المحصل ص 47) , وكذلك الايجي في المواقف (ص 32) وغيرهم، وهذا كلامٌ مخالف لكتاب الله تعالى ولما عُلِمَ من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما أجمع عليه أئمة المسلمين، وإذا سُلِّم لهؤلاء، "أنّ أول الواجبات هو النظر، أو المعرفة أو حتى الشهادتين كما هو الصحيح قال ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد". (الأوسط: ص 735) فكيف يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ وقد فعله قبل ذلك، وخصوصاً إذا كان النظر مستلزماً للشك المنافي لما حصل له من المعرِفة والإيمان، فيكون التقدير أن يقال: "أُكْفُرْ ثم آمن، واجْهَلْ ثم اعْرِفْ ", وهذا كما أنه محرَّم شرعاً، فهو ممتنع في العقل، فإن(30/381)
تكليف العالم الجهل من باب تكليف مالا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً.
كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته.
والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ.
والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا يصير بها الإنسان مؤمناً وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعَالى. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) . فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه، وبها يحصل محبوبه تعالى، وتحصل سعادتهم ونجاتهم، وهذا لا يخالف كون كثير منهم لم يعبده؛ لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى، هي أحب إليه من عبادة أولئك, وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 119) . فهو تعالى أراد بخلقهم ما هم صائرون إليه من الرحمة, والاختلاف إرادة كونية قدرية، ففي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . ذكر الغاية لتي أمروا بها، وفى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ذكر الغاية التي يصيرون إليها، وكلاهما مرادة له تعالى تلك مرادة بأمره وشرعه، والموجود منها مراد بخلقه وأمره، والأخرى مرادة بخلقه، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره، وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(30/382)
, قال معناه: "إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي"، وقاله مجاهد أيضا.
وقال ابن عباس: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} : "ليقرُّوا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً".
وقال السدي: "خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومنها عبادة لا تنفع كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ} (لقمان: 25) , فهذا منهم عبادة ولكنها لا تنفعهم"، وقال الكلبي: "إلا ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} " (العنكبوت: 65) [5] .(30/383)
وهذه الأقوال تُبيِّن أنّ جميع الإنس والجن مقرُّون بالخالق معترفون به، خاضعون لعبوديته طوعاً وكرهاً، وهذا يقتضي أنّ هذه المعرفة من لوازم نشأتهم لا ينفك عنها أحد منهم، وبه يعلم أن أصل الإقرار بالله تعالى، والاعتراف به ربّاً مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أن الإقرار بالرب تعالى أنه يحصل بسبب يعرض للإنسان في حياته فهو في الحقيقة يظهر بذلك ويبرز، وهذا والله أعلم هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172- 173) . وشهادة المرأ على نفسه في القرآن يراد بها إقراره، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر} (التوبة: 17) ؛ لأنهم كانوا مُقرِّين بما هو كفر، فصار ذلك شهادة منهم على أنفسهم, وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (الأنعام: 130) , فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم على أنفسهم.(30/384)
وقولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} أي أنهم أقرُّوا بأن الله ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ} يدل على أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم، وهو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات فالمعنى: أُذْكُرْ حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مُقرِّين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه إلى الإقرار بأنه ربهم.
ولهذا صار الإقرار بوجود الله تعالى مما لا يحتاج إلى برهان؛ فإن الفطر الإنسانية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالقٍ حكيمٍ، قادرٍ عليمٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} , {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ} (الزخرف: 87) .
ومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء فإنه يلوذ بها في حال الضراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67) . ولهذا لم يأت الأمر التكليفي بوجوب معرفة وجود الله تعالى خلافاً لما يقوله أهل الكلام ومن سلك طريقهم، وإنما جاء الأمر بوجوب عبادته وتوحيده ونفي الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله". وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . (محمد: 19) . وهذا هو محل النزاع بين الرسل وأممهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} . (النحل: 36) .(30/385)
وهذا هو التوحيد الواجب على كل الخلق، وهو مبنيٌّ على أن الله واحد في إلهيته لا ندَّ له، وواحد في ذاته وصفاته وأسمائه لا نظير له، وواحد في ملكه وأفعاله لا شريك معه، فلابد أن يعبد الله وحده لا يشرك معه غيره، والشرك في العبادة: هو أن يجعل معه إِلهٌ آخر يتوجه إليه بنوع من أنواع العبادة، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة، توحيد العبادة، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات, وهذا هو الدين الذي جاءت به الرسل من عند الله موجبين على الخلق أخذَهُ والإيمانَ به, وهو إخلاص التأله والتوجه إلى الله وحده، وعبادته بأسمائه وصفاته، وفعل أمره، واجَتناب نهيه.
ثمرة التوحيد
والتوحيد الخالص هو الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلِّصُها من رقِّ الاغيار ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين كما يسمون، وشيوخ الطرق الباطلة والدجل، والضلال والتعلقات بالأحياء والأموات، ويخلصها كذلك من إله المادة والتعلق بالطواغيت الماديين وكل مخلوق، فيطلق عزائمهم من قيود العبودية لغير الله والتعلقات بالأحياء والأموات، فيكون المؤمن مع الناس حراً عزيزاً كريماً، ومع الله عبداً خاضعاً ذليلاً خائفاً، فهذا الذي يجب على العبد أن يعتني به أشد الاعتناء، ويحذر أشد الحذر أن ينحرف عنه؛ لأن الانحراف عنه هو الهلاك المحتّم والخسران الأكبر والخلود في جهنم، مع أن أقسام التوحيد الثلاثة متلازمة ولكن توحيد الربوبية أمر فطري خلقي: "والرب: هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي" [6] .(30/386)
"فالرّب هو الذي يُرَبِّي عبده فيعطيه خلقه الذي تتم حياته به، ثم يهديه إلى جميع مصالحه" [7] . فتوحيد الربوبية: هو العلم بأن الله تعالى هو مالك الأشياء كلها، ومصرِّفُها على ما يريد, فالأمر كله راجع إليه تعالى، من خلق السماوات وما فيهن، وتصريف شأنها، وخلق الأرض ومَنْ عليها، وما فيها من معادن، وأسرار، وخلق الرياح وتصريفها، والسحب وتسخيرها تحمل الماء إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن، فينزله، وبه تحي الأرض الميتة وإيجاد الأرزاق للحيوانات والدواب والأناسي، والإحياء والإماتة، وتنظيم أمور الكون كله من بداية وجوده إلى نهايته، وإلى ما شاء الله تعالى، فالجميع ملك الله تعالى وتحت قهره وتصرفه، حسب إرادته جل وعلا، وهذا يُقرُّ به كل المكلفين من مؤمن وكافر إلا من عاند وكابر منهم، والمعاند لا تجدي فيه الأدلة، ولا تزيده المجادلة إلا تماديا في ضلاله، وإنما خلق له الحديد الذي فيه البأس الشديد, قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) , فبيَّن الله تعالى أنّ الكفار يعلمون أنّ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (النمل: 80- 81) . وأشهر من عرف في الماضي في تجاهله وإنكاره لله تعالى هو فرعون، وكان مستقيناً في قلبه وجود الله تعالى، وأنه مالك كل شيء كما قال تعالى عن موسى أنه قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الأسراء: 102) , وقال تعالى مخبرا عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(30/387)
(النمل: 14) , ولهذا قال منكراً على موسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 23) , فقال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء: 24- 28) . وما زعمه بعضهم أن قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} استفهام استعلام، وسؤال عن الماهية، وأن موسى عجز عن الجواب؛ لأن الله تعالى لا ماهية له, هو زعم باطل, بل الاستفهام للإنكار كما دلت عليه الآيات الأخر: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} , وقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} . وكل من أنكر وجود الله تعالى فلا يخلو من العناد والكبر.
أما غير المعاند فإنه يعترف بأن الله لا منازع له في الملك والإيجاد والقهر والتدبير ولا مشارك له فيه ولا معين، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 22- 23) .(30/388)
والله عز وجل فطر جميع خلقه على معرفة هذا النوع من التوحيد، فلذلك يلجئون إليه عند النوائب، ويفزعون إلى الله كُلَّما ألجأتهم الأزمات، وألمت بهم الكربات، وأصابتهم النكبات، فيخلصون له العبادة عند ذلك، كما لجأ إليه كبراء الملاحدة وقت الشدة مثل فرعون وذويه، فقد أخبر الله تعالى أنهم أنكروا وجود الله تعالى وقت المجادلة لموسى عليه السلام عند العافية، فلما أدركهم الغرق ذهب عنادهم، واعترفوا بالحق الذي كانوا ينكرونه عناداً وتكبراً، قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل} (يونس: 90) .
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 40- 41) . وهذا صريح في أنهم يعلمون أن الله هو المالك لكل شيء المتصرف فيه بما شاء، ولهذا صار الإقرار بهذا النوع من التوحيد لا ينفع ولا ينجي من العذاب حتى ينضاف إليه توحيد القصد والنية والإرادة والتوجه، والمقر بتوحيد التصرف والملك لا يصير به مسلماً كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87) . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأََمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) .(30/389)
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 63) . وآيات القرآن في هذا كثيرة، وهي تدل على أن الكفار يؤمنون بهذا القسم من التوحيد ولم يجعلهم ذلك مسلمين، بل فوق هذا كانوا يخلصون الدعاء لله- الذي هو توحيد العبادة - في حالة الاضطرار، ثم يعودون إلى شركهم في الرخاء، كما قال الله تعالى عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) . ومعنى قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أنهم توجهوا إلى الله وحده بالعبادة، من الدعاء، والذل، والخضوع، والرغبة والخوف، والالتجاء، لعلمهم أن شركاءهم لا يملكون لهم نفعا، ولا يستطيعون دفعاً عنهم، وإنما الأمر كله بيد الله تعالى وحده والذي صيرهم مشركين وأوجب خلودهم في النار هم زعمهم أن أصنامهم ومن يتوجهون إليهم يشفعون لهم عند الله كما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 28) , والمعنى أن الله لا يعلم أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا من أهل السماء ولا من أهل الأرض؛ لأن الشفاعة لله وحده, ولا أحد يستطيع أن يشفع عنده حتى يأمره بذلك ويأذن له فيمن يشفع فيه، وإذا كان الله تعالى لا يعلم شافعا لهم لا في السماوات ولا في الأرض فالشافع لا وجود له.(30/390)
روى الحاكم والدارقطني وابن مردويه: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة فرَّ عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: "أخلِصُوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم هاهنا شيئاً"، فقال عكرمة: "والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره, اللهم إنّ لك عليّ عهداً إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلا أجدنّهُ إلا عفوا كريماً", قال: "فنجا فأسلم" [8] .
قال قتادة: "الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك " [9] .
المشركون اليوم أعظم شركاً ممن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبهذا يتبيَّن سفاهة عقول مشركي هذا الزمان، وعظم شركهم، وأنه لم يصل إليه شرك السابقين. فمشركوا وقتنا هذا يُخلصون الدعاء وتزداد إنابتهم، ويتضاعف ذلّهم وخضوعهم لمن يعبدونه من دون الله تعالى ممن يدَّعون لهم بالولاية، عندما يقعون في الشدائد، والكربات، ويشركونهم مع الله تعالى حتى في الربوبية، ويجعلون لهم التصرف، والهداية وجلب النفع، ودفع الضر بخلاف مشركي العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما كان أحد منهم يدّعي ذلك لآلهته وإنما كانوا يقولون: إنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه تعالى، كما قال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) , ومع ذلك لم يكن شركهم مستمراً في كل وقت كهؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم مسلمون، بل في وقت الشدائد يخلصون العبادة لله تعالى كما سبق بعض الأدلة على ذلك.(30/391)
ومن سفاهة هؤلاء أنهم جعلوا الشرك الذي هو أعظم الذنوب أفضل أعمالهم، ورموا من أنكر عليهم ذلك بالجفاء، وتنقص الأنبياء والأولياء، وبأنهم خوارج يكفرون المسلمين. وذلك لأنهم جهلوا معنى العبادة، ومعنى الإله، فظنوا أن معنى الإله: الرب الخالق المحيي الميت، القادر على كل شيء، وظنوا أن الدعَاء والاستغاثة ليست عبَادة، وسموا ذلك توسلا وتعلقا؛ لأن القرآن صرح أن عبادة غير الله كفر، واستبعدوا أن تكون هذه الأعمال التي أدركوا عليها آباءهم وقومهم شرك من أعمال المشركين، فسموا العبادة بغير اسمها لجهلهم دين الإسلام ولغته.
وجهلوا الشرك، فظنوا أنه السجود للصنم، والصلاة له، واعتقاد أنه تدبير الأمور مع الله والتصرف في الكون، واعتقدوا أن المشركين السابقين يعتقدون في آلهتهم هذا المعنى، فحملوا آيات القرآن في الشرك على هذا المعنى.
قال صاحب فرقان القرآن في (ص: 111) في تعريفه العبادة: "الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً باعتقاد ربوبية المخضوع له أو قالباً مع ذلك الاعتقاد، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعا في كثير ولا قليل، مهما كان المأتى به ولو سجودا".
وقال في (ص: 87) : "توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان عرفاً وشرعاً، فالقول بأحدهما قوْلٌ بالآخر، والإشراك في أحدهما إشراك في الآخر، فمن اعتقد أنه لا رب ولا خالق إلا الله لم ير مستحقا للعبادة إلا هو, ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة كان لا محالة قائلا بربوبية هذا الغير هذا مالا يعرف الناس سواه " ...
ونقل محمود حسن عن هذا الرجل أنه قال في مؤلف له آخر: "إن من ود الرب تعالى إنزال الغوث والرحمة على من يذكر أحباءه ويناديهم ويستغيث بهم ولو كانوا غائبين أو متوفين". (ص هـ 6) : كشف الشبهات.(30/392)
وقال محمود حسن ربيع في كتابه كشف الشبهات أيضا: "إن استعانتك بالأولياء الذين تعتقد أن لهم حياة وتصرفا بأقدار الله ليس شركاً، وأن الشرك لو اعتقدت فيهم ربوبيةً" (ص 57) . وقال في (ص 58) : "فمن اتخذ من الأنبياء والأولياء وسيلة إلى الله لجلب نفع أو دفع ضر من الله فهو سائل الله" ... "ومن قال: يا رسول الله أريد أن تردّ عليَّ عيني، أو ترفع عنا الجدب، أو يزول عنا المرض، وهو من المؤمنين كان ذلك دليلاً على أنه يطلب من الله".
فهذه التعريفات للعبادة والشرك أخذت من الواقع الذي عاش فيه هؤلاء وأحزابهم لا من الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد هؤلاء أن يكون الواقع الذي هم عليه متفقاً مع دين الإسلام، فجمعوا بين المتضادات، وقلبوا الحقائق, فجعلوا الشرك توحيداً، والتوحيد ضلالاً، وسلوكاً لطريق الخوارج الذين يكفرون المسلمين، واستبعدوا أن تكون هذه الأوضاع المنتشرة في سائر أنحاء البلاد الإسلامية هي التي كان يفعلها المشركون السابقون مع معبوداتهم، لذلك حاولوا تبرير أفعاَلهم وجعلها على نهج الإسلام بأحاديث ملّفقة أو موضوعة مكذوبة أو حكايات لا قيمة لها في الشرع الإسلامي، وأقل ما يقال في تلك الأحاديث أنها ضعيفة لا يجوز أن يعتمد عليها في فرع من فروع الشرع، فكيف في أصل الأصول- العبادة - التي خلق الجن والإنس من أجلها، وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لإقامتها وإخلاصها لله.(30/393)
إن دعاة الوثنية لا يفتئون يؤلّفون الكتب، ويزوّقون الكلام بتحسين الشرك والثناء على أهله، وتقبيح التوحيد، وعيب أهله ودعاته، ورميهم بالعظائم اتباعاً لأهوائهم وأغراضهم الدنيوية، فهم يجهدون في تحريف أدلة الكتاب والسنة حتى تتفق مع ما يقولونه أو يفعلونه، أو يفعله معظموهم من الرعاع أتباع كل ناعق، ولهذا قال هؤلاء: "العبادة هي الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلبا وقالبا باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد - يعنى اعتقاد الربوبية - لم يكن المأتى به من العبادة في كثير ولا قليل ولو كان سجود".
فهل يصدق العاقل أن المشركين في عهد النبوة الذين نزل فيهم القرآن- وهم أكمل عقولا من هؤلاء - يعتقدون أن الأحجار هي ربهم الذي يحييهم ويميتهم، وينزل عليهم المطر وينبت الزرع والكلأ، وما يقتاتونه هم وأنعامهم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أن الله تعالى هو الفاعل لما
ذكر في الآية من خلقهم وخلق من قبلهم، وخلق الأرض وجعلها فراشا لهم يفترشونها وينتفعون بها بما شاؤوا وخلق السماء وبناها وأنزل من السماء ماء فأنبت به الثمرات والأرزاق لكم ولأنعامكم فكيف تعبدون معه غيره مع علمكم أنه لا مشارك له في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وتصريف أمور الكون.(30/394)
"وحال مشركي العرب مع أوثانهم معلومة، وأنهم إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها، والاستغاثة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها، فالتبرك بالصالحين وبقبورهم هو عين فعل المشركين باللات والعزى ومناة وسائر أوثانهم" [10] .
وهو العبادة التي أوجبت لهم الخلود في النار، وحرّمت عليهم الجنة، وأخبر الله تعالى أنه لا يغفر ذلك إلا بالتوبة منه وفعل التوحيد الذي هو ضده.
وتسمية هذه الأفعال تبركا، أو توسلا أو غير ذلك لا يغير من الحقائق شيئا، فالشرك: هو الاتجاه بالعبادة إلى غير الله مهما سمّي ذلك، (وهو نوعان: شرك في الربوبية وشرك في الإلهية) .
فالأول: إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى كمن يجعل الإنسان مستقلاً بأحداث فعله مهما كانت مرتبته نبياً فما دونه، وكذا من يجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية، أو العقول كما تقوله الفلاسفة، أو النفوس كما يقوله عُبّاد القبور، أو الملائكة أو غير ذلك من المخلوقات، من جعل شيئاً من ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث فهو مشرك في الربوبية.
"وكل ما سوى الخالق الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن، وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا النوع، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه، وإنما كان من الشرك في العبادة".(30/395)
والنوع الثاني من الشرك: الشرك في الإلهية: وهو أن يجعل مع الله أحداً من خلقه يتوجه إليه في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته أو أي نوع من أنواع العبادة، وضد هذا الشرك التوحيد في الإلهية: وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأن الله رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها المضار، ويتخذونها وسائل تقرّبهم إلى الله زلفى، وشفعاء يستشفعون بها إليه، وهذه الآلهة خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يحصل منه شيء إلا بإذن الله تعالى، وهو عز وجل لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل تقرب إليه، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45) , وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25) , وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . (يونس: 18) .
(والمعنى أن الله تعالى لا يعلم أن أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا في السماوات ولا في الأرض فلا وجود لذلك ... )
فبين الله تعالى في هذه الآيات وغيرها أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا أذن في ذلك، بل أخبر أنه لو كان في السماوات أو الأرض آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربّاً فاعلاً منصرفا، يمتنع أن يكون إلها معبودا) [11] .(30/396)
"والإنسان بل وجميع الكائنات عباد الله تعالى، فقراء إليه مماليك له، وهو ربهم المتصرف فيهم، وهو إلههم لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شئ أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله، وما ينتفع به أو يستحقه إنما هو من خلق الله تعالى. هو الذي أوجده ومَنَّ به، وفقر المخلوق وعبوديته أمر لازم له، لا ينفك عنه بحال، ولا وجود له بدونه, والحاجة ضرورية لكل المخلوقات؛ لأنها ملك لخالقها وموجدها إذ لا قيام لها بدونه، ولكن الناس أو أكثرهم تعزب قلوبهم عن شهود هذه الحاجة الملِّحة وهذا الفقر الاضطراري" [12] . وتشهد توحيد الربوبية العام، الذي تشترك في شهوده سائر المخلوقات، وهو أنه لا خالق إلا الله تعالى، فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما سواه إذا كان سبباً فلابد له من شريك معاون، وضد معوق، فإذا طلب العبد من غير الله إحداث أمر من الأمور، فقد طلب منه ما لا يستقل به، ولا يقدر عليه وحده، حتى أفعال العبد الاختيارية لا يستطيع فعلها إلا بإعانة الله له عليها بأن يجعله فاعلا بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة، والقدرة على ذلك الفعل.
فمشيئة الله وحده هي المستلزمة لكل ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن وما سواه لا تستلزم إرادته شيئاَ، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره، إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
وبهذا يتبين أن السائل للمخلوق يسأله ما لا يستقل بملكه، هذا إذا كان المسؤول بمقدوره ظاهراً، فكيف إذا سأله مالا يقدر عليه أصلا مثل الشفاعة عند الله؛ لأنها لا تكون إلا بإذنه، ومثل هداية القلوب، وشفاء الأمراض ونحو ذلك.(30/397)
والراجي لمخلوق، طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق، والمطلوب منه عاجز عن المطلوب، ولهذا صار ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
ومن نعم الله على عبده أن يمنع مطلوبه بالشرك، ليصرف قلبه إلى توحيد الله تعالى فإن وحَدّه توحيد الألهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (يونس: 22) كان ما حصل له من توحيد حجة عليه، كما احتج سبحانه على أمثاله من المشركين، الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون غيره معه في العبادة، ولا يخلصونها له، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [13] (المؤمنون: 83-89) . وهذا كثير في القرآن، وهو يدل على ما تقدم من أن الإقرار بتوحيد الربوبية وبوجود الله تعالى أمر فِطريٌ مسلَّمٌ به عند جميع الخلق، إلا من أخذته العزة بالإثم فكابر عقله، وخالف فطرته، وعاند الحق، ولهذا لم تكن رسالة الرسل في دعوة الناس إلى الإيمان بوجود الله تعالى والإقرار بربوبيته، إذ كان هذا مستقراً في القلوب.
ولذلك جعل الله تعالى هذا دليلاً وحجة على وجوب التزام القسم الثاني من التوحيد، الذي هو توحيد العبادة.(30/398)
فالإقرار بالخالق، وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته من الانحراف، ومع ذلك فقد قامت عليه الأدلة الكثيرة؛ لأنه قد يحتاج إليها كثير من الناس لفساد فطرهم وتغيُّرها ولأحوال تعرض لهم، وإن كانت مسألة الإقرار بوجود الله - كما قلنا - ليست من المسائل التي تحتاج إلى برهان، "فإن الفطر الإنساَنية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالق حكيم، قادر عليم". {أَفِي اللَّهِ شَك} , {ولئن وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء، فإنه يلوذ إليها في حال الضراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} .
فالأدلة على الله تعالى كثيرة: منها ما شهدت به الفطر السليمة من احتياج المخلوق إلى مدبر هو منتهى طلبه، يرغب إليه، ولا يرغب عنه، ويستغني به، ولا يستغني عنه، ويفزع إليه في الشدائد، واحتياج الإنسان في نفسه أوضح من احتياجِ الممكن الخارجي إلى موجد، والحادث إلى محدث، ولهذا ذكر الله تعالى هذا المعنى مُحتجاً به على وجوب عبادته كما قال تعالى: {أمَّن يجيب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . (النمل: 62) . ومن رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف احتياجه إلى ربه في تكوينه، وبقائه، وتقلبه في أحواله. وكذلك النظر في آيات الآفاق والملكوت تدل دلالة واضحة على الله تعالى، ولكن المعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حالة الاختيار [14] .(30/399)
وكذلك النظر في مخلوقات الله تعالى، وما فيها من العجائب، وإتقان الصنعة، وباهر الحكمة، وتقلّب الليل والنهار، ودوران الشمس والقمر والنجوم، وما يتجدد في طلوعها وغروبها، ودوران الأفلاك، وهبوب الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء إلى حيث يشاء الله، وعوالم المخلوقات مما يطول وصفه.
ومن ذلك خلق الإنسان من نطفة مستوية الأجزاء، متنقلة الأطوار، من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم خلق منها لحما وعظاما وعصبا، وبصرا وعقلا وإدراكا، وما يشم، وما يطعم، وما يمشي على بطنه, وما يمشي على أربع, وما يمشى على رجلين، وذكر وأنثى، وهل يمكن أن يكون المداد بنفسه كتاباً معرباً مرتب المعاني والمواضيع, منسق الكتابة والحروف بطبيعة المداد من غير كاتب عالم, {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} … الآيات.
ومن ذلك المعجزات التي جاءت بها الأنبياء وهي من أوضح الدلائل على الله تعالى مثل إحياء الموتى، وجعل العصا التي هي عود يابس مقطوع من شجرة حية تلتهم ما أمامها، وفلق البحر بضربه بالعصا، وقلب طبيعة النار ومنعها من الإحراق، وإنباع الماء من أصباع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتوضأ منه الجمع الكثير، وتكثير الطعام القليل حتى يتزوَّد منه الجيش بأكمله, وغير ذلك كثير جدا.
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي وهو صدق الرسل، ومن سلك الطريق السمعي بين الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن.(30/400)
وكان الشقي المعذَّب من لم يسلك لا هذا ولا هذا كما قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:10) , وقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
والإلحاد يعرض لكثير من الناس، ويتبناه بعضهم إما ظاهراً دون باطن كحال فرعون ونحوه من المجرمين، وإما باطناً وظاهراً كحال ملاحدة اليوم.
والإلحاد لا يمنع أن تكون معرفة الله مستقرة في الفطرة، ثابتة بالضرورة؛ لأن إنكار وجود الله تعالى حال تعرض لكثير من الناس عمداً أو خطأ واغترارا، مع أن كثيراً من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية، والمعارف الفطرية، من الحسيات والحسابيات، والإلهيات، ومن تأمل ما يذكره أصحاب المقالات في العلوم المختلفة رأى عجائب وغرائب، فمن الطرائف في هذا ما ذكر أن رجلاً صنّف كتاباً في نفي العلوم فمات له ولد قد قارب الحلم فقال: أسفت لموت ولدي قبل أن يقرأ كتابي، فقيل له: وما يدريك أنه كان لك ولد، وأنه مات، وأنه لم يقرأ كتابك، وما يدريك أنك موجود وأنك صنفت كتاباً فلم يدر ما يقول.
وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات، فإنهم جنس عظيم التفاوت، فليس في المخلوقات أعظم تفاوتاً وتفاضلاً منهم، فخيارهم خير المخلوقات أومن خيرهم، وشرارهم أشر المخلوقات كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .(30/401)
ولكن الحق عزيز، ومع عزَّته كلٌّ يدَّعيه، ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق،
إنّ على الباطل ظلمة، وإن الحق نور، ولا يبصر نور الحق إلا من حشى قلبه بالنور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [15] .
القسم الثاني من التوحيد: توحيد الأسماء الصفات، وهذا القسم شبيه بالذي قبله - توحيد الربوبية - من حيث ثبوته في الفطر، وكثرة الأدلة عليه، كثرة عظيمة، وكون الأمم السالفة لم تنكره إلا من شذ وندر، وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في كثير من آيات الأحكام، ولم يختلفوا في شيء من آيات الصفات وأخبارها، بل اتفقوا على إقرارها على ظاهرها مع فهمهم معانيها، واثبات حقائقها، وذلك لأنها أعظم عناية، وأوضح بيانا من آيات الأحكام، ومن يقرأ كتاب الله تعالى، ويستعرض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرى مدى العناية بهذا القسم، وإثباته بطرق مختلفة، وكثرة النصوص فيه فما سر ذلك؟ وما مغزاه؟ ذلك لأنه منبع الإيمان والمعرفة بالله على بصيرة وهدى، وهو مصدر التوحيد الكامل, فأكمل الناس توحيداً أَعلمهم بهذا القسم، أبصرهم بمعانيه وفقهه، والفقه فيه هو الفقه الأكبر.(30/402)
إن معرفة الله تعالى على التفصيل لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوحي الذي جعله الله لعباده روحاً ونوراً وهدى، والله تعالى أعلم بنفسه وبغيره من خلقه, ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وما ينزّه منه، وما وصف الله به نفسه وجب قبوله والإيمان به وأنه الحق، وكذا ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح الخلق وأقدرهم على البيان، وَأنصح الخلق لأمته، وقد بين للناس ما نُزِّل إليه من ربه، وأعظم ذلك معرفة الله تعالى التي هي بها هداية القلوب، فقد بين خياله أوصاف الله تعالى التي تعرّف بها إلى عباده، وأمرهم بدعوته بها، إذ هي الطريق إلى معرفة الله تعالى وعبادته.
فكل اسم من أسمائه الحسنى له تعبّد يختص به علماً وحالاً، وأكمل الناس عبودية لله المتعبِّدُ بجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا التي يعرفها الخلق، فلا تمنعه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، وهو جل وعلا يحب مقتضى أسمائه وصفاته، فلمحبته التوبة والمغفرة والعفو خلق من يتوب عليه، ويغفر له، ويعفو عنه كما جاء في الحديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم" [16] .
وإذا كان الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته فرض على العبد؛ لأنه داخل في الإيمان بالله تعالى، ومعلوم عجز العقول عن الوصول إلى معرفة ذلك بدون هداية الوحي لأنّ ذلك(30/403)
من الغيب، فلابد أن تعتصم من الزلل والاضطراب بعاصم وليس ذلك إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك فقط تحديد المسلك الصحيح الذي يهتدي المرء بارتياده، كما فيه أيضا التحذير من السبل الأخرى التي إذا سلكها الإنسان وترك فيها وشأنه لا يمكن أن يجني إلا الحيرة والاضطراب، كما وقع لكثير من أذكيَاء علماء الكلام الذين فتحوا المجال لعقولهم تجول في كل طريق، وفى النهاية أصبح أحدهم يتمنى أن يموت على عقيدة العجائز.(30/404)
إن الكون مفتوح أمام العقل فعليه أن يعبر وينظر ما يريد، أما أن يحاول ارتياد الغيب بلا عاصم وبدون دليل من الوحي الإلهي، فمن الحق أن يقال له حينئذ "ليس هذا بعشِّك فادرجي", ولكن عليه أن يقبل من الغيوب ما جاء به الكتاب والسنة، ومن ذلك ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه الرسول به بدون تأويل أو تبديل بل يؤخذ على ظاهره، وذلك أن الوحي أنزل للهدى والبيان، وهو كما قال الله تعالى: {نور} و {رحمة} و {بصائر للناس} . فمن غير المعقول أن الله تعالى يصف القرآن بأنه هدىً للناس، ونور، وبيان، ورحمة ثم يخاطب الخلق فيه بألفاظ لا يقصد منها ما تدل عليه ظاهراً، بل يكون ظاهرها التشبيه والكفر, كما أنه محالا أن تكون آياته رموزاً وألغازاً أشير بها إلى معان باطنة لا تفهم إلا بصعوبة بالغة, ولا يصل إليها إلا النادر من الأذكياء كما يقوله الذين لم يؤمنوا بالله ورسله, قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67) , وقال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (سورة ص: 75) , وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158) .
فهذا التقسيم والتنويع يُبْطِلُ تأويل إتيان الرب تعالى بإتيانه أمره أو الملائكة كما يقوله أهل التحريف، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} , وقال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 46) .(30/405)
والآيات في ذكر أوصاف الله تعالى كثيرة جداً، والإيمان بها على ظاهرها من غير تحريف لها ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل هو سبيل المؤمنين- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان - وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . فمن سبيلهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمَّى بها نفسه في كتابه، أو على لسَان رسوله، من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين؛ لأنهم تيقنوا أن المتكلم بها صادق، وأراد منهم اعتقاد معانيها فصدَّقوه، وسكتوا عما لم يعلموه من حقيقة معناها، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصَّى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذَّروا من التجاوز لمذهبهم، والعدول عن طريقتهم.
وبرهان ذلك أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها, ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأوَّلوا، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئاً من ذلك لنقل عنهم، ولا يجوز أن يكتم بالكلية إذ لا يجوز التواطؤ على الكتمان لما يحتاج نقله ومعرفته.
"للبحث صلة"
أصاب الشيخ وأخطأت أنا
مرّ أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بالمدينة - وهو يريد مكة - فأقام بها أياما فقال:
هل بالمدينة أحد أدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
قالوا له: أبو حازم, فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال:
يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟
قال أبو حازم: يا أميرا لمؤمنين وأيُّ جفًا رأيت مني؟(30/406)
قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني.
قال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن, ما عرفتني قبل هذا اليوم، ولا أنا رأيتك. فالتفت أمير المؤمنين إلى محمد بن شهاب الزهري فقال:
أصاب الشيخ وأخطأت أنا ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه البخاري ومسلم انظر الفتح ج 1ص 126 وج 4 ص 0 29 ومسلم ج 3 ص1220.
[2] انظر غاية المرام ص 7 وانظر الإرشاد ص 18.
[3] البخاري انظر الفتح ج3 ص 261،322،357 ومواضع أخر وانظر مسلم ج1 ص50.
[4] البخاري ومسلم انظر الفتح ج3 ص 262 ج12 ص 275 وانظر مسلم ج1 ص 52 ـ 53.
[5] أنظر تفسير ابن كثير ج 7 401 -452. ط. الشعب.
[6] مجموع الفتاوى ج 14 ص 13.
[7] المصدر نفسه.
[8] الإصابة ج هـ ص 539 وانظر البداية والنهاية ج 4 ص 298.
[9] انظر تفسير الطبري ج 13 ص 78.
[10] الضياء الشارق ص 183.
[11] درأ تعارض العقل ج 7 ص ا 39 بتصرف.
[12] انظر مجموع الفتاوى ج 14 ص ا 3.
[13] انظر مجموع الفتاوى ج10 ص 331.
[14] انظر نهاية الإقدام ص 124.
[15] نظر صوت المنطق ص 198 ج 1.
[16] درأ تعارض العقل ج 7 ص ا 39.(30/407)
منهج الأشاعرة في العقيدة
للشيخ سفر بن عبد الرحمن الوالي
محاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
تعقيب على مقالات علي الصابوني
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فقد اطلعت على ما نشرته مجلة (المجتمع) في الأعداد من رقم 627 - 632، والمقابلة السابقة لها وكذلك المقالتان المتضادتان في العدد 646 مما كتبه الشيخان الفوزان والصابوني عن مذهب الأشاعرة.
وإذا كان من حق أي قارئ مسلم أن يهتم بالموضوع وأن يدلي برأيه إن كان لديه جديد، فكيف بمن هو متخصص في هذا الموضوع مثلي؟.
فالأشاعرة جزء من موضوع رسالتي للدكتوراه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي"إذ هي أكبر فرق المرجئة الغلاة. ولن أستعجل نتائج بحثي ولكن حسبي أن أدّعي دعوى وأطرحها للمناقشة وأقبل بكل سرور من يدلي بوجهة نظره فيها.
فمن واقع إسلامي وتخصصي رأيت أن أقول كلمة عسى الله أن ينفع بها، - ويعلم الله أنني لو لم أشعر أن قولها واجب ضروري لما سطرتها - ولكن الموضوع أكبر من أن يسكت عليه أو يجامل فيه.
ولي على كلا الشيخين ملاحظات:
(1) أما الصابوني فلا يؤسفني أن أقول: إن ما كتبه عن عقيدة السلف والأشاعرة يفتقر إلى أساسيات بدائية لكل باحث في العقيدة, كما أن أسلوبه بعيد كثيرا عن المنهج العلمي الموثق, وعن الأسلوب المتعقل الرصين.
وقد استبشرت بالبيان الأخير خيراً وحسبته بيان رجوع وبراءة فإذا هو بيان إصرار وتوكيد.
ونظراً لكونه ليس إلا جزءاً من تيار بدعيٍّ يراد له اكتساح الأمة. ونظراً لتعرضه لقضايا بالغة الخطورة تحتاج إلى بحث مستفيض لا تسعه المقالات الصحفية فسوف أرجئ الكلام عنه إلى حين يتيسر لي بإذن الله إخراج الرد في الصورة التي أراها.(30/408)
وليكن معلوما أن هذا الرد الموعود ليس مقصودا به الصابوني ولا غيره من الأشخاص, فالمسألة أكبر من ذلك وأخطر، إنها مسألة مذهب بدعي له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي حيث تمتلئ به كثير من كتب التفسير وشروح الحديث وكتب اللغة والبلاغة والأصول فضلا عن كتب العقائد والفكر، كما أن له جامعاته الكبرى ومعاهده المنتشرة في أكثر بلاد الإسلام من الفلبين إلى السنغال.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه تشرف عليها هيئات رسمية كبرى ويغذوها المستشرقون بما ينبشونه من تراثه ويخرجون من مخطوطاته.
ولهذا وجب على كل قادر أن يبين لأمته الحق وينصح لها مهما لقي, فإنّ مما كان يبايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه النصح لكل مسلم وأن يقولوا الحق لا تأخذهم فيه لومة لائم.
أما فضيلة الشيخ الفوزان فقد أحسن إلى (المجتمع) وقرَّائها بتلك المقالة القيمة، فقد عرض فيها - على قصرها - حقائق أصولية مركزة في أسلوب علمي رصين.
وله العذر كل العذر؛ إذا لم يستوف الرد على الصابوني وبيان التناقضات التي هي سمة من سمات المنهج الأشعري نفسه؛ لأن الموضوع أكبر من أن تحيط به مقالة صحفية.
ولهذا رأيت من واجبي أن أضيف إلى ما كتبه فضيلته مستدركاً مالا يجوز تأجيله إلى ظهور الرد المتكامل:-
أولا: فات فضيلته أن يرد على الصابوني فيما عزاه إلى شيخ الإسلام - مكرراً إياه - من قوله: "الأشعرية أنصار أصول الدين, والعلماء أنصار فروع الدين ".
ولعل الشيخ وثق في نقل الصابوني, مع أن الصابوني - على ما أرجح - أول من يعلم بطلان نسبة هذا الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولغة العبارة نفسها ليست من أسلوب شيخ الإسلام، والغريب حقاً أنه أعاد هذا العزو في بيانه الأخير بالعدد 646 مؤكداً إصراره على التمويه والتدليس.(30/409)
وأنا أطلب من كل قارئ أن يراجع النص في ج4 ص 16 من مجموع الفتاوى ليجد بنفسه قبل تلك العبارة نفسها كلمة (قال) فالكلام محكي منقول وقائله هو المذكور في أول الكلام - آخر سطر من ص 15- حيث يقول شيخ الإسلام:
"وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة ... قال فيها: "إلى أن يقول:
"قال: وأما لعن العلماء الأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر وعادت اللعنة عليه ... والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين.
"قال: وأما دخولهم النار ... "الخ
وفى آخر هذه الفتوى نفسها يقول شيخ الإسلام (ص 158- 159، وانظر أيضاً 156) . "وأيضاً فيقال هؤلاء الجهمية الكلامية كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله كيف تدعون طريقة السلف وغاية ما عند السلف أن يكونوا متابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟) .
إلى أن يقول "وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة الذين يقولون إن الرسول لم يبيّن الحق في باب التوحيد". الخ.
وبهذا يتضح قطعاً:
أ- أن العبارة المذكورة ليست من قول شيخ الإسلام بل قائلها أشعري يمدح مذهبه.
ب- أن شيخ الإسلام نسب هذا القائل ومذهبه إلى الجهمية الكلابية واتباع طريقة الملاحدة وأنكر عليهم ادعاء طريقة السلف وهذا ينفى ما حاول الصابوني تدليسه في مقالاته الست تماماً.
وبالمناسبة أذكر بعض ما يحضرني من الكتب التي ألفها شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة نصاً غير التي رد عليهم فيها مع غيرهم:-
1- درء تعارض العقل والنقل وهو كله رد عليهم بالأصالة كما نص في مقدمته, حيث استفتحه بذكر قانونهم الكلي الآتي في ص 12.
2- بيان تلبيس الجهمية المسمى نقض التأسيس، رد فيه على إمامهم الثاني "الفخر الرازي", صاحب تأسيس التقديس أو أساس التقديس.
3- التسعينية وهي التي كتبها في الأشهر الأخيرة من حياته - رحمه الله- جواباً عن محاكمة الأشاعرة له.
4- شرح العقيدة الأصفهانية وهى شرح لعقيدة الشمس الأصفهاني التي جرى فيها على أصول الأشاعرة.(30/410)
5- الفتوى الحموية: معروفة.
6- الرسالة المدنية: وهى في الجزء (6) من مجموع الفتاوى.
7- النبوات: وهو نقض لكلام الباقلاني خاصة والأشاعرة عامة في النبوات.
8- الإيمان: وهو نقد للأشاعرة في الإيمان وذكر بقية المرجئة تبعاً.
9- القاعدة المراكشية: وهى كالبيان لمذهب الإمام مالك وأئمة المالكية في العقيدة ضد المتأخرين من مالكية المغاربة المائلين إلى مذهب الأشعري، وهى في الجزء الخامس من مجموع الفتاوى وطبعت محققة.
15- المناظرة في العقيدة الواسطية: ألفها في محاكمة الأشاعرة له بسبب الواسطية وهي في الجزء الثالث من مجموع الفتاوى.
11- الاستقامة: كتبه نقضا لكتاب القشيري الصوفي الأشعري وبين فيه أن عقيدة أئمة السلوك المعتبرين هي مذهب السلف وأن بداية الانحراف في العقيدة عند المنتسبين للتصوف في الجملة إنما جاءت متأخرة في أوائل القرن الخامس حين انتشر مذهب الأشعرى.
ولتلميذه ابن القيم- رحمه الله - في الرد على الأشاعرة كتب منها:-
1_ مختصر الصواعق المرسلة ناقش فيه أصولهم ومنها موقفهم من النصوص.
2_ شفاء العليل: معظمه عنهم.
3_ العقيدة النونية: معظمها عنهم.
4_ إجتماع الجيوش الإِسلامية: كله رد على مذهبهم خصوصا في نفي العلو.
هذا ولم يصدر من شيخ الإسلام مدح مطلق للأشاعرة أبداً وإنما غاية مدحه لهم (كما في ج 12 من الفتاوى) أن يصفهم بأنهم أقرب من غيرهم وأن مذهبهم مركب من الوحي والفلسفة, أو يمدح المشتغلين منهم بالحديث لا لكونهم أشاعرة ولكن لاشتغالهم بالسنة مع سؤال المغفرة لهم فيما وافقوا فيه متكلمي مذهبهم. لكن هذا أقل بكثير من المواضع التي صرح فيها بتبديعهم وتضليلبهم، وفساد منهجهم فهي أكثر من أن تحصر. كما أنه حدد- رحمه الله - متى يعد المنتسب إلى الأشعري من أهل السنة فقال:(30/411)
"أما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنَة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة لاسيما لأنه بذلك يوهم حسنا لكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر" ... أي أن من كان على عقيدة السلف منهم لا ينبغي له الانتساب للأشعري لأنه بدعة ومذمة.
ثانيا: أحسن الشيخ في مطالبة الصابوني بأي دليل صحيح على مسألة تكفير الأشاعرة، ويضاف إلى كلام فضيلته:
إن الحاصل فعلاً هو العكس فالأشاعرة هم الذين كفّروا ولا يزالون يكفّرون أتباع السلف بل كفّروا كل من قال: "إن الله تعالى موصوف بالعلو"- كما سيأتي هنا - وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الإسلام وهو ما لم يفعله أهل السنة بعالم أشعري قط. وقد سطر- رحمه الله- بعض جورهم عليه في أول التسعينية وصرح به كل من كتب عن سيرته. ولولا الإطالة لأوردت بعض ما تصرح به كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة والكفر والضلال. ومن الأمثلة المعاصرة كتب الكوثري ومقالاته وكتاب "براءة الأشعريين"وكتاب "ابن تيمية ليس سلفياً"وبعض ما في كتاب "أركان الإيمان"
فيا عجباً لهؤلاء القوم يكفّرونه ثم يدّعون أنهم وإياه على مذهب واحد ويشملهم جميعاً اسم "السنة والجماعة"!! , وإذا كانت كتب الأشاعرة تتبرأ من "الحشوية والمجسمة والنابتة"وغير ذلك مما يلقبون به أهل السنة والجماعة فكيف يكونون وهم سواء!!.
ثالثا: كان بودي أن يفصّل الشيخ معنى مصطلح أهل السنة ودخول الأشاعرة فيه أو عدمه, وهي التي يدندن حولها الصابوني، وأنا أوجزه جداً فأقول:
إن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق ويراد به معنيان:
أ_ المعنى الأعم: وهو ما يقابل الشيعة فيقال: "المنتسبون للإسلام قسمان: أهل السنة والشيعة"، مثلما عنون شيخ الإسلام كتابه في الرد على الرافضي "منهاج السنة", وفيه بيّن هذين المعنيين وصرح أن ما ذهبت إليه الطوائف المبتدعة من أهل السنة بالمعنى الأخص.(30/412)
وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأشاعرة, لاسيما والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة وهى نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتي.
ب_ المعنى الأخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء وهو الأكثر استعمالا وعليه كتب الجرح والتعديل فإذا قالوا عن الرجل أنه صاحب سنة أو كان سنياً أومن أهل السنة ونحوها فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف البدعية كالخوارج والمعتزلة والشيعة وليس صاحب كلام وهوى.
وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبداً بل هم خارجون عنه, وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدلي ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب بل التلقي والاستمداد منها فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ, ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.
والأشاعرة- كما سترى - تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها في النتائج فكيف يكون من أهلها.
وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء فما بالك بأئمة الجرح والتعديل من أصحاب الحديث:-
ا- عند المالكية:
روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداذ أنه قال في كتاب الشهادات شرحاً لقول مالك: "لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء"، وقال:
"أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام, فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري, ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها".
وروى ابن عبد البر نفسه في "الانتقاء"عن الأئمة الثلاثة "مالك وأبى حنيفة والشافعي"نهيهم عن الكلام وزجر أصحابه وتبديعهم وتعزيرهم, ومثله ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية فماذا يكون الأشاعرة إن لم يكونوا أصحاب كلام؟.
2- عند الشافعية:(30/413)
قال الإمام أبو العباس بن سريج الملقب بالشافعي الثاني وقد كان معاصرا للأشعري: "لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة بل نقبلها بلا تأويل, ونؤمن بها بلا تمثيل".
قال الإمام أبو الحسن الكرجى من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: "لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرَّءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة، وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبو حامد الاسفرائيني الملقب "الشافعي الثالث" قائلا: "ومعلوم شدة الشيخ على أصحاب الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصوله الأشعري، وعلق عنه أبو بكر الراذقاني وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميزّه وقال: "هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين" اهـ.
وبنحو قوله بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري.
3- الحنفية: معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان، وكان الإمام الطحاوي معاصراً للأشعري وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد الإمام أبي حنيفة وأصحابه, وهي مشابهة لما في الفقه الأكبر عنه, وقد نقلوا عن الإمام أنه صرح بكفر من قال: "إن الله ليس على العرش"أو توقف فيه، وتلميذه أبو يوسف كفّر بِشراً المرِيسي، ومعلوم أن الأشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعالى على العرش, ومعلوم أيضاً أن أصولهم مستمدة من بشر المريسي!! .(30/414)
4- الحنابلة: موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر فمنذ بدّع الإمام أحمد (ابن كلاب) وأمر بهجره - وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري- لم يزل الحناَبلة معهم في معركة طويلة، وحتى في أيام دولة نظام الملك- التي استطالوا فيها - وبعدها كان الحنابلة يخرجون من بغداد كل واعظ يخلِّط قصصه بشيء من مذهب الأشاعرة، ولم يكن ابن القشيري إلا واحداً ممن تعرض لذلك، وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور (الاعتقاد القادري) أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها سنة 433
هذا وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاص بأئمة المذاهب المعتبرين بل هو منقول أيضا عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف، فقد نقل شيخ الإسلام في الاستقامة كثيرا من أقوالهم في ذلك وأنهم يعتبرون موافقة عقيدة الأشعرية منافيا لسلوك طريق الولاية والاستقامة حتى أن عبد القادر الجيلاني، لما سئل "هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟. قال: ما كان ولا يكون".
فهذا موجز مختصر جداً لحكم الأشاعرة في المذاهب الأربعة, فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل ممن يعلم أن مذهب الأشاعرة هو رد خبر الآحاد جملة وأنّ في الصحيحين أحاديث موضوعة أدخلها الزنادقة ... وغيرها من العوام, وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان.
فالحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة لاشك في ذلك, أما أنهم من أهل السنة فلا, وسيأتي تفصيل ذلك في الموضوعات التالية:
وهاهنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم -كالجويني وابنه أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم- وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف، وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك في تراجمهم أو بعضه في دلالة ذلك؟.(30/415)
إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شئ رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أيّ عقيدة رجعوا؟.
رابعاً: دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي، وكتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول: "إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة", وبعضها يقول: "إنه مذهب القرون الخمسة" , فماذا بقي بعد هذه القرون؟
وصدقوا فالثابت تاريخيا أن مذهب الأشاعرة لم ينتشر إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني.
ولولا ضيق المجال لسردت قائمة متوازنة أذكر فيها كبار الأشاعرة ومن عاصرهم من كبار أهل السنة والجماعة الذين يفوقون أولئك عدداً وعلماً وفضلاً، وحسبك ما جمعه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية, والذهبي في العلو, وقبلهما اللالكائي.
أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف؛ لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم (من حيث الأصل) , فكل من لم يلقِّنْهُ المبتدعة بدعتَهم ويدرِّسوه كتبهم فليس من حق أيّ فرقة أن تدَّعيه إلا أهل السنة والجماعة.
ومن الأدلة على ذلك: الإنسان الذي يدخل في الإسلام حديثا، فهل تستطيع أيّ فرقة أن تقول إنه معتزلي أو أشعري؟ أمّا نحن فبمجرَّد إسلامه يصبح واحداً منا.
وإن شئت المثال على عقيدة العوام فاسأل الملايين من المسلمين شرقا وغربا هل فيهم من يعتقد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته كما تقول الأشاعرة.
أم أنهم كلهم مفطورون على أنه تعالى فوق المخلوقات، وهذه الفطرة تظل ثابتة في قلوبهم حتى وان وجدوا من يُلقِّنهم في أذهانهم تلك المقولة الموروثة عن فلاسفة اليونان.(30/416)
وقس على هذا نظرية الكسب والكلام النفسي ونفي التأثير وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة على أن الموضوع الذي يجب التنبيه إليه هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازى والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم, وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو جهل بعلم الكلام أو لاعتقاده أنه لا تعارض بين ما أخذ منهم وبين النصوص, ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر- رحمه الله -.
ولست أشك أن الموضوع يحتاج لبسط وإيضاح ومع هذا فإنني أقدِّم للقراء لمحة موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة:
وقد ترجم الحافظ الذهبي- رحمه الله - في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي- ذلك الأشعري المتعصب - فتعقّبه وعنّف عليه ظلما. ثم جاء ابن حجر- رحمه الله - فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال- ناقلا كلام ابن السبكي ونقده للذهبي - ولم يكن يخفى عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الأرموي ضمن ترجمة الرازي.
فإذا كان موقف ابن حجر لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟ إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول إن ابن حجر على مذهبهِما أبدا, كيف وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أيّ مسلم فضلاً عمّن هو في علم الحافظ وفضله؟.
على أنه قال في آخر ترجمة الرازي "أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده".
وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا, فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف.
فبعد هذا نسأل:
أكان ابن حجر يعتقد أو يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه أم عقيدته التي في وصيته؟ الإجابة واضحة من عبارته نفسها.
هذه واحدة.(30/417)
والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم فمثلاً خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير. ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجَب على المكلف في أول كتابه وآخره.
كما أنه نقد شيخهم في التأويل (ابن فورك) في تأويلاته التي نقلها عنه في شرح كتاب التوحيد من الفتح, وذم التأويل والمنطق مرجحا منهج الثلاثة القرون الأولى, كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة , وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا.
والذي أراه أن الحافظ - رحمه الله - أقرب شيء إلى عقيدة مفوِّضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها لكنهم وافقوا بَعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانِّين صحتها عن حسن نية.
وقد كان من الحنابلة من ذهب إلى أبعد من هذا كابن الجوزي وابن عقيل وابن الزاغوني. ومع ذلك فهؤلاء كانوا أعداءً ألدَّاء للأشاعرة، ولا يجوز بحال أن يعتبروا أشاعرة فما بالك بأولئك.
والظاهر أن سبب هذا الاشتباه في نسبة بعض العلماء للأشاعرة أو أهل السنة والجماعة هو أن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عن أصلها (المعتزلة) ووافقت السلف في بعض القضايا وتأثرت بمنهج الوحي، في حين أن بعض من هم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصل تأثروا بسبب من الأسباب بأهل الكلام في بعض القضايا وخالفوا فيها مذهب السلف.
فإذا نظر الناظر إلى المواضع التي يتفق فيها هؤلاء وهؤلاء ظن أن الطائفين على مذهب واحد. فهذا التداخل بينهما هو مصدر اللبس.(30/418)
وكثيرا ما تجد في كتب الجرح والتعديل- ومنها لسان الميزان للحافظ ابن حجر- قولهم عن الرجل أنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم وهكذا ومع هذا لا يعتبرونه معتزليا أو خارجيا، وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي وأمثالهما لم يصح اعتبارهم أشاعرة وإنما يقال: "وافقوا الأشاعرة في أشياء"، مع ضرورة بيان هذه الأشياء واستدراكاتها عليهم حتى يمكن الاستفادة من كتبهم بلا توجس نما موضوعات العقيدة.
خامسا: قال فضيلة الشيخ الفوزان عن الأشاعرة: "نعم هم من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة وليسوا منهم في باب الصفات".
وهذا سبق قلم من فضيلته ومثل هذه الدعوى هي التي يهش لها الأشاعرة المعاصرون ويروِّجونها؛ لأنه إذا كان الفارق هو الصفات فقط قالوا: إن الخلاف فيها أصله الاجتهاد والكل يتفقون على التنزيه فكأنه لا خلاف إذن ... وربما قالوا: نحن مستعدون أن نثبت لله يداً وعيناً وسائر الصفات في سبيل توحيد الصف ووحدة الكلمة!!!
وليكن معلوما أن ابتداء أمر الأشاعرة أنهم توسلوا إلى أهل السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم وقالوا: "نحن معكم ندافع عن الدين وننازل الملحدين"، فاغتر بهذا بعض علماء أهل السنة وسكتوا عنهم فتمكّن الأشاعرة في الأمة ثم في النهاية استطالوا على أولئك واستأثروا بهذا الاسم دون أهله، وأصبحوا هم يضللون أهل السنة ويضطهدونهم ويلقبونهم بأشنع الألقاب. فحتى لا تتكرر هذه المشكلة وإحقاقا للحق رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقِّي حتى آخر السمعيات ماعدا قضية واحدة فقط.(30/419)
وإليك هذه الأصول المنهجية في مذهبهم موجزة ومُيَسَّرة ما أمكن- عدا أقوالهم في الصفات وعدا الفرعيات التي لا تدخل تحت حصر- مع التنبيه, ومقدما إلى ما بينها من تناقض لا يخفى على القارئ الفطن:
الأول: مصدر التلقِّي:
أ _ مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشُرَّاح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وعلى هذا يرى المعاصرون منهم، ومن هؤلاء السابقين من صرح بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر, وبعضهم خفّفها فقال: هو أصل الضلالة!!.
ولضرورة الاختصار أكتفي بمثالين مع الإحالة إلى ما في الحاشية لمن أراد المزيد:
الأول: وضع الرازي في أساس التقديس القانوني الكلي للمذهب في ذلك فقال: "الفصل الثاني والثلاثون في أنّ البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟
اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
1- إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال.
2- وإما أن يبطلا فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
3- وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية وذلك باطل.
لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وظهور المعجزات على - محمد صلى الله عليه وسلم -.
ولو جوّزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهما غير مقبول القول, ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول, وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا, وأنه باطل.(30/420)
ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة , أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها.
ثم إن جوّزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم يجز التأويل فوّضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق". اهـ.
الثاني: يقول السنوسي (ت 885) في شرح الكبرى:"وأما من زعم أن الطريق بدأ إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما فالرد عليه أن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضا فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع".
ويقول: "أصول الكفر ستة…"ذكر خمسة ثم قال:"سادسا: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية".
ب _ صرح متكلّموهم- ومنهم من سبق في فقرة (أ) أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض منها: الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز ... الخ. وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي بل قالوا: من احتمال المعارض العقلي!!
ج _ موقفهم من السنة خاصة أنه لا يثبت بها عقيدة, بل المتواتر منها يجب تأويله, وآحادها لا يجب الاشتغال بها حتى على سبيل التأويل، حتى إن إمامهم الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء، وأنه في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة… إلى آخر ما لا أستجيز نقله لغير المختصين، وهو في كتابه أساس التقديس والأربعين.
د _ تقرأ في كتب عقيدتهم قديمها وحديثها المائة صفحة أو أكثر فلا تجد فيها أية ولا حديثاً لكنك قد تجد في كل فقرة "قال الحكماء"أو"قال المعلّم الأول"أو "قالت الفلاسفة"ونحوها ...(30/421)
هـ _ مذهب طائفة منهم وهم صوفيتهم- كالغزالي والحامي- في مصدر التلقي هو تقديم الكشف والذوق على النص وتأويل النص ليوافقه وقد يصححون بعض الأحاديث ويضعفونها حسب هذا الذوق كحديث إسلام أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهما الجنة بزعمهم. ويسمون هذا "العلم اللّدنّي جرياً على قاعدة الصوفية "حدثني قلبي عن ربي".
الثاني: إثبات وجود الله:
معلوم أنّ مذهب السلف هو أن وجوده تعالى أمر فطري معلوم بالضرورة, والأدلة عليه في الكون والنفس والآثار والآفاق والوحي أجلّ من الحصر، ففي كل شيء له آية وعليه دليل.
أما الأشاعرة فعندهم دليل يتيم هو دليل "الحدوث والقدم"وهو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث وكل حادث فلابد من محدث قديم، وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث وعدم حلولها فيه, ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهرا ولا عرضا ولا جسما ولا في جهة ولا مكان… الخ. ثم أطالوا جدا في تقرير هذه القضايا هذا وقد رتبوا عليه من الأصول الفاسدة مالا يدخل تحت العد مثل إنكارهم لكثير من الصفات كالرضا والغضب والاستواء بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم ونفي الجوهرية والعرضية والجهة والجسمية ... إلى آخر المصطلحات البدعية التي جعلوا نفيها أصولاً وأنفقوا الأعمار والمداد في شرحها ونفيها. ولو أنهم قالوا: الكون مخلوق وكل مخلوق لابد له من خالق لكان أيسر وأخص, مع أنه ليس الدليل الوحيد, ولكنهم تعمّدوا موافقة الفلاسفة حتى في ألفاظهم.
الثالث: التوحيد:(30/422)
التوحيد عند أهل السنة والجماعة معروف بأقسامه الثلاثة, وهو عندهم أول واجب على المكلف، أما الأشاعرة قدماؤهم ومعاصروهم, فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي حسب تعبيرهم "نفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة", ومن هذا المعنى فسروا الإله بأنه: الخالق أو القادر على الاختراع, وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعين؛ لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم.
أما التوحيد الحقيقي ولا يقابله من الشرك ومعرفته والتحذير منه فلا ذكر لها في كتب عقيدتهم إطلاقا ولا أدري أين يضعونه أفي كتب الفروع؟ فليس فيها, أم يتركونه بالمرة؟ فهذا الذي أجزم به.
أما أول واجب عند الأشاعرة فهو النظر أو القصد إلى النظر أو أول جزء من النظر أو ... إلى آخر فلسفتهم المختلف فيها وعندهم أن الإنسان إذا بلغ سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان, واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو في أثنائه, أيحكم له بالإسلام أم بالكفر؟!
وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ويقولون: إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد, ورجح بعضهم كفره, واكتفى بعضهم بتعصيته، وهذا ما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر- رحمه الله - ونقل أقوالا كثيرة في الرد عليهم, وإنّ لازم قولهم تكفير العوام بل تكفير الصدر الأول (1) .
الرابع: الإيمان:
الأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية أجمعت كتبهم قاطبة على أن الإيمان هو التصديق القلبي، واختلفوا في النَطق بالشهادتين أيكفي عنه تصديق القلب أم لابد منه، قال صاحب الجوهرة:
والنطق فيه الخلف بالتحقيق
وفسر الإيمان بالتصديق
وقد رجح الشيخ حسن أيوب من المعاصرين أن المصدّق بقلبه ناج عند الله وإن لم ينطق بهما ومال إليه البوطي. فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يقول عمه أبو طالب: "لا إله إلا الله"؛ لأنه لاشك في تصديقه له بقلبه، وهو ومن شابهه على مذهبهم من أهل الجنة!!(30/423)
هذا وقد أوّلوا كل آية أو حديث ورد في زيادة الإيمان ونقصانه أو وصف بعض شعبه بأنها إيمان أو من الإيمان.
ولهذا أطال شيخ الإسلام - رحمه الله - الرد عليهم بأسمائهم كالأشعري والباقلاني والجويني وشراح كتبهم وقرر أنهم على مذهب جهم بعينه. وفى رسالتي فصل طويل عن هذه القضية فلا أطيل به هنا.
الخامس: القرآن:
وقد أفردت موضوعه لأهميته القصوى، وهو نموذج بارز للمنهج الأشعري القائم على التلفيق الذي يسميه الأشاعرة المعاصرون "التوفيقية"حيث انتهج التوسط بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في كثير من الأصول فتناقض واضطرب.
فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق, وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل وسمعه موسى- عليه السلام- ويسمعه الخلائق يوم القيامة.
ومذهب المعتزلة أنه مخلوق.
أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية - التي لم يحالفها التوفيق - فرّقوا بين المعنى واللفظ. فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء.
واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما
أما الكتب المنزلة ذات الترتيب والنظم والحروف - ومنها القرآن - فليست هي كلامه تعالى على الحقيقة بل هي "عبارة"عن كلام الله النفسي. والكلام النفسي شيء واحد في ذاته لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراة, وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل, وإن جاء بالعربية فهو قرآن، فهذه الكتب كلها مخلوقة ووصفها بأنها كلام الله مجاز لأنها تعبير عنه.(30/424)
واختلفوا في القرآن خاصة فقال بعضهم: "إنّ الله خلقه أولا في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا "فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -, وقال آخرون: "إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي وأفهمه جبريل لمحمد- صلى الله عليه وسلم-, فالنزول نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال " (لأنهم ينكرون علو الله) ثم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي من هو؟ فقال بعضهم: "هو جبريل"، وقال بعضهم: "بل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -"!!.
واستدلوا بمثل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} في سورتي الحاقة والانشقاق حيث أضافه في الأولى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -, وفي الأخرى إلى جبريل بأن اللفظ لأحد الرسولين "جبريل أو محمد"وقد صرح الباقلاني بالأول وتابعه الجويني.
قال شيخ الإسلام: "وفي إضافته تعالى إلى هذا الرسول تارة وإلى هذا تارة دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء لا إضافة إحداث لشيء منه وإنشاء كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال انه قول البشر من مشركي العرب".
وعلى القول أن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون وصرحوا، فكشفوا بذلك ما أراد شارح الجوهرة أن يستره حين قال: "يمتنع أن يقال إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم".
السادس: القدر:
أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب وهي في مآلها جبرية خالصة؛ لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير, أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمهما فضلا عن إفهامها لغيرهم ولهذا قيل:
معقولة تدنوا إلى الأفهام
مما يقال ولا حقيقة تحته
عند البهشمى وطفرة النظام
الكسب عند الأشعري والحال
ولهذا قال الرازي الذي عجز هو الآخر عن فهمها: "إن الإنسان مجبور في صورة مختار".(30/425)
أما البغدادي فأراد أن يوضحها فذكر مثالا لأحد أصحابه في تفسيرها شبّه فيه اقتران قدرة الله بقدرة العبد مع نسبة الكسب إلى العبد "بالحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ويقدر آخر على حمله منفردا به فإذا اجتمعا جميعا على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملا"!!
وعلى مثل هذا المثال الفاسد يعتمد الجبرية وبه يتجرأ القدرية المنكرون؛ لأنه لو أن الأقوى من الرجلين عذب الضعيف وعاقبه على حمل الحجر فانه يكون ظالما باتفاق العقلاء، لأن الضعيف لا دور له في الحمل، وهذه المشاركة الصورية لا تجعله مسؤولا عن حمل الحجر.
والإرادة عند الأشاعرة معناها "المحبة والرضا"وأوّلوا قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} بأنه لا يرضاه لعباده المؤمنين! فبقي السؤال واردا عليهم: وهل رضيه للكفار أم فعلوه وهو لم يرده؟.
وفعلوا بسائر الآيات مثل ذلك.
ومن هذا القبيل كلامهم في الاستطاعة، والحاصل أنهم في هذا الباب خرجوا عن المنقول والمعقول ولم يعربوا عن مذهبهم فضلا عن البرهنة عليه!! .
السابع: السببية وأفعال المخلوقات:
يُنكر الأشاعرة الربط العادي بإطلاق وأن يكون شيء يؤثر في شيء وأنكروا كل "باء سببية"في القرآن، وكفّروا وبدّعوا من خالفهم ومأخذهم فيها هو مأخذهم في القدر، فمثلا عندهم: من قال: "إن النار تحرق بطبعها أوهي علة الإحراق فهو كافر مشرك؛ لأنه لا فاعل عندهم إلا الله مطلقا حتى أن أحد نحاة الأندلس من دولة الموحدين التومرتية الأشعرية هدم "نظرية العامل"عند النحاة مدَّعيا أن الفاعل هو الله!!
ومن قال عندهم: إن النار تحرق بقوة أودعها الله فيها فهو مبتدع ضال، قالوا: إنّ فاعل الإحراق هو الله ولكن فعله يقع مقترنا بشيء ظاهري مخلوق، فلا ارتباط عندهم بين سبب ومسبب أصلا, وإنما المسألة اقتران كاقتران الزميلين من الأصدقاء في ذهابهما وإيابهما.
ومن متونهم في العقيدة:
للواحد القهار جل وعلا(30/426)
والفعل في التأثير ليس إلا
فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالطبع أو بالعلة
فذاك بدعي فلا تلتفت
ومن يقل بالقوة المودعة
والغريب أن هذا هو مذهب ما يسمى المدرسة الوضعية من المفكرين الغربيين المحدثين ومن وافقهم من ملاحدة العرب، وما ذاك إلا لأن الأشاعرة والوضعيين كلاهما ناقل عن الفكر الفلسفي الإغريقي.
الثامن: الحكمة الغائبة:
ينفي الأشاعرة قطعا أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد ذلك الفعل أو عدمه، وهذا نص كلامهم تقريبا، وهو رد فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن وقالوا إن كونه يفعل شيئا لعلة ينافي كونه مختارا مريدا. وهذا الأصل تسميه بعض كتبهم "نفي الغرض عن الله" ويعتبرونه من لوازم التنزيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعليق لصفة أخرى- كالحكمة مثلا- بها، ورتبوا على هذا أصولا فاسدة كقولهم بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه ويخلد في الجنة أفجر الكفار، وجواز التكليف بما لا يطاق ونحوها.
وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة أو المشيئة والرحمة. ولهذا لم يثبت الأشاعرة الحكمة مع الصفات السبع واكتفوا بإثبات الإرادة مع أن الحكمة تقتضي الإرادة والعلم وزيادة حتى أن من المعاصرين من أضافها مثل سعيد حوى.
التاسع: النبوات:(30/427)
يختلف مذهب الأشاعرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في النبوات اختلافا بعيدا، فهم يقرّرون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة - كما في الفقرة السابقة - ثم يقررون أنه لا دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلا المعجزة، ثم يقرّرون أن أفعال السحرة والكُهّان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي، قالوا: ولو ادّعى الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه الله معرفة السحر رأسا وإلا كان هذا إضلالا من الله وهو يمتنع عليه الإضلال ... إلى آخر ما يقررونه مما يخالف المنقول والمعقول، ولضعف مذهبهم في النبوات مع كونها من أخطر أبواب العقيدة إذ كل أمورها متوقفة على ثبوت النبوة أغروا أعداء الإسلام بالنيل منه واستطال عليهم الفلاسفة والملاحدة.
والصوفية منهم كالغزالي يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً فيقولون: "هو انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي".
أما في موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن الأنبياء ويؤوِّلون الآيات والأحاديث الكثيرة تأويلا متعسّفا متكلّفا كالحال في تأويلات الصفات.
العاشر: التحسين والتقبيح:(30/428)
ينكر الأشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أيّ دور في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ويقولون: مردّ ذلك إلى الشرع وحده، وهذا رد فعل مغال لقول البراهمة والمعتزلة: إن العقل يوجب حسن الحسن وقبح القبيح، وهو مع منافاته للنصوص مكابرة للعقول، ومما يترتب عليه من الأصول الفاسدة قولهم: إن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل فإلغاء دور العقل بالمرة أسلم من نسبة القبح إلى الشرع مثلا, ومثلوا لذلك بذبح الحيوان فإنه إيلام له بلا ذنب وهو قبيح في العقل ومع ذلك أباحه الشرع، وهذا في الحقيقة هو قول البراهمة الذين يحرمون أكل الحيوان, فلما عجز هؤلاء عن رد شبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا حكم العقل من أصله وتوهموا أنهم بهذا يدافعون عن الإسلام. كما أن من أسباب ذلك مناقضة أصل من قال بوجوب الثواب والعقاب على الله بحكم العقل ومقتضاه.
الحادي عشر: التأويل:
ومعناه المبتدع: "صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لقرينة", فهو بهذا المعنى تحريف للكلام عن مواضعه كما قرَّر ذلك شيخ الإسلام.
وهو أصل منهجي من أصول الأشاعرة وليس هو خاصا بمبحث الصفات بل يشمل أكثر نصوص الإيمان, خاصة ما يتعلق بإثبات زيادته ونقصانه وتسمية بعض شعبه إيمانا ونحوها, وكذا بَعض نصوص الوعد والوعيد, وقصص الأنبياء, خصوصا موضوع العصمة، وبعض الأوامر التكليفية أيضا.
وضرورته لمنهج عقيدتهم أصلها أنه لما تعارضت عندهم الأصول العقلية التي قرروها بعيدا عن الشرع مع النصوص الشرعية وقعوا في مأزق رد الكل أو أخذ الكل فوجدوا في التأويل مهربا عقليا ومخرجا من التعارض الذي اختلقته أوهامهم ولهذا قالوا إننا مضطرون للتأويل وإلا أوقعنا القرآن في التناقض. وإنّ الخلف لم يؤوِّلوا عن هوى ومكابرة وإنما عن حاجة واضطرار؟ فأي تناقض في كتاب الله يا مسلمون نضطر معه إلى رد بعضه أو الاعتراف للأعداء بتناقضه؟.(30/429)
وقد اعترف الصابوني بأن في مذهب الأشاعرة "تأويلات غريبة"فما المعيار الذي عرف به الغريب من غير الغريب؟
وهنا لابد من زيادة التأكيد على أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقا ولا يوجد نص واحد - لا في الصفات ولا غيرها - اضطر السلف إلى تأويله ولله الحمد، وكل الآيات والأحاديث التي ذكرها الصابوني وغيره تحمل في نفسها ما يدل على المعنى الصحيح الذي فهمه السلف منها والذي يدل على تنزيه الله تعالى دون أدنى حاجة إلى التأويل.
أما التأويل في كلام السلف فله معنيان:
1 ـ التفسير كما تجد في تفسير الطبري ونحوه "القول في تأويل هذه الآية"أن تفسيرها.
2 ـ الحقيقة التي يصير إليها الشيء كما في قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} أي تحقيقها, وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي تحقيقه ووقوعه.
أما التأوّل فله مفهوم آخر: راجع الحاشية.
وإن تعجب فاعجب لهذه اللفظة النابية التي يستعملها الأشاعرة مع النصوص وهي أنها "توهم"التشبيه ولهذا وجب تأويلها, فهل في كتاب الله إيهام أم أن العقول الكاسدة تتوهم والعقيدة ليست مجال توهم.
فالعيب ليس في ظواهر النصوص -عياذا بالله- ولكنه في الأفهام بل الأوهام السقيمة. أما دعوى أن الإمام أحمد استثنى ثلاثة أحاديث وقال لابد من تأويلها فهي فرية عليه افتراها الغزالي في (الإحياء وفيصل التفرقة) ونفاها شيخ الإسلام سندا ومتنا.(30/430)
وحسب الأشاعرة في باب التأويل ما فتحوه على الإسلام من شرور بسببه فإنهم لما أوَّلوا ما أوّلوا تبعتهم الباطنية, واحتجت عليهم في تأويل اَلحلال والحرام والصلاة والصوم والحج والحشر والحساب، وما من حجة يحتج بها الأشاعرة عليهم في الأحكام والآخرة إلا احتجّ الباطنية عليهم بمثلها أو أقوى منها من واقع تأويلهم للصفات. وإلا فلماذا يكون تأويل الأشاعرة لعلو الله الذي تقطع به العقول والفطر والشرائع تنزيها وتوحيدا, وتأويل الباطنية للبعث والحشر كفرا وردة؟ .
أليس كل منهما ردّاً لظواهر النصوص مع أن نصوص العلو أكثر وأشهر من نصوص الحشر الجسماني؟. ولماذا يكفّر الأشاعرة الباطنية ثم يشاركونهم في أصل من أعظم أصولهم؟
الثاني عشر: السمعيات:
يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
1ـ قسم مصدره العقل وحده وهو معظم الأبواب, ومنه باب الصفات, ولهذا يسمون الصفات السبع "عقلية"وهذا القسم هو"ما يحكم العقل بوجوبه"دون توقف على الوحي عندهم.
2ـ قسم مصدره العقل والنقل معا كالرؤية -على خلاف بينهم فيها-, وهذا القسم هو"ما يحكم العقل بجوازه استقلالا أو بمعاضدة الوحي".
3ـ قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات أي المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان, وهو عندهم: مالا يحكم العقل باستحالته لكن لو لم يرد به الوحي لم يستطع العقل إدراكه منفردا, ويدخلون فيه التحسن والتقبيح والتحليل والتحريم.(30/431)
والحاصل أنهم في صفات الله جعلوا العقل حاكما, وفى إثبات الآخرة جعلوا العقل عاطلا, وفى الرؤية جعلوه مساويا. فهذه الأمور الغيبية نتفق معهم على إثباتها لكننا نخالفهم في المأخذ والمصدر، فهم يقولون عند ذكر أيّ أمر منها نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته ولأن الشرع جاء به ويكرِّرون ذلك دائما، أما في مذهب أهل السنة والجماعة فلا منافاة بين العقل والنقل أصلا, ولا تضخيم للعقل في جانب وإهدار في جانب, وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبداً, كما أنه ليس هناك أصل منها لا يستطيع العقل إثباته أبدا.
فالإيمان بالآخرة وهو أصل كل السمعيات ليس هو في مذهب أمل السنة والجماعة سمعيا فقط بل إن الأدلة عليه من القرآن هي في نفسها عقلية كما أن الفطر السليمة تشهد به فهو حقيقة مركوزة في أذهان البشر ما لم يحرفهم عنها حارف. لكن لو أن العقل حكم باستحالة شيء من تفصيلاته -فرضا وجدلا- فحكمه مردود وليس إيماننا به متوقفا على حكم العقل. وغاية الأمر أن العقل قد يعجز عن تصوره أما أن يحكم باستحالته فغير وارد ولله الحمد.
الثالث عشر: التكفير:
التكفير عند أهل السنة والجماعة حق لله تعالى لا يطلق إلا على من يستحقه شرعا ولا تردد في إطلاقه على من ثبت كفره بشروطه الشرعية.
أما الأشاعرة فهم مضطربون اضطرابا كبيرا فتارة يقولون: "نحن لا نكفّر أحدا", وتارة يقولون: "نحن لا نكفِّر إلا من كفّرنا", وتارة يكفّرون بأمور لا تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع, وتارة يكفّرون بأمور لا توجب مجرد التفسيق, وتارة يكفّرون بأمور هي نفسها شرعية ويجب على كل مسلم أن يعتقدها.
فأما قولهم: "لا نكفّر أحدا"فباطل قطعا؛ إذ في المنتسبين إلى الإسلام فضلا عن غيرهم كفّار لاشك في كفرهم, وأما قولهم: "لا نكفّر إلا من كفّرنا"فباطل كذلكَ؛ إذ ليس تكفير أحد لنا بمسوِّغ أن نكفِّره إلا إذا كان يستحق ذلك شرعا.(30/432)
وأما تكفير من لا يستحق سوى التبديع فمثل تصريحهم في أغلب كتبهم بتكفير من قال: "إن الله جسم لا كالأجسام"وهذا ليس بكافر بل هو ضال مبتدع؛ لأنه أتى بلفظ لم يرد به الشرع, والأشاعرة تستعمل ما هو مثله وشر منه. وأما تكفير من لا يستحق حتى مجرد الفسق أو المعصية فكما مرّ في الفقرة السابعة من تكفيرهم من قال: "إن النار علة الإحراق والطعام علة الشبع".
وأما التكفير بما هو حق في نفسه يجب اعتقاده فنحو تكفيرهم لمن يثبت علو الله ومن لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام, وكقولهم: "إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر"كقولهم: "إنّ عبادة الأصنام فرع من مذهب المشبهة"ويعنون بهم أهل السنة والجماعة.
ومن شواهد تكفير بعضهم قديما وحديثا لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم حسبك ما في كتب الكوثري وتلميذه مؤلف براءة الأشعريين.
الرابع عشر: الصحابة والإمامة:
من خلال استعراض لأكثر أمهات كتب الأشاعرة وجدت أن موضوع الصحابة هو الموضوع الوحيد الذي يتفقون فيه مع أهل السنة والجماعة وقريب منه موضوع الإمامة. ولا يعني هذا الاتفاق التام بل هم مخالفون في تفصيلات كثيرة, لكنها ليست داخلة في بحثنا هنا؛ لأن غرضنا -كما في سائر الفقرات- إنما هو المنهج والأصول.
الخامس عشر: الصفات:
والحديث عنها يطول وتناقضهم وتحكمهم فيها أشهر وأكثر، وكل مذهبهم في الصفات مركب من بدع سابقة وأضافوا إليه بدعا أحدثوها فأصبح غاية في التلفيق المتنافر.
ولن أتحدث عن هذا الباب هنا لأنني التزمت ببيان الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة عدا الصفات. أما مخالفتهم في الصفات فمعروفة, وإن كان كثير من أسس نظرياتهم فيها يحتاج لتجلية ونسف. ولعل هذا ما يكون في الرد المتكامل بإذن الله.
هل بقي شك؟(30/433)
بعد هذه المخالفات المنهجية في أبواب العقيدة كلها, وبعد هذا التميّز الفكري الواضح لمذهب الأشاعرة, إضافة إلى التميّز التاريخي هل بقى شك في خروجهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو مذهب السلف الصالح؟.
لا أظن أيّ عارف بالمذهبين ولو من خلال ما سبق هنا يتصور ذلك.
ومع هذا فسوف أضيف فوارق منهجية أخرى وضوابط في علم الفرق والمقالات لا يشك في صدقها مطَّلع بل سأكتفي بفارق واحد وضابط واحد:
فارق منهجي نموذجي: التناقض ومكابرة العقل:
ليس هناك مذهب أكثر تناقضا من مذهب الأشاعرة اللهم إلا مذهب الرافضة, لكن الرافضة كما قال الإمام أحمد: "ليست الرافضة من الإسلام في شيء", وكما قال شيخ الإسلام: "إن الرافضة قوم لا عقل لهم ولا نقل"، أما هؤلاء فيدّعون العقل ويحكَّمونه في النقل ثم يتناقضون تناقضا يبرأ منه العقل, ويخلو مذهب أهل السنة والجماعة من أدنى شائبة منه ولله الحمد، وكما سيلاحظ القارئ هنا يرجع معظم تناقضهم إلى كونهم لم يسلّموا للوحي تسليما كاملا, ويعرفوا للعقل منزلته الحقيقية وحدوده الشرعية, ولم يلتزموا بالعقل التزاما واضحا, ويرسموا منهجا عقليا متكاملا كالمعتزلة والفلاسفة بل خلطوا وركبوا فتناقضوا واضطربوا.
وإليك أمثلة سريعة للتناقض ومكابرة العقل:
1- قالوا: "إنه لا يجوز أن يرى الأعمى بالمشرق البقعة بالأندلس".
2- قالوا: "إن الجهة مستحيلة في حق الله"ثم قالوا بإثبات الرؤية, ولهذا قيل فيهم: "من أنكر الجهة وأثبت الرؤية فقد أضحك الناس على عقله".(30/434)
3- قالوا: "إن لله سبع صفات عقلية يسمونها (معاني) هي: "الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام", ولم يكتفوا بهذا التحكّم المحض، بل قالوا: "إن له سبع صفات أخرى يسمونها (معنوية) وهي "كونه حيا, وكونه عالما, وكونه قادرا, وكونه مريدا, وكونه سميعا, وكونه بصيرا, وكونه متكلما"ثم لم يأتوا في التفريق بين المعاني والمعنوية بما يستسيغه عقل, بل غاية ما قالوا: "إن هذه الأخيرة أحوال فإذا سألتهم ما الحالي؟ قالوا: "صفة لا معدومة ولا موجودة…"
4- قالوا: "إنه لا أثر لشيء من المخلوقات في شيء, ولا فعل مطلقا", ثم قالوا: "إن للإنسان كسبا يجازى لأجله، فكيف يجازى على مالا أثر له فيه مطلقا" (راجع فقرتي: السادس والسابع) .
5- قالوا: بنفي الحكمة والتعليل في أفعاله الله مطلقا, ثم إنّ الله يجعل لكل نبي معجزة لأجل إثبات صدق النبي فتناقضوا بين ما يسمُّونه (نفي الحكمة والغرض) وبين إثبات الله للرسول تفريقا بينه وبين المتنبئ.
6- قالوا: بأن أحاديث الآحاد مهما صحَّت لا يبنى عليها عقيدة ثم أسَّسوا مذهبهم وبنوه في أخطر الأصول والقضايا (الإيمان، القرآن، العلو) على بيتين غير ثابتين عن شاعر نصراني- الأخطل- هما:
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
(1) إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
من غير سيف ودم مهراق
(2) قد استوى بشر على العراق
7- قالوا: بأن رفع النقيضين محال -وهو كذلك- محتجين بها في مسائل, ثم قالوا في صفة من أعظم وأبيَنِ الصفات (العلو) : "إنّ الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله…"وقالوا عن الأحوال: هي صفات لا معدومة ولا موجودة فرفعوا النقيضين معا.(30/435)
8- قالوا: "إن العقل يقدَّم على النقل عند التعارض, بل العقل هو الأصل, والنقل إن وافقه قُبِل وإن خالفه رد أو أوّل"، ثم قالوا: "إن العقل لا يحسّن شيئا ولا يقبحه "، فجعلوا -مثلا- نصوص علو الله معارضة للقواطع العقلية في حين جعلوا قبح الزنا والكذب مسألة سمعيه ...
9- قالوا: "إنّ تأويل آيات الصفات واجب يقتضيه التنزيه وتأويل آيات الحشر والأحكام كفر يخرج من الملة" ... أما من دعا غير الله أو ذبح له واستغاث به أو تحاكم إلى الطاغوت فلم يتعرضوا لذكره أصلا.
10- قالوا: "إن من قال: إن النار تحرق بطبعها كافر مشرك, ومن أنكر علو الله على خلقه موّحد منزّه".
11- جزموا بأن من لم يبلغه الشرع غير مؤاخذ بإطلاق, وردّوا أو أوّلوا النصوص في ذلك. ثم قالوا: "إن على كل مكلف -وان كان مولودا من أبوين مسلمين في ديار الإسلام وهو يظهر الإسلام- عليه إذا بلغ سنّ التكليف أن ينظر في حدوث العالم ووجود الله", فإن مات قبل النظر أو في أثنائه اختلفوا في الحكم بإسلامه, وجزم بعضهم بكفره.
هذا غيض من فيض من تناقضهم مع أصولهم ومكابرتهم للعقل السليم, ومن أراد الاستزادة والتفصيل فليراجع التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وهناك قضية بالغة الخطورة لاسيما في هذا العصر وهى الأخطاء العلمية عن الكون التي تمتلئ بها كتب الأشاعرة والتي يتخذها الملاحدة، وسيلة للطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم.
من ذلك ما حشده صاحب المواقف في أول كتابه من فصول طويلة عن الفلك والحرارة والضوء والمعادن وغيرها مما قد يكون ذا شأن في عصره لكنه اليوم أشبه بأساطير اليونان أو خرافات العجائز.(30/436)
ومن ذلك قول البغدادي: "إن أهل السنة أجمعوا على وقوف الأرض وسكونها". واستدل على ذلك في كتابه أصول الدين "بمعنى اسم الله الباسط"قال: "لأنه بسط الأرض وسماها بساطا خلاف زعم الفلاسفة والمنجمين أنها كروية" , ومثله صاحب المواقف الذي أكد أنها مبسوطة وأن القول بأنها كرة من زعم الفلاسفة.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان أعظمه حين قال:
"والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين.
وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع".
ضابط من ضوابط معرفة الفرق واختلافها:
من المعلوم لدى الباحثين في الفرق واختلافها أن لكل فرقة أساسا منهجيا تتفق عليه طوائفها وترجع إليه أصولها وقواعدها, ومن خالف فيه خرج عن انتسابه لها, ومن لم ينطبق عليه لم يدخل فيها.
فمثلا كل من قال بالأصول الخمسة فهو معتزلي, وكل من قال: "إن الإنسان مجبور على أفعاله فهو جبري", وكل من قال: "إن الإيمان هو المعرفة أو التصديق فهو مرجئ", وكل من قال بالكلام النفسي والكسب فهو أشعري ... إلى آخر ما هو معروف.
وهذا ضابط منهجي يحدّد به الباحث الفرقة والانتماء إليها.
وبتطبيق هذا الضابط الذي لا خلاف في تحديده يتبين قطعا أن المرجئة والقدرية والمعتزلة ليسوا من أهل السنة والجماعة وهذا ما تقوله الأشاعرة ولا تخالف فيه.
ومن الثابت عن كثير من السلف وعليه جرى المصنفون في الفرق والمقالات من أهل السنة والأشاعرة أن أصول الفرق الثنتين وسبعين الخارجة عن أهل السنة والجماعة أربع "القدرية، والشيعة، والخوارج، والمرجئة".
فنقول بعد ذلك:
إذا كان المرجئ والقدري ليسا من أهل السنة فما حكم من جمع بين الإرجاء والقدر أو الإرجاء والجبر أو جمع بين أصول المعتزلة وقول الرافضة؟.(30/437)
أيكون هذا من أهل السنة والجماعة؟ أم أكثر بعدا عنهم؟.
والجواب الطبيعي معروف. وعليه نقول:
1ـ إذا كانت المرجئة الخالصة (أي التي لم تخلط بالإرجاء شيئا من البدع في الصفات أو غيرها) ليست هي أهل السنة والجماعة ولا منهم، فكيف يكون حال الأشاعرة الذين جاءوا بالإرجاء كاملا، وزادوا عليه بدعاً أخرى في أبواب العقيدة الأخرى كما مر سابقا.
2- إذا كانت الجبرية الخالصة ليست هي أهل السنة والجماعة ولا منهم فكيف يكون حال الأشاعرة الذين جاءوا بالكسب (الذي اعترف كثير منهم بأنه جبر وإن لم يكن جبرا فهو بدعة على أي حال) وزادوا عليه كما سبق.
أضف إلى هذا أن كل ذم للصوفية فللأشاعرة منه نصيب لأن أكثر أئمة الصوفية المنحرفين كالغزالي وابن القشيري كانوا أشاعرة ...
3- هل يرضى الأشاعرة أن يقال عنهم معتزلة فإن قالوا: لا وهو المتوقع قلنا: وأهل السنة والجماعة لا يرضون أن يقال عنهم أشاعرة أبدا، فإن خالفونا قلنا: تعالوا لنقيس نحن وأنتم المسافة بينكم وبيننا, وبينكم وبين المعتزلة, وعندها ترون أنكم أقرب إليهم منكم إلينا وإن كنتم أقرب إلينا منهم.
4- لو أن أيّ باحث في الفرق يعرف أصولها وضوابط تحديدها اطلع على كتب فرقة من الفرق أو علم من الأعلام فوجدها مملوءة شتما وتضليلا وتبديعا وتكفيراً لفرقة معينة فهل يجوز له أن يكتب في بحثه أن هذه الفرقة وتلك سواء أو أن هذه جزء من هذه, وهل يقبل هذا منه أي أستاذ للفرق والمذاهب؟.
بل لو سمعت أحداً من العامة يشتم طائفة من الناس فقلت له: أنت منهم، أفيرضى بهذا أم يعتبره شتما له؟.
فما القول إذن في الأشاعرة الذين تمتلئ كتبهم بشتم وتضليل وتبديع أهل السنة والجماعة, وأحيانا بتكفيرهم أيصح بعد هذا أن نقول إنهم منهم؟.
وإن أردت التأكد فاسأل أي أشعري ما المراد بقول الرازي أو الجويني أو الإيجي… الخ. (الحشوية، المجسمة، النابتة، مثبتو الجهة، القائلون بأن الحوادث تحل في الله ... الخ) .(30/438)
إن الأجوبة كلها بديهية ولكن ماذا نصنع وقد ابتلينا بمن ينكر البديهيات.
أيهما الفرقة الناجية؟
قد أوضحنا فيما سبق أن أهل السنة والجماعة والأشاعرة فرقتان مختلفتان، وهذا يستلزم تحديد أيهما الفرقة الناجية؟.
وما أوضح هذا التحديد وأسهله، لكن مكابرة بعض الأشاعرة بادّعاء أن الأشاعرة وأهل السنة والجماعة كلاهما ناج يجعلنا نبدأ بإلقاء سؤال عن الفرقة الناجية:
أهي فرقة واحدة أم فرقتان؟
والجواب: مع بداهته لكل ذي عقل- مفروغ منه نصا، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في روايات كثيرة لحديث افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعن فرقة: أنها كلها في النار إلا واحدة.
وما قال صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا تابعيهم أنها اثنتان. وعليه جاء تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أن الطريق المستقيم: هو السنة, والسبل: هي الأهواء, وما هو إلا طريق واحد كما خط النبي صلى الله عليه وسلم بيده.
وعلى هذا سارت كتب الفرق- السني منها والبدعي- فهي تقرران الفرقة الناجية واحدة ثم تدّعي كل فرقة أنها هي هذه الواحدة.
بقى إذن أن يقال:
ما هي صفة هذه الفرقة وعلامتها؟
والجواب أنه جاء في بعض روايات الحديث نفسه - من طرق يقوي بعضها بعضا- أنها "ما أنا عليه وأصحابي" ومعناها قطعا صحيح، ولا تخالف فيه الأشاعرة بل في الجوهرة:
وكل شر في ابتداع من خلف
وكل الخير اتباع من سلف
فنقول لهم إذن:(30/439)
أكان مما عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسلف الأمة: تقديم العقل على النقل أو نفى الصفات ما عدا المعنوية والمعاني، أو الاستدلال بدليل الحدوث والقدم، أو الكلام عن الجوهر والعرض والجسم والحال ... أو نظرية الكسب، أو أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، أو القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، أو الكلام النفسي الذي لا صيغة له، أو نفي قدرة العبد وتأثير المخلوقات، أو إنكار الحكمة والتعليل ... إلى آخر ما في عقيدتكم؟
إننا نربأ بكل مسلم أن يظن ذلك أو يقوله.
بل نحن نزيدكم إيضاحا فنقول:
إن هذه العقائد التي أدخلتموها في الإسلام وجعلتموها عقيدة الفرقة الناجية بزعمكم, هي ما كان عليه فلاسفة اليونان ومشركو الصابئة وزنادقة أهل الكتاب.
لكن ورثها عنهم الجهم بن صفوان وبشر المريسي وابن كلاب, وأنتم ورثتموها عن هؤلاء، فهي من تركة الفلاسفة والابتداع وليست من ميراث النبوة والكتاب.
ومن أوضح الأدلة على ذلك أننا ما نزال حتى اليوم نرد عليكم بما ألّفه أئمة السنة الأولون من كتب في الردود على "الجهمية"كتبوها قبل ظهور مذهبكم بزمان، ومنهم الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والدارمي وابن أبي حاتم…
فدل هذا على أن سلفكم أولئك الثلاثة وأشباههم مع ما زدتم عليهم وركبتم من كلامهم من بدع جديدة.
على أن المراء حول الفرقة الناجية ليس جديدا من الأشاعرة فقد عقدوا لشيخ الإسلام ابن تيمية محاكمة كبرى بسبب تأليفه "العقيدة الواسطية"وكان من أهم التهم الموجهة إليه أنه قال في أولها: "فهذا اعتقاد الفرقة الناجية ... ".
إذ وجدوا هذا مخالفا لما تقرر لديهم من الفرقة الناجية هي الأشاعرة والماتريدية
وكان من جواب شيخ الإسلام لهم أنه أحضر أكثر من خمسين كتابا من كتب المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين كلها توافق ما في الواسطية وبعضها ينقل إجماع السلف على مضمون تلك العقيدة.
وتحدّاهم- رحمه الله- قائلا:(30/440)
"قد أمهلت كل لمن خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة ... يخالف ما ذكرت فأنا أرجع عن ذلك".
قال: "ولم يستطع المتنازعون مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه".
فهل يريد الأشاعرة المعاصرون أن نجدِّد التحدِّي ونمدد المهلة أم يكفى أن نقول لهم ناصحين:
إنه لا نجاة لفرقة ولا لأحد في الابتداع, وإنما النجاة كل النجاة في التمسك والاتباع ...
إن السفينة لا تجري على اليبس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
من أهل القبلة لا من أهل السنة:
تبين مما تقدم أن الأشاعرة فرقة من الثنتين وسبعين فرقة وأن حكم هذه الفرق الثنتين وسبعين هو:
1ـ الضلال والبدعة.
2ـ الوعيد بالنار وعدم النجاة.
وهذا مثار جدل كبير ولغط كثير ممن يجهلون منصب أهل السنة والجماعة في الوعد والوعيد إذ ما يكادون يسمعون هذا حتى يرفعوا عقيرتهم بأننا ندخل الأشاعرة النار ونحكم عليهم بالخروج من الملة -عياذا بالله-.
ونحن نقول إنه لا يصح تفسير ألفاظ أو إطلاقات مذهب السلف في الوعد والوعيد إلا من خلال أقوالهم هم وعلى الذين يجهلونه أن يستفصلوا قبل أن يتسرّعوا بادّعاء التكفير.
وهذا موجز لمذهب السلف في ألفاظ الوعيد ونصوصه:
1ـ فمن ألفاظ الوعيد "الضلال"وهو ليس مرادفا للكفر بإطلاق إلا عند من يجهلون أوضح بدهيات العقيدة، فإذا أطلق على أحد من القبلة فالمراد به المعصية في الاعتقادات كما أن لفظ "الفسق"يطلق على المعصية في الأعمال.
مع أن الضلال والفسق يطلقان على الكفر أيضا كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} , وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} .(30/441)
لكن إذا كانت كلمة الكفر نفسها تطلق في الأحاديث ولا يراد بها الكفر الأكبر المخرج من الملة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" فكيف بلفظتي الفسق والضلال اللتين دون ذلك في الوعيد.
والقرآن- على الصحيح- لم يأت فيه إطلاق الكفر إلا على الكفر الأكبر المخرج من الملة، أما الضلال فورد فيه بمعنى الانحراف عن الحق والصواب مطلقا غير وروده بمعنى الكفر كما سبق.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} . ومعلوم أنه ليس كل عاص كافرا.
وقوله تعالى عن أصحاب الجنة المذكورين في سورة القلم: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} , وهم لم يشهدوا على أنفسهم بالكفر.
وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} أي تخطئ فتذكرها الأخرى.
والحاصل أن قولنا إن الأشاعرة فرقة ضالة يعني أنها منحرفة عن طريق الحق ومنهج السنة, ولا يعني مطلقا خروجها عن الملة وأهل القبلة, وهذا يتضح بالفقرة التالية:
2ـ نصوص الوعيد ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "كلها في النار إلا واحدة" لها منهجها المنضبط في مذهب السلف عند الإطلاق وعند التعيين.
فنحن نعلم جميعا أن الله توعد قاتل النفس التي حرم الله والزاني وآكل مال اليتيم بالنار بصريح القرآن لكن هل يعني هذا أن كل قاتل وزان وآكل مال يتيم يدخل النار قطعا, وأننا لو رأينا أحدا منهم بعينه يجوز لنا أن نعتقد دخوله النار؟
ليس هذا من مذهب السلف أبدا، وإنما مذهب السلف أن هذه النصوص تبيّن وتقرّر حكم من فعل هذه الذنوب أما تحقق هذا الحكم فيه وتطبيق الوعيد وتنفيذه فيه فهو متوقف على شروط لابد من تحققها وموانع لابد من انتفائها.(30/442)
فقد يقتل الرجل نفسا مؤمنة متأوِّلاً مجتهداً -كما كان من اقتتال الصحابة رضي الله عنهم- ويكون هذا الذنب في حقه مثل النقطة السوداء في بحر من الحسنات وأعمال التقوى.
وقد يقتله ظالماً معتدياً وليس له رصيد من الخير يكفِّر عنه هذا الجرم.
فليس هذان عند الحكيم الخبير سواء, وليس حكمهما في مذهب السلف واحدا.
وكذلك الفرق بين زانٍ وزانٍ، شارب خمر وآخر، وسارق وسارق، وآكل مال يتيم ومثله…
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن شارب خمر, ومع هذا صح عنه النهي عن لعن الصحابي الذي شربها وجلده الحد فلعنه بعضهم فنهاه وشهد له بأنه يحب الله ورسوله.
فحب الله ورسوله في هذا المعيَّن مانع من تحقق الحكم المطلق فيه وهو الوعيد لشارب الخمر في الدنيا والآخرة.
وهكذا معاملة أهل القبلة في مجال العقيدة.
فإن أصحاب المناهج والفرق البدعية منهم من هو على الحد الأدنى منها وله مع ذلك علم وعبادة وجهاد وإخلاص في نصرة الدين, ومنهم من يكون رأسا في البدعة داعيا إليها بقصد وسوء نية بل وربما تكون هذه البدعة مجرد ستار لعقائد أخبث يضمرها في نفسه.
فمع اشتراك هذين في أصل المنهج وشمول الاسم لهما معا وتناول الوعيد المطلق لكل منهما يظل الفرق بينهما حقيقة قائمة لاشك فيها.
فالمنهج له حكمه والأفراد كلٌ بحسب حاله, وتقويم الفكرة في ذاتها غير تقويم حامليها كل على حدة.
حتى منهج السلف نفسه يتفاوت أصحابه فيه جدا فمنهم من هو في غاية التمسك به قولا وعملا واعتقادا ودعوة ومنهم من هو على الحد الأدنى منه.
بل نحن نقول إن بعض المنتسبين أو المنسوبين إلى مناهج بدعية ليس منهم أصلا ولكنه متوهم يحسب أنهم على الحق وإن الانتساب إليهم لا ضير فيه مع أنه لا يوافقهم في مذهبهم لو عرفه حق معرفته, أو أنهم مخطئون في نسبته لمذهبهم, ولو فتشنا لما وجدنا فيه مما يدعون شيئا.(30/443)
ولهذا كانت هذه الأمة- ولله الحمد- أكثر أهل الجنة مع أن الفرقة الناجية منها واحدة فقط، وما هذا إلا لأن المعدودين حقا من الفرق الثنتين وسبعين لا يساوون بالنسبة لسلف الأمة وخلفها إلا نزراً يسيراً, أما من اتبعهم عن جهل أو خطأ أو حسن نية أو تأثر بهم دون أن يشعر فله حكم آخر. والله تعالى حكم قسط ورحمته أوسع وفضله أعظم.
والحاصل أن أحكام الآخرة ومنازل الناس فيها خاضعة لأمر أحكم الحاكمين وأعدلهم، أما نحن في الدنيا مأمورون أن نحكم على كل منهج أو فرد بما حكم الله به عليه من غير إفراط ولا تفريط ونتقيد بالضوابط التي جاءت في مذهب السلف.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله- في مناظرته للأشاعرة والماتريدية أثناء المحاكمة التي أشرنا إليها:
"فأجبتهم عن الأسئلة:
بأن قولي اعتقاد الفرقة الناجية، هي الفرقة التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنجاة حيث قال: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
فهذا الاعتقاد (يعنى ما في الواسطية) هو المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضي الله عنهم- وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية؛ فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة بالأسانيد أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص"، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه, وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك.
ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا.
فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه, وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته.
بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا، كما يقال: "من صمت نجا"."ا. هـ.
وقال في الإيمان:(30/444)
"وكذلك سائر الثنتين وسبعن فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقا بل كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه, وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار.
ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- بل وإجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة، فليس فيهم من كفّر كل واحد من الثنتين وسبعن فرقة، وإنما يكفّر بعضهم بعضا (من تلك الفرق) ببعض المقالات، كما قد بسط عليهم في غير موضع"ا. هـ.
ولهذا نجد أن من كفّر الجهمية من السلف مثل ابن المبارك ووكيع أخرجوهم من الثنتين وسبعين فرقة وألحقوهم بالسبئية والغرابية وأمثالها.
وحتى في المناهج الجامعية نجد أن كليات أصول الدين مثل كليتي مكة والمدينة حاليا تفصِّل بين الفرق الخارجة عن الإسلام وبين الفرق الأخرى.
فالأمر واضح لا لبس فيه إلا عند المعاندين أو المعذورين من غير المتخصصين. وكيف يكون عند الأشاعرة لبس في موقف أهل السنة والجماعة منهم وهم يقفون نفس الموقف من المعتزلة فهم يصفونها بالضلال في كتبهم ولا يقولون أن هذا يعنى إخراجهم من الملة, فمن حقنا أن نلزمهم من واقع كتبهم.
وإذا تقرر هذا تبين أنه لا مبرر لمطالبة الأشاعرة بإدخالهم في أهل السنة والجماعة بدعوى أن هذا يجنّبهم تهمة الخروج من أهل القبلة؛ لأن ذلك يعني هدم هذه القاعدة كلها إذ لو أدخلناهم لأدخلنا غيرهم حتى لا يبقى من تلك الفرق الثنتين وسبعن فرقة إلا دخلت, وهذا ليس في أيدينا ولا في يد بشر إنما نحن متبعون لا مبتدعون.(30/445)
أما باب الدخول الحقيقي فمفتوح على مصراعيه فمن الذي منعهم أن يرجعوا إلى عقيدة أهل السنة والجماعة التي هي عقيدة القرون الثلاثة والأئمة الأربعة وسائر أئمة الهدى في هذه الأمة المعصومة؟
وهذا خير لهم في الدنيا والآخرة من بقائهم على بدعتهم وتفاخرهم بأنهم أقرب الفرق لأهل السنة والجماعة, وقد سمعت هذا التفاخر من بعضهم, فعجبت لمن يعرف الحق ويفتخر بقربه منه ثم لا يكون من أهله ودعاته.
ولكن لله في خلقه شؤون ...
وأخيرا: كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة:
ونأتي أخيرا إلى الشعار الذي اتخذه القوم ستارا للطعن في عقيدة السلف سراً وجهراً حتى إذا قام أحد يردّ عنها السهام صاحوا في وجهه: "لا تفرّق كلمة المسلمين، إنّ وحدة الكلمة أهم من هذه القضايا، لماذا تثير خلافات عفى عليها الزمان واندثرت؟ لماذا الاهتمام بالقشور والشكليات؟ ".
والحق أنه لو سكت كل أعداء الحق عن محاربته -ولن يسكتوا أبداً- لما جاز لنا أن نسكت عن بيانه للناس ودعوتهم إليه, فكيف يجوز أن نسكت وهو يُحَارب والذي يطالبنا بالسكوت هو المحارِب المهاجم.
هذه الأمة الممزّقة المقطّعة الأوصال يراد منا أن نسكت عن بيان طريق الخلاص لها وندعها تتخبط في ظلمات البدع حتى لا نفرِّقها بزعمهم, وكأن القوم لا يعلمون ما الذي فرّقها بعد أن كانت مجتمعة. إن دعوى تقديم توحيد الكلمة على كلمة التوحيد مصادمة للحق من جهة ولسنن الله في الحياة من جهة أخرى:
وأمام القائلين بها خياران لا ثالث لهما:
1ـ إما أن يلتزموا تعميم هذا الحكم على كل من انتسب للإسلام وعليه فلا يجوز أن نثير أو نبحث خلافاً أو نكتب رداً على أيّ فرقة تدّعي الإسلام كالقَاديانية والبهائية والدروز والنصيرية والروافض والبهرة والصوفية الحلولية وسائر الطَوائف الكافرة بل ندعوها جميعاً إلى جمع الصف ووحدة الكلمة لمحاربة الشيوعية والصهيونية وما منها إلا من هو مستعد لذلك إن صدقا وإن كذبا.(30/446)
ومن لوازم هذا -على كلامهم- حرق أو إخفاء كتب عقيدة الأشاعرة لأنها تثير الخلاف مع المعتزلة وغيرهم فهي إذن تمزّق الصف وتشتّت الكلمة بل هي كما يعلم الصابوني وأمثاله تشتم أهل السنة والجماعة وهم أكثر المسلمين، ومما يجب إعدامه أيضا مقالات الصابوني نفسها لأنه كرّر فيها حكمه بالتضليل للخوارج والرافضة وهذا بلا شك يُغضِب الشيعة والإباضية فهو-على كلامه- قد فرّق كلمة المسلمين أيّما تفريق!!
2ـ وإما أن يقولوا: كلا، لا يعم هذا الحكم كل المنتسبين للإسلام بل لابد من بيان كفر وضلال تلك الفرق وليس في ذلك تفريق ولا تمزيق، وإنما نريد توحيد صف أهل السنة والأشاعرة أو الفرق التي ليست ضالة ولا منحرفة!!
فنقول لهم حينئذ:
أولا: قد نقضتم قاعدتكم بأنفسكم فلا ترفعوا هذا الشعار إلا مقيَّداً مشروطاً إن كنتم صادقين، لكن أخبرونا بأيِّ معيار من معايير العدل تريدون السكوت عن إثارة الخلاف مع هذه وتحكمون بعدم ضلالها, ووجوب إثارته مع تلك وتحكمون بعدم ضلالهما, ووجوب إثارته مع تلك وتحكمون بضلالها؟! أنهاجم الإباضية ونتآخى مع الرافضة مثلا أم العكس؟ أو نشنّع على الرافضة ونصمت عن الصوفية؟ أم ماذا؟ ما هو المعيار؟ وهل هناك حقا فرق ضالة فأخبروني ما هو الضلال إذن؟ …
قد تقولون: "نتعاون جميعا فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ".
فنقول:(30/447)
إنه ما من فرقة ظهرت على الأرض تدّعي الإسلام إلا ونحن متفقون معها على أشياء ومختلفون على أشياء، حتى القاديانية نتفق معَها على الإيمان بالله وصحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- والإيمان بالآخرة وتعظيم القرآن، وهم يعلنون محاربة الشيوعية والصهيونية وغير ذلك، فإذا عذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه مثل نبوة أحمد القادياني ونسخ شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ونحوهما، فماذا تكون النتيجة؟ وهل ترضون ذلك أم نعود من جديد للمطالبة بالمعيار الذي به نرد القاديانية ونقبل غيرها مع إشراك الكل في أصل الضلال والانحراف.
إن سلمتم أنّ كل ضال لابد من بيان ضلاله وأن المسلمين لن يجتمعوا إلا على الحق فقد بيّنا لكم- وما نزال مستعدِّين لمزيد بيان- أن الأشاعرة فرقة ضالة عن المنهج الصحيح، فهاهي ذي إذن الفرصة الذهبية لتوحيد المسلمين، وهي أن يعلن الأشاعرة في كل مكان رجوعهم إلى مذهب السلف ومنهج الحق وحينئذ يتحقق هذا الحلم الرائع الجميل.
فإن لم تفعلوا فاعلموا أن غيركم أبعد عن الإجابة؛ لأنكم أنتم أقرب الفرق إلينا وترفضون فما بالكم بالبعيدين، فلا تناقضوا أنفسكم إذن وترفعوا شعار الوحدة وأنتم أول من يعاديه ويأباه، وتعلمون منافاته لسنة الله في المبتدعة والزائغين الذين أشربوا في قلوبهم البدعة بضلالهم. واعلموا أن هذا الشعار إن صلح في موقف سياسي أو حركي معيَّن فهو عن المبادئ والأصول أبعد شيء.
ثانيا: إن دعوتمونا إلى أن نتحد نحن وأنتم فقط ضد سائر الفرق كالخوارج والرافضة وغيرها, وضد الشيوعية ومن شايعها, قلنا: قد سهل الخطب إذن، لكن لابد لكم من بيان منطلق التوحيد وموقعه وذلك بان تلتزموا بوضوح بأحد قولين:
1ـ إما أنكم أنتم وحدكم أهل السنة والجماعة ولكن تقبلون التوحد معنا تنازلا وتفضُّلا على ما فينا بزعمكم من "تشبيه وتجسيم وحشو وكفر وضلال".(30/448)
2ـ وإما أنكم لستم من أهل السنة والجماعة ولكن تريدون التوحد معهم طالبين منهم التنازل والتفضّل بقبولكم على ما فيكم من بدعة وضلالة.
فإذا حدّدتم أحد الموقعين أمكن بعد ذلك عرض موضوعكم إما على أصول العقيدة وقواعدها إن اخترتم الأول وإما على ضوابط المصلحة وحدودها الشرعية إن أقررتم بالآخر, فأمامكم الخيار وإنا لفي الانتظار.
أما أن نظلّ نحن وأنتم مختلفين متصارعين منذ أيام أحمد بن حنبل وابن كلاب ثم أيام البربهاري والأشعري ثم أيام الشريف أبى جعفر وابن القشيري ثم أيام عبد القادر الجيلايى وأبي الفتوح الاسفرائيني ثم أيام شيخ الإسلام والسبكي ثم أيام محمد بن عبد الوهاب ومعاصريه منكم، ثم أيام المعلمي والكوثري ثم أيام الألباني وأبي غدة وأخيرا إلى الفوزان والصابوني ...
وبعد هذا كله ومعه تقولون إننا وإياكم فرقة واحدة ومنهج واحد فهذا مالا يعقله عقل ولا يصدِّقه تاريخ.
غير أننا لابد أن نذكِّر بحقيقة كبرى هي أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة"وهذا الخبر الصادق لا يمكن معه اختصار الفرق إلى سبعين ولا إلى سبع فضلا عن واحدة, فالخير إذن كل الخير أن يبحث الإنسان عن الحق ويعتقده ويدعو إليه وإن خالفته الدنيا كلها, وأن يجتنب الضلال ويدعو إلى نبذه ولو داهنه أصحابه كلهم، هذا هو الذي سار عليه رسل الله, وأمر به الله فلا تصادموا سنة الله وتخالفوا منهج رسله.
والحمد لله رب العالمين ...
---
(1) وانظر أيضا ص 156من الجزء نفسه. وهذا الكلام المنقول من ص 158 لابد أن الصابوني قرأه؛ لأنه استشهد بكلام بعده في ص 167 من الفتوى.(30/449)
(1) قائلها هو أبو محمد الجوينى والد أبو المعالي (توفى440) وقد رجع في آخر عمره إلى عقيدة السلف وشهد له بذلك شيخ الإسلام في مواضع، وكتب في توبته "النصيحة"المطبوعة مع المجموعة المنيرية وطبعها المكتب الإسلامي معزوة إلى ابن شيخ الحزاميين وهو خطأ. ومناسبة فتواه هذه هي صدور مراسيم سلطانية بلعن أصحاب البدع - ومنهم االأشاعرة - على المنابر، انظر المنتظم لابن الجوزي حوادث سنة 433 وما بعدها.
(2) وهي أول رسالة في المجلد الخامس من الفتاوي الكبرى (الطبعة الطويلة) وهي تشمل الجزء الخامس كله من الطبعة التي قدم لها مخلوف، وسمعت أنها تحقق بجامعة الإمام عام وهى جديرة بالعناية.
(3) مجموع الفتاوى: 6/ 359.
(4) وانظر عن القدامى: الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيح الإسلام كافر، وكتاب الحصني: دفع شبهة من شبّه وتمرّد. وللعلم فبعض هذه الكتب المعاصرة باسم مستعار، وممن اعترف بموقفهم من شيخ الإسلام الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ابن تيمية (ص 56) , ومن ذلك قول صاحب حواشي على شرح الكبرى للسنوسي قوله:"ابن تيمية … أي الحنبلي المشهور زنديق وبغضه للدين وأهله لا يخفى" (ص 62) وانظر في كتاب وهبى غاوجبى أركان الإيمان (ص 297 ـ 299) .
(5) ج 2 ص 163 تحقيق محمد رشاد سالم.
(6) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، تحقيق الأخ أحمد بن سعد بن حمدان 1/157-165.
(7) جامع بيان العلم وفضله 17/2 1 تحقيق عثمان محمد عثمان، وهو في 2/96 سن الطبعة المنيرية.
(8) توفي ابن سريج سنة 306, انظر تاريخ بغداد 4/ 290, وسير أعلام النبلاء14/201, والظاهر أنه توفي قبل رجوع الأشعري لمذهب السلف، والأشعري توفي 324 أو 330 على قولين. وانظر عقيدة ابن سريج في اجتماع الجيوش الإسلامية 62.(30/450)
(1) التسعينية: 238 - 239 وانظر شرح الأصفهانية: 31 من ج 5 من الفتاوى الكبرى نفسها, وانظر عن الكرجي وعقيدته: إجتماع الجيوش الإسلامية ومختصر العلو, وله ترجمة في طبقات الشافعية لابن السبكي وطبقات الشافعية لابن كثير.
(2) يلاحظ أن كلاً من الشافعية والحنابلة يدّعى الهروي لمذهبهم, ورجّح شيخ الإسلام أنه يأخذ من كليهما ويتبع الأثر. انظر (شيخ الإسلام عبد الله الهروي ص96) , وقوله فيهم نقله في التسعينية: 277 عن كتاب ذم الكلام وهو يحقق بجامعة الإمام كما قرأت. وانظر أيضا عن موقف الشافعية درء التعارض 2/106.
(3) انظر غير ما ذكر سير أعلام النبلاء ترجمة بشر 10/200 - 201، والحموية: 14 - 15 طبعة قصى الخطيب.
(4) انظر المنتظم لابن الجوزي أحداث سنة: 433، 469، 475، وغيرها ج8 وج9.
(5) ص81 - 89 و105 ـ 109.
(6) ومنها شرح الباجوري - أو البيجوري - على الجوهرة 1/82، طبعة محمد علي صبيح.
(7) انظر الاستقامة:105 وتبين كذب المفتري ابن عساكر410 بتحقيق الكوثري.
(8) بل إن متكلِّمي الأشاعرة الذين ينفون العلو بكل جرأة ويستندون إلى شبهات كثيرة، تجد في خبايا كلامهم إقراراً به دون أن يشعروا؛ لأن مغالبة الفطرة من أصعب الأمور, فالرازي مثلاً - مع إنكاره الشديد للعلو في (التأسيس والتفسير) قال في التفسير: "إنّ الله خسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمداً - صلى الله عليه وسلم - فجعله قاب قوسين تحته". 1/248. ط: بيروت.
(9) ترجمة الرازي: 4/ 426, والآمدي: 6/ 134.
(10) انظر فتح الباري: 1/ 46، 3/357-361, 13/347 ـ 350.
(11) انظر فتح الباري 1 /46، 3/357- 361، 13/347 350
(12) المصدر السابق: 13/ 253، 259، 407, وغيرها كثير.
(13) وقد رأينا في واقعنا المعاصر علماء فضلاء وافقوا الاشتراكيين أو الديمقراطيين أو القوميين في أشياء للأسباب نفسها. ولم يعدهم أحد اشتراكيين أو قوميين.(30/451)
(1) انظر سير أعلام النبلاء: 15/90، مقابلة الأشعري لإمام السنة في عصره "البربهارى"انظر ترجمته في طبقات الحنابلة ورسالته القيمة في السنة التي ساقها صاحب الطبقات.
(2) يلاحظ أن الدلائل النقلية تشمل نصوص الكتاب والسنة معا فكيف يقال إنها غير صحيحة دون تفريق بينهما، مع أن مجرد إطلاقها على السنة وحدها في غاية الخطورة.
(3) هل وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد أن الاشتغال بتأويلها - الذي هو تحريف لها - يعتبر تبرعا وإحسانا؟!
(4) انظر عن مصدر التلقي عندهم: درء تعارض العقل والنقل فهو كله رد عليهم, وقد استفتحه بذكر قانونهم الكلي في التعارض، أساس التقديس للرازي: 168_ 173، الشامل للجويني: 561، الإرشاد له: 359 _360، شرح الكبرى للسنوسي: 502, المواقف للإيجي: 39_40، مختصر الصواعق 33_ 258, مشكل الحديث لابن فورك: مقدمته وخاتمته, أصول الدين للبغدادي: 12، كبرى اليقينيان: محمد سعيد رمضان البوطي الإهداء 32 _33، الرسالة اللدنية للغزالي: 1/ 114_ 118 من مجموعة الفصور العوالي.
(5) انظر الأبواب الأولى من أي كتاب في عقيدتهم, ومجموع الفتاوى:2/7_23 وأول شرح الاصبهانية. ويلاحظ أن تعمدهم استخدام كلمة (حادث) سببه أنهم لو قالوا: "مخلوق"لألزمهم الفلاسفة بأن هذا هو موضع النزاع ولا يستدل بالدعوى على نفسها في نظرهم، مع هذا فالفلاسفة يقولون: الكون قديم ولا نسلم أنه حادث، فالأشاعرة كما قال شيخ الإسلام: "لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا".(30/452)
(1) عن هذه الفقرة انظر: نهاية الإقدام للشهرستاني: 90، شرح الكبرى: 304، غاية المرام للآمدي: 149، كبرى اليقينيات: 92_93، الله جل جلاله: سعيد حوى: 131, أركان الإيمان لوهبي غاوجي: 30. وبخصوص أول واجب والمعرفة الفطرية انظر: درء تعارض العقل والنقل ج 7، 8, 9 كلها, الإنصاف للباقلايى: 22، الإرشاد: 3, المواقف: 32-33, الشامل: 120، أصول الدين للبغدادي: 254_255، فتح الباري 3/357_361, 13/347 ـ 358.
(2) انظر الإنصاف: 55، الإرشاد: 397، غاية المرام: 311، المواقف: 384, الإيمان لشيخ الإسلام: أكثره رد عليهم فلا حاجة لتحديد الصفحات، تبسيط العقائد الإسلامية لحسن أيوب: 29_33, كبرى اليقينيات: 196.
(3) مجموع الفتاوى
(4) عن القرآن عندهم انظر: الإنصاف: 96_97 وما بعدها، الإرشاد: 128_137، أصول الدين: 107، الموافف: 293، شرح الباجوري على الجوهرة 64_66_84, متن الدردير 25 من مجموع مهمات المتون، التسعينية وقد استغرق موضوع الرد عليهم في القرآن أكثر مباحثها ومن أعظمها وأنفسها ما ذكره في الوجه السابع والسبعين فليراجع.
(5) الإنصاف: 45 ـ 46 بهوامش الكوثري، الإرشاد: 187_ 203، أصول الدين: 133، نهاية الإقدام: 77، المواقف: 311، شفاء العليل: 259- ا 26 وغيرها.
(6) المصادر السابقة في القدر، وشرح الكبرى: 184، شرح أم البراهين: 11،81,80 منظومة الدردير 240 وقد أفردناها عن القدر لأنهم يفردونها وقد يقدمونها باعتبارها من قضايا الكفر والإيمان!!.
وعن المدرسة الوضعية انظر "المنطق الوضعي"، زكي نجيب محمود فهو أحدهم.(30/453)
(1) انظر المواقف: 331، شرح الكبرى: 322_ 423، شرح أم البراهين 36، النبوات 163-.23، مجموع الفتاوى-: 16/299، وقد أطال ابن القيم في رد شبه الأشاعرة في شفاء العليل: انظر مثلا من 391 إلى 521، حيث رد عليهم من 36 وجهاً, ومنهاج السنة: 1/128 الطبعة القديمة, الله جل جلاله: 90 قد ذكر الحكمة ضمن الظواهر ولم يذكرها ضمن الصفات.
(2) انظر الإرشاد: 306، 356، نهاية الإقدام: 461، أصول الدين: 176، المواقف: 359- 361، غاية المرام: 318، الرسالة اللدنية: 1: 114،118 (من مجموعة القصور العوالي) .
(3) نهاية الإقدام: 370، شرح الكبر ى: 429، غاية المرام: 234. المواقف 323، مجموع الفتاوى 8/432_ 436, التسعينية: 247.
(4) نهاية الإقدام: 370، شرح الكبر ى: 429، غاية المرام: 234. المواقف 323، مجموع الفتاوى 8/432_ 436, التسعينية: 247.
(5) عن التأويل جملة انظر كتاب ابن فورك كاملا، والإنصاف: 56. 165، وغيرها, والإرشاد: فصل كامل له، أساس التقديس: فصل كامل أيضا. وعن الثلاثة الأحاديث انظر: إحياء علوم الدين طبعة الشعوب: 1/ 179 والرد عليه في مجموع الفتاوى 5/398, وانظر كذلك 6/397،580 تنبيه حول التأويل: التأوّل الذي يذكره الفقهاء في باب البغاة وقد يرد في بعض كتب العقيدة لا سيما في موضوع التكفير والاستحلال هو غير التأويل المذكور هنا وإن كانت أكثر الكتب تسمِّيه تأويلا وهو في الحقيقة تأوُّلاً لأن الفعل الماضي منه "تأوًل".(30/454)
فالتأوّل هو: وضع الدليل في غير موضعه باجتهاد أو هو شبه تنشأ من عدم فهم دلالة النص، وقد يكون المتأول مجتهدا مخطئا فيعذر, وقد يكون متعسّفا متوّها فلا يعذر, وعلى كل حال يجب الكشف عن حاله وتصحيح فهمه قبل الحكم عليه, ولهذا كان من مذهب السلف عدم تكفير المتأول حتى تقام عليه الحجة مثلما حصل مع بعض الصحابة الذين شربوا الخمر في عهد عمر متأولين قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية. ومثل هذا من أوّل بعض الصفات عن حسن نية متأوِّلا قوله تعالى: {ليس كمثله شئ} فهو مؤوِّل متأوّل ولا يكفر، ولهذا لم يطلق السلف تكفير المخالفين في الصفات أو غيرها؛ لأن بعضهم أو كثير منهم متأوِّلون، أما الباطنية فلا شك في كفرهم لأن تأويلهم ليس له أي شبهة بل أرادوا هدم الإسلام عمداً بدليل أنهم لم يكتفوا بتأويل الأمور الاعتقادية بل أوَّلوا الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج. الخ ...
(1) انظر الإرشاد: 358، 340، الإنصاف: 55، المواقف: 23, شرح الأصفهانية: 49، النبوات: 48، وانظر الجزء الثاني من مجموع الفتاوى 7- 27.
(2) انظر المواقف: 392، ومصادر المبحث "السابع "، أساس التقديس: 16، 196، شرح الكبرى 62, أركان الإيمان: 298-299.
(3) شرح الباجوري: 31، شرح الكبرى: 39، 210، 213، حاشية الدسوقي: 54- 70- 97، مصادر الموضوعات السابقة.
(4) يعنى بهم الأشاعرة كعادته هو وبعض أصحابه, ولهذا يجب التفطن لمثل هذا عند النقل من كتبهم.
(5) الفرق بين الفرق: 318.
(6) انظر ص 124.
(7) انظر المواقف: 199، 217، 219.
(8) الرد على المنطقيين: 311.
(9) ومن العجيب أن الماتريدية يخرجون الأشاعرة من أهل السنة ويدعونه لأنفسهم وهم أكثر فرقتين في الإسلام تقاربا واشتراكا في الأصول. انظر حاشية على لشرح العضدية: 38(30/455)
أما ما يتعلق بالخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة فهو برمته خلاف داخلي ضمن المدرسة العقلية التي هي مدرسة الهوى والبدعة, ولا بأس أن يستفيد أهل السنة من ردود الأشاعرة عليهم إذا كانت حقا.
(1) انظر تفصيل المناظرة في مجموع الفتاوى ج 3.
(2) انظر المصدر السابق: 169، 217.
(3) انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى: 12/ 479- 501.
(4) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة الكلام عن حديث 204.
(5) مجموع الفتاوى: 3/ 179.
(6) ص 206.(30/456)
إضطراب الناس في مسألة الكلام
مع بيان الحق الذي تدل عليه الأدلة وتشهد به الفطر السليمة
للشيخ عبد الكريم مراد
أستاذ مشارك بكلية الشريعة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: فهذا بيان موجز لأقوال الناس واضطرابهم في مسألة هي من أهم مسائل الدين وهي: مسألة الكلام مع بيان الحق الذي تدل عليه الأدلة وتشهد به الفطرة السليمة.
أقول وبالله التوفيق: الكلام والقول واحد, وهو في عرف الناس ولغاتهم اسم للفظ والمعنى معاً, فاللفظ بمفرده لا يسمى كلاماً ولا المعنى بمفرده كلاما إلا مع قرينة.
ولهذا تجد الكثيرين من المصنفين في أصول الفقه من جميع الطوائف من أتباع الأئمة الأربعة إذا تكلموا في الأمر والنهي ذكروا: أن الأمر والنهي هو اللفظ والمعنى معاً وخالفوا من قال: إن الأمر والنهي هو المعنى [1] قال الشيخ الموفق في روضة الناظر (2/63) : "وللأمر صيغة مبنية تدل بمجردها على كونها أمراً إذا تعرَّت عن القرائن وهي (إفعلْ) للحاضر و (لْيَفعل) للغائب, هذا قول الجمهور, وزعمت طائفة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر بناءً على خيالهم الفاسد: أن الكلام معنى قائم بالنفس, فخالفوا الكتاب والسنة واللغة والعرف.! "
وعلى هذا مضى السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يكن بينهم أي نزاع في مسمى الكلام ومعناه. وهل يعقل أن ينازعوا فيما هو من أجلى الأمور عند الناس مثل الماء والنار والرأس واليد ونحو ذلك.
والكلام تكلم به الأولون والآخرون منذ خلقوا, وهل يقول عاقل: إنهم ما فهموا معنى الكلام ومسماه.
ولوترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم الصحيحة لم يقع بينهم نزاع في مثل ذلك من الضروريات ولكن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فيَضلون ويُضلون غيرهم. ونعوذ بالله من فتن المضلِّين.(30/457)
وإنما حصل النزاع في معنى الكلام ومسماه عند المتأخرين بعد ما حدثت البدع وكثرت بها الشبه والشكوك فمرضت القلوب وفسدت العقول وكثر القيل والقال.
فقال بعضهم: "الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى تسمية المدلول باسم الدال", وقال آخرون: "عكس ذلك".
وقيل: "يطلق الكلام على اللفظ والمعنى بطريق الاشتراك اللفظي", وقيل: "حقيقة في كلام الناس؛ لأن لكلامهم حروفاً وأصواتاً تقوم بهم ومجاز في كلام الله عز وجل" [2] .
والصواب في ذلك هو ما ذكرناه آنفاً بأن الكلام: "مجموع اللفظ والمعنى فمسماه مركب".
الكلام من صفات الله تعالى:
قد تواتر عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: أن الله تعالى متكلم موصوف بالكلام حيث أخبروا عن الله عز وجل بأنه: أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا، وكل ذلك من أقسام الكلام.
ووصف الله تعالى نفسه المقدسة بالكلام كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك من صفات الكمال.
وصفاته جل وعلا لا تماثل صفات المخلوقين فهي صفات كمال تختلف عن صفات المحدثات كما تختلف ذاته المقدسة عن ذواتهم، ليس كمثله شيء.
وذلك أن المعاني والصفات التي تطلق على الخالق والمخلوق بالاشتراك لها اعتباران:
أـ اعتبار العموم والتجريد من الإضافة نحو: الحياة والعلم والقدرة والكلام، فهي بهذا الاعتبار مشتركة بين الخالق وبين المخلوق.
ولا يلزم من اشتراكهما في الأسماء والمعاني من حيث العموم وعدم الإضافة تشبيه ولا تمثيل؛ لأن هذا المشترك مطلق كلي لا وجود له في الخارج والواقع وإنما يفرضه الذهن, والذهن يفرض المحال.
ب- إعتبار الخصوص والتقييد والإضافة:(30/458)
والإضافة تارة تكون إلى الرب جل جلاله نحو: وجود الله وحياة الله وكلام الله، فهذا المضَاف إليه سبحانه مختص به لا يَشْرَكه فيه أحد من خلقه, ولله المثل الأعلى. وتارة تكون الإضافة إلى العبد نحو: وجود العبد وحياته وعلمه وكلامه.
فهذا المضاف إلى العبد مختص به, والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في صفاته وخصائصه, فالصفة تابعة للموصوف؛ فإن كان الموصوف بها هو الغني الحميد فصفاته كما يليق به, وإن كان الموصوف هو العبد الفقير فصفاته كما يليق بحاله من الفقر والحدوث والفناء [3] .
اختلاف الناس في حقيقة كلام الله تعالى:
قد تنازع الناس في حقيقة كلام الرب وتفرَّقوا واختلفوا بالأهواء بعد مضيّ خير القرون من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
قال عزّ من قائل: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . (2: 176) .
1ـ وأبعد ما قيل في كلام الله سبحانه: "إنه فيض من المعاني يفيض من الملأ الأعلى على النفوس الشريفة بواسطة العقل أو غيره فيكسبها أنواعا من العلوم من تصورات وتصديقات بحسب استعداد تلك النفوس وقبولها لذلك الفيض". وهذا قول المتفلسفة القرامطة مثل: الفارابي وابن سينا والطوسي.
ويزعم هؤلاء الملاحدة أنّ موسى عليه السلام سمع كلام الله من سماء عقله أي كلّمه بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج, وأن أهل الرياضة والصفاء يصلون إلى ما وصل إليه موسى فيسمعون ما سمعه موسى كما سمعه موسى عليه السلام, ويرى هؤلاء أن لتلك النفوس قوتين:
أ - قوة التصور وبها تدرك من المعاني ما يعجز عنه غيرها.
ب - قوة التخييل وبها تستطيع أن تتصوّر المعقول في صورة المحسوس فتتخيل صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان.(30/459)
وربما تقوى هذه القوة على إسماع ذلك لغيرها وعلى تشكيل تلك الصور النورانية لعين الرائي فيرى الملائكة ويسمع كلامهم وكل ذلك من الوهم والخيال.
وهؤلاء الملاحدة لما علموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن الله تعالى بأنه قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} قالوا مصانعين للمسلمين: "إن القرآن كلام الله وما جاء به الأنبياء كلام الله"، ولكن حقيقة كلام الله عندهم هو ما ذكرنا, فحرَّفوا نصوص الكتاب والسنة الدالة على كلام الله وتكليمه لعباده على طريقة إخوانهم في تحريف الكلم عن مواضعه.
والنبوّة عند هؤلاء مكتسبة, وحشر الأجساد عندهم مستحيل, والرب سبحانه لا يعلم الجزئيات, إلى غير ذلك من الكفر والضلال.
والذي قاد هؤلاء إلى هذا الكفر الصريح هو عدم إيمانهم بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخبر به عن الله تعالى وعن المعاد, ولكن لما بهرت عقولهم شمس الرسالة حتى شهد شاهد منهم بأنه لم يطرق العالم ناموس أفضل من هذا الناموس ولم يوافق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصولهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة أصبحوا حيارى نحو ذلك.
فمنهم من لم يؤمن بكثير من ذلك بل يشك فيه أو يكذبه, ومنهم من يقول: "إن ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- تخييل للحقائق وأمثلة مضروبة لتقريبها إلى أفهام العامة, والأنبياء والرسل قد فعلوا ذلك للمصلحة". نعوذ بالله من ذلك.
هذه طريقة الفارابي الملقّب بالمعلّم الثاني لهم, وابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس لهم, والطوسي الملقّب بالمحقّق عندهم من المتفلسفة في الإسلام.
يذكر الحافظ ابن القيم في النونية مذهب هؤلاء في كلام الله فيقول:
للمسلمين بإفكٍ ذي بهتان
وأتى ابن سينا القرمطي مصانعاً
الفعال علة هذه الأكوان
فرآه فيضاً فاض من عقل هو
حسن التخييل جيد التبيان(30/460)
حتى تلقاه زكيّ فاضل
2ـ والقول الثاني في كلام الله تعالى قول أهل وحدة الوجود كابن عربي الطائي والصدر القونوي وحزبهما.
قالوا: "كل كلام في الوجود كلام الله تعالى نظماً كان أو نثراً، صدقاً كان أو كذباً ".
وقال عارفهم:
سواء علينا نثره ونظامه
كل كلام في الوجود كلامه
وهذا القول الذي لا يخفى فساده على كل من عنده مسكة عقل وهو فرع مذهبهم الفاسد وهو أن الله تعالى عين هذا الوجود وأن تلك الكثرة وهم وخداع من الحس لا حقيقة لها من الواقع.
ولازم هذا الهذيان والكفر الصريح أن كلام هذه المخلوقات وسائر صفاتها محمودة كانت أو مذمومةً هي عين كلام الله وصفاته إذ هي عينه. تعالى الله عما يقولون الظالمون علوا كبيرا.
ويصوّر لنا ابن القيم رحمه الله مذهب هؤلاء في نونيته بقوله:
طمت على ما قال كل لسان
وأتت طوائف الاتحاد بملة
الخلق من جن ومن إنسان
قالوا كلام الله كل كلام هذا
صدقا وكذبا واضح البطلان
نظما أو نثرا زوره وصحيحه
للمحصنات وكل نوع أغان
فالسب والشتم القبيح وقذفهم
وسائر البهتان والهذيان
والنوح والتعزيم والسحر المبين
وكلامه حقا بلا نكران
هو عين كلام الله جل جلاله
وعليه قام مكسح البنيان
هذا الذي أدى إليه أصلهم
عين الوجود وعن ذي الأكوان
إذ أصلهم أن الإله حقيقة
وصفاته ما ههنا قولان.
فكلامها وصفاتها هو قوله
3 ـ والقول الثالث قول نفاة الصفات من جهمية ومعتزلة.
قالوا: "الرب متكلم بكلام حرف وصوتُ يخلق ذلك في بعض مخلوقاته".
فكلامه عندهم مخلوق كسائر المخلوقات.(30/461)
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني في التوحيد والعدل (7/3) : "اختلف الناس في كلام الله تعالى والذي عليه شيوخنا: أن كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول في الشاهد, وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة, وهو عرض يخلقه الله تعالى في بعض الأجسام على وجه يسمع ويفهم معناه, يؤدِّي الملِك ذلك المعنى إلى الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يأمر به الله عز وجل ويعلمه صلاحاً".
ويقول في القرآن الكريم (7/ 224) : "إن الله خلق القرآن وأحدثه لمصالح العباد".
وهذا القول الفاسد فرع أصلهم الفاسد وهو النفي المجمل: "أن الله تعالى ليس محلا للحوادث ولا يقوم به وصف ولا فعل".
فجرَّدوه سبحانه مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال.
ومن لوازم هذا القول الفاسد في مسألة الكلام أن يكون الله تعالى متكلما بكل كلام يحدثه في الجمادات أو يخلقه في الحيوانات حقا كان أو باطلا، صدقا كان أو كذبا, وقد طرد ذلك الاتحادية. تعالى الله عن ذلك كله.
وجرّ هذا القول الفاسد قائليه إلى القول: "إن إضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة تشريف مثل: بيت الله وناقة الله ونحو ذلك".
وبطلان ذلك لا يخفى على ذي البصيرة؛ وذلك لأن الإضافة إلى الرب تعالى نوعان:
أـ إضافة معان وصفات نحو: حياة الله وعلمه وقدرته وكلامه ونحو ذلك, فهذه من إضافة الصفة إلى الموصوف، ولا يقال في إضافة شيء من صفاته إليه تعالى إضافة تشريف إذ صفاته سبحانه ليست خارجة عن مسمى اسمه, بل يمتنع وجود ذاته بدون صفاته اللازمة لها وإن كان الذهن يفرض ذاتاً وحدها وصفة وحدها.
ب ـ إضافة ذوات وأعيان نحو: عبد الله وبيت الله وأرض الله ونحو ذلك, فهذه من إضافة المخلوق إلى خالقه جل ذكره.
وإضافة المخلوق إلى الخالق نوعان:(30/462)
1 ـ إضافة عامة لا تشريف فيها, وذلك أن يضاف إليه سبحانه شيء من المخلوقات نظراً لكونه مخلوقاً مربوباً له سبحانه.
فهذا المعنى العام موجود في جميع المخلوقات من غير فرق بين مخلوق وآخر, ولك بهذا الاعتبار أن تقول في إبليس عليه اللعنة: خلق الله ولا تشريف في ذلك.
2 ـ إضافة خاصة تقتضي التشريف والتكريم للمضاف إلى الله تعالى, وذلك أن يضاف إليه سبحانه شيء من المخلوقات لمعنى خاص يوجد في ذلك المخلوق يحبه الله به ككونه نبياً وكون الكعبة قبلة للمسلمين, فإذا قيل في أحد أنبياء الله: عبد الله أو قيل في الكعبة الشريفة: بيت الله، فهذه إضافة تشريف.
وعلم بذلك أن إضافة المخلوق إلى الخالق لا تكون إضافة تشريف على وجه الإطلاق.
وأول من علم منه إنكار التكليم والمخالفة هو جعد بن درهم في أوائل القرن الثاني للهجرة, وشدد عليه في النكير علماء التابعين مثل الحسن البصري وغيره, وأفتوا بقتله فقتل بسبب ذلك قتله خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالعراق يوم الأضحى وقال للناس في خطبته: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضَحٍ بجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً, تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيرا, ثم نزل فذبحه".
ثم تولى كبر هذه المقالة الشنعاء وهي مقالة تعطيل الأسماء والصفات بعد جعد ابن درهم تلميذه جهم بن صفوان السمرقندي, ونشرها فاشتهرت في الناس بمقالة الجهمية, وهذا الأخير لقي أيضاً مصرعه بسبب زيغه وزندقته.
ويذكر ابن القيم مذهب هؤلاء في النونية بقوله:
أيضاً فهم صنفان
والقائلون بمشيئة وإرادة
كمشيئة للخلق والأكوان
أحدهما جعلته خارج ذاته
التشريف مثل البيت ذي الأركان
قالوا: صار كلامه إضافة
والقول لم يسمع من الديّان(30/463)
ما قال عندهم ولا هو قائل
بالغير كالأعراض والأكوان
فالقول مفعول لديهم قائم
فيها الشيوخ معلّموا الصبيان
هذي مقالة كل جهميّ وهم
4 ـ والرابع من الأقوال قول الكرّامية أتباع محمد بن كرام السجستاني المتوفى عام (255 هـ) قالوا: "كلام الله تعالى حروف وأصوات حادثة, تكلّم الله بها بمشيئة وقدرة بعد أن لم يكن متكلّما أي حدثت له صفة الكلام".
وفساد هذا القول ظاهِر حيث جعلوه تعالى في الأزل غير قادر على الكلام ثم جعلوا الكلام ممكناً له تعالى مقدوراً له من غير حدوث شيء أوجب القدرة والإمكان.
ويقول في النونية عن هؤلاء:
في ذاته فهم نوعان
والقائلون بأنه بمشيئته
نوعاً حذارِ تسلسل الأعيان
أحدهما جعلته مبدوءاً به
إثبات خالق هذه الأكوان
فيسد ذاك عليهم في زعمهم
5 ـ والخامس قول السالمية أتباع محمد بن أحمد سالم المتوفى عام (297) للهجرة.
قالوا: "كلام الله تعالى حروف وأصوات أزلية قديمة ولها معان تقوم بذات الرب تعالى".
ولا يخفى فساد هذا القول بمجرد تصوره.
6 ـ والسادس قول الكلاّبية والأشاعرة.
قالوا: "كلام الله تعالى معنى واحد قائم بذات الله لازم له لزوم الحياة والعلم والقدرة, أي صفة ذاتية لازمة غير مقدورة وليس لكلامه حرف ولا صوت يسمع".
وذلك المعنى الواحد هو الأمر والنهى والخبر والاستخبار وإن عُبرّ عنه بالعربية كان قرآنا, وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة, وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً, فاختلفت العبارات لا المعنى.
قال سيف الدين الآمدي في كتابه "غاية المرام في علم الكلام" (88) : "ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلما بكلام قديم أزلي أحديّ الذات ليس بحروف ولا أصوات".اهـ.(30/464)
وقال شارح المواقف (298) : "كلامه تعالى عندنا واحد وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ. وأما انقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء فإنما هو بحسب التعلق, فذاك المعنى الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه خاص يكون أمراً, وباعتبار تعلقه على وجه آخر يكون خبراً وهكذا البواقي". اهـ.
هذا الذي قاله الكُلاَّبية والأشاعرة في كلام الله عز وجل هو من أفسد ما قيل في كلامه سبحانه, وكلما تأمّل العاقل هذا القول تبين له فساده, وعلم مخالفته للكتاب والسنة وكلام سلف الأمة.
ومن اللوازم الفاسدة لهذا القول لا مفر لهم منها:
أـ إن القرآن المنزّل على خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- مخلوق فإنه كلام عربي مؤلف من حروف, وهؤلاء نفوا أن يكون لكلامه تعالى حرف.
ب ـ إن القرآن الكريم ليس كلام الله تعالى عندهم حقيقة.
ج ـ إن القرآن المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- هي التوراة المنزلة بالعبرية على موسى, وهو الإنجيل المنزل بالسريانية على عيسى عليهما السلام.
د ـ إن معنى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وهل يقول ذلك عاقل وهو يدري ما يقول؟.
ونفى الكُلاّبية والأشاعرة أن يكون كلام الرب يتعلق بمشيئته وقدرته زعماً منهم أنه لو كان مقدوراً ومراداً له لكان حادثا فيلزم على هذا قيام الحوادث بالرب سبحانه.
وقد وافق هؤلاء نفاة الصفات من جهمية ومعتزلة على أصلهم الفاسد وهو نفيهم المجمل "أن الله ليس محلا للحوادث", ولكن فرقوا بين الصفات الذاتية وبين الصفات الاختيارية فقالوا: تقوم به تعالى الصفات الذاتية مثل الحياة والعلم والقدرة وجعلوا منها الكلام, وقالوا: لا يلزم من ذلك أي محذور لأنها صفات لازمة الذات.(30/465)
ونفوا أن تقوم به تعالى الصفات الاختيارية مثل الاستواء والنزول والغضب والرضى ونحوها مما يتعلق بإرادته وقدرته فرارا من أن يلزم به سبحانه قيام الحوادث.
والجواب عن قولهم "ليس الرب تعالى محلا للحوادث"أن هذا لفظ مجمل لا يقبل على إطلاقه بل يفسر ويفصل كآلاتي:
فإن أريد بهذا النفي المجمل: أن الله تعالى ليس محلا للحوادث أي ليس داخل ذاته المقدسة شيء من المخلوقات المحدثة فهذا حق.
أو أريد بذلك نفي تجدد وحدوث صفاته فهو أيضاً حق لأن صفاته تعالى قديمة أزلية إذ هي صفات كمال وفقدها عيب ونقص لا يليق بالإله جل جلاله.
وإن أريد بهذا النفي المجمل "وهو مراد النفاة "نفي وإنكار ما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو نفي مردود على قائله لأن المؤمن لا يخطر بباله أن الله تعالى قد يصف نفسه أو يصفه أعلم الخلق بالله وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكلام يكون ظاهره كفرا يجب تأويل ذلك.
بل جميع ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- صفات كمال ظواهرها تليق بجلال الله تعالى تختلف عن الظواهر المشاهدة عند المخلوق كما تختلف ذاته عن ذواتهم. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأول ما ظهر إنكار أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت في عهد أبي العباس المأمون بن هارون الرشيد الخليفة العباسي, وذلك أن نفاة الصفات من معتزلة وغيرهم قبل ذلك كانوا أذلاء مهانين فلما أدخلوا المأمون في مذهبهم وتأثر بآرائهم ظهر أمرهم ورفعوا رؤوسهم فعظمت الفتنة والمحنة وثبّت الله أهل الإيمان وورثة الأنبياء على ما ورثوا من الحق والقول الثابت, وعلم الناس سوء مذهب النفاة ومَا فيه من تعطيل الرب تعالى من صفات الكمال من الكلام وغيره, ظهر في ذلك الوقت رجل هو: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري المتوفى بعد سنة (240) للهجرة بقليل.(30/466)
وأثبت الصفات مثل الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها ونفى أن تكون صفات الله تعالى مخلوقة رداً على النفاة القائلين: "إنّ كلام الله مخلوق", فقال: "إنّ كلام الله معنى واحد قائم بنفسه لازم له ليس له حرف ولا صوت".
فسلك مسلكا خالف فيه المعتزلة ولم يوافق أهل الحديث في جميع ما قالوه, وإنما قابل بدعتهم ببدعة, وردّ باطلهم بباطل.
وأنكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما من أئمة السنة الذين كانوا في زمنه وبعده.
يقول عبد الله بن أحمد: "قلت لأبي: يا أبت إنّ قوما يقولون: "إنّ الله تعالى لم يتكلّم بصوت "، فقال يا بنيّ: "هؤلاء الجهمية إنما يدورون على التعطيل يريدون أن يلبسوا على الناس بل تكلم بصوت…"
قال في النونية عن هؤلاء:
وإرادة منه فطائفتان
ثم الألى قالوا بغير مشيئة
بالنفس أو قالوا بخمس معان
إحداهما جعلته معنى قائما
تبديه معقولا إلى الأذهان
والله أحدث هذه الألفاظ كي
هي القرآن بل دلت على القرآن
وكذلك قالوا إنها ليست
المجاز وذاك وضع ثان
ولربما سمى بها القرآن تسمية
والحق في المسألة هو ما ذهب إليه أئمة السنة والحديث من أن الكلام صفة كمال لله عز وجل كسائر الصفات فهو لم يزل ولا يزال متكلما متى شاء وكيف شاء ولكلامه حرف وصوت يسمع, والكلام على هذا القول صفة ذات وفعل قديم النوع حادث الأفراد.
وذلك أن للكلام اعتبارين بالنسبة إلى المتكلم.
أـ كون الكلام صفة معنوية للمتكلم فبهذا الاعتبار يصح أن يقال: الكلام معنى قائم بنفس المتكلم وصفة قائمة بذاته, والصفة لا تقوم إلا بالموصوف.(30/467)
ب ـ كون الكلام مسموعا من المتكلم إذا تكلم بحرف وصوت فهذه هي حقيقة الكلام الخارجية وهي بالنسبة إلى المتكلم من المخلوقين مشاهدة لا ينكرها إلا مكابر.
وبالنسبة إلى الخالق جل وعلا فقد دلت الأدلة على أن لكلامه سبحانه حرفاً وصوتاً فقد وصف نفسه بالقول والتكليم وبالمناداة في غير ما آيةٍ.
والنداء هو الصوت ويقال: ناداه مناداة ونداء أي صاح به.
واستفاضت الأحاديث من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والآثار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة السنة بأن الله تعالى ينادي بصوت ويتكلم بالوحي بصوت.
وكان أئمة السنة رضي الله عنهم يعدون من أنكر كلام الرب تعالى بصوت من الجهمية.
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وكلام السلف لا يبقى عنده أي شك في ذلك ولا سيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج وأحاديث الرؤية وأحاديث الحساب وأحاديث تكليمه سبحانه ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومن أحاط بها علما ومعرفة يقطع بان الله تعالى موصوف بالكلام على وجه يليق بكماله, وأن لكلامه سبحانه صوتا يسمع, بل الرب جل جلاله أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد.
مراجع البحث
1ـ الأعلام للزركلي.
2ـ الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3ـ الرسالة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
4ـ روضة الناظر لابن قدامه.
5ـ شرح العقيدة الطحاوية.
6ـ شرح المواقف.
7ـ غاية المرام في علم الكلام للآمدي.
8ـ فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
9ـ القصيدة النونية لابن القيم.
10ـ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام.
11ـ مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم.
12ـ المغني في التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
خلاق أمراء الصحابة
لما تم الصلح بين أمير جيوش المسلمين في فتح الشام وبين أحد قواد الروم، جاءه أمير الروم بطعام فاخر، وقال له:(30/468)
"هذا طعام الأمير".
فقال له أبو عبيدة: "وأطعمتم الجند مثل هذا الطعام؟ ".
قالت: "لم يتيسر مثله للجند".
فقال أبو عبيدة:
"لا حاجة لنا فيما يقتصر علينا وحدنا من ألوان الطعام, وبئس المرء أبو عبيدة إن صحب جنداً من بلادهم أهرقوا دماءهم دونه، أو لم يهرقوا، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه. لا والله لا نأكل إلا مما يأكلون".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجموع الفتاوى: (12/ 35/36)
[2] شرح العقيدة الطحاوية.
[3] مجموع الفتاوى (12/ 36) , والتدمرية (44) .(30/469)
نظامُ الإثبَات
في الفقه الإسلامي
[دراسة مقارنة]
للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
(4)
الحكم بالفراسة والقرائن
أولا: الحكم بالفراسة:
من وسائل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريعة الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لا تصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة.
الفراسة لغة:
الفِراسة بالكسر من التفرس, يقال: تفرّس الشيء إذا توسمه، وتفرّست فيه خيرا: توسّمته، وهو يتفرّس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسّم معناهما واحد أي يفسّر أحدهما بالآخر [1] .
الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي:
الأصل في الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . (الحجر: 75) .
فذكر أهل التفسير أن المتوسّمين يعني المتفرسين، وذلك اعتماداً على ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم.
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم تلا الآية " [2] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم" [3] .
يقول الألوسي: "قال الجلال السيوطي: هذه الآية أصل في الفراسة" [4] .
معنى هذا أن الفراسة قد ورد اعتبارها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنها سمة من سمات المؤمنين، إذ أن الأحاديث مادحة للمتفرسين, وأن الفراسة مدرك من مدارك المعاني؛ لأن المؤمن المتفرس ينظر بنور الله، فالله عز وجل هو الذي يريه ويفيض عليه.
فإذا ثبت هذا فلينظر كيف سارت تفسيرات العلماء للفراسة:(30/470)
يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية السابقة: "التوسم: هو تفعّل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها, وهي الفراسة وحقيقتها: الاستدلال بالخَلقْ على الخُلق، وذلك بجودة القريحة، ووحدة الخاطر، وصفاء الفكر" [5] .
ويقول القرطبي: "هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها ... "وقال ثعلب [6] : "النظر من القرن إلى القدم, واستقصاء وجوه التعريف, وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وزاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا" [7] .
ويفسرها الحكيم الترمذي بقوله: "والتفرس أن يركض بقلبه فارساً بنور الله إلى أمر لم يكن فيدركه… وإذا امتلأ القلب من نور الله تعالى نظرت عينا قلبه بنوره فأدرك في صدره مالا يحاط به وصفا" [8] .
ويفسرها ابن الأثير بقوله: "الفراسة بمعنيين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق" [9] .
نلاحظ أن هذه التفسيرات مترددة بين اتجاهين:
الأول: إن الفراسة علامة يستدل بها على مطلوب غيرها- وأصحاب هذا التفسير يوافقون المعنى اللغوي، ويقولون: إن العلامات لما كانت متفاوتة منها ما يظهر من أول وهلة ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجربة وصفاء الفكر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القول استنكروا على الصوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة.
وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير.(30/471)
الثاني: إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحين من عباده، فيعرفون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد.
وهذا يتمثل في تفسير الحكيم الترمذي, والمعنى الأول عند ابن الأثير وإليه أشار القرطبي بقوله: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا ... "الخ.
سواء كانت الفراسة استدلالاً بالعلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكره وكان حادّ الذكاء، أو كان من المؤمنين الصادقين الذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها.
وجدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة.
أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أـ أنه قال: "يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى"ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . (البقرة: 125) .
ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب".
ج ـ أنه قال حين اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة: " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن} . فنزلت كذلك". (التحريم: 5) [10] .
هـ ـ أنه دخل عليه قوم فيهم الأشتر فصعّد فيه النظر وصوّبه، وقال: "أيهم هذا؟ "قالوا: "مالك بن الحارث"، فقال: "ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا"، فكان منه في الفتنة ما كان [11] .
ثانيا: ما روي عن ذي النورين عثمان رضي الله عنه:(30/472)
أـ أنه دخل عليه بعض الصحابة، وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة, فلما نظر إليه عثمان قال: "يدخل أحدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنا". فقال له: أَوَحْياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ , قال عثمان: "لا ولكن فراسة صادق" [12] .
ب ـ أنه لما تفرّس أنه مقتول ولابد، أمسك عن القتال والدفع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو، فأَحبَّ أن يُقتل دون أن يقع قتال بين المسلمين [13] .
ثالثا: ما روي من فراسة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحسين بن علي رضي الله عنهما لمّا ودَّعه قال: "أستودعك الله من قتيل"، ومع الحسين رضي الله عنه كتب أهل العراق تناشده الحضور لنصرته، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم [14] .
رابعا: ما روي من فراسة الشعبي- رحمه الله أنه قال لداود الأزدي - وهو يماريه-: "إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك", فكان كذلك [15] .
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة تجل عن الحصر، ولكن الذي يبدو كما ذكرت هو خفاء طريق الاستنتاج، وأن المتفرس يدرك الأمر بأسلوب مستتر، فقد يكون استنتاجه هذا مبنياً على علامات خفية تفرسها، وقد يكون مبنيا على خواطر إلهامية قذفها الله في قلبه ونطق بها لسانه.
القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء:
لما كان الاستدلال بالفراسة لا يقوم على أسس واضحة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه.
يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك" [16] .(30/473)
ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها" [17] .
وجاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون قوله: "والحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحرز والتخمين، وذلك فسق وجور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب" [18] ، ثم بيّن الشاطبي في كتابه الموافقات: أن الفراسة لا تصلح مستنداً للقاضي في حكمه لأن الاعتبارات الغيبية لا دخل لها في بناء الأحكام القضائية، فالرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك" [19] .
كما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين [20] .
رأي ابن القيم:
خالف ابن القيم جمهور الفقهاء وذهب إلى القول بجواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً" [21] .
وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعتراضه على تفرقة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الوفاء بن عقيل عن هذه المسألة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".(30/474)
فاعترض ابن القيم قائلا: "وقول أبي الوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة2.
ومن هنا يتضح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستدلال بالعلامات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانباً من الأمثلة التي تقدّمت عن الفراسة التي يختفي فيها طريق الاستدلال بالعلامة ويتضح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه.
وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما, وقد أورد ابن القيم في الطرق الحكمية آثارا كثيرة عنهما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها.
تعقيب.
ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:
الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال: "إنكم تختصمون إليّ.." الحديث, فلم يجعل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا.(30/475)
ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفوس المريضة والأغراض والدعاوى الباطلة، فيحكمون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء.
ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معروف لغير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فساد الزمان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة [22] .
رابعا: قول ابن القيم -رحمه الله- "إن الفراسة من الاستدلال بالعلامة"محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.
أما فعل إياس بن معاوية وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجدت استدلالهم بالعلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء.
وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي.
ثانيا: الحكم بالقرائن:
معنى القرينة لغة:(30/476)
القرينة، جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه مقارنة وقرانا: اقترن به وصاحبه, وقارنته قرانا: صاحبته، وقرينة الرجل: امرأته، وسميت الزوجة قرينة لمقارنة الرجل إياها. وقرينة الكلام ما يصاحبه ويدل على المراد به. والقرين المصاحب, والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه, وفي الحديث: "ما من أحد إلا وكّل به قرينه" [23] أي مصاحبه من الملائكة والشياَطين [24] .
معنى القرينة اصطلاحا:
لم أعثر فيما اطلعت عليه من كتب الفقه القديمة على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب "التعريفات"للجرجاني حيث يقول: "القرينة: أمر يشير إلى المطلوب" [25] . وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله: "من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به" [26] . وأيضا ما جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن: "القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حدّ اليقين" [27] .
هذه التعريفات وان اختلفت كلماتها إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامة تدل على أمر آخر وهو المراد، بمعنى أنّ هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامة أو مجموعة العلامات بالدلالة عليها، وهي لا تختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له.
والقرينة في مجال الإثبات هي العلامات التي تدل على الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها عند انعدام أدلة الإثبات الأخرى الأقوى من إقرار أو بينة.(30/477)
مثال ذلك: أن يرى شخص الله عليه وسلم يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من خربة خائفا يرتجف، فيدخل شخص أو أشخاص الخربة على الفور فيجدون آخر مذبوحا لتوه مضرجا بدمائه وليس في الخربة غيره. فالواقعة المراد إثباتها هي شخصية القاتل والعلامات التي تدل عليها هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل، وذلك عند عدم اعترافه أو قيام البيّنة على القاتل. فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة أي يؤخذ منه بالدلالة والاستنتاج حكم الواقعة المجهولة.
الفرق بين القرينة والفراسة:
بناء على ما قدمنا من تعريف للقرينة، وبناء على ما قدمنا من قول في الفراسة فيمكن تلخيص الفرق بين القرينة والفراسة في النقاط التالية:
أولا: أن القرينة علامة ظاهرة مشاهدة بالعيان، كمن يرى رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك من عادته يعدو وراء آخر هارباً وبيد الهارب عمامة وعلى رأسه عمامة، فهذه قرينة مشاهدة بالعين الحسية ودلالتها كما يقول العلماء واضحة على أن العمامة للرجل مكشوف الرأس، ولا يقال عمن يرى هذه العلامة ويستنتج هذا الحكم إنه متفرس.
ثانيا: أن رؤية القرينة لا تتطلب مواصفات معينة في الرائي، كصدق الإيمان وصفاء الفكر وحّدة الذكاء، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها ظاهرة واضحة، حتى أن الدقيق منها كتلك التي تقوم على التجارب العلمية لها أسسها وضوابطها وقانونها الذي يسهل الاطلاع عليه ومعرفته، أما الفراسة فهي تتطلب مواصفات معينة في المتفرّس، صدق إيمان أو حّدة ذكاء وصفاء فكر، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها مستترة خفية.(30/478)
ثالثا: إنه يمكن أن تقام البيّنة على وقوع القرينة ويتأكد القاضي من ثبوتها ففي المثال المتقدّم قد يشهد اثنان أو أكثر على رؤية الواقعة، أما الفراسة فلا يتوفر فيها ذلك، فلا يستطيع أحد الشهادة عليها وإن صحّ وقوعها على قلب اثنين أو أكثر فتلك حالة نادرة.
رابعا: القرينة قد تصلح دليلاً لبناء الأحكام القضائية ومستنداً للقاضي في فصل النزاع كما سنبين ذلك. أما الفراسة فلا يصح الحكم بها على قول جمهور الفقهاء خلافاً لابن القيم.
القرينة والعرف:
وقبل أن نبيِّن آراء الفقهاء في القضاء بالقرينة نشير إلى ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين القرينة والعرف.
والعرف: هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك, بحيث لا يخالف دليلا شرعيا أو يحلّ حراما أو يبطل واجبا، والعرف بهذا المفهوم قد راعته الشريعة طالما أن الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الدية على العاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً"و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله - بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق [28] .
ويظهر ارتباط القرينة بالعرف في صور يشكل فيها العرف قرائن تجب مراعاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهو في نفس الوقت قرينة دالة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ.(30/479)
ومن أظهر الصور التي جعلوا فيها العرف قرينة تجب مراعاتها في فهم الدعوى مسألة تنازع الزوجين في متاع البيت, وفى هذا يقول القرافي المالكي: "إنّ الإشهاد بين الزوجين يتعذر لأنهما لو اعتمدا ذلك، وأن من كان له شيء أشهد عليه أدى إلى المنافرة وعدم الوداد بينهما، وربما أفضى إلى الطلاق والقطيعة, فهما معذوران في عدم الإشهاد وملجآن إليه، وإذا الجاَ لعدم إشهاد فلو لم يقض بينهما بالعادة لانسد الباب بينهما" [29] ر.
ومن ذلك أيضا قولهم: إن الزوجين إذا اختلفا في قدر المعجل والمؤجل في المهر ولا بينة لأحدهما فالقول لمن شهد له العرف [30] .
يستفاد من هذا أن العرف قد يكون قرينة تدل على ما يطلب معرفته فلذلك كان لابد من ملاحظته ومعرفته عند نظر الدعوى, لأجل هذا فقد نبّه الفقهاء على القاضي بالتعرف على أحوال الناس وعاداتهم وما تواضعوا عليه لأنه بذلك تتبين له الدعوى ويعرف المحق من المبطل. ومن يرجع إلى ابن القيم في كتابيه الطرق الحكمية وأعلام الموقعين، وابن فرحون في تبصرته، والطرابلسي في كتابه معين الأحكام، لوجد ما فيه الكفاية من حث القاضي على معرفة العرف. ثم إن الفقيه الحنفي ابن عابدين قد ألف رسالة في هذا الشأن أسماها "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العُرف" [31]
ومع هذا التداخل بين القرينة والعرف يجب ألا يغيب عن نظرنا التفرقة بينهما، فالقرينة كما قدمنا هي العلامات التي يستنتج منها الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها أو الحكم فيها، فقد تكون هذه العلامات مستفادة من أعراف الناس وما تواطأوا عليه، وقد تكون من غير ذلك. بمعنى آخر إن للقاضي أن يبني حكمه بناء على قرينة تعارف الناس على كذا، وقد يبنيه على علامات أخرى في الدعوى ليست مستفادة من العرف والعادة. ومن ثم فإن دائرة القرينة في مجال الإثبات أوسع لأنها تضم العرف وغيره.
القضاء بالقرينة:(30/480)
لم تحظ القرينة بالاتفاق على صلاحيتها كدليل لبناء الأحكام القضائية إلا أنه بالرغم مما يبدو لنا من خلاف حول تحكيم القرائن في فصل النزاع القضائي، فإن جميع المذاهب لا تخلو من إعمال القرائن في بعض المسائل حتى ولو كان ذلك تحت ستار العرف والعادة. ولكن هذا التحكيم للقرائن يختلف من مذهب لآخر، فيتسع مداه لدى فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ويتوسط لدى الحنفية ويضيق عند فقهاء الشافعية والظاهرية.
وقبل أن نعرض أمثلة توضح أخذ المذاهب المختلفة بالقرائن نطرح أولا أدلة الفريقين، القائلين بتحكيم القرائن والمانعين لها.
أدلة القائلين بالقرينة:
أولا: القرآن الكريم:
لعل من نافلة القول أن نذكر أنه ليس في القرآن الكريم نص قطعي الدلالة على اعتبار القرينة في الأحكام أو عدم اعتبارها, ولكن القائلين بالقرينة قد استنبطوا اعتبارها بدلالة ظنية لبعض النصوص في القرآن الكريم ورأوا جواز الأخذ بها.
والآيات التي استنبط منها الفقهاء جواز الأخذ بالقرينة في الأحكام هي:
(1) قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . (يوسف: (18) .(30/481)
(2) قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم} . (يوسف: 26- 28) .
ومحل الاستدلال الوارد في هذه الآيات ما ذكره المفسرون من أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل بقرينة سلامة القميص من التمزيق عَلى كذب دعوى إخوة يوسف- عليه السلام - بأن الذئب قد أكله, وكذلك استدل الشاهد بقرينة قدّ القميص من دبر على كذب امرأة العزيز وبراءة يوسف- عليه السلام-.
ونرى الآن منهجهم في استنباط حكم القرينة من هذه الآيات.
الشاهد الأول:
يقول ابن العربي المالكي عن قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ ... } الآية: "فيها ثلاث مسائل- نذكر منها:
المسألة الأولى: إنما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعالى قرن بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التلبيب. والعلامات إذا تعارضت تعيَّن الترجيح، فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمة لوجوه تضمنها القرآن، منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصدقها بل كان سبق ضدها وهي تبرمهم، ومنها أن الدم يحتمل أن يكون في القميص موضوعاً، ولا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من تخريق، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات (العلامات) وتعارضها.(30/482)
المسألة الثانية: القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا خلاف في الحكم بالتهمة, وإنما اختلف الناس في تأثير أعيان التهم" [32] .
ومن ذلك أيضا قول القرطبي في تفسيره "استدل فقهاؤنا بهذه القرينة على إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها وأجمعوا على أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل على كذبهم بصحة القميص, وهكذا يجب عَلى الناظر أن يلحظ الأمارات والعلاقات إذا تعارضت, فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهى قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها" [33] .
الشاهد الثاني:
إنه لما نشب النزل بين يوسف -عليه السلام- وامرأة العزيز التي قذفته بما قذفته من إرادة الفاحشة، قال يوسف -عليه السلام- مكذبا لها، ودفعا لما نسب إليه، {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فعند ذلك جاء دور الشاهد الذي وصفه القرآن الكريم بأنه من أهلها والذي فصل الخطاب بما ذكره من القرائن التي بان بها الحق وانفض بها النزاع.
والقرائن التي ذكرها الشاهد هي أنه إذا كان قميص يوسف قدّ من القبل فالمرأة صادقة في دعواها بأنه هو الذي أرادها، أما إذا كان قدّ من دبر فهي كاذبة ويوسف بريء من التهمة. والحاصل أن القميص قدّ من دبر, وهذا دليل إدباره عنها وهو دليل براءته [34] .
وقد يعترض على العلامة المذكورة إذ أنها لا تدل قطعا على براءة يوسف - عليه السلام - لاحتمال أن الرجل قصد المرأة بطلب الفاحشة فغضبت عليه المرأة فعدت خلفه لتضربه، فعلى هذا الوجه قد يتمزّق القميص من دبر، والمرأة بريئة من الذنب.(30/483)
وأجيب على هذا الاعتراض بأن القرائن كانت كثيرة وكفيلة بصرف هذه التهمة عنه، أما القرينة المذكورة في الآية إنما جاءت دليلا مرجحا ومقويا لتلك القرائن، ومن هذه القرائن التي ذكرها المفسرون أن يوسف - عليه السلام- كان عبدا في ظاهر الأمر والعبد لا يمكن أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، كما أنهم رأوا أن المرأة زيّنت نفسها على أكمل الوجوه، ولم يكن على يوسف -عليه السلام- آثاراً للتزين. ثم إنّ أحوال يوسف -عليه السلام- في المدة الطويلة تدل على براءته إذ لم يروا منه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك مما يقوى الظن. وقيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة [35] .
فلما حصلت هذه الأمارات الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كانت من المرأة استحى الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف هو الصادق والمرأة كاذبة، أظهر الله ليوسف دليلا يقوي تلك الدلائل فجاءت تلك القرينة على لسان الشاهد.
كما اعترض على هذه القرينة من ناحية الشاهد المذكور، فقد اختلفوا فيه فقيل: "إنه كان ابن عم المرأة وكان حكيما يستشره الملك"، وقيل: "إنه طفل تكلّم في المهد". فقالوا: إن كان الشاهد طفلا تكلم في المهد لا يكون في الآية دليل على إعمال الأمارات إذ أن الدليل هو كلام الصبي في مهده.
وقد دفع هذا الاعتراض بأنه يستبعد أن يكون الشاهد صبيا بل كان رجلا حكيما وهو الذي يناسب سياق الآية، فلو أنطق الله الطفل لكان كافيا قوله: "إنها كاذبة"ولما احتاج إلى نصب العلامة، ثم قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ليكون أولى بالقبول في حق المرأة ولو كان صبيا لا يتفاوت الحال كونه من أهلها أو من غير أهلها. كما أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا لمن تقدمت معرفته بالواقعة وإحاطة بها [36] .(30/484)
وقيل: إنه لا تعارض بين كونه صبيا تكلم في المهد وبين الأمارة المنصوبة، فقد يتكلم الصبي, ومع ذلك ينبههم إلى الدليل الذي غفلوا عنه وهي أمارة القميص [37]
وهناك اعتراض ثالث هو أن هذه الآية تبيِّن شرع السابقين وشرع من قبلنا لا يلزمنا.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بالأدلة التي يحتج بها مثبتو العمل بشرع من قبلنا إذا لم يرد دليل على نسخه عنا.
ثانيا: السنة الشريفة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم:
كذلك احتجّ القائلون بالقرينة في الأحكام بآثار كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن هذه الآثار:
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: "إنما ذهب بابنك ", وقالت الأخرى: "إنما ذهب بابنك", فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينكما", فقالت الصغرى: "لا تفعل يرحمك الله هو ابنها ", فقضى به للصغرى" [38] .
فاستدل بقرينة رضا الكبرى أن يشقّه نصفين وعدم شفقتها عليه أنه ليس ابنها، بينما أشفقت الصغرى وامتنعت عن الدعوى حتى لا يذهب الطفل, فهذا يدل على أنه ابنها إذ أن الله أودع في قلوب الأمهات الشفقة على أبنائهن.
(1) ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته" [39] .
فأقام العلامة مقام الشهادة.
(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟ "قال: "إذنها صماتها". أو قال: "أن تسكت" [40] .(30/485)
فجعل عليه الصلاة والسلام صماتها قرينة على الرضا.
(4) أنه صلى الله عليه وسلم حينما صالح يهود خيبر كان لحي بن أخطب مال كثير فأخفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم عنه؟ فقال ابن أبي الحقيق عم حيّ ابن أخطب: "أذهبته الحروب والنفقات"، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك", ثم دفعه إلى الزبير فضربه حتى أقر بمكان المال [41] . فيظهر اعتماده صلى الله عليه وسلم على الأمارات وشواهد الحال قرب العهد وكثرة المال.
(5) عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم اعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها ثم استنفع بها فإن جاء ربها فأدها إليه" [42] . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى صاحبها بمجرد الوصف لأن وصفه لها بما يطابق الواقع قرينة على ملكيته.
(6) أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتما سيفيكما؟ "قالا: "لا". قال: "فأرِياني سيْفيكُمَا", فلما نظر فيهما قال لأحدهما: "هذا قتله وقضى له بسلبه" [43] .
(7) أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس فيئها إلا مجرد العلامات والأمارات [44] .
(8) حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجم المرأة التي ظهر حملها ولا زوج لها ولا سيد. كما ورد في المتفق عليه قوله في شأن الرجم: "وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف" [45] .
(9) كذلك ما ورد في الموطأ وكذلك عن مسلم عن عمر وعثمان وابن مسعود -رضوان الله عليهم - بحد من وجدت منه رائحة الخمر [46] .(30/486)
هذا نزر قليل من الأدلة الكثيرة التي أوردها مثبتو العمل بالقرائن في القضاء راعيت في اختياره قوة الثبوت ووضوح الدلالة، ولنقف الآن قليلا مع أدلة المانعين لإعمال القرائن في بناء الأحكام القضائية.
أدلة المانعين:
تتركز حجة هؤلاء في خطورة الأخذ بالقرائن لما يحوطها من الاحتمالات من شأنها أن تؤدي إلى القصاص من متهم بريء، أو إنزال العقوبة على شخص لا يستحق العقاب.
ومن الآثار الواردة في هذا المعنى:(30/487)
(1) ما روي أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال: "أنا قتلته", قال علي: "اذهبوا به فاقتلوه"، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال: "يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي"، فردوه، فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته"فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟ "قال: "يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله", فقال علي: "بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟ "قال: "إني رجل قصاب وخرجت إلى حانوتي في الغلس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس: "هذا قتل هذا ما له قاتل سواه"، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه", فقال علي للمقر الثاني: "فأنت كيف قصتك؟ "فقال: "أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق". فقال للحسين رضي الله عنه: "ما الحكم في هذا؟ "قال: "يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} " (المائدة:32) فخلّى عليّ عنهما, وأخرج دية القتيل من بيت المال" [47] .
وقد وقع نظير تلك القضية في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها ليست في القتل.(30/488)
عن علقمة بن وائل عن أبيه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ ذوو عَدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر, فجاءوا به يقودونه إليها فقال: "أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر"، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: "إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني", فقالت: "كذب، هو الذي وقع عليَّ ", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه", فقام رجل فقال: "لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل"واعترف, فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة. فقال: "أما أنت فقد غفر لك", وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنه: "أرجم الذي اعترف بالزنا", فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا. لأنه قد تاب", وفي رواية فقالوا: "يا رسول الله أرجمه", فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" [48] .
وعند الترمذي أمر برجمه، فقال: "ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" [49] .
مما لا شك فيه أن هذين الأثرين يوهنان الأخذ بالقرينة ويفتان في عضد الاحتجاج بها ويقويان شبهة المانعين للعمل بها من حيث أن شواهد الحال كثيرا ما تكذب، وأن الأمر يكون خلاف ما دلت عليه القرائن الظاهرة, فلو أخذنا بها لذهبت دماء وأموال لمجرد الاحتمال. غير أنه لا يفوتنا في هذه المقام أن نورد ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله- عن هذين الأثرين.(30/489)
يقول ابن القيم عن القضية التي عرضت على أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه-: "وهذا إن كان صلحا وقع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء أن القصاص لا يسقط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي" [50] .
رأي ابن القيم أن القصاص قد وجدت موجباته فليس هناك ما يمنع استيفاءه، اللهم إلا أن يكون قد تم ذلك برضاء الأولياء، فكأنه يرى نقصان الرواية لكونها لم تبين وجه عدول أمير المؤمنين علىّ عن استيفاء القصاص.
أما الحديث الثاني فيقول عنه: "وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه", ويقصد بالاضطراب في المتن ورود رواية بعدم رجم الذي اعترف بالزنا, ورواية الترمذي أنه أمر برجمه. قال ابن القيم: "إن الراوي إما أن يكون قد جرى على المعتاد برجم المعترف، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا، فوهم وقال: إنه أمر برجم المعترف. ثم بين أن الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون، ولم يكن هذا من بينهم. والظاهر أن راوي الرجم في هذه القصة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه، وعلم أن من هديه رجم الزاني فقال: "وأمر برجمه".(30/490)
وبعد أن بيّن ابن القيم - رحمه الله- هذا الاضطراب في متن الحديث، ووهّم أحد رواته ذكر أن القرائن في هذا الحديث مع أنها دلت على خلاف الواقع، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حكّم القرائن أيضا، وإلا فكيف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجم المتهم الذي كان مغيثا للمرأة مع عدم إقراره ولم تقم شهادة على رؤية الزنا. قال: "فيقال: - والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هارباً بين أيدي القوم، واعترف بأنه كان عند المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: "هو هذا"وهذا لوث ظاهر، وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة… ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم" [51]
يتبين من هذا أن الإمام ابن القيم يرى أن هذين الأثرين لا يمنعان العمل بالقرينة، إنما يؤيدان الحكم بالقرائن إذ أنه عليه السلام أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وادّعى إغاثتها وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة. ويرى ابن القيم أن في هذا الحديث تأييداً لمذهبه القاضي بإعمال القرائن في إثبات الحدود.
رأينا في الموضوع:(30/491)
تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه- وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنه لا يستطيع دحض القرائن الظاهرة فآثر الاعتراف بما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكر علي -رضي الله عنه- يلقون القبض على المتهم, ولو لم تكن القرائن دليلا في الدعوى لما قبضوه ولما ذكروا أنه القاتل, وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبوحا وإلى جواره آخر يحمل سكينا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر.
ففي اعتقادي أنه لا خلاف في أن القرائن لا تخلو من بعض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كما تدخل في القرينة- قد تدخل في غيرها من طرق الإثبات, فالبينة قد يتطرق إليها كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتمال قد يدخل في أقوى الحجج الشرعية، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القرائن، وكما يكون هناك ضحايا في القرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا.(30/492)
ولكن هذه الاحتمالات ليس هي الغالب في أحوال القرينة كما أنها ليست الغالب في الإقرار والبينة. والشارع الحكيم قد عول على الظاهر ودلالة الحال في مواطن كثيرة لا يمكن تجاهلها منها ما ذكرنا ومنها مالا يتسع المجال لذكره. والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" [52] . فجعل الشهادة على إيمانه مبنية على الظاهر من حاله وهو ارتياد المساجد. وما الحكم بعدالة الشهود إلا بناء على الظاهر من حالهم، فالغالب من الأحوال أن الظاهر يطابق الواقع. أما الاحتمال فهو في حيز التوهم، فيجب ألا نلقي بالتعويل على القرائن لمجرده. ثم إننا بهذا القول الذي نطلب فيه من القاضي النظر إلى القرائن والأمارات نشترط عليه إمعان النظر والفكر والتثبت فلا يحكم بالقرائن الضعيفة المتهافتة التي لا يقوى بها الظن على ظهور الحكم. فلا بد أن يؤسس حكمه على قرائن ظاهرة يتبين فيها وضوح الدلالة وقوة الحجة بحيث يكون مطمئنا لذلك الحكم منشرح الصدر.(30/493)
ثم إن هؤلاء المانعين للعمل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومع هذا التعقيد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطو عصابات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكات وفروع عالمية، وانتشرت دعاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ, فلو قصرنا الإثبات على الأدلة المذكورة لما ثبتت جريمة ولا استخلص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبة للقائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقع اليوم من الحوادث والقضايا، أو لو أنهم عاشوا حتى رأوا ما نرى لما توقفوا في الإفتاء بما يوافق متطلبات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل.
ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعين على فهم الدعوى كالتحليلات المعملية من فحص للدم وغيره ومطابقة بصمات الأصابع ومضاهاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحر بحجة ما يتطرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم مسايرة العصر، وهذا ما لم يقله إلا المكابر، فهي شريعة كل وقت وقانون كل جيل، وما هذه الفتاوى المأخوذة من أصولها المعروفة إلا دليل مرونتها وقابليتها لحكم الأجيال المتعاقبة.(30/494)
وعليه فإنه لا مناص من الأخذ بالقرائن والرجوع إليها في بناء الأحكام القضائية إذا لم يكن من دليل غيرها وفقاً على فتوى الكثيرين من الفقهاء -كما رأينا وسنرى إن شاء تعالى-.
على أننا حينما نؤيد الأخذ بالقرائن ونرى ضرورة مراعاتها عند بناء الأحكام القضائية لا نلقي هذا القول على عواهنه ونطلقه بلا حدود، فالقرائن التي نرى الاحتكام إليها هي تلك القرائن التي تكون واضحة الدلالة في الدعوى ظاهرة في محل النزاع، لا القرائن الضعيفة التي يتسع فيها باب الشك والاحتمال.
كما أننا نرى ضرورة المحافظة على مقاصد الشرع الحكيم ومراعاة منهجه في الإثبات، فالدعاوى التي تكون منهج الشارع فيها التشدد في الإثبات والحيطة في تطبيق عقوباتها كجرائم الحدود ينبغي ألا يكون هناك توسّع في إثباتها أو إعمال للقرائن لدرجة يخل بنظام الشارع، إذ أن هذا النوع من القضايا ليس متروكا لاقتناع القاضي بارتكاب المتهم للجريمة، ولذا فقد جعل له الشارع نظاما مقيَّدا في الإثبات، وزاد في أمر التثبت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من القضايا، كما طلب من القاضي أن يفسر كل شك يطرأ في الدعوى لصالح المتهم، فإذا وجد أي شبهة تصرف الحد عن المتهم دفع عنه الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القرائن في نصوص الفقهاء:
ليس مقصودي في هذه الفقرة أن أسجِّل دراسة نصِّية للقرائن عند الفقهاء فإن ذلك لا يتسع له المجال. ثم إني قد جعلت هذه الدراسة في كتاب أعدّ لطبعه بإذن الله تعالى. تناولت فيه أنواع القرائن وتطبيقاتها على الدعاوى سواء كانت دعاوى الجنايات أو المعاملات أو الدعاوى التي تقع في دائرة الأحوال الشخصية كما تناولت فيه نظرة الفقه الإسلامي للقرائن المستحدثة التي أبرزتها العلوم المعاصرة. أما الذي أقصده من هذه الفقرة أن أبيِّن في عجالة ملاحظاتي عن تلك الدراسة.(30/495)
الناظر في مذاهب الفقهاء يبدو له من أولى وهلة أن الفقهاء على فريقين، فريق يرى عدم الاعتداد بالقرينة ويقول إنها لا تصلح حجة في بناء الأحكام القضائية, وفريق آخر يراها حجة يجوز للقاضي عدها من أدلة الإثبات والفصل في الدعوى بناء على دلالتها.
لننظر مثلا في هذا النص الذي نقلناه عن العلاّمة الحنفي ابن نجيم المصري يقول في كتابه البحر الرائق: "إعلم أنه قد ظهر من كلام المصنف أنّ طرق القضاء ثلاثة: بيّنة، وإقرار، ويمين ونكول عليه, أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به ... قال ابن الغرس -ولم أره حتى الآن لغيره-: "أو القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به "، قال الخير الرملي-أي عن قول ابن الغرس في القرائن-: "هذا غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد" [53] .
هذا النص يبيّن لنا اختلاف فقهاء المذهب الحنفي في الاحتجاج بالقرينة، ولكن عند التحقيق نجد أن فقهاء المذهب الحنفي قد اتفقوا على الاعتداد بالقرائن في بعض المواضع، ولذا فإننا نقول إنه لا يخلو مذهب من هذه المذاهب من الاحتجاج بالقرينة, ولكن هذا الاحتجاج يختلف من مذهب لآخر، فبينما يتسع مداه عند فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ليشمل إعمال القرائن في الحدود والقصاص، يضيق لدى فقهاء الشافعية والظاهرية الذي اقتصدوا في الاحتجاج بها ولم يأخذوا بها إلا حيث بلغت من القوة مبلغ اليقين وأصبح عدم الأخذ بها يخالف بداهة العقول أو يخالف النص الصريح.
ونبرهن على صحة هذا القول بعرض موجز لبعض القرائن التي تحدث عنها الفقهاء، وسأكتفي بسرد موجز لآرائهم, مشيرا إلى المواطن التي اعتمدت عليها في النقل عنهم حتى يتمكّن من يريد الاستزادة في هذا الخصوص من الرجوع إلى هذه المصادر.
أـ قرينة الحيازة ودلالتها على الملك:(30/496)
والحيازة هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه [54] . ولا فرق بين الحيازة ووضع اليد عند فقهاء الشريعة إذ المقصود هو الاستيلاء على الشيء بصورة مختلفة, فإذا وضع شخص يده على دار أو أرض تصير تلك الدار أو الأرض في حيازته، وترتب على ذلك حماية تلك الحيازة واحترامها، وعُدَّ ذلك المال المحاز من أملاكه وذلك بناء على أمرين هامين:
الأول: القاعدة الفقهية التي تقضى بأن "الأصل في الإنسان البراءة"وأنّ الناس محمولون على السلامة، فما لم يثبت أن الشخص مقيَّد أو غاصب فالأصل أنه بريء.
الثاني: ما جرت عليه العادة وما عرف من غالب أحوال الناس أنهم يتصرفون في أملاكهم، فإذا حاز الإنسان شيئا وتصرف فيه، فالغالب أنه يتصرف في ملكه ما لم يقم دليل على عكس ذلك.
وبناء على ذلك فإنّ أقلّ أحوال ثبوت هذه اليد عند الفقهاء أنها تفيد الملك كما يدل عليه ظاهر الحيازة، وعليه فإنه يجب حماية هذه الحيازة وذلك بعدم انتقال الملكية من الحائز إلا بناقل أرجح من هذه القرينة الظاهرة، أي قرينة الحيازة، والناقل الأرجح عند الدعوى هو إما الإقرار أو البيّنة أو قرائن أخرى تكون دلالتها أقوى من دلالة الحيازة وأظهر في حجيتها من دلالة الظاهر.
هذا المعنى في الحيازة متفق عليه بين الفقهاء. ومن أهم مميزات هذه القرينة أنها وضعت حلاً للمشكلات التي تبدو في سبيل تمييز المدّعي من المدّعى عليه، مستفيدين بذلك من دلالة الظاهر التي تفيد أنّ الحائز يتصرّف في ملكه، وعلى مدّعي الملكية في مواجهة الحائز إثبات دعواه [55] .
ب ـ قرينة الاستعمال وقرينة الصلاحية:(30/497)
قلنا إنّ الفقهاء اتفقوا على أن الحيازة قرينة على الملكية لما تدل عليه شواهد الأحوال، غير أنّ الحيازة وحدها قد لا تضع حداً لكثير من المنازعات، وخاصة إذا كان الشيء المتنازع عليه في أيدي المتداعيين يستعملانه أو يتجاذبانه بحيث تكون يد كل واحد منهما عليه، لم يقف الفقهاء عند ذلك مكتوفي الأيدي إنما رجعوا للقرائن المرجحة، والقرائن المرجحة هي:
1ـ قرينة الاستعمال:
وفكرة هذه القرينة تقوم على أساس أنّ اليد دليل الملك كما قدمنا، فإذا تداعا اثنان في الشيء وكان في يد أحدهما، قدّم من كان في يده إذا لم يقدِّم المدَّعي بينة استحقاقه للشيء المتنازع فيه، فيترك لمن كان في يده، أما إذا تداعيا الشيء وكان في أيديهما، يقوم من كان استعماله للمال المحاز أظهر، ذلك أنَّ الحيازة تقوم على أساس استعمال المال والتصرّف فيه، إذ لا معنى لحيازة الشيء دون تصرف فيه، فالأموال جعلت للاستفادة منها. ومن تم قالوا: كلما كان أحد المتداعيين مستعملا للمال المتنازع فيه، ومتصرفا فيه تصرفا يميزه عن الآخر بحيث يجعل سيطرته عليه أكثر وأرجح، ترجح جانبه وقضى له بناء على قرينة استعماله لهذا المال.
ويظهر جليا اعتداد فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية بهذه القرينة في المسائل التي بحثوها في باب "مسائل الحيطان "أو باب "التنازع بالأيدي"أو باب "الشهادات"أو باب "الدعاوى والبينات ". ومن المسائل التي ظهر فيها اعتدادهم بهذه القرينة، قولهم: "إذا تداعيا حائطا وكان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر يقضى به لصاحب الجذوع لأنه مستعمل للحائط والاستعمال دليل الصدق, وإذا تنازعا في دار يقدّم ساكن الدار على الذي لا يسكنها, ومن حفر فيها بئراً أو أحدث فيها بناءً يقدَّم على غيره, وإذا تنازعا دابة يقدَّم راكبها على المتعلق بلجامها.. كل ذلك مع الاستهداء بما يقضي به العرف وشواهد العادات في مثل هذه الأحوال" [56](30/498)
ومن الذين اقتصدوا في الاعتداد بهذه القرينة ابن حزم الظاهري فيرى فيما ذكرنا أن يد المتنازعين متساوية فيقسم المتنازع فيه بينهما [57] .
قرينة الصلاحية:
وتقوم فكرة هذه القرينة على أساس ترجيح أحد الجانبين بناء على صلاحية الشيء المتنازع فيه لأحد المتداعيين، يعني أن يكون ذلك الشيء ملائماً له بحسب العرف والعادة، كأن يكون أداة صنعته أو آلة حرفته، أومن مستلزمات مظهره حسب نفوذه أو مركزه في المجتمع وما عرف به بين الناس، ومن أمثلة ذلك الجلد للدباغ أو العطر للعطار أو السفينة للملاح أو الفرس للأمير وذي الجاه وغير ذلك من الأشياء التي تصلح لأحد الجانبين، في الوقت الذي يكون هذا الشيء ليس من مستلزمات أو أداة حرفة للجانب الآخر، وكما قلت إن أثر هذه القرينة يبدأ حينما يكون أيدي المتداعيين متساوية على الشيء المتنازع فيه.
وقد قال بالترجيح بهذه القرينة فقهاء المالكية والحنفية والحنابلة، ومنع من الترجيح بها الإمام الشافعي وابن حزم الظاهري بحجة أنَّ ذلك يخالف قاعدة الدعوى من أنّ كل من يدّعي حقا فعليه إثبات دعواه ولا ينظر لصلاحية المدّعى به له أو لغيره.
ج ـ في دعوى ملكية اللقطة أخذ الفقهاء بقرينة مطابقة الوصف دليلا على ملكية الواصف -بمعنى أن الواصف للقطة إذا ذكر وصفاً مطابقاً للواقع، جاز للملتقط تسليمه اللقطة- ومن ثم لا يلزمه ضمان المال إذا اتضح أنّ الواصف ليس هو المالك عند المالكية والحنابلة والظاهرية وهو الصحيح في نظري, ويلزم بالضمان عند الشافعية [58] .
د ـ قرينة التهمة أدت إلى تقييد تصرفات المريض في مرض الموت، فلا تنفذ تصرفاته المنجزة سواء أكانت تبرعية أم بعوض إلا في حدود ثلث أمواله مراعاة لحق ورثته. خالف في ذلك ابن حزم الظاهري ولم يعتد بقرينة التهمة وجعل تصرفات المريض نافذة كتصرفات الأصحاء. ورأي الجمهور هو الظاهر الغالب [59] .(30/499)
هـ ـ لم يعتد جمهور الفقهاء بالقرينة في إثبات الحدود، وذهب فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم وهو قول عن الإمام أحمد إلى القول بثبوت الحدود ببعض القرائن وهي قرينة الحمل في الزنا في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة أو السكر أو القيء في حد الخمر، والتعريض مع دلالة القرائن الأخرى في حد القذف. ولكل من الفريقين أدلة تؤيد مذهبه، أقواها من جهة النقل أدلة المانعين لإثبات الحدود بالقرائن [60]
وـ يقول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة: إنّ الوسيلة المستخدمة في القتل تدل على القصد الجنائي أو العمدية فإذا استخدم القاتل وسيلة معدة للقتل كالسلاح أو آلة تقتل غالبا كان ذلك قرينة على العمدية، وكان القتل قتلا عمدا، ولم يأخذ بفكرة الوسيلة هذه مالك وابن حزم [61] .
ز ـ أخذ الفقهاء بالقرائن في إثبات القسامة، وهي اللوث عند جمهور الفقهاء, وقرينة وجود القتيل في محله قدم عن الحنفية [62] .
ح ـ في مجال إثبات الحقوق المترتبة على عقد الزواج يعدّ فقهاء الحنفية والحنابلة الخلوة الشرعية قرينة على الدخول الحقيقي، فإذا ما ثبتت خلوة الرجل بزوجته خلوة صحيحة - وهى التي ينعدم فيها المانع الحقيقي الذي يمنع اتصاله بها كمرضه أو مرضها أو المانع الشرعي كالصوم أو الإحرام في الحج أو المانع الطبعي كوجود شخص ثالث- فالغالب أنه يجامعها. ولما كان إثبات هذا الجماع أمرا متعذرا قال هؤلاء بأنه يكفي المرأة إثبات الخلوة الصحيحة، لتنال حقوقها في إثبات المهر وثبوت النسب والعدة، ووجوب النفقة والسكنى وغير ذلك، وجعل المالكية أيضا الخلوة قرينة على الوطء ولذا قالوا لن تصدق المرأة في دعواها الوطء وعليها اليمين [63] .(30/500)
وجعل الفقهاء كذلك قرينة الصلاحية معيارا لفض النزل بين الزوجين في متاع البيت وذلك بجعل ما يصلح للرجال من كتب وسلاح وغيره للرجل، وما يعرف أنه من متاع النساء كالحلي والمغازل فهو للمرأة. خلافا للإمام الشافعي الذي لا يرى فض النزل بالصلاحية [64] .
وفي إثبات النسب بالقرائن، أخذ الفقهاء من قرينة قبول الرجل التهنئة وشراء لوازم الولادة قرينة على. أن الولد منه، وقبل الحنفية وصف العلامة في ثبوت نسب اللقيط. كما عد فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية قرينة القافة- أي النظر إلى الشبه- دليلا على ثبوت النسب. وخالف فيها فقهاء الحنفية [65] .
(ي) قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفرس إذا كان موسوما بعلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف [66] .
والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني اكتفي بهذا القدر لعلى أكون به قد أبرزت جانبا من أهمية القرائن، وأنها دليل قوى قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعر ض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تاج العروس "فصل الفاء من باب السين ".
[2] نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذي ص 271. ط. العثمانية.
[3] مجمع الزوائد للهيثمي1/268.(31/1)
[4] تفسير روح المعاني لشهاب الدين الألوسي. ط. دار إحياء الكتب العربية وانظر تفسير ابن كثير. ط. المنار.
[5] أحكام القرآن ج 3 ص 1119.
[6] هو أحمد بن يحي بن زيد الشيباني المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة كان راوية للشعر ومحدثا مشهورا
من كتبه "معاني القرآن "و"مجالس ثعلب "، "وما تلحن فيه العامة"توفي سنة 291 هـ.
[7] تفسير القرطبي ج10 ص 44.
[8] نوادر الأصول ص 271.
[9] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج3 ص 191. ص191. ط. العثمانية.
[10] صحيح مسلم مع شرح النووي ج هـ اص 166, وفيه جاء قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث مقام إبراهيم وفى الحجاب وفي أسارى بدر. وفى رواية أخرى عند مسلم قال عليه السلام: "إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم "ج 15 ص 166. و (محدثون) : أي ملهمون, جاء في تحفة الأحوذي ج 4 ص 317: "قال الأكثر: إنه ملهم, وقيل: تكلمه الملائكة من غير نبوة- وورد في حديث أبي سعيد مرفوعا: "قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟، قال: "تتكلم الملائكة على لسانه " وقد رويناه في فوائد الجوهري وحكاه القاسي ". اهـ.
[11] نوادر الأصول للحكيم الترمذي ص271.
[12] الطرق الحكمية لابن القيم ص 36. تبصرة الحكام لابن فرحون ج 2 ص103.
[13] الطرق الحكمية ص 36.
[14] المرجع السابق.
[15] تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 496.
[16] الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4/136.
[17] أحكام القران 3/1119.
[18] تبصرة الحكام 2/ 104.
[19] انظر الموافقات للشاطبي 2/ 185 والحديث رواه البخاري عن أم سلمة- رضي الله عنها- صحيح البخاري كتاب الشهادات باب "من أقام البينة بعد اليمين".
[20] معين الحكام للطرابلسي ص 204. ط. الأميرية.
[21] الطرق الحكمية ص 28.(31/2)
[22] يراجع مقالنا في العدد (60) من هذه المجلة.
[23] الحديث رواه مسلم انظره مع شرح النووي 17/ 156 وتمامه "قالوا: يا رسول الله وإياك؟ قال: وإيايّ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير".
[24] لسان العرب (حرف النون فصل القاف) , تاج العروس (فصل القاف في باب النون) , الصحاح (مادة قرن) .
[25] التعريفات للجرجاني ص 152.
[26] البحر الرائق 7/ 152.
[27] مجلة الأحكام العدلية المادة (1741) .
[28] الأشباه والنظائر لابن القيم وشرح الجموي على الأشباه 1/ 126, وانظر علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي للمرحوم عبد الوهاب حلاف ص 97.
[29] الفروق 3/ 149.
[30] الاختيار لتعليل المختار 2/177.
[31] رسائل ابن عابدين 2/128.
[32] أحكام القرآن 3/ 1065.
[33] تفسير القرطبي 9/ 150.
[34] أحكام القرآن3/1073, تفسير الطبري 12/ 116، تفسير الرازي 5/ 179.
[35] تفسير الرازي 5/ 179، تفسير الخازن 3/16.
[36] روح المعاني 12/ 222, أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1071، والكشاف بهامشه الانتصاف 2/93.
[37] أحكام القرآن لابن العربي3/1073، تبصرة الحكام لابن فرحون2 /93.
[38] صحيح البخاري 4/ 104 "كتاب الفرائض ".
[39] سنن أبى داود 3/ 351.
[40] صحيح البخاري كتاب "النكاح "3/207.
[41] السيرة النبوية لابن هشام 3/337. قال في فتح الباري: "أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقات ". انظر فتح الباري 7/ 386.
[42] رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" سنن الترمذي6/173. ط. الصاوي- مصر.
[43] صحيح مسلم بشرح النووي 12/62.(31/3)
[44] القافة جمع قائف كبائع وباعة وهو من يعرف النسب بالشبه. وفى الصحيحين أن مجززا المدلجي رأى أسامة وزيدا قد غطيا رءوسها وبدت أقدامها فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض "، فسُرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكون المشركين كانوا يشككون في نسبهما لاختلاف لونيهما. انظر البخاري (باب الفرائض) 3/ 139، مسلم بشرح النووي10/ 42.
[45] بلوغ المرام مع سبل السلام 4/8.
[46] الموطأ مع المنتقى 3/142. ط. السعادة. مصر، وانظر صحيح مسلم مع شرح النووي11/216.
[47] الطرق الحكمية ص 67.
[48] الحديث رواه أبو داود في سنه 4/233 مع حاشيته عون المعبود.
[49] سنن الترمذي6/236.
[50] الطرق الحكمية: 67.
[51] المرجع السابق: ص70- ا 7.
[52] سنن الدارمي 1/ 222 وفي تخريج أحاديث الدارمي يقول عبد الله هاشم اليماني: "رواه أيضا أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن غريب "وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد.
[53] البحر الرائق 7/ 205 وانظر بهامشه منحة الخالق وكذلك رسائل ابن عابدين 2/128.
[54] الشرح الكبير للدرديري بهامش حاشية الدسوقي 4/233.
[55] يراجع في فقه المذاهب الأربعة والظاهرية مايلي: بدائع الصنائع للكاساني 6/267. المبسوط للسرخسي 18/ 34. قوانين الأحكام الفقهية لابن جزي المالكي ص 322، البهجة شرح التحفة للتسولي المالكي 2/ 254، مختصر المزني بهامش الأم للشافعي 5/ 161، شرح زكريا الأنصاري على متن البهجة لابن الوردي 5235, المغني لابن قدامة 10/ 230, المحلى لابن حزم 9/ 533.
[56] جامع الفصولين فقه حنفي 2/277، المبسوط 17/ 88, فتح القدير 6/ 251, الفروق للقرافي 3/104, المغني 9/ 324, المهذب للشيرازي 2/ 316، الطرق الحكمية 134.(31/4)
[57] جواهر الروايات للبشتاوي الحنفي ص 43, مجموعة رسائل ابن عابدين 127/2 , الفروق للقرافي 2/ 1 50. الطرق الحكمية ص 111-114 , الأم للشافعي 5/95 , المهذب للشيرازي 2/335 , المحلى لابن حزم 9/533.
[58] كشاف القناع للبهوتي 4/ 220, شرح الحطاب 6/ 70, المحلى 8/296.
[59] راجع مقالنا في العدد 59 من المجلة.
[60] مختصر خليل وشرح الحطاب 6/ 294, الموطأ وشرح الزرقاني 4/15, السياسة الشرعية ابن تيمية ص 111, إعلام الموقعين 4/374، المغني 8/211, المحلى 11 / 339, فتح الباري12/130.
[61] الزيلعي على متن الكَنز 6/97, الدر المختار 5/446 حاشية الزرقاني, وتحفة الطلاب 2/357, كشاف القناع5/151.
[62] المهذب 2/338, تبصرة الحكام1/ 255, الخرشي, 8/ 56, المغني 8/68.
[63] الفتاوى الطرسوسية ص 40 المغنى 6/ 724. تبصرة الحكام 1/252.
[64] المبسوط 213/5، البدائع 2/ 309 الفروق 2/ 1 5 1، مختصر الخرقي والمغنى 9/ 325، الأم ومختصر المزنى 5/95.
[65] المبسوط 6/ 299، البدائع 10/217، نهاية المحتاج 8/ 352 زاد المعاد 4/ 16 1 الفروق 3/ 125.
[66] تبصرة الحكام 2/ 105 معين الحكام ص 305(31/5)
الإمداد بأحكام الحداد
للدكتور فيحان شالي المطيري
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
ـ 1 ـ
الحمد لله الكريم المنّان المتفرد بصفات الكمال والجلال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتعال وأصلّي وأسلّم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله أكرم من مشى على وجه الأرض وتحت أديم السماء.
أما بعد: فقد كرم الله ابن آدم وميز بينه وبين سائر الحيوانات بنعمة العقل التي يفرق بها بين الخير والشر, والضار والنافع, فالإنسان يفكر ويتفكر ويأخذ ويعطي على حسب ما يراه من المصلحة, ونتيجة لهذا العقل فهو يتفاعل مع المجتمع, ويقيم الروابط بينه وبين الآخرين, ومن أهم هذه الروابط وأجلها رابطة الزوجية التي قال عنها القرآن الكريم: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة} (الروم:21) . فأيّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟. التي تكون بين الزوجين بسبب الرابطة الزوجية ولهذا فإن الشارع الحكيم جعل لكل منهما حقوقا على صاحبه؛ فالزوجة لها حقوق على الزوج عظيمة لا يسمح له الشرع بالإخلال بشيء منها والانتقاص منها, وكذلك الزوج له حقوق عظيمة على زوجته لم يجعل الشارع سبيلا للزوجة كي تعبث بها, وهي لا تستحق الإكرام إلا إذا قامت بهذه الحقوق خير قيام, وهذا كله دليل على سماحة الشريعة الإسلامية وحرصها على جمع الكلمة وتقوية الروابط الفردية والاجتماعية وتأسيس الحياة الزوجية على أساس قوي يكتب له البقاء ردحاً من الزمن, وفي هذا سعادة المجتمع وسعادة الفرد, ولهذا وغيره من الأسباب أوجب الله الحداد على المرأة في حق زوجها المتوفى إظهاراً لحق الزوج ووفاءً بالعهد الذي كان بينهما على حد قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . (البقرة: 237) .(31/6)
نعم إنّ الفضل لا ينسى بين المسلمين وإنما يذكر أصحاب الفضل بالفضل, فالزوجة لا تنسى فضل زوجها وما كان بينهما من المحبة والمودة والعشرة الطيبة, فمن الوفاء كل الوفاء القيام بحقه حياً وميتاً.
ومن هذا المنطلق فقد ساهمت بهذا الجهد المتواضع خدمة للشريعة الإسلاَمية, فطالما كنت أفكِّر في الكتابة في هذا الموضوع لما له من الأهمية في حياة الفرد المسلم اليومية, والموت سنة إلهية لا ينكرها أحد حتى أولئك الذين لا يعترفون بالإسلام ديناً، نجد أنهم لا ينكرون هذه السنة الإلهية, فربّما فقدت المرأة زوجها قبل الدخول أو بعده فتكون محتاجة إلى معرفة الأحكام المتعلقة بالإحداد ولا تجد ما يحقق رغبتها اللهَّم إلا ما كان مبعثراً في المصادر القديمة مما يتعلق بالحداد. وقَد عزمت على الكتابة في هذا الموضوع تيسيراً وتسهيلاً على من يحتاج إلى ذلك مسترشداً بأفكار المتقدمين على ضوء الدليل والاستدلال والمناقشة, وقد زادني رغبة سؤال أتاني من فتاة تدرس في معهد التمريض للبنات مفاده أنّ زوجها توفي عنها في حادثة سيارة قبل الدخول, فهل يجب عليها الإحداد؟ ثم إذا كان يجب عليها فهل يجوز لها الخروج للدراسة وتأدية الامتحان. بالرغم من أنه لا يوجد لها عائل يعولها؟ فأجبتها حسب علمي وأحلتها على شيخنا سماحة الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز ليطمئن قلبي وقلبها وبحمد الله أفتاها بمثل ما أفتيتها به, ومن هنا عقدت العزم على الكتابة وبدأت في جمع المادة من مصادرها وتقريبها في هذا البحث, راجيا الله عز وجل أن ينفع به كل من قرأه واطلع عليه، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
أما أسلوب البحث فهو يتلخص في ما يأتي:
1ـ أذكر مذاهب الفقهاء الأربعة ما وجدت إلى ذلك سبيلا معتمداً على المصادر المشهورة في كل مذهب ثم أعرّج على المذاهب السنية الأخرى تتميما للفائدة.(31/7)
2 ـ أعرض المسألة وما فيها من الاختلاف فأذكر القول ودليله ومناقشة أدلة القول المرجوح ثم أخلص إلى الراجح حسبما يظهر لي, ولا أعتمد في القول الراجح على ترتيب معين.
3 ـ أعزو الآيات والأحاديث والآثار إلى مصادرها, فالآيات أعزوها إلى سورها في المصحف الشريف, والأحاديث أعزوها إلى كتب المحدثين, والآثار إلى كتب المحدثين, وقد أكتفي بعزوها إلى كتب الفقه أحياناً.
4 ـ أجعل الفصل على مباحث, والمبحث على مطالب, والمطلب إلى فروع ما وجدت إلى ذلك سبيلا حسبما يتطلبه ذلك الفصل.
5 ـ اقتبست أكثر أحكام الإحداد من الأدلة التي تفيد إيجاب العدة على المتوفى عنها واستفدت من أقوال الفقهاء في هذا الباب وإلا فالأحكام التي ذكرت عن الإحداد قديماً
قليلة جداً لا تتجاوز عشر صفحات في المطوّلات، وإنما فعلت ذلك لكون الحداد وعدة المتوفى عنها- شقيقتين- فهو يجب حيث تجب وينعدم حيث تنعدم، ولم أجد من أفرده بالتأليف قبلي وأحسب أن هذا البحت باكورة ما كتب فيه.
أما الخطة فبنيتها على ستة فصول وخاتمة:
الفصل الأول: معنى الإحداد.
الفصل الثاني: حكم الإحداد.
الفصل الثالث: شروط الإحداد، وفي هذا الفصل المباحث آلاتية:
المبحث الأول: كون الحادة عاقلة.
المبحث الثاني: في اشتراط البلوغ.
المبحث الثالث: في شرط الإسلام.
المبحث الرابع: هل من شرط وجوبِ الحداد كونه من الوفاة؟
المبحث الخامس: هل من شرط وجوب الحداد كون النكاح صحيحاً؟
الفصل الرابع: في أقسام الحداد، والكلام فيه في مبحثين:
المبحث الأول: في الحداد الجائز.
المبحث الثاني: في الحداد الممتنع, وقسمت كل مبحث إلى قسمين.
الفصل الخامس: في زمن الحداد وفيه مبحثان:
المبحث الأول زمن الحداد على القريب الميت.
المبحث الثاني رمن الحداد على الزوج، وفيه مطالب:(31/8)
المطلب الأول عدة غير ذات الحمل وفيه مسائل مبيّنة في موضعها.
المطلب الثاني في سبب وجوب الحداد.
المطلب الثالث: في شرط وجوب عَدة المتوفى عنها.
المطلب الرابع: في وجوب الحداد على المطلّقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدّتها من الطلاق.
المطلب الخامس: في إحداد المتوفى عنها الحامل.
الفصل السادس: الآثار المترتبة على الحداد، وفيه مباحث:
المبحث الأول: في الطيب.
المبحث الثاني: عدم تزين المرأة في نفسها.
المبحث الثالث: في زينة الثياب.
المبحث الرابع: في منع الحادة من الحلي.
المبحث الخامس: في سكنى الحادة وفيه مطالب:
المطلب الأول: في مبيت الحادة في منزلها ليلا.
المطلب الثاني: خروج الحادة من منزلها نهاراً.
المطلب الثالث: في وجوب السكنى وعدمها سكن الحادة.
المطلب الرابع: في نفقة الحادة.
الخاتمة: فقد تكلمت فيها على النتائج التي ظهرت لي من خلال البحث.
وإليك تحرير المقام في ذلك كله.
الفصل الأول: معنى الإحداد:
الإحداد له معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح، أما معناه لغة: فهو المنع لأن الإحداد صفة تتعلَّق بالمرأة المحدة فهو يمنعها من كثير مما كان مباحاً لها قبله، قال في القاموس: "الحاد والمحدة تاركة الزينة للعدة تقول: حَدَّتْ تَحِدُّ وتَحُدُّ حَداً وحداداً وأحدّت" [1] ، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل، وسميت العقوبة حداً لأنها تمنع عن المعصية. وأما معناه في الاصطلاح: فهو أن تجتنب المرأة المعتدة المتوفى عنها زوجها كل ما يدعو إلى نكاحها ورغبة الآخرين فيها من طيب وكحل ولبس ومطيّب وخروج من منزل من غير حاجة.
قال ابن درستوية: "معنى الإحداد منع المعتدة نفسها الزينة وبدنها الطيب ومنع الخطّاب خطبتها والطمع فيها كما منعَ الحد المعصية" [2] .(31/9)
وقال الزيلعي: "وهو -أي الإحداد-: ترك الزينة والطيب" [3] .
ونشير هنا إلى أن الإحداد فيه لغتان وهما أحدّت إحداداً فهي محدّة فهذا من باب إفعال، والثاني: تحدّ من باب ضرب يضرب، ونصر ينصر، حدّاً فهي حادّ [4] .
هذا ما يمكن أن يقال عن معنى الإحداد، ومنه يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي من العلاقة، فالمعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي لأنه يراد به المنع مطلقا، أما المعنى الاصطلاحي فيراد به منع المعتدة من أمور خاصة إلى غاية معينة محدودة وهي مدة العدة.
فالعلاقة بين المعنيين علاقة عموم وخصوص كما ترى وهذا هو الشأن في معظم الأحكام التي لها معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح إن لم نقل كلها ...
الفصل الثاني: في حكم الإحداد:
هذا وبعد عرض المعنى اللغوي والاصطلاحي للإحداد نرى أنه من المفيد أن نذكر حكمه لأن ذلك هو الهدف الأول من دراسة ما يتعلق به من أحكام بالنسبة للمرأة إذا توفرت شروطه فنقول: اتفق كل من يعتد بقوله من أئمة الفتوى على وجوب الإحداد على المرأة التي مات زوجها من غير فرق بين ما إذا كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها بل هو واجب على الكل فلو أرادت المتوفى عنها زوجها تركه لم يكن لها ذلك لأن الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه في اصطلاح الأصوليين، فالمرأة التاركة للإحداد آثمة ولاشك لما ستعرف قريبا من المنقول والمعقول وإجماع الصحابة على وجوب الإحداد ولم أجد في هذا المعنى خلافا اللهّم إلا خلافا شاذاً مرويا عن الحسن البصري والشعبي وسنذكر هذا الخلاف تتميما للفائدة وتبييناً للحق، إذن المنقول في ذلك من مذهبان: مذهب الجمهور وهو المعتمد والمشهور والمعمول به، ومذهب الحسن البصري والشعبي. ولنبدأ بمذهب الجمهور ونذكر أدلتهم ونثنِّي بالمذهب المخالف مع الإشارة إلى أدلة هذا المذهب وما أورد عليها من المناقشات.(31/10)
فنقول وبالله التوفيق: ذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وجوب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها على تفصيل في ذلك نذكره قريبا إن شاء الله تعالى [5] .
وإنما ذهب الفقهاء هذا المذهب للمنقول والمعقول وإجماع الصحابة.
أما المنقول فنورد منه ما يأتي:
أـ عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً"، قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمسّت منه ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً"، قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفَنُكَحِّلُها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا "، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشراً". متفق عليه مختصراً.
ب ـ عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً" [6] .(31/11)
فقد دلّ هذان الحديثان وما في معناهما على وجوب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها وهما نص في الموضوع ووجه الاستدلال من ذلك هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وهذا على معنى الإيجاب لا على معنى الإباحة لأن ذلك مستثنى من التحريم وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ" وهذا يقتضي أن لفظة (افعل) وهو قوله: "أربعة " تكون بعد الحظر على بابها وهو الإيجاب فالحظر هنا التحريم فاستثنى منه الإيجاب كما نرى خلافاً لمن قال من الفقهاء إنها تقتضي الإباحة.
فإن قيل الاستثناء في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا على زوج.."الخ قد وقع بعد النفي فيدل على الحل فوق الثلاث على الزوج لا على الوجوب قيل إن الوجوب استفيد من دليل آخر بالإضافة إلى ما قلنا وهذا الدليل هو الإجماع وهو ما سنبيِّنه فيما يأتي.
وأما الإجماع فإنه روي عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة وغيرهم -رضي الله عنهم- القول بوجوب الإحداد ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا من الصحابة- رضي الله عنهم [7]
ومستند الإجماع هو ما ذكرناه من النصوص الدالة على وجوب الإحداد.
وأما المعقول فهو يفيد إيجاب الإحداد على المعتدة من الوفاة أيضاً لأن الحداد إنما وجب إظهاراً لحق الزوج على زوجته تأَسُّفاً على ما فاتها من حسن العشرة ودوام الصحبة إلى وقت الموت زد على هذا أنّ الحداد يكون واجبا لسبب آخر وهو فوات النكاح الذي هو نعمة في الدين خاصة في حقها لما فيه من قضاء لشهوتها وعفتها عن الحرام وصيانة نفسها عن الهلاك بدرور النفقة وقد انقطع ذلك كله بالموت فلزمها الإحداد إظهاراً للمصيبة والحزن [8] .
فهذا هو النص والإجماع والمعقول كلها قاضية بإيجاب الحداد إذا وجد سببه وهو بّين كما ترى والله أعلم.(31/12)
ثانيا: ذهب الحسن البصري والشعبي إلى عدم وجوب الإحداد على المعتدة من الوفاة وهو قول شاذ مخالف لإجماع أئمة المسلمين ولهذا رده بعضهم فإنّ الخلال نقل بإسناده عن أحمد عن هشيم عن داود عن الشعبي أنه كان لا يعرف الإحداد قال أحمد: "ما كان بالعراق أشد تبحراً من هذين- يعني الحسن والشعبي- "قال أحمد: "وخفي ذلك عليهما". قال ابن حجر في الفتح: بعد إيراده ما ذكر "ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج وإن كان فيها ردّ على من ادّعى الإجماع" [9] .
وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر خلاف الحسن لأئمة الفتوى: "وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة فلا يُعرَّج عليه" [10] .
هذا ما أورده أهل العلم على هذا القول الشاذ وعلى فرض التسليم بثبوته فالاستدلال له بما يأتي:
1 ـ ما روي عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تسلبي [11] ثلاثا ثم اصنعي ما شئت" [12] . أخرجه أحمد.
2 ـ عن أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تحدّ على جعفر وهي امرأته فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي [13] .
فهذا دليل على عدم وجوب الإحداد على المعتدة من الوفاة أكثر من ثلاثة أيام وهو نص في محل النزاع والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنه شاذ لا يحتج به ولا يصلح عمدة لإثبات الأحكام، قال ابن المنذر مجيبا عن ذلك: "وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول: "هذا شاذ ولا يؤخذ به"وقاله إسحاق [14] .(31/13)
الوجه الثاني: أنّ هذا الحديث مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة ولعلها لم تبلغ القائلين بهذا القول إذ إنها لو بلغتهم لم يسعهم إلا التسليم؛ لأنه لا يصح لمسلم كائنا من كان يبلغه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دالُّ على حكم من الأحكام إلا القبول والتسليم قال ابن المنذر: بعد عرض المسألة وما فيها من خلاف: "كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقد رُدَّ قول الحسن بأن الأخبار قد ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجوب الحداد وليس لأحد بلغَته إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس [15] الآنف الذكر.
الوجه الثالث: لو سلّمنا بصحة هذا الحديث فالأحاديث الدالة على الوجوب مقدّمة عليه لكونها أصح منه ولا ريب في دلالتها على الوجوب فإنّ حديث التي شكت عينها والذي تم تثبته قريبا يفيد الإيجاب وإلا لم يمتنع التداوي المباح، وأيضا السياق يدل على الوجوب فإن كل ما منع منه ودل دليل على جوازه كان ذلك الدليل دالاً بعينه على الوجوب كالختان والزيادة على الركوع في الكسوف [16] .
هذا ما يمكن أن يستدل به لهذا القول وما يمكن أن يجاب به عن الاستدلال.(31/14)
والذي يترجح عندي هو القول بوجوب الإحداد إذا وجد سببه وتوفرت شرائطه وذلك لدلالة السنة والمعقول وإجماع الصحابة على ما بيَّنا فهل يقول مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعدم وجوب الإحداد بعد معرفة النصوص النبوية الشريفة التي تفيد بمنطوقها ومفهومها إيجاب ما دلت عليه ... لا أعتقد أنّ أحداً يقول بخلاف ذلك ولهذا انعقد إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا المعنى، وفي ظني أن الحسن البصري والإمام الشعبي لو بلغتهما هذه النصوص لما أحجما عن القول بوجوب الإحداد لما عرف عنهما من الفضل والتقوى وإرادة الحق وهذا شأن كل مسلم لأن المسلم إنما سمي مسلما لتنفيذه الأوامر الربانية واجتنابه النواهي السماوية وهو ما يفيده معنى الإسلام فإن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، فإذا كان المسلم قائماً بما أَمر به مجتنباً لما نهي عنه استحق أن يوصف بوصف الإسلام والإيمان، وإذا لم يكن كذلك فلا فرق بينه وبين سائر الناس الذين لا يؤمنون بالشرائع السماوية.
ونحن لا نقول إنّ المرأة المتوفى عنها زوجها إذا تركت الإحداد خرجت من الإسلام وإنما نقول إنها تركت واجباً من واجبات الإسلام يثاب فاعله ويعاقب تاركه فإن الإيجاب وعدمه لا يعرف إلا من قبل الشارع وهو الذي أوجب الإحداد على كل من توفي عنها زوجها من غير تفصيل.
الفصل الثالث: في شروط الإحداد:
عرفت في الفصل الآنف الذكر حكم الحداد وأنه واجب في الشريعة الإسلامية وقد دل على وجوبه صريح السنة وإجماع الصحابة والمعقول على ما تم ثبته قريباً وبما أن الحكم(31/15)
الشرعي قد لا يوجد عادة إلا إذا توفرت له شروط خاصة ولكون الحداد من هذا القبيل كان من الضروري أن نشير إلى الشروط اللازمة لوجوب الإحداد والتي لابد من وجودها لإيجاب الإحداد على المرأة المحدة، وهذه الشروط ليست محل اتفاق وإنما هي موضع خلاف عند أئمة الفتوى فما يراه البعض قد لا يراه البعض الآخر، كذلك وبيان هذه الشروط على النحو الآتي وطبقاً لما يقتضيه فن التأليف وجودة التنظيم. ونظراً لتعدد هذه الشروط فقد رأيت أن أجعل هذا الفصل مبنياً على المباحث الآتية. وقبل أن ندخل في التفصيل نشير هنا إلى أن شروط الحداد على قسمين: قسم متفق عليه وقسم مختلف فيه.
فالقسم المتفق عليه: هو أن تكون المعتدة عاقلة بالغة مسلمة من نكاح صحيح. وأما القسم المختلف فيه: فهو سوالب هذه الشروط. وكذلك هل يشترط في الحداد كون المرأة معتدة من وفاة أولا؟ ونحن نشير إلى ذلك كله بالتفصيل.(31/16)
المبحث الأول: كون المرأة المعتدة عاقلة. اتفق الفقهاء على وجوب الحداد على المرأة العاقلة إذا وُجِدَت الشروط الأخرى التي سنذكرها قريبا؛ وذلك لأن العقل نعمة أنعم الله بها على الإنسان وميزه بها عن سائر الحيوان فهو يميز بها بين الحلال والحرام، والضار والنافع، ولذلك جعل الشارع العقل مناطاُ للتكليف لعلمه أنّ فاقد العقل لا يفرّق بين الضار والنافع, وبالتالي لا يستطيع القيام بالأحكام التكليفية على الوجه الذي أمر الشارع أن تكون عليه، ومن هذا المنطلق قالت الحنفية بعدم وجوب الحداد على المجنونة [17] ؛ لأن العقل هو مناط التكليف كما قلنا والمجنونة فاقدة لهذه الوسيلة فلا يتوجه إليها أمر ولا نهي لأن الشريعة الإسلامية لا تكلف أحداً إلا بما هو في مقدوره وتحت تصرفه على حد قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} . (البقرة: 286) ، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . (التغابن: 16) . ولا يوجد شيء من ذلك بالنسبة للمجنونة التي ذهب عقلها وحُرمت تلك النعمة، ولهذا قالت العلماء إنها غير مخاطبة بالأحكام التكليفية، والحداد من الأحكام التكليفية فلا يجب عليها، يحقق ذلك كله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " [18] . ورفع القلم هنا معناه عدم التكليف لأن من ذكر في الحديث لو كان مخاطباً بالأوامر والنواهي لكان خطابا بما لا يطاق، والشريعة الإسلامية لا تقر هذا، ولا يظلم ربك أحدا. هذا ما رآه الحنفية ولم ير الجمهور هذا الرأي بل قالوا بوجوب الحداد على المجنونة [19] لأنها زوجة ف"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"هي داخلة تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: [20] فهذا نص عام يفيد إيجاب الإحداد على كل زوجة من غير فرق بين(31/17)
ما إذا كانت عاقلة أو غير عاقلة، والقول بعدم وجوب الإحداد على المجنونة يحتاج إلى دليل مخصص لهذا العموم ولم يوجد فيبقى على عمومه دالاً على إيجاب الإحداد مطلقا، وستعرف في المبحث الآتي مزيداً من الأدلة للفريقين لما بين المبحثين من العلاقة وذلك لاشتراك الجنون والصغر في عدم التكليف.
المبحث الثاني: كون المعتدة بالغة:
البلوغ هو مظنة رشد المكلف فإذا بلغ الصغير فإنه قد يعرف مصالح نفسه ويكون رشيداً يحسن التصرف في تعامله مع نفسه ومع غيره يبيِّن ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . (النساء: 6) .
والبلوغ ضد الصغر، والصغير هو من لم يبلغ النكاح، والصغر مظنة لعدم الرشد لكون الصغير فاقداً لآلة الفهم والتمييز وإدارك الأشياء على حقيقتها التي تمكنه من معرفة مصالحه وعلى هذا فهل يجب الحداد على المرأة الصغيرة التي لم تبلغ مع اتفاق الفقهاء على وجوبه على المرأة البالغة العاقلة؟.
أقول: اختلف الفقهاء في وجوب الحداد على الصغيرة على قولين:
القول الأول: ذهب الجمهور إلى وجوب الحداد على الصغيرة فلا فرق عند هؤلاء بين الصغيرة والكبيرة إلا في الإثم [21] . وقول الجمهور هنا موافق لقولهم في إيجاب الحداد على فاقدة العقل بسبب الجنون - كما تم ثبته قريباً- فلا فرق عندهم في إيجاب الإحداد على الزوجة بين أن تكون عاقلة أو غير عاقلة مادام أنّ اسم الزوجية شامل لها.
الاستدلال لهذا القول: استدل أصحاب هذا القول بالمنقول والمعقول:(31/18)
أما المنقول فهو العمومات التي تفيد إيجاب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها من غير فرق بين ما إذا كانت كبيرة أو صغيرة من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاثٍ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً". وقد ذكرنا طرفا من هذه العمومات عند الكلام على الفصل الثاني وهي قاضية بوجوب الحداد، شاملة بعمومها لكل أحد وإخراج الصغيرة من هذا العموم يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.
وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجوه:
أـ إنّ العدة تجب على الصغيرة اتفاقاً فإذا كان الأمر كذلك فإن الحداد يجب عليها لكونه حُكماً من أحكام النكاح فهو يشترك مع العدة في ذلك بالإضافة إلى ما فيه من إظهار التأسف على فراق الزوج، ونحن نعلم يقينا فراغ رحم الصغيرَة ومع ذلك وجبت العدة عليها. فالعدة إنما وجبت عليها لحق الشرع لأن فراغ رحمها من ماء الزوج أمر مقطوع به ومع هذا وجبت عليها العدة فكذلك الحداد يجب عليها.
ب ـ إن الصغيرة يحرم العقد عليها بل تحرم خطبتها مادامت في العدة وهذا المعنى يوجد في حق الكبيرة فظهر أنهما يشتركان في حكم الحداد أيضا [22] .
ج ـ إنّ غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا، وإنما يفترقان في الإثم [23] فإذا كان الأمر كذلك فإنّ ترك الحداد فعل محرم والصغيرة ممنوعة من ذلك ويكون المنع إلى وليّها بمعنى أنه لا يمكنها من ترك الحداد كما أنه لا يمكنها من ترك العدة فتحريم الطيب وسائر أنواع الزينة عليها إنما هو لحق الشرع، فالشرع هو الذي منعها من ذلك، والغرض من هذا هو إظهار حق الزوج وهذا المعنى يستوي فيه البالغة وغيرها.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم وجوب الحداد على الصغيرة وجعلوا ذلك مخصوصا بالمرأة البالغة، وإنما قالوا بذلك لما يأتي [24] :(31/19)
1 ـ أن الحداد حق من حقوق الشرع ولهذا لو أمرها الزوج بتركه لا يجوز لها تركه فلا تخاطب الصغيرة بذلك، وكذا شرط الإيمان فيه حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر" الحديث.
2 ـ إنّ منع الصغيرة المتوفى عنها زوجها من اللبس والطيب هو فعلها الحسّي محكوم بحرمته فلابد فيه من خطاب التكليف بخلاف العدة وإنها قد تقال على كف النفس عن الحرمات الخاصة وعلى نفس الحرمات وعلى مضي المدة وهي اللازمة لها على كل حال بمعنى أنه يثبت بعد الموت صحة نكاح الصغيرة إلى انقضاء مدة معينة وهي مدة العدة فإذا باشروا لها عقد النكاح قبل انقضاء عدتها لا يصح شرعا ولا خطاب للعباد فيه تكليفي بل هو من ربط المسببات بالأسباب وهذا كله لا يوجد في الحداد لأن الخطاب به خطاب تكليفي فلو اكتحلن أو لبسن المزعفر واختضبن لا يأثمن لعدم التكليف به [25] .
هذا ما استدل به الفريقان بالنسبة لهذه المسألة وهي مشكلة كما نرى ووجه الإشكال هو أن الصغيرة لا تخاطب بفروع الشريعة من الصوم والصلاة والحج لأنها فاقدة للأهلية وهي التكليف فالخطاب إنما يتوجه إلى المكلفين, وعموم السنة التي استدل بها الفقهاء على وجوب الحداد قاضية بوجوب الحداد على كل امرأة من غير فرق بين الصغيرة والكبيرة, زد على هذا أن العدة واجبة من غير فرق أيضا, وقد قلبت النظر في هذه المسألة كثيراً لعلي أهتدي إلى الراجح منهما وبعد نظر طويل وتفكير عميق شرح الله صدري بترجيح القول الأول وهو وجوب الحداد عليها وذلك لما يأتي:(31/20)
1 ـ أن الصغيرة المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها أن تفعل شيئا من المحرمات كالزنا والخمر والسرقة وغيرها من المحرمات, والولي مطالب بمنعها فإذا لم يمنعها من الوقوع في الفعل المحرم فهو آثم, ومن ذلك ترك الحداد وفعل ما ينافيه كالطيب وسائر أنواع الزينة, فكما أنّ الولي لا يجوز له أن يمكِّنَها من ارتكاب سائر المحرمات فكذلك لا يجوز له أن يمكّنها من ترك الحداد وهو مخاطب بذلك كما يفيده عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع" [26] , فلو لم يفعل الولي ذلك فهو آثم ولاشك, وكذلك ما نحن فيه.
2 ـ أنّ وجوب العدة على الصغيرة لا خلاف فيه عند أئمة الفتوى فيما علمنا, يوضحه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . (سورة البقرة: 234) . والصغيرة زوجة والتنكير يفيد العموم والعدة عبادة وهي لازمة للصغيرة فهل يقول قائل إنها تجب هنا ولا يجب الحداد هنالك, فإن كان كذلك فهو مطالب بالدليل على وجود الفرق.
3 ـ نعم الصغيرة لا تخاطب بفروع الشريعة وإنما الولي هو المطالب بمنعها من فعل المحرمات على ما بينا, ألا ترى أن الولي لوليّ بالحج عن الصغيرة أو الصغير؟. كانت أحكام الحج لازمة لوليها بمعنى أن الولي لا يمكنه من فعل محظورات الإحرام من الطيب واللبس ونحو ذلك فلو فعل ذلك كان آثما فأي فرق بين المسألتين إنني لا أجد فرقا.(31/21)
4 ـ العمومات التي استدل بها أصحاب القول الأول من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشر", لم تفرق بين ما إذا كانت الزوجة كبيرة أو صغيرة بل هي شاملة بعمومها لكل أحد, فقوله: (لامرأة) نكرة تفيد العموم, وقد أكد هذا العموم بذكره النكرة بعد النفي وهذا زيادة في العموم كما تفيده قواعد الأصول, وسيأتي تحرير المقام في قوله صلى الله عليه ويلم (أن تؤمن) عند الكلام على حكم الحداد من الكتابية. ولا حجة في قوله صلى الله عليه وسلم (امرأة) للقائلين بعدم وجوب الحداد على الصغيرة وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الصغيرة تسمى امرأة فلها من الحقوق كالكبيرة, وعليها ما عليها, صحيح أنها لا تبتغى لطلب الولد لصغرها لكونها لا يوطأ مثلها بيد أن اللفظ شامل لها.
الأمر الثاني: لو سلمنا أنها لا تسمى امرأة فلا دلالة فيه للمخالفين لأننا نقول إنه خرج مخرج الغالب فإن الغالب الكثير أن المرأة لا يفارقها زوجها إلا وهي كبيرة وليس معناه أن الحداد لا يجب على الصغيرة.
المبحث الثالث: كون الحادة مسلمة:
اتفق الفقهاء فيما علمنا على أن الحداد يجب على المرأة الكبيرة العاقلة البالغة المسلمة على ما بيّنا, واختلف الفقهاء في سوالب ذلك, ومنه اختلافهم في وجوب الحداد على الكتابية, وتجدر الإشارة هنا إلى أن أئمة الفتوى لم يختلفوا في إباحة الحداد لكل من ذكرنا ومن سنذكر قريبا, وإنما الخلاف في الوجوب أو السنية.
وبيان اختلافهم في وجوب الحداد على الكتابية كالآتي:(31/22)
1ـ ذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى وجوب الحداد على الكتابية, وقد استدلوا لذلك بأدلة بيانها كالآتي: العمومات التي تفيد وجوب الحداد على الكتابية لأنها من جملة النساء, والأحاديث لم تفرق بين ما إذا كانت المرأة مسلمة أو كتابية, وإخراج الكتابية من هذا العموم يحتاج إلى دليل, ولا دليل عليه, ومن ادّعى خروج الكتابية فعليه الدليل, أضف إلى هذا أن الكتابية زوجة وقد أوجب الله تعالى العدّة على الزوجات من غير تخصيص. يوضحه قوِله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فهذا إيجاب من الله تعالى العدة على الزوجات من غيرفرق ولا تجب عدة الوفاة إلا حيث يجب الحداد؛ لأن الحداد حق للزوج فهو يلتحق بالعدة في حفظ النسب فتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السوم على سوم أخيه [27] .
فإن قيل كيف يكون الحداد واجباً على الكتابية وقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوبه الإيمان بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد..". فهذا دليل على عدم وجوبه على الكتابية؟ قيل الجواب عن ذلك من أوجه:
أـ أن شرط الإيمان إنما ذكر تأكيداً للمبالغة في الزجر فلا مفهوم له كما يقال هذا طريق المسلمين وقد يشاركهم غيرهم [28] .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم مجيبا عن هذا الاعتراض ومبيِّناً أنه لا دليل فيه "وأن المؤمن هو الذي يستثمر خطاب الشارع وينتفع به وينقاد له فلهذا قُيّد به" [29] . أضف إلى هذا أن السبكي نقل في فتاويه عن بعضهم أن الذمية داخلة في "تؤمن بالله واليوم الآخر" [30] .
ب ـ أنّ الحداد حق للزوجية على ما بيّنا فهو ملتحق بالنفقة والسكن فكما أن الزوج تجب عليه نفقة زوجته وسكنها فكذلك يجب على الزوجة الحداد على زوجها [31] .(31/23)
ج ـ أن العدة لا تجب على الذمية إلا إذا كان زوجها مسلماً أما إذا كان زوجها ذميا فإن الحداد لا يجب عليها, وأهل الذمة مطالبون بتنفيذ عقودهم مع المسلمين وهذا منها. قال ابن القيم في الهدي مشيراً إلى ما قلنا: "ولكن عذر الذين أوجبوا الحداد على الذمية أنه يتعلق به حق الزوج المسلم وكان منه إلزامها به كأصل العدة ولهذا لا يلزمونها به في عدتها من الذمي ولا يتعرض لها فيها فصار هذا كعقودهم مع المسلمين فإنهم يلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لعقودهم مع بعضهم بعضا" [32] . وذهب الحنفية وبعض المالكية وأبو ثور إلى عدم وجوب الحداد على الذمية سواء كان زوجها مسلماً أو ذمياً [33] .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 ـ إنَّ الكتابية غير مخاطبة بحقوق الشرع والحداد من حقوقه يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر.." الخ.
فالإيمان شرط لوجوب الحداد وهو لا يوجد في الكتابية لكونه حقاً من حقوق الشرع, والذمية ليست أهلا لذلك يوضحه أن المسلمة لو أمرت بترك الحداد لم يكن لها ذلك فدل على أنه تكليفي, والأحكام التكليفية خاصة بالمسلمين قال ابن القيم في الهدي مستدلا لهذا القول بأن النّبي صلى الله عليه وسلم "جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل فيه الكافرة ولأنها غير مكلفة بأحكاَم الفروع فعدوله عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيد بالإيمان يقتضي أن هذا من أحكام الإيمان ولوازمه وواجباته فكأنه قال: من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته" [34] .(31/24)
هذا ما يمكن أن يستدل به بهذا القول, وقد عرفت الجواب عن اشتراط الإيمان في وجوب الحداد عند الكلام على أدلة الجمهور, ونضيف هنا ما ذكره ابن القيم عند عرضه للمسألة حيث قال: "والتحقيق أنّ نفي حل الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفي حكمه عن الكفار ولا إثبات الحكم لهم أيضا, وإنما يقتضي أنّ من التزم الإيمان وشرائعه فهذا لا يحل ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه ولكن لا يلزم الشارع شرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه, وهذا كما لو قيل للمؤمن أن يترك الصلاة والحج والزكاة فهذا لا يدل على أن ذلك حل للكافر وهذا كما قال في لباس الذهب: "لا ينبغي للمتقين"فلا يدل إنه ينبغي لغيرهم وكذا قوله: "لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً" [35] .
كما عرفت مزيداً من أدلة الفريقين عند الكلام على وجوب الحداد على الصغيرة, وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة راجع من حيث الجملة إلى أمرين:
الأمر الأول: الاختلاف في خطاب أهل الذمة بفروع الشرع هل يخاطبون بها أولا؟ فمن قال: إنهم يخاطبون بها قال: يجب الحداد على الذمية, ومن قال: إنهم لا يخاطبون بها قال: لا يجب الحداد عليها.
الأمر الثاني الاختلاف في العدة هل هي حق لله أم حق للزوج؟ فمن قال: إنها حق لله قال: لا تجب العدة على الذمية, ومن قال: إنها حق للزوج قال: تجب العدة عليها, والذي يترجح عندي هو أن الذمية لا يجب عليها الحداد إلا إذا رفع ذلك إلى الحاكم المسلم فإنه يلزمها حينئذ بالحداد.(31/25)
وأما إذا لم يترافعوا إلينا فلا نتعرض لهم, ومن المعلوم أنهم لا ينزجرون عن ارتكاب الذنوب والآثام ولا يتورعون عن فعل المحرمات على اختلاف أنواعها من ترك الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك من صنوف الذنوب والآثام, ولا ذنب أعظم من الكفر فكيف يرجى منهم فعل الحداد وهم لا يفعلون ما هو أعظم من الحداد, وإلى ما قلنا أشار ابن القيم في الهدي بقوله: "وسر المسألة أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب إنما شرعت لمن التزم أصل الإيمان, ومن لم يلتزمه وخلى بينه وبين دينه فإنه يخلى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه كما خَلى بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء" [36] .
فهذا ابن القيم يرى أن الحدود لا يجب على الذمية بإيجاب الشرع إلا أن يحصل الترافع منهم إلى المسلمين فحينئذ يلتزمون بأحكام الإسلام, وإلا فهم لا يتورعون عن ارتكاب المعاصي من الكبائر والصغائر والإسلام, لم يوجب على أتباعه إلزام أهل الذمة بشرائع الإسلام, وإنما يخلى بينهم وبين أحكَام الدين الذي يدينون به ما لم يترافعوا إلينا أو يتعرضوا للإسلام أو أحدٍ من أتباعه بالإهانة؛ لأنهم بعقدهم الذمة مع المسلمين وفرض الجزية عليهم وهم صاغرون إنما هو لحفظ دمائهم وأموالهم وعدم التعرض لهم إلا في الأمور التي فيها ضرر على الإسلام والمسلمين, وإيجاب الحداد على الذمية ليس فيه شيء من ذلك نعم الله عز وجل أرادَ منهم الإسلام, ولكن هم لم يمتثلوا فإذا دخلوا في الإسلام وجب عليهم ما يجب على المسلمين.
المبحث الرابع: هل شرط وجوب الحداد كونه من الوفاة؟:
اتفق الفقهاء على أن الحداد يجب على المعتدة من الوفاة إذا توفرت الشروط الأخرى التي ذكرناها آنفاً والتي سنذكرها قريبا ولا نعلم في هذا خلافاً إلا خلافاً شاذاً ذكرناه في الفصل الثاني.(31/26)
أما المعتدة من طلاق فهي على قسمين: رجعية وبائن. فالرجعية لا يجب عليها الحداد اتفاقاً لأنها في حكم الزوجات, لها أن تتزيّن لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها [37] , فنعمة النكاح لم تفت بعد لأن الزوج له أن يراجعها, والتزين مما يبعثه على مراجعتها فتكون مندوبة إلى التزين لهذا المعنى [38] .
أما البائن فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحداد عليها على قولين مع اتفاقهم على إباحة ذلك لها, ونحن نبيّن هذين القولين وأدلة كل قول وما قد يرد على الدليل المرجوح من المناقشة مسترشدين في ذلك بالمراجع المعتمدة في كل مذهب, فنقول:
1 ـ ذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي في الجديد وأحمد في أحد قوليه وبه قال عطاء وربيعة وابن المنذر إلى عدم وجوب الحداد على المبتوتة [39] .
الاستدلال لهذا الرأي:
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بالمنقول والمعقول:
أما المنقول: فقد استدلوا منه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشر" [40] . وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة [41] .
وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجوه:
أـ أنّ الحداد في عدة الوفاة إنما هو لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته وهذا مالا يوجد في الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه.
ب ـ أنّ المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج الميت لكونه ليس له من ينفيه على فرض أنه ليس له فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره.
ج ـ إنّ المبتوتة معتدة من غير وفاة فلا يجب عليها الحداد قياسا على الرجعية والموطؤة بشبهة.(31/27)
2 ـ وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين والشافعي في القديم وبعض المالكية وأبو ثور وأبو عبيد إلى وجوب الحداد على المبتوتة [42] .
الاستدلال لهذا الرأي:
استدل أصحاب هذا الرأي بالمنقول والنظر.
أما المنقول فقد استدلوا منه بما يأتي:
1ـ ما روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى المعتدّة أن تختضب بالحنّاء, وقال: الحناء طيب" [43] .
فأنت ترى أنه لم يفرّق بين معتدة الوفاة وغيرها فدل هذا على وجوب الحداد على المعتدة مطلقا كما يفيده عموم الحديث.
ويجاب عن هذا الاستدلال بأمرين:
أـ أنه ضعيف لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يذكر في كتب السنة المعتبرة ولو كان صحيحا لذكروه, والحديث الضعيف لا يحتج به في الأحكام.
ب ـ لو سلّمنا بصحته لم نسلّم بعمومه في كل المعتدات, فالرجعية لا يجب عليها الحداد اتفاقاً, فعلى هذا يكون محمولا على المعتدّة من الوفاة, وتخرج البائن من هذا العموم كما خرجت الرجعية [44] .
2ـ روى الطحاوي في شرح الآثار بإسناده إلى حماد عن إبراهيم قال: "المطلقة والمختلعة والمتوفى عنها زوجها والملاعنة لا يختضبن ولا يتطيبن ولا يلبسن ثوباً مصبوغاً ولا يخرجن من بيوتهن". وإبراهيم أدرك عصر الصحابة وزاحمهم في الفتوى فيجوز تقليده [45] .
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأنه قول تابعي, وقول التابعي ليس بحجة, فإنه إذا وقع الاختلاف بين الفقهاء في الاحتجاج بقول الصحابي فعدم الاحتجاج بقول التابعي أولى, زد على هذا أنه معارض لقول من قدّمنا من الصحابة.(31/28)
وأما استدلالهم من طريق النظر: فهو إلحاق المبتوتة بالمتوفى عنها زوجها بطريق الدلالة, وتقريره أن النص ورد في وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها بلا خلاف, ومناط حكمه: إظهار التأسف على فوت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنها, والإبانة اقطع لها من الموت حتى كان لها أن تغسله ميتا قبل الإبانة لا بعدها فكان إلحاق المبتوتة بالمتوفى عنها زوجها كإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيف [46] .
والجواب عن هذا الاستدلال من وجهين:
1ـ أن القياس غير صحيح وذلك لوجودِ الفارق بين المقيس والمقيس عليه, فإن الحداد إنما وجب على المتوفي عنها زوجها إظهاراً للتأسف على فوت زوج وفي لها حتى الموت بخلاف المبتوتة فإن زوجها لم يكن وفياً لها بل على العكس من ذلك فإنه أوحشها بالإبانة فلا تتأسف بفوته.
ومن جهة أخرى فإنه لا مناسبة بين البينونة وبين الموت؛ إذ أن البينونة لا يمتنع معها عود النكاح بعقد جديد بخلاف الموت فإنه لا يتصور عود النكاح بعده, ثم لو سلمنا بهذا في المطلقة لم نسلم به في المختلعة؛ لأنها قد افتدت نفسها برضاها لطلب الخلاص منه فكيف تتأسف.
ب ـ لو سلمنا بأن الحداد يجب على المبتوتة لفوات نعمة النكاح لقلنا بوجوبه على الأزواج أيضا؛ لأن نعمة النكاح مشتركة بينهما.
وهكذا تتصور المسألة بين القول والدليل والاستدلال والمناقشة, والحق واحد ومصيبه واحد, وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة راجع إلى أمرين:(31/29)
الأمر الأول: هل وجوب الحداد على المرأة لإظهار التأسف على الزوج أو لإظهار التأسف على فوات الزوجية؟ فمن قال: هو لإظهار التأسف على فوات الزوج قال: بعدم وجوب الحداد على المبتوتة, ومن قال: هو لإظهار التأسّف على فوات الزوجية وبيان ذلك هو أن الحداد لإظهار التأسف على فوت نعمة النكاح والوطء الحلال بسببه قال بوجوب الحداد على المبتوتة؛ لأن عين الزوج ما كان مقصوداً لها حتى يكون التحزّن بفواته بل كان مقصودها نعمة النكاح, وهذا يفوتنا في الطلاق والوفاة بصفة واحدة.
الأمر الثاني: هل الحداد حق لله أو حق للزوج؟
فمن قال هو حق لله قال بوجوب الحداد على البائن, ومن قال هو حق للزوج قال بعدم وجوب الحداد عليها.
والذي أراه راجحا في هذه المسألة هو عدم وجوب الحداد على البائن, وإنما رجحت هذا القول لما يأتي:
1ـ الأدلة التي استدل بها القائلون بهذا القول أقوى في نظري من أدلة المخالفين, فحديث الصحيحين الذي ذكرناه في الاستدلال يفيد أن الحداد لا يكون إلا على ميّت كما هو ظاهر اللفظ, ثم قيّد الجواز بما ذكر في الحديث واستثني من ذلك الحداد على الزوج الميت وبين المدة التي يكون بها الحداد, فالمستثنى هنا من جنس المستثنى منه, وكذلك الأدلة التي ذكرناها هنالك كلها تلتقي حول هذا المعنى, وقد عرفت الجواب عن أدلة المخالفين عند ذكرها وهي كلها محتملة, والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.(31/30)
2 ـ إنّ الحداد حكم أوجبه الشارع على المرأة المتوفى عنها زوجها لأن تركه (أي الحداد) بفعل ما ينافيه من التطيب واللبس والتزيّن يدعو إلى الجماع, فمنعت المرأة منه زجراً لها عن ذلك فكان ذلك ظاهراً في حق الميت لأنه يمنعه الموت عن منع المعتدة منه عن التزويج ولا تراعيه هي ولا تخاف منه بخلاف المطلّق الحي في كل ذلك ومن ثم وجبت العدة على كل متوفى عنها وإن لم تكن مدخولا بها بخلاف المطلقة قبل الدخول فلا إحداد عليها اتفاقا [47] .
3 ـ إنّ المطلّقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد وليس الأمر كذلك في المتوفى عنها زوجها؛ فإن عودتها إلى الزوج الميت مستحيلة فليس ثمة ما يدعو إلى إيجاب الحداد على المبتوتة, فإن قيل: هذا لا يستقيم في الملاعنة فإن تحريمها على الملاعن تحريم أبدي ومع هذا فلا حداد عليها؟ قيل: الجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن تحريم الملاعنة على الملاعن ليس محل اتفاق عند أئمة الفتوى, بل من الفقهاء من قال: إنها لا تحرم تحريما أبدياً, وإنما يكون الملاعن بعد الفرقة خاطبا من الخطاب, وقد قال بهذا فقهاء الحنفية.
الوجه الثاني: لو سلّمنا بأن الملاعنة تحرم على الملاعن على التأبيد لم نسلم بالاعتراض؛ لأننا نقول: إن وجوب الحداد إنما هو لفقد الزوج بعينه لا لفقدان الزوجية.
4 ـ إن الزوج الميت فارق زوجته وهو على نهاية الإشفاق عليها والرغبة فيها, ولم تكن المفارقة من قبله, فلزمها لذلك الإحداد وإظهار الحزن, والمطلقة فارقها مختارا لفراقها مقابحاً لها فلا يتعلق بها حكم الإحداد كالملاعنة [48] .(31/31)
5 ـ روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل" رواه أبو داود والنسائي [49] . فهذا الحديث نص في وجوب الحداد على المعتدة من الوفاة وهو مخصص لعموم الحديث الذي استدل به المخالفون على فرض صحته. فإن قيل: هذا الحديث لا يدل على عدم وجوب الحداد على المبتوتة بدليل آخر؟ قلنا: بل هو يدل على عدم وجوب الحداد عليها إذ أنه لم يوجد دليل أقوى منه بل ولا مساوياً له يفيد هذا الوجوب, فلما لم يوجد ذلك دل على أن المصير إلى مدلوله واجب.
والحاصل أن الاقتصار على مورد النص هو الذي تقتضيه قواعد الشرع عملا بالبراءة الأصلية فيما عداه, فمن ادّعى وجوب الحداد على غير المتوفى عنها زوجها فعليه الدليل.
إذا تبين هذا فاعلم أنهم لم يختلفوا في عدم وجوب الحداد على المعتدة الرجعية على ما بينا بيد أن فقهاء الشافعية اختلفوا فيما بينهم هل يسن لها الحداد أولا؟ على قولين: أحدهما: يسن, والثاني: لا يسن لها الحداد بل أولى لها أن تتزين بما يدعوا الزوج إلى رجعتها, وضعف هذا الاحتمال أن يظن أنها فعلت ذلك إظهارا للفرح بفراقه وعلى تقدير صحته فينبغي تخصيصه بمن ترجو عودته [50] . والمعمول به الأول.
كذلك لم يختلفوا فيما أحسب في إباحة الحداد على المبتوتة بل إن فقهاء الشافعية يرون أن أقل أحواله الاستحباب لئلا تدعو الزينة إلى الفساد.
وقد نقل صاحب المبدع الإجماع على جواز الحداد من المبتوتة وبين أنه لا يُسَنُّ لها [51] .
وبهذا تعلم أن اختلاف الفقهاء في هذه المسألة إنما هو في الوجوب فقط.
المبحث الخامس: هل من شرط وجوب الحداد كون النكاح صحيحا؟(31/32)
النكاح الصحيح هو المستكمل لأركانه وشروطه من الإيجاب والقبول والشاهدين والولي والمهر وخلو الزوجين من الموانع فإذا وجد النكاح على هذه الصورة وحصلت الفرقة بين الزوجين بالموت وذلك بأن توفي الزوج قبل الزوجة وجب الحداد على الزوجة العاقلة البالغة المسلمة من غير خلاف أعلمه عند أئمة الفتوى اللهم إلا ما نقل عن الحسن البصري والشعبي من القول بعدم وجوب الحداد كما تمّ ثبته قريبا.
ولهذا أجمع الفقهاء على عدم وجوب الحداد على المرأة المنكوحة بنكاح فاسد أو نكاح شبهة.
أما المنكوحة بنكاح فاسد فلأنها ليست زوجة حقيقية والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الحداد على الزوجات وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" فقوله صلى الله عليه وسلم "إلا على زوج" يفيد بمنطوقه وجوب الحداد على الزوجة كما يفيد بمفهومه عدم وجوب الحداد على غيرها, زد على هذا أن المنكوحة بنكاح فاسد لا تحزن على فقد الزوج لأنها لا يجب لها ما يجب للزوجة من الحقوق
فليس ثمة سبب يدعو إلى حدادها. وأما المنكوحة بشبهة فكذلك لما بينا؛ ولأنها -أي المنكوحة بنكاح فاسد أو شبهة- ما فاتها نعمة النكاح والأصل هو الإباحة في الزينة لاسيما في النساء: [52] يحققه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . (الأعراف:31) .
فهذا دليل على إباحة الزينة مطلقا بما فيها زينة المرأة المعتدّة بنكاح فاسد أو شبهة وتحريم ذلك عليهما يحتاج إلى دليل ولا دليل. ثم إن النكاح الفاسد ووطأ الشبهة كل منهما معصية في الدين فيلزم الشكر على فواته لا التأسف عليه [53] .
الفصل الرابع: أقسام الإحداد:(31/33)
عرفت في الفصل الأول معنى الحداد, وأنه في اللغة: المنع مطلقا, وفي الاصطلاح: منع المرأة نفسها الزينة والطيب وكل ما يدعو إلى الرغبة فيها زمن الحداد, وذكرنا هنالكَ في أن المعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي لأنه مجرد المنع مطلقا, أما المعنى الاصطلاحي فهو المنع بالنسبة إلى شيء خاص؛ وبناء على ذلك نرى أنه من المفيد أن نذكر أقسام الحداد الجائز منها والممنوع ليكون القارئ على بصيرة؛ لأن الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها (وبضدها تتميز الأشياء) فالجائز يعرف ليعمل به والممنوع يعرف لتركه. وإليك تحرير المقام في ذلك:
ينقسم الحداد من حيث الجملة إلى قسمين: جائز وغير جائز، والجائز قسمان: حداد المرأة على زوجها الميت وحدادها على قريبها الميت, فالتقسيم هنا من حيث النوع لا من حيث الحكم لأن الحكم لا يختلف في القسمين إنما الاختلاف في النوع أما زوجها الميت فليس في وجوب الحداد عليه خلاف إلا خلافا شاذاً على ما بيّنا, وقد عرفت الخلاف في وجوب الحداد عليها عند أئمة الفتوى إذا كانت مبتوتة كذلك لم يختلف الأئمة فيما علمت في جواز الحداد منها على قريبها الميت والمتتبع لنصوص الشرع وقواعده العامة يرى أن الحداد إنما يشرع للنساء دون الرجال فالمرأة هي التي تحد على زوجها أو على قريبها لما بينا وما سنبينه قريبا وهاك الأدلة التي تفيد هذا المعنى وإن كنا قد ذكرناها قريباً إلا أنّ المقام يقتضي إعادتها هنا بإيجاز:
1 ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين:
الأمر الأول: أن التربص خاص بالمرأة التي مات زوجها خاصة بها وأن مدة التربص في حقها أربعة أشهر وعشراً)(31/34)
الأمر الثاني: أنّ الزوج لا يجب عليه التربص بوفاة زوجته وبالتالي لا يجب عليه الحداد بل له أن يتزوّج ثانية دون أن يكون منوطاً بمدة معينة, والأوّل يفيده منطوق الآية, والثاني يفيده مفهومها قال الشوكاني في شرح الآية: "ومعنى الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن بعدهم وهو كقولك: "السمن منوان بدرهم"أي منه, وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: "وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون", وقيل: "التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن"ذكره صاحب الكشاف وفيه "أنّ قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} لا يلائم ذلك التقدير؛ لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة"وقال بعض النحاة من الكوفيين: "أن الخبر عن (الذين) متروك, والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن" [54] .
2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" فقد تضمّن هذا الحديث ثلاثة أمور:
الأمر الأول: جواز الحداد على القريب الميت وأنّ مدة ذلك ثلاثة أيام.
الأمر الثاني: الحداد على الزوج الميت أربعة أشهر وعشراً.
الأمر الثالث: هو أنَّ حكم الحداد خاص بالنساء دون الرجال, فالحديث وافق الآية الآنفة الذكر في وجه الدلالة في الأمرين الثاني والثالث, وتضمن حكماً زائداً على ما دلت عليه الآية وهو الأمر الأول.
3 ـ الإجماع:
أجمع المسلمون من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا هذا على جواز القسمين السابقين وأنّ الرجال لا يدخلون في هذا الجواز وإنما هو خاص بالنساء.(31/35)
وقد عرفت قريباً عند الكلام على حكم الإحداد مزيداً من الأدلة التي تتعلق بهذا الموضوع, وحاصلها بالإضافة إلى ما قلنا هو أنّ المرأة هي التي بحاجة إلى الرجل ولذلك وجب الحداد عليها لضعفها ولفوات نعمة النكاح عليها بموت العائل الذي يصونها ويحفظها ويرعى مصالحها على حد قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . (سورة النساء: 34) , ولهذا كان مطالباً بالإنفاق على زوجته وكسوتها وسكنها إذا لم تكن ناشزة, وهذا كله لا يوجد في الرجل ولذلك أجمع أئمة الفتوى كما بينا أكثر من مرة على أنه لا يجب الإحداد على الرجل لعدم وجود الحكمة التي من أجلها شرع الحداد فيه.
القسم الثاني من قسمي الحداد: الحداد الممنوع في الإسلام:
عرفت آنفاً القسم الأول من قسمي الحداد وهو القسم الجائز في الإسلام, وعرفت أنه قسمان من حيث النوع، بقي أن تعلم القسم الذي لا يجوز وهو على ضربَين:
أحدهما: ما كان قبل الإسلام.
وثانيهما: الإحداد في عصرنا الحاضر بالنسبة للدول.
ونحن نفصّل القول في هذين الضربين بحسب الإمكان والله المستعان فنقول:
القسم الأول: الحداد في الجاهلية:(31/36)
كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تتجنّب كل ملذّات الحياة, وتشق على نفسها, فلا تستعمل طيبا ولا تغسل جسما ولا تقلم ظفراً, وتلبس شرّ ثيابها, وتعتزل المجتمع في بيت صغير وقديم تمكث فيه حولا كاملا تخرج بعده وهي في أقبح صورة وأشنع منظراً وأسوء حالا مما كانت عليه, فتعمد إلى دابة فتغتسل بها فقلّما تغتسل بشيء إلا مات, يحقّق هذا قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت له: يا رسول إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" -مرتين أو ثلاثا- كل ذلك يقول: "لا", ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر, وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول". قال حميد: فقلت لزينب: "وما ترمى بالبعرة على رأس الحول؟ " فقالت زينب: "كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها ولم تمسّ طيباً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعدما شاءت من طيب أو غيره" [55] .
وقد تضمّن هذا الحديث: ما كانت تعانيه المرأة في الجاهلية من الظلم بسبب وفاة زوجها، فمن حزن على فراق الزوج إلى حياة قاسية بعده لمدة حول كامل, بقيت المرأة في الجاهلية على هذا الحال واستمرت زمناً وهي تعاني منها في بداية الإسلام يوضحه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . (سورة البقرة: 240) .(31/37)
وبما أنّ الشريعة الإسلامية قائمة على العدل والإنصاف وتحقيق المصالح الخاصة لأفراد المجتمع الإسلامي بشرط أن لا يتضرر أحد الطرفين بدفع الضرر عن الآخر فهي لا تقر ظلماً ولا تضيع حقاً, فقد نسخت ما كانت تعاني منه المرأة بسبب وفاة زوجها واستبدلته بحكم آخر حفظ حقوق الطرفين أعني الزوج والزوجة على السواء وذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} (نقدم تخريجه) .
فنسخت السنة المذكورة في الآية الآنفة الذكر بالمدة المذكورة في هذه الآية, وحدّ الشارع للمرأة المتوفى عنها حدوداً وسنّ لها قيوداً في الإسلام, ونسخت القيود التي كانت تعاني منها في الجاهلية وذلك بالأحاديث التي تم ثبتها قريباً قال ابن حجر في الفتح بعد تقريره هذا الحكم نقلا عن ابن دقيق العيد "قال ابن دقيق العيد: "فيه -يعنى الزمن الذي يجب على الحادة في الإسلام- إشارة إلى تقليل المدة بالنسبة لما كان قبل ذلك وتهوين الصبر عليهما ولهذا قال بعده: "وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول" وفي التقييد بالجاهلية إشارة إلى أن الحكم في الإسلام صار بخلافه وهو كذلك بالنسبة لما وصف من الصنيع لكن التقدير: بالحول استمر في الإسلام بنص قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ثم نسخت بالآية التي قبلها وهي {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} "اهـ[56] .
القسم الثاني: الحداد في العصر الحاضر:(31/38)
إعلم أنها قد انتشرت في عصرنا الحاضر ظاهرة مخالفة للإسلام التبس أمرها على بعض زعماء المسلمين وهي الحداد وتنكيس الأعلام لوفاة زعيم من الزعماء مدة معينة تقدر غالبا بثلاثة أيام أو سبعة أيام أو ثلاثين يوما أو أربعين يوما أو أكثر أو أقل وبما أن ذلك مخالف لتعاليم الإسلام فالواجب على العلماء تبيين أمر هذه الشبهة لأبناء المسلمين الذين جهلوها أو تجاهلوها, ودحضها بالأدلة الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة أداء للواجب على حد قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (آل عمران: 110) : وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (آل عمران: 104) وحيث أنني واحدٌ من المتخصصين في علوم الشريعة فقد رَأيتُ أنه من الواجب عليّ القيامُ بهذه المهمة حسب الإمكان؛ لأن أمرها قد شاع وذاع في الأوساط الإسلامية حتى أصبحت من الأمور العادية المألوفة, وصدق القائل حيث يقول: "إذا كثر الإمسَاس قلّ الإحساس"فأقول -وبالله التوفيق-: المسلم هو الذي يطبق أحكام الإسلام بفعل الأوامر واجتناب النواهي, والأحكام الشرعية لا تعرف إلا بالأدلة الشرعية وقد دلت النصوص النبوية والأدلة العقلية وإجماع الصحابة الذين عاشوا أيام الرسالة على أنه لا يجوز العمل بحكم مّا إلا إذا كان له أصل يدل عليه دَليل من الأدلة التي قررها أئمة الفتوى مصدراً للاستدلال, ومن ذلك الحداد في العصر الحديث فانه لا دليل على جوازه ولا إباحته ويظهر ذلك فيما يأتي:(31/39)
1 ـ لا ريب أن الحداد لا يشرع إلا للمرأة في حق زوجها أو قريبها الميت, وقد دلّ الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على أنه ليس لغير المرأة أن تحد على ميت بل ذلك خاص بها, فالأحاديث الصحيحة التي تم ثبتها قريباً كلها تنهى عن الحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً كما جاءت الرخصة عنه صلى الله عليه وسلم للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقلو كذلك الآيات القرآنية التي تفيد إيجاب العدة على المرأة المتوفى زوجها قاضية بعدم جواز الإحداد من غيرها, وكذلك إجماع الصحابة الذي تم ثبته قريبا.
أما ما سوى ذلك من الحداد فهو ممنوع شرعاً وليس في الشريعة الكاملة من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا قول صحابي ما يدل على ذلك فدل على أنه لا يجوز على ملك ولا زعيم ولا غيرها.
2 ـ أن هذا العمل فيه مخالفة صريحة للشريعة المطهرة، وأمر تترتَّبُ عليه أضرار كثيرة, وتعطيل المصالح, والتّشبه بأعداء الإسلام, وهو ممنوع شرعاً.(31/40)
3 ـ أنه قد مات في حياة الكريم النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وبناته الثلاث رقية وأم كلثوم وزينب وعمه حمزة وأعيان آخرون في غزوة مؤتة فلم يحد عليهم ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيّد ولد آدم, والمصيبة بموته أعظم مصائب لأن بموته ينقطع خبر السماء لكونه آخر الأنبياء, ومع هذا لم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحد عليه ثم قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم, وهكذا مات الصحابة جميعاً فلم يحد عليهم التابعون, وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من التابعين ومن بعدهم كسعيد بن المسيب وعلي بن الحسن زين العَابدين وابنه محمد ابن علي وعمر بن عبد العزيز والزهري والإمام أبى حنيفة وصاحباه والإمام مالك بن أنس والأوزاعي والثوري والإمام الشافعي والإمَام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهوية. وغيرهم من أئمة العلم والهدى ولم يحد عليهم المسلمون ولو كان خيراً لكان السَّلفُ الصالح إليه أسبق, والخير كله في اتباعهم والشر في مخالفتهم.(31/41)
4 ـ أن الدين الإسلامي قد اكتمل بوفاة النبي الكريم على حد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . (المائدة: 3) فهل في شريعة الإسلام ما يشير ولو من طرف خفي إلى جواز هذَا الأمر؟ إننا لا نجد ما يدل على ذلك, وفعله من زعماء المسلمين وقادتهم مع عدم وجوده في الشريعة المطهرة مخالفة ظاهرة لهذه الشريعة وقدح في كمالها وانتقاص لها وأنها لم تفِ بما يجدّ من الأحكام, وقد قد قرر أئمة الهدى ومصابيح الظلام قديماً وحديثا أنها صالحة لكل زمان ومكان وشاملة لمصالح العباد ماضيها وحاضرها ومستقبلها. إن الأحكام الشرعية توقيفية أعني أنه لا يجوز إثباتها إلا من طريق الشارع خصوصا ما يقدّر بالزمن منها وإلا لجاز لكل أحد أن يقول برأيه ما شاء فدل على أنه لا يجوز الحداد إلا ما ورد به الحكم عن الشارع خصوصاً ما كان مقدراً بزمن معين, وهذا الأمر فيه تقدير بزمن وهو الحداد ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو ثلاثون يوماً أو أربعون يوماً وهذا لا يكون إلا بخبر السماء, وخبر السماء لا يعرف إلا من طريق الأنبياء, ولم يعرف عنهم جواز هذا العمل فدل على أنه مخالفٌ لمنهج الله القديم.
إذا تبيّن هذا فالواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على منهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم, والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به أداء لواجب النصيحة وتعاونا على البر والتقوى, ولما أوجب الله سبحانه وتعالى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
اللّقاء على العقيدة(31/42)
في الإسلام يلتقي الناس على العقيدة في الله يلتقون الآن, كلاً منهم يحب الله ورسوله، فلا تكون ذواتهم بارزة ولا متوفرة لاقتناص المصلحة من الآخرين، إنما يكون الجانب البارز هو الحب، والحب عنصر سريع التلاحم شديد الالتصاق ...
والإنسان المؤمن ليس في حاجة إلى توكيد ذاته بالبروز الزائد عن الحد، إنه موجود بالفعل، مطمئن على وجوده، يجد ذاته متكاملة في هذه العقيدة ويطمئن قلبه بذكر الله ...
من كتاب:"منهج التربية الإسلامية"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر القاموس المحيط ج1 ص 296، فتح الباري ج 9 ص485.
[2] فتح الباري ج 9 ص485.
[3] تبيين الحقائق ج 3 ص 34.
[4] المصدر السابق.
[5] تبيين الحقائق ج 3 ص 34، والمدونة الكبر ى ج 2 ص 430، ومغني المحتاج ج 3 ص 398، والكافي لابن قدامة ج 3 ص 326.
[6] صحيح البخاري ج 7 ص 76، وصحيح مسلم ح 1486، وسنن أبي داود ج 2 ص 723، وجامع الترمذي ح 1197، وسنن النسائي ج 6 ص 206، وسنن ابن ماجه ح 2084.
[7] بدائع الصنائع ج 3 ص 209، والمغني ج 7 ص517.
[8] بدائع الصنائع ج 3 ص 209.
[9] فتح الباري ج 9 ص 486.
[10] المغني ج7 ص 517.
[11] عنه تسلبي- ألبي الثياب الحداد السود وهي السلاب ككتاب.
[12] مسند الإمام أحمد ج6 ص 369.
[13] المصدر السابق.
[14] الجامع لأحكام القرآن ج3 ص 181.
[15] المصدر السابق.
[16] فتح الباري ج9 ص 486.
على حد قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} وتكليف الصغير والنائم والمجنون ظلمٌ.
[17] بدائع الصنائع ج 3 ص 208.
[18] سنن ابن ماجة ج ارقم 2041.
[19] المغني: ج 7 ص 517، والمنتقى للباجي: ج 4 ص 145، ومغني المحتاج: ج 3 ص 398.(31/43)
[20] سبق تخريجه في الفصل الثاني.
[21] المغني ج 7 ص 517، والمنتقى للباجي ج 4 ص 145، ومغني المحتاج ج 3 ص 398.
[22] فتح الباري ج 9 ص 485, والمنتقى للباجي ج 4 ص145.
[23] المغني ج7 ص 517.
[24] انظر فتح القدير ج 4 ص 340, والمبسوط ج 6 ص 56, وبدائع الصنائع ج 3 ص 9.
[25] فتح القدير ج 4 ص 340/ والمبسوط ج 6 ص 60/ بدائع الصنائع ج 3 ص 9.
[26] سنن أبي داود (ح: 495) , مسند أحمد 2 ص 180, موطأ مالك ج اص 197.
[27] فتح الباري ج9 ص 486.
[28] فتح الباري ج 9 ص 486.
[29] شرح النووي على صحيح مسلم ج 15 ص 112.
[30] فتح الباري ج 9 ص 486.
[31] فتح الباري ج9 ص 486.
[32] زاد المعاد 4 ص 269.
[33] المبسوط ج 6 ص 59, وفتح الباري ج 9 ص 486, والجامع لأحكام القرآن ج 3 ص 179.
[34] زاد المعاد ج 4 ص 269.
[35] زاد المعاد المصدر السابق.
[36] زاد المعاد: ج4 ص 269.
[37] المغني: ج 7 ص 518, شرح العناية: ج 4 ص 340.
[38] المبسوط: ج 6 ص 59.
[39] المنتقى للباجي: ج 4 ص 145, مغني المحتاج: 3 ص 398, المغني: ج 7 ص 527.
[40] تقدم تخريجه في الفصل الثاني.
[41] المغني: ج 7 ص 528.
[42] المبسوط: ج 6 ص 58, المغني: ج 7 ص 527, مغني المحتاج: ج 3 ص 398, فتح الباري: ج 9 ص 486.
[43] فتح القدير: 4 ص 338.
[44] شرح معاني الآثار: 3 ص 81.
[45] شرح العناية: ج 4 ص 338.
[46] المصدر السابق.
[47] فتح الباري: ج9 ص 486.
[48] المنتقى للباجي: ج 4 ص 145.
[49] سنن أبى داود: ج 2 ص 727, سنن النسائي ج 6 ص 203.
[50] مغني المحتاج ج 3 ص 398.
[51] المبدع ج 1408.
[52] شرح العناية ج 4 ص 342.
[53] حاشية الشلبي.
[54] فتح القدير 1 ص 248.(31/44)
[55] صحيح البخاري مع فتح الباري ج 9 ص 484.
[56] فتح الباري ج9 ص 484.(31/45)
الكتاب والسنة
أثرهما ومكانتهما والضرورة إليهما في إقامة التعليم في مدارسنا
للدكتور ربيع هادي مدخلي
أستاذ مشارك بقسم الدراسات العليا بالجامعة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره الكافرون. اللهم صل وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه.
وبعد: فإنّ الإسلام العظيم يحثّ على العلم ويشيد به ويمجّد أهله ويرفع من شأنهم قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . (سورة الزمر: الآية 9) , وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . (سورة فاطر: الآية 28) .
وبيَّن الرسول الكريم سيد العلماء وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنّ طلب العلم نوع من أنواع الجهاد فقال: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ".
وأنّ البحث عنه وتطلّبه يفضي بصاحبه إلى الجنة.
"من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقا إلى الجنة " [1] وللعلماء عند ربهم درجات رفيعة عالية قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
وبيّن تعالى الفرق الكبير بين العالم والجاهل فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .(31/46)
وحكومتنا الرشيدة وفقها الله وثبّت أركانها وسدّد خطاها إدراكاً منها لمكانة العلم ومخاطر الجهل جنّدت إمكانيات هائلة ورصدت الميزانيات الضخمة ليشمل العلم والتعليم كل أفراد شعبها الكريم ذكوراً وإناثاً وصغاراً وكباراً تتدرّج بهم في سُلَّم العلم من المراحل الابتدائية إلى أعلى مراحل التعليم الجامعية وما بعد الجامعية (الدراسات العليا) في مختلف العلوم والفنون.
وهذه نعمة كبرى على هذا البلد العظيم مهبط الوحي ومنبع النور الذي أضاء العالم فبدّد ظلمات الجهل والشرك والكفر فيجب على هذا البلد العظيم حكومة وشعباً أن يدرك قيمة هذه النعمة الكبرى ليبذل أقصى جهده في إرضاء ربه والقيام بواجب شكره حتى تدوم هذه النعمة الكبرى وتستمر قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
ويجب أن يدرك أنه لم يحتل هَذه المكانة الرفيعة إلا بالعلم الذي أنزله على أفضل خلقه وأكرم رسله ألا وهو علم الكتاب والسنة, والذي يحاول أعداء الإسلام بطرق خطيرة غاية الخطورة أن يحولوا بيننا وبينه فيضعون بيننا وبينه الحواجز والسُدود الظاهرة والخفية حتى نعيش في ظلمات كثيفة من الجهل ونحيا حياة البهائم لا همّ لنا إلا الأكل والشرب والمتاع الدنيوي.
إننا جميعاً حكومة وشعبا نعتز بالإسلام ونحبه ونجله ونفتديه بأموالنا وأرواحنا وكل غال ونفيس, ومع كل هذا- ونحن في غمرة السباق مع أعدائنا في ميادين العلوم الدنيوية, السباق الذي لا يمكن أن ندرك شأوهم فيه؛ لأنهم قوم لا هم لهم إلا الارتواء من متع الدنيا وشهواتها وملذاتها ولا يبالون بما وراء ذلك من جنة أو نار أو حساب أو عذاب بل هم بذلك كافرون {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .(31/47)
إنّ أكثرنا اليوم: يقفون على حافة هوة خطيرة من الجهل بالقرآن والسنة ويوشك أن يصدق فينا قول الرسول الكريم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جُهّالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " متفق عليه. [2]
إنّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم غيث مغدق لا بد أن ينهل منه أبناؤنا حتى التضلع كأسلافهم واتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثتي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً, فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً, فذلك مثَلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " [3] .
إننا نريد أن يكون أبناؤنا من الطائفتين الأوليين ونعيذهم بالله أن يكونوا من الطائفة الثالثة ولا يتم ما تطمح إليه إلا بالتركيز على دراسة الكتاب والسنة لأننا والحمد لله قد رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً, فمن البديهي أن يكون أسمى أهداف حياتنا أن نعرف مصدر عزّنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة ألا وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وبيانه وشرحه وتفصيله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين غيَّرا مجرى تاريخ البشرية على وجه الأرض بعد أن أحيا من رفاة الأمة العربية ولمّ من شتاتهم وأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس. وما كانت الأمة الإسلامية والعربية إلا بهذا القرآن ولا كان لها دولة ولا صولة إلا به ولننظر إلى تأثير هذا القرآن.
1ـ تأثير القرآن الكريم في أنفس العرب:(31/48)
لقد أحدث هذا القرآن المعجز أكثر تحوّل في حياة البشر فقلّب طباع الكهول والشباب وأخلاقهم وتقاليدهم وعاداتهم وحوّلها إلى ضدها علماً وعملاً بما لم يعهد له نظير في تاريخ الإنسانية.
فكان القران آية خارقة للمعهود من سنن الاجتماع البشري في تأثيره بالتبع لكونه آية معجزة للبشر في لغته وأسلوبه.
وبعد أن قلّب حياة العرب في الجزيرة العربية من جهل إلى علم ومن شرك إلى توحيد ومن فرقة وفوضى إلى اجتماع وتنظيم اندفعوا كالسيل الآتي على الأقطار من نواحي الجزيرة كلها فأطاحوا بعروش الأكاسرة والقياصرة أعظم ملوك الأرض واقتلعوا جذور الشرك والظلم ونشروا التوحيد والحق والعدل ودخل الناس في دين الله أفواجا مختارين الاهتداء بهذا القرآن, لاجرم أن سبب هذا كله هو تأثير القرآن العظيم بهذا الأسلوب الذي نراه في المصحف فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يجاهد به الكافرين كما أمره {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} ثم كان يربي المؤمنين ويزكيهم, وبهدايته والتأسي بمبلّغه ربّوا الأمم وهذبوها وقلما يقرؤه أحد كما كانوا يقرءون إلا ويهتدي به كما كانوا يهتدون, ثم حكموا الدنيا وساسوها بهذا القرآن إذ لم يكن عندهم شيء من العلم بسياسة الأمم وإدارتها إلا هذا القرآن والأسوة الحسنة بمبلغه ومنفذه الأول وبسنته المطهرة أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم, ولن يعود للمسلمين مجدَهم وعزّهم إلا إذا عادوا إلى هدايته. لقد كان لهذا القرآن العظيم في حياة الناس مسلمهم وكافرهم تأثير بعيد الغور, أما تأثيره في الكافرين فبنفوذ بلاغته، وعظمة نظمه, وأسلوبه الجاذب لفهم دعوته والإيمان به, إذ لا يخفي حسنها على أحد فهمها, وكانوا يتفاوتون في الفهم تفاوتا عظيماً لاختلاف درجاتهم في بلاغة اللغة وفهم المعاني العالية, فهذا التأثير هو الذي أنطق الوليد بن المغيرة المخزومي بكلمته(31/49)
العالية فيه لأبي جهل التي اعترف فيها بأنه الحق الذي يعلو ولا يعلى والذي يحطم ما تحته.
وهذا التأثير هو الذي كان يجنب رءوس أولئك الجاحدين المعاندين ليلاً لاستماع تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيم في بيته على ما كان من نهيهم عنه ونأيهم عنه وتواصيهم وتقاسمهم بألا يسمعنّ له ثم كانوا يتسللون فرادى مستخفين ويتلاقون في الطريق متلاومين.
وهذا التأثير هو الذي حملهم على منع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- من الصلاة والتلاوة في المسجد الحرام ليلاً لما كان لتلاوته وبكائه في الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام, وعللوا ذلك بأنه يفتن نساءهم وأولادهم، بل هذا التأثير هو الذي حملهم على صدّ النّبي صلى الله عليه وسلم بالقوة عن تلاوة القرآن في البيت الحرام وفي أسواق الموسم ومجامعه، وعلى نواصيهم بما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . (فصلت: 26) .
2 ـ تأثير القرآن في أنفس المؤمنين:(31/50)
أما تأثيره في المؤمنين فكان كل من يدخل في الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن ليعبد الله بتلاوته ويعلم الصلاة, ولم يفرض في مكة من أركان الإسلام غيرها فيرتل ما يحفظه في صلاته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا فرض الله عليه التهجد بالليل من أول الإسلام قال تعالى في أول سورة (المزمل) : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً, نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً, أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ثم قال في آخرها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . (المزمل: 20) أي في صلاة الليل وغيرها.
وقد قال تعالى في وصفهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} . (الفرقان: 64) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ, تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . (السجدة: 15- 16) .
ومما ورد في وصفهم- رضي الله عنهم- أن الذين كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوي النحل من تلاوة القرآن.(31/51)
وقد شدّد بعضهم على أنفسهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فتزكية الصحابة وتربيتهم بهذا القرآن هي التي غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية وزكتها تزكية عالية وهى التي أحدثت أعظم تحول روحي واجتماعي في التاريخ هذا كله إنما كان بكثرة تلاوة القرآن في الصلاة وغير الصلاة وتدبره وربما كان أحدهم يقوم الليل بآية واحدة يكررها متدبراً لها وكانوا يقرءونه مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . (آل عمران: 191) .
وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذكر أسمائه وصفاته المقدسة وأحكامه وحكمه وسنته في خلقه وأفعاله في تدبير ملكه [4] .
منزلة السنة من القرآن ومكانتها في نفوس المسلمين:
السنة المطهّرة هي ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير وهي وحي إلهي قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} . وهي بيان القرآن وتفسيره فهي تبين مجمله وتقيد مطلقه وتخصص عامه وهي واجبة الاتباع بنص القرآن الكريم.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . (الحشر: 7) .
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (النور: 93) .
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . (النساء: 65) .
وأمر الله في كثير من آيات القرآن بطاعة هذا الرسول الكريم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . (النساء: 59) .(31/52)
وأخبر تعالى أن طاعة الرسول إنما هي طاعة الله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .
وقرر الله انه ليس للمؤمنين أي خيارٍ أمام قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . (الأحزاب: 36) .
والحياة الحقيقية والصحيحة إنما هي في الاستجابة لهذا الرسول؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . (الأنفال: 24) .
من هذه التوجيهات القرآنية أدرك المؤمنون عظمة السنة ومكانتها وأدركوا أنه يجب عليهم التزامها في كل شأن من الشؤون الإسلامية العقائدية والعبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية لا فرق بينها وبين القرآن من حيث وجوب الالتزام والطاعة والانقياد والتصديق. إن توجيهات وتعاليم القرآن والسنة المطهرة متمازجة متساندة في كل المجالات التي خاضها القرآن لا يعد مؤمنا من يفرق بينهما في النواحي العقائدية أو العملية ذلك لأنه يستحيل تطبيق القرآن بفهم بدون هذه السنة المطهرة وكيف يفرق بينهما من يؤمن بقول الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . (النحل: 44) . وما جرى مجراها في بيان منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته.
من أين نعرف أعداد ركعات الصلوات الخمس وأوقاتها وهيآتها وأذكارها إذا كنا لا نعرف السنة.
وكيف نعرف شروط الزكاة ومقادير أنصبتها إذا لم تكن لدينا سنة محمد صلى الله عليه وسلم وبيانه.(31/53)
ومن أين نعرف حد شارب الخمر ورجم الزاني وقطع يد السارق إذا لم نرجع إلى السنة المطهرة هذه وغيرها من الأمور الكثيرة التي يتوقف الإيمان بالقرآن وتطبيقه على الإيمان بالسنة ومعرفتها وتطبيقها والتزامها وإتباعها. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
مكانة السنة في نفوس الأمة:
من هنا أدركت الأمة الإسلامية عظمة السنة ومكانتها فحفظوها كما حفظوا القرآن وصانوها كما صانوا القرآن, ودوّنوا فيها الدواوين من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمصنفات وألّفوا في رجالها وأسانيدها الكتب التي لا تحصى وألفوا الصحاح والسنن وفي الموضوعات والعلل بعد أن ميزوا الصحيح من الضعيف في الموضوع, وألوف المحدثين جندو أنفسهم لخدمتها وكابدوا في سبيلها المشاق والسهر والرحلات الطويلة إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.
أما المؤلفات فهذه مكتبات الدنيا تزخر بها حتى مكتبات أوربا وأمريكا والهند حيث استحوذت على إعجابهم وأدركوا أنه أعظم كنز يتباهون به في مكتباتهم.
وأما الرحلات في سبيلها التي بذلها المسلمون في فجر تاريخهم فلا يحصيها إلا الله, وكتب التاريخ والرجال حافلة بذلك.
إلا أننا نختار هنا أربعة نمازج للتدليل على تقدير الأمة الإسلامية لسنة نبيهم واهتمامهم بها ومكانتها في أنفسهم.(31/54)
1- خرج أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- من المدينة النبوية إلى عقبة بن عامر بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر فأخبر به فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟. فقال: "حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغير عقبة بن عامر فابعث من يدلني على منزله قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة فأخبر عقبة به فعجل إليه فعانقه وقال: "ما جاء بك يا أبا أيوب؟ "فقال: "حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن"قال: "نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة", فقال له أبو أيوب: "صدقت", ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر" [5]
2- قال جابر بن عبد الله- رضي الله عنه-: "بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه"قال: "فابتعت بعيراً فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهراً حتى أتيت الشام فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري قال: فأرسلت إليه أن جابراً على الباب قال: فرجع إليّ الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. قال: فرجع الرسول إليه فخرج فاعتقني واعتنقته قال: قلت: "حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه" فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد" أو قال: "يحشر الله الناس" قال: -وأومأ يده إلى الشام- "عُراةً غُرلا بهُماً" قلت: "وما بهماً؟ " قال: "ليس معهم شيء" الحديث.(31/55)
3- جاء رجل إلى الشعبي فقال: "يا أبا عمرو إنّ ناساً عندنا يقولون: "إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بذلته", قال الشعبي: "حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل من أهل الكتاب كان مؤمنا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فله أجران, ورجل كانت له جارية فعلّمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم اعتقها وتزوجها فله أجران" [6] خذها بغير شيء فلقد كان الرجل يرحل في أدنى منها إلى المدينة.
4- قال شعبة: "حدثني أبو إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال: "كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت ذات يوم والنبي حوله أصحابه فسمعته يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر الله إلا غفر الله له".
قال: فقلت لأبي إسحاق: "من عبد الله بن عطاء؟ " قال: "فغضب ومسعر بن كدام حاضر"قال: "فقلت له لتصحّحنّ لي هذا الحديث أو لأحرقنّ ما كتبت عنك"فقال لي مسعر: "عبد الله بن عطاء بمكة", قال شعبة: "فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته؟ "فقال: "سعد بن إبراهيم حدثني".
فقال لي مالك بن أنس: "سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام".(31/56)
قال شعبة: "فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته, فقال: "الحديث من عندكم لزياد بن مخراق حدثني", قال شعبة: "فلما ذكر زياداً قلت: أي شيء هذا الحديث بينما هو كوفي إذ صار مدنياً إذ صار بصرياً قال: "فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته؟ "فقال: "ليس هو من يأتيك "قلت: "حدثني به "قال: "لا ترده"قلت: "حدثني به"قال: "حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم", قال شعبة: "فلما ذكر شهر بن حوشب قلت: دمّر على هذا الحديث لو صح لي مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحبّ إليّ من أهلي ومالي والناس أجمعين" [7] .
على أيّ شيء تدل مثل هذه الرحلات الطويلة الشاقة من أجل حديث واحد, ألا تدل على إيمان صادق وحب صادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه ومعرفة بمكانتها, وأنهم قوم يعرفون القيم الحقيقية للأشياء, وأن حديثا واحداً عندهم خير من الدنيا وما عليها لهذا استحقوا أن يعزهم الله وأن يبوّأهم سنام المجد والعز والتمكين.
سمعوا قول الله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} . وسمعوا قول رسول الله: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراَ شربة ماء".
وسمعوا قوله: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها".
وسمعوا قوله: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها".
فهانت الدنيا وصغرت في أعينهم وعظم أمر الإسلام والقرآن والرسول وسنته في أعينهم, ونحن على النقيض صغرت هذه الأمور الكبيرة العظيمة في أعيننا وكبرت الدنيا وشهواتها وملاذها في أعيننا وصرنا نركض ونلهث لتخفيف أكبر متاع منها.(31/57)
فهُنّا على الله وسلّط علينا الأعداء وحاق بنا في الذل والهوان مالا ينزعه عنا إلا العودة الجادة إلى الله والاعتزاز بهذا القرآن وهذه السنة كما أخبرنا بهذا المصير رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" وديننا هو القرآن والسنة.
وأول خطوة في طريق العودة إلى الله يتمثل في أمور:
1ـ إصلاح المناهج.
2- اختيار المدرس.
3- اختيار الطلاب الأذكياء.
أولا: إصلاح المناهج:
لست بصدد وضع حطة شاملة أو وضع مناهج تفصيلية لكل المراحل العلمية, فهذه لها من يقوم بها وهم المسؤولون عن هذه المناهج.
ولا شك أنهم حريصون على ما يسعد أمتهم ويرفع من شأنهم في الدنيا والآخرة. ولا شك أيضا أنهم على استعداد لتقبل ما يقدم لهم من الاقتراحات النافعة.
وهم والحمد لله قد وضعوا مادة القرآن كمادة أساسية ضمن المناهج المقررة في المدارس في مختلف المراحل ظناً منهم أن هذا الأمر كان لتربية أبنائهم تربية إسلامية.
غير أن الأيام أثبتت والتجارب برهنت أن نصيب القرآن في هذه المناهج غير كاف ولا مؤثر في أبنائنا التأثير المطلوب.
إذن لابد من إعادة النظر ولا بد من العمل الجاد في وضع منهج يخرج شبابا محمديا يفهم الإسلام ويحفظ القرآن ويعتز بمبادئه ومثله, ويطبق شعائره وبجاهد من أجلها حتى آخر رمق من حياته.
إنّ واقع المناهج الحالية يعجز أن ينجب هذا النوع الذي نتطلع إليه وهذا شيء لا نريده جميعا ولا نرضاه ولكنه وقع من حيث لا نشعر فمثلا لو استعرضنا منهج المرحلة الابتدائية لوجدنا أننا كلفنا أبناءنا وبناتنا فوق طاقاتهم وهي مرحلة أساسية في بنائهم فلابد أن نراعى مداركهم واستعدادهم وأن يقدم إليهم ما يرغبهم ويشجعهم إلى المضي قدماً في طريق الإسلام عن فهم وحب ورغبة في العلم.(31/58)
وليكون الأمر واضحاً أضع أمامكم منهج سنتين من سنوات المرحلة الابتدائية:
أولا: مقرر السنة الثالثة ابتدائي:
1- مادة الرياضيات كتاب يقع في 181 صفحة.
2- مادة العلوم كتاب يقع في 104 صفحة.
3- أناشيد كتاب يقع في 84 صفحة.
4- مادة المطالعة كتاب يقع في 140 صفحة.
5- مادة القرآن يضاف إليها المجموع 509 صفحة.
ثانيا: مقرر السنة الخامسة ابتدائي للبنات:
1- الرياضات في 211 صفحة.
2- المطالعة في 167 صفحة.
3- التربية النسوية في 165 صفحة.
4- الجغرافيا في 67 صفحة.
5- العلوم في 145 صفحة.
6- الحديث والتوحيد والفقه والتجويد في 186 صفحة
7- القواعد اللغوية في 158 صفحة.
8- التاريخ في 80 صفحة.
المجموع 1179 صفحة.
إلى جانب مادة القران والخط.
كيف يستطيع هؤلاء البراعم أن يهضموا أو يفهموا هذه المواد التي قد يعجز كثير من أساتذتهم أن يفهموهم إياها, وإذا واجه أحد الطلاب مشاكل لا يستطيع أهله ولا جيرانه أن يحلوها وربما الأمر أدهى فيما بعد المرحلة الابتدائية, أما القرآن فحدث عنهم ولا حرج فإن الكثير أو الأكثر يتجاوزون المراحل كلها بما فيها الجامعية وهم لا يحسنون تلاوته من المصحف فضلا عن حفظه وفهمه, هذا حقيقة والواقع أكبر شاهد وهذه خسارة فادحة لا تقدر بثمن ولا تعوض وإذن فما الحل وما هو الطريق الذي يجب أن نرسمه ونقيم حياتها عليه؟
الحل الصحيح في نظري يتمثل فيما يأتي:
أولا: تكثيف مدارس تحفيظ القرآن تنصبُّ العنايةُ فيها على تحفيظ القران ثم يضاف إليه ما يساعدهم على إجادة قراءته كالخط والإملاء إلى السنة الرابعة ثم تضاف مادة الحساب: الجمع الطرح الضرب, الجمع في السنَة الرابعة, الطرح في الخامسة, الضرب في السادسة مع كتاب لطيف يشرح لهم العقيدة والصلاة.(31/59)
وليكن التركيز في هذه المرحلة على حفظ نصف القرآن على الأقل.
ويشرف على اختبار الطلاب في نهاية كل سنة لجان من حفاظ القرآن الثقات بحيث لا ينتقل الطالب من صف إلى آخر إلا بعد التأكد من حفظ مقرر القرآن في الصف الذي ينتقل. والطالب الذي يعجز عن حفظ المقرر يبق في سنته تلك للقيام بواجب حفظه القرآن في سنته التي يبق فيها ولا يجتاز هذه السنة إلا بعد التأكد من حفظه لمقررها..
ثم تستمر هذه المدارس في تحفيظ القرآن ودراسة علومه في المرحلة المتوسطة ولتكن هذه المرحلة خمس أو ست سنين.
ويكون التركيز في هذه المرحلة على حفظ النصف الباقي من القرآن مع مراجعة النصف الأول مراجعة جادة حتى لا ينساه الطلاب ثم يضاف إلى حفظ القرآن مادة التجويد ومادة التوحيد والفقه والحديث يختار لهم الأمور المهمة في العقيدة والفقه ويكلفون بحفظ أربعين حديثا على الأقل في كل سنة.
ثم الجغرافيا في السنة الأولى والتاريخ في باقي السنوات.
ثم تستمر هذه المدارس في العناية الجادة بحفظ القرآن في المرحلة الثانوية ولتكن هذه المرحلة أربع سنوات أيضاً, يعتني فيها بمراجعة حفظ القرآن عناية جادة مع دراسة علوم القرآن وعلوم الحديث والحديث والفقه والفرائض ويستمر اختبارهم في حفظ القرآن عن طريق اللجان المذكورة في كل سنة من السنوات على الوجه السابق.
ثم بعد اجتيازهم المرحلة الثانوية يوزعون على كليات الشريعة والحديث والقرآن الآتي ذكرها.
ثانيا: المدارس القائمة حاليا تكون المرحلة الابتدائية على غرار ما ذكرته في الابتدائية من مدارس تحفيظ القرآن في كل شيء.(31/60)
ب- المرحلة المتوسطة: لتكن ست سنوات ويعنى فيها بحفظ النصف الباقي من القرآن ويجرى الامتحان في حفظ القرآن على غرار ما ذكرناه في مدارس تحفيظ القرآن والذي لا ينجح في مقرر السنة التي هو فيها يبقى فيها إلى أن يجتازها بنجاح ويقرر في هذه المرحلة مواد المرحلة الابتدائية الحالي مع استحسان تخفيفها باختصار بعض المواد الصعبة وتوضيحها وإبعادها عن الرموز والتعقيد وتصفيتها من الشوائب مع ربطها بالعقيدة الإسلامية الحقة.
ج- المرحلة الثانوية: لتكن أربع سنوات وفي هذه المرحلة يحسن تقسيمهم على حسب ميولهم واستعدادهم للتخصصات المستقبلة فقسم للطب وقسم للهندسة وقسم للقرآن وعلومه وقسم للحديث وعلومه وقسم للشريعة وقسم للاقتصاد الإسلامي وهكذا مع العناية بمراجعة حفظ القرآن والاختبار فيه في نهاية كل سنة يتقدم الناجح ويبقى الراسب إلى أن يجتاز سنته بنجاح.
ومع دراسة قضايا مهمة في العقيدة والفقه وشيء من حفظ الحديث في كل سنة من سنوات قسم الطب والهندسة والاقتصاد.
ثم يتخرج طلاب كل قسم إلى الكلية التي فيها اختصاصه.
المرحلة الجامعية:
ينبغي أن تقوم في كل جامعة من جامعات المملكة كليات.
1 - للقرآن. 2- للحديث. 3- للشريعة.
ثم يستمر في المرحلة الجامعية في كل الكليات كلية الطب, كلية الهندسة,..الخ, في مراجعة حفظ القران وحفظ مقدار مناسب من الحديث في كل سنة من السنوات ويختبرون في الحفظ ولا يجتاز الطالب سنة إلى أخرى إلا بعد النجاح فيما يقرر مراجعة حفظه في القرآن ومقرر الحفظ من الحديث, مع إضافة شيء من علوم القرآن والحديث إلى المواد المقررة في كل كلية من الكليات.(31/61)
وإضافة مادة للرد على شبهات المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام. الشبهات التي يوجهونها ضد الإسلام في كل سنة من سنوات جميع الكليات هذا مع إشعار الطلاب جميعاً وفي كل المراحل أنهم إخوة في الله وأن غايتهم جميعاً واحدة وأنهم جميعاً جند في سبيل الله وأنهم لَبِنات في صرح مجتمع إسلامي واحد يشد بعضهم بعضاً, وأن تزال كل أسباب التنافر الموجودة بينهم وأن يساوى بين خرّيجي مختلف الكليات في الرواتب والمراتب, وأن توجه كل طاقاتهم ضد أعداء الإسلام الذين تكالبوا على الإسلام والمسلمين والذين تداعوا على المسلمين كما تتداعى الأكلَة على قصعتها.
أعداء الإسلام على اختلاف أديانهم وعقائدهم من استعماريين وشيوعيين وصهيونيين ومبشرين الذين يجمعهم التعصب الأعمى والحقد المميت ضد الإسلام والمسلمين.
إن أعداء الإسلام الذين يدركون تمام الإدراك تأثير القرآن والسنة في حياة المسلمين فيحاولون بدهاء وخبث أن يفصلوا بين المسلمين وبين كتابهم الخالد وسنة نبيهم المطهرة اللذين يبعثان في المسلمين بين الفينة والأخرى الحياة الصحيحة حياة الإيمان الصادق ويبعثان فيهم روح الجهاد ويكسبانهم النصر على أعدائهم لأنهم حينما يعتصمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم يكون الله معهم فيؤيدهم وينصرهم على أعدائهم.
فتحت شعار البحث العلمي وحرية الفكر تناول المبشرون والمستعمرون والصليبيون والصهيونيون والشيوعيون القرآن شر تناول.
وباسم الحضارة والمدنية قضوا على ما فيه من تشريع وعبادة.
وباسم حرية الفكر وإطلاقه من أغلال العقيدة زعزعوا قواعد دين الإسلام في نفوس المهزوزين.
وباسم البحث العلمي نزعوا عن القرآن قداسته من نفوس الضعفاء وهذا أشد وأنكى على الإسلام والمسلمين من الحروب العسكرية.(31/62)
ولا يرد هذا الكيد الخبيث والعمل الرهيب إلا أن نحصن أبناءنا بتعاليم الكتاب والسنة وأن نسلحهم بالحجج الدامغة المزهقة لباطل ومفتريات أعداء الإسلام وإلا أن نخرج الجندي المسلم والطبيب المسلم والمهندس المسلم والمحدث الواعي والفقيه المتبصر. وكل هذا سيحققه إن شاء الله المنهج الذي رسمناه وتحدثنا عنه.
ثانيا: اختيار المدرس:
المدرس له أثره البالغ على التلميذ فهو أسوته ومثله فيجب اختيار المدرس الرباني التقي قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} .
والعلماء هم ورثة الأنبياء في علمهم وأخلاقهم ودعوتهم إلى الله، فلا بد للمدرس أن يتمتع بحظ وافر من هذه الوراثة.
في علمه أن يكون عالما بدينه, وفي أخلاقه من الإخلاص والصبر والحلم وصدق الحديث والفعل إلى جانب الذكاء والحرص على تنشئة تلاميذه على الإسلام الحق وأخلاقه وآدابه ومثله.
ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يكون الاعتماد في اختيار المدرس على الشهادات بل يجب أن يراعي في الدرجة الأولى عقيدتة وأخلاقه الإسلامية وتمسكه بدينه. وهذا أمر مهم جداً لا مناص من اعتباره.
فالمدرس الذي انجرف في عقيدته وفكره أو الضعيف الأخلاق والسلوك أو المتهاون في العبادة والصلاة أخطر على أبنائنا من الأمراض الفتاكة, وما نشاهده من انحراف في سلوك كثير من الطلاب أو تهاونهم في أداء الصلوات بل استثقالها وما نراه من زههدهم في القرآن وتلاوته وحفظه وفهمه يعود معظم وزره على كثير من المدرسين الذين أثروا بسلوكهم في أبنائنا وفلذات أكبادنا.(31/63)
فعلينا أن نستمر عن ساعد الجد لعلاج المصابين منهم في أخلاقهم وسلوكهم وعلينا أن نبذل كل ما نستطيع من طاقات لحمايتهم ووقايتهم من الأمراض الفكرية والخلقية أشد مما نبذله لعلاج أجسادهم وحمايتها.
فكما لا نثق بالطبيب الذي يقدم الإبر المسمومة والدواء الفاسد الذي قد يؤدي بحياتهم كذلك يجب أن نحميهم ممن يفتك بأخلاقهم وسلوكهم من المدرسين.
وكما يجب أن نختار الطبيب الأمين المخلص كذلك يجب أن نختار المدرس الأمين الصادق المخلص أكثر وأكثر وأهم وأهم.
ثالثا: اختيار الطلاب الأذكياء
الطلاب هم أبناء اليوم ورجال الغد فهم رجال المستقبل الذين سيكون منهم الأستاذ المسلم والقاضي المسلم والجندي المسلم والطبيب المسلم والمهندس المسلم.
وهذه أمور مهمة وعظيمة جدا فلا بد من دراسة مواهبهم واستعداداتهم ولا بد لكل ثغر من ثغور الإسلام أن يملأ برجاله وأهل الكفاءات فيه فمن المرحلة الثانوية يبدأ التقسيم، تقسيم الطلاب إلى الاختصاصات التي ذكرتها سابقا لا بمجرد أن يختار كل طالب ما يريد.
بل لابد من الاستعانة برأي الأساتذة الأذكياء المخلصين الذين يعرفون المواهب والاستعدادات بفراستهم وتوسمهم وخبرتهم وتجارتهم.
إن الأذكياء من أبنائنا اليوم ينصرفون عن العلوم الإسلامية من قرآن وحديث وتفسير وفقه لأسباب يعلمها الله.
والمعاهد العلمية والكليات الشرعية لا يوجد فيها إلا النادر من الأذكياء, لقد كان الأذكياء والعباقرة في عهود الإسلام الزاهية يتجهون إلى دراسة العلوم الإسلامية وتدريسها والتأليف فيها خصوصاً علوم الحديث فوصلوا بالعلوم الإسلامية وبالأمة الإسلامية إلى مستوى لا يوجد له نظير في تاريخ الإنسانية كله.(31/64)
ونحن اليوم بأشد الحاجة والضَرورة إلى هذا النوع من عباقرة الرجال ليعيدوا لنا مجد الإسلام وليسددوا الضربات القاتلة بفكرهم وأخلاقهم إلى أعداء الإسلام من مبشرين وغيرهم من منطلق الهجوم إلى ثغرات الأعداء التي لا تحصى في عقَائدهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم..
إننا اليوم بخلوِّ الميادين من أمثال هؤلاء في مركز دفاع هزيل عن الإسلام وأهله لا يحمي الأبناء ولا يصد هجوم الأعداء.
فلا بد إذن من ملء هذا المجال بالعباقرة والأذكياء بدل أن تضيع كثير من طاقاتنا أو تذهب إلى مجالات أخرى لا تفيد منها بل قد تضر بأمتها ودينها كما تحوَّل كثير من أبناء الأمة الإسلامية إلى معاول بأيدي خصومنا وتوجههم هدم كياننا وديننا.
رابعا: تهيئة الجو لتربية الطلاب تربية إسلامية صالحة:
يجب أن يفهم الطلاب أن المدرسة معقل من معاقل الإسلام ومحضن يتربى فيه أبناء المسلمين ليؤدي كل واحد دوره في خدمة دينه وعقيدته.
وعلينا أن نفهمهم دينهم دين أخلاق عالية ومثل رفيعة وأن رسولهم خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق", وقد قال الله في حقه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
ويجب أن يكون مديرو المدارس والأساتذة على مستوى عالٍ من الدين والخلق الرفيع.(31/65)
كما يجب أن يحببوا الصلاة إلى نفوس الطلاب وأن يشعروهم أنها عماد الإسلام لن يقوم الدين إلا بها وأنها أهم شيء في حياتهم بعد الشهادتين فليقيموها جماعة في المسجد إن كان بجوار المدرسة مسجد وإلا ففي المدرسة حتى يتم بناء مسجد يجاورها, ومما يؤسف له مر الأسى أن بعض المدارس لا تقام فيها الصلاة وذلك يرجع في الأغلب إلى سوء الإدارة وتهاون بعض المديرين في أمر الصلاة كما يساهم إلى حد بعيد بعض المدرسين الذين لا يخافون الله في أنفسهم ولا في أمتهم ولا يدركون فداحة الجناية التي يرتكبونها في حق الأمة ودينها.
هذه الصلاة تركها كفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر" [8] وكان الصحابة لا يرون شيئاً من العمل كفراً سوى ترك الصلاة, وقد اتفق العلماء أن من تركها جحداً فهو كافر ويقتل على هذا الكفر وإن تركها تكاسلاً وتهاونا فبعضهم يرى أنه كافر وهو مذهب قوي وله أدلته, والآخرون يرون أنه يقتل حداً ومن يرى السجن دون القتل مذهبه ضعيف.
من المحتم علينا أن نشعر الطلاب باحترامها وأهميتها والذي تحدثه نفسه بالتهاون فيها فعلى المسؤولين أن يرغموه عليها إرغاما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموهم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع".
والذي لا تنجع فيه وسائل الترغيب والترهيب والعقوبة فالواجب إبعاده عن المدرسة لأنه جرثومة فاسدة قد يسرى بلاؤه فيمن حوله كما أن هذه الجدية والصرامة يجب أن تلاحقهم حتى في خارج الدوام كالأندية الرياضية ومما يؤسف له أشد الأسف أن كثيراً من الأندية تمر بهم الصلاة وهم في غمرة اللهو واللعب فلا يستحون من الله ولا يخجلون من الأمة.(31/66)
وقد يكون فيهم بعض الأساتذة وقد يكون معهم بعض الشخصيات, إن هؤلاء يجب أن تنالهم يد العدالة وأن تنكل بهم تنكيلا شديداً يكون رادعاً لأمثالهم ممن تسوّل له نفسه الاستخفاف بشيء من تعاليم الإسلام كالصلاة.
إنّ التهرّب من الصلاة واستثقالها من سمات المنافقين الذين همّ رسول الله بإحراقهم والذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} .
ما يجري في الأندية الرياضية في العالم الإسلامي يجب على المسلمين أن يتخلصوا أو يخلصوا أبناءهم منه فإن له دوراً كبيراً في قتل الوقت وقتل الدين والخلق وينبغي أن يكون فقط في حدود الإطار الذي أباحه الإسلام دون أن يصطدم بشيء من مبادئ الإسلام وأخلاقه ومثله.
كذلك وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة من واجبها أن تقدم النافع من البرامج للأمة وان تبتعد عمالا يتفق مع تعاليم الإسلام, وعلى الآباء أن يراقبوا أبناءهم في متابعة البرامج حتى لا تضيع أوقاتهم في ملاحقتها فتصرفهم عن الدراسة الجادة وحفظ القرآن وينبغي أن يكون هناك توعية وتنبيه الآباء والأمهات في دعامة أولادهم والمحافظة على وقتهم فلا يسمحون لأبنائهم في متابعة البرامج إلا بوقت محدود وبالنافع منها فقط وإبعادهم عن الضار إن كان هناك ما يضر بدينهم أو خلقهم.
هذا ما بدا لي حول ربط أجيالنا بالقرآن والسنة كما كان أسلافهم في أزهى عصور الإسلام. وأرجو أن أكون قد وفقت كما أرجو أن يجد آذانا صاغية وأمة واعية مستعدة للعودة إلَى ربها والتمسك بكتاب ربها وسنة نبيها وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------(31/67)
[1] أخرجه البخاري: 3- كتاب العلم بدون إسناد، وأخرجه مسلم 48 من كتاب الذكر والدعاء باب ا1- حديث (2701) ضمن حديث طويل, وأبو داود: 19- العلم باب ا- حديث (3641) ضمن حديث طويل, الترمذي: 19 كتاب العلم حديث (2682) , وأحمد في المسند: 2/ 252.
[2] أخرجه البخاري: 3- العلم باب كيف يقبض العلم حديث (100) , ومسلم: 47- كتاب العلم 14 حديث 2673.
[3] أخرجه البخاري: 3- العلم حديث 79.
[4] راجع تفسير المنار 11/ 201- 205.
[5] أخرجه الإمام أحمد في المسند مختصراً (4/ 153) , والرحلة للخطيب ص120.
[6] أخرجه أحمد في المسند 3/ 495 والبخاري في الأدب المفرد 2/ 433. وأخرجه في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم 1/ 22 والحاكم في المستدرك وصححه 2/ 427 - 428 ووافقه الذهبي, والرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي ص 111.
[7] الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي ص 151، وأصل الحديث في صحيح مسلم 1/ 144.
[8] أخرجه النسائي: باب الحكم في تارك الصلاة 1/117. وأحمد في المسند 6/346.(31/68)
العدد 63-64
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير: للدكتور صالح بن عبد الله العبود
2- آية العدد: للشيخ أبي بكر الجزائري
3- أوَّلُ واجبٍ على المكلفِ.. عِبَادةُ الله تَعاَلى وُضوح ذَلكَ من كِتابِ الله وَدَعواتِ الرُسُل:
للشيخ عبد الله الغنيمان
4- منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة ... والعقل: الدكتور ربيع بن هادي مدخلي
5- دفاعٌ عنِ العقوُباَت الإسلاَمِيةِ: للشيخ محمد بن ناصر السحيباني
6- الإمدَادُ بأحكاَمِ الحداَدِ: للدكتور فيحان شالي المطيري
7- نظامُ الإثبَات في الفِقهِ الإسلاَمي: للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
8- تَحقِيقُ جُزءِ الضُّعَفَاءِ وَالمترُوكينَ "للإمام الدارقطني": د. عبد الرحيم محمد القشقري
9- الملَكُ عَبدُ العَزِيز ِآل سُعود بين نَصرِهِ لله ونَصرِ الله لَهُ: للشيخ إبراهيم محمد حسن جمل
10- ظاَهِرة التقاَصّ في النَّحو العرَبيَّ: للدكتور دردير محمد أبو السعود
11- عُقُود الزّبَرجَدِ عَلىَ مُسنَد الإمام أَحمد في إعرَاب الحَدِيث: تأليف: جلال الدين السيوطي تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر
12- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤف اللبدي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(31/69)
كلمة التحرير
للدكتور صالح بن عبد الله العبود
رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأصلى وأسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن هذا العدد من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هو بداية تحديد اتجاه المجلة إلى الاقتصار على نشر الأبحاث العلمية التي يسهم فيها أساتذة المجامعة، ولذا جاء عددنا هذا حافلاً ببحوث علمية في العلوم الإسلامية والعربية لعدد من الأساتذة الفضلاء.
وما من شك أن البحث والنظر والاستدلال والتوثيق يفيد العلم وهو من خصائص الإسلام التي اقتبسها رواد الكشوفات العلمية فاستضاء بها العلم كله. وهذا المنهج من طرق التَماس العلم. فسلوكه سلوكًا يلتزم بالإِسلام وينبثق منه ويستند في دقته ونتائجه على عقيدته الحية كما يستمد مناهجه وخططه من شريعته هو سلوك راشد مشروع يرجى لصاحبه أن يسهل الله له به طريقاً إلى الجنة.
ذلك أن العقيدة الإسلامية هي التي جمعت الصدق والصلاح وسلمت من الضلال والفساد وتضمنت جميع الحَكمة والعلم النافع والعمل الصالح وهذا هو سر السيادة وسبب العز والظهور والنصر والغلبة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.(31/70)
إن العقيدة الإِسلامية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى تصديقَا وِإقراراً وتسليما وانقيادًا بالقلب واللسان، والجوارح وأعلى ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وعمومَا فالإِيمان هو طاعة الله تعالى وتحقيق امتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ابتداء من أعلى شعب الإِيمان وهي شهادة أن لا إله إلا الله إلى أدناها وهى إماطة الأذى عن الطريق كما شرع الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعبد لله تعالى بهذه الطاعة حبا ورجاء وخوفا لله ومنه سبحانه وتعالى تعبدا يصل على درجة المراقبة والإحسان وهي أن يعبد الإِنسان ربه بذلك كأنه يراه فإن لم يكن يراه استشعر أن الله يراه شعورا لا يغيب عن باله في جميع أحواله التعبدية أو غالبها فيثمر تقوى الله في السر والعلن.
إن عقيدةً هذه ماهيتها تثمر الأمن والهداية في الدنيا والآخرة وبقدر اعتقادها يتحقق ثمرها من الأمن والهداية فمن اعتقدها اعتقادا تاما كان له الأمن التام والهداية التامة ومن كان اعتقاده دون التمام حصل له من الأمن والاهتداء بقدر اعتقاده. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82) .(31/71)
وإن من يتأمل الواقع الذي نعيشه في المملكة العربية السعودية يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول وغيرها هو من أثر العقيدة الإسلامية التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وناصره آل سعود عليها ووازروه على إعلاء كلمة الله تعالى فأقَبلوا على معرفة ما عند الشيخ من العلم والإرادة حتى إذا عرفوا صدق موافقته للحق نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة والسيف والعزيمة يريدون ما عند الله تعالى، فصنع لهم الله من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على ذلك العهد المبارك كلما كان في بحبوحة العز والنصر والظهور، ولا نزال ولله الحمد، ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح المبنية على صحة العلم وصلاح العمل تحت دوحتي أهل العلم وأهل العمل من علماء الدعوة وأنصارها.
هذا وإن اقتصار المجلة على نشر البحوث العلمية الموثقة من الأساتذة الجامعيين ليرجى منه أن يجمع قوتها ويركزها على التخصص العلمي النافع فما ذلك إلا استجابة لمتطلبات المسيرة العلمية التي تسيرها الجامعة الإسلامية لتفي بسد بعض حاجات المجتمع الإسلامي العالمي للتخصص العلمي حسبما يُمليه وجودها إذ هي مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية، وعربية سعودية من حيث التبعية، ذات شخصية اعتبارية مستقلة، ومن أهدافها إعداد البحوث العلمية وترجمتها ونشرها وتشجيعها في مجالات العلوم الإسلامية والعربية خاصة، وسائر العلوم وفروع المعرفة الإنسانية التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي عامة، وتجميع التراث الإسلامي والعناية بحفظه وتحقيقه ونشره.
ونسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه وأن يسلك بنا سبيل أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أهل البصيرة والصدق والإخلاص في العلم والعمل وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.(31/72)
ظاَهِرة التقاَصّ في النَّحو العرَبيَّ
للدكتور دردير محمد أبو السعود
أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة
التَّقاص أسلوب من أساليب العرب، وطرفة من طرفهم، وملحة من ملح كلامهم، فهو يكسب التراكيب طلاوة وتبادلاً، والقواعد دقة، والقياس شمولا، واتساعاً، واللغة مرونة وتداخلاً، والكلام إحالة وتبدلاً وقد أشار إليه بعض النحاة [1] في مصنفاتهم، ولم يتناولوه تناول شمول وإحاطة، ولكن تعرضوا له تعرض إيماء وإشارة.
لذلك رأيت أن أعرض هذه الظاهرة عرضا يوقفنا عليها، ويجليها ويطلعنا على دورها في الأساليب، ويجدر بنا أن نعرفها لغة واصطلاحا ونستعين بالله تعالى فنقول:
التقاص لغة. مأخوذ من القص، والقصاص لغة فيه، وهو القتل بالقتل، أو الجرح بالجرح، أو القطع بالقطع. وفى القاموس [2] قاصصته مقاصة وقصاصا إذا كان لك عليه دين مثل ما له عليك، فجعلت الدين في مقابلة الدين، مأخوذ من اقتصاص الأثر، ومثل ذلك المعنى في المصباح والمختار.
وفي اللسان والتاج والمحكم [3] : التقاص: هو التناصف في القصاص.
قال الشاعر:
فرمنا القصاص وكان التقاص
حكما وعدلا على المسلمينا
فالمادة تدور حول معنى القطع والتتبع.
واصطلاحا: هو أن تأخذ الكلمة حكما من أخرى أخذت مثله منها تلك الكلمة الأخرى.
وبعبارة أخرى: أن تتبادل الكلمتان حكما خاصا بهما. بمعنى أن تعطي كل منهما الأخرى حكما مساويا لما أخذته منها.
وقد تتأتى هذه الظاهرة بين ألقاب الإعراب، وفى إبدال بعض الحروف من بعض، وفي زيادة بعض الحروف.
أولا: تحقيقها بين ألقاب الإِعراب:
أما ورودها بين ألقاب الإعراب فقد تحقق بين الجر والنصب حيث جاء الجر محمولا على النصب فيما لا ينصرف لشبهه بالفعل في وجود العلتين الفرعيتين أو علة تقوم مقامهما.(31/73)
كما حمل النصب على الجر في جمع المؤنث السالم، وفى التثنية، وجمع المذكر السالم طلبا للمقاصة [4] .
أما نصب جمع المؤنث بالكسرة فهو تابع للجر إجراء للفرع على وتيرة الأصل الذي هو جمع المذكر السالم، فإن النصب فيه تابع للجر، لأنه لولم يحمل نصبه على جره للزم مزية الفرع على الأصل [5] .
وأما نصب المثنى فقد جاء بالياء حملا على الجر، لأنه يجر بالياء.
وأما حمل النصب على الجر في جمع المذكر السالم كما في التثنية فلأنك لو قلبت الواو ألفا في النصب لأفضى ذلك إلى الالتباس بالمثنى المرفوع [6] .
وإنما حمل النصب على الجر دون الرفع، لوجود مناسبة بينهما في وقوع كل منهما فضلة في الكلام [7] ، ولأنه يشبهه في الافتقار إلى العامل اللفظي [8] ، ولأن الفتحة إلى الكسرة أقرب من الضمة إليها فحمل على الأقرب منه [9] .
وقد علل أبوعلي الفارسي لهذه الظاهرة في هذا المقام تعليلا حسنا حيث بين أن موافقة الجر النصب فيما لا ينصرف، كموافقة النصب الجر في التثنية والجمع فليس الاتفاق للبناء، وإنما هو لاجتماع النصب والجر في كونهما فضلتين، وفي كونهما كاملتين بعد استعمال الجملة المتضمنة للفعل، أو معنى الفعل بجزئيها اللذين هما الحدث والمحدث عنه، ومن ثم اتفقا أيضا في باب الضمير [10] .
ومما يقوي هذه الظاهرة ويؤكد تحقيقها في هذا الموضع وجود شبه بذهن علامة كل من النصب والجر. فالفتحة تشبه الكسرة وإن اختلف موضعها. كما أن الياء لا يتغير وضعها سواء أكانت علامة للجر، أم علامة للنصب، وإن اختلفت حركة ما قبلها وما بعدها في التثنية والجمع.
ثانيا: في إبدال بعض الحروف من بعض:
1- إبدال الهمزة من الهاء:
من حروف الإبدال القياسي الهمزة والهاء، لأنهما من حروف "هدأت موطيا"وهما يتبادلان الإبدال، بمعنى أن الهاء قد تبدل همزة، كما أن الهمزة قد تبدل هاء.(31/74)
فإبدال الهمزة من الهاء يكون في الاسم والحرف.
فإبدالها من الهاء في الاسم جاء في قولهم: ماء وشاء [11] . والأصل موه وشوه. قلبت الواو ألفا، وأبدلت الهمزة هاء.
وكذلك جاء في الجمع. قالوا في جمع ماء: أمواء، والأصل أمواه، وإذا ثبت أن أصلها هاء، ثبت أن الهمزة مبدلة عنها قال الشاعر:
وبلدة قالصة أمواؤها
ما صحة رأد الضحى أفياؤها [12]
والدليل على أن هذه الهمزة مبدلة من الهاء، رجوعها في التصغير والتكثير، قالوا في تصغير ماء مُوَيه، وفي جمعه مياه وأمواه. والتصغير والتكثير يردان الأشياء إلى أصولها.
وقد أكد ابن عصفور إبدال الهمزة من الهاء بقوله: "وإنما جعلت الهاء هي الأصل، لأن أكثر تصاريف الكلمة عليها، قالوا: أمواه ومياه وماهت الركية [13] . إلى غير ذلك من تصاريفها" [14]
وكذلك ورد إبدال الهمزة من الهاء في قولك: (آل) [15] ، وأصل آل: أهل فأبدلت الهاء همزة فقيل: أَأْل، ثم أبدلت الثانية ألفا لسكونها إثر فتح فقيل: آل، كما قالوا آدم وآخر في الاسم، وآمن وآثر في الفعل، والأصل: أأْدم وأَأخر، وأَأمن وأَأَْثر.
والدليل على أن أصل آل: أهل قول الجماعة في التصغير: أُهَيْل، ولو كانت الألف منقلبة عن غير هاء- أي عن واو- لقيل في تصغيره (أُوَيل) . وقد اختار هذا الرأي يونس [16] .
ومما يؤكد أن الهمزة في (آل) أصلها هاء الإضافة إلى الضمير، فقد قالوا أهلك وأهله كثيرا، لأن الضمير يرد الأشياء إلى أصولها. ولاَ يقال: آلك وآله إلا قليلا، وذلك مثل قول عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم:
وانصر على دين الصليـ ـب
وعابديه اليوم آلَكْ [17]
وقول الآخر:
أنا الرجل الحامي حقيقة والدي
آلي كما تحمي حقيقة آلكا [18]
ونحو قول الكناني: "رجل من آلك وليس منك " [19] .(31/75)
وجاء إبدال الهمزة من الهاء- أيضا- في اسم الإشارة حيث إنهم قالوا في هذا آذا. وجاء على ذلك قول الشاعر:
فقال فريق: آأذا إذ نحوتهم
نعم وفريق لا يمُنُ الله ما ندري [20]
أراد: أهذا، فقلبت الهاء همزة، ثم فصل بين الهمزتين بألف، وأبدلت كذلك في غير اسم الإشارة، مثل قولهم: الأزل والهزل، وهو مأزول ومهزول [21] .
وأما إبدالها في الحرف فقد ورد في: هَلْ وهَلاَّ. فقالوا: ألْ فعلت كذا؟ يريدون هل فعلت كذا؟ حكى ذلك قطرب [22] عن أبي عبيدة. وقالوا: ألاَّ فعلت يريدون هلاَّ فعلت.
والإبقاء على الأصل في (هل) هو الأكثر، بيد أن الهمزة والهاء في ألاَّ وهلا سواء.
وقد عدهما بعض النحويين [23] من حروف التحضيض، كما ذهب غيرهما إلى أنهما مادتان مستقلتان [24] . فالهمزة أصلية في (ألاَّ) كما أن الهاء أصلية في (هلاَّ) بخلاف (هل وأل) فإن الاستفهام بهما ليس على درجة واحدة، لكثرة الاستفهام ووضوحه بهل، وندرته بألْ.
وجاء إبدال الهمزة من الهاء- في غير ما تقدم- على قلة في اسم الفعل [25] . قالوا في هيهات: أيهات.
فإبدال الهمزة من الهاء إبدال قياسي، وهما من مخرج واحد. وكونهما من مخرج واحد جدير بأن يقوي هذا الإبدال ويؤكده.
قال الصيمري: "قلبت الهاء همزة، لأنها من مخرج الهاء، وهي أقوى منها في الصوت " [26] .
ولكن ابن يعيش [27] ذهب إلى أن هذا الإبدال إنما تم لضرب من التقاص. وذلك لكثرة إبدال الهاء من الهمزة على العكس.
وذلك أمر يقتضينا الإشارة إلى إبدال الهاء من الهمزة- عكس ما تقدم- حتى نلم بأطراف المسألة. ونؤكد الظاهرة التي ارتضاها ابن يعيش.
2-إبدال الهاء من الهمزة:
ذهب ابن الأنباري وابن عصفور وابن يعيش إلى أن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلام العرب [28] . وهذا الإبدال وارد في الاسم والفعل والحرف.
(أ) إبدالها في الاسم:(31/76)
أما إبدالها في الاسم فقد ورد في: إياك. قالوا: هياك. قال الشاعر:
فهياك والأمر الذي إن توسعت
موارده ضاقت عليك مصادره [29]
وقال الآخر: [30]
يا خال هلا قلت إذ أعطيتني
هياك هياك وحنواء العنق [31]
كما ورد قولهم: هِبْرِيَّة، والأصل فيه: إبرية، وهو الحزاز في الرأس.
وقالوا في مهيمن، أصله: مؤيمن فأبدلت الهمزة هاء [32] .
(ب) إبدالها في الفعل:
وأما إبدالها في الفعل فقد ورد في قولهم: أنرت الثوب، وأرحت الماشية وأرقت الماء، وأردت الشيء، فأبدلوا في الجميع الهاء من الهمزة فقالوا: هنرت الثوب، وهرحت الماشية، وهرقت الماء، وهردت الشيء. وذلك لاتفاقهما مخرجا لأنهما من أقصى الحلق [33] .
(جـ) إبدالها في الحرف:
وأما إبدالها في الحرف فقد ورد في همزة إِنَّ المؤكدة، وإنْ الشرطية، وأيَا في النداء، وفي همزة الاستفهام، وإليك بيان ذلك.
جاء إبدال الهاء من همزة إِنَّ المشددة المكسورة مع اللام. وذلك على طريق اللزوم حيث قالوا: يهَنَّكَ قائم، قال الشاعر:
ألا يا سنا برق على قُلَل الْحِمْيَ
لَهِنَّك من برق عَلَيَّ كريم [34]
وكذلك أبدلت من همزة (إِنْ) الشرطية [35] مثل قولهم: هِنْ فعلت. تريد: إِنْ فعلت. وهي لغة طيء [36] .
وأما إبدالها من همزة (أَيَا) في النداء ففي قولهم: هيا وأيا، وإن كان أيا أكثر من هيا. قال الشاعر:
وانصرفت وهي حَصَان مُغضبة
ورفعت بصوتها هَيَا أَبه [37]
وإبدالها من همزة الاستفهام في مثل قولهم: هَزَيْدُ منطلقٌ. يريدون: أزيد منطلق. وأنشد الفراء:
وأتى صواحبها فقلن: هذا الذي
منح المودة غيرنا وجفانا [38](31/77)
يريدون: أذا الذي. بإبدال الهاء من الهمزة. فإبدال الهاء من الهمزة مقصور على السماع- كما بينا- غير أن ابن يعيش [39] جعله كثيرا، وقاس عليه إبدال الهمزة من الهاء، وجعله ضربا من التقاص. أي أن كل واحد منهما أخذ حكما أخذه منه الآخر. فإبدال الهمزة من الهاء، تم لأن الهاء أبدلت من الهمزة. فكل منهما فعل بالآخر مثل ما فعل الآخر به، وهذا الضرب هو الذي عرف لدى النحاة بالتقاص، وارتضوه سمة لهذه الظاهرة، ومصطلحا لهذه القاعدة.
3- قلب الهمزة واواً:
تبين لنا مما تقدم أن ظاهرة التقاص تتأتى في إبدال الهمزة من الهاء، وإبدال الهاء من الهمزة. ونبين الآن ورودها بين الواو والهمزة، ويتحقق ذلك في إبدال كل منهما من الآخر. فالهمزة تقلب واواً، كما أن الواو تقلب همزة، ويتضح ذلك على النحو التالي:
(أ) قلب الهمزة واواً:
تبدل الهمزة واواً في عدة مواضع هي [40] :
ا- أن تكون الهمزة للتأنيث، فإنها تبدل واواً باطراد على سبيل اللزوم في التثنية والجمع بالألف والتاء والنسب. فتقول في صحراء وعشراء ونفساء: صحراوين وعشراوين ونفساوين، وصحراوات وعشراوات ونفساوات، وصحراويّ وعشراويّ ونفساوي.
2- أن تكون الهمزة قبل الألف في الجمع الذي لا نظير له في الآحاد، بشرط أن يكتنف ألف الجمع همزتان، وذلك نحو: ذوائب في جمع ذؤابة. أصله ذآئب، فأبدلت الهمزة واواً هروباً من ثقل اجتماع الهمزتين والألف، وهذا الإبدال اطرادي لازم.
3- أن تقع الهمزة لاماً لجمع على مفاعل وقد سلمت في المفرد، وذلك مثل: هِراوة، قالوا في جمعه هراوي، بإبدال الهمزة واوا ليشكل الجمع مفرده.
4- أن تلتقي همزتان في كلمة وتسكن الثانية بعد ضم. فإنها يجب إبدالها واواً. وذلك نحو: أومن وأوثر. والأصل: أؤمن وأؤثر. إلا أنه رفض الأصل هروبا [41] من اجتماع همزتين.(31/78)
5- أن تكون الثانية مضمومة مطلقا. أي سواء انضم ما قبلها أو انفتح أوِ انكسر، أو تكون مفتوحة بعد فتح أو ضم. وذلك مثل: أُوُمٌ، وأوُمّ وإِوُمّ. والأصل: أُؤم، وأؤُم، وإِؤُم. ومثل أُُويدم تصغير آدم. وأَوادم جمع آدم. والأصل: أُؤيدم وأَأًدم. فأبدلت الثانية في الجميع واواً. وهذا الإبدال قياسي مطرد لازم.
(ب) قلب الواو همزة:
تقدمت مواضع قبل الهمزة واواً، وأمر هذه المسألة يحتم علينا ذكر المواضع التي تبدل فيها الواو همزة حتى ينكشف وجه هذه الظاهرة، ونصل إلى النتيجة التي نرجوها.
ومن المقرر في هذا الباب [42] أن الواو تقلب همزة في خمسة مواضع:
1 - أن تتطرف إثر ألف زائدة مثل: كساء وسماء ودعاء. والأصل: كساو وسماو ودعاو.
2- أن تقع عينا لاسم فاعل فعل ثلاثي أعلت عين فعله نحو: صائم وقائم، والأصل: صاوم وقاوم.
3- أن تقع مدة ثلاثية زائدة في المفرد إذا كان جمعه على مثال مفاعل. نحو: عجائز ورعائف جمعي عجوز ورعوفة، والأصل عجاوز ورعاوف.
4- أن تقع ثاني لينين اكتنفهما ألف مفاعل مثل: أوائل وسيائد. والأصل: أواول وسياود في جمع أول وسيد.
5- أن تتصدر في الكلمة واوان. فإن الأولى منهما تقلب همزة بشرط أن لا تكون الثانية منهما مدة غير أصلية، أي: أن تكون الثانية غير مدة وذلك نحو قولك في جمع الأولى أنثى الأول أُوَل. والأصل: وُوَل ونحو ذلك في جمع واصلة وواقية تقول: أواصل وأواق، والأصل: وواصل، ووواق.
أو تكون الثانية مدة أصلية نحو: الأولى أنثى الأول. أصلها وولى بواوين أولاهما فاء، والثانية عين ساكنة.
هذه هي مواضع قلب الواو همزة، وقد تقدمت مواضع قلب الهمزة واواً.
وقد تم هذا القلب المتبادل بين الواو والهمزة على طريق المقاصة. لأن الهمزة وإن لم تكن من حروف العلة، فهي شبيهة بالألف، ولهذا عدها بعض الصرفيين [43] من حروف العلة.(31/79)
وأيا ما كان فإن الألف أخف حروف العلة، وكذلك ما أشبهها وهو الهمزة بخلاف الواو فإنها أثقلها.
فاللجوء- حينئذ- إلى قلب الواو همزة لجوء إلى التخفيف، لأنه انتقال من الثقل إلى الخفة. بخلاف العكس، وهو قلب الهمزة واواً. لأنه انتقال من الخفيف إلى الثقيل.
لهذا كان قلب الهمزة واواً في نحو صحراء وعشراء ونفساء في التثنية والجمع بالألف والتاء، والنسب [44] ، انتقال من الخفة إلى الثقل، لأن الهمزة أخف من الواو- كما علمنا- ولكن ذلك تم على سبيل التقاص.
فكما أن الواو قلبت همزة. كذلك أبدلت الهمزة واواً على طريق المبادلة والمقاصة، نظرا لتحقيق الشبه بينهما، بسبب أن الهمزة شبيهة بالألف وهى حرف علة.
بيد أن ابن "فلاح "جعل هذه الظاهرة [45] متحققة بإبدال الهمزة واواً في الجمع بالألف والتاء فقط. في مثل صحراء وصحراوات. أي أنه قصر المقاصة على جمع المؤنث السالم، اقتصاصا من قلب الواو همزة.
ونحن إذ نقدر لابن فلاح جهده في الإشارة إلى هذه الظاهرة، وفيما ذهب إليه. نرى أنه لا ضير من جعل المقاصة شاملة لكل المسائل التي تقلب فيها الهمزة واواً، اطرادا للقاعدة، وشمولا للظاهرة، وتثبيتا للقياس، وتعميما للمصطلح، وتوسعاً في أساليب اللغة، لأنها- بلا شك- تقبل ذلك ولا تضيق به.
ثالثا: في زيادة بعض الحروف:
من المقرر أن- اللام ألف- أصلها الألف التي هي مَدَّةَ ساكنة، ولكنها دُعِمت باللام قَبْلها متحركة ليمكن الابتداء [46] بها، وليصح النطق كما صح بسائر الحروف غيرها. لأن الساكن لا يمكن الابتداء به.
وإنما دُعمت باللام قبلها ولم تُدعَم بهمزة الوصل التي يؤتى بها توصلا إلى النطق بالساكن، لأنه لا يمكن الإتيان بها قبل الألف، ولأن ذلك يؤدي إلى نقض الغرض الذي قصدوا له، لأن همزة الوصَل قد تأتي مكسورة، ولو كسرت لانقلبت الألف ياءً مكسورة لانكسار ما قبلها.(31/80)
فيقال: (إي) فلا تصل إلى الألف التي اعتمدت [47] عليها، فلما لم يجز ذلك، عَدَلوا إلى اللام دون غيرها، لأن العرب توصلوا إلى النطق بلام التعريف بزيادة الألف قبلها، توصلا إلى النطق بها، فحركوا الألف فصارت همزة، وجعلوها همزة [48] وصل نحو: الغلام والفرس والجارية. فلما افتقرت الألف إلى حرف جيء باللام قبلها في (لا) توصلا إلى النطق بالألف الساكنة ليكون ذلك ضرباً من التقاص والتعويض بين الحرفين فصار لا.
وبالله التوفيق ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن جنى في سر الصناعة ص 50، وابن الأنباري في منثور الفوائد ص 75 والسيوطي في الأشباه 1/ 134 وغيرهم.
[2] القاموس (قصص) ، والمصباح 505 والمختار 538.
[3] اللسان والتاج (قصص) والمحكم 6/ 66.
[4] الأشباه والنظائر 1/ 135.
[5] حاشية الصبان 1/ 103
[6] شرح الألفية لابن الناظم ص 15.
[7] المسائل العسكريات للفارسي 53 1 وابن الناظم 13، والتصريح 1/ 79 والجامي على الكافية 8 1.
[8] التوطئة للشلوبيني 130.
[9] التصريح 1/ 84.
[10] العسكريات 153.
[11] أنظر سر الصناعة1 / 113. والتبصرة 815 وشرح المفصل لابن الحاجب2/ 396. والممتع1 / 348وابن يعيش 10/15 والأشباه والنظائر 1/ 135والأشموني والصبان4/ 213، 223.
[12] سر الصناعة 1/113 وشرح الشافية 3/ 108 والممتع1 / 348وشرح المفصل لابن الحاجب 2/ 396 وابن يعيش 10/15.
[13] ماهت: ظهر ماؤها وكثر.
[14] الممتع 1 / 348.
[15] انظر التصريف الملوكي 39. وسر الصناعة 1/ 114 والإبدال والمعاقبة والنظائر للزجاجي 29 والممتع1 /348.
[16] التصريف الملوكي 39.
[17] الممتع 1/ 349 والدرر اللوامع 2/ 62 وتاج العروس (أهل) .
[18] الممتع 1/ 349.(31/81)
[19] المصدر السابق 1/ 350.
[20] الكتاب2/ 147 وسر الصناعة 1/ 130 والممتع 1/ 351 والإنصاف07 4 والإبدال والمعاقبة ص 30 والمغنى 101
[21] الإبدال والمعاقبة ص30.
[22] الممتع 1/ 351.
[23] ابن النحوي في شرحه للمفصل2 /396.
[24] انظر حاشية الصبان4/ 223.
[25] أمالي ثعلب 47 5 وابن يعيش 0 1/ 5 1 والمزهر2 / 473 والأشباه والنظائر1 /397.
[26] التبصرة والتذكرة ص 815.
[27] شرح المفصل 10/15.
[28] انظر الإنصاف 131. والممتع1 / 397وشرح المفصل 8/118 والأشباه والنظائر1 /135.
[29] التصريف المملوكي 44. والوجيز 54 والإنصاف 131 وشرح المفصل8/8 11 والممتع1 /397.
[30] انظر الإبدال السكيت 25 والوجيز 53 والإنصاف 131.
[31] حنواء العنق. التي تميل عنقها من الإبل وَالغنم.
[32] التصريح 2 /368.
[33] الإنصاف 132.
[34] انظر مجالس ثعلب 13 1 والخصائص1/ 315 والممتع1/ 398 وابن يعيش 0 1/ 42 واللسان (لهن) .
[35] انظر شرح الشافية3 / 222والممتع1/ 397.
[36] المفصل للزمخشري ص0 37.
[37] الممتع 1/ 399.
[38] انظر ابن يعيش 10/ 43 وشرح الشافية 3/ 224 والممتع 1/ 399.
[39] ابن يعيش10/ 43.
[40] انظر سر الصناعة 4 0 1 وما بعدها والتصريف الملوكي 38 والتبصرة 4 1 8 والإنصات 477 والممتع 1/ 363 والتصريح 2/ 372 والأشباه والنظائر 1/ 135 والأشموني 4/ 214.
[41] ينظر الممتع1 /366.
[42] أي باب الإبدال والإعلال.
[43] رضي الدين الإستراباذي في شرحه للشافية أول باب الإعلال 3/ 79.
[44] الممتع 1/ 363.
[45] الأشباه والنظائر 1/ 135.
[46] سر صناعة الإعراب 1/ 48 ومنثور الفوائد لابن الأنباري ص 75.
[47] سر الصناعة 1/ 49.
[48] منثور الفوائد 75.(31/82)
عُقُود الزّبَرجَدِ عَلىَ مُسنَد الإمام أَحمد في إعرَاب الحَدِيث
(1)
تأليف: تحقيق:
جلال الدين السيوطي الدكتور حسن موسى الشاعر
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
تمهيد:
أوَّلا: جلال الدين السيوطي [1] :
لقد أعاننا السيوطي في معرفة سيرة حياته وشيوخه ومؤلفاته، إذ ترجم لنفسه في كتابه حُسن المحاضرة، عند الكلام على من كان بمصر من الأئمة المجتهدين. قال: "وإنما ذكرت ترجمتي في هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلي، فقلَّ أن ألفّ أحد منهم تاريخاً إلاّ ذكر ترجمته فيه ... ".
حياته وشيوخه:
هو أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين ... الخضيري الأسيوطي الشافعي.
نسب إلى أسيوط، مدينة معروفة بمصر. وأما نسبة "الخضيري"فيرجح السيوطي أنها نسبة إلى محلة ببغداد، وقد قيل إن جدّه الأعلى كان أعجمياً أومن الشرق.
ولد السيوطي بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة 849هـ وتوفي والده سنة 855هـ وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وكان قد وصل في حفظ القرآن الكريم إلى سورة التحريم، فنشأ يتيماً، وأسندت وصايته إلى جماعة منهم كمال الدين بن الهمام.
حفظ القرآن الكريم وله دون ثماني سنين، ثم حفظ العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك.(31/83)
وشرع يشتغل بالعلم من مستهلّ سنة 864 هـ فلازم كثيراً من شيوخ عصره، وأجيز بتدريس العربية في مستهل سنة 866هـ وبدأ بالتأليف في هذه السنة، فكان أول شيء ألفه شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقف عليه شيخه علم الدين البلقيني فكتب عليه تقريظاً، ولازمه في الفقه إلى أن مات سنة 868هـ ولزم في الفقه أيضاً شيخ الإسلام شرف الدين المناوي آخر علماء الشافعية المتوفى سنة 871هـ وقرأ على الشمس السيرَامي صحيح مسلم إلاّ قليلاً منه، والشفا، وألفية ابن مالك، وقطعة من التسهيل وأجازه بالعربية وغيرها.
ولزم في الحديث والعربية شيخه تقي الدين الشمنيّ الحنفي المتوفى سنة 872هـ فواظبه أربع سنين وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك "البهجة المرضية" وعلى تأليفه "جمع الجوامع في العربية".
ولزم شيخه العلامة محي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة حتى مات وذلك من سنة 65 8ـ 879هـ وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني.
وقد سافر السيوطي إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب، ولما حجّ شرب من ماء زمزم لأمور: منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
ولما بلغ السيوطي أربعين سنة ترك التدريس والإفتاء وتجردّ للعبادة، وشرع في تحرير مؤلفاته، ثم قطع صلته بالحياة العامة واعتكف بمنزله في جزيرة الروضة بالمنيل، ولم يتحول عنها إلى أن مات في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911هـ رحمه الله تعالى.
مصنفاته:
قضى السيوطي حياته في تحصيل العلم والدرس والتصنيف، وتنوعت ألوان ثقافته حتى صار إماماً في كثير من العلوم.(31/84)
قال في كتاب حسن المحاضرة [2] : "ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلاً عمنّ دونهم. وأما الفقه فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي أوسع نظراً وأطول باعاً. ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القراءات- ولم آخذها عن شيخ- ودونها الطب. وأما علم الحساب فهو أعسر شيء عليّ وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلاً أحمله.
"وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدّثاً بنعمة الله تعالى لا فخراً، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيله بالفخر، وقد أزف الرحيل، وبدأ المشيب، وذهب أطيب العمر. ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي فلا حول ولا قوة إلاّ بالله، ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله.
"وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئاً في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه فتركته لذلك، فعوّضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم".
وقد ترك السيوطي عدداً ضخماً من المصنفات في أكثر الفنون ما بين مجلدات ورسائل صغيرة وقد ذكر في كتابه حسن المحاضرة أن مؤلفاته إلى ذلك الوقت بلغت ثلاثمائة كتاب سوى ما غسله ورجع عنه [3] .
وللسيوطي رسالة خاصة فهرس فيها مؤلفاته ورتبها على الفنون [4] . وقد أحصيت مؤلفاته فيها فبلغت 552 مؤلَفاً.(31/85)
وقد عمل الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال كتاباً ضخماً لمؤلفات السيوطي رتبه على حروف المعجم وسماه "مكتبة الجلال السيوطي"قال في مقدمته: "أحصيت في هذا الفهرست التآليف السيوطية، فكانت 725 عدداً، أخرجت منها الطباعة نيفاً ومائتين ... "
ثانيا: الكتب المصنفة في إعراب الحديث:
النحاة والحديث:
الحديث النبوي أصل من أصول النحو، ومصدر من مصادره السماعية، ولكن الناظر في كتب النحو يتملكه العجب وهو يرى قلة احتجاج النحاة بالحديث وكثرة استشهادهم بالشعر. وقد غلب هذا الاتجاه على النحاة الأوائل، وقلّدهم من جاء بعدهم. ثم اختلف موقف النحاة بعد, فمنهم من قويت عنايته بالحديث والاحتجاج به كابن الطراوة (528هـ) والزمخشري (538 هـ) والسهيلي (581هـ) وابن خروف (0 61 هـ) وابن يعيش (643 هـ) ، وبلغ الاهتمام بالحديث أوجَّهُ عند ابن مالك الأندلسي (672هـ) الذي يعدّ إمام الاحتجاج بالحديث النبوي.
وقد لخصّ السيوطي مذهب ابن مالك في الاحتجاج فقال: "كان أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب" [5] .
وهكذا مهّد ابن مالك السبيل لمن جاء بعده، فسار على دربه ابن هشام (761هـ) والدماميني (827 هـ) والأشموني (929هـ) وغيرهم.
ومن النحاة من تزعّم منع الاحتجاج بالحديث، وأشهرهم اثنان: ابن الضائع (680 هـ) وأبو حيان الأندلسي (745هـ) ، وذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوّزوا نقل الحديث بالمعنى، والثاني أن كثيراً من رواة الحديث كانوا غير عرب بالطبع فوقع اللحن في نقلهم [6] .
وقد رجَّح معظم المتأخرين مذهب ابن مالك في الاحتجاج بالحديث، وذلك لشدّة عناية المحدثين برواية الحديث وورعهم في نقله، وتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، بعد الجهد العظيم الذي بذله علماء الحديث.(31/86)
ومن العجيب أن الإمام السيوطي، وهو صاحب المصنفات الكثيرة في الحديث، ذهب إلى عدم الاحتجاج بالحديث فيما خالف القواعد النحوية، وصحح مذهب ابن الضائع وأبي حيان. فقال في كتابه الاقتراح: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المرويّ، وذلك نادر جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا فإن غالب الأحاديث مرويّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدّت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويّاً على أوجه شتى بعبارات مختلفة، ومن ثَمّ أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث" [7] .
وكرر السيوطي هذا الرأي في كتابه همع الهوامع فقال:
" ... وقد بيّنت في كتاب أصول النحو من كلام ابن الضائع وأبي حيان أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية، لأنه مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول، والأحاديث رواها العجم والمولدون لا من يحسن العربية، فأدوها على قدر ألسنتهم" [8] .
كما ذكر السيوطي هذا الرأي أيضا في كتابه عقود الزبرجد حيث قال:
"اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواة بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح، ومنها ما يخالف ذلك".
ثم ينقل السيوطي كلام ابن الضائع وأبي حيان في هذا المجال.
التصنيف في إعراب الحديث:
لقد كان لهذه المواقف المتضاربة من النحاة أن قلّ التصنيف في إعراب الحديث، فلا نجد كتباً متخصصة في إعراب الحديث غير ثلاثة كتب: الأول للعكبري، والثاني لابن مالك، والثالث للسيوطي.
قال السيوطي في مقدمة كتابه "عقود الزبرجد":(31/87)
" ... وبعد فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري ... والثاني الإمام جمال الدين ابن مالك ... وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث مستوعب جامع ... "
وفيما يلي وصف لهذه المصنفات:
(1) إعراب الحديث النبوي- للإمام العكبري (538-616هـ) :
أبو البقاء محب الدين عبد الله بن الحسن العكبري الأصل، البغدادي المولد والدار، الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير [9] .
برع أبو البقاء في فنون كثيرة وله مصنفات عديدة منها: إعراب القرآن واللباب في علل البناء والإعراب، وشرح الإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، وشرح المفصل للزمخشري وغيرها.
وقد صنف أبو البقاء العكبري أول كتاب في إعراب الحديث [10] ، وأعتمد في أخذ الأحاديث على كتاب جامع المسانيد لابن الجوزي (597هـ) الذي جمع فيه مصنفه غالب مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم والترمذي.
قال أبو البقاء في مقدمته:
"أما بعد فإن جماعة من طلبة الحديث التمسوا مني أن أملي مختصراً في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث، وأن بعض الرواة قد يخطئ فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بريئون من اللحن، فأجبتهم إلى ذلك، واعتمدت على أتمّ المسانيد وأقربها إلى الاستعياب وهو جامع المسانيد للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، رحمه الله، مرتّبة على حروف المعجم، والله الموفق للصواب".
ومجموع الأحاديث التي تعرّض العكبري لإعرابها نحو 430 حديثاً، كان يستشهد عليها بالقرآن والشعر، وقد يتعرض للخلافات النحوية، وقد يذكر العكبري للرواية أكثر من إعراب. وإذا خرجت الرواية عن المألوف في كلام العرب ولم يجد لها وجها في قواعد النحاة حكم العكبري عليها باللحن.(31/88)
(2) إعراب الحديث- للإمام ابن مالك الأندلسي (600-672 هـ) :
أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي اللغوي المقريء المحدث الفقيه الشافعي [11] . من أشهر مصنفاته: الكافية الشافية وشرحها، التسهيل وشرحه- لم يتم-، الخلاصة الألفية في النحو والصرف، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ.
وقد صنف ابن مالك كتاباً في إعراب الحديث سماه: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" [12] . وهو يقوم على إعراب مشكلات وقعت في صحيح البخاري. ويتضح فيه منهج ابن مالك في الاحتجاج بالحديث النبوي، واستنباط القواعد النحوية منه، ويستدل للأحاديث بالقرآن والشعر، ويخطِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّيء النحوِيين في عدد من المسائل. وهو بذلك يتميز عن منهج العكبري الذي كان يلحّن الرواية أحيانا لمخالفتها قواعد النحاة.
(3) إعراب الحديث- للإمام السيوطي (849 ـ ا 91هـ) :
صنف السيوطي كتاباً ضخماً في إعراب الحديث سماه: "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد"اعتمد فيه غالباً على مسند الإمام أحمد، وضمّ إليه كثيرا من كتب الحديث.
قال في مقدمته:
" ... وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع ... وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كل سحابة ... "
وهكذا رتّب السيوطي كتابه على الطريقة التي رتب فيها العكبري كتابه. والسيوطي مطّلع على إعراب الحديث للعكبري وإعراب الحديث لابن مالك فينقل أقوالهما في إعراب الحديث ويزيد عليها بما يعنّ له وما يراه من الأقوال الأخرى. فيقول:(31/89)
"قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوًّا إليه، ليعرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها".
والسيوطي - كعادته- جمَّاعة للآراء لا يكاد يغفِل عن نقل رأي منها له قيمته في إعراب الحديث، ولا نكاد نجد له دوراً في الإعراب إلاّ نادراً.
وأهم المصادر التي اعتمد عليها السيوطي في إعراب الحديث:
1- إعراب الحديث للعكبري، وقد صرّح بنقله جميع كلامه.
2- إعراب الحديث لابن مالك.
3- شرح الطيبي على مشكاة المصابيح للتبريزي.
4- شروح صحيح البخاري للكرماني، والزركشي، والخطابي، وابن حجر.
5- شروح صحيح مسلم للقاضي عياض، والقرطبي، والنووي.
6- شرح الكافية الشافية لابن مالك.
7- أقوال النحاة واللغويين في مصنفاتهم كالزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الكافية، والأندلسي في شرح المفصل، وابن يعيش في شرح المفصل، والجوهري في الصحاح، والزمخشري في الفائق، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث.
وقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية، الأولى في دار الكتب المصرِية، والثانية في أيا صوفيا، والنسخة الثالثة في الخزانة العامة بالرباط. وقد بذلت جهداً كبيرا في تقويم النصّ والتعليق عليه، وتوثيق الآراء والنقول، وتخريج الأحاديث.
وقد آثرت تقديم مادة الكتاب على طريقة النص المختار، واستبعدت الفروق بين النسخ، لعدم حاجة القاريء إليها، إلى أن يأذن الله بإتمام الكتاب، وإعادة طبعه كاملاً.
ومن الله العون وبالله التوفيق ...
* * *
كتاب
عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد
في إعراب الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب]
ربّ يسر وأتمم بخير فأنت كريم ...(31/90)
الحمد لله الذي خصّ هذه الأمة بالإسناد والإعراب، وصلى الله على سيدنا محمد والآل والأصحاب.
وبعد:
فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري، فإنه لما ألّف إعراب القرآن المشهور [13] أردفه بتأليف لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديث كثيرة من مسند أحمد وأعربها، إلاّ أنه لاختصاره، ونزرة ما أورده فيه من النزر القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل.
والثاني الإمام جمال الدين بن مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفاً خاصاً بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح".
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع [14] ، شامل للفوائد البدائع شافٍ. كافلٍ بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كُلّ فريدة، وأسفر فيه النقاب عن وجه كل خريدة [15] وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمّه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتّبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كلَّ سحابة.
واعلم أن لي على كلّ كتاب من الكتب المشهورة في الحديث تعليقة، وهي الموطأ [16] ، ومسند الشافعي [17] ، ومسند أبي حنيفة [18] ، والكتب الستة [19] ولم يبق إلا مسند أحمد. ولم يمنعني من الكتابة عليه إلاّ كبر حجمه جداً، وعدم تداوله بين الطلبة كتداول الكتب المذكورة، وقدّرت التعليقة عليه تجيء في عدة مجلدّات، والتعاليق التي كتبتها لا تزيد التعليقة منها على مجلد.
فلما شرح الله صدري لتصنيف هذا الكتاب، عرّفته بمسند أحمد، عوضاً مما كنت أرومه عليه من التعليقة، ولكونه جامعاً لغالب الحديث المتكلّم على إعرابه. فإن شئت فسّمه "عقود الزبرجد على مسند أحمد"وإن شئت فقل "عقود الزبرجد في إعراب الحديث"ولا تتقيدّ.(31/91)
والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز بجنات النعيم، إنه البرّ الرحيم ...
مقدمة
[في الاستشهاد بالحديث]
اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواةُ بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا، وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح،
ومنها ما يخالف ذلك [20] .
وقد قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس [21] : "إذا ورد الحديث على وجهين ما يوافق الفصيح وما يخالفه، فالموافق للفصيح هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن ينطق إلاّ بالفصيح".
وقد نقل هذا الكلام عن المزني [22] .
قال أبو عاصم العبادي [23]- من متقدمي أصحابنا- في طبقاته: "قال المزني: لا يروى في الحديث خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، فلا يجوز أن يروي خطأ".
وقال أبو الحسن بن الضائع [24]- بالضاد المعجمة- في شرح الجمل [25] :
"تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب".
قال: "وابن خروف [26] يستشهد بالحديث كثيراً فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن، وان كان يرى أن من قبله أغفل شيئاً وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان [27] في شرح التسهيل [28] :(31/92)
"قد أكثر ابن مالك من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء [29] ، وعيسى بن عمر [30] ، الخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي [31] ، والفراء [32] ، وعلي بن المبارك الأحمر [33] ، وهشام الضرير [34] من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك. وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم تقل بتلك الألفاظ جميعها. نحو ما روي من قوله "زوجتكها بما معك من القرآن" "ملكتكها بما معك", "خذها بما معك"وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم أنه قال بعضها. إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه صلى الله عليه وسلم، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جداً، لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.(31/93)
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك. وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا غير شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلاّ بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها, وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
وابن مالك قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر، متعقباً بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك.
"وابن المصنف رحمه الله كأنه موافق لأبيه في استدلاله بما روي في الحديث، فإنه يذكره على طريقة التسليم".
وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وكان ممن أخذ عن ابن مالك- قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول. فلم يجب بشيء.
قال أبو حيان: "وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما. فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث". انتهى كلام أبي حيان.
وقال القاضي عياض [35] في شرح مسلم: قال الشعبي [36] : "إذا وقع في الحديث اللحن البينّ يعرب". وقاله أحمد بن حنبل. قال: "لأنهم لم يكونوا يلحنون". وقال النسائي: [37] "إن كان شيئاً تقوله العرب فلا يغيّر، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن".
فصل
[في عزو الأقوال إلى أصحابها](31/94)
قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوّا إليه، ليعُرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث، فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها، لأن بركة العلم عزو الأقوال إلى قائلها، ولأن ذلك من أداء الأمانة، وتجنب الخيانة، ومن أكبر أسباب الانتفاع بالتصنيف، لا كالسارق الذي خرج في هذه الأيام فأغار على عدة كتب من تصانيفي، وهي المعجزات الكبرى، والخصائص الصغرى، ومسالك الحنفاء، وكتاب الطيلسان وغير ذلك، وضمّ إليها أشياء من كتب العصريين، ونسب ذلك لنفسه من غير تنبيه على هذه الكتب التي استمد منها، فدخل في زمرة السارقين، وانطوى تحت ربقة المارقين، فنسأل الله تعالى حسن الإخلاص والخلاص، والنجاة يوم يقال للمعتدين لات حين مناص.
وقد رمزت على كل حديث رمز من أخرجه من أصحاب الكتب الستة المشتهرة، وإن لم يكن فيها ولا في المسند صرّحت بذكر من أخرجه من أصحاب الكتب المعتبرة.
فائدة
[هل يتعدى "سمع"إلى مفعولين؟]
يتكرر كثيرا في الحديث قول الراوي "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "وقد اختلف هل يتعدّى "سمعت" [38] إلى مفعولين؟
فجّوزه الفارسي [39] ، لكن لابد أن يكون الثاني مما يُسْمَع، نحو: سمعت زيداً قال كذا. فلو قلت: سمعت زيداً أخاك، لم يجز.
والصحيح تعدّيه إلى مفعول واحد، وما وقع بعده منصوباً فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي سمعت قول رسول صلى الله عليه وسلم، لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بيّن هذا المحذوف بالحال المذكور، وهي يقول، وهي حال مبيّنة، ولا يجوز حذفها.
وقال الزمخشري [40] في قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِياً} [41] : تقول سمعت رجلاً يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا منه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدّ وأن يقال: سمعت كلامه.(31/95)
وقال الطيبي [42] : الأصل في "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ": سمعتُ قول رسول الله، فأخّر القول وجُعل حالاً ليفيد الإبهام والتبيين. وهو أوقع في النفس من الأصل.
فائدة
[في قولنا "رضي الله عنه"و"رضوان الله عليه"]
سئل الإمام أبو محمد بن السِّيد البَلْيوسي [43] عن قولنا: "رضي الله عنه ورضوان الله عليه هل "عليه"هنا مبدلة من "عنه"كما يتبدل بعض الحروف من بعض، فيسوغ فيها على وعن، أم ليست مبدلة؟
فأجاب: ليست "على"هاهنا ببدل من "عن"التي حكم "رضي"أن يتعدى بها، بدليل أن "عليه"قد صارت خبراً عن المبتدأ، ولو كانت بدلاً من "عن"لكانت من صلة الرضوان، ولم يصح أن يكون خبرا عنه، وعن مضمنّة في الكلام، كأنه قال: رضوان الله عنه سابغ عليه، أو واقع عليه، ونحو ذلك.
فائدة
[في إعراب غير]
سئل ابن الحاجب [44] عن إعراب "غير"في قولهم: هذا الحديثُ لا نعلمُ أحداً رواه عن فلان غير فلان؟ أينصب غير أم يرفع؟.
فأجاب بما نصّه: إن جعلت "نعلم"متعدياً إلى مفعولين أحدهما "أحداً"والثاني "رواه"، كما نقول: ما أظن أحداً رواه غيرُ فلان، وهو الظاهر، فالفصيح الرفع على البدل من الضمير المرفوع المستتر في "رواه"العائد على أحد، لأنه المنفي في لا نعلم.
ويجوز نصبه على الاستثناء، وهي قراءة ابن عامر [45] ، ولا يجوز أن يرفع على أن يكون فاعلاً برواه، لأن في "رواه"ضمير فاعل عائد على أحد، فلا يستقيم أن يرفع به فاعل آخر.
فإن جعلت "نعلم" بمعنى نعرف المتعدي إلى واحد، كان "رواه"صفة له، كأنك قلت: لا نعرف راوياً غير فلان، تعينّ النصب، جعلته بدلاً أو استثناء، كقولك: ما أكرمت أحداً راوياً غير زيد. فلا يجوز في "غي" إلاَّ النصب.
نقلته من خط ابن الضائع في تذكرته، وهو نقله من خط ابن الحاجب.(31/96)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر ترجمة السيوطي ومؤلفاته: حسن المحاضرة للسيوطي1 /335-344.
ترجمة جلال الدين السيوطي لتلميذه الداودي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
البدر الطالع للشوكاني1/ 328.
الضوء اللامع للسخاوي 4/ 65.
الكواكب السائرة للغزي 1/ 226.
شذرات الذهب لابن العماد 8/ 51.
السيوطي وجهوده في الدراسات اللغوية- رسالة ماجستير أعدها الأستاذ محمد يعقوب تركستاني بجامعة أم القرى.
فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
مكتبة الجلال السيوطي- تأليف أحمد الشرقاوي جلال الدين السيوطي- بحوث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 1978 م.
الأعلام للزركلي 4/ 71.
معجم المؤلفين- عمر كحالة5 /128.
تدريب الراوي للسيوطي/ المقدمة.
[2] حسن المحاضرة 1/ 338.
[3] حسن المحاضرة1 /338.
[4] فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوط بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
[5] بغية الوعاة بتحقيق محمد أبو الفضل1 /134.
[6] راجع موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث في الفصل الثاني من كتابنا النحاة والحديث النبوي.
[7] الاقتراح ص 16.
[8] همع الهوامع2 /42بتحقيق د. عبد العال سالم.
[9] أنظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 109، نكت الهميان للصمدي 178، الذيل على الروضتين لأبي شامة 199، أنباه الرواة للقفطي 2/ 116، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 100، بغية الوعاة 2/ 38، شذرات الذهب5/ 67 معجم الأدلاء6/ 46، البداية والنهاية 13/ 85، الأعلام 4/ 208.(31/97)
[10] حققت هذا الكتاب مع دراسة لعنوان "النحاة والحديث النبوي "وحصلت بهما على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر لإشراف أستاذنا الدكتور أحمد كحيل. وقد طبعت الكتابين في عمان.
[11] انظر ترجمته في. بغية الوعاة 1/ 130، البداية والنهاية 13 /267، نفح الطيب بتحقيق محمد محي الدين 2/ 421، طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة 133، التسهيل/ التمهيد.
[12] حققه محمد فؤاد عبد الباقي، وطبع في القاهرة 1376 هـ 1977م.
[13] مطبوع باسم "إملاء ما منّ به الرحمن". وقد حققه علي البجاوي وطبعه باسم "التبيان في إعراب القرآن".
[14] هامع أي ماطر.
[15] الخريدة: البكر التي لم تمسس. “القاموس) .
[16] للسيوطي “تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك) مطبوع.
[17] للسيوطي "الشافي العيّ على مسند الشافعي".
[18] للسيوطي "التعليقة المنيفة على مسند أبي حنيفة".
[19] للسيوطي عليها: التوشيح على الجامع الصحيح، والديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، ومرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، وقوت المغتذي على جامع الترمذي، وزهر الربى على المجتبى، ومصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة.
[20] ذكر السيوطي رأيه هذا في كتابه الاقتراح، ثم نقل فيه كلام ابن الضائع وأبي حيان. انظر الاقتراح ص 16 _19. وراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا "النحاة والحديث النبوي ".
[21] فتح الدين بن سيد الناس: الإمام العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الأندلسي المصري الشافعي، ولد سنة 671 هـ لازم ابن دقيق العيد وتخرج عليه وأخذ العربية عن البهاء النحاس. صنف السيرة الكبرى والصغرى. مات فجأة سنة 734هـ.
انظر طبقات الشافعية للسبكي 9/268 ذيل تذكرة الحفاظ 16، ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي 350.(31/98)
[22] أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي بن إسماعيل المزني المصري (75 1_ 264 هـ) كان إماماً ورعاً زاهدا، معظما بين أصحاب الشافعي، حدّث عن الشافعي ونعيم بن حماد وغيرهما. من مصنفاته: المبسط، الجامع الكبير، الجامع الصغير، المختصر. أنظر: طبقات الشافعية للسبكي2 /93، طبقات الشافعي للأسنوي1 /34.
[23] محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد (375_8 45هـ) كان إماماً مفنناً مناظراً. من تصانيفه. المبسوط، طبقات الفقهاء. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 104، طبقات الشافعية للأسنوي2/ 190.
[24] أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الضائع، بلغ الغاية في النحو ولازم الشلوبين، وفاق أصحابه بأسرهم. ومن مصنفاته: شرح جمل الزجاجي. توفى سنة 680هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 204.
[25] أنظر شرح الجمل لابن الضائع/ مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 19 نحوجـ2 ورقة 72.
[26] أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن خروف الأندلسي، أخذ النحو عن ابن طاهر المعروف بالِخدَبّ. أقرأ النحو بعدة بلاد. من مصنفاته: شرح كتاب سيبويه، شرح الجمل توفى سنة 609 هـ. انظر بغية الوعاة2 /203.
[27] محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي، نحوي عصره ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه من مصنفاته: البحر المحيط، التذييل والتكميل في شرح التسهيل، ارتشاف الضرب من لسان العرب، توفي سنة 745 هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 280- هـ 28
[28] أنظر التذييل والتكميل/ مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 62 نحوجـ5 ورقة: 68 ا-. 17.
[29] أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة المشهورين، كان إمام أهل البصرة في القراءات والنحو واللغة مات سنة 54 1هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 231.(31/99)
[30] عيسى بن عمر الثقفي مولى خالد بن الوليد إمام في النحو والعربية والقراءة، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق. وصنف في النحو الإكمال والجامع، توفى سنة 49 1 هـ. انظر بغية الوعاة2/ 237.
[31] علي بن حمزة الكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة المشهورين توفى سنة 82 اهـ انظر بغية الوعاة2 /163.
[32] يحي بن زياد أبو زكريا الفراء، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، أخذ عنه وعن يونس. من مصنفاته: معاني القرآن، المقصور والممدود، المذكر والمؤنث. مات سنة 207 هـ. بغية الوعاة 2/ 333.
[33] علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، كان متقدماً في النحو، واسع الحفظ. مات سنة 194 هـ. بغية الوعاة2/ 158.
[34] هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي أحد أصحاب الكسائي. صنف مختصر النحو، الحدود، القياس. توفى 209 هـ. بغية الوعاة2/ 328.
[35] القاضي عياض بن موسى اليحصبي عالم المغرب ولد بسبتة سنة 476 هـ. قال ابن خلكان: إمام الحديث في وقته وأعرف الناس بعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. ومن تصانيفه: "إكمال في شرح مسلم "، مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار من الموطأ والصحيحين توفى سنة 544 هـ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ص 304 ا-1307.
[36] الشعبي علامة التابعين، عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي، مولده في أثناء خلافة عمر، كان إماماً حافظاً فقيهاً متقناً ... انظر تذكرة الحفاظ للذهبي1 /79.
[37] الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب الخرساني صاحب السنن، ولد سنة 215 هـ وتوفى سنة 303 هـ. برع في الحديث وتفرد بالإتقان وعلو الإسناد. سكن مصر، وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال ... أنظر تذكرة الحفاظ للذهبي2 /698.
[38] فصّل البغدادي القول في استعمالات سمع في خزانة الأدب جـ 9ص 67 ا-173 بتحقيق هارون.(31/100)
[39] أبو علي الفارسي: الحسن بن أحمد عالم مشهور أخذ عن الزجاج وابن السراج، وعنه أخذ ابن جني، له مصنفات كثيرة منها: الإِيضاح والتكملة، والحجة، والبغداديات والتذكرة. توفى سنة 377 هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 496 هـ 497.
[40] محمود بن عمر أبو القاسم جار الله وفخر خوار زم ولد سنة 497 هـ. وجاور بمكة، من مصنفاته: الكشاف في التفسير، المفصل في النحو، الفائق في غريب الحديث، أساس البلاغة. توفى سنة 538 هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 279-. 28.
[41] آل عمران آية 93 1. انظر تفسير الكشاف 1/ 489.
[42] الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي: كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن، مقبلاً على نشر العلم. من مصنفاته: شرح الكشاف، شرح مشكاة المصابيح. توفى سنة 743 هـ. انظر بغية الوعاة1 /522.
[43] عبد الله بن محمد بن السّيد عالم باللغة والنحو والأدب. ومن مصنفاته: شرح أدب الكاتب، شرح الموطأ، شرح ديوان المتنبي، إصلاح الخلل الواقع في الجمل. مات سنة 521 هـ. بغية الوعاة2 /55.
[44] العلامة عثمان بن عمر المقرئ النحوي المالكي الأصولي الفقيه، من مصنفاته النحوية: الكافية وشرحها ونظمها، وفي التصريف الشافية وشرحها، وله الإيضاح في شرح المفصل، والأمالي في النحو. توفى سنة 646 هـ. أنظر بغية الوعاة 2/ 134.
[45] في قوله تعالى {ما فعَلوه إلا قليل منهم} (سورة النساء66) . قرأ السبعة غير ابن عامر بالرفع، وقرأ ابن عامر بالنصب "قليلا" ... أنظر التصريح 1/ 350، تفسير القرطبي 5/ 270.(31/101)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤف اللبدي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
أختي العزيزة: "هل":
هذه هي الرسالة الثالثة عشرة، وسوف أحدثك فيها عن همزة الاستفهام الداخلة على أداة الشرط "إِنْ"في القرآن الكريم، لقد وردت هذه الهمزة في ثلاث آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} . (الآية 144 من سورة آل عمران) .
تتضمن هذه الآية الكريمة أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو إلا رسول كغيره من الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى خلقه دعاة إليه والى طاعته ثم ماتوا وقبضهم الله إليه حين انقضت آجالهم، وبقي أتباعهم من بعدهم يلتزمون بما دعوا إليه، ومحمد مثله مثل أولئك الرسل جاء مبلغا عن الله تعالى داعيا إليه وإلى طاعته، وسوف يموت ويقبضه الله إليه حين ينتهي أجله، وعلى أتباعه أن يلتزموا بما دعا إليه الجهاد في سبيل الله تعالى، والصبر على طاعته، فلا ينبغي لأولئك الذين آمنوا به وبصدق ما دعاهم إليه، لا ينبغي لهم أن يصيبهم الفزع والهلع فينكصوا على أعقابهم فراراً من المعركة حين قيل في معركة أحد إن محمدا قتل.
والله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة من أطاع، ولا تضره معصية من عصى، فالله جلّ وعلا غنيّ عن العالمين، فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وسيجزى الله الشاكرين الذين شكروا الله على نعمته عليهم بالإسلام، فجاهدوا في سبيله، وصبروا على طاعته، وصدقوا الله في الدفاع عن دينه، فثبتوا حَتى انتهت المعركة أو استشهدوا فيها. والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً وإن فُسّر هنا بالمجاهدين الثابتين في معركة أحد.(31/102)
وجاء الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} جاء مفيدا العتب والإنكار: فقد عتب الله سبحانه وتعالى على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبهم الفزع والهلع وأن يفروا من المعركة حين قيل لهم في معركة أحد إن محمدا قتل، عتب عليهم ذلك وأنكره، فما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ما فعلوا، كان يجب عليهم أن يثبتوا في المعركة وأن يدافعوا عن هذا الدّين الذي آمنوا به وبرسوله، سواء أكان حيا أم ميتا، فشريعة الله لا تموت بموت الرسول الذي بلّغها عن ربه، ودعا الناس إليها، فهي باقية إلى يوم القيامة يدافع عنها أتباعها الذين يؤمنون بها صادقن، ويجاهدون في سبيلها حتى النصر أو الشهادة.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} سهل واضح: فالفاء عاطفة، عطفت الجملة الشرطية التي بعدها على الجملة الخبرية التي قبل الهمزة و"مات"فعل الشرط فهو في محل جزم بـ "إن"و"انقلب"جواب الشرط فهو في محل جزم أيضا، والجار والمجرور "على أعقابكم"في محل نصب حال من فاعل انقلبتم، والتقدير انقلبتم راجعين.
وهذا الذي تقدم من أن همزة الاستفهام قد دخلت على "إن"الشرطية وقد استوفت شرطها وجزاءها هو مذهب سيبويه.
وذهب يونس إلى أنّ فعل "انقلبتم"ليس جواب الشرط، وإنما هو الفعل المستفهم عنه، فهو مدخول الهمزة فينوى به التقديم، وتقدير الكلام عند يونس: أتنقلبون إن مات أو قتل، وجواب الشرط عنده محذوف دلّ عليه مدخول الهمزة المتأخر لفظا المتقدم تقديرا، وعلى مذهبه تكون "إِنْ"مع شرطها معترضة بذهن الهمزة ومدخولها، وبرأي يونس أخذ كثير من المفسرين في هذه الآية.
ولكن أبا البقاء العكبري ذكر في كتابه "إملاء ما منّ به الرحمن" عند إعرابه هذه الآية أن مذهب سيبويه هو الحق لوجهين:(31/103)
أحدهما: أنك لو قدّمت الجواب لم يكن للفاء وجه، إذْ لا يصح أن تقول أتزورني فإن زرتك، ومنه قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .
والثاني: أن الهمزة لها صدر الكلام، وإن لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب لأنها كالشيء الواحد"اهـ.
وقال الزركشي في كتابه البرهان: "وقد ردّ النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ، ولا يجوز في "فَهُم"أن ينوي به التقديم لأنه يصير التقدير: "أفهم الخالدون فإن مت"، وذلك لا يجوز لئلا يبقى الشرط بلا جواب، إذ لا يتصور أن يكون الجواب يدل عليه ما قبله، لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك، ولهذا يقولون: "أنت ظالم إن فعلت"، ولا يقولون: "أنت ظالم فإن فعلت"فدلّ ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب". اهـ.
وجاء في شرح الرضيّ لكافية ابن الحاجب في النحو ما يؤيّد قول العكبري وقول الزركشي.
وبناء على رأي سيبويه ومن ذهب مذهبه يكون مصبّ الاستفهام ومورده هو جملة الشرط والجواب معاً، وعلى رأي يونس يكون مصبّ الاستفهام ومورده هو جواب الشرط وإن لم يسمه يونس جواباً.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} . الآية (34) من سورة الأنبياء.
تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لم نخلِّد أحدا من بني آدم قبلك يا محمد فنخلّدك أنت، فلابدّ من أن تموت كما مات من كان قبلك، ولن يخلّد الله أحدا في هذه الدنيا، فكل نفس ذائقة الموت، وهؤلاء المشركون الذين يتمنون موتك ليشمتوا به هم ميتون على كل حال، فلا شماتة في الإماتة.(31/104)
وهذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} يفيد النفي والاحتقار: النفي على معنى لن يخلد الله تعالى هؤلاء المشركين في هذه الحياة الدنيا، فكل نفس ذائقة الموت. ويفيد الاحتقار على معنى إذا كنت أنت يا محمد على علوِّ منزلتك وعظيم قدرك عند الله تعالى سوف تموت، أفيخلد الله تعالى هؤلاء المشركين وليس لهم من الفضل ما يزن مثقال ذرة!!
وإعراب هذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} سهل واضح. فالفاء عاطفة عطفت الجملة الشرطية التي بعدها على الجملة الخبرية التي قبلها، و "مت"مؤلفة من "مات"وهو فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ومن التاء ضمير المخاطب المبني على الفتح في محل رفع على الفاعلية، وجملة "فهم الخالدون" المؤلفة من الفاء الواقعة في جواب الشرط ومن المبتدأ أو الخبر في محل جزم جواب الشرط وقد قريء فعل الشرط السابق "مُتّ"بضم الميم وكسرها: فعلى قراءة الضم يكون الفعل على لغة مات يموت مثل صام يصوم وقام يقوم، وأصله: مَوَت يمْوُت "بفتح الواو في الماضي وضمها في المضارع" من باب نصَر ينصُر.
وحين أسند الفعل الماضي "مات"على هذه اللغة إلى ضمير الرفع المتحرك سُكَََّّّّّّّّّّّّّّّّّّن آخره وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وضُمّت الميم للدلالة على أن الألف المحذوفة من هذا الفعل الماضي منقلبة عن واو.
وعلى قراءة كسر الميمِ "مِتّ"يكون الفعل على لغة مات يمات مثل خاف يخاف ونام ينام، والأصل: موِت يموت "بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع"من باب علم يعلم، وحين أسند هذا الفعل الماضي على هذه اللغة إلى ضمير الرفع المتحرك سكّن آخره وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وكسرت الميم للدلالة على أن حركة الحرف الأصلي الذي انقلبت عنه الألف في الماضي كانت كسرة.(31/105)
الآية الثالثة: في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قَالُوا مَا أَنْتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ. قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . (الآيات: 3 ا-19) من سورة يس.
تتضمن هذه الآيات الكريمة حواراً بين رسل أرسلهم الله تبارك وتعالى إلى أهل قرية لم يسّمها كانوا يعبدون غيره، وبين أهل تلك القرية، وفى آخر هذا الحوار قال أهلها لأولئك الرسل: لقد كنتم شؤما علينا ولإن لم تنتهوا عما تدعوننا إليه لنرجمنّكم بالحجارة وليصيبنكم منا عذاب أليم، فقال لهم الرسل شؤمكم معكم وفيكم، فهذا الضلال الذي أنتم فيه هو شؤمكم، أإنْ دعوناكم إلى الهدى ونهيناكم عن الضلال وبيّنا لكم فساد ما أنتم عليه، تشاءمتم بنا وتوعدتم وتهدّدتم؟!! بل أنتم قوم مسرفون في الضلالة ممعنون في الغيّ.
وهذا الاستفهام: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} يفيد الإنكار والتوبيخ: فقد أنكر الرسل على أهل القرية أن يتشاءموا منهم وأن يجعلوا من دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونهيهم عن عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، أن يجعلوا من ذلك طيرة وشؤما، وكان ينبغي بدلا من ذلك أن يفرحوا بقدومهم وأن يستجيبوا إلى ما دعوهم إليه، وأن يشكروا الله تعالى أن هداهم للإيمان.(31/106)
لقد أنكر الرسل على أهل القرية ذلك ووبخوهم عليه، وقالوا لهم في نهاية إنكار والتوبيخ: بل أنتم قوم مسرفون قد تجاوزتم الحدّ في الضلال والظلم والعدوان، ومن هنا جاءكم الشؤم وأنزل الله بكم المصائب.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} سهل واضح: فـ "ذُكّر"من ذُكرتم فعل ماض مبني للمجهول، ولك أن تقول في إعرابه مبنّي على فتح مقدر منع من ظهوره السكون العارض لأجل اتصاله بضمير رفع متحرك، ولك أن تقول مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والفعل على الإعرابين في محل جزم بإن الشرطية و "تم"ضمير في محل رفع نائب فاعل، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه الكلام السابق، وقد قدّره العكبري: كفرتم، فيكون تقدير الكلام عنده: أإن ذكرتم كفرتم. وقدّره أبو السعود في تفسيره: أإن ذكرتم تطيرّتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب.
أختي العزيزة "هل":
بهذا تنتهي رسالتي إليك عن همزة الاستفهام الداخلة على "إِن"الشرطية، وسوف أحدثك في الرسالة القادمة إن شاء الله تعالى عن همزة الاستفهام الداخلة على "إذا" الشرطية، وأسأله تعالى أن يعين ويسدد ويوفق.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته،،،
أختك
همزة الاستفهام
مراجع هذه الرسالة
(أ) المراجع على وجه الإجمال:
1- تفسير أبي جعفر بن جرير الطبري/ الطبعة الثالثة/ الناشر: شركة الحلبي بمصر.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي/ الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
3 - تفسير أبي السعود/ الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
4- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين/ الناشر: الحلبي بمصر.
5- تفسير ابن كثير/ الناشر: الحلبي بمصر.(31/107)
6- تفسير القرطبي/ الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
7- الكشاف للزمخشري/ الناشر: الحلبي بمصر.
8- إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري/ الطبعة الأولى/ الناشر: الحلبي بمصر.
9- شرح الرضي على الكافية في النحو/ طبعة مصورة/ الناشر: دار الكتب العلمية بيروت.
10- البرهان في علوم القرآن للزركشي/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ الطبعة الثانية/ الناشر: عيسى الحلبي وشركاه بمصر.
(ب) المراجع على وجه التفصيل:
1- الآية الأولى: (144) من سورة الأنعام:
الطبري: (جـ 4 ص 110) - البحر المحيط: (جـ 3 ص 68) - أبو السعود: (جـ 2 ص 92) - الفتوحات: (جـ 1ص 319) - ابن كثير: (جـ 1ص 88) - الزمخشري: (جـ 1ص 468) - القرطبي: (جـ 4 ص 226) - العكبري: (جـ 1ص ا 15) - الزركشي: (جـ 2 ص 366) - شرح الكافية: (جـ 2 ص 394) .
2- الآية الثانية: (34) من سورة الأنبياء:
الطبري: (جـ 17 ص 24) - البحر المحيط: (جـ6 ص 310) - أبو السعود: (جـ 6 ص 66) - الفتوحات: (جـ3 ص 127) - ابن كثير: (جـ 3 ص 178) الزمخشري: (جـ 2 ص 572) .
3- الآية الثالثة: (19) من سورة يس:
البحر المحيط: (جـ 7 ص 327) - ابن كثير: (جـ 3 ص 567) - العكبري: (جـ 2 ص 02 2) - أبو السعود: (جـ 7 ص 163) - تفسير الجلالين: (هامش الفتوحات) : (جـ 3 ص 507) .(31/108)
آية العدد
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية (1) من سورة الفاتحة
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. محمد وآله وصحبه ومن آمن به واهتدى بهداه ...
وبعد: فإن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو الآية الأولى من كتاب الله تعالى (القرآن الكريم) هذا على ما رجحناه، وإلا فعند الشافعي رحمه الله أن الآية الأولى هي بسم الله الرحمن الرحيم. وحينئذ فالحمد لله رب العالمين هي الآية الثانية. وعلى كلا المذهبين فآيات الفاتحة سبع لا غير، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . (الحجر:87) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت". (الصحيح) .
وبناءً على أن البسملة آية من الفاتحة فالآية السابعة هي: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . وإلا فالآية السابعة هي: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .
وفائدة هذا الخلاف أن مَن رأى البسملة آية من الفاتحة وجب عليه أن يقرأها كلما قرأ الفاتحة في الصلاة، وإلا بطلت صلاته. ومَن لم يَر أنها آية قرأها أولم يقرأها فصلاته صحيحة إلا أن قراءتها سراً في الصلاة الجهرية أحوط وأكثر أجرا.(31/109)
ومنشأ هذا الخلاف: أن الفاتحة نزلت مرتين مرةً بالبسملة ومرة بدونها والمقصود من البسملة هو التبرك بذكر اسم الله تعالى والاستعانة به على التلاوة والصلاة فلذا قراءتها أرجح من عدمها، وإنما نظراًَ لحديث أنس في الموطأ والصحيحين: "أنه صلى وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين"، فإن الاختيار أن تقرأ البسملة سراً، ثم يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية.
بعد هذه المقدمة نشرح الآية الكريمة فنقول:
شرح الكلمات في الآية:
الحمد: "ال"فيها لاستغراق الجنس أي أن عامة ألفاظ الحمد وسائر كلمات الثناء والمحا مد التي عرفها الناس، وما لم يعرفوا منها هي لله تعالى، والله مستحق لها جميعها. وفي الحديث: "اللهم لك الحمد كما أنت أهله".
والحمد: هو الوصف بالجميلِ الاختياري والمدح مثله إلا أنه يُفارقه فيكون بالجميل غير الاختياري كأن نحمد زيداً فنقول: زيد ذو خلق فاضلٍِ، ونَمدَحُه فنقول: زيدٌ جميل الوجه معتدل القامة. فكان قولنا: زيد ذو خلق فاضِل حمداًَ، لأنه على الجميل الاختياري، وكان قولنا: زيد جميل الوجه معتدل القامة مدحاًَ، لأن جمال وجهه واعتدال قامته حصل له بالاضطرار لا بالاختيار، أي لم يكن هو الذي جمل وجهه وعدل قامته بل الفاعل لذلك هو الله تعالى بخلاف حسن خلقه فإنه حصل له بكسبه واختياره. وصفات الجمال في الله تعالى كلها اختيارية. لذا يَحسن أن نقول حمدنا الله تعالى ونحمدُه، ولا نقول مدحنا الله تعالى ونمدَحُه، كما يحسن أن نقول: مدحنا زيداً نمدحه، ولا نقول: حمدنا زيداً نحمده لما علمنا من أن الحمد هو الوصف بالجميل الاختياري، والمدح هو الوصف بالجميل الاختياري أو الاضطراري.(31/110)
والشكر كالحمد، وفى الحديث الشكر رأس الحمد. إلا أن الشكر هو المدح بالفواضل وهي النعم المتعدية. والحمد هو المدح بالفضائل. وقد يجمع بينها فيقال زيد جميلٌُ كريم تصدق بألف. ولذا فالحمد يكون باللسان فقط والشكر يكون باللسان والقلب والجوارح كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
والشكر بالقلب معناه اعتراف القلب بنعمة المنعم فيحمده عليها بلسانه ويثنى بها عليه بتكراره.
لله: اللام في لله هي لام الاستحقاق والملك كقولنا الجائزة أو الدار لعمرو أي أن الجائزة مستحقة لعمرو والدار ملك له. وجميع المحا مد مستحقة لله تعالى ملك له، فليس لغيره من سائر خلقه حق فيها ولا استحقاق ولا ملك. وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله.
الله: اسم الربّ تبارك وتعالى وهو علم على ذاته عز وجل، ولله تعالى مائة اسم إلا اسماً واحداً للحديث الصحيح. وأعظم تلك الأسماء الحسنى هو اسم {الله} وإذا نودي به تعالى قد يحذف حرف النداء (يا) وُيعوض عنه ميم مشدَّدة تلحق آخره فيقال: اللهمّ. وقد ينادى بدون إلحاق حرف الميم في آخره، فتقطع همزة الوصل فيه فيقال: يا ألله. وهو واسم الرحمان لا يسمى بهما غير الرب تبارك وتعالى. وأما لفظ الربّ فقد يطلق على غير الله تعالى مضافاً نحو: قولنا رب الدار، ورب السلعة بمعنى مالكها، ويقال: فلان ربّ، أو الرب بلا إضافة. ومن خصائص اسم الجلالة {الله} أنه يوصف ولا يوصف به فيقال: الله الرحمن الرحيم، أو العزيز الحكيم. ولا يقال الرحمن الله، أو العزيز الله، ولذا رجح بعض أهل العلم أن يكون الاسم الأعظم لله تعالى هو {اللَّهُ} أو مع الحيّ القيوم. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} . وذلك للخبر ...(31/111)
ومعنى (الله) : المعبود بحق، إذ الأصل في تركيبه: إله فحذفت الهمزة منه وعرّف بال فصار (الله) وجُعل عَلماً على ذات الرب الواجب الوجود سبحانه وتعالى. وعلى القول بأنه مشتق غير مرتجل فإنه مأخوذ مِن أَلهه يألهه إلهة وألوهية: إذا عَبَدَه محِباً لهُ غايَة الحب مُعظما له غاية التعظيم خاشيا إياه غاية الخشية.
ومادة أَله جاءت في لغة العرب لمعان كثيرة منها أَلِهَ إذا عبد، وأله إذا تحيرّ، وإله إذا فزع، وإله إذا سكن. وكل هذه المعاني صالحة لاسم الله إذ هو تعالى المعبود بحق. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أي معبود فيهما معا. والله تعالى تتحيَّر العقول في معرفة كنه ذاته وتضطرب وتقر بالعجز إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وتفزع إليه الخلائق إذا نزل بها أمر تدعوه وتتضرع إليه ليكشف عنها ما نزل بها، وتسكن إليه القلوب المؤمنة وتطمئن بذكره قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فلذا كان أفضل الذكر لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
رَّّّب: الربّ اسم من أسماء الله تعالى، لا يصح إطلاقه على غير الله تعالى إلا مضافاً كما تقدم بيانه. ولفظٌ يطلق ويراد به معان كثيرة فيكون بمعنى الخالق، الرازق، المدبر، المصلح، المربي، المعبود، ويكون بمعنى السيد والمالك. وكل هذه المعاني مستحقة لله تعالى فلا تطلق على الحقيقة إلا عليه عز وجل وتطلق دون الخالق والمعبود على غير الله تعالى إطلاقا إضافياً غير حقيقي، فيقال فلان مصلح أو مربٍ أو سيد أو مالك. نحو فلان مصلح السيارات، ومربى الأولاد، وسيد البلد، ومالك الدار، وما إلى ذلك. ومن شواهد اللغة على إطلاق لفظ الربّ على المعبود قول الأعرابي، وقد وجد ثعلبا شاغرً رجله يبول على صنم كان يعبده:
أربٌ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب(31/112)
وتركه كافراً به فلم يرجع إليه أبداً ...
وللاستغاثة باسم الرب تعالى أثرٌ طيب إذا كانت بلسان صادق وقلب سليم من الشرك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال العبد يا رب يا رب ثلاثا، قال الله تعالى عبدي سل تعط". رواه ابن أبي الدنيا في الدعاء عن عائشة رضي الله عنها.
العالمين: العالمين جمع واحِدُهُ عالَم، والعالم كل ما سوى الله تعالى، وسمى كل شيء من المخلوقات عالماً كعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الإنسان، وعالم الدواب وعالم الطير وعالم النبات، وعالم السماوات، لأنه علامة على خالقه ومدبره ومصلحه وحافظه عز وجل.
ومن هنا كان ربّ العالمين معناه: خالق الخلائق ومالكهم، ومدبر وجودهم وحياتهم، ومعبودهم الحق الذي لا معبود لهم على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى.
كان ذلك شرح مفردات الآية الكريمة تفصيلاًَ. وأما تفسير الآية إجمالا فإنه:
"يخبر تعالى عباده بأن له الحمد كله، استحقه بخلقه العوالم كلها، وبملكها كلها، وتدبيرها كلها، والقائم على إصلاحها وتربيتها كلها فلا ربّ لها غيره، ولا معبود حق لها سواه. وضمن هذا الإخبار الأمرُ بحمده تعالى والثناء عليه بلفظ الحمد لله. وأنه تعالى يحب أن يحمد على آلائه، َ كأنما قال: قولوا الحمد لله ربّ العالمين" ...
هذا معنى الآية وأما ما فيها من هداية وأحكام فإلى القارئ الكريم ذلك إزاء الأرقام التالية:
(1) فضل "الحمدُ لله " حيث قالها الله تعالى لنفسه وأمر بها عباده أن يقولوها له، وفى الحديث [1] الصحيح الحمد رأس الشكر، وأن الله تعالى يحب من العبد إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمده عليها. وما من عبد أنعم الله عليه بنعمة فقال فيها: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ. وما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى، ولذا حمد نفسه بنفسه فقال الحمد لله.(31/113)
(2) أن الحمد لا يكون إلا لمن له فضائل أوفواضل اقتضت حمده فلا يحلّ حمد أو مدح من لا فواضل له ولا فضائل، إذ مدح البخيل بالكرم زور، ومدح السخيف بالكمال كذب. ومدح الجبان بالشجاعة باطل، ومدح الظالم بالعدل حرام. ودليل هذه الحقيقة أننا بالاستقراء والتتبع ما وجدنا الله تعالى حمد نفسه إلا وذكر موجب الحمد ومقتضاه مثل الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ...
(3) وجوب قول الحمد لله في الصلاة ومشروعيته بالندب عند حصول كل نعمة وتجددها، ومن ذلك عند لبس الثوْب والفراغ من الأكل أو الشرب، وعند دخول المسجد والخروج منه "بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله"وعند افتتاح الخطبة، وختم الدعاء. "سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"وعند ركوب الدابة أو السيارة والطائرة والسفينة للآية {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه} . ولازم ذكر النعمة شكرها والحمد لله رأس الشكر. اللهم اجعلنا من الحامدين لك الشاكرين لإنعامك وإفضالك بطاعتك وطاعة رسولك صلى الله عليه وسلم ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أورد هذه الأحاديث ابن كثير في تفسير سورة الفاتحة فليراجعها من شاء.(31/114)
أوَّلُ واجبٍ على المكلفِ.. عِبَادةُ الله تَعاَلى
وُضوح ذَلكَ من كِتابِ الله وَدَعواتِ الرُسُل
2
للشيخ عبد الله الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
القسم الثاني: توحيد التوجه والقصد بالنفس واللسان والقلب رغبة ورهبة بالعبادة لله وحده والخلوص من الشرك جليله ودقيقه، فإذا نوى المرء بما يأتي وما يترك التقرب إلى الله تعالى وطلب ما لديه صار موحدا له وبصرفه شيئاًَ من ذلك لغير الله يكون مشركاً علم أنه شرك أولم يعلم إذ أساس العبادة سواء كانت لله أو لغيره هو توجه القلب بالذل والخضوع التام المستولى على الخاضع من القوى الغيبية والأمور الخفية التي يرهبها ممن يذل له أو يطمع فيها على غير الأسباب التي يجري عليها نظام الكون على الدوام سواء كانت تلك القوى الخفية وهمية أو حقيقية، هذا هو باعث العبادة في الغالب، والذي يحمل العابد عليها بالتوجه إلى معبوده بالدعاء وما يتبعه من الأعمال والأقوال، فرع عن وجودها ودليل على عبودية من صدرت منه، لأن التوجّه إليه شاهد على اتخاذه إلها، والأعمال هي شواهد لله ولعباده على الخلق، ودليل على صدق ما ادعى أو كذبه مع أن الله لا يخفى عليه خافية.
وما كان من هذا الذل والخضوع خال عن المحبة والتعظيم، وبدافع الأمور الظاهرة التي تجري عليها السنن الكونية والأسباب التي ربطها الله بمسبباتها ونتائجها مما يدخل تحت مقدور من يخافه العباد، أومن يرجونه من الخلق فهو من تتمة العبادة غير أن ما كان جارٍ منها على الطبائع لا يقدح في إخلاص من داخله شيء منه، لأن الأنبياء فمن دونهم كانوا يخافون من عدوهم، ومن يقدر على أذاهم، ويرجون من يملك أن ينفعهم ويعاونهم من أتباعهم وغيرهم، مع اعتمادهم على الله في حصول مطلوبهم وهذه من الأسباب التي جعلها الله مقتضية وجود مسبباتها.(31/115)
ولم يسجل التاريخ نبأ كائن ينكر وجود إله عليٍّ قدير، حتى العقائد الوثنية التي كانت ومازالت تؤمن بآلهة متعددة، حتى هذه تدين بالتقديس لإله واحد من آلهتها وتؤمن بأنه فوق الكل عزة وعظمة وقدرة، وهو مالك الملك رب السماوات والأرض وأنه رب الأرباب، ومالك كل شيء، إلا أنهم أشركوا بعض عباده معه في الدعاء والتوجه إليهم بصفتهم مقربين إليه ملكهم ما يطلب منهم، بزعمهم ولكن الذي وقف في وجه دعوة الرسل أمم كانت تعبد مع الله آلهة أخرى.(31/116)
ولهذا لم تكن رسالة الرسل في دعوة الناس إلى الإيمان بوجود الله أو ربو بيته، إذ كان هذا مستقراً في القلوب وإنما كانت دعوة الرسل إلى توحيد الله في إلهيته بأن يعبد وحده لا شريك له والتخلي عما اتخذوه معبوداً من دون الله تعالى، وأولياء يلجأون إليهم وشفعاء يعبدونهم بالحب والدعاء والخوف والرهبة والرجاء قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . والطاغوت كل من أضلك عن سبيل الله، أو صرفك عن طريق الحق، أو احتكمت إليه في دينك بحكم يحكم فيه بالهوى أو عبدته من دون الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . لم يقل لا رب سواي لأن الناس جميعاًَ يوحدون الله في ربو بيته ولم يقل إني إله لأنهم جميعاًَ يؤمنون بذلك ولكنه قال: {لا إِلَهَ إِلا أَنَا} وأمر بعد ذلك بعبادته ليوحده الناس في الألوهية ويعبدوه وحده وهذه رسالة الرسل وهى توحيد الله في إلهيته بأن يعبدوه وحده لا شريك له، وفى يوم النداء من الطور، في تجلي النور، كان أول ما أمر به موسى أن يسمعه ويطيعه، ويبلغه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (سورة طه:14) . وملاك ذلك أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبده إلا بما شرع، فمن ابتغى بعمل غير وجه الله، فهو مشرك، ومن عَبَدَ الله وحده، بما لم يأذن به الله ولم يشرعه فهو مبتدع ضال، ولا يكون الدين لله خالصا إلا إذا كان كل ما نعمله ونقوله هو لله خالصا وسواء كان من شئون الدين أومن شئون الحياة مادمنا نرجو الثواب من الله تعالى عليه، قال صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: "من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" [1] فذكر العمل مطلقاًَ غير مقيد بكونه عمل ديني أو دنيوي، ليكون وجود العبد كله في الحياة(31/117)
والاتجاه وغيره لله وحده، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله؟. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" [2] فمجرد تزين الصلاة لأجل ملاحظة عيون الناس بالإعجاب شرك بالله، فتوحيد الله لا يتحقق إلا أن يكون ظاهر الإنسان وباطنه سره وعلانيته عمله وقوله دينه ودنياه كله لله وحده، فيجب أن يكون هوى قلبك وباعث عملك وغاية جهادك في الحياة لله وحده، وقد يكفر الإنسان بمعبود في لسانه وقلبه مستكين له ومملوك عليه، وتشهد عليه أعماله بأنه عبد الدينار وعبد الدرهم، أو عبد الشيطان، ألم تر إلى قول إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} وما كان آزر يسمى معبوده شيطاناً ولا يؤمن بأنه شيطان، ولكن الذي يصده عن عبادة الله هو الشيطان، أو ولي الشيطان، فهو عونه وأخوه قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (يس: 60) .(31/118)
وأنواع العبادة كثيرة متعددة: "وهي اسم لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " [3] وتكون في القلب كالإخلاص في الأعمال، واليقين بالأمور الغيبية، والخوف والرجاء، والتوبة، والندم على ما صدر من سيئ الأعمال، ومنها ما يدفعه قلب العبد على اللسان من الدعاء، والنداء والاستغاثة ممن يرجو ويتوكل عليه لقضاء حاجة، أو تفريج كربة، ومنها ما يكون باللسان والقلب والجوارح، كالمحبة، فمن أشرك في الحب الذي لا يصلح إلا لله، مع الله غيره، فقد جانب التوحيد، وأتى بما يضاده، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} ، (سورة البقرة: 165) . ومنها الصلاة والركوع والسجود والذبح قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . (سورة الكوثر: 2) . وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ، (سورة الحج: 77) ، ومنها الطواف، فلا يطاف إلا في بيت الله، ولله وحده، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، (سورة الحج:29) ، وأنواعها كثيرة يصعب حصرها جدا.
وضد التوحيد الشرك وهو أقسام ثلاثة شرك أكبر بأن يجعل شيئاً من العبادة لله وغيره وهذا فاعله إذا مات ولم يتب منه يخلد في النار، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . (سورة النساء: 48)
والثاني شرك أصغر مثل يسير الرياء وقوله لرجل ما شاء الله وشئت والحلف بغير الله وما شابه ذلك، ولو كان المحلوف به خاتم النبيين، وأشرفهم صلى الله عليه وسلم.(31/119)
الثالث الشرك الخفي وهذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، حسب الباعث عليه والاسترسال معه، ومن أنواع الشرك أن يتوجه الإنسان بالدعاء إلى الله تارة وإلى غيره أخرى سواء قصد ذلك على سبيل الوساطة، أو طلب منه أي من غير الله- غرضه، بالنداء والاستغاثة واللجاء إليه والتمسكن له، فمن فعل ذلك فقد جعل لله عديلا، ومساويا، سواء سمى ذلك توسلا أو شفاعة، وسواء كان المتوسل به نبيا، أو وليا، أو عدوا طريدا، فكل ذلك شرك ينافى التوحيد، ومن الأعمال القبيحة سؤال الله بجاه مخلوق، أو بحقه وعمله لأن من سأل الله بذلك فقد اعتقد أنه يؤثر على الله، كالشفاعة على الرؤساء، ولهذا لا يتوسلون ويسألون الله إلا بجاه من يعتقدون له الجاه العريض، والمكانة الحاملة لله على أن يعطيهم حاجتهم بزعمهم والجاه والمنزلة أصبحت في عرف الناس ولغتهم هي النفوذ والقوة المؤثرة، على من يتوجه إليه لتحصيل خيره، أو دفع شره، فعلى هذا ما يسميه توسلا وزوراً معيدوا الوثنية، من منتحلي الإسلام، وهو على لغة القرآن والعرب، العبادة بعينها، فإذاًَ التوسل الذي يعنونه هو الشرك
الأعظم وهو يشمل عندهم.
أولاً: الطواف عند قبور من يقدسونهم، وتقبيلها وأخذ ترابها للاستشفاء به والتبرك بها، وذبح الذبائح لهم، لأنهم يرجون بذلك أن يعطوهم، أضعاف ما قدموا لهم.
الثاني: ما ينفقونه في هذا السبيل، من الحرث والأنعام، طمعا أن يبارك لهم بدعواتهم، وأسرارهم ونفحاتهم الإلهية في أموالهم وأنفسهم وذرياتهم.
الثالث: عمارتهم قبورهم، بالبناء العالي، والقباب المزخرفة، والستائر الفاخرة، والإِضاءة عليها وبذل المال في هذا السبيل، وتحمل مشقات السفر إليها.
الرابع: الحلف بهم، والخوف منهم، والتخويف بهم، وتحذير بعضهم بعضا من عقابهم، لاعتقادهم أنهم يقدرون على ذلك، كما يعتقدون فيهم النفع لمن يحبهم، ويفي لهم بالنذور، ويزور أوثانهم.(31/120)
الخامس: توجههم إليهم بالدعاء والنداء والاستغاثة والاستعانة بهم إذا نزل بهم ضر، أو مسهم كرب.
السادس: سؤالهم الله بحقهم، وتوسلهم إليه بجاههم ومنزلتهم، وما لهم عنده من الدرجات.
السابع: تعبدهم وصلاتهم عند قبورهم، وتفضيل البقاع التي يوجدون فيها، اعتقادا منهم أن الدعاء عندهم مقبول، ومستجاب لما لهم من القداسة. وهذا كله شرك بالله وخروج عن دينه الذي جاءت به رسل الله كلهم.
الثامن: السفر إلى مشاهدهم، قصدا للعبادة عندهم، لاعتقادهم أنها في تلك الأماكن أفضل منها في المساجد، وهذا كله مناقضة لشرع الله، الذي جاء به خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وإعادة لدين الوثنية، ومن المؤسف أن تصدر مثل هذه الأفعال من خريجي الجامعات، والمتصدرين للفتوى والتوجيه.
ومما يتعلق به المشركون قديما وحديثا الشفاعة:(31/121)
الشفاعة: لقد كانت الشفاعة في قديم الزمان وحديثه طريقا إلى الشرك، ثم أصبحت تطلق على الشرك بعينه كما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهى ضم طلب الشافع إلى طلب المشفوع له، وما عبد المشركون في كل عصر صالحيهم إلا بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله، وعملهم لهذه الغاية صادر بلا ريب عن اعتقادهم في أوليائهم أنهم يملكون الشفاعة، ولو كان عندهم عقل لأخلصوا العبادة لله وحده، لأن الشفاعة وغيرها ملكه لا يشاركه في ذلك أحد، وهو الرحمن الرحيم الغفور الودود، وهؤلاء يدعون العبيد الأموات، أن يمنحوهم ما يملكه الله وحده، ولا يسألون مالك الملك بدل إذلالهم أنفسهم لأصنامهم وطواغيتهم، وإذا كانوا لا يؤمنون بالقرآن، أيجوز في عقل الإنسان أن يطلب الشيء ممن لا يملكه، إنّ عقل المشركين هو الذي أباح للعبيد أن يسألوا الصخرة الصماء رحيق الجنة والميت إمداد البركات، في الحياة، والعاجز الضعيف الفقير أن يهب لهم القدرة، والقوة والغنى، وزين الشيطان لهم، أن رحمة القبور، أقرب إليهم من رحمة الخلاق الرحيم، فاستجاروا بمن لا يجير نفسه، من دود الأرض، واسترحموا من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.(31/122)
إن الشفاعة ملك خاص لله وحده، فمن الشرك القول: "نسألك الشفاعة يا رسول الله "لأن السائل ذلك يسأله ما يملكه الله وحده، فيحبب أن يقول: اللهم اجعلنا ممن يستحق شفاعة نبيك. بيد أن الشيطان زين لعباده أنه لا فرق بين الأمرين، وأن التفريق بينهما تزمت وتنطع، في الدين قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . نفى الله عمن سواه كل ما يتعلق به المشركون، نفى أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك، أو يكون عوناًَ لله، فلم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} فالشفاعة التي يظنها المشركون، منفية {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة أولا، بل يسجد لله ويحمده ثم يأذن له في الشفاعة بقول الله له اشفع. وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" [4] فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص وهي محرمة على المشرك، وحقيقتها تفضل الله سبحانه على أهل الإخلاص بمغفرته بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، والتي أثبتها هي ما كانت بإذنه، ولمن رضي عنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مسلم في صحيحه انظر مسلم بشرح النووي ج18ص115، وابن ماجه في سننه ج2ص1405(31/123)
[2] أحمد. انظر المسند ج3ص30 وسنده صحيح
[3] قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنظر الرسالة المعروفة بالعبودية فاتحتها
[4] فتح الباري ج اص193 وج ا 1ص418(31/124)
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة ... والعقل
(1)
الدكتور ربيع بن هادي مدخلي
رئيس قسم السنة بالدراسات العليا بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره الكافرون.
وبعد: فإن الدافع لاختيار هذا الموضوع عدة أمور من أهمها:
أولاً: أن الأمة الإسلامية اختلفت في مناحٍ شتى عقدية وغيرها وتفرقت بها السبل، فنزل بها من الويلات- نتيجة لهذا التفرق ولعدم الاحتكام في قضايا الخلاف إلى كتاب الله وسنة نبيهم- مالا يعلم مداه وفداحته إلا الله من تمزق صفوفهم وتأجج نيران الخلاف والخصومات فيما بينهم، ثم تغلب أعداء الإسلام على أوطانهم واستباحتهم لبيضتهم واستعبادهم واستذلاهم.
ثانيا: حدوث تيارات فكرية برزت في الساحة الإسلامية بطرق ومناهج، لإصلاح حال الأمة وإنقاذها:
منها السياسي.
ومنها الفكري.
ومنها الروحي.
وكل واحد من هذه التيارات يدعى ممثلوه أنه المنهج الإسلامي الحق الذي يجب اتباعه والذي لا ينقذ الأمة سواه.
هذان السببان مع أسباب أخر دفعتني إلى القيام بواجب من أعظم الواجبات وأهمها ألا وهو بيان منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله في ضوء الكتاب والسنة وبيان مزاياه التي لا يُشارك فيها وبيان ضرورة اتّباعه وحده لأنه الطريق الأوحد الذي يوصل إلى الله ويكسب رضاه وهو السبيل الأوحد لإنقاذ الأمة والموصل إلى السيادة في الدنيا والسعادة في الأخرى.
نص المحاضرة مع إضافات واسعة ومهمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:(31/125)
فإن الله تعالى الخالق البارئ المصور العليم الحكيم قد خلق هذا الكون العظيم ودبره ونظمه بعلمه المحيط وحكمته العالية وقدرته الشاملة، لحكم جليلة وغايات نبيلة بعيدة كل البعد عن العبث والباطل واللعب.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . (الدخان: الآيتان 38، 39) .
وقال تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (الأحقاف: 1- 3) .
وخلق الجن والإنس وبين الحكمة العظيمة والغاية الكريمة التي خلقهم من أجلها. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . (الذاريات: 56_ 8 هـ) .
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ, فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} . (المؤمنون: 115- 116) .
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة: 36) . أي لا يؤمر ولا ينهى.
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير, الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . (الملك: 1-2) . فأخبر تعالى أنه ما خلقهم إلا للابتلاء، والاختبار ليتبين أيهم أحسن عملاً بانقياده لمنهج الله واتباعه لرسل الله.(31/126)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ً الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (البقرة: 21-22) . فأمرهم أن يقوموا بالغاية التي خلقهم من أجلها، وبين لهم أنه قد وفر وهيأ لهم كل الأسباب التي تساعدهم على القيام بمهمتهم
العظيمة، وحذرهم من الانحراف عن هذه الغاية، والتنكر لهذه النعم الجليلة، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} . (الإسراء: 70) ، وما أكرم الله الإنسان هذا الإكرام وأحله هذه المنزلة الرفيعة إلا لعظم الغاية التي خلق من أجلها، ألا وهى عبادة الله وحده وتعظيمه وتنزيهه، عن كل النقائص وعن اتخاذ الشركاء والأنداد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وكثيراً ما نوّه الله بكرامة الإنسان ومنزلته في هذا الكون، وأن هذا الكون، قد سخر لراحته وسعادته، حتى يؤدى وظيفَته ويقوم بغايته التي خلق من أجلها على أتم الوجوه وأكملها.(31/127)
قال تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ، الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ, وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . (إبراهيم: 31- 34) .
إكرام الإنسان بالعقل والفطرة [1]
وإلى جانب هذه النعم العظيمة والإكرام الفائق لهذا الإنسان فقد منحه نعمة العقل الذي يرفعه إلى مستوى التكاليف الإلهية ويؤهله لإدراكها وفهمها، وزوده بالفطرة التي توائم ما يأتي به رسل الله عليهم الصلاة والسلام من الوحي الكريم ومن الدين الحق الذي يشرعه الله وينهجه لهذا الإنسان على ألسنة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . (الروم: 30) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . الآية [2](31/128)
وعن عياض بن حمار، المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته: "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته [3] عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء [4] كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم [5] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم، أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... " [6] الحد يث.
إكرام البشر بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم
ثم لم يكِلهم الله إلى ما آتاهم من فطرة وعقل، بل أرسل إليها الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب لتبيّن لهم الحق من الباطل ولتكون مرجعا لهم، فيما يختلفون فيه، حتى لا يبقى للناس أي عذر، ولتقوم عليهم الحجة، فلا يبقى لهم حجة على الله بعد الرسل.
وكلّف جميع الأمم بطاعة هؤلاء المصطفين الأخيار واتباعهم والانقياد لهم وأنزل أشد العقاب بمن كذبهم وعاندهم في الدنيا، وسوف ينزل بهم العذاب الأنكى والأشد، العذاب السرمدي الخالد في دار الجزاء العادل.
ما هي رسالة هذه الصفوة المختارة من البشر صلوات الله وسلامه عليهم وما الذي قدموه لأممهم؟
إن رسالتهم تشمل كل خير وتبعد من كل شر، فقدموا للإنسانية كل ما يسعدها في الدنيا والآخرة، فما من خير إلا دلوا الناس عليه، ولا شر إلا حذروا الناس منه.(31/129)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنا في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل [7] ، ومنا من هو في جشَره [8] إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة [9] فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا وكان حقا عليه أن يدل أمته على خيرِ ما يعلمه وينذرهم شرما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء، وأمور ينكرونها. وتجئ فتن فيرقق [10] بعضها بعضا، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف. وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله، واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
هذه رسالة كل الأنبياء تدل على كل خير وتحذر من كل شر، لكن من أين تنطلق وبماذا تبدأ وعلى أي شيء تركز؟
إن هناك دعائم وقواعد وأصولا تركز عليها دعواتهم وتكون أول منطلقاتهم في دعوة الناس إلى الله.
تلك الأسس والقواعد هي: (1) التوحيد، (2) النبوات، (3) المعاد [11]
هذه الأسس الثلاثة هي ملتقى دعواتهم وأصولها وقد أهتم بها القرآن غاية الاهتمام وبينها غاية البيان وهي أهم مقاصده التي يدور عليها ويكررها، ويورد الأدلة العقلية والحسية عليها في جميع سوره وفي غالب قصصه وأمثاله، يعرف ذلك من له كمال فهم وحسن تدبر وجودة تصور. وقد عنيت بها كتب الله بأجمعها واتفقت عليها الشرائع السماوية بأسرها.
وأهم هذه الأسس الثلاثة وأجلها وأصل أصولها هو توحيد الله تبارك وتعالى الذي تضمنته غالب سور القرآن، بأنواعه الثلاثة المشهورة بل تضمنته كل سورة من سور القرآن، فإن القرآن:(31/130)
(1) إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد الخبري.
(2) وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
(3) وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد، ومكملاته.
(4) وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء التوحيد.
(5) وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم نما الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم [12] .
توحيد الألوهية وأهميته
وسوف أتناول توحيد الألوهية وأهميته لسببين:
أولا: أنه الجانب الأهم من دعوات الرسل الذي عرضه علينا القرآن ولأنه موضوع الصراع الدائر بينهم وبين خصومهم من المستكبرين والمعاندين من كل الأمم، ولا يزالا موضوع الصراع إلى اليوم، ولعله يستمر إلى يوم القيامة ابتلاء واختباراً لورثة الرسل ورفعاً لمنزلتهم.
ثانيا: أن أخطر وأشد وأصعب انحراف مني به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الجانب في أكثر جهال المسلمين وفى كثير من مثقفيهم والمنتسبين إلى العلم منهم.
فلنبدأ بعرض دعوات الأنبياء بصفة عامة ثم نعرض دعوات بعضهم بصفة خاصة.(31/131)
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . (النحل:36) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء: 25) ، وقال تعالى بعد أن ذكر قصص عدد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء:92) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:51_52) .
قال الحافظ ابن كثير: قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقول: دينكم واحد [13] .
وفى معنى الآيتين من السنة، قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات [14] أمهاتهم شتى ودينهم واحد" [15] .(31/132)
وقال تعالى عنِ أولى العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى:13) . تلك دعوة الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم أولوا العزم منهم الأنبياء الذين يبلغ تعدادهم أربعة وعشرين ألفا ومائة ألف [16] يسيرون في دعوتهم في منهج واحد، وينطلقون من منطلق واحد، هو التوحيد، أعظم القضايا والمبادئ التي حملوها إلى الإنسانية جميعا في جميع أجيالهم ومختلف بيئاتهم وبلدانهم وأزمانهم.
مما يدل على أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس إلى الله، وسنة من سننه التي رسمها لأنبيائه واتباعهم الصادقين، لا يجوز تبديلها ولا العدول عنها.
نماذج لدعوات بعض الرسل
ثم إن الله تعالى أخبر عن بعض أفراد الأنبياء العظام كيف واجهوا أقوامهم وإذا بهم يسيرون في الخط العام الذي رسمه الله لهم وإذا بهم في المنهج الذي قرره الله لجميعهم لا تند عنه دعوة أحد منهم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} . (هود: 25-27)(31/133)
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ , أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ, قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ, فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} . (الأعراف: 65-72) .
وهكذا دعوات كل الأنبياء، كلهم ساروا في هذا المنهج في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده أولاً وواجههم أقوامهم- إلا من هدى الله- بالسخرية والتكذيب والاستهزاء، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . (الزخرف: 6-7) .(31/134)
وما أشد التكذيب والاستهزاء والسخرية على النفوس المؤمنة الأبية، إنها أشد عليهم من وقع السيوف ومن السجون والتعذيب ولقد عبر عن هذا المعنى الشاعر العربي بقوله:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
ولقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة، قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره، بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربى إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [17] ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم، من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" [18] .
وقد ذكرت كتب السيرة بعض أجوبة هؤلاء الساخرة ومواقفهم المزرية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم- عمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة، عبد يا ليل ومسعود، وحبيب ... فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرة الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة، إن كاَن الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لإن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولإن كنت تكذب على الله، ما كان ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يئس من خير ثقيف [19] .(31/135)
والشاهد من الحديث، والقصة أن ما يلقاه الأنبياء من السخرية والاستهزاء ومن أذى المشركين السفهاء أشد على أنفسهم من كل بلاء حتى من المعارك الطاحنة التي تزهق فيها الأرواح وتراق فيها دماء أصحابهم الزكية. فلقد قتل يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين شهيداً [20] ، فيهم مصعب بن عمير [21] وحمزة بن عبد المطلب [22] عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشُجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسرت رباعيته [23] ، ولقي ما لقي هو وأصحابه من أذى المنافقين، ولقي ما لقي قبل ذلك وهو بمكة وفي يوم بدر وغيرها من المشاهد، ومع كل ذلك يرى أن أشد ما لقيه هو يوم الطائف، لأنه لقي من السخرية والاحتقار مالا تحتمله النفوس الأبية.
ومن هنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل " [24] فالأمثل ثم الأمثل هم الصالحون السائرون في منهاجهم في الدعوة إلى الله والداعون إلى ما دعوا إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، ونبذ الشرك بما سواه، وينالهم من الأذى والبلاء مثل ما أصاب أسوتهم الأنبياء.
ومن أجل هذا ترى كثيراً من الدعاة يحيدون عن هذا المنهج الصعب، والطريق الوعر، لأن الداعي الذي يسلكه سيواجه أمه وأباه وأخاه وأحبابه وأصدقاءه وسيواجه المجتمع وعداوته وسخرياته وأذاه، يحيدون إلى جوانب من الإسلام لها مكانتها ولا يتنكر لها من يؤمن بالله لكن هذه الجوانب ليس فيها تلك الصعوبة والشدة والسخرية والأذى خصوصا في المجتمعات الإسلامية فإن سواد الأمة الإسلامية يلتفّون حول هذا اللون من الدعاة ويحيطونهم بهالَة من التبجيل والتكريم لاَ سخرية ولا أذى اللهم إلا إذا تعرضوا للحكام وهددوا كراسيهم فإنهم حينئذ يقمعونهم بكل شدة كأحزاب سياسية تناوئ الحكام وتهدد عروشهم، والحكام في هذا الباب لا يحابون قريبا ولا حميما ولا مسلما ولا كافراً.(31/136)
وعلى كل حال نقول لهؤلاء الدعاة مهما شنشنوا وطنطنوا ومهما رفعوا أصواتهم باسم الإسلام أربعوا على أنفسكم فإنكم خرجتم عن منهج الله وصراطه المستقيم اللاحب الذي مرت به مواكب الأنبياء واتباعهم في الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له ومهما تفلسفتم ورفعتم عقيرتكم باسم الإسلام فإنكم عن منهج الأنبياء الذي سنه الله لناكبون.
ومهما بذلتم من الجهود وجسمتم دعوتكم ومنهجكم فإنكم تتشاغلون بالوسائل قبل الغاية وما اقل جدوى الوسيلة إذا أضرت بالغاية وضُخمت على حسابها بل يا ويل هؤلاء الدعاة إن أصروا على المضي فيما ابتدعوه من مناهج وحاربوا منهج الأنبياء في الدعوة إلى توحيد الله تحت شعارات براقة تخلب ألباب البلهاء والجهلاء بمنهج الأنبياء.
إن الحديث عن دعوات الأنبياء إلى توحيد الله ومنهجهم وما لاقوا في سبيل ذلك من الأهوال والبلايا والمحن أمر لا يتسع له مجال كهذا.
ولسوف أقتصر على عرض دعوات خمسة منهم صلوات الله وسلامه عليهم وذلك سيجعلنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك:(31/137)
1- فأولهم نوح، أبو البشر الثاني، وأول رسول إلى أهل الأرض عاش هذا النبي العظيم عمراً مديدا ودهراً طويلا ألف سنة إلا خمسين عاما لبثها في دعوة قومه إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، لا يكل ولا يمل، ليلاً ونهاراً سراً وجهاراًَ قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا فِرَاراً، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً، وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَالله جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً، قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ(31/138)
إِلا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراًً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ الله أَنْصَاراً} (نوح: 1- 25) .
ماذا في دعوة هذا الرسول الكريم، وقد قص الله علينا خلاصة دعوته الكريمة التي استغرقت ألف سنة إلا خمسين عاماً.
إنها دعوة جادة إلى توحيد الله وعبادته وحده، في جهد دائب ما ترك وسيلة تمكنه إلا استخدمها لإقناعهم بدعوته سرا وجهاراً وترغيبا وترهيبا ووعداً ووعيداً، واحتجاجا واستدلالا بالأدلة العقلية والحسية، من واقع أنفسهم وحياتهم ومما بين أيديهم من السماء والأرض، وما فيهما من آيات وعبر وكل ذلك لم يُجد فيهم نفعا ولا دفعهم إلى استجابة بل أصروا على كفرهم وضلالهم، واستكبروا استكبارا.
أصروا على التشبث بأصنامهم ومعبوداتهم الباطلة، فكانت النتيجة لهذا الإصرار والاستكبار، الهلاك والدمار، وفى الآخرة الخلود في عذاب النار.
وهنا نتساءل لماذا يستمر هذا النبي العظيم كل هذه الآماد الطويلة، ويبذل هذه الجهود الكبيرة، دون كلل أو ملل يدعو إلى مبدء التوحيد؟.
ولماذا يمدحه الله ويثني عليه الثناء العاطر، ويخلّد ذكره ويجعله في عداد الرسل أولي العزم؟.
هل دعوة التوحيد تستحق كل هذه العناية والإكبار؟، هل هذا المنهج وتحديد هذا المنطلق لهذا النبي الكريم مجانب للمنطق والحكمة والعقل؟ أو أنه عين الحكمة ومقتضى المنطق الصحيح، والعقل الواعي الرجيح لماذا يقره الله على سلوك هذا المنهج في الدعوة طوال ألف سنة إلا خمسين عاما ويشيد به ويخلد اسمه وقصصه، ويكلف أعظم الرسل وأعقل البشر أن يجعل منه أسوة في دعوته وصبره؟.(31/139)
الجواب المنصف القائم على العقل والحكمة، ومعرفة مكانة النبوة والثقة العظيمة فيها وتقديرها حق قدرها، أن دعوة التوحيد ومحاولة القضاء على الشرك وتطهير أرض الله منه تستحق كل هذا وانه عين الحكمة ومقتضى الفطرة والعقل.
وأن الواجب على كل الدعاة إلى الله أن يفهموا هذا المنهج، وهذه الدعوة الإلهية العظيمة، والمطلب الكبير، فيكرسوا كل جهودهم وطاقاتهم لتحقيقه ونشره في أرض الله كلها، وأن يتعاونوا ويتكاتفوا ويتحدوا، ويصدق بعضهم بعضا، كما كان الرسل دعاة التوحيد يبشر سابقهم بلاحقهم ويصدق لاحقهم سابقه ويؤيد دعوته ويسير في مضماره.
يجب أن نعتقد أنه لو كان هناك منهج أفضل وأقوم من هذا المنهج لاختاره الله لرسله وآثرهم به، فهل يليق بمؤمن أن يرغب عنه ويختار لنفسه منهجاً سواه ويتطاول على هذا المنهج الرباني وعلى دعاته.
وثانيهم: أبو الأنبياء وإمام الموحدين الحنفاء- إبراهيم خليل الله- الذي أمر الله سيد المرسلين، وخاتم النبيين وأمته باتباعه والاتساء بدعوته والاهتداء بهديه ومنهجه [25] .(31/140)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 74-79) . دعوة حارة قوية متدفقة إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له ونبذ الشرك ورفضه، تبدأ بالأسرة وتمتد إلى الأمة تحارب الشرك بالأصنام، وتزلزل الشرك بالكواكب.
ويسلك خليل الله أقوم الطرق في المناظرة والمحاجة، لإقامة حجة الله ودحض الشرك وباطله وشُبَهِهِ.
فالتعبير بالأصنام تحقير لآلهتهم المزعومة المصطنعة، وتسفيه لأحلامهم، ورصده للكواكب المذكورة واحدا تلو الآخر وهى تغيب وتأفل عنهم ليأخذ من حالها البرهان الواضح على بطلان ما يزعمون من ألوهيتها فمن يرعاهم ويحفظهم ويدبر شؤونهم وشؤون هذا الكون حين غيابها وأفولها، وإذن فعليهم أن يرفضوا هذه الآلهة المزعومة الباطلة ويكفروا بها، وينفضوا أيديهم منها، ويتجهوا إلى إلههم الحق، الذي فطر السماوات والأرض، والذي لا يغيب ولا يحول يعلم جميع أحوالهم ومطلع على حركاتهم وسكناتهم، ويرعاهم ويحفظهم ويدبر شؤونهم حجج قوية يستمدها من الواقع الملموس والكون المنظور.(31/141)
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً، قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً، وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} (مريم: 41-50) . دعوة حارة إلى التوحيد، قائمة على العلم والمنطق والعقل وعلى الخلق القويم، وتهدي الضال إلى الصراط المستقيم يقابلها تعصب أعمى يقوم على الهوى والجهل والعناد والمكابرة وإلا فكيف يعبد ويخضع لمن لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنه شيئاًَ.
إن علم التوحيد أيها القارئ، هو العلم الذي يعتز به جميع الأنبياء وبه يصولون على الباطل والجهل والشرك، فالجهل بهذا العلم- علم الأنبياء الهادي إلى الحق والمنقذ من الضلال والشرك- هو الجهل المميت والسم القاتل الذي يقتل العقل والفكر. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} .(31/142)
وبعد هذه الجولات القوية الواعية يقوم بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم في ميدان الدعوة إلى الله دعوة الأسرة والأمة التي أقام فيها على أبيه وقومه الحجج الدامغة واجه بهذه الدعوة العظيمة ذلك الحاكم الجبار الطاغية المتأله بكل قوة وشجاعة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258) .
لقد دعا إبراهيم صلى الله عليه وسلم هذا الطاغية المتأله إلى توحيد الله والإيمان بربوبيته وألوهيته، فطغى واستكبر عن الإجابة إلى توحيد الله والتنازل عن دعوى الربوبية. فحاجّه إبراهيم وناظره هذه المناظرة النيرة البرهان الواضحة المعالم قال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو المنفرد بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة. فقال الغبي المتجبر: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .(31/143)
أي أقتل من أردت قتله واستبقي من أردت استبقاءه. وهذا الجواب فيه تمويه وتضليل للأغبياء وحَيدة عن الجواب، لأن قصد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ربه ينشئ الحياة في الإنسان والحيوان والنبات من العدم، ويردها إلى الأموات بقدرته وأنه هو الذي يميت الناس والحيوانات بآجالها بأسباب ربطها وبغير أسباب، فلما رآه إبراهيم يموه ويدجل تدجيلا ربما انطلى على الأغبياء والهمج، قال ملزما له بتصديق قوله إن كان كما يزعم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي وقف متحيراً مشدوها، منقطع الحجة قد ألقم حجرا وأخرس لسانه وزهق باطله، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
وفى هذا درس لمن ألقى السمع وهو شهيد، إنها دعوة إلى التوحيد تمثل قمة الإخلاص والحكمة، والعقل، وتأتي البيوت من أبوابها وتنطلق من حيث أراد الله، لا مصارعة على الملك، ولا منافسة على الحكم، ولو كان هدف إبراهيم عليه الصلاة والسلام الوصول إلى الحكم لسلك منهجا غير هذا المنهج ولوجد من يلتف حوله ويصفق له ولكن يأبى الله وأنبياؤه وصالحوا الدعاة من أتباع الأنبياء حقا في كل زمان ومكان إلا سلوك طريق الهداية والرشاد وبيان الحق وإقامة الحجة على المكابر والمعاندين.
وقد قام إبراهيم عليه السلام بهذا الواجب العظيم على أكمل الوجوه وأتمها أقام الحجة على أبيه وقومه حكومة وشعبا، فلما رأى منهم الإصرار على الشرك والكفر والإقامة على الباطل والضلال لجأ إلى الإنكار والتغيير باليد والقوة.(31/144)
فمن أين يبدأ بالتغيير وما هو الأسلوب الرشيد لتغيير هذا الواقع المظلم الجاثم على أمته أيثور على الدولة لأنها منبع الشرور والفساد ومصدر الشرك والضلال كيف لا والحاكم يدعي الربوبية ويصر عليها. لماذا لا يدبر انقلابا يطيح فيه بهذه الحكومة الكافرة وعلى رأسها جبار متأله وبذلك يقضي على كل ألوان الفساد والشرك وتقوم على أنقاضه الدولة الإلهية بقيادة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والجواب حاشا الأنبياء وحاشا نزاهتهم من سلوك هذه الطرق أو التفكير فيها فإنها طرق الظلمة والجهلة والسفهاء وطلاب الدنيا والملك.
إن الأنبياء دعاة توحيد ورواد هداية إلى الحق وإنقاذ من الباطل والشرك فإذا امتدت أيديهم إلى التغيير وهم أعلم الناس وأعقلهم فلابد أن تبدأ بالقضاء على منابع الشرك وضلال الحقيقية وكذلك فعل إبراهيم الحليم الحكيم الرشيد البطل الشجاع.(31/145)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ. قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. ثم نكسواٍ على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلا تَعْقِلُونَ. قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 51-70) . آتى الله إبراهيم رشده على علم بأنه أهل لذلك هذا النبي الحكيم الرشيد واجه فساداًَ في(31/146)
العقيدة وفساداً في الحكم. أمة انحط تفكيرها وضلت عقولها، فعبدت الأصنام من الأخشاب والأحجار والكواكب وتحكمها حكومة فاسدة يقودها جبار متأله فأسلموا له القياد.
فمن أين يبدأ بالإصلاح يا ترى؟
أيبدأ بمصاولة الحاكم لأنه قطعا يحكم بغيِر شريعة الله ويحكم بقوانين وتشريعات جاهلية، لاشك في ذلك، ويدعي الربوبية جهاراًَ وحق التشريع أو يبدأ بإصلاح العقيدة عقيدة الأمة وعقيدة الحكومة الجاهلية.
القرآن يحدثنا عن هذا النبي الرشيد إمام الأنبياء أنه بدأ بإصلاح العقيدة أي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده ومحاربة الشرك والقضاء عليه وعلى أسبابه واقتلاعه من جذوره فدعاهم فعلا إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه، وجادلهم في هذا المجال وجادلوه، فدمغهم بالحجج القاهرة والبراهين الظاهرة وجردهم من كل سلاح من أسلحة الحجة حتى ألجأهم إلى الاعتراف بالظلم والضلال والتعصب الأعمى والجمود القاتل على تقليد الآباء {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} .(31/147)
فلما رأى إبراهيم أهواء جامحة وعقولا متحجرة، دبر لهم مكيدة ورسم لهم خطة حكيمة شجاعة لتحطيم آلهتهم وتم تنفيذ هذه الخطة بكل قوة وشجاعة وجرأة وأثار هذا العمل البطولي [26] الحكومة والشعب ضده واستدعوه للمحاكمة العلنية، ووجهوا إليه الاتهام {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فأجابهم بأسلوب تهكمي ساخر {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فكان هذا الجواب التهكمي المفحم كالصاعقة العنيفة هوت على رؤوسهم المخبولة {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ثم لما أعوزهم سلاح الحجة لجأوا إلى القوة سلاح كل عاجز عن الحجة في كل زمان ومكان، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ِ ونجىّ الله خليله إبراهيم وردّ الله كيد الكافرين الخاسرين في نحورهم {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} .
وكان في نجاة إبراهيم من تلك النار العظيمة بعد أن حولها الله برداً وسلاما على إبراهيم آية عظيمة من أعظم آيات الله على نبوته وصدقه وصدق ما جاء به من التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك والضلال، وكافأ الله إبراهيم عليه السلام على هذه الدعوة الحكيمة وعلى هذا الجهاد والتضحية الرائعة {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 71- 3 7) .(31/148)
(ثالثهم) : يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم [27] الذي أنزل الله في شأنه سورة طويلة تقصّ لنا حياته الكريمة ومراحلها من طفولته إلى موته وكيف تقلبت به الأحوال، وما واجه من صعاب، فتلقاها بقوة النبوة وصبرها وحكمتها وحلمها.
رأى يوسف عليه السلام، فساد قصور الفراعنة في مصر وظلمها وعرف عقائد الأمة التي عاش فيها عرف ما فيها من فساد ووثنية تتخذ الأصنام والأبقار آلهة مع الله.
قصة هذا النبي الكريم عليه السلام- طويلة نأخذ منها الإشارة إلى سجنه ودعوته.
قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِالله مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ أَمَرَ إلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:36- هـ 4) .(31/149)
عاش هذا النبي الكريمٍ عليه السلام في القصور وعرف مفاسد الحكم والحكام عن كثب، وذاق من ويلاتهم كيدا وظلما واضطهاداًَ وسجنا وعاش بين ظهراني أمة وثنية تعبد الأصنام والأبقار والكواكب، فمن أين ينطلق للإصلاح ومن أين تكون نقطة البدء؟. هل يبدأ في الدعوة إلى الله وهو مسجون ظلما ويشاركه في السجن مظلومون مثله من إثارتهم وتهييجهم على الحكام الظلمة المستبدين، وهذا منطلق سياسي لاشك فيه والفرصة متاحة أمامه أو يبدأ بالدعوة من حيث انطلق آباؤه الكرام وعلى رأسهم إبراهيم خليل الله وإمام الدعاة إلى توحيد الله ومن حيث انطلق جميع رسل الله لاشك أن طريق الإصلاح الوحيد في كل زمان ومكان هو طريق الدعوة إلى العقيدة والتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده.
إذن فليبدأ يوسف من هذا المنطلق مقتديا بآبائه الكرام ومعتزاً بعقيدتهم ومحقراً ومندداً بسخف المشركين واتخاذهم أربابا من دون الله من الأصنام والأبقار والكواكب.
وبعد هذا البيان الواضح والدعوة الصارخة إلى التوحيد ونبذ الشرك يؤكد دعوته وحجته بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [28] ثم يفسر هذه الحاكمية بتوحيد الله وعبادته وحده {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} ، ويقول عن التوحيد {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
ويصل يوسف عليه الصلاة والسلام إلى أعلى منصب في هذه الدولة [29] وهو يدعو إلى توحيد الله ويقيم على دعوته ونبوته البينات. قال تعالى في بيان هذه الأمور: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 54- هـ 5) .(31/150)
وقال شاكراً لمولاه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) .
وقال الله في بيان دعوته: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} (غافر: 34) .
من فقه سيرة يوسف عليه السلام التي عرضتها علينا هذه الآيات الكريمة أن الدعوة إلى التوحيد أمر لابد منه، وأن الشرك لا هوادة ولا مداهنة في محاربته فلا يجوز السكوت عنه مهما كانت ظروف الداعية إلى الله بل لا يجوز لمسلم إطلاقا أن يحابى ويداهن في أمره وهذا يبين مكانة العقيدة وعظم شأنها عند الله وعند أنبيائه ورسله وأن الفرق والبون شاسع جدا بينها وبين فروع الإسلام فلا يجوز أن يكون المسلم- خصوصا الداعية- كاهنا من كهنة المشركين أو سادنا لأصنامهم، فإن فعل ذلك كان من المشركين الضالين.
أما الجانب التشريعي، فإن قامت دولة الإسلام فلابد من تطبيق شريعة الله، وإلا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والكفر حينئذ على ما فصله علماء الإسلام من الصحابة وغيرهم قد يكون كفراً أكبر إذا كان يحتقر شرع الله ويستحل الحكم بغيره، وقد يكون كفراً أصغر إذا كان يعظم شريعة الله ولا يستحل الحكم بغيرها لكن غلبه هواه فحكم بغير ما أنزل الله.(31/151)
أما إذا كانت دولة الإسلام غير قائمة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها وللمسلم أن يتبوأ منصبا في دولة غير مسلمة شريطة أن يقوم بالعدل وأن لا يطيعهم في معصية الله ولا يحكم بغير ما أنزل كما فعل نبي الله يوسف. تبوأ منصب النيابة عن ملك كافر وما كان يحكم بشريعته { ... مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِك} (يوسف: 76) ، وكان يقوم بالعدل بين الرعية ويدعوهم إلى توحيد الله.
وفى هذا رد حاسم على من يهون من أمر عقيدة التوحيد ويجامل ويحابي في قضية الشرك الذي ملأ الدنيا وينظر إلى دعاة التوحيد وأعداء الشرك بعين الاحتقار والازدراء ويربأ بنفسه ويشمخ بأنفه أن يهبط إلى مستوى دعاة التوحيد- وهو من دعاة السياسة ومَا اثقل على سمعه وقلبه أن يسمع أو يقول كلمة توحيد أو شرك. لقد أوقع هذا النوع من الدعاة أنفسهم في هوة سحيقة في حين يظنون أنهم في أعلى القمم الشامخة. وهل يفلح قوم هذا موقفهم من دعوة الأنبياء إلا أن يتوبوا عما هم فيه إلى الله توبة نصوحاً.
(رابعهم) : موسى كليم الله، القوي الأمين، نرى دعوته تتجه إلى التوحيد وتحمل في طياتها أنوار الهداية والحكمة.
لقد تربى موسى ودرج في قصور أعظم طاغية متأله وعرف من ألوان الفساد والكفر والطغيان والظلم والاستبداد في قصور الحكم عن مشاهدة واطلاع ما يصعب تصوره واحتماله ورأى ما نزل بقومه بنى إسرائيل من استعباد واستذلال واستحياء النساء وقتل الأبناء ما فاق كل ظلم عرفته البشرية.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4) وكان قوم فرعود أهل وثنية دون شك.(31/152)
فكيف كان بدء دعوة موسى هل اتجهت إلى إصلاح عقيدة هذه الأمة الوثنية أو بدأت بالمطالبة بحقوق بنى إسرائيل والمصارعة على الحكم والسعي الجاد في إقامة الدولة الإسلامية وانتزاع السلطة من أيدي الطغاة وعلى رأسهم فرعون المتأله.
لقد كانت دعوة موسى كغيرها من دعوات آبائه وإخوته من الأنبياء لقد لقنه ربه أصل التوحيد واصطفاه لحمل رسالته والقيام بعبادته. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} . (طه: 9-15) . هكذا في مفتتح رسالته تملى عليه عقيدة التوحيد ويكلف شخصياً أن يقوم بها في واقع نفسه ويتمثلها في حياته.
ثم يكلفه بالدعوة لهذا المبدء العظيم فيرسله إلى فرعون ويبيّن له طريق الدعوة وأسلوبها الحكيم الذي يواجه به فرعون. قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 7 ا-19) .(31/153)
ويشد عضده بأخيه هارون مبالغة في إقامة الحجة ويعلمهما الرفق واللين في الدعوة فإن ذلك أقرب الطرق إلى هداية من يريد الله هدايته {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43-44) . فنفذا أمر ربهما ودعواه إلى الله قاصدين هدايته وتزكيته ليكون ممن يخشى الله ويتقي عواقب الشرك والظلم، فلم يستجب لهذه الدعوة الهادئة الحكيمة فبرهن موسى على نبوته وصدق رسالته بآيات كبرى لكن الطاغية فرعون زاد طغيانا وتكذيبا {فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} .
ازدياد طغيان فرعون وعسفه وظلمه ومواجهة موسى وقومه هذا الطغيان بالصبر الجميل والتحمل:
{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127) .
ما ذنب موسى وقومه في نظر هؤلاء المجرمين، لا ذنب لهم إلا الدعوة إلى توحيد الله والثبات عليها والكفر بفرعون ومعبوداته، ثم ما موقف موسى من هذه الانتهاكات البشعة والتي تجاوزت حدود الوحشية والهمجية. إنه الثبات على العقيدة والصبر الجميل والاستعانة بالله في مواجهة هذه الشدائد ثم انتظار العاقبة الطيبة والنصر نتيجة وثمرة حميدة لهذا الثبات والصبر {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . (الا عراف: 128) .(31/154)
ولما لم يبق أي أمل في إيمان فرعون وقومه واشتد البلاء على بني إسرائيل كان مطلب موسى الوحيد من فرعون أن يترك لبنى إسرائيل حرية الخروج والهجرة إلى حيث يريد الله لهم إنقاذا لهم من التعذيب والتنكيل {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} . (طه: 47) . إنها لدعوة سامية إلى توحيد الله فيها النور والحكمة وفيها الحرص على هداية المدعوين وتزكيتهم، وفيها أقوى أنواع الصبر في تحمل الأذى وفي مواجهة الطغيان والكبرياء وفيها معالجة المواقف الصعبة بالحكمة والصبر مع قوة الأمل في الله في نصر المؤمنين وإهلاك الظالمين وفيها دروس وعظات لمن يريد بدعوته وجه الله ويريد إصلاح البشر وربطهم بالله وهدايتهم إلى صراطه المستقيم.
(والخامس) : سيد الأنبياء وخاتمهم محمد بن عبد الله صاحب أعظم رسالة وأكملِها وأشملها، الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه.
بماذا بدأ هذا النبي العظيم من مبادئ الإِسلام؟ ومن أين انطلقت دعوته؟(31/155)
إنه عليه الصلاة والسلام بدأ بما بدأ به كل الأنبياء وانطلق من حيت انطلقوا بدعواتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده، من لا إله إلا الله محمد رسول الله وهل يتصور منه أومن أحد من الأنبياء أن يبدأ بغير هذا الأصل العظيم أصل أصول الرسالات كلها. لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل فأول شيء طرق مسامع قومه قولوا لا إله إلا الله. فقال المستكبرون منهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . (ص: 5- 6) ، واستمر داعيا إلى هذا المبدأ الأسمى والمطلب الأعلى طيلة العهد المكي من رسالته ثلاثة عشر عاما لا يكل ولا يمل صابراً على كل ألوان الأذى في سبيل نشر هذا المبدأ فلم يُفرض عليه من التشريعات وأركان الإسلام إلا الصلاة في السنة العاشرة من البعثة اللهم إلا ما كان يأمر به قومه من معالي الأخلاق كصلة الرحم والصدق والعفاف ولكن محور الدعوة وموضوع الصراع والخصومة إنما هو ذلك الأصل العظيم.
لقد كلف الله هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تكليفا خاصا أن يقوم بهذا الأصل العظيم. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . (الزمر: 2-3) .(31/156)
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} . (الزمر: 11-14) . {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . (الأنعام: 162-163) .
كما أمره أن يقوم بدعوة الناس جميعاً إلى تحقيق هذا المبدأ والنهوض به. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (البقرة: 21-22) ، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . (البقرة: 163) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . (الأعراف: 158) .
والآيات في هذا كثيرة والذي قدمناه إنما هو نموذج لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التوحيد.
أما السنة ففيها الشيء الكثير الدال على افتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالتوحيد واختتامها بذلك واستمراره فيما بين ذلك طوال حياته صلى الله عليه وسلم.(31/157)
1_فعن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله عنه قال: "كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرءاء عليه قومه فتلطفت، حتى دخلت عليه، بمكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك. قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء". فقلت: ومن معك على هذا. قال: "حر وعبد". قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به.." [30] (الحديث) .(31/158)
2- ولما وفد عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعه المخزومي كلما النجاشي ملك الحبشة فقالا له يغريانه بالمسلمين المهاجرين إلى الحبشة: "أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت ... فسألهم النجاشي فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ ... فكان الذي كلمه جعفر بن أبى طالب فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار، يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، قال فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه، على ما جاء به فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك ... " [31] الحديث.
وفي أسئلة هرقل لأبي سفيان في مدة صلح الحديبية عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي سفيان: "ماذا يأمركم؟ "قال أبو سفيان قلت: "يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاًََ واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والصلة" [32] .(31/159)
فهذه الأحاديث توضح لنا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي والمدني.
تعذيب أصحابه من أجل لا إله إلا الله عقيدة التوحيد:
لقد عذب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشد ألوان التعذيب من أجل تمسكهم بالعقيدة وإخلاص العبادة لله وحده ونبذ الشرك والكفر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال: "أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار، وأمه سمية، وصهيب وبلال، والمقداد. فأما رَسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله تعالى بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد، صهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وآتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد " [33] .
وفي السيرة لابن هشام "وكان أمية بن خلف يخرجه (يعني بلالا) إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد" [34] .
وقال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: "قلت لابن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ "قال: "نعم. والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً، من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن العجل ليمر بهم فيقولون له أهذا العجل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم افتداء مما يبلغون من جهده" [35] ، وهذا إسناد حسن صرّح فيه ابن إسحاق بالتحديث فأمن تدليسه.(31/160)
وتُعذَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّب سمية حتى الموت من أجل عقيدة التوحيد، لا لأنها كانت زعيمة سياسية. فعن مجاهد قال: "أول شهيدة في الإسلام سمية والدة عمار أتى أبو جهل فطعنها بحربة في قبلها" [36] ، وقال ابن سعد: "أسلَمت قديما بمكة، وكانت ممن يعذب في الله لترجع عن دينها، وصبرت، حتى مر بها أبو جهل يوما، فطعنها بحربة في قبلها، فماتت" [37] .
الاهتمام بعقيدة التوحيد في العهد المدني:
وبعد أن هاجر رسول الله وأصحابه إلى المدينة، وقامت دولة الإسلام على كواهل المهاجرين والأنصار، وعلى أساس التوحيد ظل الاهتمام بالتوحيد عَلى أشده والآيات القرآنية تنزل به والتوجيهات النبوية تدور حوله ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل هذا.
(1) المبايعة على التوحيد (1)
فكان يبايع عليها عظماء الصحابة فضلا عن غيرهم بين الفينة والفينة وكلما تسنح له فرصة للبيعة عليها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة: 12) ، وهذه الآية وإن كانت في بيعة النساء فإن رسوله الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع على مضمونها الرجال.(31/161)
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاًَ ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم- قرأ الآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفّى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه" [38] .
وساق ابن كثير عدداً من الأحاديث التي فيها أن رسول الله كان يبايع النساء بمضمون هذه الآية [39] منها حديث عائشة، وحديث اميمة بنت رقيقة، وحديث أم عطية [40] ، وحديث سلمى بنت قيس إحدى خالات الرسول [41] وحديث رائطه بنت سفيان الخزاعية [42] . ثم قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة. ثم ساق حديث ابن عباس [43] وأحاديث أخر.
أقول: وكذلك كان يتعاهد الرجال، فمما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت السابق، ومن ذلك حديث عوف بن مالك الأشجعي رضى الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟ "وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله". فقلنا: بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " قال: فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا- وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه " [44] .(31/162)
2- وكان يرسل دعاته ومعلميه وقضاته وأمراءه إلى الملوك والجبابرة في الأقطار المختلفة بدعوة التوحيد. فعن أنس رضي الله عنه- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى [45] وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم" [46] .
يوضح ذلك نص كتابه إلى قيصر وأن هدفه الدعوة إلى التوحيد ونصه: "بسم الله الرحمن الرحيم ... من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد- فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين [47]- ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًَ من دون الله فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون" [48] .
وعندما وصل الكتاب النبوي إلى قيصر، أرسل إلى أبي سفيان بن حرب في ركب من قريش، وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، وكفار قريش، فأتوه وهم بابلياء فوجه أسئلة إلى أبي سفيان من جملتها، قال قيصر: "ماذا يأمركم، قال أبو سفيان، قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف والصلة" [49](31/163)
(2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيوشه للجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة التوحيد:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، ويرشد قواده وجنوده إلى البدء قبل القتال بدعوة الناس إلى التوحيد. فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فإن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهَاجرين ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فارادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم ولكن انزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم" [50] .
ومثل حديث بريدة حديث النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه أشار إليه كل من مسلم وأبي داود وابن ماجة، بقولهم قال علقمة فحدثت به مقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم بن هيصم، عن النعمان بن مقرن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.(31/164)
(4) وبعث معاذاً إلى اليمن أميراً وقاضيا ومعلماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته: "إنك تأتى قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. وفى رواية إلى أن يوحدوا الله وأني رسوله الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك، فاخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" [51] ، ولا يشك أنه كان يوصي كل دعاته وأمرائه وقضاته بمثل هذه الوصية.
(5) وشرع الجهاد من أجل التوحيد وتطهير الأرض من فتنة الشرك. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} .
قال ابن جرير [52] رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه: "وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم، حتى لا تكون فتنة يعني حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان ... "، قال قتادة: "حتى لا يكون شرك". وساق أسانيده بهذا التفسير إلى قتادة ومجاهد والسدى وابن عباس، وقال المراد بالدين الذي ذكره الله في هذا الموضع: العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه. قال ومن ذلك قول الأعشى:
هودان الرباب إذ كرهوا
الدين دراكاً بغزوة وحيال
ثم ساق إسناده إلى الربيع {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} يقول: حتى لا يعبد إلا الله، وذلك لا إله إلا الله عليه قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه دعا.(31/165)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" [53] .
وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله حين عزم على قتال المرتدين بما فيهم مانعي الزكاة فقال له الفاروق رضي الله عنه: "كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" [54] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" ثم قرأ {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} " [55] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" [56] .(31/166)
ويُلاحَظ أن حديث عمر وأبي بكر وأبي هريرة وجابر قد اقتصرت على قضية التوحيد، ولم تتعرض لغيرها. ولعل السبب في ذلك شدة اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه القضية بحيث أنه يحدثهم بها المرة تلو المرة مقتصراً عليها تنبيهاً منه لهم على عظمتها وأهميتها وإدراكا منه صلوات الله وسلامه عليه أنهم يفهمون أن كل أمور الإسلام من مقتضياتها ومستلزماتها وحقوقها خصوصا أركان الإسلام والإيمان.
أقول: وبسبب اقتصار الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يتعلق بالعقيدة كان استدلال عمر بهذا القدر وكان جواب أبي بكر في تأييد موقفه بقياس الزكاة على الصلاة "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ... "ولو كان يحفظ ما رواه ابن عمر لاستدل به رأسا، ولو كان عمر يحفظ ما رواه ابنه لما اعترض على أبي بكر ولو كان الحاضرون وفيهم أبو هريرة يحفظون ما رواه ابن عمر لذكروا الشيخين به، ولعل السر هو ما أشرنا إليه شدة اهتمام الرسول بالعقيدة وإشادته بها وكثرة حديثه عنها.
ولما كان أبرز جانب وأهمه فيما جاء به الأنبياء من تعاليم ربانية هو توحيد الإلهية، وكان هو في الواقع أعظم قضايا الصراع مع كل أعداء الأنبياء.(31/167)
وكان أبرز جانب من جوانب الباطل والضلال مما أعلن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه الحرب من جهة واستمات المشركون المكذبون من كل الأمم في الدفاع عنه من جهة أخرى هو عبادة الأصنام والأوثان، وقبور الصالحين والأنبياء وتقديسها وتقديم القرابين لها وتعلق قلوب البشر حكاما ومحكومين بها حبا ورجاء وخوفا وطمعاً وأملا في شفاعتها لهم عند الله في قضاء مطالبهم، وكان هذا اللون هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر كان لابد- إلى جانب ما قدمناه من الحديث عن منهج الأنبياء خصوصا في الحديث عن إبراهيم إمام الحنفاء ومحطم أصنام السخفاء- من ذكر طرف من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- الشعواء لهذا الشرك الأكبر ممثلة في سحق هذه الأوثان فعلا وفى سد كل ذريعة يستدرج بها الشيطان أولياءه من البشر إلى عبادتها واتخاذها أنداداً من دون الله باسم الآلهة أو الأولياء أو تحت أي شعار مضل.(31/168)
فمن تلك الحرب التي شنها القرآن ورسول منزل القرآن قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 9 ا-23) . فهذا تحقير لمعبوداتهم وأي تحقير وحرب عليها أي حرب، وقول الله تعالى: { ... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 30- ا 3) ، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) .
وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه وقد تقدم حديثه وفيه: "قلت: الله أرسلك، قال: نعم، قلت: بأي شيء أرسلك، قال: بأن يوحد الله، ولا يشرك به شيء، وكسر الأوثان وصلة الرحم" [57] .
وفى حديث جعفر بن أبى طالب: " ... حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان ... " [58] الحديث.
وفي حديث أبى سفيان مع هرقل ملك الروم: "يقول- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم" [59] .(31/169)
وفى حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني رحمة للعالمين. وأمرني ربي عز وجل بمحق المعازف والمزامير، والأوثان والصلب، وأمر الجاهلية ... " الحديث.
ولقد طاشت ألباب زعماء قريش وضاقت ذرعا بهجوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أوثانها سواء فيما أنزل عليه من القرآن أوفي دعوته السرية والعلنية لأن هذا أمر لا هوادة فيه، ودعوته الصادقة تقتضيه.
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول: فلو بعثت إليه، فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت ... فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول. قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة، يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إِليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته، ولقوله وقالوا: كلمة واحدة! نعم وأبيك عشرا، فقالوا: ما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي، فقال: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" [60] .(31/170)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فيأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم، حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغت؟ " قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {بسم الله الرحمن الرحيم، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... - حتى بلغ- ... فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال عتبة: حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: "لا". فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: لا، والذي نصبها بنية، ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك أيكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة" [61] .(31/171)
تلك الحرب كانت حربا كلامية ونفسية بالنقد اللاذع والتحقير والسخرية ودمغ المشركين بالضلال والجهل مع إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وكان من آثار تلك الحرب ومن آثار تلك الدعوة والبيان أن هدى الله كثيراً من العرب من قريش وغيرهم ومن الأوس والخزرج وفتح الله بصائرهم وعرفوا حقيقة التوحيد ومكانته وعرفوا حقارة الشرك بالأوثان وغيرها وخطورته في الوقت نفسه على المشركين في الدنيا والآخرة.
وهذه ثمار طيبة عظيمة كانت نتيجة لجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصبرهم في ميدان الدعوة الحقة إلى الله وحملتهم المكثفة على الطواغيت والأوثان والأنصاب.
ثم لما أصبح للمسلمين شوكة ودولة انتقل رسول التوحيد صلى الله عليه وسلم إلى خطوة عملية جديدة هي سحق الأصنام وتحطيمها وإبادتها وتطهير الأرض منها إدراكا منه لخطورتها فهي المصدر الأساسي والخطير على الأجيال البشرية من فجر تاريخها وإلى أن ينتهي تاريخها كما قالٍ إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} (إبراهيم: 35-36) . فمن هنا قرر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم القيام بتطهير الأرض من الأوثان وتسوية القبور لأنها قرينة الأصنام في إضلال البشرية.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقوله: "جاء الحق وزهق الباطل "، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد" [62] .(31/172)
وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا لذى الخلصة من المدينة إلى خثعم فغزاها. عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:"كان بيت في الجاهلية يقال له ذو الخلصة، والكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فنفرت في خمسين ومائة فارس من أحمس، فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا لنا ولأحمس، وفى لفظ للبخاري: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة [63] . ولفظه في البخاري ومسلم وأحمد: "ألا تريحني من ذي الخلصة".
انظر إلى هذا التعبير النبوي فكان وجود الأوثان يقض مضجعه ويقلقه عليه الصلاة والسلام فلا يقر له قرار ولا يجد راحة واعجب من واقع كثير من الدعاة اليوم يرون أمام أعينهم مظاهر الشرك فلا تحرك فيهم ساكنا ولا يحسبون لهذا الواقع المر حسابا بل الأدهى والأمر انهم يتذمرون ممن ينكر ويتألم لهذا الواقع الجاهلي السيئ.
وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات، وهدم البيت، الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئاً" فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل، وهم يقولون: يا عزى، يا عزى فأتاها خالد، فإذا هي امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخبره فقال: "تلك العزى " [64] .
وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ليهدمها وقيل علي بن أبى طالب [65] .(31/173)
وسألت ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية وهي اللات، لا يهدمها، ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذرياتهم ... فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان ابن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها [66] ، وعن عثمان بن أبي العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم [67] .
قال ابن جرير [68] : "وكانوا قد استقوا اسمها من اسم الله فقالوا: اللات يعنون مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وروى بأسانيده إلى قتادة، وابن عباس ومجاهد وابن زيد، إن اللات بتشديد التاء رجل كان يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره فعبدوه.
وقال الإمام البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: اللات والعزى. "كان اللات رجلا يلت سويق الحاج" [69] .
ولما كانت فتنة القبور والأوثان من باب واحد، والرباط بينها وثيق جداً حيث إن الأوثان والأنصاب إنما نحتت وصورت وعبدت حبا وغلوا في الصالحين كما فعل قوم نوح بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر لأنهم رجال صالحون كذلك إنما شيدت القبور وشدت إليها الرحال وقدمت لها القرابين حبا وغلوا في رجال صالحين وفي أقوامٍ اللهُ أعلم بأحوالهم وبمآلهم.(31/174)
وعلى كل حال فلما كان النوعان من باب واحد لم يدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعا في الأمر بهدم القبور ونهى أن يبنى عليها أو يزاد عليها ونهى عن تجصيصها ونهى عن الصلاة عليها وإليها وحذر التحذير الشديد من شرها ولعن من يتخذون المساجد عليها، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبِى طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراًَ مشرفا إلا سويته " [70] .
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عليا لتسوية القبور كما يبعثه لطمس التماثيل ولا تستبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجند رجالا هنا وهناك للقيام بهدم الأصنام والقبور كما مر بنا سابقا.
وعن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره، فسوى ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها [71] ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني عليه [72] ، وعن أبى مرثد الغنوى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها" [73] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [74] .(31/175)
وتستمر هذه العناية النبوية الواعية، لأخطار الأوثان والقبور إلى آخر لحظة من لحظات حياة الرسول الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه. فعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاًَ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" [75] .
وعند احتضاره وبعد اختياره للرفيق الأعلى كان شغله الشاغل خطر فتنة القبور على هذه الأمة التي جهل أكثرها قدر هذه الاهتمامات النبوية وجهلت خطر هذه الفتنة الماحقة.
فعن عائشة أم المؤمنين وابن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال: وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"يحذر مثل ما صنعوا [76] .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "ادخلوا عليّ أصحابي، فدخلوا عليه وهو مقنع ببردة معافري [77] فكشف القناع، فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد [78] .
وعن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد" [79] .(31/176)
سرّح طرفك في مشارق بلاد المسلمين ومغاربها تر العجب العجاب تر واقعا يتحدى هذه النصوص النبوية، وإذا قرأت عليهم هذه النصوص وبينت لهم مصادرها وتمسك الصحابة واعيان الأمة بها واجهوك بتأويلات اسخف من تأويل من قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} . واتهموك بعداء الأولياء.
والآن نتساءل إذا كانت دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تحمل في طياتها كل خير، وتحذر من كل شر، فما بالنا نرى فيما قص الله علينا في كتابه وفى دراستنا لسنة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن دعواتهم إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره وأسبابه ووسائله قد أخذت مساحة كبيرة جداً من دعواتهم واستغرقت زمنا طويلا من حياتهم حتى لكأنما كان هذا الجانب هو شغلهم الشاغل. فأين مواقفهم من الحكام الطغاة المستبدين؟.
والجواب إن ما انتهجه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو عين الحكمة والصواب ومقتضى العقل السليم.
فليس في مشاكل البشر سياسيها واقتصاديها واجتماعيها من الخطر ما يساوى مشكلة الشرك ومضاره ولا يقاربها {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
فالعقل والحكمة والفطرة تقتضي إذاً أن يبدأ بمحاربة خطر الشرك وأن تستمر دعوات الأنبياء واتباعهم على محاربته ما بقيت منه بقية أو بقى له شكل أو مظهر. فإذا أحاطت بأمة مشاكل عقائدية شرك يدمر عقيدتها ومشاكل اقتصادية ومشاكل سياسية فبأيها تبدأ المعالجة الحكيمة.(31/177)
أما الأنبياء فلم يبدؤا إلا بمعالجة مشكلة العقيدة بكل قوة والبدء بمعالجة الأمر الأخطر أمر يتفق عليه كل عقلاء البشر. فمثلا لو رأى عاقل ثعبانا ونملة يدبان إلى إنسان لأملى عليه عقله أن يبادر إلى دفع الثعبان أو قتله لشدة خطره على هذا الإِنسان ولا يمكن أن يلقى بالاً للنملة ولا لألف نملة.
ولو رأى عقلاء أسداً هصوراً وجماعة من الفئران تهجم عليهم لحملوا حملة واحدة لصد هجوم الأسد وتناسوا الفئران ولو كان معها جماعة أخرى من الضفادع.
ولو أن مسافرين انتهى بهم السير إلى طريقين لا خيار لهم من سلوك أحدهما. أحدهما فيه براكن تقذف بلهبها ونيران تلتهم أشجارها وأحجارها، وثانيهما فيه الأشواك والرمضاء وأشعة الشمس اللاهبة لما أختار عقلاؤهم إلا سلوك الطريق الثاني.
لنأخذ الآن أشد المفاسد أعني المفاسد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأشدها فساد الحكم لنوازنها بفساد العقيدة فهل هما في ميزان الله وميزان الأنبياء سواء. أو أن أحدهما أشد خطراً وأدهى وأمر عاقبة.
ففي ميزان الله وميزان أنبيائه أن أشدهما خطراً وأجدر بالتركيز عليه على مر الدهور والعصور وفى كل الرسالات إنما هو الشرك ومظاهره الذي لا يضاهيه فساد مهما عظم شأن هذا الفساد، وبناء على هذا نعود فنقول: إنَّ بَدْأ جميع الأنبياء بإصلاح الجانب العقائدي ومحاربة الشرك ومظاهره هو مقتضى الحكمة والعقل وذلك للأمور الآتية:(31/178)
أولاً: أن المفاسد المتعلقة بعقائد الناس من الشرك والخرافات وأنواع الضلال أخطر آلاف المرات من المفاسد المترتبة على فساد الحكم وغيره، فإن لم نقل هذا ونعتقده سفهنا من حيث لا نشعر جميع الأنبياء. ونعوذ بالله من الضلال. إن هذه المفاسد تشمل الحاكم والمحكوم فالحكام أنفسهم في كل زمان ومكان إلا المؤمنين منهم- يخضعون للأصنام والأوثان والقبور ويقومون بتشييدها وحمايتها وعبادتها وتقديم القرابين لها، ويعتقدون أن لها سلطة غيبية قاهرة فوق سلطانهم المادي، فهي تضرهم وتنفعهم بذلك السلطان الغيبي في زعمهم وبتلك القوة القاهرة الخفية أو على أقل تشفع لهم عند الله في تحقيق مآربهم.
وأوضح مثال لخضوع الحكام للأوثان ذلك الطاغية المتأله فرعون الذي قال متبجحاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، فقد حكى الله مقالة قومه له وهم يستثيرون فيه الحمية والغيرة لآلهته ومعبودا ته فقال: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . (الأعراف: 127) ألا ترى أكبر طاغية عرفته الأرض مع دعواه الربوبية يخضع للأوثان ويتخذها آلهة.
وهذا النمروذ ملك الكلدانيين الذي ادعى الربوبية يأمر بإحراق إبراهيم عليه السلام عندما حطم الأصنام أخذاً بثأر هذه الأصنام لأنها آلهته.
وهؤلاء ملوك الهند والفرس يعبدون الأوثان والنيران وملوك الرومان في الماضي وحكام أوربا وأمريكا في الحاضر يعبدون الصلبان والصور، وكم من حكام المسلمين في الماضي والحاضر من فُتِنَ بالأموات وشاد عليهم القبور وتعلق بها قلبه حبا ورجاء وخوفا وارتكبوا ما خشيه رسول الله على هذه الأمة وحذر منه.(31/179)
ومن هنا يتضح لك جدية منهج الأنبياء وأحقيته، ويتضح لك أهمية مواقف الرسول الحاسمة من الأوثان والقبور كما يتضح لك حكمة إبراهيم وعمق فكره وبعد نظره حينما أطلقها صيحة مدوية تتجلجل في الأفاق والأجيال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (إبراهيم 5 3، 6 3) .
فترى إبراهيم وهو على غاية من الحق والصواب- يجأر إلى الله من مخاطر الأصنام ولا يجأر إليه من مخاطر الحكام على جسامة فسادهم وخطرهم.
ثانياً: أن الله ما أرسل الرسل إلا ليعلموا الناس الخير وينذرونهم بطش الله والشر قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة: 213) ، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: 48) ، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (الكهف: 56) ، وقال تعالى: { ... رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) .(31/180)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا أحد أحب عليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين" [80] ، وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النحل: 35) ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54) ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وهذه مهمة الإنذار والتبشير والإبلاغ مهمة جليلة وعظيمة نبيلة يكفيها عظمة ونبلا أنها مهمة الأنبياء وتتناسب مع مكانتهم الرفيعة فإنها أشق وأعظم ما يتحمله البشر أو يتحمله ورثتهم من الدعاة الصادقين المخلصين السائرين في منهاجهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". وقد ذكرنا سلفا مدى ما يواجه الداعية إلى التوحيد من المشقة وكيف لا يستطيع غيرهم أن يجول في هذا الميدان.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى، لم يكلفهم بإقامة دول وإسقاط أخرى وذلك في غاية الحكمة، لأن الدعوة إلى إقامة دولة تلوح فيها المطامع لطلاب الدنيا وطلاب الجاه والمناصب وأصحاب الأغراض والأحقاد وأصحاب التطلعات والطموحات فما أسرع ما تستجيب هذه الأصناف للدعوة إلى قيام دولة يرون فيها تحقيق مآربهم وشهواتهم ومطامعهم.(31/181)
لمثل هذه الاعتبارات- والله أعلم- وغيرها مما يعلمه الله الخلاق العليم الحكيم ابتعدت دعوات الأنبياء ومناهجهم عن استخدام هذا الشعار البراق الملوح أو المصرح بالأطماع والشهوات العاجلة وسلكت منهجا حكيما نزيها شريفا ينطوي على الابتلاء والاختبار فيتبعهم ويؤمن بهم كل صادق مخلص متجرد من كل المطامع والأغراض الشخصية، لا يريد بإيمانه وتوحيده وطاعة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إلا الجنة ومرضاة ربه، ولا يخاف إلا من غضبه وأليم عقابه. ولهذا لا يتبعهم في الغالب إلا الفقراء والمساكين والضعفاء. قال تعالى- حكاية عن قوم نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} (الشعراء: 111) ، وقال عن قوم صالح: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الأعراف: 75-76) . وجاء في أسئلة هرقل لأبى سفيان، "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟. قال أبو سفيان، فقلت: بل ضعفاؤهم. ثم قال هرقل: وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم اتباع الرسل".
فالدعوة إلى إقامة دولة أسهل بكثير وكثير، والاستجابة لها أسرع، لأن أكثر الناس طلاب دنيا وأصحاب شهوات ولما ذكرنا من الأسباب والعقبات والصعاب في طريق دعوات الرسل نجد أنه لا يتبعهم إلا القليل فنوح، لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله ومع ذلك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} (هود: 40) .(31/182)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب" [81] .
وهذا إبراهيم الخليل قامع المشركين بالحجج الدامغة والبراهين قال الله تعالى في شأنه وشأن من آمن له {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (العنكبوت: 26) ، وهذا لوط يقول الله في نجاة من معه من العذاب ولعلهن بناته فقط {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذارايات: 35-36) .
ولا يغض ذلك من منازل الأنبياء مثقال ذرة بل هم في أعالي المنازل وهم أنبل الناس وأجل الناس وأكرمهم وفوقهم في كل شأن في الرجولة والشجاعة والفصاحة والبلاغة والبيان والنصح والتضحية وقد قاموا بواجبهم على أكمل الوجوه من الدعوة إلى التوحيد والتبليغ والتبشير والإنذار فإذا قل اتباعهم أو لم يتبع بعضهم أحد فالعيب كل العيب على الأمم التي رفضت الاستجابة لدعوتهم لأنها في نظرهم- لا تحقق لهم أغراضهم الدنيئة ومع ذلك ما كانوا طلاب ملك بل كانوا دعاة هداية وتوحيد ولا كانوا يعدون اتباعهم للثورات والانقلابات السياسية.(31/183)
وقد يهدي الله قوم نبي من الأنبياء فيستجيبون له أو كثير منهم فتكون لهم دولة، ثمرة طيبة، لإيمانهم وتصديقهم وأعمالهم الصالحة، فيقومون بواجبهم من الجهاد لإعلان كلمة الله وتطبيق التشريعات والحدود وغيرها من الأمور التي شرعها الله لهم كما حصلَ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام توج الله إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم الجميل على بغي المشركين وتطاولهم بأن نصرهم، وأظهر دينهم، ومكن لهم في الأرض كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ولقد عرض على رسول الله الملك بمكة فرفض إلا المضي في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك والأوثان أرسلت قريش- لما أقلقها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم- عتبة بن ربيعة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت بهم أحلامهم وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني اعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع". قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك منِ أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالاًَ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك حتى لا نقطع أمراًَ دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما(31/184)
قال- حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟ "قال: نعم. قال: "فاستمع مني". قال: أفعل. قال: {بسم الله الرحمن الرحيم ... حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك ... "فذهب عتبة إلى قريش فلما جلس إليهم. قالوا ما وراءك يا أبا الوليد. قال: ورائي إني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها لي خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوا الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم " [82] .(31/185)
وروى ابن إسحاق بإسناده إلى ابن عباس أنه اجتمع نفر من قريش وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- عرضا قريبا من عرض عتبة ومقالته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثتي إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم ... " [83] . ومن هنا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب بعض القبائل أن يكون الأمر لهم بعد موته إن صح هذا الخبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم، يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء"، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله، كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه" [84] .(31/186)
وخلاصة هذا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جاؤا لإسقاط دول وإقامة أخرى، ولا يطلبون ملكا ولا ينظمون لذلك أحزابا وإنما جاؤا لهداية البشر وإنقاذهم من الضلال والشرك وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتذكيرهم بأيام الله ولو عرض عليهم الملك لرفضوه، ومضوا في سبيل دعوتهم، وعرضت قريش الملك على رسول الله فرفضه وقد عرض عليه أن يكون ملكا نبيا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا. عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: "جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل، قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا. قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبداً رسولا" [85] .
ومن هنا ما كان يبايع الأنصار وغيرهم إلا على الجنة وكانت بيعة الأنصار في أحلك الظروف وأشدها فما كان فيها وعد بالمناصب لا الملك ولا الإمارات ولا بالمال وبغير ذلك من حظوظ العاجلة. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "إني من النقباء الذين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله، إلا بالحق، ولا ننتهب، ولا نعصي- بالجنة".(31/187)
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة فإن عليكم من المشركين عيناً، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم- وهو أبو أمامة: سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله عز وجل، وعليكم إذا فعلنا ذلك. فقال: أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأسألكم لي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم. قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة. قالوا: فلك ذلك" [86] .(31/188)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفى المواسم بمنى، يقول: من يؤيني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أومن مضر كذا فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك، ويمشى بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه، وصدقناه فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك. قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة. قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغرهم فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب، كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة، فبينوا ذلك، فهو عذركم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها أبداً، قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة" [87] .(31/189)
ومن هنا أيضا كان يربي أصحابه على القرآن والسنة وعلى الإيمان والصدق والإخلاص لله في كل عمل بعيداً عن الأساليب السياسية والإغراء بالمناصب العالية. فما كانَ يمنى أحداً منهم قبل دخوله في الإسلام أو بعده بمنصب في الدولة هذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد عظماء الصحابة وأقواهم شخصية ما كان يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمناصب ولا تتطلع نفسه إليها حتى جاء يوم خيبر أي بعد عشرين سنة من البعثة فاجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات هو والصحابة يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها "وقال عمر رضي الله عنه: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" [88] .
لأي شيء تطلع هؤلاء الصحابة الكرام الإمارة نفسها أم لنيل هذه المنزلة العظيمة حب الله ورسوله؟ ولماذا كان عمر بن الخطاب لا يحب الإمارة لو كان رسول الله يحببها إليهم ويربيهم عليها ويمنيهم بها. بل كان ينفرهم منها ويحذرهم من الحرص عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " [89] ، وينهى عن طلبها والحرص عليها، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" [90] .(31/190)
بل فوق كل هذه الأساليب يرسى قاعدة إسلامية تحرم المناصب على من يتعشقها ويحرص عليها، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمِّرنا على بعضِ ما ولاك الله عز وجل. وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا لا نولي على هذا العمل أحداًَ سأله ولا أحداًَ حرص عليه" [91] . وفي لفظ عند مسلم: "ما تقول يا أبا موسى أويا عبد الله بن قيس قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني انظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلعت، فقال: لن أو لانستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، فبعثه إلى اليمن ثم أتبعه معاذاً "، وفي النسائي: "إنا لا نستعين في عملنا بمن سألنا".
قال الحافظ. قال المهلب: "الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها- لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها، وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته. قال: ويستثنى من ذلك من تتعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال" [92] .(31/191)
وعلى كل حال فالإمارة والقضاء من الأمور التي لابد منها ولا تقوم حياة المسلمين إلا بها وبها تعصم الدماء والأموال. ولكن يجب أن نسلك في اختيار الأمراء والقضاء منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعطى هذه المناصب لمن يسألها أو يحرص عليها أو يرشح نفسه لها عن طريق الانتخابات مثلا فإن هذا من الحرص عليها، وإنما يختار لها الأكفاء علما وزهداً فيها وتقوى. ثم ينبغي أن نستفيد من هذا المنهج النبوي في التربية، فلا ينبغي أن ننشئ الشباب على حب القيادة والرئاسة والسيادة والإمارة فلو نشأناهم على حب هذه الأشياء خالفنا هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقعنا الشباب في المهالك وأي فلاح ننتظره في الدنيا والآخرة إن خالفنا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . (النور: 47_48) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"....
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الفطر الابتداء والاختراع، والفطرة: الحالة، كالجلسةِ والركبة
والمعنى. أنه يولد على نوع من الجبلة، والطبع المتهيئ لقبول الدين فلوترك عليها لاستمر على لزومها، وإنما يعدل بالآفة من آفات البشر والتقليد "النهاية لابن الأثير (3/457) .
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: في الفتح (3/248) .(31/192)
"اختلف الناس في المراد بالفطرة، وأشهر الأقوال، أن المراد بالفطرة. الإِسلام قال ابن عبد البر: هو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها"الإسلام
[2] أخرجه البخاري 23- كتاب الجنائز 79- باب إذا أسلم الصبي فمات يصلى عليه، حديث 1358، 1359، 92- باب ما قيل في أولاد المشركين حديث 1385، 65- كتاب التفسير، حديث 5 477. ومسلم، 46- كتاب القدر، حديث 22، 23، وأبو داود، 34- كتاب السنة 18- باب في ذرا ري المشركين، حديث 4714، وأحمد في المسند (2/ 5 31، 346، 393) ، (2/ 233، 275) ، ومالك في الموطأ (1: 241) 16، كتاب الجنائز. حديث (52) ، والترمذيَ في السنن (1/ 47 4) ، 33- كتاب القدر5- باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2138) ، وفي لفظ في البخاري ومسند أحمد والموطأ والترمذي "كل مولود يولد على الفطرة"
[3] نحلته أعطيته، والمراد: كل مال أعطيته عبداً من عبادي فهو له حلال، والمراد: إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصلة والبحيرة والحامي وغير ذلك، وإنها لم تصر حراماَ بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق.
[4] أي مسلمين.
[5] أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم، عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل.
[6] أخرجه مسلم (4/2197) ، 51- كتاب الجنة 26- باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث 63.
[7] من المناضلة، وهي: المرامات بالنشاب.
[8] الجشر: هي الدواب التي ترعى، وتبيت مكانها.
[9] الصلاة جامعة، هي: بنصب الصلاة على الإغراء، ونصب جامعة على الحال.
[10] أن يصير بعضها رقيقاً أي حفيفاً لعظم ما بعده.(31/193)
[11] ألف في بيان هذه الأسس الثلاثة الإمام الشوكاني كتابا سماه: "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد، والمعاد والنبوات "طبع دار الكتب العلمية ببيروت لبنان، وقد ساق أدلته من القرآن والتوراة والأناجيل.
[12] شرح الطحاوية ص 88 الطبعة الأولى 1392 نشر المكتب الإسلامي وأصله من كلام الإمام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم- رحمهما الله-.
[13] التفسير (365/5) .
[14] العلات- بفتح المهملة: الضرائر، وأصله من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى، كأنه علّ منها، والعلل: الشرب بعد الشرب وأولاد العلات: الإخوة من الأم، وأمهاتهم شتى "فتح الباري (6/ 9) وفى النهاية (3/ 291) ، الأنبياء أولاد علات "أولاد علات الذين أمهاتهم مختلفة، وأبوهم واحد، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة".
[15] أخرجه البخاري0 6- الأنبياء حديث (43 34) ، ومسلم (4/1837) 43- كتاب الفضائل، 0 4- باب فضل عيسى عليه السلام، حديث (45 1) وأحمد في المسند (2/ 319، 406، 482)
[16] إشارة إلى حديث أبي ذر أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/447) وأحمد في المسند (5/178) (5/ 179)
من طريق المسعودي عن أبي عمر الدمشقي عر عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر.
وابن حيان كما في الموارد رقم 94 وأبو نعيم في الحلية (1/ 166_168) وأشار إلى طرق أخرى أبي ذر، وأحمد (5/ 265) وابن أبي حاتم في تفسيره نقلا عن ابن كثير (2/423) والطبراني (8/258)
وهناك طرق أخرىَ عن أبي إمامه! عدد الرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أخرجه الطبراني (8/ 139) وابن حيان كما في الموارد رقم (2085) قال ابن كثير وهذا على شرط مسلم وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة.
[17] الاخشبانْ جبلان بمكة، هما أبو قبيس والجبل الذي تقَابله.(31/194)
[18] أخرجه البخاري 59- كتاب بدء الخلق، حديث (3231) ومسلم (3/ 421 1) ، 29- باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث (111) .
وفي الحديث بيان دعوة رسول الله وصبره في سبيلها وحلمه على قومه وانظر كيف استأنى بهم واستبقاهم من الهلاك الماحق الذي اشفوا عليه أملا في الله ورجاء أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويالها من غاية نبيلة لا يعرفها إلا من ذاق نعمة التوحيد وعرف مكانته.
[19] البداية والنهاية لابن كثيرِ (3/135) ، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ط دار الكتب العلمية بيروت (ص105)
[20] قال البخاري- رحمه الله في 64-: المغازي 26- باب من قتل من المسلمين يوم أحد، حديث 4078 حدثنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام، قال. حدثني أبي عن قتادة، قال: "ما تعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيداً أغر يوم القيامة من الأنصار قال: قتادة: وحدثنا أنس بن مالك، أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون ".
[21] عن خباب- رضي الله عنه- قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى- أو ذهب- لم يأكل من أجره شيئا وكان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا ما رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه خرجتَ رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإ ذخر..، أخرجه البخاري64- كتاب المغازي 26- باب من قتل يوم أحد حديث (4082) ومسلم كتاب الجنائز. (7/ 2) مع شرح النووي وأحمد في المسند (5 /09 1) . والنسائي (4/32)
[22] قصة استشهاده في البخاري 64- كتاب المعازي32- باب قتل حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- حديث (4072) ومسند أحمد (3/500،501)(31/195)
[23] عن أنس- رضي الله عنه- قال شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران129) أخرجه البخاري 64- كتاب المغازي 21- باب ليس لك من الأمر شيء، بدون رقم ومسلم (3/1416) ، 32- كتاب الجهاد والسير 37- باب غزوة أحد، حديث 104.
وفيه حديث سهل بن سعد برقم 101 بلفظ جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ".
[24] أخرجه الترمذي (2/4 0 6) ، 56- باب ما جاء في الصبر على البلاء، حديث (2398) وابن ماجة (2/ 1334) 13- باب الصبر على البلاء، حديث (4033) ، والدارمي (2/228) حديث 2786 وأحمد والمسند (1/ 172، 174، 180، 185) كلهم من طريق عاصم بن أبى النجود وهو صدوق له أوهام عن مصعب بن سعد قال: الترمذي حديث حسن صحيح.وفي تصحيح الترمذي له نظر وكأنه لاحظ في الحكم شواهده فإن له شواهدْ:
1_عن أبي سعيد الخدري أخرجه ابن ماجة (2/ 6334) 32- باب الصبر على البلاء حديث (24 0 4) قال في الزوائد إسناده صحيح نقلا عن محمد فؤاد.
2- من حديث فاطمة بنت اليمان أخرجه أحمد (6/329)
3- من حديث أبي هريرةَ أشار إليه الترمذي بقوله وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بعد إخراجه حديث سعد.
[25] اشارة إلى قول الله تعالى. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:123)
وإلى قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} سورة آل عمران الآية 95.(31/196)
[26] هذا العمل البطولي العظيم وماسبقه من دعوة حكيمة إلى التوحيد ونبذ الشرك في ميزان كثير من دعاةَ الإصلاح اليوم يعتبرِ من الاهتمامات بالقشور والتوافه فلا حوِل ولا قوة إلا بالله إنما لا تعمى الأبصار، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.
[27] إشارة إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. "الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام". أخرجه البخاري 0 6 كتاب الأنبياء باب 8 1 (3382، 0 339) وأحمد في المسند (2/96) . وإلى حديث أن هريرة رضى الله عنه سئل رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "من أكرم الناس؟ فقال اتقاهم لله، قالوا. ليس عن هدا نسألك، قال: فاكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". أخرجه البخاري 0 6 الأنبياء، حديث (3383) ، ِوالترمذي (293/5) التفسير، باب13، حديث (3116) ، "وأحمد في المسند (2/332، 416) كلاهما عن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
[28] هذه الآية قاعدة أساسية من قواعد التوحيد كما بين الله ذلك على لسان يوسف عليه السلام، ومن المؤسف جدا أن ترى كثيرا من دعاة الإصلاح السياسيين قد ابتعدوا بتفسيرها جدا عن مدلولها الأساسي إخلاص العبادة لله وحده إلى مدلول سياسي هو إقامة الدولة التي يزعمون انها ستطبق شريعة الله في الأرض بالنيابة عنه وبالغوا في هذا الاتجاه حَتى انسوا الناس المعنى الأصلي للآية ولا يفهمون عنها إلا المعنى الجديد فلا حول وِ لا قوة إلا بالله وهكذا عاملوا كل أو معظم آيات التوحيد وارتكبوا كل هذا تحت شعار الحاكمية وهذا شيء لم يسبقوا إليه فإلى الله المشتكي.(31/197)
[29] قال شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله- في الحسبة (ص 7)
"وكذلك يوسف الصديق كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان ".
[30] أخرجه مسلم (1/ 569) ، 6- كتاب صلاة المسافرين. 52- - باب إسلام عمرو بن عنبسة، حديث (294) وأحمد في المسند (4|112) .
[31] أخرجه الإمام أحمد (1/202) ، (5/ 290) قال أحمد ثنا يعقوب (يعني ابن إبراهيم ابن سعد الزهري) ثقة ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي عن أم سلمة بنت أبى أميه (يعنى أم المؤمنين رضي الله عنها) وهو إسناد صحيح إلا محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث فحديثه حسن.
[32] أخرجه البخاري 1- كتاب بدء الوحي باب 7- حديث 6 وهو حديث طويل.
[33] أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 284) ، وصححه، وذكره الذهبي في سير أعلام، النبلاء (1 /348) وقال وله إسناد صحيح، وانظر في الاستيعاب (1/145_146) والحلية لأبي نعيم (1/ 149) .
[34] (1/ 318) .
[35] السيرة لا بن هشام (1/ 320) .
[36] الطبقات لا بن سعد (8/ 264-265) قال أخبرنا إسماعيل بن عمر أبو المنذر، حدثنا سفيان الثوري، عن منصور عن مجاهد قال: فذكره وهو إسناد صحيح إلى مجاهد.
[37] الطبقات لا بن سعد (8/ 264) .
[38] رواه البخاري 2- كتاب الإيمان باب1 1- حديث 18، 63- كتاب مناقب الأنصار 43- باب وفود الأنصار، حديث (3892) ، ومسلم 29- كتاب الحدود 0 1- باب الحدود كفارات لأهلها، حديث (41_44) ، والنسائي (7/128) .
[39] البخاري 65- كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة 2- باب إذا جاءك المؤمنات مهاجرات حديث (4891) وابن ماجة (2/ 959) 24- كتاب الجهاد 43- باب بيعة النساء حديث (2874) 2- مسند أحمد (6/357) والنسائي كتاب البيعة باب بيعة النساء (7/134) .(31/198)
[40] أخرجه البخاري 65- كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة 3- إذا جاءك المؤمنات يبايعنك حديث (4892) ومسلم كتاب الجنائز (6/ 238) شرح النووي.
[41] مسند أحمد (6/ 379-. 38، 422-423) وفي إسناده سليط بن أيوب قال الحافظ. مقبول وقال الذهبي في الكاشف (1/ 88 3) وثق فهو حسن لشواهده.
[42] مسند أحمد (6/365) .
[43] في البخاري 65- كتاب التفسير 3- باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك حديث (4895) ومسلم 8- كتاب صلاة العيدين 8- باب صلاة العيدين حديث (1) والحديث طويل وفيه "فقال. يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا"فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم قال حين فرغ منها "انتن على ذلك، فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله ... "
[44] أخرجه مسلم 2 1- كتاب الزكاة 35- باب المسألة للناس حديث 18، وأبو داود 3- كتاب الزكاة، 72- باب كراهية المسألة حديث (1642) ، وأحمد (6/ 27) ، والنسائي (1/ 186) . وابن ماجة 24- كتاب الجهاد، 41- باب البيعة، حديث (2867) .
[45] وانظر كتابه إلى كسرى ملك الفرس في البداية والنهاية (4/ 369) بقريب من كتابه إلى قيصر.
[46] أخرجه مسلم 32- كتاب الجهاد 27- باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل حديث 75 (3/ 1397) ، والترمذي، 43- كتاب الاستئذان 23- باب في مكاتبة المشركين، حديث (6 271) من حديث أنس. وأحمد (3/336) من حديث جابر، للفظ "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس إلىكسرى وقيصر، وإلى كل حبار ".(31/199)
[47] الأريسيون: الفلاحون، ويقال لهمْ الاكارون، والمراد: اتباعه من الضعفاء وغيرهم لأنه صار سببا في استمرارهم على الشرك، وهذا عدل الله وسنته في الزعماء أنهم يحملون أوزارهم، وأوزار من يتبعوهم في الانحراف عن التوحيد والحق ومحاربته، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيئا".
[48] أخرجه البخاري 1- كتاب بدء الوحي 7- حديث 6، وهو حديث طويل اختصرناه وأحمد (1/262) .
[49] المصدر السابق.
[50] أخرجه مسلم 33- كتاب الجهاد2- باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث حديث (3) ، (3/356ا-357 1) . وأبو داود،9- كتاب الجهاد9- باب في دعاء المشركين، حديث (2 161) (3/83) ، والترمذي، 22- كتاب السير، 48- باب وصية النبي: صلى الله عليه وسلم في القتال، حديث (1617) (4/ 182) وابن ماجة 24- كتاب الجهاد، 38- بابا وصية الإمام، حديث (2858) .
[51] أخرجه البخاري64- كتاب المغازي 60- باب بعث أبي موسى ومعاد إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث (4347) ، 97- كتاب التوحيد 1- باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله تبارك وتعالى حديث 7372، ولفظ البخاري هنا "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك ... " الحديث، ومسلم 1- كتاب الإيمان75- باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث 29، 30 ولفظ الأخير، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وحل فإذا عرفوا ذلك ... " الحديث.
[52] التفسير (2/ 194- هـ 19) .(31/200)
[53] البخاري، 56- الجهاد، 102- باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، حديث (2946) ومسلم- كتاب الإيمان، 8- حديث (33) ، وأبو داود 9- الجهاد 4 0 1- باب على ما يقاتل المشركون، حديث (2640) وابن ماجة 36- كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله، حديث (3927) .
[54] أخرجه البخاري، 24- كتاب الزكاة 1- باب وجوب الزكاة، حديث (1399) ومسلم- كتاب الإيمان 8- باب حديث (33) .
[55] أخرجه مسلم 1- كتاب الإيمان 8، حديث 35 والترمذي، 48- كتاب التفسير، تفسير سورة الغاشية، حديث (1 334) (5/ 439) ، وابن ماجة 36- كتاب الفتن، باب (1) ، حديث (28 39) .
[56] أخرجه البخاري 2- كتاب الإيمان 17- باب، فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم حديث (25) ، ومسلم، 1- كتاب الإيمان باب 8 حديث (36) .
[57] تقدم تخريجه (ص هـ 4) .
[58] تقدم تخريجه (ص 6 4) .
[59] تقدم تخريجه (ص 46) .
[60] مسند الإمام أحمد (1/ 362) والترمذي 48 _ كتاب التفسير، تفسير سورة (ص) حديث (3232) وفى إسناده يحي بن عمارة ويقال ابن عباد ذكره ابن حبان في الثقات تهذيب التهذيب (11/259) وقال الحافظ مقبول.. تقريب (2/354) وقال الذهبي: وثق الكاشف (3/ 224) ورواه ابن جرير (23/ 165) بإسناده إلى الأعمش ثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه من طرق إلى الأعمش عن يحي بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولم أقف لعباد على ترجمة وفي الإسناد ضعف وقد يحتمل التحسين.
ملاحظة في مسند أحمد عباد بن جعفر ولم أقف له على ترجمة وقد نص ابن كثير أن أحمد رواه عن عباد غير منسوب انظر تفسير ابن كثير (7/46) .(31/201)
[61] المنتخب في المسند عبد بن حميد (ص 208) رقم (1121) ومسند أبى يعلى الموصلي (ل 101) كلاهما عن أبى بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن محمد عن الاجلح عن الذيال بن حرملة الأسدي عن جابر- رضي الله عنه- مرفوعا قال ابن كثير في تفسيره (7/ 151) بعد أن ساق الحديث بإسناده عن عبد بن حميد وأبى يعلى. "وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الاجلح وهو ابن عبد الله الكندي وقد ضعف بعض الشيء عن الذيال ... "لكن الحافظ قال فيه "صدوق شيعي من السابعة"تقريب (1/ 46) وقال الذهبي: وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وهو شيعي "الكاشف (1/ 99) وشيخه الذيال قال الحافظ عن جابر وابن عمر والقاسم بن مخيمرة وعنه فطر بن خليفة وحصين والأجلح وحجاج بن أرطأة وثقه ابن حبان تعجيل المنفعة (84) وبقية رجال الإسناد ثقات.
[62] أخرجه البخاري 46- باب المظالم حديث (2477) ، و 64- كتاب المغازي48- باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم رايته يوم الفتح، حديث (4287) وه 6- تفسير سورة الاسراء2 1- باب "وقل جاء الحق وزهق الباطل، حديث (4720) ومسلم 32- كتاب الجهاد 32- باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، حديث (87) والترمذي 48- كتاب التفسير 18- تفسير سورة الإسراء حديث (38 1 3) . والإمام أحمد في المسند (1 /377) .
[63] البخاري 64-كتاب المغازى 62- باب غزوة ذي الخلصة، أحاديث (4355، 4356، 4357) ، ومسلم 44- كتاب فضائل الصحابة، 29- باب من فضائل جرير بن عبد الله- رضي الله عنه-، حديث (136، 137) . وأبو داود 9- كتاب الجهاد، 172- باب بعثة البشراء (2772) (3/5 1 2) والإمام أحمد في المسند (4/ 0 36، 362) .(31/202)
[64] أخرجه النسائي في التفسير في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/ 235) أخبرنا على بن المنذر أخبرنا ابن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل، لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة.. "الحديث، وهو إسناد حسن. وانظر تفسير ابن كثير (7/429 -430) .
[65] السيرة لابن هشام (1/ 5 8- 86) .
[66] السيرة لابن هشام (2/ 0 54- ا 54) . وابن جرير (3/0 4 1) ، والبداية والنهاية (5/ 32) ط مكتبة المعارف وعيون الأثر لابن سيد الناس (2/228) وزاد المعاد (3/ 499-500) .
[67] ابن ماجة 4- كتاب المساجد، حديث (743) ، وأبو داود 2- الصلاة، حديث (450) ورجاله ثقات إلا محمد بن عبد الله ابن عياض "مقبول ".
[68] في التفسير (27/58، 59) ، والسيرة لابن هشام (78 9 8) وقد أطال النفس في الحديث عن أصنام العرب ومعبوداتها وبيان عبادتها.
[69] في الصحيح 65- كتاب التفسير، تفسير سورة النجم 2- باب "أفر أيتم اللات والعزى".
[70] أخرجه مسلم 11 _كتاب الجنائز، 31- باب الأمرِ بتسوية القبر، حديث (93) ، وأبو داود 15- كتاب الجنائز، 72- باب في تسوية القبر، حديث (3218) ، والترمذي8- كتاب الجنائز: 56- باب ما جاء في تسوية القبور، حديث (49 0 1) والنسائي (4/ 73) . وأحمد في المسند (1/ 96، 29 1) .
[71] أخرجه مسلم 1- كتاب31- باب الأمر بتسوية القبر حديث (92) وأبو داود 15- كتاب الجنائز:72- باب في تَسوية القبور، حديث (19 32) ، والنسائي (4/ 72-73) .
[72] أخرجه مسلم 11- كتاب الجنائز، 32- باب النهي عن تجصيص القبور والبناء عليها حديث (94) وأبو داود 15- كتاب الجنائز، 76- باب في البناء على القبر حديث (3225) ، والنسائي (4/72) .
[73] أخرجه مسلم 11 - كتاب الجنائز 33- باب النهي عن الجلوس على القبر حديث (97،98) وأبو داود، 5 1- كتاب الجنائز، ِ 77- باب كراهية القعود على القبر، حديث (3229) .(31/203)
[74] مالك في الموطأ 9- كتاب قصر الصلاة في السفر 24- باب جامع الصلاة حديث85 مرسلا وأحمد (2/246) تنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة-رضي الله عنه – مرفوعا وابن سعد في الطبقات (2/ 240- ا 24) من طريق مالك به، (2 /241-242) من طريق سفيان عن حمزة به وأبو نعيم في الحلية (7 /317) من طريق سفيان عن حمزة به.
[75] أخرجه مسلم 5- كتاب المساجد 3- باب النهي عن بناء المساجد على القبور حديث (23) ، والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الإشراف (2/443) وأبو عوانه (1/ 1 40) والطبراني (2/ 180) حديث (1686) . وابن سعد في الطبقات (2/ 0 24) مختصرا.
[76] أخرجه البخاري 23- كتاب الجنائز. 1 6- باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث (1330) وباب 96- حديث (1389) ومسلم، 5- كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور حديث (9 1) عن عائشة، وحديث (22) عن عائشة وابن عباس- رضي الله عنهم- والنسائي (2 /33) والإمام أحمد في المسند (1/218) ، (6/ 34) والدا رمي (1/ 267) .
[77] برود باليمن منسوبة إلى معافر وهي قبيلة باليمن (لابن الأثير) .
[78] ر واه أحمد في مسنده (5/ 4 0 2) والطبراني في الكبير (1/ 27 1) حديث (393) ، (1/ 131) حديث (411) والطيالسي في مسنده (ص 88) حديث (634) وفي إسناده قيس بن الرميح الأسدي قال الحافظ "صدوق تغير لما كبر وادخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، وفيه كلثوم الخز اعي قال فيه الحافظ (مقبول) لكنه مع ذلك يصلح في الشواهد.(31/204)
[79] أخرجه الإمام أحمد (195/1) ثنا أبو أحمد الزبيرى، ثنا إبراهيم بن ميمون عن سعد بن سمرة عن سمرة بن جندب عن أبى عبيدة بن الجراح أبو أحمد الزبيرى ثقة ثبت/ع وإبراهيم بن ميمون مولى آل سمره وثقه ابن معين وقال أبو حاتم محله الصدق (تعجيل المنفعة) (ص. 2) وسعد بن سمره وثقة النسائي وابن حبان تعجيل (ص 101) ، فهو إسناد صحيح إن شاء الله.
[80] أخرجه البخاري97-كتاب التوحيد 2- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص اغير من الله، حديث (7416) ، ومسلم 19- كتاب اللعان حديث (17) (2/ 136 1) ، وأحمد في المسند (4/248) . والدارمي (2/73) ، حديث (2233) .
[81] أخرجه البخاري 76- كتاب الطب 17- باب من اكتوى أو كوى غيره حديث (5 570) ، ومسلم 1- كتاب الإيمان 94- باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، حديث (374) . وأحمد في المسند (1/ 271) .
[82] أورده ابن إسحاق في السيرة، قال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرطبي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وساق القصة. السيرة لابن هشام (1/293_294) ولها شاهد من حديث جابر أخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى تقدم تخريجه وبه تتقوى القصة وتعتضد.
[83] السيرة لابن هشام (1/295_296) قال ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: اجتمع نفر من قريش عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان ... "وهذا يقوى ما قبله ويشد كل منهما الآخر.
[84] السيرة لابن هشام (1/ 424-425) والسيرة النبوية للذهبي (ص 89 ا- 190) .(31/205)
[85] مسند أحمد (2/ 1 23) وابن حبان كما في الموارد (ص هـ 52) رقم (37 1 2) كلاهما من طريق محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة- رضي الله عنه- قال الألباني وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم- الصحيحة (3/4) - وله شاهد من حديث ابن عباس قال الألباني أخرجه البغوي في شرح السنة (3/473) وسنده ضعيف "لكني لم أجده في الموضع المشار إليه ".
[86] رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 19 1-. 12) قال: ثنا يحي بن أبى زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبي عن عامر يعني الشعبي. ثم رواه بهذا الإسناد عن مجالد عامر الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري ثم رواه بهذا الإسناد عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي يقول: ما سمع الشيب ولا الشبان خطبة مثلها.
وقد تابع أبا الزبير الإمام الشعبي رحمه الله قال البزار رحمه الله "حدثنا محمد بن معمر، ثنا قبيصة ثنا سفيان عن جابر وداود (هو ابن أبى هند القشيرى، ثقة متقن، كان يهم في آخر حياته التقريب) عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: "تؤوني وتمنعوني قالوا: نعم، فما لنا. قال الجنة"، قال البزار لا نعلمه يروى عن الشعبي إلا بهذا الإسناد انظر كشف الإسناد (2/ 307) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث وحكى تصحيح بعضها وحسن بعضها وقوى بعضها انظر فتح الباري (7/222_223) .
[87] أخرجه الإمام أحمد (3/ 322) : ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر، (3/ 339) : ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا يحي بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير أنه حدثه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في موارد الظمآن (ص 408) والحاكم (2/ 624) وصححه ووافقه الذهبي.(31/206)
[88] أخرجه مسلم 44- كتاب الفضائل 4- باب فضائل علي رضي الله عنه حديث (33) عن أبي هريرة وحديث (34) عن سهل بن سعد وفيه. فباتوا يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها وفيه رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
وحديث (32) عن سعد بن أبي وقاص وفيه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال: فتطاولنا لها". والسبب هو ما ذكرناه حرصهم على هذه المنزلة الرفيعة عند الله لا على الإمارة نفسها.
وأخرجه البخاري 56- كتاب الجهاد 143- باب فضل من اسلم على يديه رجل حديث (09 30) ، 62- كتاب فضائل الصحابة. 9- باب مناقب علي رضي الله عنه حديث (3701) .
والترمذى0 5- كتاب المناقب باب 1 2- حديث (4 373) . (5/438) وابن ماجة في المقدمة 11 – حديث (117) إسناده ضعيف فيه محمد بن أبي ليلى وهو ضعيف.
[89] أخرجه البخاري 93- كتاب الأحكام، 7- باب ما يكره من الحرص على الإمارة حديث (48 71) والإمام أحمد في المسند (2/448) والنسائي في كتاب آداب القاضي (8/ 199) .
"نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها وبنت الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة"فتح الباري (126/13) .
[90] البخاري 93- باب من سأل الإمارة وكل إليها حديث (47 71) ومسلم 33- كتاب الإمارة 3- باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها حديث 13- والنسائي (198/8) .
[91] (3) البخاري 93- كتاب الأحكام 7- باب ما يكره من الحرص على الإِمارة (49 71) ومسلم 33- كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة، حديث 4 1، 15 (3/ 456 1) والنسائي (8/198) .
[92] فتح الباري (13/ 126) .(31/207)
دفاعٌ عنِ العقوُباَت الإسلامِيةِ
للشيخ محمد بن ناصر السحيباني
عميد كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد:
فقد سبق أن وعدت في مقالة سابقة تكلمت فيها عن مزايا التشريع الإسلامي، وأشرت إلى ما تتعرض له الشريعة الإسلامية من استنقاص وازدراء من قِبَل أعدَائها، ومن قبل من يتظاهرون بأنهم من أبنائهَا، وقد وعدت في تلك المقالة أن أخص العقوبات الإسلامية بكلمة مختصرة موجزة، أبين فيها ما تبين من وجوه الحكمة فيها، وما تمتاز به عن العقوبات التي وضعها الإنسان وضعا ارتجاليا متأثراًَ بأهوائه ورغباته، مسترشدا بنظره القاصر، وتفكيره المحدود، وقبل أن أدخل في موضوع العقوبات، أقدم بكلمة قصيرة عن الجريمة ونظرة الإسلام إليها، فأقول مستعينا بالله:
أولا: تعريف الجريمة:
الجريمة عند أهل اللغة تأتي بمعنى الجناية وبمعنى الذنب. قال في اللسان: "وجرم إليهم وعليهم جريمة وأجرم: جنى جناية" [1] .
وفي تاج العروس، والجرم بالضم الذنب كالجريمة. وقال: والمجرمون في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الكافرون لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها قاله الزجاج [2] ، والذي يلفت النظر، أن لفظة الإجرام وردت في كثير من الآيات الكريمة، وكلها والله أعلم يقصد بها الكافرون أو المشركون ونحوهم من المكذبين والمنافقين. كما نقله صاحب التاج عن الزجاج، كما ورد في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الأنعام: 124.(31/208)
وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} . (طه: 74) [3] .
أما عند الفقهاء فقد عرفها الماوردي بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير " [4] .
وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} ، (المعارج: 11) ، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35) ، وهي تصل إلى أكثر من خمسين آية [5] ، بينما في السنة لم ترد هذه الكلمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حالات قليلة جدا، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين جرماًَ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته". أخرجه البخاري [6] .
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قيل لها إن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب ببكاء الحي، قالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما قال إن أهل الميت يبكون عليه، وأنه ليعذب بجرمه" [7] .
ولم تستعمل هذه الكلمة من قبل الفقهاء في الصدر الأول بمعنى الجناية إلا في حالات قليلة، فقد بوب البخاري رحمه الله في كتابه على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته المشهورة لما تخلّف هو ومن معه عن غزوة تبوك، بوب بقوله: باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه [8] مع أن الحديث كما هو معروف لم يتضمن هذه الكلمة، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أن رواية ابن التين الإسماعيلي والجرجاني، لم تكن بلفظ المجرِمين، وإنما بلفظ المحبوس بدل المجرمين. كما بوب في الديات بقوله: باب إثم من قتل ذمياًَ بغير جرم، وساق حديث عبد الله ابن عمرو بهذا الصدد [9] ، مع أنه لم يتضمن هذه الكلمة، ومثل ذلك فعل في كتاب الجزية فعنون بهذا العنوان وساق الحديث.(31/209)
فقد يكون السلف رضي الله عنهم يتحرجون من إطلاق هذه الكلمة في حق العصاة من المسلمين لما لاحظوه من ورودها في القرآن الكريم في حق الكفار في أكثر المواضع، وإن كان لا يمتنع استعمالها لغة في هذا الموضع، أعني موضع الجناية ... والله أعلم.
ثانيا: نظرة الإِسلام إلى الجريمة:
إنه باستقراء النصوص من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة نلاحظ أن نظرة الإسلام إلى الجريمة- الجناية- نظرته إلى الظاهرة العادية فهو يعتبر الجريمة جزءً من المجتمع الإنساني لا تنفك عنه. فكما أن النقص والتقصير لا ينفك عن الإنسان، وبالتالي عن المجتمع الإنساني، فإن الجريمة كذلك، فهي ليست إلا صورة من صور النقص والتقصير الذي يعتبر صفة ملازمة لبني آدم في هذه الحياة يقول سبحانه وتعالى عن الإنسان: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} . (عبس: آية 17) {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 6) . {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} . (الإسراء: 11) . {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} . (الأحزاب: 7 2) وفى الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله تبارك وتعالى قوماً يذنبون فيغفر لهم". رواه أحمد [10] ، وفى الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" [11] . أخرجه الترمذي. وقال: "هذا حديث غريب"، والحديث وان اختلف في صحته فمعناه صحيح.(31/210)
إذن فالجريمة بحد ذاتها كظاهرة اجتماعية، تعتبر في نظر الإسلام أمراً مسلما به، ولابد منه لأن الكمال لله سبحانه، والعصمة لله وحده. ولكن كونَ الجريمة ظاهرة لابد منها، لا يعني هذا أنه يسلم بوجودها وتترك في المجتمع لتنمو وتنتشر وتتكاثر دون أن تستنكر وتحارب، بل إن الإسلام وضع لها الحل السليم والعلاج الشافي والحكم العادل، فالإسلام يحارب تكاثر الجرَيمة وتصاعدها، إلا أنه من الأمور المسلم بها أنه لا يمكن بحَال من الأحوال أن يخلو مجتمع من جريمة، ولو كان ذلك ممكناً، لكان المجتمع النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، لكان هذا المجتمع أولى المجتمعات وأقريها إلى الخلو من الجريمة وأحراها بالقضاء عليها، إلا أنه من المعروف أن هذا المجتمع الطاهر النظيف قد وجدت فيه الجرائم على اختلاف أنواعها، فالإسلام لا ينظر إلى المجتمع الإنساني نظرة مثالية خيالية، تهدف إلى إنهاء الجريمة من الَمجتمع والقضاء عليها قضاء مبرماً، لأن من المبادئ الرئيسية أن الإنسان مبتلى بالخير والشر- والله سبحانه قد سلط عليه الشيطان، ابتلاءً وامتحاناً، فمادام الشيطان موجوداً، فالجريمة موجودة لأنه هو الذي يوسوس بها في نفس الإنسان، وهو الذي يدعوه إلى ارتكابها ويحسنها له {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: 120) {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39-0 4) .(31/211)
والآيات بهذا الشأن كثيرة جدا والمسألة واضحة. إلا أن الإسلام وهو يسلّم بوجود الجريمة لا يتركها هكذا كما أسلفت بل يسعى إلى تقليلها، ووضعهاَ في حجم معين ويسعى إلى حصر آثارها والتخفيف من نتائجها، ومن ناحية أخرى فالإِسلام بهذه النظرة لا يقطع خط الرجعة على المجرمين، بل يدعوهم ويطالبهم بالعودة إلى المجتمع، ويعيد لهم اعتبارهم، ولا يجعل من مقار فتهم للجريمة أياً كانت سبباً في نبذهم وطردهم إلا بقدر محدود، عندما يصرون على ارتكاب الجريمة وير تكسون في الإجرام حيث لا تجدي فيهم الموعظة [12] ، فإنه في هذه الحالة ينتقل إلى العقوبة ومع العقوبة كذلك لا يعتبرهم منبوذين، بل يعتبرهم جزء من المجتمع، ويترك لهم الفرصة ليعيدوا الاعتبار إلى أنفسهم إذا كانوا أحياء، وإذا كانوا في عداد الأموات- في حالة العقوبة المتلفة- فهو يعتبرهم مسلمين، لهم ما للمسلمين من حقوق واحترَام، في الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سب المرأة التي رجمت من الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.(31/212)
وقال لعمر رضي الله عنه عندما قال: تصلي عليها وقد زنت. "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله". رواه مسلم وغيره، في بعض روايات قصة ماعز بن مالك الأسلمي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائلا رجله. فقال: "أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: "كلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أخيكما أنفاَ أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". رواه أبو داود.
ولما جاءوا بالسارق بعد قطعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل استغفر الله وأتوب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه". رواه أحمد وأبو داود.
ولما أتي بشارب خمر وأمر الناس بضربه، فقال بعض القوم أخزاك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". رواه أحمد والبخاري.
فهذه النصوص وأمثالها تؤكد ما أشير إليه من أن المسلم إذا ارتكب جرماً مهما كان لا يبرر نبذه وطرده، ولكن تقام عليه العقوبة المقررة شرعاً، وفق الأحكام الشرعية في الإثبات والحكم والتنفيذ، ويعاد له اعتباره بعد ذلك حيا كان أو ميتاً إذا تاب وصلحت توبته.
العقوبة ضرورة اجتماعية [13] :(31/213)
تعتبر العقوبة من الأمور الضرورية للمجتمعات، ولا يمكن أن يعيش مجتمع دون أن تفرض فيه عقوبة، فكما أن الجريمة جزء من المجتمع ملازمة له ولا يتصور وجود مجتمع بدون جريمة، فكذلك لا يتصور وجود مجتمع بدون عقوبة، فالعقوبة تعتبر رد فعل للجريمة، ولذلك نجد حتى في المجتمعات الحيوانية ومجتمع الطيور والحشرات نجد العقوبة فيما بينها يوقعها بعضها على بعض.
والمجتمعات الإنسانية وان كانت العقوبة موجودة فيها، إلا تفاوتاً كبيراً بين مجتمع وآخر في مدى تأثير هذه العقوبة، ونتائجها في المجتمع وذلك من حيث تناسب العقوبة مع الجريمة باعتبارها رد فعل، فما لم يكن رد الفعل متناسباَ مع أن هناك الفعل بل مساوياً له، فإن العقوبة تكون في هذه الحالة فاشلة في علاج الإجرام.
والذي يحصل أن كثيراً من المجتمعات في العقوبة تفرق بين الإفراط والتفريط فبعضها يتشدد في العقوبة ويقسو حتى تكون العقوبة أكبر من الجريمة، مما يدفع بالمجرم أو عائلته أو عصابته أن يسعوا في استعادة الفرق، وقد تكون العقوبة أقل من الجريمة بحيث تغرى المجرم بالعودة إلى الجريمة أو تدفع المعتدى عليه إلى الأخذ ببقية حقه بنفسه، أما بالنسبة للمجتمعات المفرطة في العقوبة المتساهلة فيها فأمثلتها كثيرة ونستطيع أن نقول إن أكثر الدول الغربية في الوقت الحاضر ومن سار في ركابها من الدول الإسلامية على هذه الشاكلة، من تدليل المجرم وعدم معاملته بحزم.(31/214)
أما المجتمعات المفرطة المتشددة فمنها بعض المجتمعات الغربية إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فقد عرفت بريطانيا في القرن التاسع عشر التشهير بمرتكبي جنايات الغش في مواد التموين، فكان الخباز الذي يبيع خبزاً يقل وزناَ عن الوزن القانوني، يربط إلى إطار خشبي ويتدلى عنقه من فتحة الإطار، وقد علق بعنقه رغيفٌ، وربما عوقب بوضع أصابع اليدين في آلة ضاغطة أو بالضغط عَلى الساقين، وعرفت الصين حتى تاريخ حديث ألوانا من العقوبات القاسية، كوضع ألواح من الخشب حول أعناق المتهمين ليتمكن الناس من معرفتهم عندما يمرون بهم وقد وقفوا خارج جدار السجن [14] . وفى الهند أشد وأبشع فقد نشرت جريدة الرياض في أحد أعدادها أن وكالات الأنباء الهندية أعلنت أن إحدى النساء أرغمت خادمتها البالغة من العمر خمسة عشر عاما على غمس يديها في زيت حار لإثبات برائتها من تهمة سرقة ساعة وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة راجكوت غربي الهند. وقالت الوكالة أن الضحية مانجو لا ديفي نفت التهمة التي وجهتها لها سيدتها بسرقة ساعة، وعندها قامت السيدة التي لم يعلن عن اسمها بإرغام الخادمة على غمس يديها في زيت كان يغلى على النار لإثبات أنها لا تكذب والجدير بالذكر أن مثل طرق التعذيب هذه مألوفة في الريف الهندي، ومن أمثلتها قيام الشرطة الهندية بفقأ عيون عشرين متهما في جرائم السرقة في ولاية بيهار الهندية الشرقية مؤخرا [15] وكل هذه المجتمعات المفرطة منها والمفرطة فشل في محاربة الجريمة، ولا يرجع فشل هذه المجتمعات في محاربة الجريمة لمجرد أن العقوبات لا تتناسب مع الجرائم، بل هناك أمر مهم وهو أن هذه المجتمعات المفرطة والمفرطة لا تؤمن بشرع الله ولا تحكم بحكم الله بل تتبع الهوى في أحكامها وأنظمتها وتتخبط في اجتهادها ولذلك لا يمكن أن تصل إلى نتيجة مرضية وحالة مسعدة والله تعالى يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ(31/215)
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . (المؤمنون: 71) .
أما الشريعة الإسلامية فإنها في عقوباتها متوسطة لا إفراط ولا تفريط خاصة عندما تطبق بأمانة وعدالة، فإنَها تؤثر تأثيرا بالغاً في التقليل من الإجرام والحد منه.
الحكمة من العقوبة:
إن الحكمة من العقوبة بصفة عامة هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.
وللعقوبة من ناحية أخرى أهداف ترجع إلى الجاني وأهداف ترجع إلى عموم الناس، فبالنسبة للجاني تهدف العقوبة إلى استصلاحه وزجره إذا لم تكن العقوبة متلفه (قتلا) ، وبالنسبة لسائر الناس فإن العقوبة تهدف من ناحية إلى حماية مصالحهم الضرورية في الأعراض والأموال والأبدان، والعقول، وغير ذلك من المصالح، ومن ناحية أخرى تهدف إلى ردع المجرمين وتخويفهم وتحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه المتهم فيحل بهم مثل ما حل به من العقوبة.
هل العقوبات الإسلامية قاسية:(31/216)
تعرضت العقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم، لتأديب المجرمين وزجرهم وردعهم، من جلد وهجر أو قطع أو رجم أو قتل، لقد تعرضت للهجوم والسخرية والاستهزاء من قبل كثير من الكتاب، فتارة توصف بأنها وحشية وتارة توصف بأنها عقوبات قاسية قديمة ولا تليق بالعصر الحديث، ومن المؤسف أن نجد مثل هذا الانتقاد عند بعض الكتاب المسلمين، فهذا أحد الكتاب وهو يتحدث عن العقوبات وتطورها يقول: والتعويض المدني يمتاز عن الدية بأنه مرن يزيد وينقص حسب مقدار الضرر الناتج عن الجريمة، كما أنه يمتاز عن القصاص في أنه لا يقصد به مجرد الانتقام من الجاني وإنما يقصد به إزالة الضرر الواقع على المجني عليه إذا أمكن، أو تعويضه عن هذا الضرر ليخفف أثره إذا لم تكن الإزالة ممكنة، كما أن التعويض المدني يمتاز عن الدية والقصاص في أنه حق مدني منفصل عن العقوبة فيمكن للمجني عليه أن يتنازل عنه، ولكن ذلك لا يعفى الجاني من العقوبة التي هي حق للمجتمع [16] وهذا كلام جاهل بالشريعة، وإلا فأي مرونة أكثر من المرونة في تقاد ير الديات في التشريع الإسلامي وتقديرها بحسب الضرر الذي يصيب المجني عليه، ولم تبلغ شريعة من الشرائع ولاَ نظام من الأنظمة ما بلغته هذه الشريعة في تقدير الديات بحسب الإصابة، حتى قدروا للظفر ديته، وللشعر ديته، ولكل جرح بحسب غوره في البدن ديته التي تناسبه، فأي مرونة أكثر من هذه المرونة، ومن ذا الذي يجهل أن للمجني عليه أن يتنازل عن الدية، بل هو مدعو إلى ذلك ومرغّب فيه، كما أن التنازل عن الدية لا يعنى الإعفاء من المسئولية مطلقا، بل لولى الأمر أن يعزر الجاني تعزيراً مناسبا، كل هذه المعلومات يدركها أقل المسلمين اطلاعا، ولكنه الجهل أو التجاهل.(31/217)
وفي موضع آخر يقول: "ومنذ بدأت حركة إصلاح النظم الجنائية في العصور الحديثة أصبحت العقوبات البدنية محل هجوم شديد من ناحية الفلاسفة والمصلحين، باعتبار أنها تتضمن امتهاناً لكرامة الإنسانية الواجب رعايتها حتى بالنسبة للمجرمين ... "إلى أن قال: "ولم تشذ التشريعات العَربية عن تأثير المذاهب الإصلاحية بل نرى أن التطور التشريعي في بلادنا يأخذ نفس الاتجاه ... "ثم يمضى في كلامه ... "ورغم أن الاتجاه الحديث يرمى إلى الغاء هذه- العقوبات الجسمانية، لما يترتب عليها من مهانة وإذلال للآدمي بمعاملته معاملة الحيوان، فإن بعض المؤلفين يرى ضرورة بقائها في أحوال معينة، ولكن الاتجاه الغالب في العالم المتحضر يدعو إلى الغائها باعتبارها لا تتناسب مع المدنية الحاضرة" [17] أما عقوبة القتل فهي بزعمهم أصبحت محل نقد كثير من الفلاسفة والباحثين، لأنهم يرون أن القتل إجراء وحشي لا يجوز أن يرتكبه المجتمع ضد أحد الأفراد لأي سبب كان مادام يمكن الاستعاضة عنه بالسجن المؤبد [18] .
وعن عقوبة الجَلد: لقد تأثرت التشريعات المعاصرة بالنقد الموجه إلى عقوبة الجلد أو الضرب ذلك النقد الذي يستند إلى منافاتها لكرامة البشرية إذ أن استعمال الضرب في تأديب الإنسان تشبيه له بالحيوان ونزول به إلى مرتبة الدواب مما يتعارض مع الاحترام الذي تقتضيه الَصفة الإنسانية التي لا يمكن نزعها عن الشخص لمجرد أرتكابه جريمة [19] . هذا نموذج من النماذج الكثيرة. ونحن نرد على هؤلاء المتهجمين بردين رد مجمل ورد مفصل مع الاختصار الذي يقتضيه المقام.
فأما الرد المجمل:(31/218)
فإن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الإسلامية أحد رجلين، أما كافر بالإسلام لا يؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم، فبالنسبةَ للكافر فإن القضية مع الكفار أكبر وأعظم من أن تقف عند فرع من فروع الدين فهم أصلا لا يؤمنون بالله سبحانه ومن يزعم منهم أنه يؤمن بالله فهولا يؤمن به الإيمان الصحيح الكامل، ولا ينطلق في إيمانه من تصور صحيح. فهم لا يؤمنون بالرسول ولا يقرون برسالته ولا يؤمنون بالقرآن ولا بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء. وهذه القضايا أخطر وأكبر من قضية العقوبات. فمادام هؤلاء لا يسلمون بأصول الدين ولا يسلمون لله سبحانه بالحكمة والعدالة والرحمة، بل إنهم ليتهجمون على الشريعة الإسلامية ويسخرون منها فمن باب أولى ألا يسلموا بما دون ذلك. وأما المسلم الذي يتهجم على العقوبات الإسلامية فإما أن يكون متظاهرا بالإسلام مجرد تظاهر وهو يبطن الكفر والإلحاد والنفاق، فهذا شأنه شأن الفريق الأول، وإما أَن يكون مسلما ضعيفا جاهلا، فهذا ينبغي أن يعرف أنه لا يصح إيمانه حتى يسلم بكل ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، متصف بكل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص فأحكامه وشرائعه تبدو فيها صفاته من الحكمة والرحمة وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه ولكن مقتضى الإيمان أن نسلم لله سبحانه بكل ما شرعه لنا، وإن كان هذا لا يمنع أن نتحرى الحكمة ونبحث عن أسرار التشريع بأدب مع الله سبحانه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الرد المجمل باختصار.
أما الرد المفصل فإنه:
يحتاج منا إلى وقفات وهى وقفات سريعة حيث أن المقام لا يتحمل الإطالة.
الوقفة الأولى:(31/219)
مقارنة العقوبات الإسلامية بالعقوبات في المجتمعات الأخرى لنرى مدى القسوة والشدة فيهما، ولقد تطرق الأستاذ عبد القادر عوده رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي إلى شيء من ذلك فقال: "فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام" [20] .
ويقول في موضع آخر وهو بصدد الحديث عن أساس المسئولية الجنائية، "كانت القوانين الوضعية في العصور الوسطى والى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الِإنسان والحيوان بل والجماد محلا للمسئولية الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كما يعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، وكانت العقوبة تَصيب الأموات كما تصيب الأحياء، ولمِ يكن الموت من الأسباب التي تعفى الميت من المحاكمة والعقاب. ولم يكن الإنسان مسئولا جنائياً عن أفعاله فقط وإنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان على هذا الغير، فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرءاء من جنايته.(31/220)
وكان الإنسان يعتبر مسئولا جنائيا عن عمله، سواء كان رجلا أو طفلا مميزا أو غير مميز وسواء كان مختَارا أو غير مختار، مدركا أو فاقد الإدراك وكانت الأفعال المحرمة لا تعين قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب ... " الخ [21]
وكان من الممكن في بعض الشرائع القديمة بل وفي العصور الوسطى في أوربا نفسها أن توقع العقوبات الجنائية على حيوان، أو على جثة الجاني بعد موته أو على من به مس من الجنون [22] .
ولقد ألمحتُ في الفقرة السابقة إلى بعض العقوبات القاسية التي تمارس في بعض المجتمعات كما في الهند والصين- فالعقوبات الإسلامية كما نلاحظ من هذا العرض المختصر المقارن أشد ما تكون قتلا أو قطعا ومع ذلك فعدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يجاوز العشر أو الخمس، والجرائم التي يعاقب عليها بالقطع جريمتان فقط. وسوف نلاحظ فيما بعد الحكمة الدقيقة في سن هذه العقوبات للجرائم الخاصة بها.
والقوانين الوضعية وإن كان أغلبها في العصر الحاضر قد استبدل عقوبة الحبس المؤبد بعقوبة الإعدام وصارت تركز على عقوبة السجن مؤقتا أو مؤبدا فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجل ليس إلا قتلا بالتقسيط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.
ولقد لخص "عودة"رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط مؤيدة بالأرقام الإحصائية فذكر منها [23] :
أولا: إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.(31/221)
ثانيا: إفساد المسجونين ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكره رحمه الله. فحاصل ما ذكر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.
إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.
ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.
رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.(31/222)
ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجرمين وكيف كانت نهايتهم المحزنة، وأن الجريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة رحمه الله.
خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.
سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.
سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.(31/223)
ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة"رحمه الله ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركاب الإجرام نتيجة الانحراف الذي ينجرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.
ولكننا نقول أولا إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كما ذكر "عودة"رحمه الله، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.
ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها وأرحم بها من غيره، كما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر.
فمن هذه الوقفة يتبين لنا كيف أن العقوبات الإسلامية هي أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من مساؤه وعيوبه فالعقوبات الإسلامية أفضل في حق المجرم وفي حق المجتمع.
الوقفة الثانية:(31/224)
هؤلاء الذين يزعمون أن العقوبات الإسلامية قاسية هل درسوها حقيقة وعرفوا الجرائم الشنيعة التي فرضت من أجلها هذه العقَوبات، وهل أدركوا مدى تأثير هذه الجرائم على المجتمع وخطورتها عليه، ولو أنهم لاحظوا ذلك لما نبسوا ببنت شفه. ومن ناحية أخرى هل درسوا أدلة الإثبات في هذه الجرائم وكيف أن أدلة الإثبات متناسبة مع العقوبة ومع الجريمة فكما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها، وهناك شروط متعددة ودقيقة ولابد من توافرها في المجرم والجريمة كي توقع العقوبة على المتهم.
إن أغلب الظن أن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الشرعية يسمعون بها مجرد سماع دون أن يدرسوها دراسة متأنية منصفة متجردة، وإلا لو فعلوا ذلك لما وسعهم إلا الإكبار لهذه الشريعة في أحكامها العادلة.
الوقفة الثالثة:
لماذا هؤلاء دائما في صف المجرم، ولا يرِد في تصورهم إلا المجرم وهو تحت العقوبة جلداً أو قطعا أو قتلاً، ولا يرد في تصورهم مطلقاَ ذلك الضحية المسكين، الذي اعتدى عليه بغير حق، فجرح أو فقئت عينه أو قتل ظلماً وعدواناً، أليس المعتدى عليه أولى بالعطف والشفقة والرحمة من ذلك المجرم.
الوقفة الرابعة:
إن العقوبات الشرعية التي تبدوا شديدة لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: القصاص حيث يجرح من جرح قصاصاً، وتفقأ عينه قصاصاً إذا فقأ عين غيره عمدا أو جرحه عمدا. ويقتل من قتل قصاصاً، إذا قتل على وجه العمد، ولا يمكن أن يعترض حكيم أو عاقل منصف على هذه النظرية، نظرية القصاص حيث يعاقب المجرم بنفس الطريقة التي أرتكبها مع الضحية ما أمكن ذلك، إلا في الحالات التي لا يمكن تنفيذ القصاص فيها، أو أن القصاص يؤدى إلى مفسدة. فيما عدا ذلك فالقصاص هو الأصل ولا يعترض عليه أو ينتقده إلا مغفل أو مغرض. هذه حاله.(31/225)
الحالة الثانية: أن تكون العقوبة التي تبدو شديدة جدا، والعقوبات الحدية التي قد تكون شديدة لا تزيد عن ثلاث: عقوبة الزاني المحصن رجما، والمحارب قاطع الطريق، بقطعه من خلاف، يده اليمنى، ورجله اليسرى والسارق بقطع يده اليمنى، وهذه الجرائم لا يمكن بحال من الأحوال أن تعالج إلا بهذه العقوبات، هذا أمر، والأمر الثاني أن من ينظر في هذه الحدود الثلاثة وطرق إثباتها يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.
الطريق الأولى: طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته.
فأي شدة أو قسوة في ذلك؟ إذا كان إنسان عاقل بالغ مدرك يختار عقوبته بنفسه ويعلم أنه سوف يرجم أو تقطع يده أو يجلد إذا أصر على إقراره واستمر فيه، فما ذنب الحاكم في ذلك، إذا كان هذا المتهم مؤمن ومعتقد بأنه سوف يقدم على ربه، ويعتبر تحمل هذه العقوبة من باب التوبة الصادقة مع العلم بأنه لا يجوز التحايل لأخذ الإقرار في الحدود، بل القاعدة على العكس حيث يستحب تلقين المتهم ما يصرفه عن الاعترَاف الصريح.
الطريقة الثانية: أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا [24] .(31/226)
ولقد سألنا من نعرف من العلماء والباحثين عما إذا كانوا يعرفون واقعة زنا ثبتت في عصر من العصور بالشهادة، فلم نجد عندهم جوابا، مما يدل على أن هذا الأمر نادر جدا، فهذه العقوبات والله أعلم هي للتهويل والتخويف، والتهييب للمجرمين، أكثر مما يراد بها إيقاعها بهم. فالمجرم لاشك أنه إذا علم بهذه العقوبة الشديدة، سوف يتصور أنها ربما أوقعت به، ولا يزال في ذهنه شيء من الاحتمال مهما كان قليلا، وهذا التصور وهذا الاحتمال له دور كبير في صرف المجرم عن جريمته، ولفت نظره لإعادة الحساب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الوقفة الخامسة:
لننظر في نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى.(31/227)
لقد كانت آثار هذه العقوبات التي يزعمون أنها قاسية، لقد كانت آثارها الاستقرار والأمن الذي لا يتصور، فلا تكاد تحدث جريمة، فاطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وانصرفوا إلى العمل والإنتاج والإصلاح حتى إن الرجل ليترك متاعه في الطريق دون أن يتعرض له أحد بسوء، وينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، ويوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول: "وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما "التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده، أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقه. هذه صورة [25] .(31/228)
أما الصورة الثانية: فينقلها لنا الأستاذ الدكتور عبد القادر عودة رحمه الله، وهو يشير إلى ازدياد الجرائم في المجتمع المصري، بسبب عدم تطبيق التشريعات الإسلامية، مقارناً بين المجيمع المصري والمجتمع السعودي في ظل الإسلام، فيقول إن الحالة الإقتصادية مهما قيل فيها لا تكون سبباً في ازدياد الجرائم، ما دامت العقوبة رادعة، وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في الحجاز، فلا شك أن الحالة الإقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز، ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر وانتشر الأمن هناك واختل هنا. ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام، والجرأة على ارتكاب الجرائم وترويع الآمنيين، والحجاج والمسافرين، وقطع الطريق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الإقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً هو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن، وانعدامها قديماً، وهو كذلك انعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، فهذه العقوبة الرادعة في ظل الشريعة الإسلامية هي التي وطدت الأمن في الحجاز، وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق، وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شيء إلا وجده في دار الشرطة، ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان، ولو لم يبلغ بضياعه مادام مع المال ما يدل على اسم صاحبه [26] وهذا ما نعيشه الآن في هذه البلاد والحمد لله حيث أن الإنسان دائما- إلا في حالات نادرة- مطمئن على متاعه وعلى أمواله يتركها غالبا دون ماَ حراسة تذكر ودون اهتمام بها فيوفر المجتمع بذلك طاقات كبيرة وجهودا كثيرة بينما الدول الأخرى كما هو معروف، حيث نقرأ يوميا عن الجرائم البشعة التي لا تتصور، حيث تداهم البيوت والمؤسسات المالية ويهجم على المصارف ويختطف التجار(31/229)
والسياسيون، أو أبناؤهم ولا يطلقون إلا مقابل فدية مالية كبيرة، وتختطف الطائرات أما لأغراض سياسية أو لأغراض إجرامية بحته، وأصبح الناس في كثير من الدول التي تزعم أنها متطورة ومتقدمة وفي قمة الحضارة، أصبح الناس يحذرون من التجول بعد غروب الشمس، وهذا الأستاذ محمد قطب يذكر في إحدى محاضراته أنه في سان فرنسسكو حدثه أكثر من شخص وأنه قرأ في الصحف كذلك، أن الإنسان لا يملك أن يخرج وحده في هذه المدينة بعد غروب الشمس، ويقول: كنت في زيارة قصيرة لمدينة صغيرة في فلادليفيا مدينة أشبه بالمدن الريفية وهي بالنسبة لمدننا كبيرة ولكنها بالنسبة للمدن الأمريكية صغيرة جدا، وجاء الغروب فحدثتنا أنفسنا أن نخرج قليلا للتنزه، فقال لنا المقيمون هناك، احذروا، لا تستطيعون أن تخرجوا، قلنا لماذا، قالوا بسبب العصابات، حيث إنها تبدأ عملها بعد غروب الشمس، قتلا وخطفا وسرقة [27] .
وهذه دولة من الدول الحديثة، المتقدمة صناعيا، وهي ألمانيا، تقول عنها إحدى الجرائد اليومية، أنه في تقرير نشر عنها أظهر أن لصوص ألمانيا الغربية يحافظون على سمعة مواطنيهم، بوصفهم شعباً عرف بتفانيه في العمل، فقد أوضح التقرير أن هؤلاء اللصوص يرتكبون حادث سرقة كل دقيقة في شتى أنحاء البلاد، وتقدر لجنة غير حكومية قيمة الممتلكات التي تتعرض للفقد أو الإتلاف نتيجة للسرقات بثلاثة آلاف مليون مارك في العام الواحد، وقد طالبت اللجنة المواطنين الذين يقضون عطلاتهم خارج مساكنهم بتأمين منازلهم بواسطة الأقفال والسلاسل، أو أجهزة الإنذار [28] .(31/230)
ولم يزل الإجرام يفتك بالدول الغربية وغيرها حتى أصبح المجرمون لهم مراكز خطيرة، وكلمة نافذة، بل أصبح لهم مؤسسات رسمية أو شبه رسمية، تحميهم وتدافع عنهم، حتى صاروا كما يقال حكومات داخل الحكومات. ويقول الأستاذ عودة رحمه الله في هذا الصدد، وهو يتحدث عن سلطان المجرمين "ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم، وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم، دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال، وقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين، يزاحم سلطان الحكومات، بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، ومن الوقائع التي اعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة، ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم، وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير، إلى زيادة المجرمين الشباب الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عارا وذلا في القديم، أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلا مهانا، أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان" [29] .
فهذه هي بعض آثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الغربية ليست إلا خوفا واضطرابا ورعبا وزيادة مضطردة في عدد الجرائم وأساليبها وأنواعها.
وتلك بعض آثار العقوبات الشرعية ونتائجها في المجتمع الإسلامي قديما وحديثا، أمن واستقرار واطمئنان وانخفاض في نسبة الجرائم، فأي الفريقين أحق بالأمن، وأي الفريقين أحق بالفخر والاعتزاز، فليصفوا العقوبات الشرعية بما شاءوا من الأقاويل، وليتهجموا مادامت تلك آثارها وهذه نتائجها.(31/231)
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لسان العرب لابن منظور ج/12 ص 91.
[2] تاج العروس للزبيدي ج/8 ص 224.
[3] انظر تفسير النسفي ج/3، ج/ 4 ص 60، 341، ص 282.
[4] الأحكام السلطانية للما وردي ص 219.
[5] وانظر القرطبي ج/19 ص 267، ج/18 ص 286، 246.
[6] انظر فتح الباري ج/13 ص 264.
[7] المسند ج/6 ص 57، الفتح الرباني ج/7 ص 116.
[8] انظر فتح الباري ج/13 ص 216.
[9] انظر فتح الباري ج/2 1 ص 259، ج/6 ص 269.
[10] المسند ج/5 ص 4 41 وهو صحيح وقد أخرجه مسلم والترمذي أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج/ 4 ص هـ 34.
[11] جامع الأصول ج/ 2 ص هـ 1 5، سنن الترمذي ج/7 ص 1 9 1 وراجع كشف الخفاء ج/ 2 ص 76 1 وأسنى المطالب للحوت البيروتي ص 167.
[12] لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن العقوبة لا توقع عليهم إلا في حالة الإصرار بل أن العقوبة توقع على المجرم بمجرد ارتكابه للجريمة ولو لم يصر أو تتكرر منه، إلا في التعازير فالأمر فيها يختلف.
[13] تعريف العقوبة:
يقول صاحب اللسان: العقاب والمعاقبة أن تجزي الرجل بما فعل سوء، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا: أخذه به. هذا عند أهل اللغة. (لسان العرب لابن منظور 1/ 619) .
عرفها بعض الفقهاء "بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع". (أورده عبد القادر عودة في التشريع الجنائي (1/609) .
[14] الجريمة والعقاب في المجتمع القبلي الإفريقي: محمد عبد الفتح إبراهيم (ص 40 ا-141) .
[15] جريدة الرياض العدد 4723 الصادر بتاريخ 3/1/ 1 0 4 1 هـ.(31/232)
[16] العقوبات الجنائية في التشريعات العربية: د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[17] العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[18] العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[19] العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي 24، 73- هـ 7.
[20] التشريع الجنائي الإسلامي ج 1ص 9 68.
[21] التشريع الجنائي ج1 ص 381.
[22] محاضرات عن المسئولية الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي ص 32.
[23] لقلتها من التشريع الجنائي ج1 من الصفحة 732-.74. ملخصة بشيء من التصرف.
[24] ذكر صاحب المغنى أنه حصل في عهد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واقعة زنا ثبتت بالشهادة وذلك في الجزء السابع ص163 في كتاب الفرائض.
[25] من نهر كابل إلى نهر اليرموك أبو الحسن الندوي ص 155.
[26] التشريع الجنائي ج 1ص 740.
[27] من محاضرة ألقاها الأستاذ محمد قطب في كلية الشريعة لجامعة قطر في أول عام 401 اهـ.
[28] جريدة الرياض العدد 1333 الصادر بتاريخ 6/ 5/ 396 1 هـ.
[29] التشريع الجنائي 1/737.(31/233)
الإمدَادُ بأحكاَمِ الحداَدِ
(2)
للدكتور فيحان شالي المطيري
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الفصل الخامس في زمن، الإحداد
عرفت آنفاً أقسام الإحداد من حيث الجملة وأنها قسمان جائزٌ وغير جائزٍ وأن كل منهما ينقسم إلى قسمين إذا تقرر هذا فاعلم أن كلامنا هنا خاصٌ بزمن الإحداد والجائز في شريعتنا إذ أننا مطالبون بما فيها من أحكام فنقول: الحداد الجائز على ضربين. على ما بينا قريباً، حداد على القريب الميت غير الزوج وحداد على الزوج وطبقا لهذا التقسيم يكون الكلام في المدة الزمنية اللازمة للإحداد.
وقد رأيت أن أجعل هذا الفصل مبنيا على مبحثين. المبحث الأولى زمن الإحداد على القريب الميت غير الزوج، المبحث الثاني زمن الحداد على الزوج الميت.
المبحث الأول: زمن الحداد على القريب الميت:
إعلم أن الحداد على القريب الميت هو ابتعاد المرأة عن كل مظاهر الزينة التي يدعو فعلها إلى الفرح والسرور ويتنافى مع مظاهر الحزن من المرأة على ذلك الميت. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد رسمت الطريق الذي ينبغي أن تسلكه المرأة عند فقد قريبها وبينت المدة اللازمة للإحداد والتي لا ينبغي تجاوزها وقد رعت الشريعة في ذلك حق المرأة وحق القريب على حد قوله: "لا ضرر ولا ضرار" ومقدار هذه المدة ثلاثة أيام بلياليها يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا".(31/234)
فقوله: "فوق ثلاث" يفيد جواز الثلاث فما دونها وعدم جواز الزيادة عليها إلا فيما دلّ عليه الاستثناء. قال ابن حجر في الفتح بعد ما ذكر الحديث: "واستدل به على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها وتحريمه فيما زاد عليه وكأن هذا القدر أُبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها وغلبة الطباع البشرية ولهذا تناولت أم حبيبة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما الطيب لتخرجا عن عهدة الإحداد وصرحت كل منهما بأنها لم تتطيب لحاجة إشارة إلى أنّ آثار الحزن باقية عندهما، لكنهما لا يسعهما إلا امتثال الأمر" [1] .
وهذا الذي ذكره ابن حجر رحمه الله وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تفيد بمنطوقها ومفهومها أن الحد الأعلى في حق المرأة للحداد على قريبها الميت هو ثلاثة أيام بلياليها.
وقد ذكر أبو داود في المراسيل بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديثا يعارض ظاهره هذه الأحاديث ونصه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة أيام" [2] . والجواب عن الاستدلال بهذا الحديث من وجهين: (أ) أنه ضعيف لا تقوم به حجة لكونه مرسل قال: فإن عمرو بن شعيب لم يكن من الصحابة بل ولا من التابعين، والمرسل في ضعف الاحتجاج به إنما يكون من التابعين فإذا كان الأمر كذلك فلا تعارض به الأحاديث الصحيحة.
(ب) لو سلّمنا بصحته وسلامة الاستدلال به لم نسلّم بمعارضته للأحاديث الصحيحة بل نقول هو مخصص للأب من عمومها فتحد ابنته عليه سبعة أيام بلياليها على ما هو مبين في الحديث ويبقى ما عداه من الأقارب على العموم الوارد في الأحاديث والذي يتعين اتباعه والمصير إليه هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي تم ثبتها قريباً أكثر من مرة.
المبحث الثاني: زمن الإِحداد على الزوج الميت(31/235)
زمن الإحداد على الزوج الميت هو زمن العِدة ولهذا نستعرض بشيء من التفصيل لعِدة المتوفى عَنها زوجها لما بين الأمرين من العلاقة ليتّضح المراد وبالتالي نخلص لمعرفة زمن الإحداد.
والمعتدة من الوفاة لا يخلو إما أن تكون حائلا أو حاملا.
والحائل لا يخلو إما أن تكون ممن تحيض أو يئست من الحيض أو صغيرة لم يأتها الحيض بعد وطبقا لهذا التقسيم فقد ضمنت هذا المبحث المطالب التالية:
المطلب الأول: عدة غير ذات الحمل:(31/236)
غير ذات الحمل وهى الحائل التي عرفت براءة رحمها إما بالحيض أو لكونها آيسة أو صغيرة لم تحض وقد أجمع أهل العلم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا على أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها غير ذات الحمل أربعة أشهر وعشرا سواء كانت صغيرة أو كبيرة. مدخولا بها أو غير مدخول بها وهذا هو الزمن اللازم للإحداد فإذا انقضت عدتها بإتمام هذه المدة انقضى الإحداد بانقضائها وإنما أجمع أهل العلم على ذلك لما جاء في الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". متفق عليه [3] . فهذا الكتاب والسنة قد اتفقا على بيان الظرف الزمني الذي يجب أن تتربصه المعتدة من الوفاة ولا تحل قبله للأزواج وهو الظرف الزمني للإحداد إذ أن العدة والإحداد شقيقان في هذا الباب فإن قيل هذا النص عام شامل لكل معتدة من الوفاة فتكون عدتها أربعة أشهر وعشرا من غير تخصيص قيل ليس الأمر كذلك لأننا نقول إن هذا النص في المعتدات من الوفاة غير الحوامل والشرع شاهِدٌ بذلك فإن الله تعالى أخرج من عموم هذا النص الحامل المعتدة من الوفاة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها وبالتالي يزول عنها حكم الإحداد.
تنبيهان:
التنبيه الأول: لو قيل هذا الحكم خاص بالمدخول بها بمعنى أن المدخول بها هي التي تتربص أربعة أشهر وعشرا بدليل أن الله تعالى خصها من عموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قلنا الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:(31/237)
(أ) أن الله تعالى خص المطلقة قبل الدخول من عموم آية البقرة فلم يوجب عليها عدة وذلك بآية الأحزاب وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [4] .
وليس الأمر كذلك في المتوفى عنها قبل الدخول فهي داخلة في العموم وليس ثمة ما يخرجها ولا يجوز إخراجها إلا بدليل ولا دليل.
(ب) قد ورد في السنة ما يفيد صراحة وجوب العدة على غير المدخول بها المتوفى عنها زوجها وذلك أن عبد الله بن مسعود "أُتِي بامرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا "ولم يكن دخل بها قال فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الاشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بَروَع ابنة واشق بمثل ما قضى". رواه الأربعة وصححه الترمذي [5] .
فهذا الحديث نص على إيجاب العدة على غير المدخول بها وبهذا لا يكون للاعتراض حظّ من النظر.
(جـ) لو سلّمنا بعدم النص وأنّ المعتدة من الوفاة غير المدخول بها مخصصة من عموم آية البقرة وذلك بالقياس على المطلقة قبل الدخول لم نسلّم بهذا التخصيص وذلك لأمرين:
أحدهما: أن النكاح عقد عُمْر فإذا مات أحد الزوجين انتهى والشيء إذا انتهى تقرر أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه.
ثانيهما: أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن للزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يؤمن أن تأتى بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والميت في غير منزلها حفظا لها [6] .(31/238)
التنبي هـ الثاني: فإن قيل قد ورد في الأثر عند أحمد وابن حبان والطحاوي من حديث أسماء بنت عميس قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبى طالب. فقال:ٍ"لا تحدى بعد يومك" هذا لفظ أحمد. وفى رواية له ولابن حبان والطحاوي لما أصيب جعفر أتانا النبي صلى الله عليه وسلم تسلّي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت" [7] .
قال العراقي في شرح جامع الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبى طالب بالاتفاق وهي والدة أولاده عبد الله ومحمد وعوف وغيرهم قال: "بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز" [8] .
قيل الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره العراقي نفسه بأن هذا الحديث شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة
وقد أجمعوا على خلافه. قال: "ويحتمل أن يقال إن جعفر قُتِل شهيدا والشهداء أحياء عند ربهم. قال وهذا ضعيف لأنه لم يرد في غير جعفر من الشهداء ممن قطع بأنهم شهداء كما قطع بجعفر كحمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر" [9] .
فأنت ترى أنه حكم على الحديث بالشذوذ وحديث الشاذ ضعيف لا تقوم به حجة.
الوجه الثاني: ما ذكره الطحاوي من أن هذا الحديث منسوخ وأن الإحداد كان على المعتدة كذلك في وقت ثم أمرت بالإحداد أربعة أشهر وعشرا [10] .
وإن كانت هذه دعوى بلا دليل إذ أن النسخ لا يكون إلا بمعرفة التاريخ وهو تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ إلا أن احتمال النسخ وارد هنا لأن حديث أسماء هذا متقدم في الغالب على أحاديث الإحداد الأخرى. فإن حديث أسماء هذا في غزوة موءته وهي في السنة الثامنة من الهجرة والنبي الكريم توفى في السنة الحادية عشرة لكن دعوى النسخ لا تثبت بالاحتمال.(31/239)
الوجه الثالث: هو أن المراد بالإحداد والمقيد بالثلاث قدرا زائدا على الإحداد المعروف فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر فنهاها عن ذلك بعد الثلاث.
الوجه الرابع: هو أن أسماء كانت حاملا فوضعت بعد ثلاث فانقضت العدة فنهاها بعدها عن الإحداد ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى.
الوجه الخامس: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن عدتها تنقضي عند الثلاث فأمرها بهذا الأمر.
الوجه السادس: يحتمل أن جعفر قد أبانها بالطلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد.
الوجه السابع: ما ذكره البيهقي من أن هذا الحديث منقطع وقال لم يثبت سماع عبد الله ابن شداد من أسماء بنت عميس [11] .
وَرُدَّ هذا بأنه تعليل مدفوع فقد صححه أحمد ويجاب عنه بأن أحمد قال أنه -أي حديث أسماء- مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد قال ابن حجر في الفتح: "وهو مصير منه إلى أنه يعله بالشذوذ وذكر الأشرم أن أحمد سُئلَ عن حديث حنظلة عن سالم عن ابن عمر رفعه لا إحداد فوق ثلاث فقال: "هذا منكر والمعروف عن ابن عمر من رأيه" [12] .
قال ابن حجر تعقيبا على كلام أحمد وهذا يحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدة فلا نكارة فيه بخلاف حديث أسماء والله أعلم [13] .(31/240)
هذا وبعد عرض ما تقدم تعلم أن الأوجه التي ذكرناها كلها محتملة اللهم إلا ما ذكره العراقي من اعلال الحديث بالشذوذ والذي ينبغي أن يُعلم هو أن هذا الحديث على فرض صحته معارض لما هو أصحّ منه وأكثر شهرة ومن المعلوم أن الحديث الصحيح إذا تعارض مع ما هو أصح منه وتعذر الجمع قُدم الأصح فإذا كان الحديث في الصحيحين ويعارضه آخر في أحدهما قُدم ما كان في الصحيحين والأمر كذلك فيما كان في صحيح البخاري ويعارضه حديث آخر في صحيح مسلم فإن ما كان في صحيح البخاري يقدم على ما كان في صحيح مسلم عند التعارض وعدم إمكان الجمع وما كان فيهما أوفي أحدهما يقدم على غيره عند التعارض وعدم إمكان الجمع وهذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عنه على فرض صحته لم يكن في الصحيحين ولا في أحدهما بخلاف الأحاديث التي تعارضه فإنها صحيحة لامطعن لأحد في صحتها لكونها في الصحيحين.
هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدة المعتبرة للعدة والإحداد في حق الحائل من النساء هي أربعة أشهر وعشرا ولا يشترط وجود الحيض في هذه المدة وإنما تنقضي عدة المعتدة المشار إليها وإتمام أربعة أشهر وعشرا لأن الأدلة التي تفيد هذا المعنى من الكتاب والسنة لم تجعل انقضاء عدتها منوطا بشرط حيض ولا غيره وإنما الزمن الوحيد لانقضاء هذه المدة هو أربعة أشهر وعشرا ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة [14] .(31/241)
والحاصل هو أن زمن الإحداد في حق المتوفى عنها زوجها غير الحبلى هو زمن العدة وزمن العدة في حقها أربعة أشهر وعشرا وإنما هو لكون الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة فتلك مائة وعشرون يوماً وهى أربعة أشهر. وهذا منصوص عليه في حديث ابن مسعود الصحيح ولفظه"حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي وسعيد ... " الحديث [15] .
فالحديث دليل على أن النفخ يكون بعد المدة المذكورة في الحديث وهى العشرة التي لم نذكرها هنا فأمرت المعتدة إلى تربص هذه المدة ليستبين الحبل إن كان ثمة حبل هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام وقبل أن نترك هذا المطلب يحسن أن نشير إلى مسألتين لهما علاقة بما نحن فيه.
المسألة الأولى: متى يبدأ الإحداد؟، المسألة الثانية هل المعتبر لخروج المعتدة المتوفى عنها زوجها من عدتها الليالي أو الأَيام في قوله عشراً؟.
فنقول المسألة الأولى متى يبدأ الإحداد اختلف الفقهاء في تحديد الزمن الذي تبدأ فيه المعتدة عدتها وبالتالي إحدادها أهو من وقت موت الزوج أومن وقت علمها؟ على قولين:(31/242)
القول الأول للجمهور: وهو أن عدة المتوفى عنها تبدأ من حين موت الزوج وهو زمن وجوب الإحداد عليها سواء علمت بذلك حين الوفاة أولم تعلم إلا بعد ذلك ما لم تنقضي أربعة أشهر وعشرا. فإذا انقضت قبل علمها فلا عدة عليها ولا إحداد وذلك لأن المقصود من العدة هو عدم التزوج وقد وجدوا أيضاًَ العالمة بالوفاة لو مرت عليها أربعة أشهر ولم تحد خرجت من العدة اتفاقا فكذا هنا [16] . فالعدة هي مضي المدة وذلك يتحقق بدون علمها فهي وعدة الطلاق سواء. غاية ما في الأمر أنها لم تفعل الإحداد ولكن ذلك لا يمنع من انقضاء العدة كما لو كانت عالمة بموت زوجها.
القول الثاني: عن علي رضي الله عنه وهو أن العدة تبدأ من وقت علمها بالوفاة فعلى هذا لا تجب عليها العدة وكذلك الإحداد إلا إذا علمت بوفاة زوجها حتى ولو مرت على وفاته أربعة أشهر وعشرا قبل علمهَا لم تنقضي عدتها لأن عليها الإحداد ولا يمكنها إقامته إلا بالعلم بموته [17] . ولأن هذه العدة تجب بطريق العبادة فلابد من علمها بالسبب لتكون مؤدية للعبادة.
ورد هذا بأن العبادة تبع لا مقصود بدليل أن العدة تجب على الكتابية إذا كانت تحت مسلم وهي لا تخاطب بالعبادات.
وعندي أن العدة تجب عليها من وقت الوفاة لما بيّنا ولأن المقصود براءة الرحم وقد وجدت فلا مجال لإيجاب العدة عليها بعد مرور المدة المنصوص عليها.
المسألة الثانية: هل المعتبر لخروج المعتدة المتوفى عنها زوجها من عدتها الليالي أو الأيام في قوله عشراً؟ المدة المنصوص عليها التي تخرج بها المعتدة من عدتها والحال أنها متوفى عنها هي أربعة أشهر وعشرا وهذا لا خلاف فيه لأنه منصوص عليه وإنما اختلف الفقهاء في أمر واحد وهو الاحتمال الوارد في قوله عشراً فإنه يحتمل أن يكون المراد بذلك الأيام وأن يكون المراد بذلك الليالي ولهذا اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:(31/243)
القول الأول للجمهور: وهو أن المعتبر في ذلك الأيام مع الليالي لأن الاستعمال في مثل هذا من ذكر عدة الليالي يدخل ما بإزائها من الأيام على ما عرف بالتاريخ حيث يكتب بالليالي فيقال لسبع خلون مثلا ويراد كون عدة الأيام كذلك [18] .
القول الثاني: للأوزاعي وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو أن المعتبر في ذلك الليالي دون الأيام فلو تزوجت في يوم العاشر جاز وذلك أخذاً من التذكير [19] . فإن جمع المؤنث يذكر وجمع المذكر يؤنث فيقال عشرة أيام وعشر ليال والعدد المختلف هنا هو قوله عشراً فتذكيره دليل على أن المراد بذلك الليالي دون الأيام وهذا واضح من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} . [20] ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً". كون المعدود الليالي وإلا لأنّثه.(31/244)
والراجح عندي هو القول الأول صحيح أن العدد يذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر إلا أن العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [21] يريد بأيامها بدليل أنه قال في موضع آخر: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} يريد بلياليها ولهذا لو قرر أحد اعتكاف العشر الأخيرة من رمضان لزمه الليالي والأيام معا. ويقول القائل سرنا عشرا يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدد إلى الإباحة بالشك [22] هذا إذا كانت عالمة بوفاته يقينا أما إذا شكت في وقت وفاته فإنها تعتد من الوقت الذي تستيقن فيه بموته لأن العدة يؤخذ فيها بالاحتياط والاحتياط هو الأخذ باليقين وفى الوقت المشكوك فيه لا يقين فلهذا لا تعتد إلا من الوقت المتيقن [23] .
المطلب الثاني: في سبب وجوب الإِحداد:
عرفت قريباً أن الفقهاء مختلفون في وجوب الإحداد على من يجب واختلافهم في الجملة راجع إلى أمرين: المعتدة من الوفاة، والمعتدة من طلاق بائن. فالحنفية يتوسعون في الإيجاب فيوجبون الحداد في الأمرين معاً أعني المعتدة من الوفاة والمعتدة من الطلاق البائن البَينونة الكبرى، والجمهور يضيقون دائرة الإيجاب فيجعلونه خاصاً بالوفاة وتبعا لهذا الاختلاف يكون سبب الإيجاب.(31/245)
فعند الحنفية ومن قال بقولهم يكون سببه الوفاة والبينونة الكبرى، وعند الجمهور يكون سببه الوفاة لا غير وإنما كان سبب الوفاة لما يأتي. في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} فالآية دليل على إيجاب العدة على المتوفى عنها زوجها ووجوب العدة عليها يستلزم إيجاب الإحداد وعدم إيجابه على غيرها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعدة والإحداد يوجبان إظهارا للحزن بفوت النعمة وتعريفاً بقدرها والمراد بالنعمة هنا هي نعمة النكَاح. إذ النكاح كان نعمة عظيمة في حقها فإن الزوج كان سبب صيانتها وعفافها وإيفائها بالنفقة والكسوة والمسكن [24] . ولهذا كان لفراق الزوج أثر في نفسها فما كان من أمر الشارع إلا أن أوجب عليها للزوج حقوقا اظهاراً للمصيبة بموته ومن تلك الحقوق العدة والإحداد هذا في المعتدة من الوفاة. وقد عرفت ما استدل به فقهاء الحنفية لإيجاب الحداد على البائن وهو سبب وجوب عندهم.
المطلب الثالث: في شرح وجوب عدة المتوفى عنها:(31/246)
شرط وجوب العدة هو النكاح الصحيح فلا تجب على المنكوحة نكاحا فاسدا ولا الموطوءة بالشبهة ولا الموطوءة بالزنا وإنما تجب على المتوفى عنها زوجها سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخولٍ بها وسواء كانت ممن تحيض أو ممن لا تحيض لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} ولما تقدم من أن العدة تجب اظهارا للحزن بفوت نعمة النكاح وقد وجد وإنّما شرطنا النكاح الصحيح لأن الله تعالى أوجبها على الأزواج ولا يصير زوجاً حقيقة إلا بالنكاح الصحيح وسواء كانت مسلمة أو كتابية تحت مسلم لعموم النص ولوجود المعنى الذي وجبت من أجله وسواء كانت حرة أو أمة أو مُدبِرة أو مكاتبة فإنه لا يختلف أصل الحكم لأن ما وجبت له لا يختلف [25] . ولم أجد في هذا كله خلافا عند أهل العلم إلا ما كان من أمر الحنابلة من تفصيل في ذلك يحسن ذكره وهو أن الرجل لو مات عن امرأة نكاحها فاسد أن عليها عدة الوفاة وهو ما ذهب إليه القاضي من فقهاء الحنابلة وقد نص على ذلك أحمد في رواية جعفر بن محمد واختارها أبو بكر وقدمها الأكثر لأنه نكاح يلحق بالنسب فوجبت به العدة كالصحيح وقال ابن حامد من الحنابلة لا عدة عليها للوفاة في ذلك لأنه لا يثبت الحمل فلم يوجب العدة كالباطل [26](31/247)
ومن المعلوم أن المنكوحة بنكاح باطل مجمع على بطلانه كنكاح القريبة من النسب ونكاح المحرمة بالمصاهرة أو الرضاع ونحو ذلك لا تجب عليها عدة الوفاة إجماعا [27] . لأن الفقهاء مختلفون في وجوب عدة الوفاة على الموطوءة بشبهة وأكثرهم على عدم وجوبها فإذا كان الأمر كذلك فعدم الوجوب في النكاح الباطل أولى هذا ويشكل على قول الفقهاء القائلين بعدم وجوب العدة على الموطوءة بنكاح فاسد الحكم بوجوب عدة الطلاق على المد خول بها إذ أنه لا فرق بينها وبين المطلقة في هذا المعنى فالمطلقة إذا كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء وإذا لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر وهذه مثلها إذا حصلت الخلوة والإصابة وإن كان بعدها قبل الإصابة فالمنصوص عند الحنابلة أن عليها العدة أيضاً لأنه أجري مجرى الصحيح في لحوق النسب فكذا في العدة [28] . لكن يزول الإشكال إذا عرفنا أن عدة الوفاة إنما تجب على الزوجة دون غيرها وهو منصوص عليه في الكتاب والسنة والمنكوحة بنكاح فاسد ليست بزوجة في الحقيقة فلا تجب عليها عدة الوفاة وإنما وجبت عليها عدة الطلاق لما بينّا من الدليل هذا في العدة والأمر كذلك في الإحداد والحنفية يستثنون الصغيرة والمجنونة والكتابية من ذلك في حين أنهم يرون إيجابَ العدة على الجميع وقد أسلفنا ما يتعلق بذلك قريبا.
المطلب الرابع: في وجوب الحداد على المطلقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها من الطلاق:
المطلقة لا تخلو من أحد أمرين إما أن تكون رجعية أو بائنا والبائن لا تخلو من أن يكون طلاقها في صحة الزوج وإما أن يكون في حالة مرضه وطبقا لهذا التقسيم يكون الكلام في هذا المطلب ولهذا فقد رأيت أن يكون البحث في جانبين. أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه.
فأما المتفق عليه فهو قسمان:
(أ) الطلاق الرجعي.
(ب) البينونة في حالة الصحة.(31/248)
وأما المختلف فيه فهو البينونة في حالة المرض وإليك تحرير المقام والله المستعان.
القسم الأول: من الجانب الأول عدة الرجعية إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها لا خلاف بين أئمة الفتوى في أن الرجعية إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها من الطلاق تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة فيكون ابتداء عدتها من حين وفاة زوجها ولا تعتد بالزمن الذي مضى قبل وفاته والحكم في الإحداد هو نفسه لأنه لا يوجد بوجود العدة وينعدم بعدمها وإنما قلنا بذلك لما يأتي:
(1) أن النكاح قائم بينهما بعد الطلاق الرجعى فكان منتهيا بالموت وبانتهاء النكاح بالموت يلزمها عدة الوفاة.
(2) أن العدة بعد الطلاق الرجعى تكون بالحيض وهي لا يزول الملك بها إلا بعد تمامها وقد زال بالموت فعليها العدة التي هي من حقوق النكاح وهي عدة الوفاة [29] .
(3) أن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فتعتد للوفاة كغير المطلقة إذ الطلاق الرجعي لا يوجب زوال الزوجية وإنما تزول بالموت أو بالبينونة أو بخروج الرجعية من عدتها ومن المعلوم أن موت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة لما بيّنا أكثر من مرة فوجوب عدة الوفاة على الزوجة بعد الطلاق الرجعى لا يختلف عنه قبله ولهذا كله قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك" [30] . وهو كما قال فإنني لم أجد خلافا بين أهل العلم في أن المعتدة الرجعية تستأنف عدة الوفاة إذا مات زوجها في عدتها وتكون عدتها أربعة أشهر وعشرا.(31/249)
القسم الثاني: من الجانب الأول في عدة المبتوتة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها وكان الفراق بينهما في حالة الصحة إذا أبان الرجل زوجته في صحته ثم مات عنها قبل انقضاء عدتها لم تنتقل إلى عدة الوفاة وإنما تعتد عدة الطلاق لا أعلم في ذلك بين أهل العلم خلافا وذلك لأن النكاح لم ينتهي بالوفاة هنا وإنما زال الملك بالطلاق والسبب الموجب لعدة الوفاة هو الموت لأن الله تعالى قال: {َيَذَرُونَ أَزْوَاجً} وهذه ليست بزوجة له عند وفاته حتى لا ترث منه بالرجعية شيئاً ولا يلزمها عدة الوفاةأيضا [31] فهي أجنبية منه في نكاحه وميراثه وتحل له أختها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها [32] هذا ما يمكن أن نقوله في هذا الجانب وهو كما ترى متفق عليه بقسميه على ما بيّنا.
وأما الجانب المختلف فيه وهو في حكم عدة المبتوتة في حالة المرض إذا مات زوجها قبل عدتها فقد اختلف الفقهاء في هذا الجانب على قولين ونحن نذكر آراءهم وما استدل به كل فريق ونخلص إلى القول الراجح حسب الإمكان.(31/250)
القول الأول: لأبي حنيفة وأحمد ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وهو أن زوج المبتوتة إذا طلقها في مرض موته ثم مات عنها قبل انقضاء عدتها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثةقروء [33] وعلى هذا القول يلزمها الإحداد لأنه تبع لعدة الوفاة وقد وجدت هاهنا وقد استدل أصحاب هذا القول بدليل عقلي وهو أن المبتوتة في مرض الموت ترث زوجها بعد وفاته وميراثها له بعد موته إنما كان بسبب الزوجية وكونه أبانها في مرض موته فهو متهم بحرمانها من الميراث فيلزمها عدة الوفاة كما لو طلقها طلاقا رجعيا وهذا لأنا أعطيناها الميراث باعتبار أن النكاح بمنزلة القائم بينهما حكما إلى وقت موته أو باعتبار إقامة العدة مقام أصل النكاح حكما إذ لابد من قيام السبب عند الموت لاستحقاق الميراث والميراث لا يثبت بالشك والعدة تجب بالشك وإذا جعل في حكم الميراث النكاح كالمنتهي بالموت حكما ففي حكم العدة أولى وسبب وجوب العدة عليها بالحيض متقرر حكما فألزمناها الجمع بينهما [34]
القول الثاني: للمالكية والشافعية وأبي يوسف من الحنفية وأبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر وهو أن المبتوتة في مرض الموت تبقى على عدة الطلاق إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها ولا تستأنف عدة الوفاة [35] ، وذلك لأن حكم النكاح انقطع بينهما بالطلاق وسبب وجوب عدة الوفاة انتهاء النكاح بالموت فإذا لم يوجد لا يلزمها عدة الوفاة كما لو كان الطلاق في صحته وإنما أخذت الميراث بحكم الفرار وذلك لا يلزمها عدة الوفاة بدليل المرتد إذا مات أو قتل على ردته ترثه زوجته المسلمة وليس عليها عدة الوفاة لأن زوال النكاح كان بردته لا بموته [36] ، ورد هذا بأن النكاح لما بقي في حق الإرث فبقائه في حق وجوب العدة أولى لأن العدة يحتاط في إيجابها فكان قيام النكاح من وجه كافيا لوجوب العدة احتياطا فيجب عليها الاعتداد أربعة أشهر وعشراً [37] .(31/251)
ولهذا نقول أن الراجح عندنا هو القول الأول لما بيّنا ولأن الزوج لما أبانها في مرض موته كان متهما بحرمانها من الميراث فيعاقب بنقيض قصده وهو توريثها من ماله بعد موته فدل على أن علاقة الزوجية لم تنقطع تماماً إذ لو كان الأمر كذلك لما كان لها حق في الميراث وانقطاع الزوجية بالموت لا خلاف فيه بين أئمة الفتوى فتجب عليها عدة الوفاة لهذا المعنى ويجب عليها الإحداد وكذلك لأن الإحداد تابع للعدة وإنما قال من قال بأن البائن تعتد في هذه الصورة بأطول الأجلين لأن الباَئن وارثة هنا على ما قلنا فيجب عليها أن تعتد للوفاة ومن حيث أنها مطلقة يجب عليها أن تعتد للطلاق فيجب أن تعتد بأطولهما ضرورة فإنها لا تخرج عن العهدة بيقين إلا بذلك [38] . هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن الزوج المريض المطلق لو مات عن زوجته بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول لم تجب عليها العدة لموته وبالتالي لا يجب عليها الإحداد لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ} [39] ، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} [40] ، وقال تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [41] فهذه الآيات كلها تبين عدة المطلقة بيانا شافيا وهي كما ورد في الآيات على ثلاثة أقسام: إما أن تكون مطلقة قبل الدخول وهذه لا عدة عليها، إما أن تكون مطلقة بعد الدخول وهي ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء أو تكون آيسة أو صغيرة وهذه عدتها ثلاثة أشهر وقد انقضت عدة طلاقها قبل وفاة زوجها فليس ثمة ما يدعو إلى إيجاب عدة الوفاة عليها(31/252)
لأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة موته كما لو تزوجت ولا يرد عليه ما قررناه قريبا من وجوب عدة الوفاة على المطلقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها إذا لم يكن الطلاق في حالة الصحة لأنها لا تحل لغير مطلقها مادامت في عدتها وهذه بخلافها فإنها قد خرجت من عدتها وحل نكاحها لغير زوجها [42] .
المطلب الخامس: في إحداد المتوفى عنها الحامل
عرفت قريبا أن الإحداد يجب على المتوفى عنها زوجها من وقت وفاة زوجها وهذا قول الجمهور وهو ينقضي في حَق الحائل بمرور أربعة أشهر وعشراً كما تم ثبته آنفا.
والأمر كذلك في الحامل فإن الحامل المتوفى عنها تحتسب لها مدة الإحداد من وقت وفاة زوجها وعلى هذا لا يكون فرقا بين الحائل والحامل في هذا المعنى إذ أن الإحداد تابع للعدة والعدة تبدأ من وقت الوفاة بيد أن الحامل تختلف عن الحائل في انقضَاء العدة والإحداد فالحائل تحل للأزواج بعد مرور أربعة أشهر وعشرا على وفاة زوجها وليس الأمر كذلك في الحامل، وعلى هذا نقول متى تنقضي عدة الحامل المتوفى عنها؟ سؤال اختلفت في جوابه كلمة الفقهاء على قولين:
القول الأول: ذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها ولو كان ذلك بعد وفاة زوجها بمدة يسيرة وبالتالي لا يجب عليها الإِحداد بعد وضع حملها لكون وجوب الإحداد تابعا لوجود العدة [43] ، الاستدلال بهذا القول من أربعة طرق:
(1) طريق الكتاب. (2) طريق السنة.
(3) الآثار المروية عن بعض الصحابة. (4) المعقول.
وإليك تحرير المقام في ذلك:(31/253)
(1) الاستدلال بالكتاب: استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [44] . فالآية دليل على أن الحامل تنقضي عدتها بوضع حملها لأن الأجل المذكور في الآية هو العدة وهو معلق بغاية وهي وضع الحمل والآية شاملة بعمومها لكل حامل سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة وفى هذا يُسر بديع فإن الله تعالى حينما جعل الظرف الزمني لعدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا أخرج من هذا العموم بدليل آخر عدة الحامل فتكون عدتها بوضع حملها وهو ما يعرف في علم الأصول بتخصيص العام والقول بقصرها على عدة الحامل المطلقة دعوى بلا دليل كما سيأتي.
(2) وأما استدلالهم من السنة فقد استدلوا منها بما يأتي:
(أ) ما روى الجماعة إلا أبا داود وابن ماجة عن أم سلمة: "أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفى عنها وهى حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه. فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين. فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفِست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكحي" [45] .
وللجماعة إلا الترمذى في قصة سبيعة قالت: "فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدالي" [46] .
فهذا الحديث دليل على أن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها وهو حديث صحيح لا كلام لأحد في صحته وبانقضاء عدتها بوضع حملها يجوز نكاحها وهو ما صرح به في الحديث فجواز نكاحها دليل على انقضاء عدتها وانقضاء عدتها دليل على عدم وجوب الإحداد عليها بعد وضع حملها فإن قيل الاستدلال بالحديث على محل النزاع فيه نظر وذلك لأَمرين:(31/254)
الأمر الأول: ما ورد في قصة سبيعة نفسها من مخالفة ظاهرة لهذا الحديث وهي رواية صحيحة لا مطعن في صحتها ولفظها عند البخاري كما ورد في رواية يونس عن الزهري وهو أن عمر بن عبد الله بن الأرقم كتب إلى عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحرث أخبرته أنها كانت تحت سعد ابن خوله فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال: "مالي أراكِ تجملتِ للخطاب؟ فإنكِ والله ما أنتِ بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا". قالت سبيعة: "فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج" [47] .
فظاهر هذه الرواية يخالف ما قبلها وذلك أن ما قبلها يفيد أنها مكثت قريبا من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر هذه الرواية يفيد أنها توجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي قال لها فيه أبو السنابل ما قال فإنها قالت جمعت علي ثيابي حين أمسيت وهذا يدل على أنها توجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم نفسه فإذا كان الأمر كذلك فالحديث لا يكون دليلا على محل النزاع وإنما يصار إلى الأدلة التي تخالفه كما سيأتي:
والجواب عن هذا الاعتراض بأن الجمع ممكن هنا وهو أولى لأن فيه أخذٌ بالأدلة جميعا وبيان ذلك هو أن نحمل هذه الرواية وهي قولها: "حين أمسيت"على إرادة توجهها ولا يلزم منه أن يكون في ذلك اليوم الذي قال لها فيه ما قال [48] . بذلك تجتمع الأدلة ويحصل الأخذ بها جميعا.
وما كان في الصحيحين مقدم على غيره عند التعارض وعدم إمكان الجمع.(31/255)
الأمر الثاني: اختلاف روايات هذا الحديث مما يجعل الناظر فيه يشك في دلالته وذلك أنه ورد بروايات مختلفة في المبنى والمعنى. ففي رواية أنها ولدت قريبا من عشر ليال وفي رواية لأحمد فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت، وفى رواية للبخاري فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، وفى أخرى للنسائي بعشرين ليلة أو خمس عشرة، وفى رواية للترمذي والنسائي فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين يوما ولابن ماجة ببضع وعشرين، وفى ذلك روايات أُخر مختلفة [49] .
والجواب عن ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح بعد ذكر هذه الروايات حيث قال: "والجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة ولعل هذا هو السر في إبهام من أبهم المدة إذ محل الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشرا وهو هنا كذلك فأقل ما قيل في هذه الروايات نصف شهر وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاري رواية عشر ليال وفى رواية الطبري ثمان أو سبع فهو في مدة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في مدة بقية الحمل وأكثر ما قيل فيه بالتصريح شهرين وبغيره دون أربعة أشهر [50] .
(2) ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "كنت أنا وابن العباس وأبو هريرة فجاء رجل فقال: افتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين. وقلت أنا: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن. قال ابن عباس: ذلك في الطلاق. وقال أبو سلمة: أرأيت لو أن امرأة تأخر حملها سنة فما عدتها. قال ابن عباس: آخر الأجلين. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي يعنى أبا سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها هل مضت في ذلك سنة؟ فذكرت أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم" [51] .(31/256)
(3) كما أخرجه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه من حديث أبي السنابل أن سبيعة وضعت بعد موت زوجها بثلاث وعشرين يوما فقال صلى الله عليه وسلم: "قد حَل أجلها" [52] .
(4) ما روى البخاري أن عبد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه "كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية كيف أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إذا وضعت أن انكح" [53] .
(5) روى البخاري عن المسور بن مخرمة "أن سبيعة الأسلمية نُفِست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فأستأذنته أن تنكح فآذن لها فنكحت" [54] .
فهذه الأحاديث قاضية بأن عدة الحامل المتوفى عنها لها غاية وهي وضع حملها فهل لأحد أن يقول بخلاف ما دلت عليه هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي تفيد بمنطوقها ومفهومها ما يفيده ظاهر الكتاب وهو انقضاء عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها.
(3) الآثار:
وأما الآثار المروية عن بعض الصحابة التي تفيد هذا المعنى فنورد منها ما يأتي:
(1) ما روي عن ابن مسعود "أنه بلغه أن عليا يقول تعتد آخر الأجلين فقال: من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهر".
(2) أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أيضا "أن سورة النساء الصغرى نسخت ما في البقرة".
(3) أخرج ابن مردويه عنه أن سورة النساء الصغرى نسخت كل عدة.
(4) أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري. قال: "نزلت سورة النساء الصغرى بعد التي في البقرة بسبع سنين" [55] .
فهذه الآثار مصرحة بأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عامة في جميع العِدَدِ وأن عموم آية البقرة مخصص بها وهو المراد بالنسخ المذكور في الآثار المذكورة وليس المراد النسخ الاصطلاحي وهو إزالة الحكم الأول وتبديله بحكم آخر بل المراد التخصيص على ما بينا.(31/257)
(4) وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجهين:
الوجه الأول: أن المعتدة المطلقة تنقضي عدتها بوضع حملها إذا كانت حاملا إجماعاً فكذا المتوفى عنها قياسا عليها لأن العدة إنما شرعت في الأصل لمعرفة براءة رحمها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة.
الوجه الثاني: أنه لا خلاف بين أهل العلم في بقاء العدة والمرأة حاملا فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تنقضي العدة بوضعه كما لو كانت الحامل المطلقة [56] .
القول الثاني مروي عن علي وابن عباس وابن مسعود وأبي السنابل وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسحنون من المالكية أن المتوفى عنها الحامل لا تنقضي عدتها بوضع حملها وإنما تعتد أطول الأجلين ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع على اختلاف في نسبة هذا القول إلى هؤلاء الأئمة الأعلام.
وتحرير المقام في ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح وهو أن هذا القول ثابت عن علي رضي الله عنه بإسناد صحيح كما أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وليس كما ذكر بعض الفقهاء من أنه مروي عن علي بإسناد منقطع.
أما ابن عباس فالذي يظهر أنه رجع عن هذا القول يحققه أن المنقول عن تلاميذه وفاق الجماعة في ذلك.
كذلك عبد الله ابن مسعود رجع عن قوله أولاً إلى قول الجماعة كما تم ثبته قريبا فإنه قال من شاء باهلته (أي لاعنته) في أن سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة البقرة.
والأمر كذلك عن أبي السنابل فإنه يظهر من مجموع الطرق في قصة سبيعة أنه رجع عن فتواه أولاً [57] .
ولو فرض أن هؤلاء قالوا كلهم بهذا القول ولم يرجع منهم أحد فلا حجة إلا فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.(31/258)
وأما ما روى عن سحنون من فقهاء المالكية فقد رده ابن حجر في الفتح بأنه شذوذ مردود لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع [58] .
وحجة من قال بأن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أطول الأجلين هو الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} عام في كل من مات عنها زوجها يشمل الحامل وغيرها- وقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عام أيضا يشمل المطلقة والمتوفى عنها- فجمع أولئك بين العمومين بقصر الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالآيسة والصغيرة قبلهما ثم لم يُهملوا ما تناولته الآية الثانية من العموم لكن قصروه على من مضت عليها المدة ولم تضع فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من الغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم [59] .
والجواب عن هذا الاستدلال من وجهه:(31/259)
الوجه الأول: ما ذكره القرطبي بعد ما ذكر ما في المسألة من خلاف حيث قال بعد إيراد دليل المخالفين للجمهور "والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نُفِست بعد وفاة زوجها بليال وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج فبين بالحديث أن قوله تعالى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن فتكون عدتهن بوضع الحمل ويعتقد هذا بقول ابن مسعود من شاء باهلته أن آية النساء الصغرى نزلت بعد آية عدة الوفاة وليس الأمر كما زعم بعض من زعم من أن كلام ابن مسعود يفيد أن آية الطلاق ناسخة لآية البقرة وإنما يعني كلام ابن مسعود أن آية الطلاق مخصصة لآية البقرة فإنها أخرجت منها بعض ما تناولتها وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً توفى بمكة حينئذ وهى حامل وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفى بمكة [60] .
فكلامه يفيد أن عموم آية البقرة مخصوص بقوله تعالى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا منسوخا بدليل قصة سبيعة المتفق على صحتها وتخصيص العام وتقييد المطلق أمر شائع عند الأصوليين ولا ضرورة هنا للجمع وهو ما اعتمده أصحاب القول الثاني لأنه تعارض بين النصوص فهذا عام وهذا مخصص فيحمل العام على الخاص ويخرج من عمومه ما دل عليه هذا الخاص.
أضف إلى هذا ما قاله أبو عمر بن عبد البر تعقيبا على هذه المسألة "لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال علي وابن عباس لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين وقد اجتمعتا في الحامل والمتوفى عنها زوجها فلا تخرج من عدتها إلا بيقين واليقين آخر الأجلين [61] .(31/260)
الوجه الثاني: لو سلمنا بوجود التعارض وعدم التخصيص لم نسلم بأن آية البقرة عامة لأنه تقرر في الأصول أن الجموع المنكرّة لا عموم فيها وآية البقرة من ذلك القبيل فلا إشكال.
الوجه الثالث: لو سلمنا بالعموم وسلمنا بالتعارض وعدم التخصيص لم نسلم بأن عدة الحامل المتوفى عنها لا تنقضي بوضع حملها بدليل آخر وهو ما تفيده الأحاديث الصحيحة الصريحة فإنه لا يمكن التخلص منها بوجه من الوجوه [62] .
هذا ما يمكن أن يجاب به عن هذا الاستدلال والحق صراح لا غبار عليه وإن اشتبه أحيانا في بعض المسائل الفرعية لتكافؤ الأدلة إلا أن هذا المعنى لا يوجد هنا ولهذا فإن الراجح عندنا هو القول الأول لما ذكرنا من الكتاب والسنة والآثار المروية عن بعض الصحابة والمعقول وقصة سبيعة نص في هذا المعنى وهي قصة صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي كافية في الاستدلال بوضع حملها لو لم يوجد غيرها زد على هذا أن أئمة الفتوى أجمعوا على أن المطلقة الحامل تنقضي عدتها فأي فرق بين هذه وتلك؟. وأيضا مما يرجح مذهب الجمهور أن الآيتين وإن كانتا عامتين من وجه خاصتين من وجه فكان الإحتياط أن لا تنقضي العدة إلا بآخر الأجلين لكن لما كان المعنى المقصود الأصلي من العدَة براءة الرحم ولاسيما فيمن تحيض فإنه يحصل المطلوب بالوضع وهو ما دل عليه حديث سبيعة ويقويه قول ابن مسعود في تأخر نزول آية الطلاق عن آية البقرة [63] .
وكذلك يترجح مذهب الجمهور بما روي عن أبيّ بن كعب قال قلت يا رسول الله {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها زوجها فقال:"هي للمطلقة وللمتوفى عنها زوجها "رواه أحمد والدارقطني.(31/261)
فهذا الحديث نص في محل النزل وهو موافق لما تم ثبته قريبا من الأحاديث القاضية بأن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها بل هو أدل على محل النزاع لأنه جواب عن سؤال السائل فالمقام مقام بيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فتح الباري جـ 9 ص 487.
[2] نيل الأوطار جـ6 ص331.
[3] المغنى جـ7 ص 470.
[4] سورة الأحزاب "49 ".
[5] سنن أبى داود جـ 2 ص 588. جامع الترمذي جـ5 ص114. وسنن النسائي جـ 6ص121. سنن ابن ماجة جـ1 ص 189.
[6] المغنىجـ7 ص 470 وما بعدها.
[7] فتح الباري جـ9 ص 487.
[8] فتح الباري جـ9 ص 487.
[9] فتح الباري جـ 9 ص 484.
[10] شرح معاني الآثار للطحاوي جـ3 ص 75.
[11] تعليق بياض السنن الكبرى للبيهقي جـ7 صر 438.
[12] تعليق بياض السنن الكبرى للبيهقي ج4 ص438.
[13] أنظر الفتح ج9 ص 487.
[14] المغنى ج 7 ص 471.
[15] صحيح مسلم ج 4 ص 36 0 2.
[16] مواهب الجليل ج 4ص53 1 1، المهذب ج2 ص 186، المغنى ج7 ص 471.
[17] فتح القدير ج ص 313.
[18] فتح القدير ج4 ص 313، المغنى ج 7 ص 471.
[19] فتح القدير ج 4ص 313، المغنى ج 7 ص 471، المبسوط ج 6ص ا 3.
[20] سورة البقرة "234 ".
[21] سورة آل عمران "41 ".
[22] المغنى ج7 ص 471.
[23] المبسوط ج 6 ص 39.
[24] بدائع الصنائع جـ3 ص 192.
[25] بدائع الصنائع جـ 3 ص 192، نهاية المحتاج جـ7 ص 126، شرح الخرشي جـ 4 ص 143.
[26] المبدع جـ ص 115.
[27] المصدر السابق.
[28] المصدر السابق.
[29] المبسوط جـ6 ص 39، مغنى المحتاج جـ3 ص 396، نهاية المحتاج جـ 7 ص 46 1، شرح الخرشي جـ 4 ص 46 1.
[30] المغنى جـ7 ص72 4.(31/262)
[31] المبسوط جـ6 ص 39، المغنى جـ 7 ص 472، شرح الخرشي جـ 4 ص146، نهاية المحتاج جـ 7 ص 46 1.
[32] المبدع جـ 8 صح114.
[33] المغنى جـ 7 ص 472، المبسوط جـ 6ص 43.
[34] المبسوط جـ6 ص 44.
[35] نهاية المحتاج جـ7 ص 46 1، مغنى المحتاج جـ3 ص 396، شرح الخرشي جـ4 ص 46 1، والمغنى جـ7 ص 472، المبسوط جـ6 ص 43.
[36] المبسوط جـ6 ص 43.
[37] بدائع الصنائع جـ3 ص 200.
[38] المبدع جـ8 ص 114.
[39] سبق تخريجها.
[40] سورة البقرة "228 ".
[41] سورة الطلاق "4 ".
[42] المغنى جـ7 ص 472.
[43] تبيين الحقائق جـ 3 ص 28، بدائع الصنائع جـ3 ص 192، المغنىجـ7 ص 483، الخرشي جـ4 ص 43 1، مغنى المحتاج جـ3 ص 388.
[44] سورة الطلاق "4 ".
[45] صحيح البخاري جـ 7 ص 72، صحيح مسلم جـ4 ص 48 1، سنن النسائي جـ6ص 196، جامع الترمذى جـ 2ص 332، وسنن ابن ماجة جـ 7 ص 2 0 2 مسند أحمدجـ6 ص 432
[46] المصادر السابقة وسنن أبي داود جـ 2 ص728.
[47] سبق تخريجه.
[48] نبيل الأوطار جـ 6ص 323، فتح الباري جـ9 ص473.
[49] المصدرين السابقين
[50] فتح الباري جـ9 ص 473.
[51] سبق تخريجه.
[52] نيل الأوطار جـ 6 ص هـ 32.
[53] صحيح البخاري مع فتح الباري جـ9 ص 469.
[54] المصدر السابق
[55] أنظر هذه الآثار في نيل الأوطار جـ6 ص5 32.
[56] أنظر المغنى جـ 7 ص 474.
[57] أنظر فتح الباري جـ9 ص 474.
[58] المصدر السابق.
[59] فتح الباري المصدر السابق.
[60] أنظر الجامع لأحكام القرآن جـ3 ص هـ 17.
[61] فتح الباري جـ9 ص 474.
[62] نيل الأوطار جـ6 ص 325.
[63] فتح الباري جـ 9 ص 474.(31/263)
نظامُ الإثبَات في الفِقهِ الإسلاَمي
(5)
دراسة مقارنة
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الإِثبات بالكتابة:
تأتي أهمية الكتابة لكونها وسيلة كبرى من وسائل المعرفة، وأداة هامة لتبليغ المعاني، وتقدم بما تقدم به الألفاظ في بيان المقاصد والأهداف. ولعله لا يخفى على عاقل أهمية الكتابة واعتماد الأمة عليها في دينها ودنياها.
فقد اعتمد خيار هذه الأمة وسلفها من الصحابة الكرام على الكتابة، فوافقوا مجتمعين على تدوين كتاب الله عز وجل الذي هو شرع هذه الأمة ودستورها. كما أن المصدر الثاني من التشريع وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقل إلينا مكتوبا حفظته كتب السنن. وصدق الإمام ابن القيم رحمه الله حين قال: "ولو لم يعتمد على ذلك- أي الكتابة- لضاع الإسلام اليوم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بأيدي الناس- بعد كتاب الله- إلا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ" [1] .
ومن عناية الشارع الكريم بالكتابة جعلها وسيلة لإثبات الحقوق، حيث أرشد المولى عز وجل إلى كتابة الحقوق في أطول آية في القرآن وهى آية الدين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ....} الآية (البقرة: 282) .(31/264)
فإذا كانت هذه الأمة قد أرشدت إلى كتابة الدين وأمرت بتوثيقه، لكون ذلك أحفظ للمال، وقاطعا لطريق إنكاره، فلننظر إلى أي مدى أخذ الفقهاء بهذا الأمر، فهل حملوه على الوجوب بحيث لا يصح إثبات الدَّين إلا بالكتابة والإشهاد عليه، أم هذه للندب والإرشاد فيجوز ترك الكتابة عند ائتمان المدين والوثوق بصدقه؟
(1) ذهب فريق من الفقهاء إلى أن كتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها قد كانا واجبين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه} ولكن قد نسخ الله هذا الوجوب بقوله تعالى في الآية التي تليها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ... } الآية (البقرة: 283) . روي هذا القول عن الشعبي والحسن [2] .
(2) قال آخرون: هذه الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا والله آية الدين محكمة، وما فيها نسخ". وعن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم، رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: هـ) ، ورجل له على رجل دين فلم يشهد عليه". قال الجصاص: "قال أبو بكر: وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
وروي عن الضحاك عن الذي لم يكتب دينه الآجل ولم يشهد عليه: "إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره".
وقال سعيد بن جبير: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . (البقرة: 282) . يعني أشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أولم يكن أجل، فأشهد على حقك على كل حال [3] .(31/265)
فعلى قول هؤلاء فإن الأمر هنا محمول على الوجوب ولابد للدائن من إثبات دينه كتابة إذا كان الدين مؤجلا، فإن لم يكتبه فقد خالف أمر الله الوارد في الآية، وضيع حقه بتفريطه في التوثيق لماله. ولا وجه لمطالبته عند إنكار مدينه للدين لأنه ما أعد عدته لهذا الإنكار.
(3) وهذا هو قول الجمهور: إن الأمر بالكتابة في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} والأمر بالإشهاد في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وفي {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لا يخلو من أن يكون موجبا لكتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها حال نزولها، وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن نسخ إيجابه بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو يكون نزول الجميع معا، فإن كان كذلك فليس جائزا أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره.
ولماّ لم يثبت تاريخ نزول هذين الحكمين- الأمر بالكتابة والإشهاد- وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وجب الحكم بورودهما معا، فلم يرد الأمر بالكتابة والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة ليس للوجوب إنما هو للندب أي تندب الكتابة.
أما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء"، فلا دلالة فيه على أنه يرى وجوب الكتابة والإشهاد إنما يريد أن الجميع قد ورد معا ونسق التلاوة يقتضي أن يكون ذلك مندوبا وهو ورود قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .(31/266)
وكذلك ما روي عن أبي موسى: ثلاثة لا يستجاب لهم من له على رجل دين فلم يشهد عليه، فلا دلالة فيه أيضا على وجوب الكتابة والإشهاد لأنه قد ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب، بل يقال أنه تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله له فيه المخرج والخلاص.
ويؤيد صحة مذهب الجمهور في ندب الكتابة وعدم الوجوب أنه لم تنقل إلينا كتابة الصحابة والتابعين وسلف الأمة لديونهم أوبيوعهم أو عقودهم مع حاجتهم لها، لم ينقل نكيرهم أو اعتراضهم على من ترك الكتابة، فلو كانت الكتابة واجبة لنقل ذلك نقلا مستفيضا ولتواتر إنكارهم على تاركها. فدل عدم النقل وعدم إظهار النكير على أن آية الكتابة ليست واجبة إنما ورد الأمر في هذه الآية للندب والاحتياط حتى لا يقع جحود أو نسيان [4] .
حجية الكتابة في الإِثبات:
إذا كنا قد تناولنا آراء الفقهاء في كتابة الديون من حيث الوجوب وعدمه، ورأينا أن البعض يرى الوجوب والبعض الآخر يرى نسخ الوجوب، والجمهور يرى ندب الكتابة من غير نسخ، فهل تكفي الكتابة دليلا في الإثبات، وما قيمة السند المكتوب وما مدى حجيته على ما دُوِّن فيه؟ وهل يحكم القاضي بما هو مسطور في السند متى ما رفع إليه سند يتضمن حقا من الحقوق وليس عليه أن يقبل أي طعن في صحته وصحة ما حمله السند؟.
لاشك أن الكتابة المشار إليها في الآية الكريمة أصبحت مستندا خطيا لأن المكتوب يحوي إقرارا بما تضمنه السند موقعا عليه من المدين المقر وبشهادة كاتب السند أو الشهود الذين وقعوا على صحة إقرار المدين بالسند وعليه فإن حجية السند هنا تأتي من توقيع المقر والإشهاد فقويت دلالته على الحق، ولاشك أن الفقهاء عاملوا الإقرار بالكتابة معاملة الإقرار باللسان سواء بسواء.(31/267)
غير أننا نلاحظ خلافا بين الفقهاء في قبول الكتابة كدليل إثبات للحقوق، والذي يبدو لي من أغلب عباراتهم أنهم يقصدون المكتوب الذي لم يشهد عليه كإقراره بدين أو بحق لآخر بخط يده، أو كتابته لهبة لم يشهد عليها، وكذلك الأوراق التي لا تصدر من جهة رسمية، فإن بعض الفقهاء يرون أن مثل هذه المكاتيب لا يثبت القاضي بها ما تضمنته من حقوق لعدم تيقن صدورها من المنسوبة إليه ولإمكان تزوير الخطوط.
وقد أبرز ابن القيم رحمه الله هذا الخلاف في كتابه الطرق الحكمية في فصل (الطريق الثالث والعشرون- الحكم بالخط المجرد) ومن أقواله في ذلك:
"أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان، فيطلب منه إمضاءه والعمل به فقد اختلف في ذلك، فعن أحمد ثلاث روايات، إحداهن: أنه إذا تيقن أنه خطه نفذه وإن لم يذكره، والثانية: أنه لا ينفذه حتى يذكره، والثالثة: أنه إذا كان في حرزه وحفظه نفذه وإلا فلا".
"والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم ولا في الشهادة، وفى مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظا عنده كالرواية الثالثة عن أحمد".
"وأما مذهب أبي حنيفة، فقال الخفاف، قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظه- كإقرار الرجل بحق من الحقوق- وهولا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنه لا يحكم بذلك ولا ينفذه حتى يذكره".
"وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكره لإمكان التزوير عليه".
"وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأحمد: الرجل يموت وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها أو أعلم بها أحدا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط فإنه ينفذ ما فيها".
"قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".(31/268)
"وأجاز مالك الشهادة على الخطوط..... وذكر ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على الخط، وقال الطحاوي خالف مالك جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله شذوذا" [5] .
يظهر من هذا النقل أن بعض الفقهاء يتحرجون من الإثبات بالكتابة ويرون أنها لا تصلح دليلا يعتمد عليه، وكما قدمت أن الشبهة التي يعتمد عليها هذا الفريق من الفقهاء في رد الدليل الكتابي هي تشابه الخطوط وإمكان محاكاتها وتزويرها، ولذا يجب على القاضي ألا يبني حكمه على مجرد الخط. ولعل هؤلاء يدور بخلدهم قصة عثمان رضي الله عنه والفتنة التي أدت إلى مقتله، فإن المتسببين في قتله- كما يحكي لنا التاريخ الإسلامي- قد صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فكان ما كان.
غير أن أدلة هؤلاء المانعين للإثبات بالكتابة تضعف تماما أمام الحجج الواضحة التي أوردها المجيزون للإثبات بالكتابة والتي تقوم- زيادة على ما قدمنا من ندب الله عز وجل لكتابة الديون بسبب القرض أو بسبب عقد مالي- على:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه ورسائله إلى الملوك وغيرهم وتقوم بها حجته، وفى الجامع للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قالوا: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة كأني أنظر إلى وبيصه ونقشه محمد رسول الله [6] .
ثانيا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" [7] .
قال ابن القيم: "ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن لكتابة وصيته فائدة" [8] .
ثالثا: كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب" [9] .(31/269)
رابعا: إجماع أهل الحديث على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده وجواز التحديث به، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشذوذ [10] .
خامسا: اعتماد فقهاء هذه الأمة وأئمتها على الكتابة في حفظ السنة والفقه، وقد تقدم قول ابن القيم في ذلك.
وفي نظري أن هذا القول هو الصواب وهو الأرفق بالناس في معاملاتهم وأقضيتهم ولأن الكتابة تدل على المقصود كدلالة الألفاظ، ولأن هذا القول هو الذي أختاره حذاق الأئمة كما هو ظاهر من النقول.
كيفية الإِثبات بالكتابة:
إن كنا قد انتهينا إلى جواز الإثبات بالكتابة بناء على القول الغالب عند الفقهاء وتسهيلا على الناس، فإن هذا الجواز لم يجعل من الكتابة دليلا يمنع أو يحد من قوة غيرها من الأدلة كما ذهب بعض القانونيين. فرجال القانون الوضعي قد انتهوا إلى وجوب الإثبات بالكتابة في بعض الحقوق، ولا يجوز الإثبات إلا عن طريقها، ومنعوا الإثبات بشهادة الشهود في هذه الحقوق، مقيدين بذلك طريق الإثبات بالشهادة، وجعلوا حجية الكتابة أقوى من حجية الشهادة. ورجال القانون إن كانوا قَد عذروا أنفسهم في هذا المسلك بدعوى انتشار شهادة الزور مما أدى إلى الفوضى في ساحات العدالة، فإن الفقه الإسلامي لم يكن بحاجة لمثل هذا التصرف وهذا التقييد مادام منهجه تربية الفرد، وغرس روح الأمانة والمراقبة لله عز وجل بحيث تندرج هذه المراقبة على أفعاله كلها فيكون بذلك بعيدا عن تهمة التزوير. ثم إن هذا المحذور الذي أدى تقييد الشهادة عند القانونيين لا يؤمن دخوله في الكتابة والمستندات الخطية، وما كان إنكار المانعين للإثبات بالكتابة إلا لتخوفهم من الغش والتزوير.
بقي لنا الآن أن نرى كيف يكون اعتداد الفقهاء بالمستندات المكتوبة في الإثبات.(31/270)
فإذا نظرنا إلى كتابات الفقهاء- المتقدمين منهم والمعاصرين- في الأدلة الكتابية نجدهم يقسمونها إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: المستندات الصادرة من دائرة رسمية:
وهي تلك التي يثبت بها موظف عام أو شخص مكلَّف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقا للقواعد المرعية وفي حدود سلطته أو ولايته أو اختصاصه. ولذلك فإن أهم ما يشترط للسند الرسمي ما يلي:
(1) أن يكون تحريره بمعرفة موظف عمومي أو جهة رسمية.
(2) أن يكون ذلك الموظفة أو تلك الجهة الرسمية مختصة بتحرير مثل هذا السند وفي حدود سلطتها أو ولايتها.
(3) أن يكون تحرير هذا السند قد تم بحسب القواعد الموضوعة له [11] .
ومثال المستندات الرسمية: صور الأحكام التي تستخرجها المحكمة ممهورة بإمضاء القاضي وختم المحكمة، وثائق الزواج والطلاق، شهادات الميلاد، صكوك الأراضي وعقودها المستخرجة من سجلات مصلحة الأراضي، مخالصات مصلحة الضرائب وصندوق الزكاة وغير ذلك من المستندات التي تستخرج من الجهات المختصة معتمدة بختمها وإمضائها.
والورقة الرسمية حجة على ما تضمنته من حقوق وبيانات مادامت قد استوفت الشروط المتقدمة، ولذلك لا يقبل إنكار ما جاء فيها إذ أن الجهة الرسمية لا تستخرج هذا السند إلا إذا توثقت من صحة بياناته بالتحري الدقيق أو بشهادة الشهود أو بالرجوع إلى سجلاتها.
ونستدل لهذا القول من كتب السابقين ما ورد عنهم في كلامهم عن كتاب القاضي إلى القاضي أو الحاكم إلى عماله فإنه يكون حجّة وكذلك يكون حجّة ما يصدره القضاة من أوراق للخصوم تتضمن الحكم الذي أصدروه في قضاياهم وغير ذلك. ومن هذه الأقوال:(31/271)
يقول البخاري في صحيحه "باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق منه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي". وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود، قال: وإن كان القتل، فالخطأ والعمد واحد، لأنه مال بزعمه وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت.
وقال إبراهيم كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عُرِف الكتاب والخاتم. وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي، ويروى عن ابن عمر نحوه. وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي شهدت عبد الملك بن يعلى قاضى البصرة وإياس بن معاوية والحسن وثَمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد الله بن بريدة الأسلمي وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كُتُب القضاة بغير محضر الشهود، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور قيل له اذهب فالتمس المخرج من ذلك" [12]
ويقول ابن القيم: "وقال أبو يوسف/ محمد: ما وجد القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق، والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره فإنه ينفذ ذلك ويقضي به إذا كانت تحت خاتمه محفوظا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه" [13] .
هذا، وقد عقد صاحب جامع الفضولين فصلا في حجية المحاضر الرسمية للقضاة والصور المستخرجة منها إذا كانت موقعة بختم القاضي وامضائه، وبين أن محاضر القضاة وما دون فيها من أقوال الخصوم وسماع الشهود ومنطوق الحكم تكون حجة، وكذلك الصورة التي يستخرجها القاضي من سجلات المحكمة تتضمن حكم قاض آخر في دعوى من الدعاوى [14] .(31/272)
يظهر من كلام الفقهاء أن إنكار الورقة الرسمية لا يقبل، غير أنه إذا طعن في الورقة الرسمية بالتزوير، وقال إنهم قد زوروا توقيعه أو توقيع القاضي أو ختم جهة الاختصاص، فللقاضي أن يحيل الأوراق إلى جهة الاختصاص أو أهل الخبرة للمضاهاة والإفادة بصحة الورقة أو التزوير، وهل يحكم القاضي بقول أهل الخبرة أن المستند صحيح؟ قيل لا يحكم لكون شهادتهم ليست شهادة على الحق، وقيل يحكم بذلك [15] . وعندي أن السير في الدعوى يتوقف على مدى اقتناع القاضي بصحة السند استئناسا بقول أهل الخبرة، ومدى قوة السند وأثره على الدعوى.
القسم الثاني: المستندات العرفية:
والمستندات العرفية هي الأوراق والمستندات التي لم تصدر من دائرة رسمية أو موظف مختص، وهي ككتابة المُقِر بخط يده أن لفلان عليه كذا، أو كتابة الوصية بخط الموصي من غير أن يُشهد على وصيته، وكذلك هبته لآخر من غير أن يقوم بتسجيل الهبة، ومن ذلك أيضا أن يجد الوارث في دفتر مورثه أن له عند فلان كذا، ومنه أيضا دفاتر التجار التي تبين تعاملهم ودائنيهم ومدينيهم.
والورقة العرفية حجة فيما تضمنته، ويجوز للقاضي أن يحكم بمقتضاها، فهي كالإقرار بالكتابة، والإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان عند الفقهاء. فمتى ما أقر الشخص بتوقيعه أو بخطه، أو أقر الوارث بأن هذاَ خط مورثه أو توقيعه أو كان ذلك الخط أو التوقيع معروفا ومشهورا فعلى القاضي أن يعمل بمقتضى هذا السند.
يقول ابن القيم: "والحديث المتقدم- أي حديث الوصية- كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي، وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ولأن الكتابة تدل على المقصود فهي كاللفظ ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي: "وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة، لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".(31/273)
وقول الإمام أحمد وإن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها، يرد على ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصوله العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ واللفظ دال على القصد والإرادة " [16] .
ويقول في موضع آخر"وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه أن لي عند فلان كذا، جاز له أن يحلف على استحقاقه وأظنه منصوصا عليها، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ماله عليّ جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته" [17] .
غير أننا نلاحظ اختلاف معاملة الفقهاء للورقة العرفية عن معاملة المستند الرسمي، إذ أنهم لم يقبلوا إنكار من كان السند الرسمي حجة عليه أما الورقة العرفية فقد جعلوا كتابته وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه لم يوقع وليس هذا توقيعه فوجب على المدعي إثبات الإقرار بطريق آخر غير الورقة العرفية.
نخلص من هذا أنه يجوز الإثبات بالكتابة عموما، فإن كان المستند صادرا من جهة رسمية فهو حجة، وعلى مُدعي خلاف ما في السند إثبات بطلان هذا السند بالتزوير. أما إن كان السند عرفيا، فهو دليل على الحق غير أنه يجوز لمن كان السند حجة عليه أن ينكر دلالة هذا السند العرفي على الحق لكون الفقهاء عاملوا الورقة العرفية معاملة الإقرار، والإقرار يجوز الرجوع فيه، ولذا يمكن الطعن في هذه الورقة العرفية بإنكارها أو تزويرها.
شهادة الخبراء:(31/274)
ومن الوسائل التي تُعين على إظهار الحق وكشف وجه الدعوى قول الخبراء. والخبراء هم الذين لهم المعرفة والخبرة بالمسائل الفنية إذا كان موضوع النزاع فيه مسألة فنية أو عدمية تغيب على القاضي، ومن ذلك قول الطبيب الشرعي في سبب الوفاة، وغير ذلك مما يختص بمعرفته الطبيب. وكذلك قول المهندسين والفاحصين والمختصين بمعرفة الخطوط والبصمات، كلٌ فيما يتعلق ويتصل بمجال تخصصه، وكذلك قول البيطار في عيوب الحيوان ودائه.
ويمكن القول بأن الشريعة الإسلامية قد اعتدت بقول أهل الخبرة، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول القائف وسرّ عليه الصلاة وَالسلام حينما أثبت نسب أسامة- رضي الله عنه- من زيد- رضي الله عنه- بمقارنة الشبه في أقدامهما [18] .(31/275)
وقد أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . (القيامة: 4) . إلى اختلاف بصمات الأصابع من شخص لآخر. فلا حرج إذن إذا استدل القاضي على المتهم بقول الخبراء الذين قارنوا بصمات المتهم مع البصمات التي وجدت في مكان الجريمة واتضحت المطابقة. ولما كان قول الخبير ليس شهادة مباشرة في موضوع النزاع إنما هو تقرير فني يتعلق فقط بالمسألة الفنية القائمة في الدعوى جاز للقاضي أن يحكم بمقتضاه إذا وافق الأدلة الأخرى القائمة في الدعوى، كما يجوز له تركه أوترك بعضه إذا رأى عدم سلامته أو عدم سلامة بعضه لكونه يخالف أدلة أخرى مقنعة وواضحة في الدعوى، ذلك لأن القاضي لا يحكم إلا بما تطمئن إليه نفسه حسب الأدلة المقدمة في الدعوى. وليس هذا إنكارا للفائدة العلمية لتقرير الخبير ولكن قد توجد أدلة أخرى أكثر دلالة ووضوحا في محل النزاع، فوجود بصمة الشخص في محل الجريمة مثلا لا تعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا للقتيل أو كان حاملا له بقصد إسعافه، أو كان مدافعا عن نفسه وغير هذا من الاحتمالات.
ثم إنه لما كان قول الخبير شهادة يستعين به القاضي في الدعوى القائمة كما أسلفت، وجب أن يراعى في هذا المقال الشبُه التي تردّ الشهادة فيجب ألا يكون الخبير الذي قدم تقريره في الدعوى قريبا لأحد الخصوم أو قريبا لزوجته أو صهرا لأحد الخصوم أو وكيلا له أو لزوجته في أعماله أو وصيا أو قيما أو مظنونا وراثته بعد موته، كما يجب ألا تكون بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو خصومة ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت بعد الدعوى يقصد منعه من الإدلاء بقوله أو تقريره [19] .(31/276)
وبانتهاء الكلام عن شهادة أهل الخبرة نكون قد فرغنا من عرض أهم وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، وقد رأينا أن هناك قسما قد اتفق الفقهاء على حجيته وهو الإقرار والشهادة، وقسما اختلفوا فيه وعرضنا فيه اليمين النكول عنه، وعلم القاضي، والقرائن والفراسة، والكتابة وشهادة الخبراء، وقبل أن أختم هذا البحث أرى أن أقرر بعض الحقائق المهمة:
الأولى: إن هذه الأدلة التي سقناها تدل على الحق غالبا، ولا يخلو دليل منها- متفق عليه أو مختلف فيه- من احتمال، ولكن هذا الاحتمال لا يمنع غالبا دلالتها على الحق، ولذا جعلها الشارع وسائل للإثبات لأن الحكم للكثير الغالب لا للقيل النادر.
الثانية: إنه لا يجوز التوصل إلى هذه الوسائل بطريق غير مشروع، ولابد للقاضي من التأكد من سلامة إجراءات حصوله على أي من هذه الأدلة ويظهر تقرير الفقه الإسلامي لقواعد سلامة إجراءات الوصول إلى الأدلة في أمرين:
(أ) عدم جواز تعذيب المتهمين للحصول على إقرارهم:
يرى ابن حزم أن الامتحان في الحدود وغيرها من الجرائم بالضرب وبالسجن أو التهديد لا يحل شرعا لأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" [20] . ولا يجوز ضرب المسلم إلا إذا ثبت عليه حق فمنعه فيكون ظالما في هذه الحالة فوجب ضربه لإخراج الحق منه.
ويرى ابن حزم تأسيسا على ذلك أنه لو ضرب المتهم حتى أقر فإن إقراره لا يعمل به، لأنه قد أخذ بصفة لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع [21] .(31/277)
بيد أننا نجد الجمهور من الفقهاء قد قسموا الناس في الدعوى على طوائف ثلاث. طائفة لا يجوز حبسهم ولا ضربهم ولا يضيق عليهم بشيء بل ذهب بعض الفقهاء إلى تعزير من اتهمهم لأن التهمة لا تليق بأمثالهم لكونهم من أهل الورع والتقوى ومعروفين بالدين والصلاح، وطائفة مجهول حالها لم تعرف بصلاح أو فسق، فهذه قالوا لا يضرب المتهم منها ولكن يحبس حتى ينكشف أمره، وطائفة المشتهرين بالفساد والفجور ونقب الدور والسرقات، فهذا لا مانع من ضربه لمناسبة التهمة له ولكونه لوترك لضاعت الحقوق وعمت الفوضى [22] .
(ب) ألا يكون في الحصول على الدليل اعتداء على الحرية الشخصية:
وفي نظري أن الحصول على الدليل إذا كان باعتداء على الحرية الشخصية للفرد فإن ذلك سبب كاف في منع الاحتجاج به، إذ أن الشريعة الإسلامية تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة، فيقول تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . (الحجرات: 12) . كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس في بيوتهم، ولذا فإن الدليل المأخوذ بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه.
ونستدل لذلك بما رواه البيهقي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهب سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقام عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال: "أتدري بيت من هذا؟ "قلت: "لا". قال: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ "قال عبد الرحمن: "أرى قد أتينا ما نهى الله عنه {وَلا تَجَسَّسُوا} فقد تجسسنا"فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم [23] .(31/278)
وفى رواية أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما، فتسلق المنزل وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة ومعهما زق خمر فقال: "يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية"، وأراد أن يقيم عليه الحد فقال الرجل: "لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست. وقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) . وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت. وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . (النور: 27) . وأنت لم تسلم". فخجل عمر وبكى وقال للرجل: "هل عندك من خير إن عفوت عنك"قال: "نعم". فقال: "اذهب فقد عفوت عنك" [24] .
معنى ذلك أن صاحب الدار دفع بعدم مشروعية الدليل. فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة، وهو التجسس وتسور الحائط وعدم السلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليست المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك، لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه أنه وليد إجراءات غير مشروعة.
الثالثة: "الأصل في الذمة البراءة" [25] معنى ذلك أنه ما لم يثبت بطريق من طرق الإثبات أن الشخص معتد أو غاصب فالأصل براءته، فهذه قاعدة وأصل مقرر في الفقه الإسلامي.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد حتى يرضى ...
أهم مراجع البحث
أولا: كتب تفسير القرآن الكريم:
(1) أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (370هـ) ط. الأوقاف القسطنطينية 1338هـ.(31/279)
(2) الكشاف: محمود بن عمر الزمخشري (528) ط. مصطفى محمد بمصر 1354هـ.
(3) أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (542) ط. دار إحياء الكتب العربية 1357هـ.
(4) التفسير الكبير: عمد فخر الدين الرازي (656 هـ) ط. الأميرية بولاق 1289 هـ.
(5) الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ) ط. دار الكتب المصرية 1351 هـ.
(6) لباب التأويل في معاني التنزيل: علاء الدين علي بن محمد الخازن (725 هـ) ط. الأزهرية 1313هـ.
(7) روح المعاني: شهاب الدين الألوسي (1270هـ) إدارة الطبعة المنيرية بيروت.
ثانيا: كتب الحديث النبوي وشروحه:
(8) الموطأ- مطبوع مع شرح الزرقاني: مالك بن أنس الأصبحي (179 هـ) ط. الخيرية.
(9) سنن الدارمي: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (255 هـ) ط. الفنية. مصر 1386 هـ.
(10) صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) ط. العامرة. مصر 1286 هـ.
(11) صحيح مسلم: مطبوع مع شرح النووي: مسلم بن الحجاج النيسابوري (261 هـ) ط. المصرية ومكتبتها 1349 هـ.
(12) سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (275 هـ) ط. الصاوي. مصر 1353هـ.
(13) سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ) ط. هندية حديثة.
(14) نوادر الأصول: محمد بن علي بن الحسين الحكيم الترمذي (285 هـ) ط. العثمانية.
(15) سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني (385 هـ) ط. دار المحاسن. مصر (1386) هـ
(16) السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (485 هـ) ط. دائرة المعارف العثمانية 1344 هـ.
(17) النهاية في غريب الحديث والأثر: المبارك بن محمد بن الأثير (606 هـ) ط. العثمانية 1311 هـ.
(18) شرح النووي على صحيح مسلم: يحي بن شرف النووي (676 هـ) ط. المصرية ومكتبتها.(31/280)
(19) فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني (852 هـ) ط. البهية. مصر 1348 هـ.
(20) نيل الأوطار: محمد بن علي الشوكاني (1255 هـ) ط. العثمانية.
(21) حاشية عون المعبود: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) ط. هندية حديثة.
(22) التعليق المغني على سنن الدارقطني: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) دار المحاسن.
ثالثا: كتب الفقه الإسلامي:
(أ) الفقه الحنفي:
(23) المبسوط: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي (438 هـ) ط. السعادة. مصر 1324هـ.
(24) بدائع الصنائع: علاء الدين بن مسعود الكاساني (587 هـ) ط. المطبوعات العلمية، مصر 1327 هـ.
(25) الاختيار لتعليل المختار: أبو الفضل عبد الله بن محمود الموصلي (683 هـ) ط. السعادة. مصر 1376 هـ.
(26) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي (742 هـ) ط. الأميرية1376 هـ.
(27) الفوائد الطرسوسية: نجم الدين إبراهيم بن علي الطرسوسي (758 هـ) ط. الشرق. مصر 1344 هـ.
(28) جامع الفضولين: أبو بكر علي المعروف بالحدادي (800 هـ) ط. الخيرية. مصر 1322هـ.
(29) معين الحكام: علاء الدين الطرابلسي (844 هـ) ط. الأميرية بولاق.. 13 هـ.
(30) فتح القدير: كمال الدين بن الهمام (861 هـ) ط. الأميرية 1315 هـ.
(31) البحر الرائق: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. دار المعرفة. بيروت.
(32) الأشباه والنظائر: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. العامرة. مصر 1290 هـ.
(33) حاشية ابن عابدين: محمد أمين الشهير بابن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية 13 25 هـ.
(34) رسائل ابن عابدين: محمد أمين بن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية.
(35) مجلة الأحكام العدلية: لجنة من العلماء (1298 هـ) ط. العثمانية.
(ب) الفقه المالكي:(31/281)
(36) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (595 هـ) ط. البابي الحلبي 79 13هـ.
(37) الفروق: أحمد بن أدريس القرافي (684 هـ) دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ.
(38) قوانين الأحكام الشرعية: أبو القاسم محمد بن جزى (741 هـ) دار العلم للملايين بيروت.
(39) مختصر خليل: خليل بن إسحاق بن موسى (779 هـ) مع الشرح الكبير للدردير.
(40) تبصرة الحكام: إبراهيم بن فرحون (799 هـ) ط. البهية. مصر 2 130 هـ.
(41) مواهب الجليل: محمد بن عبد الرحمن الحطاب (954 هـ) ط. السعادة مصر 1329 هـ.
(42) شرح مختصر خليل: أبو عبد الله الخرشي (1101هـ) ط. الأميرية 1317 هـ.
(43) الشرح الكبير- هامش حاشية الدسوقي- أحمد بن محمد الدردير (1201 هـ) .
(44) حاشية الدسوقي: محمد بن عرفة الدسوقي (1230 هـ) ط. السعادة. مصر 1329هـ.
(جـ) الفقه الشافعي:
(45) الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ) ط. الفنية.
(46) مختصر المزني- هامش الأم: إسماعيل بن يحي المزني (264 هـ) .
(47) المهدى: إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ) ط. البابي الحلبي 1343 هـ.
(48) مغني المحتاج: محمد الشربيني الخطيب (977 هـ) ط. البابي الحلبي 1377 هـ.
(49) نهاية المحتاج: محمد بن أبي العباس الرملي 1004 هـ.
(د) الفقه الحنبلي:
(50) المغني: عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620 هـ) ط. دار المنار 67 13 هـ.
(51) السياسة الشرعية تقي الدين أبو العباس بن تيمية (728 هـ) دار الكتاب العربي.
(52) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) ط. كردستان.
(53) إعلام الموقعين محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. الجيل. بيروت.
(54) الطرق الحكمية: محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. مصر.
(55) كشاف القناع: منصور بن يونس البهوثي (1051 هـ) ط. أنصار السنة.(31/282)
الفقه الظاهري:
(56) المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (456 هـ) ط. الإمام. مصر.
رابعا: كتب أصول الفقه الإسلامي:
(57) المستصفى من علم الأصول: أبو حامد الغزالي (505 هـ) ط. الأميرية 1322 هـ.
(58) كشف الأسرار: عبد العزيز البخاري (730 هـ) ط. العثمانية.
(59) الموافقات: إبراهيم بن موسى الشاطبي (0 79 هـ) ط. السلفية 1 134 هـ.
(65) علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف. ط. النصر.
خامسا: اللغة والتراجم:
(61) لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور (711 هـ) ط. الأميرية 1300 هـ.
(62) التعريفات: علي بن محمد السيد الجرجاني (816 هـ) ط. البابى الحلبي 57 13 هـ.
(63) تاج العروس شرح القاموس: محمد بن محمد مرتضى الزبيدي (1205 هـ) ط. الخيرية 6. 13 هـ.
(64) الإعلام: خير الدين الزركلي ط. بيروت.
سادسا: مؤلفات حديثة:
(65) طرق القضاء في الشريعة الإسلامية: أحمد إبراهيم ط. السلفية مصر 1347 هـ.
(66) التعليق على نصوص قانون الإثبات: أحمد أبو الوفا ط. منشأة المعارف.
(67) علم القضاء: أحمد الحصَري.
(68) أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي.
(69) دروس في قانون الإثبات: عبد الودود يحي ط. دار النهضة العربية.
(70) مباحث في المرافعات الشرعية: محمد زيد الابياني ط. عبد الله الكتبي. مصر.
(71) من طرق الإثبات في الشريعة والقانون: محمد البهي. ط. دار الفكر العربي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الطرق الحكمية ص 300.
[2] أحكام القرآن للجصاص 1/ 481.
[3] تفسير القرطبي 3/383، أحكام القرآن للجصاص 1/ 1 48.
[4] أحكام القرآن للجصاص 1/ 482، تفسير القرطبي 3/383.
[5] الطرق الحكميه ص 299- هـ 30.(31/283)
[6] صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) .
[7] صحيح البخاري 3/ 124 (كتاب الوصايا) .
[8] الطرق الحكمية ص 301.
[9] صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) .
[10] الطرق الحكمية ص 301، وأنظر المستصفى للغزالي 1/166.
[11] أصول المرافعات الشرعية أنور العمروسي فقره 318، علم القضاء. أحمد الحصري 1/48.
[12] صحيح البخاري 4/237 (كتاب الأحكام) .
[13] الطرق الحكمية ص 299.
[14] جامع الفضولين 1/325 وما بعدها.
[15] علم القضاء: أحمد الحصرى 1/48 وما بعدها.
[16] الطرق الحكمية ص 302.
[17] المرجع السابق ص 303.
[18] صحيح البخاري 3/ 139. (كتاب الفرائض- باب القائف) .
[19] أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي فقرة 365.
[20] صحيح البخاري (كتاب الحدود) 4/ 105.
[21] المحلى 11/135.
[22] لفتاوى الكبرى ابن تيميه 4/ 190 وما بعدها، معين الحكام للطرابلسي ص 217، والحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار مؤلفه سعد الدين بن الديري الحنفي ص16.
[23] السنن الكبرى 8/ 333، ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 377. قال الذهبي في تلخيص المستدرك صحيح.
[24] تاريخ الطبري 5/ 20 المطبعة الحسينية: مصر.
[25] الأشباه والنظائر لابن نجيم وشرح الحمدي على الأشباه 1/ 89 والمادة "8"من محلة الأحكام العدلية، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء 1/648.(31/284)
تَحقِيقُ جُزءِ الضُّعَفَاءِ وَالمترُوكينَ
"للإمام الدارقطني"
(3)
د. عبد الرحيم محمد القشقري
أستاذ مساعد بكلية الحديث بالجامعة
حرف الغين
(425) غياث بن إبراهيم كوفي عن العالم [1] .
(426) غياث بن كلوّب له نسخة عن مطرف بن سمرة بن جندب لا يعرف إلا به ويروي عن شريك.
(427) غالب بن عبيد الله الجزري عن عطاء والزهري وأبي إسحاق.
(428) غانم بن الأحوص حجازي عن أبي صالح السمان.
(429) غطيف [2] بن أعين كوفي عن مصعب بن سعد.
(430) غطيف الجزري ويقال الطائفي روي عنه أسد بن عمرو البجلي ويروي عنه القاسم بن مالك فيقول روح بن غطيف. هو. هو.
حرف الفاء
(431) فايد بن عبد الرحمن أبو الورقاء كوفي عن ابن أبي أوفى ومحمد بن المنكدر [3] .
(432) فرات بن السائب جزري عن ميمون بن مهران وأبي إسحاق [4] .
(433) فرقد بن يعقوب السبخي أبو يعقوب بصري عن مرة الطيب والنخعي [5] .
(434) فهد بن حيان بصري عن شعبة وأبي عوانة [6] .
(435) فهد بن عوف أبو ربيعة ويقال زيد. بصري. عن حماد بن زيد [7] .
(436) فطر بن محمد العطار الأحدب. حدثوا عنه. كذاب.
حرف القاف
(437) قاسم بن عبد الله بن عمر العمري عن أبيه وعمه وعبد الله بن دينار.
(438) قاسم بن إبراهيم الملطي عن مالك يكذب [8] .
(439) قاسم بن أبي شيبة عن البصريين والكوفيين [9] .
(440) قاسم بن محمد بن حماد الدلال كوفي.
(441) قزعة بن سويد البصري يغلب عليه الوهم.
حرف الكاف
(442) كثير بن سليم بصري عن أنس.
(443) كثير بن عبد الله الأبلي أبو هاشم عن أنس [10] .
(444) كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده.
(445) كثير بن مروان المقدسي عن إبراهيم بن أبي عبلة.(31/285)
(446) كوثر بن حكيم الحلبي عن نافع.
حرف اللام
(447) لوط بن يحي الكوفي أبو مخنف إخباري. ضعيف.
حرف الميم
(448) محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير مكي [11] .
(449) محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه. وزيد بن أسلم. وعطاء، والحكم، وعبيد الله هذا. ليس بصاحب علي. ذاك عبيد الله بن علي بن أبي رافع.
(450) محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العزرمي. وهو ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان.
(451) محمد بن عبد الرحمن. أبو جابر البياضي عن ابن المسيب.
(452) محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني. يماني. عن أبيه وأبوه يعتبر به.
(453) محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي القرشي الجدعاني عن جعفر بن محمد، وعبيد الله بن عمر، وابن أبي مليكة [12] .
(454) محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبه. مراسيل. عن سعد وابن عمر [13] .
(455) محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي الزناد، والزهري.
(456) محمد بن عبد الملك الأنصاري. مدني. عن نافع والزهري وابن المنكدر.
(457) محمد بن حجاج المصفر بغدادي. عن شعبة ومالك.
(458) محمد بن حجاج اللخمي. الواسطي. يكذب. عن عبد الملك بن عمير ومجالد.
(459) محمد بن حجاج بن سويد البرجمي كوفي عن هشام بن عروة. من الشيعة.
(460) محمد بن سعيد بن أبي قيس المصلوب شامي عن عبادة بن أنسي، والزهري، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر [14] .
(461) محمد بن سالم أبو سهل كوفي عن الشعبي والحكم.
(462) محمد بن كريب مدني عن أبيه.
(463) محمد بن عثيم أبو ذر عن ابن البيلماني.
(464) محمد بن عون الخراساني سكن الكوفة عن نافع وسعيد بن جبير.
(465) محمد بن زياد الميموني [15] .
(466) محمد بن مهران يكذب [16] .
(467) محمد بن السائب الكلبي.(31/286)
(468) محمد بن زاذان شامي. عن محمد بن المنكدر وأم سعد الأنصارية. هي لا تُعرف إلا به.
(469) محمد بن زيد العبدي بالبصرة عن أبي الأعين وسعيد بن جبير.
(470) محمد بن مروان السدي أبو عبد الرحمن كوفي. مصنف. عن عبيد الله بن عمر ويزيد بن أبي زياد.
(471) محمد بن معاوية النيسابوري حدث ببغداد ثم بمكة وليس هو ابن مالج، ابن صالح ثقة [17] .
(472) محمد بن كثير القصاب السلمي بصري. وقال يحي بن معين ثقة عن يونس ابن عبيد.
(473) محمد بن الحسن بن زبالة. مدني. عن مالك، وسليمان بن بلال.
(474) محمد بن الحسن بن آتش صنعاني.
(475) محمد بن الفضاَء المعبر بصري عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه. لا يعرفون إلا به [18] .
(476) محمد بن فرات كوفي عن أبي إسحاق وعبد الله بن الحسن.
(477) محمد بن عمر الواقدي مختلف فيه. فيه ضعف بيّن في حديثه [19] .
(478) محمد بن القاسم الأسدي. أبو إبراهيم. كوفي يكذب. عن الثوري، والأوزاعي.
(479) محمد بن ذكوان بصري. خال ولد حماد بن زيد، يروى عن عمرو بن دينار وابن المنكدر ومجالد.
(480) محمد بن أبى حميد ويقال حماد. مدني، عن ابن المنكدر، ونافع، وزيد بن أسلم.
(481) محمد بن يحي الزهري. أبوغَزية مدني عن عبد الوهاب بن موسى يضع.
(482) محمد بن الفضل بن عطية الخرساني ضعيف عن أبى إسحاق ومنصور من المتأخرين.
(483) محمد بن زكريا الغلابي بصري يضع.
(484) محمد بن عيسى بن حيان المدايني [20] . عن ابن عيينة ومحمد بن الفضل بن عطية.
(485) محمد بن عبد بن عامر. طواف. في البلدان يكذب ويضع [21] .
(486) محمد بن يونس بن موسى الشامي الكديمي [22] .
(487) محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي.
(488) محمد بن عكاشة الكرماني. بصري يضع الحديث.
(489) محمد بن عكاشة. كوفي. ضعيف.(31/287)
(490) محمد بن عبد الرحمن بن غزوان. هو ابن زيد، متروك بغدادي.
(491) محمد بن أيوب بن سويد الرملي. ضعيف.
(492) محمد بن عبد الله بن نمران. ضعيف.
(493) محمد بن عيسى الهذلي. ضعيف. يروى عن محمد بن المنكدر يكنى أبا يحي.
(494) محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت الأشناني كذاب دجال () [23] يضع الأحاديث.
(495) محمد بن هارون بن عيسى بن بُرَيْه. الهاشمي.
(496) معبد الجهني. قدري. عن حمران.
(497) محرر بن هارون بن عبد الله التيمي الهديري. مدني عن الأعرج عن أبيه لا يعرف إلا به [24] .
(498) مبارك بن سحيم أبو سحيم بصري. مولى عبد العزيز بن صهيب [25] .
(499) مبشر بن عبيد الحمصي. يكذب. عن الزهري، وزيد بن أسلم وحجاج ابن أرطأه.
(500) مهدي بن هلال. يضع عن هشام بن عروة. وجعفر.
(501) مينا. مولي عبدا لرحمن بن عوف عن ابن مسعود.
(502) مطير بن خالد. وقيل، مطر الاسكاف عن أنس.
(3. 5) معلى بن عرفان. كوفي. عن أبي وائل.
(504) معلى بن هلال بن سويد الطحان. كوفي يكذب. عن أبي إسحاق وعبيد الله بن عمر. يروي عنه الحماني فيقول علي بن سويد. ويروي فروة بن أبي المغراء فيقول عبد الله بن عبد الرحمن ويروي عنه غيرهما فيقول أبو عبد الله الطحان [26] .
(505) معلى بن عبد الرحمن. واسطي. عن شريك، وعبد الحميد بن جعفر [27] .
(506) مسعدة بن اليسع باهلي، بصري. عن جعفر بن محمد، وابن جريج ومحمد ابن عمرو.
(507) مسيب بن شريك. كوفي. أبو سعيد عن الأعمش وعبيد الله بن عمر وهشام ابن عروة. روى عنه إسحاق بن بهلول فقال أبو سعيد الشقري. وروى عنه علي بن الجعد فقال أبوسعيد. ضعيف [28] .
(508) مسور بن الصلت. مدني عن نافع وابن المنكدر وزيد بن أسلم.
(509) ميسرة بن عبد ربه بغدادي. عن زيد بن أسلم كتاب العقل لداود بن المحبر تصنيفه [29] .(31/288)
(510) معاوية بن يحي الصدفي يكتب ما روي الهقل عنه ويتجنب ما سواه خاصة ما روى عنه إسحاق بن سليمان الرازي.
(511) معاوية بن عمر أبو مطيع الاطرابلسي. روى عنه الوليد بن مسلم وشعبة وهشام بن عروة وعلي بن عياش.
(512) موسى بن مطير كوفي. عن أبيه، وعاصم بن بهدله. وموسى بن طلحة. ومطير أبو لا يعرف إلا به.
(513) موسى بن عمير أبو هارون الجعدي المخزومي. مولى بني جعدة بن هبيرة عن الحكم وأبي إسحاق.
(514) موسى بن سعد أبو علي الحنفي. حديث منكر عن الحكم فقال حدثنا أبو هارون الشامي [30] .
(515) موسى بن عمير العنبري. ثقة عن علقمة بن وائل بن حجر [31] .
(516) موسى بن عبيدة الربذي. لا يتابع على حديثه. وأخوه عبد الله صالح.
(517) موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي. عن أبيه والزهري، ومجاهد.
(518) موسى بن دينار مكي عن هشام.
(519) موسى بن طريف كوفي. عن عباية بن ربعي. متروك.
(520) موسى بن عمير العنبري عن عبد الجبار وأبي وائل بن حجر [32] .
(521) موسى بن سهل ألوشاء عن إسماعيل بن علية حدثونا عنه هو غير موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني. والجوني صالح الحديث.
(522) موسى بن دهقان حدثونا عنه بصري عن ابن كعب بن مالك.
(523) موسى بن محمد بن عطاء المقدسي أبو طاهر عن مالك والموقري.
(524) مغيرة بن سعيد الكوفي. دجال. أحرق بالنار زمن النخعي أدعى النبوة [33] .
(525) مسلمة بن علي الخشني عن الأوزاعي، وهشام بن عروة وعبيد الله بن عمر.
(526) مقاتل بن سليمان. خراساني. يكذب.
(527) ميمون أبو حمزة القصاب الأعور. كوفي عن النخعي والحسن.
(528) مروان بن سالم الجزري. قرقساني. عن عبد الملك بن أبي سليمان والزهري. (قال البرقاني استدركت من هنا إلي آخره من كتاب غيري) .
(529) مطر بن ميمون المحاربي.(31/289)
(530) مطرح بن يزيد. شامي.
(531) مجالد بن سعيد. كوفي. ليس بقوي.
(532) المثنى بن الصباح مكي.
(533) مجاشع بن عمرو.
(534) منذر بن زياد الطائي.
(535) معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري.
حرف النون
(536) ناصح بن عبد الله أبو عبد الله كوفي. عن سماك بن حرب.
(537) ناصح بن العلاء أبو العلاء بصري. عن عمار بن أبي عمار.
(538) نوح بن أبي مريم أبو عصمة.
(539) نوح بن دراج. كوفي.
(540) النضر بن عبد الرحمن الخزاز. كوفي. عن عكرمة.
(541) النضر بن سلمه. شاذان.
(542) النضر بن مِطْرَق كوفي أبا لينة.
(543) نصر بن طريف أبو جزي.
(544) نصر بن باب. خراساني.
(545) نصر بن حماد. أبو الحارث الوراق. عن شعبة.
(546) نصر بن مزاحم المنقري. كوفي.
(547) نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى. كوفي.
(548) نافع. أبو هرمز بصري عن أنس وعطاء [34] .
(549) نجيح. أبو معشر [35] .
(550) نهشل بن سعيد، خراساني.
(551) نعيم بن المورع بن توبة. عن الأعمش، وهشام بن عروة.
(552) نوفل بن سليمان الهنائي. حجازي.
حرف الواو
(553) واقد بن سلامة مدني. وقيل وافد بالفاء عن يزيد الرقاشي [36]
(554) واصل بن السائب الرقاشي. كوفي.
(555) وازع بن نافع العقيلي. جزري.
(556) وهب بن وهب أبو البختري. بغدادي. كذاب.
(557) وليد بن محمد الموقري. شامي [37] .
(558) وليد بن العباس بن مسافر. الخولاني. مصري.
(559) وليد بن وليد الدمشقي عن ابن ثوبان. وسعيد بن بشير.
حرف الهاء
(560) هشام بن زياد أبو المقدام بصري عن محمد بن كعب. وهشام بن عروة وأخوه الوليد ثقة.
(561) هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مخنف ومجاهد [38] .
(562) هيثم بن جماز البكاء بصري.
(563) هيثم بن عدي الطائي.(31/290)
(564) هيثم بن عبد الغفار بصري.
(565) هذيل بن بلال المدائني يكنى أبا البهلول.
(566) هارون بن هارون مدني [39] .
(567) هارون بن حيان الرقى عن ابن المنكدر وليث بن أبي سليم.
(568) هارون بن دينار [40] .
حرف الياء
(569) يحي بن عبيد الله بن موهب عن أبيه.
(570) يحي بن أبي أنيسة الجزري.
(571) يحي بن مسلم البكاء بصري. عن ابن عمر.
(572) يحي بن سلمة بن كهيل.
(573) يحي بن عقبة بن أبي العيزار.
(574) يحي بن أبي حية. أبو جناب الكلبي [41] .
(575) يحي بن سعيد المديني. التميمي وهو الفارسي قاضي شيراز عن الزهري وهشام بن عروة.
(576) يحي بن كثير أبو النضر. بصري ضعيف. عن أيوب، وسليمان التيمي وعامر. الأحول، وعطاء بن السايب، وداود بن أبي هند.
(577) يحي بن العلاء الرازي البجلي.
(578) يحي بن ميمون بن عطاء أبو أيوب التمار بصري.
(579) يحي بن بسطام بن حريث بصري.
(580) يحي بن هاشم السمسار. أبو زكريا. كان ببغداد.
(581) يحي بن عمرو بن مالك. بصري.
(582) يحي بن راشد. بصري.
(583) يحي بن سالم. كوفي.
(584) يحي بن ثعلبه أبو المقوم [42] .
(585) يحي بن عنبسة بغدادي كذاب.
(586) يزيد بن عياض بن جعدبة. مكي [43] .
(587) يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي.
(588) يزيد بن ربيعة أبو كامل الرحبي. من صنعاء دمشق.
(589) يزيد بن سفيان أبو المهزم بصري ضعفه شعبة [44] .
(590) يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل مدني.
(591) يزيد بن إبان الرقاشي عن أنس.
(592) يزيد بن بيان المعلم.
(593) يزيد بن يوسف الشامي.
(594) يزيد بن عطاء مولي أبي عَوانة واسطي.
(595) يعقوب بن الوليد مدني.
(596) يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه.(31/291)
(597) يوسف بن السفر أبو الفيض عن الأوزاعي روى عنه عبد الله بن عمران العابدي فقال يوسف بن الفيض شامي [45] .
(598) يوسف بن خالد السمتي بصري.
(599) يوسف بن عطية الصفار أبو سهل بصري.
(600) يوسف بن عطية الوراق كوفي. أبو المنذر.
(601) يوسف بن ميمون الصباغ كوفي. عن عطاء.
(602) يونس بن خباب كوفي سيء المذهب [46] .
(603) يعلى بن الأشدق.
(604) ياسين بن معاذ أبو خلف الزيات كوفي.
(605) يمان بن المغيره أبو حذيفه العنزي بصري [47] .
(606) يمان أبو حذيفة. وقيل ابن حذيفة. بصري.
(607) يمان بن سعيد. أبو رضوان شامي.
(508) يمان بن عدي أبو عدي الحضرمي ضعيف.
(609) يمان بن رئاب خراساني يرى رأي الخوارج.
الكنى
(610) أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة مديني [48] .
(611) أبو حامد الحنفي مجهول.
(612) أبو داود النخعي كذاب رماه أحمد بن حنبل بالكذب.
(613) أبو كرز القرشي مجهول [49] .
(614) أبو ناشرة مجهول.
(615) أبو سورة مجهول يروي عن أبي أيوب الأنصاري [50] .
(616) أبو أدام كوفي سليمان بن زيد المحاربي عن ابن أبي أوفي ضعيف.
(617) أبو همدان. القاسم بن بهرام قاضي هيت متروك.
(618) أبو توبة القاص بصري ضعيف.
(619) أبو سفيان الصوفي. ويقال العوفي. قال الدارقطني ليس أعرفه.
(620) أبو حماد الكوفي الحنفي المفضل بن صدقة ليس بالقوي.
(621) أبو حفص العبدي عمر بن حفص ضعيف.
(622) أبو أمية بن يعلى الثقفي ضعيف [51] .
(623) أبو سفيان السعدي طريف ضعيف.
(624) أبو عبد السلام مجهول [52] .
(625) أبو صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان من الثقات عن يونس ابن مالك
(626) سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد. الملك ضعيف يعتبر به.
(627) ومسلمة بن سعيد بن عبد الملك يعتبر به ضعيف.(31/292)
(628) بقية يروي عن قوم متروكين مثل.
(629) مجاشع بن عمرو [53] .
(630) وعبيد الله بن يحي لا أعرفه ولا أعلم روى عنه غير بقية.
(631) وعبد الحميد بن السري الغنوي يروي عن عبيد الله بن عمر يقال له أبو اليسر ضعيف [54] .
(632) الوليد بن مسلم يرسل، يروي عن الأوزاعي أحاديث الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي مثل نافع وعطاء والزهري فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن عطاء يعني مثل عبد الله بن عامر الأسلمي وإسماعيل بن مسلم [55] .
(آخر الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا) ... وهو حسبنا ونعم الوكيل. بلغ العرض.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قال الذهبي. تركوه ديوان 245.
[2] قال الحافظ: ويقال بالضاد المعجمة. تقريب التهذيب 274.
[3] قال ابن حجر: متروك اتهموه من صغار الخامسة- ت ق- تقريب التهذيب274.
[4] قال البخاري تركوه منكر الحديث. التاريخ الكبير 4/ 1/ 130.
[5] قال الذهبي: وثقه ابن معين وقال أحمد ليس بقوي وقال الدارقطني ضعيف، ديوان 247.
[6] قال الذهبي: ضعفوه. ديوان 250.
[7] قال ابن المديني كذاب. ديوان 250.
[8] في أصل المخطوط قاسم بن إبراهيم المطلي والتصويب من ميزان الاعتدال 3 /367.
[9] قال الذهبي: القاسم بن محمد بن أبي شيبه أخو أبي بكر. ديوان 252.
[10] قال الذهبي: ذهب ابن حبان إلى أن هذا وكثير بن سليم واحد وليس هذا بشيء. ميزان الاعتدال3 /406.
[11] قال الذهبي: تركوه واجمعوا على ضعفه وهو محمد المحرم ديوان 276.
[12] في أصل المخطوط محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر المكي والتصويب من كتب الرجال. أنظر ميزان الاعتدال 3/ 619، ديوان 279.(31/293)
[13] قال ابن حجر: محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتانية وفتح الموحدة الأخرى. ويقال ابن أبي لبيبة. تقريب التَهذيب 9/ 301، تقريب التهذيب 308.
[14] قال الذهبي: كذاب صلب في الزندقة أخرجه البخاري في أماكن من تاريخه لاختلافهم في اسمه ونسبه وتقلص اسمه على وجوه. ديوان273.
[15] هو محمد بن زياد اليشكري الميموني الطحان. ميزان الاعتدال 3/552.
[16] قال الذهبي: محمد بن مسلم ويقال محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى، ميزان الاعتدال4 / 36.
[17] قال الذهبي محمد بن معاوية النيسابوري وهو محمد بن معاوية ابن أعين الهلالي يكنى أبا علي. وقال ابن حجر. ابن مالج بميم وجيم واسم جده يزيد الأنماطي. وأبو جعفر البغدادي صدوق ربما وهم. أنظر ميزان الاعتدال 3/ 44، تقريب التهذيب 319.
[18] محمد بن فضا بفتح الفاء والمعجمة مع المد. تقريب التهذيب 315.
[19] في أصل المخطوط محمد بن عبد الله والصواب ما هو مثبت قال ابن حجر: متروك مع سعة علمه من التاسعة- ق- تقريب التهذيب 312.
[20] هنا عبارة لم أتبينها ولم أجدها في كتب الرجال.
[21] أنظر ميزان الاعتدال 3/633.
[22] قال الذهبي: سئل عنه الدارقطني فقال: يتهم بوضع الحديث. وما أحسن فيه القول إلا من لم يخبر حاله. ميزان الاعتدال 4/ 75.
[23] هنا عبارة غير واضحة. وأنظر تاريخ بغداد 5/ 439.
[24] قال ابن حجر: محرر براءين وزن محمد علي الصحيح. تقريب التهذيب329.
[25] مبارك بن سحيم بمهملتين مصغرا. تقريب التهذيب 327.
[26] أنظر تهذيب التهديب 10/ 240.
[27] قال الذهبي: قال الدارقطني كذاب ديوان 304.
[28] أنظر لسان الميزان 6/38.
[29] قال الخطيب البغدادي. روى عنه شعيب بن حرب المدائني خطبة الوداع. وداود بن المحبر بن قحذم أحاديث باطلة في كتاب العقل. تاريخ بغداد 13/ 222.(31/294)
[30] أنظر لسان الميزان 7/116.
[31] وثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي تهذيب التهذيب 10/ 364.
[32] أنظر الترجمة السابقة. ولعل هذا التكرار سبق قلم من الناسخ.
[33] قال الجوزجاني قتل المغيرة علي ادعاء النبوة كان أشعل النيران بالكوفة علي التمويه والشعوذة حتى أجابه خلق. ميزان الاعتدال 4/ 161.
[34] قال الذهبي: نافع بن هرمز أبو هرمز وسماه العقيلي نافع بن عبد الواحد. ميزان الاعتدال 4/ 243.
[35] قال الذهبي: نجيح أبو معشر السندي الهاشمي مولاهم المدني صاحب المغازي. ميزان الاعتدال 4/ 246.
[36] قال الذهبي: وافد بالفاء أو بقاف. ضعفوه ميزان الاعتدال 4/ 330.
[37] قال الذهبي: الوليد بن محمد الموقري صاحب الزهري يكنى أبا بثير البلقاوي مولى بني أمية. والموقر حصن بالبلقاء. ميزان الاعتدال 4/ 346. قال الذهبي: الوليد بن محمد الموقري صاحب الزهري يكني أبا بثير البلقاوي مولي بني أمية. والموقر حصن بالبلقاء. ميزان الاعتدال 4/ 346.
[38] قال الذهبي: النسابة العلامة وقيل أن تصانيفه أزيد من مائة وخمسين مصنفا. ميزان الاعتدال 4/ 304.
[39] هارون بن هارون بن عبد الله بن محرز بن الهدير أخو محرز ابن هارون. ميزان الاعتدال 4/287
[40] قال الذهبي: شيخ بصري. ضعفه الدارقطني وغيره. ميزان الاعتدال 4/283.
[41] يحي ابن أبي حية بمهملة وتحتانية أبو جناب بحيم ونون خفيفتين. تقريب التهذيب374.
[42] أنظر ميزان الاعتدال 4/267.
[43] يزيد به عِياض بن جُعدبة بضم الجيم والمهملة بينهما مهملة ساكنة. تقريب التهذيب 384.
[44] أبو المهزم بتشديد الزاي المكسورة اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن. تقريب التهذيب428.
[45] أنظر ميزان الاعتدال 4/ 466.(31/295)
[46] ما بين القوسين كلمة غير واضحة وقد وجدت ترجمة هدا الرجل في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب وعثرت فيهما علي قول الدارقطني ونصه. "كان رجل سوء فيه شيعية مفرطة كان يسب عثمان "أنظر ميزان الاعتدال 4/479، تهذيب التهذيب 11/438.
[47] جعل الذهبي هذه الترجمة وما بعدها لرجل واحد. ميزان الاعتدال 4/ 460
[48] قيل اسمه عبد اللَه وقيل محمد. تقريب التهذيب 396
[49] عبد الله بن كرز القرشي لسان الميزان 7/98.
[50] قال الذهبي: يقال أنه أبن أخي أبي أيوب. ميزان الاعتدال 4/ 535.
[51] قال الذهبي: هو إسماعيل. ميزان الاعتدال 4/493.
[52] قال الذهبي: قيل اسمه الزبير وقيل أيوب. ميزان الاعتدال 4/548.
[53] انظر ميزان الاعتدال 3/ 436.
[54] قال الذهبي: من المجاهيل. ضعفه الدارقطني. ميزان الاعتدال 2/ 541.
[55] قال الذهبي: إذا قال الوليد بن مسلم عن ابن جريج أو عن الأوزاعي فليس بمعتمد لأنه يدلس عن كذابين فإذا قال حدثنا فهو حجة. ميزان الاعتدال 4/348.(31/296)
الملَكُ عَبدُ العَزِيز ِآل سُعود بين نَصرِهِ لله ونَصرِ الله لَهُ
(3)
للشيخ إبراهيم محمد حسن جمل
المدرس بالمعهد الثانوي للجامعة
كان الملك عبد العزيز دائم الشكر لله سبحانه وتعالى على تأييده له في كل مواقفه، وكان دائما يفيض في الحديث بنعمة الله عليه، وبتوفيقه في جميع أموره، قال رحمه الله: "التوفيق ... والتوفيق لا يكون إلا بالله ... {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} . (هود: 88) . والإنسان بلا توفيق لا يستطيع أن يعمل شيئا ... نسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير لهذا الوطن العَزيز ... إن توفيق الله هو المقدم والنافذ ... وأمره بين الكاف والنون {كُنْ فَيَكُونُ} . (يس: 82) والقدرة وحدها لا تنفع ما لم تكن مؤيدة من الله سبحانه وتعالى ... نسأل الله التوفيق، وأن ينصر دينه، ويعلى كلمته، ويعز الإِسلام والمسلمين.
ونسأله تعالى العناية والتوفيق وإصلاح النية، وأن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح" [1] .
ولقد قالوا:
"التوفيق قوة من عالم الغيب، يؤمن بها من تتبع أمثال سيرة عبد العزيز. خطط الحرب فن، والتغلب أو بسط السيطرة فن، والسياسة والإدارة وما إليها من شئون المجتمع، كل منها فن له قواعده ومدارسه. ومن المدارس التجارب والمِران وطول الممارسة. أما "التوفيق"فأمر فوق ذلك كله. لا فائدة له، ولا مدرسة، ولا سابقة ينسج على منوالها.
وفى الناس من يُسعف بالحظ مرة أو مرات، فيقال: قد وفُقّ، ولكنه لا يكون "موفقا"مادام يتأرجح أحيانا بين التوفيق ونقيضه. أما الموفق- حقا- فذلك الذي تجري الأحداث، أو تكاد تجري متتابعة متجانسة، على وفق غرضه، وعلى مدى مصلحته" [2] .(31/297)
وإن جليل توفيق الله على الملك عبد العزيز، أن أيده في كل ما قام به من عمل، فهو سبحانه وتعالى موفقه ومؤيده، ومؤازره في كل خطوة خطاها، فقد فتح الرياض، وضم الخرج، والمحمل، والشعيب، والوشم، وانتصر على الأعداء فخلّص القصيم، وفتح الأحساء، وضم عسير، وفتح حائلا، والجوف، وكان توفيق الله في أسمى صورة حينما ضم الحجاز، ووجه كل اهتمامه وعنايته إلى الحرمين الشريفين.
وهكذا فقد خلّص- رحمه الله- البلاد والعباد مما دهاهم مئات السنن، واجتمع الناس عليه، فأصبح مسئولا عنهم أمام الله سبحانه وتعالى، فعليه أن يرعى الله فيهم، فيسلك بهم طريق النجاة للدنيا والآخرة.
كان الملك عبد العزيز آل سعود صادقا مع نفسه، وما عاهد الله عليه من التمسك بالمنهج الإلهي، والدستور السماوي القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريق السلف الصالح من الصحابة والتابعين بلا تأويل، أو ابتداع، أو تغيير.
كان أول ما نادى به، إخلاص التوحيد لله، ومما علق به من كل شائبة، وجعله لله وحده، فلا يشرك به، منفردا بالعبادة والقصد.
وهذا هو الأساس المتين الذي يجتمع عليه المسلمون، حتى يثبت الإيمان، ويرسخ في الصدور، وبعده يهون كل شيء.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} . (النساء: 61) .
وما ترك- رحمه الله- مناسبة ولا اجتماعا، دون أن يذكرّ الناس بالتوحيد الخالص لله، فهو يعرف أن التوحيد إذا علق به شيء ضعفت النفوس، وأصبح من السهل أن تنقاد لغير الله، قال رحمه الله:
"هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة، منزهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه، هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب " [3] .(31/298)
"إن المسلمين في خير ماداموا على كتاب الله، وسنة رسوله، وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة " [4] .
"وقد نصرنا الله بقوة التوحيد الذي في القلوب، والإيمان الذي في الصدور، ويعلم الله أن التوحيد لم يملك علينا عظامنا وأجسامنا فحسب، بل ملك علينا قلوبنا وجوارحنا، ولم نتخذ التوحيد آلة لقضاء مآرب شخصية، أو لجر مغنم، وإنما تمسكنا به عن عقيدة وإيمان قوي، ولنجعل كلمة الله هي العليا" [5] .
ثم ينطلق الملك عبد العزيز بالدعوة إلى التوحيد من محيط الجزيرة العربية، فيتخذ موقف الداعي إلى الله، ليبلغ ما يجب عليه تجاه نشر الدعوة، فيدعو المسلمين جميعا في أنحاء الأرض إلى التوحيد الصحيح، وينطلق بهم إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينما يرى المسلمين قد نفذوا ذلك، واتحدوا على العمل بما يدعو إليه، سيجدون أنه واحد منِ المسلمين يسعى لخيرهم، ويسهر على راحتهم، لا بصفته ملكا أو زعيما أو أميرا، بل فردا من عامة المسلمين، وليس هو وحده فحسب بل ومعه أولاده وجيشه وقومه، ثم يشهد الله على قوله وتبليغه للمسلمين فيقول:
"إن المسلمين بخير إذا اتفقوا، وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله ... ليتقدم المسلمون للعمل بذلك، فيتفقوا فيما بينهم على العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وبما جاء فيهما، والدعوة إلى التوحيد الخالص فإنني- حينذاك- أتقدم إليهم فأسير وإياهم جنبا إلى جنب في كل عمل يعملونه، وفي كل حركة يقومون بها ... والله إني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله، والدعوة إلى التوحيد ... ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك، وليتفقوا، فإنني أسير وقتئذ معهم لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير، بل بصفة خادم ... أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي؟ والله على ما أقول شهيد، وهو خير الشاهدين" [6] .(31/299)
ثم يذهب رحمه الله إلى أبعد من ذلك، فيرى أن كلمة التوحيد الصحيحة ونشرها، والعمل بها بين المسلمين، لو تمت على يد أعدائه، لكان فرحا بذلك، ولاتحد معهم، وسار في طريقهم، وإن تمت على يده اعتبر ذلك منّة، وفضلا من الله سبحانه وتعالى.
"وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد، والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمَت على يدي فذلك من فضل الله" [7] .
* * * * * *
كان رحمه الله في كل اجتماعاته الخاصة والعامة، بين أهله وخاصته، أوبين أهل البلاد، حينما يلتقي بهم في كل مناسبة، أوفي اجتماعاته الدولية بين عامة المسلمين، يوصي بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن يجتمع الناس عليهما وأن يعملوا بما فيهما، فليس في الحياة أمر إلا وتعرض له القرآن الكريم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} والسنة الشريفة، وليس هناك خصلة مفيدة ونافعة إلا يدعوان إليها. خطب يوما أهل مكة فكان مما قاله:
"ولكن هناك نعمة حقيقية لا تزول، وخزينة لا ينضب معينها، هي الاعتقاد بأن لا إله إلا الله، وهذه النعمة مشروعة في كل مكان، ولكنها لهذه البقعة المباركة ألزم، لأن الحسنات والسيئات تتضاعف فيها، ولأن الله أختارها لتكون مهبطا للوحي، وجعل زيارة حرمها من أركان الإسلام".
وقال رحمه الله حينما جاء إلى المدينة المنورة، وسلم على رسول صلى الله عليه وسلم، وصلى بالمسجد النبوي، ثم خطب الناس فكان مما قاله:
"وإن خطتي التي سرت، ولا أزال أسير عليها، هي إقامة الشريعة السمحاء، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة، مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف".
وخطب يوما في حجاج بيت الله الحرام فقال في خطبة طويلة:(31/300)
"والمقصود من هذا الاجتماع هو أن نحدد اسم الإسلام، ونعمل بمعناه، والإسلام معناه: الاستسلام لله تعالى، والطاعة له، والإيمان بكتابه ورسله، وقواعد الإسلام قائمة على كتاب الله، وسنة رسوله، وأعمال الخلفاء الراشدين، وما اتفق عليه الصحَابة الكرام، وما جاء به فيما بعد الأئمة الأربعة فهو حق لا نحيد عن ذلك قط" [8] .
ولقد ظهر جماعة من المتفرنجين من المسلمين، يدعون إلى ما يسمونه بالتجديد، وإلى الأخذ بكل ما في الغرب، ونادوا بالخروج على تقاليد الدين الإسلامي الحنيف، ودعوا الشرق بأن يسير وراء الغرب، وكانوا مغرضين في ذلك، فانبرى لهم الإمام رحمه الله، ففند مزاعمهم، وسفه أحلامهم، ورد عليهم بالحجة والدليل والمنطق في كَثير مما قاله في خطبه ومجالسه ومنتداه.
قال رحمه الله:
"يقول كثير من المسلمين: يجب أن نتقدم في مضمار المدنية والحضارة، وإنّ تأخُرَنا ناشئ من عدم سيرنا في هذا الطريق، وهذا ادعاء باطل، فالإسلام قد أمرنا بأخذ ما يفيدنا ويقوينا على شرط أن لا يفسد علينا عقائدنا وشيمتنا، فإذا أردنا التقدم يجب أن نتبع الإسلام، وإلا كان الشر كل الشر في اتباع غيره" [9] .
"يقولون: (الحرية) ويدعي البعض أنها من أوضاع الأوربيين، والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعا، وجاء بالإخاء والمساواة المطلقة التي لم تحلم بها أمة من الأمم، فآخى بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وساوى بينهم [10] .
ويقولون التمدن والمدنية الأوربية هي الغاية القصوى، وهذا وهم باطل، فإن الله جعل من كل شيء أفضله مباحا لنا، وأحب شيء إلينا هو العمل الخالص، والنية الحسنة" [11] .(31/301)
"إننا لا نبغي التجديد"الذي يفقدنا ديننا وعقيدتنا ... إننا نبغي مرضاة الله عز وجل، ومن عمل ابتغاء مرضاة الله، فهو حسبه، وهو ناصره، فالمسلمون لا يعوزهم التجديد، وإنما تعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح" [12] .
ولقد بدأ رحمه الله بالدور العملي في تنفيذ حدود الله في جميع مناحي الحياة، وعلى الجميع، لا فرق بين غني وفقير، وأمير وغير أمير، وأصبح الناس كلهم سواء أمام القانون السماوي، وهدد أولئك الذين قد تحدثهم أنفسهم بالفوضى، والمضاربة بالأقوال، والتلاعب بالكلمات والألفاظ، ويظهرون الأمور على ما ليست عليه، لقد حذرهم فكان مما قاله:
"إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزعات الشيطان، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيرا أو كبيرا، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره" [13] .
لقد شغل بال الملك عبد العزيز الأمن والسكينة في هذه البلاد المترامية الأطراف، الواسعة المساحة، وللبادية وسكانها خطرهم، فهم منتشرون في مساحات شاسعة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وما بين خليج عدن، وما يقابله في الشمال.
هذه المساحة الكبيرة لم تر الأمن والسكينة من زمن بعيد، فقد رجعت عناصر الشر إلى عاداتها وطبائعها، إذا استثنينا فترات قصيرة، كانت بمثابة هدنة. وفي العهد التركي وعهد الشريف أصبحت أشد خطرا، وأعظم فتكا، فليس هناك ما يردعهم، أو يقلم أظافرهم، ولأن البلاد ممزقة بسبب الثأرات بين القبائل، فكانت الإغارة والسلب والنهب والقتل من المهن المعترف بها، وكان أهل البادية دائما يتربصون بالقوافل وقطعان الماشية الدوائر.(31/302)
ولكي يأمن التاجر على نفسه وما معه إذا كان يجتاز الصحراء، عليه أن يدفع الإتاوات على طول الطريق الذي يمر به، فالتاجر الذي يجيء من البحرين مثلا يدفع قبل أن تطأ رجله العقير إتاوة للعجمان، ومن العقير إلى النخل خمسة أميال، أتاوة للمناصير، وكذلك أم الذر وبني هاجر ...
وإذا فاز التاجر بحياته وبقى شيء في كيسه فمن المؤكد أن أحماله لا تصل كلها إلى المكان الذي يريده. وكان في عهد الترك إذا خرج العسكر لتأديب جماعة من هؤلاء البدو، يطاردهم البدو، فيغلبونهم، ويأخذون خيلهم وثيابهم، ويرجعونهم إلى مكان إقامتهم حفاة عراة.
والأدهى والأمر ما كان يصنع بحجاج بيت الله الحرام، كانوا عرضة للسلب والنهب والقتل، وكان الحجاج يخرجون من بلادهم، ولا أمل لهم في العودة، وقد حملوا معهم أكفانهم، فكانوا في جهاد وقتال مع أهل البادية الذين يأخذون منهم ما يطلبون، ولم يكونوا يكتفون بما أخذوا بل كانوا يغيرون على مؤخرات القوافل يسلبون ويقتلون، ولا أحد يستطيع أن يغير شيئا مما كان يحدث.
حتى أرض الحجاز لم تسلم من بطش أهل البادية في معظم جهاتها، والعلة في ذلك أن حكام الحجاز لم يكونوا على كثير من الحكمة والسياسة التي تلائم العرف عند القبائل، أو لم يكونوا متفرغين للأمن، ولم يكن يجدي ما يدفعون من أموال، فقد كانت القبائل تأخذ الأموال، ولا تمتنع عن السلب والنهب، ولم يخطر على بال أحد منهم أن يحكم الشريعة الإسلامية، لذلك فإن الفوضى الأمنية قد عمت جل البلاد، فمثلا طرق المدينة المنورة لم يكن في الاستطاعة أن يقام فيها الأمن وأن يستتب، فكانت مسرحا لحوادث جسام، فالقبائل تعتدي على الحجاج، وتسلب ما معهم، وقد تفرض عليهم إتاوات كبيرة.
يقول الصحفي المصري محمود أبو الفتح- رحمه الله- في صحيفة الأهرام عام 1930 م:(31/303)
"كان بعض الأعراب يذبحون الحاج وإن كان فقيراً لاستلاب ما معه، وكانوا يذبحون الحاج في رابعة النهار، ولم يسلم من أذاهم أحد، ولمَ يجدوا من يردعهم، فعاثوا فسادا، حتى كان المسلم يخرج وهو لا يدري أيعود إلى وطنه أم يقتله السفاحون" [14] .
وحتى أهل البادية، لم يكونوا في صفاء مع أنفسهم، كانوا متفرقين مختلفين، تزداد العداوة والبغضاء بينهم نُموا يوما بعد يوم، يقتل بعضهم بعضا لأتفه الأسباب، ويأكل القوي منهم الضعيف، تنشب المعارك الضارية، فيقتل منهم العشرات، لا ينامون على خير، بل يعدون للشر والانتقام، ويندفعون للتخريب لذلك لم يهدأوا ولم يأمنوا، وكانوا يسيرون في جماعات حاملين السلاح، وكأنما رجعت الجاهلية الأولى فاشتعلت نار الفتن، وتقطعت الأرحام وتواثبوا في الأسواق، وعلى حدود القبائل، وخاف بعضهم بعضا، فحملوا السلاح ليلا ونهارا.
يقول صاحب كتاب "عنوان المجد":
"كانت الفتن مستمرة، والغارات دائمة بين القبائل ففي 1239 هـ وقعت فتن وقتل رجال، وأخذت أموال من كل بلد وناحية من القصيم والعارض والخرج والجنوب وغير ذلك.
وكان بعض القَبائل يغير على القرى والمدن ففي 1237 هـ مثلا أغارت بوادي سبيع على- قرية- منفوحة، وأخذوها عنوة ونهبوا وسلبوا النساء، وقطعوا الثمار واستولوا على البلد ... وعم القتل في هذه السنة في القصيم وسدير والوشم والعارض والخرج والجنوب" [15] .
وهكذا فقد ساد الجزيرة فوضى، رجع الناس بسببها إلى ما كان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.(31/304)
استرشد الملك عبد العزيز برأي الدين في معالجة كل أموره، وبما هداه الله إليه من عمل، ووهبه من ذكاء وخبرة، لم يلجأ رحمه الله في أول الأمر إلى القوة واستخدام السيف للخارجين على الدين، والعابثين في الأرض فسادا، وكان الخطر الداهم على البلاد من البادية، لأن أهلها جُبلوا على عادات وطباع خاصة، هم في حاجة إلى علاج ناجع يحسم الداء، ويجعل منهم مجتمعا صالحا للحياتين.
لقد رأى أن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، وأن لهذا الدين سحراً عجيباً في قيادة الناس على اختلاف مشاربهم وحياتهم، وأنه هو الذي صنع من أهل البادية أعظم أمة عرفها التاريخ، وأن الناس حينما تخلوا عن مبادئ هذا الدين الحنيف، تخلى الله عنهم فتاهوا في الظلمات سنين طويلة، أما وقد وفق الله لإقامة شعائر هذا الدين، فقد رأى الإمام والملك المصلح- رحمه الله- تبصير أهل البادية بأمر دينهم، وجمع كلمتهم على هدى الإسلام.
لقد أرسل إليهم من يبصرهم بأمر دينهم، ويرشدهم إلى الطاعات، فكان في كل قبيلة من قبائل البدو الرحالة والمستقرة من يعلم الناس أصول هذا الدين القويم، ويوجههم إلى ما ينفعهم في حياتهم، ويجيب عما يسألون عنه في أمور الدنيا والآخرة، فالتفوا حوله، وشغلوا بالعمل الصالح، وأصبح له مكانة كبيرة في نفوسهم، وصار يخطب لهم يوم الجمعة وكل المناسبات الدينية كالعيدين والاستسقاء وغيرهما، ويصلي بهم، ويعلم أبناءهم، ويفتي كبارهم، ويعقد الزواج، وبقسم المواريث، ويتوسط في حل المشاكل.(31/305)
ورأى الملك عبد العزيز- رحمه الله- أن عامل الحالة الاجتماعية يساعد كثيرا على الاستقرار ويقوي الناحية الدينية، ويسد الطريق على من تحدثه نفسه بأن يسلك طريقا غير مشروع لجلب الرزق، فأراد أن ينتقل بالبدو من حياة البادية المتنقلة، إلى حياة الهِجَر، ليتركوا حياة السفر والتنقل من مكان إلى آخر قد يجدون فيه ما يسد رمقهم، وقد لا يجدون، فيميلون إلى السطو والنهب أراد أن ينتقل بهم إلى حياة السكون والاستقرار، وليتركوا حياة الرعي إلى حياة الزراعة والرعي. وأنشئت الهجرة الأولى على آبار الأرطاوية على طريق بين الزلفي والكويت عام 1330 هـ، وأصبحت خلال بضع سنوات مدنا فيها من السكان ما يزيد على العشرين ألفاً، ثم تلي الأرطاوية حركة عامة بين البدو لترك حياتهم البدوية والسكنى في قرى جديدة، كانوا ينشئونها بمعونة من بيت مال المسلمين، تحفر البئر ويبنى المسجد الذي هو مجتمع القرية ومدرستها، وكانت السرعة هي الرائد في كل ما يقومون به من أعمال.
وهكذا فقد أصبحت المساجد غاصة بأهلها ممن تركوا الخرافات والبدع وعادات الجاهلية، وواظبوا على الصلاة في أوقاتها، وتواصوا بالأخلاق الإسلامية الصحيحة التي تحث على الفضيلة والإيمان.
وأصبحت الزراعة هي موردهم الذي منه يأكلون ويتاجرون ويربحون، فتكونت عندهم الثروات والمال الكثير، وفي نفس الوقت فقد انتشرت المعسكرات، ليكوّنوا من الشباب أمة مسلمة تدافع عن مبادئها، وترد كيد كل من يحاول أن ينال من دولتهم الفتية بقيادة قائدهم الأعظم عبد العزيز آل سعود، وهم على استعداد للقتال معه في أي وقت.(31/306)
لقد كانت خطة الإمام عبد العزيز منذ تولى إمارة الرياض، أن ينفذ حكم الله في كل من خرج على حدوده، فَكان يتتبع الجرائم الكبيرة بنفسه، ويتعقبها، ويحث جهات الاختصاص على رفع نتائج الحوادث وتطورها إليه أولا فأولا، ويصدر أوامره بشأنها، ويشفع كل ذلك بالحزم والدقة حتى تنكشف الجناية، وكان إذا عرضت عليه قضية درسها من جميع الوجوه بما له من علم ومعرفة وخبرة وذكاء مبينا ما جاء في الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ثم يصدر حكمه.
وكان كثيرا ما يقرأ ظروف وملابسات كل قضية يطلب منه التصديق عليها، وقد يعيد الحكم فيها، من ذلك ما رفع إليه من قضية طُلِبَ منه التصديق على حكم أصدرته إحدى المحاكم الشرعية، بإعدام جندي قتل زوجته وجنديا آخر، وكان تنفيذ الحكم معلقا على موافقة الإمام.
درس - رحمه الله- القضية، فظهر له أن الزوجة كانت قد غابت عن بيتها أياما، وبحث عنها زوجها فوجدها عند أحد الجنود، فأطلق عليها الرصاص وسألته المحكمة، فأقر بالقتل، ولم يحسن الدفاع عن نفسه فحكمت المحكمة بإعدامه.
ولم يكد ينتهي من القضية، حتى دعا رئيس المحكمة إليه فقال له:
"ألم تقرأ الحديث الذي فيه "إنني أغيركم، والله أغير مني"" [16] .
ثم أطلق القاتل لأنه كان يدافع عن عرضه. وهذا من توفيق الله [17] .
ولما اتسعت البلاد، جعل لكل ناحية أميرا، وكان على كل أمير أن يجمع رؤساء القبائل والعشائر، ويؤمنهم على أنفسهم ومعيشتهم، ويشترط عليهم أن يكونوا قادرين على حفظ الأمن في حدود أراضى قبيلتهم، وكل حادثة تحدث في منطقة أحدهم يكون مسئولا عنها هو وقبيلته، سواء أكانت بين بعضهم أو حوادث لأجانب من التجار أو الحجاج أو غيرهم.(31/307)
علم أمير الطائف في أوائل ضم الحجاز أن البدو اختطفوا اثنين من حجاج الهند وقتلوهما، وأخذوا أمتعتهما، فأمر بإحضار كبار القبيلة التي حصل في حدودها الحادث، وحدد لهم ثلاثة أيام لإحضار المسروقات، والإرشاد عن جثث القتلى، وأقسم أنه إذا انقضى الميعاد المضروب دون نفاذ المطلوب، ليبيدن القبيلة بأكملها، وقبل مضي الميعاد، أحضر رجال القبيلة المسروقات، وأرشدوا إلى جثث القتيلين، وأخيرا أرشدوا إلى اثنين اعترفا بالقتل، فأمر بقطع رقبتهما.
وفى هذه المرة اعتداء على السعوديين فقد جاء إلى القصر في الرياض بضعة رجال من إحدى القبائل، يطلبون عيشا وكسوة، فكان لهم ما ابتغوا، ثم ارتحلوا، فمروا في طريقهم ببعض الجمال والنوق، فساقوها أمامهم، فشكاهم أصحابها إلى السلطان عبد العزيز، فبعث السلطان من يحمل الخبر إلى أمير الاحساء، فما وصل إليه الخبر، حتى تحرك رجال الدولة يبحثون عن اللصوص، وما هي إلا أربع وعشرون ساعة حتى جيء بهم وبالمسروقات ولقوا جزاءهم.
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} . (المائدة: 33) .
لقد ألقى الله في قلب كل من تُسوّل له نفسه السير في طريق العدوان والفساد وسادت الرغبة في الحفاظ على حقوق الله وحقوق العباد، فكان يُرَدَد في كل مكان: "الحكم للشرع"، "السارق تقطع يده"، "القاتل يقتل""دل عبد العزيز"، "التمسك بشريعة الإسلام" "الصلاة الصلاة ".
كلمات تسمع في البادية، وفي القرى والمدن، وفى البر والبحر، وفى الأماكن المقدسة، يرددها الناس فتزلزل القلوب، وتخيف النفوس المريضة، وتزيد المؤمنين إيمانا وطمأنينة.(31/308)
بل لقد انتقلت هذه الكلمات إلى عامة المسلمين في جميع البلاد الإسلامية، في الصحراء وفى المدن والدساكر، في أعماق بلاد المسلمين، يهنيء بعضهم بعضا، بسبب ما وصل إليه الأمن والأمان في البلاد المقدسة، وبنجاح التجربة الإسلامية، وعودة بلد من بلاد المسلمين إلى الحكم بكتاب الله، ويتمنى أن تنال هذه التجربة الناجحة بلاد المسلمين فيرجعوا إلى كتاب الله.
لقد شجع بعضهم بعضا على أداء الحج والعمرة، وغاب عامل الخوف والرعب، فكانوا يقولون:
هيا إلى الحج، هيا إلى العمرة، إلى الأماكن المقدسة، إلى مكة وإلى المدينة، الطريق آمن، ابن سعود يحكم بالشرع، عبد العزيز قضى على القتلة والسفاحين، سنرجع بسلامة الله.
كلمات لا يزال يحكيها المعمرون في أقاصي البلاد الإسلامية، الذين رأوا بأعينهم الأعمال العظيمة التي قام بها عاهل الجزيرة الملك عبد العزيز آل سعود، فكانت خير شاهد على توفيق الله له.
ولقد جاء في الحديث الصحفي الذي نشره محمود أبو الفتح- رحمه الله- وقد زار البلاد، ورأى بعينيه ما وصلت إليه البلاد منذ أكثر من خمسين سنة ما يأتي:
"وجاء ابن سعود، فضرب أمثلة ... كان يأمر بالسارق فتقطع يمناه، وبالقاتل فيجز رأسه في السوق العامة ... تلك أمثلة ... ولكنها كانت درسا نافعا، فقد قطع ابن سعود عشرات من رءوس اللصوص والقتلة، وأنقذ بذلك رءوس الألوف من حجاج بيت الله الحرام".
ثم يكمل حديثه فيقول:
والآن تسير الفتاة من طرف الجزيرة الغربي إلى طرفها الشرقي، تحمل الذهب، فلا يتطلع إليها أحد، بل يرى الناس قطعة الذهب أو الفضة ملقاة على الأرض، تسقط من بعض المارة، فلا يقربونها، وإنما يبلغون عنها الشرطة.
ويحدثني المعتمد البريطاني في جدة عن حالة الأمن فقال:(31/309)
"إنها إن دامت سنوات بلغت البلاد درجة عظيمة من الرقي. إنّ الأمن في الحجاز، لا مثيل له في أي بلد من بلاد العالم الآن" [18] .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري الاحسائي:
"والمملكة العربية السعودية تتقدم من حسن إلى أحسن، قد عمها الأمن، وشملها العدل، واتسع الرزق، وكثرت موارده، وعم اليسار معظم طبقات الشعب بما أجرى الله في جهات الاحساء من ينابيع الزيت بحكمة هذا الملك المصلح فقد طبق في مملكته الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن ونطقت به سنة النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقتل القاتل، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، ورجم الزاني المحصن، وشدد العقاب على المعتدين والعابثين بالأمن، فنعمت البلاد بأمن لم تكن تحلم به، ولم يحصل لغيرها من رعايا الدول الكبيرة المتمدينة، وأقام الدليل الواضح على أن شريعة الإسلام هي الشريعة الكفيلة لسيادة البشر في كل زمان ومكان، فجزاه الله عن المسلمين خيرا" [19] .
والحمد لله، لقد أصبحت حدود الله، والمحافظة عليها قائمة إلى وقتنا هذا، وستظل دائما إن شاء الله، بفضل الله، ثم بفضل أولئك الذين وفقهم الله، لإقامة حدود الله، وإن شريعة الله تتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ففيها الأمن والأمان والهدوء والاطمئنان.
لقد أرسى أَسَاسًا متينا للإصلاح الاجتماعي الذي هو الغاية العظيمة من جهاد تلك السنين الطويلة الشاقة، والمتاعب الجسام. التي وفقه الله فتغلب عليها، فلم يهن، ولم يضعف، بل ظل على حيويته ونشاطه، وابتساماته العريضة التي يقابل بها جميع الناس، وصدره الذي شرحه الله دائما فهو الهاش الباش لجميع الذين يلقاهم ويلقونه، فإذا رأيته لحظات غاضبا، فإنما غضبه لله وفي الله.
والحمد لله لقد تخطى عقبتين كؤدين ومشكلتين عظيمتين هما الهجر والأمن والاطمئنان، فاستحق عن جدارة أن يلقب بالمصلح والرائد الاجتماعي في العصر الحديث.(31/310)
ولقد واصل الإصلاح بتفكيره المنطلق، وعقله الواعي، وإيمانه الأكيد، وآماله العريضة، لجلب كل مَا يدخل السعادة على هذه الأمة التي قاست مئات السنين، فكانت ريادته للنهضة الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والثقافية.
كان- رحمه الله- في أول الأمر يفكر من أين يبدأ؟ وما الطريق الذي يسلكه؟ ومن أين له بالمال الكثير الذي به يبني وعليه يقيم ما يرجو ويتمنى.
لقد أدى ما وجب عليه تجاه الله سبحانه وتعالى، وأن الله لن ينساه أبدا، فقد كان دائم التوكل عليه، وسيظل مادام فيه عرق ينبض، وأنه مازال يذكر فضله ونعمته عليه، ولا ينسى حينما كان في مكة، وهو مخيم في محلة "الشهداء"وقد فقد ما ادخر من مؤن وأقوات، ولاح شبح الجوع أو كاد، وأحس من معه بما عليه الحال، فضاقت صدور الرجال، حين قلّ المال، أما عبد العزيز فكان مطمئنا إلى أن الله لن ينساه، وسيرزقه من حيث لا يعرف ولا يفكر، فكان حينما يسأل عن هذا، يقول:
"المؤن متوفرة في نجد، غير أن الجمال مشيها وئيد ... من شاء الرحيل فليرحل أما أنا فمقيم. والفرج من عند الله".
لقد كانت ثقته بالله عظيمة، وتوكله عليه أقوى وأشد، فلم يأت المساء، حتى وصلت قافلة يتقدمها إسماعيل بن مبيريك أمير رابغ. وكان الشريف حسين قد قتل أخا له، فلما علم بما صارت إليه الأمور في مكة، وإقامة عبد العزيز بها، جاءه بفروض الطاعة، ومعه عشرون جملا تحمل التمر والسمن والبرّ وكان هذا رزقاً ساقه الله إليه [20] .
إن الله لا ينسى عباده المخلصين، وقد كان عبد العزيز من أخلص الخلق لله تعالى، فهو يتوكل عليه حق توكله، ولابد أن الله سيرزقه من حيث لا يعلم، وسوف تفتح له أبواب من الرزق ليس عليها بواب.
وقد كان، فقد فتحت له كنوز الأرض، على حين كان يشغله أمر البلاد والعباد.(31/311)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . (الطلاق: 2-3) .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً. ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} . (الطلاق: 4- هـ) .
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} . (الطلاق: 7) .
فكانت سعادته الفائقة في أن يصرف كل ما يصل إليه على هذه الأمة، فقد زاد المال ونما، وأدخل الله الخير على هذه البلاد، وقد يكون كل هذا بسبب دعاء رجل واحد.
ولكن الملك عبد العزيز لم يغير شيئا من عاداته، ولا من مأكله ومشربه وملبسه حتى آخر نفس من حياته المباركة.
قال طبيبه أمين رويحة: "لقد اشتدت عليه أزمة المرض في أواخر أيامه- رحمه الله- ورضي عنه: طلبنا إلى جلالته أن يستلقي في سريره للاستراحة، لأن بقاءه مستويا على الكرسي لا يُؤمّن له الراحة الضرورية للقلب.
أجاب ابن سعود على طلبنا بقوله: "ما يخالف هاتوا السرير".
فتوجه الخادمان اللذان يتوليان خدمته الخاصة ... فجلبا السرير ... سرير الملك العظيم، فنصباه في الغرفة، ويا لعظمة ما رأيت!! إنه سرير من خشب عادي متواضع، وفراش محشو بالقش صلب قاسي، وفوقه غطاء صوفي، ووسادة من النوع ذاته.(31/312)
ذلك هو مضجع ذلك البطل الكبير الذي لا يكتسي إلا بثوب بسيط من القطن، وقد كان يستطيع بما وهبه الله من جاه ومال ومنزلة في القلوب ألا يكتفي بتوسد الفراش الوثير فحسب، بل حبات القلوب أيضا، وأن يحوط نفسه بالخدم والحشم والممرضات ليلا ونهارا، ولكنه عبد العزيز المتقشف الذي لا تأخذه بهارج الحياة" [21] .
راح- رحمه الله- يبحث عن وسائل الرقي والنهوض بهذه الأمة، فما عرف شيئا فيه مصلحة إلا دعا إليه، ولا عرض عليه أحد رجالاته موضوعا صالحا إلا ناقشه ونفذه، ولم يكن متعجلا في طريقة الإصلاح، بل كان كعادته يفضل التؤدة والتأني وتعرف استعداد الشعب لما يريد من الإصلاح.
كان يعتقد أنه بهذه الطريقة سيأتي اليوم الذي تبلغ به الجزيرة أسمى آيات التقدم والرقي في ظل عقيدة التوحيد، وقد كان ... فما نرى شيئا. من النهضة العظيمة في جميع المجالات إلا وهو يدين بالفضل لبانيها ومؤسسها المصلح العظيم- رحمه الله-. إن النهضة الإصلاحية التي قام بها هذا الرجل الكبير تحتاج إلى مجلدات ضخمة ولكن نورد بعضا منها لنَستدل به على العقلية الموهوبة، والمتفتحة على كل معالم الحياة بلا حدود، والضاربة بعمقها في كل المجالات، والمحوطة بالرعاية والتوفيق من الله.
كانت البلاد مترامية الأطراف، بعيدة الأماكن والبلاد، ووسائل الاتصال بها بطيئة، فأمر رحمه الله بربط أجزاء البلاد بعضها ببعض بشبكة من المحطات اللاسلكية فكانت وحدة متقاربة الأطراف والثغور، يستطيع أن يتصل بها في أي وقت بالليل أو النهار، وفي دقائق معدودة.
وقد سمح- وهو راض مسرور- للرعية بأن يستعملوا السيارات، وأن يقتنوها ويسيروا بها في طول البلاد وعرضها ولقد كانت من قبل ذلك محرمة، فلم يسمح لأحد من أفراد الرعية باقتنائها أو الاستفادة منها.(31/313)
وكان- رحمه الله- قد ركب السيارة لأول مرة عام 1344 هـ. ورأى فوائدها في تقريب المسافات، فلم يستقل بها، بل سمح لجميع أفراد الشعب باستخدامها، فدخل في البلاد السيارات بأنواعها وأحجامها.
ولقد أنشئت في عهده إدارات عامة للصحة والشرطة والأوقاف والبريد والبرق واللاسلكي، وأنشئت كذلك مديرية للشئون العسكرية، ومديرية للشئون الخارجية، والمديرية العامة للزراعة، وشكلت المحاكم الشرعية، وبيوت المال، وكتاب العدل، والمجالس التجارية وكذلك مؤسسة للنقد العربي السعودي.
أعفى جميع المواد الغذائية، ومواد البناء وغيرهما من الرسوم الجمركية، وقام بشراء الآلات الزراعية الحديثة، ووزعها على الفلاحين للنهوض بالزراعة، ولقد اهتم بالتعليم، ففتح كثيرا من المدارس المتنوعة، واهتم بالمعاهد الدينية، والمكتبات العامة، وأرسل البعثات العلمية إلى الخارج، للإسهام في النهضة التعليمية، وأنشأ- رحمه الله- المستشفيات والمستوصفات في المدن الكبيرة، وأنشأ المراكز الصحية في طريق الحجاج، وأدخل نظام التطعيم، وصرف الدواء بالمجان [22] .
هذا قليل من كثير في داخل البلاد، فقد عاش لخدمة شعبه ورعايته، ولم يمر يوم إلا وفيه جديد، مما يعود على البلاد بالخير العميم.
ولقد نادى الملك عبد العزيز بتأليف لجنة عام 1937 م تضم عدة شخصيات عربية مخلصة، تعمل على وضع الأسس لتوحيد الجهود لما فيه خير الأمة العربية، وطالب بإنقاذ فلسطين، وله في ذلك مواقف حاسمة، وآراء ناضجة، ووسائل سليمة.
ولقد أسهم في تأسيس جامعة الدول العربية، ونادى بالتضامن الإسلامي، واشترك في منظمة الأمم المتحدة عام 1945 م، وعاون كذلك في حل كثير من المشكلات في الشرق الأوسط.(31/314)
هذه لمحات من حياة رجل من رجال الإسلام، ضرب الله لنا به مثلا أعلى في عصرنا الحاضر، وبعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان على رسالة سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ضرب به المولى سبحانه وتعالى مثلا على دوام صحة التمسك بشريعته الغراء، وعلى إمكان تنفيذ حق الله وحق العباد كما جاء به إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله خلق عباده وهو أعلم بما ينفعهم، ويعود عليهم بالخير العميم، فكان ذلك خير شاهد، وأنصع دليل على أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان.
ومازال- ولا يزال- إن شاء الله- ما وضع أساسه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود واستمده من كتاب الله وسنة رسوله شامخ البنيان، واضح المعالم، جزل العطاء، مضاعف الثمرات، من الراحة والاطمئنان والهدوء النفسي والرزق الرغد، والتقدم في جميع المجالات، وفوق كل هذا، إخلاص العبادة لله ومضاعفة الشكر والحمد لله المنعم الوهاب.
فهلا قرأ حكام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تلك السيرة العطرة، ووعوا ما قام به صاحبها رحمه الله، وهلا تدبروا إخلاصه وحبه لله، فاقتدوا به في أقواله وأفعاله، وسلكوا طريقه، واهتدوا بما اهتدى به مما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة والتابعون رضي الله عنهم أجمعين.
هلا عرفوا ذلك؟ وفعلوا مثل ما فعل هو ومن سبقه على هذا الدرب!!
لو عرفوا ذلك، لكان فيه قوة للمسلمين في هذا الزمان المملوء بالكيد للإسلام، ولأصبحنا قوة يقدرها الناس حق قدرها.(31/315)
فبدل أن يشرق بعضنا، ويغرب آخرون. ونجري وراء السراب ونتوه في دروب التبعية والاستغلال، الأمر الذي جر علينا الوبال، وبؤنا فيه بالخسران، وأصبحنا قنطرة يعبر فوقها أعداء الإسلام إلى ما يريدون تحقيقه، وهذا ضد أهدافنا وآمالنا وديننا ودنيانا، بدل كل هذا الضياع أَمامنا كتاب الله وسنة رسوله قيل فيهما كل ما نريد، ولا فائدة أن نخترع كتبا تستمد من الأفكار المجردة، البعيدة عن الكتاب والسنة، وليست إلا سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
لقد كان الملك عبد العزيز رحمه الله عنوانا لهذا الدين بما علم وعمل وقدم، فجزاه الله خير الجزاء، ورفع منزلته مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
المراجع
ا- القرآن الكريم.
2- مع عاهل الجزيرة لعباس محمود العقاد.
3- حياة محمد. لمحمد حسين هيكل دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة عشر.
4- سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للإمام محمد بن عبد الوهاب.
5- شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز آل سعود لخير الدين الزركلي.
6- كتاب آل سعود لأحمد علي. دار العباد بيروت 1957 م.
7- صقر الجزيرة لأحمد عبد الغفور عطار.
8- المصحف والسيف جمع وإعداد محي الدين القابسي- الرياض المطابع الأهلية.
9- المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود. لمحمد منير البديوي. الرياض 97 13 هـ.
10- الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز. د. عبد الفتاح حسن أبو عيلة. مطبوعات دارة الملك عبد العزيز 1396 هـ.
11- الإمام العادل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود- السيد عبد الحميد الخطيب. مصطَفى البابي الحلبي مصر 1 195م.
12- نجد وملحقاتها. لأمين الريحاني.
13- تاريخ الحجاز. لحسين محمد نصيف. القاهرة. مطبعة خضير.
14- عنوان المجد في تاريخ نجد. لعثمان بن بشر. مطابع القصيم بالرياض.(31/316)
15- تحفة المستفيد في القديم والجديد. مطابع الرياض 1379 هـ.
16- عبد العزيز للمؤرخ ا. افون ميكوس. ترجمة أمين رويحة.
17- الأمن في المملكة العربية السعودية. لواء يحي عبد الله المعلمي. 1398 هـ.
18- تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها. ج 2 بيروت مكتبة – الحياة.
19_ المملكة العربية السعودية بقلم خالد السديري دار الكتاب العربي. بيروت 1907 م.
20- تاريخ ملوك آل سعود ... سعود بن هذلول.
21- تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور حسن سليمان محمود. دار الثناء للطباعة مصر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مختارة من كلمات وخطب الملك عبد العزيز (أنظر المصحف والسيف) .
[2] شبه الجريرة في عهد الملك عبد العزيز. ج 2 ص 581.
[3] من خطبة ألقاها جلالته، بمكة في ذي الحجة 1347 هـ (المصحف والسيف ص 85_86) .
[4] من خطبة ألقاها جلالته بمكة في ذي الحجة 1347 هـ (المصحف والسيف ص هـ8 _ 86) .
[5] من خطبة ألقاها جلالته بمكة بمناسبة سفره إلى المنطقة الوسطى من المملكة في محرم 1348 هـ (المصحف والسيف ص 89) .
[6] المصحف والسيف ص 87.
[7] الإمام العادل جـ ص 132.
[8] المصحف والسيف ص 93.
[9] المصحف والسيف ص 123.
[10] المصحف والسيف ص 93.
[11] المصحف والسيف ص 93.
[12] المصحف والسيف ص 86.
[13] المصحف والسيف ص 217.
[14] صحيفة االأهرام في 6 1/ 11/ 1930 م.
[15] عنوان المجد لعثمان بشرج 1 ص 277.(31/317)
[16] عن أبى هريرة قال: قال سعد بن عبادة يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعالجه بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني"- صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 131. باب اللعان. المطبعة المصرية.
[17] شبه الجزيرة ج 2 ص 452.
[18] صحيفة الأهرام في 16/ 11/. 193.
[19] تحفة المستفيد في القديم والجديد ص 124 - هـ 12.
[20] شبه الجزيرة العربية ج 2 ص 584.
[21] عبد العزيز للمؤرخ الألماني الكبير (اكوبرت فون ميكوس) . ترجمة أمين رويحة ص 282.
[22] تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور حسن سليمان محمود وسيد محمد إبراهيم ص84 _ هـ 8، وكتاب التوكل على الودود عبد العزيز آل سعود لمحمد منير البديوي ص 248 _ 249.(31/318)
العدد 65-66
فهرس المحتويات
1- ذَمّ الفرقة وَالاخْتِلاَف في الكتاب والسنة: للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
2- الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها: للدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي
3- عقود التأمين حَقِيقَتُهَا وحُكْمُهَا: للدكتور حمد حماد عبد العزيز الحماد
4- البدع وآثَارُهَا السَّيِّئَة: للشيخ عبد الكريم مراد
5- القُرْآن الكَرِيْم مَصْدَرٌ لِلتَّاريخ: للدكتور بشير كوكو حميدة
6- لا ... لخصُوَمةِ المسْلِمِ مَعَ الدُّنيَا وَالنّاس: للدكتور جميل عبد الله محمد المصري
7- عُقُودُ الزَّبَرجَد على مُسْنَدِ الإمَام أحمَد في إعْرَاب الحَدِيث: تأليف: جلال الدين السيوطي
8- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
9- ألْفِيَّةُ ابْن مَالِك مَنْهَجُهَا وَشرُوحُهَا: للأستاذ الدكتور غريب عبد المجيد نافع
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(31/319)
ذَمّ الفرقة وَالاخْتِلاَف في الكتاب والسنة
للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي أنعم على عباده المؤمنين بالهداية والاعتصام بحبله المتين, وجمعهم على الحق، ووقاهم شر التشاحن، وذل التخاذل، ومنَّ عليهم بالإخاء والألفة، وجنبهم الاختلاف والفرقة.
أحمده أن هدانا لمعرفة الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله لبيان سبيله الموصلة إليه، والتحذير من سلوك سبل الضلال، فجمع به القلوب بعد الفرقة، وأعز به بعد الذلة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فإنه لا يستقيم للناس حال في دنياهم، ومآلهم إلا بالاتفاق والائتلاف, واجتناب التنابذ والاختلاف.
ولابد أن يكون الاجتماع والاتفاق على أمر عام، يشتركون في نفعه، ويؤملون جميعا عائدته وفضله، في عاجل أمرهم وآجاله.(31/320)
ولا يحصل الاتفاق الكامل، الذي تكون فيه المحبة والألفة، إلا مع اتفاق الدين والعقيدة، فإذا كان الدين حقا، والعقيدة صافية من الشوائب، وسالمة من الانحرافات, والغوائل فهناك يقوى الاتفاق ويتم, وتتأصل الرابطة، ويحصل البذل والإيثار، ولهذا أمر الله تعالى عباده بتقواه المستلزم لحصول الإيمان، وفعل المأمور، واجتناب المحظور، ثم أمر بالاعتصام بحبله جميعا ونهى عن التفرق والاختلاف، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [1] .(31/321)
قال ابن جرير: " {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} المعنى وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك أن تمسكوا بدينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله".
والاعتصام: هو الامتناع بالشيء والاحتماء به، والعصم: هو المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به، ومن ذلك قول الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني
تميم إذا ما أعظم الحُدْثان نابا
والحبل: هو السبب الذي يُوصل إلى المراد، ولذلك سمي الأمان حبلا، لأنه يوصل إلى زوال الخوف، والنجاة من الفزع والذعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبه:
وإذا تُجوِّزها حبال قبيلة
أخذت من الأخرى إليك حبالها
ومن ذلك قول الله تعالى: {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [2] .
وقد فسر حبل الله بأنه الاجتماع على الحق.
وفسر بأنه القرآن وعهد الله الذي عهده إلى عباده فيه.
وفسر بأنه التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى.
روى ابن جرير بسنده إلى ابن مسعود، قال: "حبل الله الجماعة" [3] .
وروى عن قتادة قال: "حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن".
وكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء.
ورُوي عن ابن مسعود، قال: "إن الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق، ليصدّوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتابه" [4] .
وقال مجاهد: "حبل الله عهده وأمره".
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي قال: "حسن غريب" عن أبى سعيد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" [5] .
وروى ابن جرير عن أبى العالية: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} قال: "الإخلاص لله وحده" [6] .(31/322)
وهذه الأقوال كلها حق، وليس فيها اختلاف، فحبل الله هو كتابه، ودينه وأمره الذي أمر به عباده، وعهد إليهم به، وهو الذي أمر بالاجتماع عليه، ونهى عن التفرق فيه.
والمقصود من ذلك كله أن يوحدوا الله تعالى بالطاعة والعبادة، ويخلصوا له العمل، والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق، والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ولذلك بعد أن أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، وهو الاجتماع على دينه والاحتماء به، أكد ذلك بالنهي عن الفرقة، فقال تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} قال ابن جرير: "يعني ألا تفرقوا عن دين الله وعهده إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إلى أمره"، ثم روى عن قتادة، قال: إن الله تعالى كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة, فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وروى عن ابن مسعود قال: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تحبون في الفرقة" [7] .
ومن الأمور المسلَّم بها أنه لابد للناس من أمر يجتمعون عليه، يحكم بين المختلفين ويفصل بين المتنازعين إذ الاختلاف من طبيعتهم، ولابد له ممن يلزم من يأبى ذلك، وينفذ الأحكام، حتى يأمن الناس على أنفسهم، وأموالهم، ويكون اتجاههم موحدا، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وما الدين إلا أن تقام شريعة
وتأمن سبل بيننا وشعاب [8]
ولهذا اتفقت المجتمعات على اختلاف أديانها، ووجهاتها على وضع قانون يرجعون إليه عند الاختلاف، ويحكمونه عند المنازعات، فهو من الضروريات التي لا تصلح دنياهم إلا به.(31/323)
ومعلوم أن الإنسان ظلوم جهول، فلابد أن يقع في الجهل والظلم في وضع القانون وغيره، ولذلك أنزل الله تعالى الشرائع من عنده، لتحكم بين العباد بالعدل وأوجب تعالى على عباده الرجوع إلى شرعه، عند الاختلاف، ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وجعل ذلك شرطا في حصول الإيمان، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [9] .
ثم لابد للمجتمع من رئيس مطاع ذي قوة وسلطان حتى يقوم بتنفيذ شرع الله تعالى على من يَلْزَمُهُ الحكم ويأباه أو يجهله وأمر الله تعالى عباده أن يكونوا عونا له على ذلك؛ لأن هذا هو الذي تحصل به مصالح الدنيا والآخرة وبدونه يعم الفساد والفوضى والظلم فلابد من إلزام الخلق بالحق ومنعهم من الظلم والتعدي في الدماء والأموال والأعراض وقطع السبل، وإلا فسدت الأمور وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وسفكت الدماء.(31/324)
ولابد من العدل في ذلك، وهو الميزان الذي أنزله الله على رسله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [10] وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [11] وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [12] وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه سلم - أنه قال: "لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقَت، وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت" [13] ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كذلك فهي في شر. قال الحسن: "إن الله أخذ على الحكام ثلاثا، أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا"قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [14] وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [15] .
والمقصود أن الله تعالى أوجب على المسلمين أن يجتمعوا على دين الحق الذي هو الإسلام وأن يعتصموا بكتاب الله تعالى، وأن تكون وحدتهم عليه، فعليه يجتمعون وبه يتحدون، لا بالقوميات والجنسيات، ولا بالمذاهب والأوضاع السياسية التي اخترعوها بأفكارهم القاصرة.(31/325)
ونهاهم تعالى عن التفرق والانقسام، بعد الاجتماع والاعتصام بكتاب الله تعالى في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العز والقوَة فبالاجتماع تقوى الأمة، وبالقوة يعتز الحق فيعلو على الباطل، ويحفظ من هجمات المواثبين، ويحمى من كيد الكائدين، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [16] فالإسلام هو سبيله، والعصبيات والقوميات هي السبيل المشتتة التي تؤدي إلى الضعف والهلاك.
والإسلام يأمر بالوفاق، والاتفاق، بين كل من تحكمهم شريعته، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وقد بددت العصبيات القبلية العرب قبل الإسلام، فلم يكن لهم شريعة تجمعهم ولا نظام يحكمهم، وحيفي لجئوا إلى الإسلام نالوا به العزة والسيادة، والسعادة ولما سرى سمَّ العصبيات الموبوءة التي نقلها متفرنجة المسلمين إليهم، يخادعون بذلك قومهم موهمين، بأنهم يريدون النهوض بأوطانهم، وإعلاء شأنهم، أصبح الأمر معكوسا فلم يجنوا من ذلك سوى الضعف والتفكك، والتفرق الذي مهد السبيل أمام أعدائهم للاستيلاء على خيرات بلادهم، وعلى أفكارهم، وفي النهاية أصبح أعداؤهم يتحكمون فيهم، وان أوهموهم بأن الأمر بأيديهم.
فالإسلام وحده هو الأساس الذي ينبع منه إيجاد المجتمع المتكامل، المتساند الذي يعمل من أجل خير الجميع، لأن الإسلام يعتبر الفرد هو النواة للجماعة، ولا يعترف بالجماعة إلا إذا كانت لا تعمل على ضمان صالح الفرد.
ومن المتيقن أن المسلمين لن تقوم لهم دولة عزيزة قوية إلا إذا اجتمعوا على ما اجتمع عليه أوائلهم وأسلافهم، الذين فتحوا البلاد بعدل الإسلام وعزته، وفتحوا القلوب لعبادة الله وحده لا شريك له، وبذلك صاروا هم القادة.(31/326)
ولتكن دويلة اليهود في فلسطين معتبرا لمن يعقل ويعتبر، كيف أصبحت تتحداهم وتهددهم، ولا يستطيعون الإمتناع منها، وليس لذلك سبب سوى انصراف المسلمين عن د ينهم الذي هو مصدر عزهم وقوتهم.
فبالإسلام وحده استطاع أجدادنا لما كان إمامهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقائدهم القرآن أن يكونوا أكبر دولة وأعظمها، لا تستطيع القوى المادية مجتمعة إيجاد مثلها.
وقد علم لكل من يقرأ التاريخ أن المسلمين كلما حادوا عن دينهم، حاق بهم ما وقع بهم في الأندلس، وغيره، أن ما وقع للمسلمين قديما وحديثا كله بسبب انصرافهم عن دينهم، فيجب أن يكون ذلك لهم عبرة، فقد أبيدت أمم من المسلمين وسلبت بلادهم، وسبيت نساؤهم وأولادهم، وارتد من بقي منهم في تلك البلاد عن الإسلام كما حصل في الأندلس، بسبب التفكك والاختلاف الذي نهاهم عنه دينهم وحذرهم الله منه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث ثوبان "وأني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: "يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من في أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا" [17] .
ولما كانوا مجتمعين، تسودهم روح الإسلام، ويلتزمون أحكامه، لم يكن العدو يطمع بهم وليس له فيهم منفذ، حتى صاروا هم يدمرون أنفسهم وبلادهم، بتفرقهم، واختلافهم.
وقد اتفق أهل النظر وعلماء التاريخ والاجتماع من المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة أن العرب ما قاموا ببناء حضارتهم، ومدنيتهم الواسعة الأرجاء إلا بتأثير الإسلام، في جمع كلمتهم، وإصلاح شئونهم النفسية، والعلمية، والخلقية.(31/327)
ولهذا لما رأى الكفار قوة المسلمين، ووحدة صفهم على عدوهم، عملوا على تمزيق هذه الوحدة، بوسائل متعددة، منها تقسيم بلادهم إلى دويلات متعددة، وجعلوا لكل دويلة حدودا، ونظاما، وأمورا قد يحصل بسببها القتال بينها وبن جارتها وبذلك أمكنهم السيطرة على المسلمين، من نواحي متعددة.
ومعرفة الجماعة وأهميتها في الدين، وكذلك معرفة حكم الفرقة وعظيم ضررها مما ينبغي الاعتناء به، وكذلك معرفة منشأ الفرقة وأسبابها، فإن بالفرقة يحصل التلاعن والتباغض والتقاطع، ثم القتال، وهذا أصل محرم في الشرائع كلها التي أنزلها الله على رسله، وإنما ترتكب بظلم الناس وجهلهم.
وكذلك تمييز السنة من البدعة مما يجب الاعتناء به، إذ السنة ما أمر الله به والبدعة ما لم يشرعه الله من الدين.
وقد كثر اضطراب الناس في ذلك قديما وحديثا، وحصل بسبب ذلك من التفرق والتباعد والتباغض شر عظيم، وضعف كبير، وتباعد شاسع، إذ كل فريق يزعم أنه المهتدي، والسنة معه، والفريق المخالف له ضال أو ربما كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشرور ما الله به عليم.
وقد ذم الله تعالى الاختلاف ونهى عند أشد النهي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [18] .(31/328)
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [19]
فأخبر تعالى عن اتفاق الناس في الأصل، وأنهم كانوا جماعة متحدة، ثم اختلفوا.
وهذا الاختلاف في الدين، هو الاختلاف الذي يكون به تضليل بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم لبعض، ثم بعد ذلك يكون القتال وشدة التفرق.
وقد بعث الله تعالى إلى العباد النبيين مبشرين من أطاعهم واجتمع على الهدى الذي جاءوا به، بالسعادة والسيادة، ومنذرين من عصاهم, بالعذاب في الآخرة والعقوبة في الدنيا، بما ينغص عليهم حياتهم، أو يهلكهم بعذاب متصل بعذاب الآخرة.
ولما كان عقل الإنسان وفكره قاصرا عن الوصول إلى كل ما فيه مصلحته، وهدايته من العدل في حقه وحق غيره، ولتفاوت عقول الناس، وإدراكا تهم، فلابد من اختلافهم، مع ما فيهم من النقص، لذلك أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من العلم والاعتقاد، والعمل والحكم.
لأن الاختلاف إما أن يكون في الأقوال، كاختلاف الفقهاء الذين يتكلمون في مسائل العلم، ولا يدعون إلى أقوال مبتدعة فهؤلاء أهل اجتهاد، إذا أخطأوا فخطأهم مغفور، وهم مثابون على اجتهادهم.(31/329)
وإما أن يكون الاختلاف في القول والعمل، غير أن الأقوال مبنية على تأويل فاسد، إتباعا للهوى، ويدعون إليها، ويحاربون عليها، ويوالون ويعادون فيها كفعل الخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم، ويدخل في ذلك من يقاتل لأجل الملك والدنيا والرئاسة، فهؤلاء ما بين معتد ظالم أو مفرط ضال أو عابد لهواه وشهوته، فهؤلاء هم أهل الضلال، والخذلان، وهم الذين توجه إليهم الذم في الكتاب والسنة.
وأول هؤلاء هلاكا هم الخوارج المارقون عن الحق، حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم - وأن علي بن أبي طالب، ومعاوية وعسكريهما هم أهل المعصية، والبدعة، فاستحلوا ما استحلوا من دماء المسلمين بسبب ذلك.
وفى صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وإن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم [20] ، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" [21]
وروى ابن أبي شيبة، عن حذيفة قال: "من فارق الجماعة شبرا، فارق الإسلام" [22] .
وروى عن علي قال: "الأئمة من قريش، ومن فارق الجماعة شبرا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه " [23] . والمقصود بالجماعة أهل الحق الذين اجتمعوا عليه، ولم يخالفوا ما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسب الاستطاعة.
وهذه النصوص وأمثالها تدل على وجوب جمع كلمة المسلمين واجتناب كل ما يكون سببا للخلاف، حتى مسائل العلم الاجتهادية التي ينشأ عنها تفرق ومعاداة.(31/330)
فإنه قد يكون في مسائل الاختلاف اعتقاد وجوب بغض المخالف في تلك المسألة أو تفسيقه، أو لعنه وتكفيره، أو قتاله، ويكون ذلك في حق المبغض المفسق أو المكفر المقاتل بلاء ومحنة وفتنة، كما هو حال البغاة المتأولين، مع أهل الحق والعدل من أهل الأمر والنهى أو أهل العلم والعمل، يعني الأمراء والعلماء والعباد.
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ له مبلغ الفتنة والفرقة، إلا مع البغي والعدوان، ولهذا قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [24] . وذكر هذا تعالى في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [25] . وقوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [26] . فبين تعالى أن الاختلاف الموجب للفتنة والفرقة إنما هو بغي، وعدوان، فلا تكون فتنة وفرقة مع الاختلاف السائغ في الشرع.
ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الفتنة، وصار هذا من أصول أهل السنة التي تذكر في العقائد لأهميته.
وان كان بعض العلماء يرى إذا كانت إحدى الطائفتين لديها العلم التام بأحكام الشرع، والأخرى باغية أنه يجب القتال مع الطائفة العادلة العالمة وحكموا بأن الأصوب القتال مع علي بن أبي طالب في قتال الفتنة، وأن ذلك أولى من اعتزال القتال.(31/331)
ولكن النصوص الكثيرة دلت على أن الصواب اعتزال القتال، كما فعله أكثر الصحابة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله –صلى الله عليه سلم - سيفا فقال: "قاتل به المشركين، فإذا رأيت الناس يضرب بعضهم بعضا، فأعمد به إلى صخرة فأضربه بها حتى ينكسر، ثم أقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية".
وكما في سنن أبي داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: في الفتنة: "كسروا فيها قِسيكم، وقطعوا أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به".
وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أنها ستكون فتنة، ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي إليها، فإذا وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم، ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت, فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الطائفتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار".
وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل أخيه".(31/332)
وفيهما عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ".
والأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالكف عن القتال في الفتن، واعتزال المقاتلين كثيرة جدا، وواضحة جلية، وهي من الأمور المانعة من التفرق، لأن هذا هو العلاج في مثل تلك الحال، فإذا لم تمنع بالكلية فبها العمل على تقليلها، ولو باعتزال أصحابها ومن الأصول المتفق عليها عند أهل السنة، ودلت عليه النصوص الكثيرة، أنه إذا كان للناس إمام جائر ظالم، فإن الناس يؤمرون بالصبر على جوره وظلمه، وبغيه ولا يقاتلونه وأن مجرد وجود البغي من إمام، أو من طائفة لا يبيح قتالهم.
فدفع البغي لم يأذن الشرع به مطلقا بالقتال، بل إذا كان فيه فتنة، ويترتب عليه ضرر أعظم منه وجب الكف عنه، وأمر بالصبر والاحتمال؛ لأن الشريعة مبناها على دفع أعظم المفسدتين بالتزام أقلهما ضررا إذا لم يمكن دفع الفساد مطلقا.
والنبي- صلى الله عليه وسلم - إذا وصف طائفة بأنها باغية ليس معنى ذلك أنه أمر بقتالها بل ولا مبيحاً له، سواء كان بغيها بتأويل أو بغير تأويل.
وكل ما أوجب فتنة أو فرقة بين المؤمنين فليس هو من الدين، سواء كان قولا أو فعلا. والفتنة والفرقة لا تقعان إلا مِن تَرْك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أومن ترك الصبر.
فالمظلوم إذا كان على حق فإنه يؤمر باحتمال الأذى والصبر على البلوى، فإذا ترك الصبر فإنه يكون تاركا لما أمر الله به.
وإن كان المظلوم مجتهدا في معرفة الحق ولم يصبه، ثم لم يصبر على البلوى، كان مقصرا في معرفة الحق وآثما بترك الصبر، ولكن قد يؤجر على اجتهاده ويعفى له عن تقصيره، وأما ترك الصبر فعليه إثم ذلك.(31/333)
وأما إذا كان غير مجتهد في معرفة الحق ولم يصبر، فإنه يجتمع عليه ثلاثة ذنوب، الأول لتركه الاجتهاد في طلب الحق والثاني لتركه الصبر على البلوى والثالث لعدم إصابته الحق ووقوعه في الخطأ.
والمقصود أنه لا يحل دفع الأذى الذي يكون في دفعه فتنة بين الأمة، أو ينتج عنه شر عظيم أو أعظم من الأذى المطلوب دفعه، أو يكون في دفعه ظلم وعدوان، بل المتعين حينئذ الصبر والاحتمال وضبط النفس، فإن ذلك في حق المظلوم ابتلاء وامتحان، وإذا صبر واحتسب كانت العاقبة له، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي يبتلى بعضكم ببعض لينظر من يصبر فيستحق الجزاء الأوفى، في الدنيا والآخرة.
وأخبر تعالى عن رسله أنهم قالوا لقومهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فجعلهم أئمة بالصبر واليقين، فبذلك تُنال الإمامة في الدين.
والخطأ يحصل في هذا إما بسبب جزع المظلوم أو بسبب قلة صبره أو ضعف رأيه فإنه قد يظن أن القتال أو نحوه في الفتنة يدفع الظلم عنه ولا يدري أنه يضاعفه ويزيد الشر كما هو الواقع.
والمظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه، كما في قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فذلك مقيد بشرطين.
أحدهما القدرة على ذلك؛ فإنه إذا كان غير قادر زاد ظلمه.(31/334)
والثاني أن لا يتعدى، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} فأخبر تعالى أن الانتصار جائز لمن يقدر عليه ولا يعتدي وأن الصبر أفضل، فإذا لم يتوافر الشرطان لم يجز.
وهذا كله إذا لم يكن الباغي الظالم هو الإمام الذي له قوة وأتباع، فإذا كان هو لم يجز الانتصار والانتقام، لما يترتب على ذلك من الشر العريض والفتنة التي فيها من الضرر والفساد أضعاف ما في الانتصار من المصلحة ودفع الظلم.
ولهذا جاء ت النصوص عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في النهي عن قتال الأئِمة الجائرين الظالمين.
ففي صحيح مسلم والترمذي أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا، فأعرض عنه مرارا- وهو يعيد السؤال - ثم قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم".
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وفيهما أيضا عن ابن عمر، أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم - قال: "وعلى المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "عليك السمع والطاعة، في عُسرك ويُسرك، ومَنشطك ومَكرهك، وأثرة عليك".(31/335)
وفي الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية".
وهذا كله محافظة على الاجتماع وخوفا من التفرق الذي يضعف الأمة أمام هجمات الأعداء ومحافظة على دمَاء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؛ لما يحصل في الخروج على الإمام من الفتن وسفك الدماء وذهاب الأموال وهتك الأعراض؛ كما جرب الناس ذلك وعانوا منه العنت والشر الكثير، والشرع جاء باحتمال أقل الأمرين ضررا؛ لدفع ما هو أعظم؛ ولهذا جاءت النصوص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالأمر بقتل من خرج بطلب السلطة، والمسلمون لهم سلطان قائم لما في ذلك من الفتن والتفرق، كما في صحيح مسلم عن عوف بن عرفجة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان". وفي النسائي، عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل خرج، يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه".
وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية فقُتل فقِتلةً جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بعهد ذي عهدها فليس مني ولست منه".
فحذر- صلى الله عليه وسلم - مما يفرق ويوهن الجماعة وأمر بقتل من يريد أخذ السلطة ممن هي بيده واجتمع عليه المسلمون سواء كان برا أو فاجرا وأخبر أن من قتل تحت راية عُمِّيّة أن قتلته جاهلية ومن قاتل لعصبية أنه كذلك وتبرأ ممن يفرق بين أمته.(31/336)
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فليس فيه الأمر بالقتال ابتداءً ولكن إذا حصل القتال بين طائفتين من المؤمنين يجب الإصلاح بينهما بدون قتال ما أمكن ذلك امتثالا لأمر الله تعالى، ويكون الإصلاح بالعدل والإنصاف وقد تكون إحدى الطائفتين أقرب إلى الحق، فتعان على الحق ويحال بين الأخرى وبين البغي والظلم، فإن أبت إحداهما قبول الصلح والحكم بينهما بالحق، وأبت إلا البغي وركوب العسف والتمادي في الباطل، فعند ذلك تقاتل تلك الطائفة منعا للقتال الذي هو أعظم من قتالها لأنها إذا لم تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله بل تركت حتى تتقاتل هي والأخرى صار الفساد أعظم، ثم إن الذي يقاتل الطائفة الباغية غير الطائفة المبغي عليها، فهذا من نصر المظلوم ودفع الفساد العظيم بما هو أقل منه فسادا.(31/337)
قال ابن جرير: "يقول جل ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان، اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل، فإن بغت إحداهما على الأخرى، يقول: فإن أبت إحدى الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها أو عليها، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي؛ أي التي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه، فإن فاءت {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى بالعدل يعني الإنصاف بينهما وذلك حكم الله في كتابه جعله عدلا بين خلقه"وهذا ليس فيه قتال الأئمة الذين بأيديهم السلطة، بل هذا نوع آخر وإنما المأمور به في هذه الآية دفع الفتنة وتقليلها ما أمكن بالإصلاح أو بالقتال إذا لم يمكن بدونه، فتقاتل الفئة الباغية على الأخرى، حتى تذعن لحكم الله، ويصير الدين كله لله وكلمة المسلمين مجتمعة.
والمأمور بالقتال هم المؤمنون الذين ليسوا من إحدى الطائفتين، أمر الله تعالى بأن يقاتلوا من بغى على أخيه، وتعدى بقتال، ولم يقبل الصلح بالعدل، فقتال مثل هؤلاء من باب الجهاد، ونصر المظلوم.(31/338)
أما إذا وقع بغي ابتداء بغير قتال مثل أخذ المال أو رئاسة بظلم فهذا لم يأذن الله تعالى بقتالهم على ذلك بل أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطائهم حقوقهم وأن يطلب المظلوم حقه من الله تعالى ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها قتال فتنة وحذر من الخروج على الأئمة؛ وإن كانوا ظلمة وجائرين يضربون الظهور ويأخذون المال ويمنعون الحقوق؛ بل نهى عن معصيتهم حينئذ ونزع يد الطاعة منهم ما لم يأمروا بمعصية الله تعالى, فعند ذلك لا طاعة لهم ولا يسمع لقولهم وكذلك إذا ارتدوا عن الإسلام وكفروا به صراحة فلا يجوز أن يكونوا حينذاك أئمة على المسلمين، فطاعتهم مقيدة بأن لا يأمروا بمعصية الله تعالى, فهم لا يطاعون في كل شيء وإنما يطاعون إذا أمروا بطاعة الله أو بما ليس فيه معصية لله تعالى، أما إذا أمروا بمعصية الله تعالى فلا سمع لهم ولا طاعة.
وكذلك النهى عن الخروج عليهم مقيد بكونهم مسلمين مصلين، أما إذا كفروا كفراً صريحا وارتدوا ردةً واضحة جلية فلا يجوز حينئذ أن يكونوا ولاة على المسلمين وعلى هذا دلت النصوص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
جاء في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: "بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: أجمعوا لي حطبا، فجمعوا له ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فأدْخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي- لصلى الله عليه وسلم - فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" [27] .(31/339)
وفيه أيضا عن أم سلمة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون أمراء تعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما صلوا".
وفيه أيضا عن عوف بن مالك سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلُّون عليكم وتصلُّّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولى عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يداً من طاعة".
قال النووي: "أجمع العلماء على وجوب طاعة ولاة الأمور من غير معصية وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع القاضي عياض وآخرون" قال: "وتجب طاعتهم فيما يشق على النفوس وما تكرهه وغيره فيما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما صرح به في الأحاديث، فتحمل الأحاديث التي فيها إطلاق السمع والطاعة على المقيدة، وفي حديث عبادة قال: "بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن ترون كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان".
ونقل النووي عن عياض أنه قال: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل "إ. هـ يعني انعزل حكما، لأنه لا يجوز أن يتولى الكافر على المسلمين، فولي الأمور هو الذي يقيم الحدود ويقود المسلمين في جهاد أعدائهم ويذود عن بلادهم، فإذا لم يكن على دينهم لا يتوقع منه فعل ذلك.(31/340)
والمقصود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - حذر من الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة وذم ذلك وجعله من أمر الجاهلية، لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رئيس يجمعهم وشأنهم التفرق والاختلاف، ويرون السمع والطاعة مهانة وذِلَّة والخروج عن الطاعة وعدم الانقياد عندهم فضيلة يمتدحون بها.
فجاء الإسلام مخالفا لهم في ذلك آمرا بالصبر على جور الولاة والسمع والطاعة لهم في غير معصية والنصح لهم، وبالغ صلوات الله وسلامه عليه في ذلك حتى قال فيما أوصى به في حجة الوداع: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وإن كان عبدا حبشيا مُجْدِع الأطراف ".
مع أنه- صلى الله عليه وسلم - كان دائما يأمر بإقامة رئيس حتى في الجماعة القليلة والمدة القصيرة ويحث على طاعته، كما أمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، مبالغة في طلب الاجتماع وحرصا على عدم الفرقة ومخالفة لأمر الجاهلية وتقدم الحديث الذي في صحيح مسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل، وقال:وكثرة السؤال وإضاعة المال " وهذه أصول الإسلام فإنه بني على عبادة الله وحده، والجن والإنس خلقوا لذلك.
ولهذا صار من أصول أهل السنة صلاة الجمع وغيرها خلف البر والفاجر، ويرون أن ترك الصلاة خلفهم من سنة المبتدعين، وإذا كان الإمام مستورا فإنه يصلى خلفه بالاتفاق من أئمة المسلمين، ومن زعم أنها غير جائزة فقد خالف الإجماع من أهل السنة وقد كان الصحابة يصلون خلف الفسقة والظلمة بل ومن كان متهما بالإلحاد كابن أبي عبيد وكان داعيا إلى الضلال، ولم يكونوا يعيدون الصلاة وقد أنكر الإمام أحمد على من يعيدها إنكارا شديدا وعد ذلك من البدع.(31/341)
والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكد ذلك بقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} .
وفى الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قوله- صلى الله عليه وسلم -: "وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".
وفى خطبة عمر رضي الله عنه المشهورة التي ألقاها في الجابية، قوله: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"وفيها: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".
والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر.
وقال البخاري: "الجماعة هم أهل العلم"، وهذا لا يخالف قول الجمهور من العلماء لأن أهل العلم، يقولون بمقتضى أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - التي تنص على وجوب طاعة الأمراء الذين يتولون أمور المسلمين، وإن كانوا فجرة ماداموا على الإسلام لم يخرجوا إلى الكفر الصريح كما في صحيح مسلم من غير وجه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".
وفيه عن ابن عباس، قال: "نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} في الإسراء.(31/342)
وفي صحيح مسلم عن حذيفة، قال: "قلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجَاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن, قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر, قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا, قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم, قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فأعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
وفي لفظ آخر: "قلت: وهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قالت: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فأسمع وأطع".
وفي رواية قال عن الخير الثاني: "صلح على دخن وجماعة على أقذاء فيها وقلوب لا ترجع إلى ما كانت عليه".(31/343)
فالخير الأول: النبوة وما اتصل بها من خلافة ليس فيها فتنة، والشر هو ما حصل من الفتنة بسبب مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه وتفرق الناس حتى صار حالهم شبيها بحال الجاهلية يقتل بعضهم بعضا، ولهذا قال الزهري: "وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - متوافرون فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية"فيبين أنهم جعلوا ذلك غير مضمون كما أن ما يصيبه أهل الجاهلية بعضهم من بعض غير مضمون، لأن الضمان إنما يكون مع العلم بالتحريم فأما مع الجهل كحالة البغاة من أهل القبلة والكفار فلا ضمان، لهذا لم يضمن النبي- صلى الله عليه وسلم - أسامة دم الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله "، مع تغليظه- صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وردد عليه قوله: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله، ثلاث مرات حتى قال أسامة فتمنيت أني لم أسلم قبل ذلك.
والخير الثاني: اجتماع الناس على معاوية بعد أن تنازل الحسن له عن الأمر، وكان ذلك صلحا على أقذاء، ودخن في ذلك الاجتماع حيث لم ترجع القلوب إلى ما كانت عليه زمن النبي- صلى الله عليه وسلم – وخلفائه قبل الفتنة.
والمقصود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه يكون أئمة لا يهتدون بهديه- صلى الله عليه وسلم - ولا يستنون بسنته وأخبر أن فيهم رجالا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب الظهر وأخذ المال وفي ذلك بيان وجوب طاعة السلطان، سواء كان عادلا أو ظالما جائرا وهذا حماية منه- صلى الله عليه وسلم - للأمة من التفرق، الذي يضعفها ويجعلها نهبة للأعداء، كما هو الواقع من حال المسلمين اليوم لما تفرقوا وأصبحوا دويلات لكل دويلة حدودها واتجاهاتها.(31/344)
وعلاقتها مع أعدائها أوثق من علاقتها مع الدول الإسلامية، وبذلك صار المسلمون غثاء كغثاء السيل ذهبت مهابتهم من قلوب أعدائهم وقذف في قلوبهم الوهن فوصلوا إلى حالة من الشقاق والاختلاف وصاروا فيها من أبعد الناس عن الاتفاق الائتلاف. والواجب عليهم الحذر مما وقع فيه من قبلهم من الاختلاف في دينهم أشد الحذر وقد أكثر الله ورسوله في تحذيرهم من ذلك ورتب تعالى العذاب على الاختلاف.
وهم قد جربوا ذلك بأنفسهم فلما كانوا ممتثلين لأمر ربهم بالاتفاق والاعتصام بكتاب الله تعالى، منتهين عن التفرق والاختلاف، كانوا خير أمة أخرجت للناس، فحصل لهم الخير العظيم الذي لم يطرق العالم مثله، من كثرة الإيمان بالله وانتشار العدل بين الناس وقوة المسلمين وسيطرتهم على معظم الأرض وقمع الباطل وحزب الشيطان، فلما سلكوا مسالك من تقدمهم من التفرق في الدين وتقليد أعدائهم ذهبت ريحهم، ثم لم يزل النقص فيهم إلى أن صاروا أذلة يستجيرون بأعدائهم، مع كثرة عددهم، والله تعالى جعل الاختلاف من طبيعة البشر فلذلك بين علاجه بيانا واضحاً بأن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتَابه، وسنة رسوله، وبذلك يحصل الاتفاق والاعتصام بحبل الله.
والمقصود أن الله تعالى لم يأذن بقتال الأمراء والولاة، والخروج عليهم لما في ذلك من الفتن والفساد الكبير، والواقع أكبر شاهد لذلك.
وأما إذنه بدفع الصائل بالقتال كما في الحديث: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" ونحو ذلك، فهذا ليس فيه فتنة ولا هو من دواعي التفرق والاختلاف، فهو مثل قتال اللصوص وقطاع الطرق فليس قتالهم فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على قتالهم، فلا يكون في قتال هؤلاء ضرر عام يشمل الظالم والمظلوم وغيرهما، كقتال ولاة الأمور، فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر والاحتمال.(31/345)
وبهذا تجتمع النصوص وتتفق، ويزول التعارض الذي يتوهمه بعض الناس.
وهذا الأمر مما ينبغي الاهتمام بفهمه، فإن خطره عظيم، والنصوص التي تقدم ذكر بعضها تدل على وجوب الكف عن القتال في الفتنة، ولكن إذا كان الخارج مارقا من الدين ظاهر الضلال ويتدن بقتال المسلمين كالخوارج والروافض الذين يرون قتل المسلمين من فضائل الأعمال، فإنهم يُقاتلون وُيرغب في قتالهم، كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتال الخوارج ورغب فيه والروافض أشر من الخوارج.
وما قاله بعض العلماء من وجوب القتال مع من هم أولى بالحق، فالصواب خلافه- أي وجوب الكف عن القتال - لأن القتال فيه من الشر العظيم والفتنة والفساد أعظم مما في ترك القتال كما هو الواقع، لأن القتال في مثل ذلك لأجل ترك واجب مثل الامتناع من طاعة معين والدخول في الجماعة، وفي قتال الممتنعين ما فيه من سفك دماء المسلمين والفتن العظيمة أعظم مما يحصل بتركه، وإن كان غيرهم أولى بالطاعة والمقصود أن الله تعالى نهى عن التفرق وعن أسباب الفتن، مما يضعف الأمة ومن تتبع تاريخ المسلمين عرف أن أكثر الاختلاف والتفرق حصل في مسائل الصفات والقدر والإمامة وغالب ذلك مما يدخله الاجتهاد، فهم في ذلك ما بين مجتهد مخطئ ومخطئ باغ وباغ من غير اجتهاد أو مقصر فيما أمر به من الصبر والاحتمال، فحصل بسبب ذلك من القتال والشرور ما هو معلوم لمن نظر في التاريخ والواقع.
وقد قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فأمر تعالى بالصبر على أذى الكفار من اليهود والنصارى والمشركين مع التقوى.(31/346)
وفي هذا تنبيه على وجوب الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين.
والله تعالى قد أمر بالعدل مع الكفار وغيرهم كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
فنهى تعالى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على عدم العدل فيهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق مؤمن أو مبتدع متأول، فهو أولى بوجوب العدل معه وأن لا يحمل بغضه على ظلمه.
والإسلام جاء بتأليف القلوب وجمعها على الحق ومناصرة المؤمنين ومعاونتهم على البر والتقوى قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فأمر بتنمية الخير وتكثيره وبإماتة الشر وتقليله، وأمر بالأسباب التي تجلب الخير ومودة المسلم لأخيه، ونهى عن الأسباب التي تجلب العداوة والبغضاء، مما يدل على أن الإسلام مبني على وجوب التآلف بين أهله والاجتماع عليه، وتحريم الفرقة والاختلاف.
فلهذا حرم السب والسخرية واللمز والتنابز بالألقاب، وما أشبه ذلك مما يسبب الفرقة بجلب العداوة والبغضاء وتنافر القلوب.
وحرم الأفعال الداعية إلى ذلك ففي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".(31/347)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فهذه الأمور التي نهى عنها وهي السخرية واللمز والتنابز بالألقاب, هي مما يوغر الصدور ويحدث البغضاء الداعية إلى التقاطع والاختلاف وتفرق القلوب والأفكار ثم تفرق الأبدان.
وأمر بعكس ذلك مما يدعو إلى الألفة والمحبة كطيب الكلام، ولين الجانب وإفشاء السلام، والدعاء بأحسن الأسماء وأحبها إلى المدعو، والهدية، وما أشبه ذلك مما يجلب المحبة، ويجمع القلوب، ويشعر بالأخوة الصادقة.
وهذا لا ينافي لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود منه رحمة الخلق وامتثال أمر الله تعالى وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قال أبو هريرة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأتون بهذا في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة".
فهذه الأمة خير الأمم لبني آدم، فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر، وسبي الأموال والأولاد، ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم، وسوقهم إلى كرامة الله تعالى ورضوانه من دخول الجنة، والحيلولة بينهم وبين النار، عكس ما يفعله النصارى والملحدون, الذين يجهدون أنفسهم ويبذلون أموالهم يبعدون بذلك الناس عن الله تعالى وهدايته، ويكرهون إليهم لإسلام بما يظهرونه من تشويه للإسلام وأهله.(31/348)
وكذا إذا رد المؤمن على أهل البدع، فإنه يجب أن يكون مقصوده بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا بالغ في ذم بدعة أو معصية فينبغي أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد، وتحذير الناس من الوقوع فيها.
وكذا إذا هجر إنسانا أو عزره، أو أقام عليه الحد، فلا يجوز أن يكون ذلك للتشفي والانتقام، بل يكون للرحمة والإحسان، فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله لخلقه، وإرادة الإِحسان إليهم ونفعهم، كما يقصد الوالد بتأديب ولده نفعه والإحسان إليه، وكما يقصد الطبيب بإجراء العملية للمريض شفاءه والإحسان إليه.
ولهذا أمر الله تعالى بالصلاة على من أقيم عليه الحد والاستغفار له، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وأمر بالصلاة على الأموات من المسلمين، فكل مسلم لم تعلم ردته، ولا نفاقه فإنه يصلى عليه، ويستغفر له، وإن كان فيه بدعة وفسوق هذا هو مذهب أهل السنة، مخالفين بذلك نهج أهل الزيغ من الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يحكمون على أصحابها بالخلود في النار.
ومن القواعد التي قررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، أن المتأول إذا قصد متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم - فاجتهد وأخطأ أنه لا يكفر ولا يفسق سواء كان ذلك في المسائل العملية الفرعية، أو في العلمية الاعتقادية الأصولية.
والتفريق بين مسائل العمل والاعتقاد في ذلك من أقوال أهل البدع.
ولا يعرف عن أحد من الأئمة أنه كفر كل مبتدع، بل المنقول عنهم يخالف ذلك.
ولكن قد ينقل عن بعضهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر منه، ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع.(31/349)
وإذا لم يكن الإنسان في نفس الأمر كافرا ولا منافقا فهو من جملة المؤمنين فيستغفر له ويترحم عليه، وإذا قال المسلم في دعائه: "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"دخل في ذلك كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ بتأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وكذا الموجودون ومن يوجد بهذه الصفة يدخلون في ذلك، وإن كانوا من الثنتين والسبعين فرقة، فما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين فيهم ضلال، وذنوب يستحقون بها الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين من غير أهل البدع.
والنبي- صلى الله عليه وسلم -، لم يخرج الثنتين والسبعين من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم مخلدون في النار، فينبغي مراعاة هذا الأصل، فإنه أصل عظيم ومعلوم أن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدع من جنس بدع الجهمية والمعتزلة، ولا يقول عاقل يعرف شيئا من علم الكتاب والسنة أن مثل هؤلاء كفار، أو أنهم خارجون من الفرقة الناجية مطلقا.
قال شيخ الإسلام: "من كفَّر الثنتين والسبعين فرقة كلهم، فقد خالف الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع أن الحديث في ذلك قد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره، وصححه الحاكم وغيره ورواه أهل السنن من طرق".(31/350)
وليس قوله في: الثنتين والسبعين "كلها في النار" لما بأعظم من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} وأمثال ذلك من نصوص الوعيد الصريحة بإدخال من فعل ما ذُكر النار، ومع ذلك لا نشهد على معين ممن أكل مال اليتيم ظلما، أو أكل مالا بالباطل، أو ارتكب ما توعد عليه بدخول النار، لا نشهد عليه بالنار، لإمكان أنه تاب، أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفَّر الله عنه بمصائب أصيب بها أو غير ذلك.
والمقصود أنه يجب العدل في الحكم والقول، وأن يتبع كتاب الله تعالى, فإن الله تعالى قد أغنانا به، وبين لنا به ما نحتاجه في جميع شئوننا، وأن نرجع إليه إذا حصل بيننا خلاف، فهو كفيل بحل جميع مشكلاتنا، ففيه الهدى والنور.
وقد ذكر الله تعالى أن المختلفين اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فلذلك ذمهم الله، لأن العلم جاءهم من الله واضحا جليا فاختلفوا، قاصدين البغي معرضين عن الهدى، مع علمهم بالحق، ولم يكونوا باختلافهم مجتهدين مخطئين قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} قال الزجاج: "اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان".(31/351)
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني أن الذين اختلفوا في الكتاب هم اليهود والنصارى، الذين قال رسولنا- صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة ستسلك مسالكهم فهدى الله المؤمنين من هذه الأمة لما اختلف فيه أولئك من الحق.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .(31/352)
وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} فهذه الآيات ونظائرها في كتاب الله تعالى، فيها البيان أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم، والبينات- أي الدلائل الواضحات - بأن ما جاءت به الرسل هو الحق، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأن الحق اشتبه عليهم بالباطل، وهذه حال أهل البدع، والاختلاف المؤدي إلى الضلال.
فأصحاب الأهواء عامة لا يختلفون إلا بعد ظهور الحق لهم، ووضوح الهدى، فيبغي بعضهم على بعض، فكل فريق منهم له نحلة يضلل من خالفه فيها، ويرد الحق إذا لم يتفق مع باطله، ويكذب به.
وأما رسل الله تعالى فإنهم جاءوا بدين واحد- هو دين الإسلام - وأمرهم أن يدعوا إليه، ونهاهم عن التفرق فيه، وهو في الحقيقة دين أول الرسل وآخرهم، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .(31/353)
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ, وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فقوله أمتكم أمة واحدة، يعني شريعتكم ودينكم واحدا، ولكن الناس اتخذوا كتبا كتبوها مبتدعين فيها غير ما جاءتهم به رسلهم مختلفين متفرقين بغيا وعدوانا.(31/354)
وقد قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ, رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً, فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ, وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ونظير هذه الآيات قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ, مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فنهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يعني فرقا متعددة وأحزابا متعادية، وأعاد لفظة (من) في قوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ليبين أن هذا بدل من الذي قبله، والبدل هو المقصود، وما قبله توطئة له، فهذا تحذير بليغ عن الاختلاف والتفرق.
ودلت هذه الآية على أن الاختلاف والتفرق شيعا لا ينفك عن الشرك لما فيه من عبادة الأهواء.(31/355)
فالله تعالى جعل دينه واحدا، وأمر رسله أن تدعوا إليه من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما قال تعالى عن أولهم نوح عليه السلام: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى عن خليله، وأبى الأنبياء بعده: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أن إبراهيم ويعقوب كلاهما وصى بنيه بهذا القول وقال يوسف عليه السلام: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وقال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقال المؤمنون الذين كانوا سحره فهداهم الله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقالت ملكة اليمن بعد أن هداها الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأخبر تعالى عن أنبياء بني إسرائيل بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وقال حواري عيسى عليه السلام: {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وقال تعالى عن خاتم رسله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ, وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا(31/356)
مُسْلِمُونَ} وفي الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد".
وليس تنوع الشرائع مخالفا لذلك أو مانعا منه، بل أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلهم واحد، هو الإسلام، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن كان لكل نبي شرعة، وهذا مثل ما كان في أول الإسلام لما كانت القبلة إلى بيت المقدس ثم حولت إلى الكعبة، والدين واحد في كلتا الحالتين، وهكذا شرائع الأنبياء، ولهذا إذا ذكر الله الحق جعله واحدا، وإذا ذكر الباطل جعله متعددا، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
فالمتعين على المسلم أن يكون أصل قصده توحيد الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم - بإتباع أمره، واجتناب نهيه، يدور مع ذلك حيث وجده، في قوله، وعمله، فلا ينتصر لقول شخص مهما كان، انتصارا مطلقا إلا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - لأنه لا ينطق عن الهوى، وهو معصوم عن الخطأ في ما يبلغه عن الله تعالى، ويعلم أن أفضل الناس بعد الأنبياء هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعن، فلا ينتصر لطائفة انتصارا عاما مطلقا إلا لهم، ومن عداهم فالانتصار لهم يجب أن يكون بقدر ما معهم من الحق، وذلك لأن الحق والهدى يدور مع الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه إذا اجتمعوا فهم على الحق قطعا، بخلاف أصحاب غيره من الأئمة، فيجوز أن يجتمعوا على الباطل، أما مجموع الأمة فلا تجتمع على الباطل ومن الممتنع أن لا يعرف الصحابة الحق الذي جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأن يعرف أحد من العلماء بعد الصحابة، ما لا يعرفه الصحابة بمجموعهم، أو يعرف حقا يخالف ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - بل كل ما خالف قوله أو فعله فهو باطل.(31/357)
والصحابة هم الذين بلغوا الدين عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -فلا يمكن معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - إلا بواسطتهم، ولهذا صار الطعن فيهم طعنا في الدين.
والمؤمن بالله حقا، ظاهرا وباطنا هو الذي قصده إتباع الحق، وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن وقع في خطأ فهو غير مقصود، بخلاف أهل البدع والاختلاف فإنهم لا يقصدون إتباع الحق، بل يتبعون أهواءهم، وما تزينه لهم شياطينهم وعلى ذلك يعادون ويوالون، ويقصدون نصر جاههم، ورياستهم، وما ينسب إليهم، لا يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله.
ولهذا نجدهم يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا، ويرضون على من يوافقهم وإن كان جاهلا منافقا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، ولهذا يذكر العلماء: أن من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا ومن مدائح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون، فأهل البدع يحمدون من لم يحمده الله ورسوله، ويذمون من حمده الله ورسوله.
فهم في الحقيقة يتبعون أهواءهم، ولهذا يسميهم السلف أهل الأهواء، لأنهم لا ينظرون إلى أن يكون دين الله هو الظاهر، وكلمته العالية، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فإذا لم يكن الدين كله لله فالفتنة موجودة.
وأصل هذا الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة له، والمعاداة فيه، والعبادة كلها لله، وهذا لا يمكن إلا بمتابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم -.(31/358)
ولهذا قال العلماء: إن قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى" نصف الدين، ونصفه الآخر قوله- صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" لأن الأول يتضمن المقاصد، والثاني يتضمن المتابعة، وكلاهما شرط في صلاح العمل وتهيئته للقبول.
فلابد من إخلاص العمل لوجه الله تعالى، ومن الاعتصام بحبل الله، وهو إتباع كتابه وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن ذلك فالهلاك أقرب إلى الإنسان من عنقه، وألزم له من ظله، نسأل الله الهداية والتوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الآيات من سورة آل عمران رقم 102- 107.
[2] تفسير الطبري ج7 ص 71 بتحقيق محمود شاكر ط المعارف.
[3] تفسير ابن جرير الطبري ج7 ص 71.
[4] المصدر نفسه.
[5] المسند ج3 ص14 ,17 26،59 وانظر الترمذي 4 ص 343.
[6] تفسير الطبري ج7 ص 73.
[7] ابن جرير ج7 ص 75.
[8] نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إليه ولم أجده في ديوانه.
[9] الآية رقم:65 من سورة النساء.
[10] الآية 90 من سورة النحل.
[11] الآية 58 من سورة النساء.
[12] الآية 152 من سورة الأنعام.
[13] قال السيوطي رواه أبو يعلى والخطيب في المتفق والمفترق انظر الجامع الكبير المصور عن المحطوطةج1 ص887
[14] الآية 26 من سورة ص.
[15] الآية 44 ص سورة المائدة.
[16] الآية 153 من سورة الأنعام.
[17] رواه مسلم جـ 4 رقم 2889.
[18] الآية 159 من سورة الأنعام.
[19] الآية 213 من سورة البقرة.
[20] المنهاج جـ 3ص33.
[21] انظر صحيح مسلم جـ 2 ص1340 رقم 1715.(31/359)
[22] المصنف جـ15ص21.
[23] المصدر نفسه جـ 15 ص 24.
[24] الآية 213 من سورة البقرة.
[25] الآية 19 من سورة آل عمران.
[26] الآية 17 من سورة الجاثية.
[27] صحيح مسلم جـ7 ص 227.(31/360)
الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها
للدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
(آية 163 سورة البقرة)
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
(آية 52- سورة المؤمنون)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمن.. وبعد:
فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى اللقاء والتعاون إحساس منطقي وواقعي.. وذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات.. وانهكتها النزاعات التي كانت سببا لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه صوت الضعفاء ولا أنين الجرحى.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [1] .
فارتفاع الأصوات المسلمة هنا وهناك تنادى بضرورة وحدة الأمة واجتماع كلمتها أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمى حقها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [2] .
ولكنه لابد للأمة المسلمة- وهي تلم شعثها وتوحد صفوفها- لابد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع السيئ الذي تعيشه والأسس التي ينبغي أن تلتقي عليها والوسائل التي يمكن أن تتحقق بها تلك الأسس، وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف.
وإنني إذ أكتب هذا البحث لآمل أن ينفع الله به عز وجل الأمة المسلمة وهى تتجه إلى الله عز وجل وتعمل على توحيد كلمتها إنه سميع مجيب.
وعنوان البحث: (الوحدة الإسلامية: أسسها ووسائل تحقيقها) ، وقد تضمن أربعة أقسام وخاتمة.. وذلك على النحو التالي:(31/361)
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
أولا: في العقيدة.
ثانيا: في العبادة.
ثالثا: في الشريعة.
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
أولا: الجهل بدين الله عز وجل.
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين.
ثالثا: الغزو الفكري.
القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: العمل على الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
الخاتمة:
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يهيئ أسباب وحدة الأمة وأن يجمع كلمتها على الحق إنه سميع مجيب.
القسم الأولى
واقع الأمة الإِسلامية
أولا: في العقيدة:
أ- انحرافات إلحادية.
ب- انحرافات في الجانب النظري- العلمي- من العقيدة.
ج- انحرافات طائفية قديمة.
د- انحرافات طائفية حديثة.
ثانيا: في العبادة:
أ- الغلو المفرط في أدائها.
ب- الإهمال المطلق بها.
ج- عدم الالتزام بالأداء الصحيح لها.
ثالثا: في الشريعة:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها.
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية.
القسم الأول
واقع الأمة الإسلامية
واقع الأمة الإسلامية واقع مكشوف لا يكاد يجهله أحد، فقد تعرض لأمراض متعددة وانحرافات متنوعة بحيث لا يكاد يسلم جانب من جوانبه- لا في العقيدة ولا في العبادة ولا في الشريعة-.
وسأحاول فيما يأتي الإشارة إلى هذا الواقع بشيء من الإيجاز.
أولا: في العقيدة:(31/362)
إن أخطر الانحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الانحرافات في العقيدة ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها ولكنا سنكتفي هنا بالتنبيه على بعضها.
أ- انحرافات إلحادية:
هدف أصحابها استبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام، وهم طوائف متعددة وسلكوا طرقاً متنوعة يقول الأستاذ مصطفي صبري: "ومن البلية أن الحركات التي تثار في الأزمنة الأخيرة ترمى إلى محاربة الإسلام في بلاده بأيدي أهله والتي لاشك أنه الكفر وأخبث أفانين الكفر ... " [3] .
ويقول في مكان آخر: "لكن البلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة مباءة اليوم لفئة تملكوا أزمة النشر والتأليف ينفثون من أقلامهم سموم الإلحاد غير مجاهرين بها وربما يتظاهرون بالدين" [4] .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين بعد عرضه للدعوات الهدامة: "كانت هذه الدعوات تسلك إلى أهدافها مسالك متباينة وتلبس أثوابا مختلفة ولكنها جميعا ترمى في آخر الأمر إلى توهين أثر الإسلام في النفوس وتفتيت وحدته التي استعصت على القرون الطوال" [5] .
ب- انحرافات في الجانب النظري- العلمي من العقيدة:
وذلك فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
فقد وجدت الاتجاهات المنحرفة التي تتنكر لهذا الجانب أو لبعضه فأولت الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة وردت الأحاديث الأخرى والتي تعرف الناس بربهم عز وجل.
وكان أول من أظهر هذه البدعة الضالة- بدعة الحديث في أسماء الله وصفاته وتأويلها- الجعد بن درهم فأول الاستواء والكلام لله عز وجل [6] وتبعه على ذلك المعتزلة الذين أصبحوا فيما بعد فرقة مستقلة في منهجها وفهمها تقابل أهل السنة.
قال الشهرستاني: "الفريقان من المعتزلة والصفاتية متقابلان تقابل تضاد" [7] .(31/363)
وقد أتى القوم من ضلال عقولهم القاصرة وظنهم أن إثبات تلك الصفات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -يقتضي التشبيه بالمخلوق.
وينتج عن هذا المذهب أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم يستطيعا بيان مراد الله عز وجل من خلقه من أقرب الطرق.
فتعددت بذلك الفرق وانقسم المسلمون إلى متابع لهذه الطائفة ومخالف لها وحدثت في تاريخ الأمة الإسلامية بسببه وحدثت ومشكلات، ولازالت آثار هذه الطائفة قائمة في المجتمع الإسلامي إلى اليوم.
جـ- انحرافات طائفية قديمة:
لازالت قوية ونشطة رغم انحرافها وفساد معتقداتها.
ومن تلك الطوائف: (طائفتا الشيعة والصوفية) .
فالأولى تقوم على عقيدة تخالف عقيدة الإسلام التي جاء بها رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك إسباغ صفات الألوهية على أئمتهم وادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب وأنهم يتلقون الوحي من السماء وفي كلا الأمرين إساءة إلى الله عز وجل وتكذيب لدينه.
وأخيراً فإنهم يتهمون أصحاب رسول الله له بالخيانة والردة عن الإسلام، وهذا يؤدى إلى إبطال الإسلام.
فأما ادعاؤهم علم الغيب لأئمتهم فقد ورد في أهم مصادرهم بألفاظ صريحة في أبواب مستقلة.
فقد ورد في كتاب: (أصول الكافي) - وهو أهم كتاب عندهم-[8] عناوين تؤكد ذلك.
منها: (باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم) [9]
ومنها: (باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا) [10] .
ومنها: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم) [11] .
وأما ادعاء نزول الوحي على الأئمة فيذكرون عن جعفر الصادق أنه قال- وهو يتحدث عن مصادر علم الأئمة-: "وأما النقر في الأسماع فأمر الملك" [12] أي صوت الملك.(31/364)
فعلم الغيب لا يظهر الله عز وجل عليه إلا أنبياءه ورسله كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل حيث يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [13] .
ولكن الشيعة تعتقد أن الأئمة يأتيهم خبر السماء كما روى ذلك الكليني مؤلف أصول الكافي فقال: "إن المفضل سأل أبا عبد الله- أي جعفر الصادق- بقوله: جعلت فداك بفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء".
قال: "لا: الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساء" [14] ويعلق الشارح على هذا القول فيقول: "ولذلك الإمامية ذهبوا إلى أن الإمامة لا تصلح إلا لمن له منزلة النبوة" [15] .
هذه بعض عقائدهم المنحرفة والتي تجعل لهم اتجاها آخر ودينا يخالف دين المسلمين.
وأما الصوفية فقد ابتدعت تقديس الأفراد ورفع التكاليف عن بعض الناس كما أعادت إلى الأذهان تلك الطقوس الكنسية التي أفسدت الدين النصراني حيث اتخذت من البشر وسائط عند الله بها تقضى الحاجات وتغفر الزلات إلى عشرات أخرى من الا نحرا فات.
فأما دعوى سقوط التكاليف فإنهم يزعمون أن للإنسان درجة إذا وصل إليها سقط عنه التكليف.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ومن هؤلاء- أي الصوفية- من يحتج بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ويقول معناها: أعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل حال فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة" [16] .
ويقول عنهم كذلك: "والغالبة في المشايخ قد يقولون: أن الولي محفوظ والنبي معصوم وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب" [17] .(31/365)
ويقول الدكتور إبراهيم هلال وهو يتحدث عن نتائج غلو الشيعة والصوفية في ذكر فضائل الأولياء: "ولعل أبرز مظاهر هذا التفضيل ما يدعيه بعض الصوفية من حلول الله فيهم أو اتحادهم به مما يتضمن القول بألوهيتهم وتصرفهم في الأكوان وفي الناس" [18] .
ولعل هذا هو السبب وراء التقديس وصرف العبادة إلى الأولياء المتمثل في بناء القباب على قبورهم والطواف حولها ودعاء أصحابها والذبح والنذر لهم إلى غير ذلك من صور العبادات التي لا يكاد يسلم منها بلد من بلدان المسلمين إلا من رحم الله عز وجل.
وقد كان هذا الانحراف في الفكر الصوفي من الأسباب المباشرة لظهور الشرك في الأمة بتقديس الأموات وطلب الحاجات منهم واتخاذ قبورهم مزارات وأماكن عبادة فزاحم تعظيم الأموات توحيد الله عز وجل في القلوب، فكثرت الأضرحة وتعددت الفرق والأحزاب لكل حزب ضريح به يستغيثون وعنده ينيخون وإليه عند نزول الحوادث يلجئون.
6- انحرافات طائفية حديثة:
تتمثل في طوائف مستقلة ـ كالبهائية والقاديانية ـ ونحوها من الطوائف التي خرجت على عقيدة
الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهى تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفتها العقيدة (ختم النبوة) التي هي جزء من عقيدته.
فإن زعيم البهائية (حسن علي المازندراني) يزعم أنه نزل عليه الوحي وجمعه في كتاب سماه (الأقدس) [19] وقد ورد في هذا الكتاب ما يلي: "لا تحسبن إنا أنزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولى الأفكار" [20] فهو يزعم بهذا أنه قد فتح باب النبوة وفض ختمها ليوحي إلى البهاء وهو ما صرح به في كتاب آخر من كتبه حيث ذكر انه: "فك ختم النبيين" [21] .(31/366)
وكذلك زعيم القاديانية (غلام أحمد بن غلام مرتضى) له كتاب اسمه (تذكرة وحي مقدس) [22] يزعم أنه أوحي إليه وقد كتب بأربع لغات وهي: العربية، والفارسية، والأردية، والإنجليزية.
وقد ورد فيه ما يلي: "إنا أرسلنا أحمد إلى قومه فأعرضوا وقالوا كذاب أشرا" [23] و "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وتهذيب الأخلاق" [24] .
وليست هاتان الطائفتان هما الوحيدتين في ادعاء نزول الوحي بل هناك طوائف أخرى وأشخاص آخرون ادعوا نزول الوحي كزعيم البلاليين: (اليجا محمد علي) في أمريكا وغيره.
ثانيا: في العبادة
لقد تعرضت العبادات إلى انحرافات أخرى متعددة نورد طرفا منها:
أ- الغلو المفرط في أدائها:
والذي كان يتمثل فيما سبق في طائفتي الخوارج والصوفية حيث كان لكل منهما غلو مفرط في جانب أو جوانب منها.
فالخوارج شددوا على أنفسهم وحملوها فوق طاقتها من قيام بالليل وصيام بالنهار حتى ظهر ذلك على ملامح وجوههم ومظاهر أجسادهم.
وقد وصفهم ابن عباس بعد زيارة لهم فقال: "فدخلت على قوم لم أرقط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن [25] الإبل وعليهم قمص مرحضة [26] مشمرين مسهمه [27] وجوههم من السهر.." [28]
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الطائفة بقوله: "يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون انه لهم وهو عليهم ولا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية…" رواه مسلم وأبو داود [29] .
وأما الصوفية فقد بالغوا في الذكر والزهد وعاشوا في ظلمات الخلوات للوصول إلى (درجة اليقين) التي تسقط عندها عنهم كل التكاليف الشرعية- بزعمهم-[30] .(31/367)
وقد أنكر ابن عقيل رحمه الله عليهم هذه الأهواء والبدع فقال: "ما أعجب أموركم في المتدين: إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة" [31] .
ب- الإهمال المطلق للعبادات والاكتفاء بالتلفظ بالشهادتين:
وهذا الانحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي للعمل اهتماما إذ أن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط- عند بعضهم- وبالاعتقاد عند البعض الآخر.
وكان جهم بن صفوان هو أول من زعم أن: "الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط والكفر هو الجهل به فقط" [32] .
وذكر البغدادي أن المرجئة: "إنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان".
ج- عدم التزام كثير من المسلمين بالأداء االصحيح للعبادات:
فترى أحدهم يؤدى هذه العبادات ولا يلتزم فيها بشروطها وواجباتها وأوقاتها.
ثالثا: في الشريعة:
لم تقتصر الانحرافات على الجانبين السابقين بل شملت- كذلك- حتى جانب الشريعة حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية- تعرضت إلى انحراف وفساد بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية نعرض طرفا منها:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها:
وهذا من آثار الاستعمار العسكري والفكري الذي فرق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده. فوجد في المسلمين من يتحمس لقوانينه وفكره ويدعو إلى تطبيقها ومتابعتها.
وقد حظيت هذه الفئة بعناية الاستعمار ورعايته وسلم له زمام المجتمعات التي كان يسيطر عليها فخلفه فيها وقام على تطبيقها وتنفيذها بكل دقة.
ولعل الشروط التي فرضتها دول الاستعمار على مصطفي كمال أتاتورك تبين المخطط الاستعماري لحرب الإسلام ومحاولة فصل الأمة عنه.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: "وهذه هي الشروط الأربعة المشئومة التي فرضتها دول الاستعمار على تركيا:(31/368)
ا- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيا من تركيا.
2- أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4- أن يستبدلوا الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت.
فقبل مصطفي كمال هذه الشروط ونفذها بحذافيرها فتركته دول الاستعمار" [33] .
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية:
فيؤخذ من الشريعة ما يتعلق بالأمور الشخصية وتكمل بقية الجوانب من القوانين الوضعية.
وقد ذكر الأستاذ محمد الخضر الحسين [34] عن أسلوب دعاة هذا المبدأ فقال: "فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم وهو: أن يدَّعوا أن الإسلام: توحيد وعبادات ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا" [35] .
ويقول الأستاذ مصطفي صبري [36] عن هذه المحاولة والتي تعني فصل الدين عن الحكم والسياسة: "لكن حقيقة الأمر أن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه وقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة الخروج عليه لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد في غيره وهو ثورة حكومية على دين الشعب" [37]
هذا عرض موجز لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل جانب من جوانبه مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة واجتماع كلمتها.. فقد أصيبت الأمة في عقائدها.. وعباداتها.. وشريعتها..
وما لم يصحح هذا الواقع على ضوء التوجيهات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم -فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة.
القسم الثاني
أسباب هذا الواقع
أولا: جهل الأمة بدينها.
ثانيا: الغزو العسكري.
ثالثا: الغزو الفكري.
القسم الثاني(31/369)
أسباب هذا الواقع
لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر أهمها:
أولا: جهل الأمة بدينها:
فقد انتشر الجهل في الأمة قيادات وشعوبا حتى أصبح كثير منهم لا يعرف من دينه إلا اسمه فلا يعرف أحكامه وعقائده ولا أخلاقه وآدابه فسهل على أعداء الله عز وجل أن ينشروا ضلالهم وأن يبثوا سمومهم بل وسهل عليهم أن يصنعوا لهم عملاء من أبناء المسلمين يحاربون عقيدة المسلمين وينشرون الضلال في صفوفهم.
قال الأستاذ محمد كرد علي: "أصبح الناس بعد المائة السادسة تفتر هممهم شيئا فشيئا في طلب العلم ورغبوا عن الافتنان بفنونه وحصروا نطاقه وعفوا بعض معالمه فأصبحت مجاهل وكثرت البدع وكثر الدعاة إليها والتعويل عليها " [38] .
ويذكر الأستاذ الندوي وهو يتحدث عن الجهل الذي أصاب تركيا "إنه لم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصابا بالجدب العلمي وشبه شلل فكرى قد أخذه الإعياء والفتور واستولى عليه النعاس" [39] .
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين:
كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة تستظل براية واحدة وتخضع لقيادة واحدة فكانت ذات شوكة ومنعة ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها فضعفت قوتها وذلت عزتها فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات واستولت على كثير منها فترات طويلة استطاعت فيها أن تفسد عقائدها وأخلاقها وتغير ولاءها.(31/370)
يقول برنارد لويس: "وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعدلت وتغيرت الولاءات التي كانت قائمة للخلافة الإسلامية القديمة والتي كانت تحكم العرب والعجم والترك وحلت محلها أفكار ممزقة مبعثرة أوروبية هي مزيج من الوطنية والقومية ونظريات خيالية عن الوطن والقوم حجبت الحقائق القديمة الواقعية في الدولة والعقيدة" [40] .
فأصبحت بعد ذلك الأمة الواحدة أمما مختلفة ومجتمعات متعددة لكل منها شعاره ومذهبه فتمزقت وحدة الأمة وتعددت ولاءاتها بحسب شعاراتها ومذاهبها.
وكان هذا كله بسبب الغزو العسكري الذي احتل بلاد المسلمين فترات متفاوتة ركز خلالها على إفساد عقيدة الأمة وأخلاقها وقسمها بعد ذلك إلى دول ومناطق أقام لكل واحدة منها حاكما مستقلا.
ثالثا: الغزو الفكري:
لم يكتف الاستعمار بتحطيم الخلافة الإسلامية وتفريق الأمة إلى دول وشعوب.. ونهب خيراتها وتشتيت ولاءاتها.. بل أضافوا إلى ذلك غزوا للعقول والقلوب بشعارات ومبادئ جديدة تفسد العقول وتخرب القلوب ليبقى لهم السيطرة والنفوذ مادامت هذه الشعارات والمبادئ تحكم هذه البلاد.
وقد ذكر الأستاذ محمد محمود الصواف عن وسائل الاستعمار في غزو المسلمين والجبهات التي تشترك في ذلك الغزو، وأكد أن جميع تلك الجبهات تعمل: "سرا وجهرا لأهداف الاستعمار التي يرمى من ورائها إلى إيقاف الوعي الإسلامي وصد المسلمين عن دينهم إبقاء لسَيطرته ونفوذه في بلاد المسلمين وليتمتع هو وجنوده الأبالسة في خيرات بلاد المسلمين ويسعى في سرقة ثرواتهم والسيطرة عليهم فكريا وسياسيا واقتصاديا.(31/371)
لذا أخذ المستعمرون يبذلون كل الجهود لإشاعة الفساد في المجتمع الإسلامي العظيم وزرع الشكوك في العقول الإسلامية وقتل الطموح في نفوس المسلمين، وبث الفرقة والشقاق في الصف الإسلامي حتى تعاونت جميع أجهزة الاستعمار من دعائية وسياسية وفكرية واقتصادية لتحقيق أهداف الاستعمار" [41] .
وقد شارك اليهود الاستعمار الصليبي في تصدير الأفكار والمذاهب المنحرفة إلى بلاد المسلمين.. بل لعل اليهود أكثر حماسا وحقدا على الإسلام، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة حيث كان اليهود هم أول من وقف في وجه الإسلام وحاولوا القضاء عليه ولكن الله عز وجل رد كيدهم في نحورهم وحفظ دينه وأعلا كلمته.
فعبد الله بن سبأ (يهودي) أظهر الإسلام لإفساد الإسلام، ودعاة الإلحاد وزعماؤه اليوم (يهود) أرادوا إفساد العالم:
كارل ماركس الشيوعي (يهودي) [42]
وفرويد (يهودي) [43]
ودور كايم (يهودي) [44]
وهؤلاء هم زعماء المذاهب المنحرفة في الاقتصاد والأخلاق والاجتماع وقد أثرت مذاهبهم في المجتمعات البشرية عموما وفي المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "ولا ريب أن اليهودية العالمية هي التي أثارت في العالم الإسلامي تمزيق وحدة العروبة والإسلام للحيلولة دون الوحدة وعملا على تعميق التجزئة الإقليمية.
ولما كانت وحدة العرب والمسلمين لها جذورها الضخمة البعيدة المدى في الفكر الإسلامي وفي القرآن نفسه فقد طرحت عشرات المذاهب والقضايا والدعوات والأنظمة والنماذج التي طرحت في أوروبا لإفساد المفهوم الإسلامي الجامع للعرب والإسلام" [45] .
ويعترف اليهود بذلك في (بروتوكولاتهم) حيث يقول البروتوكول التاسع: "ولقد خدعنا الجيل الناشئ من الأميين وجعلناه فاسدا متعفنا بما علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها" [46] .(31/372)
وكان من جراء هذا الغزو المشترك أن ظهرت في بلاد المسلمين اتجاهات منحرفة تتبنى تلك العقائد الضالة وتحاول نشرها في المجتمعات الإسلامية, ولعل الصورة التي يعرضها اللورد كرومر المصري الجديد – كما تصورها هو – تنطبق إلى حد ما على مجموعات من أبناء المسلمين الذين أثر فيهم الغزو الفكري الغربي.
يقول: "إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع وكان من نتيجته الطبيعية إن وجدت جماعة من أفرادهم "مسلمون "ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية وان كانوا "غربيين "فإنهم لا يحملون القوة المعنوية والثقة بأنفسهم وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي فإنه وان كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوَة بين عالم أزهري وبين أوربي" [47] .
هذه هي ثمار الغزو الفكري في بلاد المسلمين.
القسم الثالث
أسس الوحدة الإسلامية
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
القسم الثالث
أسس الوحدة الإسلامية
إن الأمة الإسلامية تملك أسسا مشتركة تستطيَع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها.. فهي أمة واحدة.. ذات دين واحد.. وكتاب واحد.. ورسول واحد.. وهذه هي الأصول والأسس التي تشترك فيها الأمة الإسلامية.
فإذا ما أدركت جيدا والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منها أمة واحدة تلتقي على:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
وبهذا تصبح الشعوب الإسلامية "أمة واحدة"تذوب فيها جميع الأجناس والتجمعات شعارها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فتحقق للأمة الإسلامية عزتها وقوتها المنشودة.
وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس:
أولا: وحدة الغاية:(31/373)
إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض: "غاية"يؤديها أثناء وجوده إذا عرفها وتمثلها في حياته سعد في دنياه وآخرته وإذا جهلها أو أعرض عنها فانه يشقى في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية حددها الله عز وجل بنفسه وبينها في كتبه.. فمن أجلها خلق الإنسان..
ألا وهي: "عبادة الله عز وجل "كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [48] .
والمسلمون ولله الحمد يدركون هذه الغاية ويعرفونها ولكنهم فرطوا في القيام بها والعمل بمقتضاها مما كان له أسوأ الأثر في حياتهم.
فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها ليحقق المسلمون لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.
السعادة في الدنيا باجتماع الكلمة ووحدة الأمة وطمأنينة النفس واستقامة الحياة.. وهي آمال يحلم بها جميع شعوب العالم ولكنهم لم يهتدوا إلى أسبابها ووسائلها.
ولكن تعدد الغايات وتنوعها يفتت الأمة ويشتت كلمتها ويجعل كل فئة من الأمة لها غاية تخالف غاية الفئة الأخرى تسعى لتحقيقها والوصول إليها.
فغاية اقتصادية.. وغاية سياسية.. وغاية شهوانية.. وهكذا غايات متعددة تنتهي بهم إلى فئات متصارعة وسبل متفرقة.
قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [49] .
ثانيا: وحدة العقيدة:(31/374)
إن التفرق الذي ابتليت به الأمة في عقيدتها- كما رأينا طرفا منه في أول البحث- لا يمكن أن يكون معه اجتماع للأمة ولا تعاون ولذلك فإنه لابد أولا من علاجِ لذلك التفرق برد الملحدين إلى الله عز وجل وتصحيح عقائد المنحرفين لتتوحد القلوب وتتآلف النفوس. فأما الذين ابتلوا بمرض الإلحاد فقد كان ذلك في غيبة من الوعي الإسلامي وفي وقت الانبهار بالحضارة الغربية التي تمردت على الدين بل حملت لواء الحرب ضده.
والآن وقد بدأ المسلمون يدركون حقيقة الحضارة الغربية وما تحمله من سلبيات وثمرات فاسدة.. بدأ الوعي يدب في صفوفهم ويدركون قيمة هذا الدين وأنه لا سعادة للإنسان في هذه الحياة بدون أن يلتزم بعقيدته وتوجيهاته.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: "وفي يقيني أن الزمن الذي كان يسمى فيه الإسلام "رجعية"و"تزمتا"قد مضى وانقضى حيث تعرى خصوم الإسلام وانكشفوا وظهر زيف دعواتهم الباطلة من قومية واشتراكية وحزبية قاتلة وغيرها من فتن هذا العصر المضللة ورأى الناس خيبتها وخسرانها وتضييعها للأوطان وتدميرها وعبثها بحقوق الإنسان، ورأوا عن كثب ويلاتها على العرب الذين ابتلوا بها، بل ويلاتها على الجنس البَشرى في جميع أنحاء الأرض ومن دعاتها من رأى ذلك بأم عينه ولكنه معاند مكابر لا يعترف بإخفاقه ولا يريد الخضوع أمام غيره.(31/375)
ولم يعد الإسلام "رجعية"كما كانوا يسمونه وتسميه إذاعاتهم بأصواتها المنكرة المبحوحة.. بل عاد الإِسلام والناس يتلمسونه في الميدان ويسألون عنه في كل مكان ونادى به اليوم من لم يكن يعرفه بالأمس ولم يعرف عنه النداء باسمه من قبل. وامتلأت المساجد بالوافدين الجدد وآب الكثير ون إلى الله سبحانه يسألونه العز والنصر والفرج القريب لهذه الأمة المنكوبة برجالها وشبابها وقادتها في هذا الجيل المخفق الخاسر الذي هو جيل الهزيمة المنكرة.. فإذا كثر سواد الصالحين وزاد عدد المؤمنين فبشر الأمة بالنصر المبين" [50] .
فالوعي الديني استيقظ في الأمة وهو في حاجة إلى من يوجهه وجهة صحيحة ليكون أساسا واحدا لجمع كلمة الأمة ويقضى على المذاهب المنحرفة والعقائد الضالة المتسللة إلى مجتمعات المسلمين.
وأما الانحرافات الأخرى التي طرأت على عقائد المسلمين سواء في التوحيد العملي أوفي التوحيد العلمي فإن ذلك يستدعى جهودا مخلصة وأقلاما صادقة تعالج تلك الانحرافات بحكمة وموعظة حسنة إذ أن أصحابها أو كثيرا منهم لم يتعمد الانحراف ولا يرضى به لو كشف له، لذلك فإن مخاطبتهم يجب أن تكون بأسلوب لين وبجدال حسن. فإذا قدر للأمة أن تجتمع في عقيدتها فإن ذلك سيفسح المجال للاجتماع والوحدة الإسلامية.
ثالثا: وحدة القيادة:
للمسلمين قيادة واحدة على مدار الزمن واختلاف المكان وتعدد المذاهب.. وكل قيادة سواها إنما تستمد شرعيتها من متابعتها لهذه القيادة والالتزام بمنهجها والسير على طريقها.
هذه حقيقة يقوى وضوحها في أذهان المسلمين كلما صفت العقيدة وقوى الإيمان.
وهي حقيقة قررها الله عز وجل في كتابه وأكدها في مواطن كثيرة لئلا تغفل عنها الأمة الإسلامية.(31/376)
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [51] .
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [52] .
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [53] .
وهكذا تكرر التأكيد على هذه الحقيقة في عشرات المواضع من القرآن الكريم.
فإذا ما اتضحت هذه الحقيقة وتقررت في أذهان المسلمين فإنه يمكن أن يتحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم.
فالرسول أن هو: (القائد) والجميع اتباع له وأنصار به يتأسون ولحكمه يخضعون وإلى سنته يتحاكمون.. هذا أصل لا يمكن أن تتوحد الأمة بدون إدراكه والالتزام به.. وهذا ما يقتضيه الإيمان بالله عز وجل وإلا فإن الإيمان يبقى دعوى بدوت دليل.
وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغى هذه القيادة أو تقلل من شأنها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له.. بل كل قيادة تتمي هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.
رابعا: وحدة التشريع:
من الأسباب الرئيسية لتمزق الأمة الإسلامية تعدد التشريعات وتنوعها تلك التشريعات التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها، بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها.. فوقعت الفجوة بسم التشريعات والواقع.. وبين القيادات والشعوب.. بل بين القيادات أنفسها.. فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.(31/377)
وما لم يوحد التشريع الذي يحكم الأمة فيكون تشريعا مستمدا من دينها القويم فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة فاشلة.
فإنه ليس هناك مكان لتشريعات أخرى في المجتمع الإسلامي وليس لأحد من البشر حق وضع تشريع يحكم الحياة في المجتمع الإسلامي، فالحقَ لله عز وجل وحده وليس لأحد من خلقه أن يتلقى تشريعاته من غيره سبحَانه.
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [54]
فالنفس البشرية ذات طبيعة معقدة ومعرفة ضوابط إصلاحها أو أسباب فسادها أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد اعترف علماء الغرب بذلك وأكدوا أن العلوم البشرية لم تستطع أن تبين حقيقة الإنسان.
وأشهر من أعلن هذه الحقيقة هو الطبيب الفرنسي: (الكسيسر كاريل) حيث يقول:
"فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان مازال غير كاف وأن معرفتنا بأنفسنا مازالت بدائية في الغالب" [55] .
فإذا كانت معلومات الإنسان عن نفسه رغم ما يملكه من وسائل المعارف المذهلة التي لم يكن يحلم بوجودها الإنسَان في الزمن الماضي- إذا كانت رغم كل ذلك بدائية.. فهل يمكن أن يضع تشريعا يحكم حياته ويقوده إلى تحقيق إنسانيته؟!
ولهذا فإن العودة إلى شريعة الله عز وجل أمر ضروري.. ضروري لأنه أمر أوجبه الله عز وجل.
وضروري لأن الإنسان ليس له قدرة وضع التشريع المناسب.
وضروري لأن الأمة لا تجتمع وتشريعاتها مختلفة.. إذ للتشريع أثر في حياة الإنسان.. في مفاهيمه.. في تصوراته.. في موازينه.. فلابد من وحدة التشريع لتتحد مفاهيمه وتصوراته وموازينه.. ومن ثم تتحقق له وحدته المنشودة.
القسم الرابع
وسائل تحقيق الوحدة
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم.(31/378)
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: العمل على الاكتفاء الذاتي.
خامسا: ايجاد مراكز إسلامية.
القسم الرابع
وسائل تحقيق الوحدة
عرضنا في القسم السابق أسس الوحدة الإسلامية التي لابد من تحقيقها لتوحيد الأمة الإسلامية وهى وان كانت شرطا في تحقيق إيمان المسلم فلا يكون مسلما بدونها فإنها شرط في تحقيق الأمة واجتماع كلمتها كذلك.
ولكن هذه الأسس- كما رأينا من قبل- قد تعرضت للفساد والانحراف واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية فكان لابد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوه.
وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة وجهود مكثفة للقيام بذلك الدور ورعايته في المجتمعات الإسلامية.
ومن تلك الوسائل ما يلي:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
ونذكر ما يتعلق بهذه الوسائل فيما يلي:
أولا: التعليم الموجه:
إن المناهج التعليمية من أخطر الوسائل وأكثرها تأثيرا في المجتمع إذ أنها طريق للغالبية من المجتمع أو لجميع أفراده بحسب مستوى المجتمع وحرصه على التعليم.
فالمدارس الرسمية والأهلية تحتوي على مناهج تعليمية إجبارية وكل منتسب إليها لابد له من هضمها واستيعابها وبالتالي فلابد من حصول التأثر بها خاصة وهى ترافق الفرد في كل مراحل حياته.
ولقد عرف المستعمرون وأعوانهم من مبشرين أهمية "التعليم الموجه"فأنشأوا المدارس المختلفة لإفساد أبناء المسلمين عن طريقها.
يقول اليسوعيون: "إن المبشر الأولى هو المدرسة" [56] .
ويقول جب: "إن مدارس البنات في بلاد الإسلام هي بؤبؤ عيني لقد شعرت دائما أن مستقبل الأمر في سوريا إنما هو بمنهج تعليم بناتها ونسائها" [57] .(31/379)
فالتعليم له شأنه وخطره وعدم تصحيح مناهجه وتوجيه أبنائه إلى الغاية الصحيحة في جميع بلاد المسلمين يبقى عائقاً دون توحيد المفاهيم والتصورات والموازين التي لا تكاد تلتقي على أمر واحد في بلاد المسلمين اليوم ولازالت تسير وفق المخططات التي رسمها لها أعداء الإسلام- إلا ما رحم ربك-.
"فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة فلابد إذن من الاستقلال التعليمي بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين إنها تحتاج إلى تفكير عميق وحركة التدوين والتأليف الواسعة وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولى القوة، إنه هي شأن الحكومات الإسلامية فتنظم لذلك جمعيات وتختارلها أساتذة بارعين في كل فن فيضعون منهاجا تعليميا يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ويدونون العلو العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام ... " [58] .
وبذلك يمكن أن تصحح المفاهيم وتقوم الموازين في الأمة فتتحد في أفكارها وعقائدها وتلتقي على أسس مشتركة من العلم المعرفة.
ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم:
ونعني به أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمرئية والمقروءة إعلاما هادفا له رسالة يسعى لتحقيقها من خلال ما يبثه أو يكتبه، وتلك الرسالة هي: "تحقيق العبودية لله في أرضه"وهي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ويعمل لها المسلمون بكل طبقاتهم.
فيكون للإعلام في بلاد المسلمين رسالة يتمثلها عند كل خطوة يخطوها وكل كلمة يبثها أو يكتبها.
وقد فطن اليهود إلى قوة تأثير الصحافة عندما برزت وخططوا لاستغلالها.(31/380)
فقد ورد في كتاب (بروتوكلات حكماء صهيون) : "إن الأدب والصحافة هما أعظم قوتين خطيرتين" [59] .
وفي كتاب: (التبشير والاستعمار في البلاد العربية) نقلا عن مصادر تبشيرية أجنجية: "إن الصحافة لا توجه الرأي الَعام فقط أو تهيئه لقبول ما تنشر عليه بل هي تخلق الرأي العام" [60] .
وبعد ظهور"التلفاز"والذي لا يكاد يخلو منه بيت فإن خطره يكون أكبر وتأثيره أعظم.. فإذا كانت الصحف لا يقرؤها إلا المتعلمون فإن "التلفاز"يراه ويشاهده كل إنسان وليس خاصا بنوعية معينة.
لذا فإن توجيه الإعلام والتزامه بـ: "هدف"أمر ضروري ولا يمكن أن تتحد الأمة وإعلامها إعلام ضائع لا هوية له ولا هدف.. بل في كثير من بلدان المسلمين قد وجه لإفساد الأمة وخلخلة عقائدها.
فإصلاح الإعلام وتصحيح مساره ضرورة بل واجب شرعي تأثم الأمة بإهماله وتضييعه.. ثم تخسر عقيدتها وعزتها.. ولا تتحقق لها وحدة واجتماع وهذه الوسائل تسير مسارا عشوائيا أو تخريبيا.
ووسائل الإعلام في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأخلاق الرذيلة بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسيء إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة.. وهذا كله مضاد لدين الأمة ومفرق لجمعها وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها.
ولن يكون هناك لقاء أو اتحاد وإعلام المسلمين أو بعضه بهذه الصورة فلابد أذن من إعادة بناء الإعلام بناء صحيحا بحيث يكون قادرا على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بغايتها في هذه الحياة، وتبرز المنهج الذي اختاره الله عز وجل لها كما تبين إلى جانب ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية وانه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى(31/381)
تنازع هذه القيادة المحمدية أو تزاحمها وان القيادات الموجودة تستمد شرعيتها في حق الطاعة على الأمة بمتابعتها لتلك القيادة.
فإذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يثبت هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع وساهم في وحدة الأمة.. وإلا فلا وحدة ولا اجتماع.
ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين في الإعلام فيختار الكفاءات المؤمنة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها.
ثالثا: الاقتصاد المستقل:
إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية اليوم واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم قد انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعا للاتجاه الذي يغلب على كل بلد فكان له آثاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية. والاقتصاد العالمي اليوم في قبضة "اليهود"فهم يتحكمون فيه كما يشاءون، وقد جاء في كتاب: "بروتوكولات حكماء صهيون"موضوع خاص لبيان كيفية التحكم في اقتصاد العالم والوسائل التي يجب أن تتخذ لتنفيذ هذا المخطط نورد بعضا من فقراته.
فقد وضعوا في حسبانهم إيجاد الأزمات الاقتصادية المفتعلة لزيادة ثرواتهم ويبين ذلك قولهم: "إن الأزمات الاقتصادية التي دبرناها بنجاح باهر في البلاد الإسلامية- قد أنجزت عن طريق سحب العملة من التداول فتراكمت ثروات ضخمة ... " [61] .
وعن سحب الذهب من العالم ورد فيه: "وأظنكم تعرفون أن العملة الذهبية كانت الدمار للدول التي سارت عليها لأنها لم تستطع أن تفي بمطالب السكان ولأننا فوق ذلك قد بذلنا أقصى جهدنا لتكديسها وسحبها من التداول" [62] .(31/382)
فالاقتصاد جانب مهم في حياة المجتمع ولهذا فقد عنى به القرآن الكريم والسنة الشريفة بتنظيمه وبيان جوانبه المباحة والمحرمة إضافة إلى خطورة ارتباطه بأنظمة غير مسلمة لا تفرق بين الحلال والحرام ولا نألو جهدا في إضعاف الأمة المسلمة وتمزيق وحدتها.
لذا فإن العناية به أمر مطلوب شرعا ولا بد للأمة وهى تحاول العودة إلى دينها ووحدتها
من التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية والعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من الشريعة الإسلامية الواجب أتباعها.
ولابد من إيجاد اقتصاد إسلامي ليس مرتبطاً بأي نظام آخر لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتها.
ويتم ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة اقتصادية تشرف على ذلكم الاقتصاد الإسلامي المستقل.
وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية.
والاقتصاد في الحقيقة هو جزء من الشريعة الإسلامية المتكاملة والتي تعتبر أساسا ثابتا لوحدة الأمة.. والذي أريده هنا هو إيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة تعطى للأمة شخصيتها المستقلة وتمهد السبيل لوحدة الأمة وعزتها.
رابعا: الاكتفاء الذاتي:
للأمة مطالب متنوعة لا تستطيع الاستغناء عنها وتلك المطالب تشتمل على كل جوانب الحياة.
ومطالب ثقافية وسياسية.
ومطالب اقتصادية.
ومطالب عسكرية.
ومطالب صناعية مختلفة.
هذه المطالب لا يجوز بقاء الأمة عالة على أعدائها فيها كل بلد إسلامي له وجهة يوليها ويشحذها.. بل لابد من الاستغناء والاكتفاء في هذه الجوانب بالإنتاج الإسلامي في بلاد المسلمين وبأيد مسلمة.(31/383)
فالعمل على اكتفاء الأمة بإنتاجها من أقوى الوسائل لاستقلالها وقوتها وبالتالي لوحدتها واجتماعها إذ انقسام الأمة إلى أجزاء تابعة للبلدان المصنعة لن يمكنها من توحيد صفوفها ولا استقلالها، فلا بد من هذا الاكتفاء ولو على المدى الطويل.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لابد لها من إعداد وتخطيط بحيث تتحقق
بالصورة الصحيحة كان لابد من إيجاد مراكز علمية متخصصة في كل جوانب الحياة تكون مهمتها التخطيط الدقيق والدراسة المتأنية لتحديد الوسائل والضوابط لتحقيق المطلوب.
وهذه المراكز متعددة الأغراض تمثل هيئات استشارية وتخطيطية تشترك فيها جميع البلدان الإسلامية تضم في داخلها كفاءات علمية من أبناء الأمة الذين يؤمنون بعقيدتها ويسعون إلى تحقيق أهدافها.
وبهذا كله يمكن للأمة أن تجمع شملها وتتحد كلمتها وتتحقق لها مكانتها التي أرادها الله لها عز وجل ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وما ذلك على الله بعزيز.
الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز لواقع الأمة والأسس التي يجب تحقيقها لوحدة الأمة وتصحيح واقعها والوسائل التي يمكن أن تعين على تحقيق الهدف المطلوب يتبين لنا عدة أمور نجملها فيما يلي:
إن واقع الأمة واقع مؤلم ولا يرضى الله عز وجل.
وأن هذا الواقع لا يمكن أن تتوحد الأمة مع استمراره.
وأن وحدة الأمة مرهونة بتغيير هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة.
وأن هناك أسسا لهذه الوحدة تعتبر قاعدة ضرورية لوحدة الأمة.
حتى وان التغيير المطلوب يحتاج إلى وسائل متعددة لتحقيقه.
هذا واجتماع كلمة الأمة الِإسلامية حلم يراود أفرادها وجماعاتها المخلصة التي يحزنها أن ترى أن القيادة والريادة مكبلة بسلاسل الجهل والمعاصي والانحطاط وتترقب اليوم الذي تعتز فيه الأمة وتحتل مكانها الصحيح.
أمة هادية.
أمة رائدة.(31/384)
أمة قائدة.
وان كانت هناك عقبات في هذا الطريق وعراقيل يضعها أعداء الله فيه لكن الأمل في الله عز وجل عظيم أن يحي نفوس هذه الأمة ويوقظ عقولها ويقوى عزمها ويومئذ تتحطم كل عقبة وتتلاشى كل السدود ويرتفع صوت الحق وينصب ميزان العدل وتستظل البشرية بظلال الخير والسعادة.
وصلى الله وسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الأنفال: آية 46.
[2] سورة آل عمران: آية 103.
[3] موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 4/ 281- الحاشية.
[4] المصدر السابق 4/ 287.
[5] الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر 2/ 305.
[6] راجع الفتاوى 5/20، ولوامع البهية1/23
[7] الملل والنحل1/43.
[8] يقول أحد شراح هذا الكتاب وهو. عبد الحسين بن عبد الله المظفر في مقدمة الشرح. "إن كتاب الكافي في طليعة الكتب "لأربعة التي هي محور العمل عليها"، 3/ ثم قال مفضلا له على تلك الكتب: (وهذا الكتاب أوفاها في الحديث ولم يعمل الإمامية مثله.. وعليه اعتماد العلماء منذ أن دونه مؤلفه حتى اليوم 1/5.
[9] أصول الكافي 3/ 232.
[10] أصول الكافي 3/ 271.
[11] أصول الكافي3/ 240.
[12] أصول الكافي 3/248
[13] سورة الجن آية 26-27.
[14] أصول الكافي 3/241.
[15] أصول الكافي 3/244.
[16] الفتاوى11/417.
[17] منهاج السنة 1/44.
[18] ولاية الله والطريق إليها/187/.
[19] هدا الكتاب مطبوع مع كتاب (خفايا الطائفة البهائية) .
[20] ص 141.
[21] ذكره محي الدين الخطيب في كتابه: "البهائية"ص 27.
[22] وهو مطبوع في الهند.
[23] ص403.
[24] ص 406(31/385)
[25] الثفن:جمع ثفنة: ركبة البعير ونحوها مما يحصل فيه غلط من أثر البروك.
[26] رحضة:وصف للملابس القديمة التي بليت من كثرة استعمالها وغسلها.
[27] مسهمة:أي مغيرة.
[28] تلبيس إبليس ص 205
[29] رواه مسلم ح (1066) وأبو داود ح (4768) وما بعده.
[30] الفتاوى 11/417.
[31] تلبيس إبليس 206.
[32] مقالات الإسلاميين1/214، الفرق بين الفرق211ـ 212.
[33] المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص 128.
[34] عالم جزائري هاجر إلى دمشق ثم إلى القسطنطينية واستقر أخيرا بمصر وتولى مشيخة الأزهر توفي عام 1377 هـ. أنظر معجم المؤلفين 279.
[35] رسائل الإصلاح1/105-106.
[36] وهو عالم تركي تولى مشيخة الإسلام في تركيا وقد عاصر بداية فصل الدين عن السياسية في عهد مصطفي كمال وقاومها؟ أشد المقاومة تم هاجر إلى مصر وتوفي بها عام 1373هـ. انظر الإعلام 8/281.
[37] موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المسلمين 4/ 281.
[38] الإسلام والحضارة العربية2/45.
[39] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 151.
[40] الغرب والشرق ص110.
[41] المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام 99ـ 100.
[42]- مذاهب فكرية معاصرة ص 101
[43]- مذاهب فكرية معاصرة ص107
[44]- مذاهب فكرية معاصرة ص144
[45] الإسلام والعالم المعاصر 427.
[46] بروتوكولات حكماء صهيون ص 128.
[47] ذكره الأستاذ الندوي في الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية ص 114.
[48] سورة الذاريات: آية 56.
[49] سورة الأنعام: آية 153.
[50] معركة الإسلام ص 26ـ 27.
[51] سورة النساء: آية59.
[52] سورة النساء: آية 115.
[53] سورة الحشر: آية 7.
[54] سورة الأحزاب: آية 36.
[55] الإنسان ذلك المجهول ص 19.(31/386)
[56] أنظر التبشبر والاستعمار ص 71.
[57] المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص 213، وانظر رسالة واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم ص 176، والغزو الفكري والتيارات المعادية ـ بحوث مقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض عام 1396 هـ، والحلول المستوردة ص 36.
[58] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 276.
[59] ص 142.
[60] ص 213.
[61] ص 174.
[62] ص 175.(31/387)
عقود التأمين حَقِيقَتُهَا وحُكْمُهَا
للدكتور حمد حماد عبد العزيز الحماد
الأستاذ المشارك بالدراسات العليا
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإن موضوع التأمين قد طرق كثيراً وكتبت فيه عدة كتب وأبحاث ونوقش في أكثر من مؤتمر وقد لاحظت أن الباحثين فيه قسموه إلى نوعين تجاري وتعاوني وأٍن كثيرًا منهم قد انتهوا إلى القول بجواز التعاوني دون أن يقدموا له تكييفا فقهياً واضحا أو فارقاً معتبراً بينه وبين ما يسمونه تجارياً لذا أحببت المشاركة في هذا المجال مبيناً رأيي في حقيقة عقود التأمين وحكمها في الشرع وفق الأدلة الشرعية والقواعد المرعية والله المسئول أن يوفق للصواب ويهدى للرشاد وأن يجعله خالصاً لوجهه وذخرا ليوم المعاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
مبدأ عقود التأمين وأصلها:
إن أصل عقود التأمين ينبع من عقود ربوية مبنية على الغرر والمقامرة ويذكر الباحثون في التأمين أن فكرته موجودة في كثير من النظم القديمة تمتد إلى ألفي عام قبل الميلاد وربما أكثر من ذلك إلا أن أول وثيقة تأمين بحري عرفت كانت سنة 1347م وهى المعروفة بالوثيقة الإيطالية ومنذ ذلك الوقت بدأ تنظيم التأمين في أوربا إلى أن وصل إلى ما وصل إليه في عصرنا [1] .
وإثر حريق هائل شب في لندن سنة1666م نشأ التأمين البري حيث بدأ التأمين من خطر الحريق [2] .(31/388)
ثم توالت بعد ذلك صور التأمين المختلفة مثل: التأمين من حوادث العمل، والتأمين من المسئولية، والتأمين على الحياة، والتأمين من تلف المزروعات، والتأمين من موت المواشي، والتأمين من السرقة والتبديد، والتأمين من حوادث النقل الجوى ... إلى غير ذلك من الصور المختلفة [3] .
تعريف عقد التأمين:
ويعرف عقد التأمين بأنه عقد يلتزم المُؤَمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المُؤَمن له مبلغاً من المال أو مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد وذلك نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المُؤَمن له للمُؤَمن [4] .
ويعتبر ابن عابدين (ت1252 هـ) من أول من تكلم عن التأمين وحكمه في الشريعة الإسلامية وأطلق عليه اسم (سوكرة) وانتهى إلى أنه عقد لا يحل حيث قال: "مطلب مهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربي يدفعون له أجرته ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده يسمى ذلك المال سوكرة على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم ... والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله لأن هذا التزام ما لا يلزم " [5] .(31/389)
وفي العصر الحديث انتشرت شركات التأمين في بعض بلدان المسلمين واجتهد المروجون لها في سبيل استصدار فتوى شرعية بجوازه من بعض المحسوبين على الفقه والفقهاء من ذلك ما جاء في جواب محمد عبده لسؤال أحد مدراء شركات التأمين عن رجل اتفق مع جماعة على أن يعطيهم مبلغاً معلوماً في مدة معينة على أقساط معينة للاتجار به فيما يبدو لهم فيه الحظ والمصلحة وأنه إذا مضت المدة المذكورة وكان حياً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة وإن مات في خلالها تأخذ ورثته ... المبلغ المذكور مع الربح الذي نتج مما دفعه.
فأجاب بأن ما ذكر يكون من قبيل شركة المضاربة وهي جائزة [6] ...
وواضح من السؤال أن المسئول عنه عقد تأمين ليس من باب المضاربة في شيء فهو يدفع أقساطا معينة هي أقساط التأمين وقول السائل للاتجار به إنما هو للتمويه والتضليل، وقولهم: "إذا مضت المدة المذكورة وكان حياً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة "هذا هو مبلغ التأمين وهو هنا لا يذكر إلا الربح فقط [7] ، ومن المعلوم أن المال في المضاربة خاضع لمبدأ الربح والخسارة.
وقولهم: "وإن مات في خلالها تأخذ ورثته ... المبلغ المذكور"ظاهره أنه يأخذ الوارث أومن يقوم مقامه المبلغ كاملا مع أن الرجل قد مات في خلال المدة قبل أن يوفي جميع الأقساط وهذه حقيقة التأمين المبني على الغرر والمقامرة حيث يأخذ الورثة مالا لم يدفعه مورثهم.(31/390)
وقد علق الدكتور عيسى عبده على السؤال ببيان المكر في صياغته حيث أنه لم يعرض للعناصر الأساسية للتأمين التي منها أنه في التأمين على الحياة تلتزم الشركة المُؤَمنة بدفع رأس مال العقد كاملا إن حصلت الوفاة أثناء سريان العقد وإن كان المستأمن قد دفع قسطا واحداً من عشرات أو مئات الأقساط التي كان سيدفعها لو امتد به الأجل، وأيضاً لم يعرض السؤال لنوع الربح الذي يعوِد على المستأمن أهو جزء من الربح الذي تحققه الشركة بتشغيل أمواله أو هو قدر محدد سلفاً ... والواقع أن جميع شركات التأمين تحسب الربح على جملة الأقساط وجملة الفترات الزمنية ... أما السؤال ففيه إبهام مقصود وتلويح بما يشبه المضاربة الشرعية [8] .
هذا وقد تبع محمد عبده في فتواه عدد من المحْدثين فقالوا بجواز التأمين ومن هؤلاء الدكتور محمد يوسف موسى [9] والشيخ على الخفيف [10] والدكتور محمد البهى [11] ومصطفى الزرقا ومحمد سلام مذكور وعبد الرحمن عيسى.. وغيرهم [12] .
وقد أبدى بعضهم تحفظات على شيء من فروع التأمين وجزئيا ته فاشترط محمد يوسف موسى أن تخلو المعاملة فيه من الربا ورد عبد الرحمن عيسى على بعض صور التأمين على الحياة كما رد محمد سلام مذكور بعض الشروط التعسفية [13] .. إلا أن هذا لا ينافي أن الرأي عندهم حل التأمين في الجملة..
ويستدلون لقولهم بجوازه بقياسه على بعض العقود الجائزة ولو عند بعض الفقهاء وسنعرض لذكرها والرد عليها في المباحث التالية:
حكم عقود التأمين.
عقود التأمين تشتمل في جوهرها على أمور تجعلها عقوداً محرمة من هذه الأمور ما يلي:
أولا: الغرر:(31/391)
والنهي عن الغرر أصل عظيم من أصول البيوع يدخل تحته مسائل كثيرة مثل بيع المعدوم وبيع المجهول وبيع ما لا يقدر البائع على تسليمه وبيع ما لم يتم ملك البائع له والأصل في هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"رواه مسلم [14] . الغرر: الخطر.
والغرر مناط البطلان عند جميع العلماء [15] . وهو متحقق في عقود التأمين بشكلٍ ظاهر لا يجادل فيه عاقل, فكل واحد من المتعاقدين لا يدرى كم يعطي ولا كم يأخذ فهو إذا عقد على مجهول فيه مخاطرة عظيمة.
وقد أورد التقنين المدني عقد التأمين ضمن العقود الاحتمالية أو عقود الغرر وبيان ذلك أن المُؤَمن والمُؤَمن له لا يعرفان وقت إبرام العقد مقدار ما يأخذ كل منهما ولا مقدار ما يعطي كل منهما إذ أن ذلك متوقف على وقوع الكارثة أو عدم وقوعها [16] .
من هنا نعلم أن وجود الغرر والمخاطرة في عقود التأمين من الأمور الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بل إن الغرر والمخاطرة فيها أبين وأظهر من مثل صورة بيع الحصاة [17] وبيع المنابذة [18] وبيع الملامسة [19] وغيرها مما ورد فيه النهى الصريح لما فيها من الغرر الظاهر.
ومن الغرر أيضاً في عقد التأمين الجهل بأجل العقد وذلك أن الخطر وهو محل عقد التأمين لا يعلم هل يقع أم لا؟ وإن وقع فلا يعلم متى يقع؟ وعدم العلم بوقوعه ووقت وقوعه من شروط العقد الواجبة في التأمين وهو أن يكون الخطر غير محقق الوقوع وهذا هو العنصر الجوهري في عقد التأمين [20] .. فأي غرر أكثر وأشد مما في هذا العقد..
ومن العجيب أن يغالط بعض المنتسبين إلى الفقه فينازع في أن التأمين من العقود الاحتمالية كما فعل مصطفى الزرقا [21] مع وضوحه كما تقدم.
شبه المخالفين في الغرر في عقد التأمين والرد عليها:(31/392)
ا- قال بعضهم أنه ليس من عقود الغرر المحرمة بدعوى أن ما ألفه الناس وتعارفوا عليه دون ترتب نزاع يكون غير منهي عنه [22]
وهذه دعوى باطلة فإن التراضي بين المتعاقدين لا يصير العقود المحرمة حلالاً وقد كانت كثير من صور عقود الغرر مألوفة في عهد الجاهلية ومع ذلك نهى الشرع عنها لأنها من أكل أموال الناس بالباطل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم} [23] . والمعنى تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار وهذا أمر متفق عليه عند أهل العلم [24] ..
ومن المعلوم أن اتفاق المتعاقدين على المعاملات الربوية وتراضيهما عليها وكون ذلك لا يؤدى إلى نزاع بينهما لا يجعل هذه المعاملات مشروعة فكذا هنا.
2- دعوى أن عقود التأمين من قبيل التعاون بين مجموعة من الناس وفي التعاون والتبرع يغتفر الغرر الكثير استنادا لقول مالك رحمه الله في تصرفات الإحسان الذي لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء [25] .
وبناء على ذلك حاولوا أن يجعلوا عقد التأمين من هذا الباب كما فعل السنهوري حيث ذكر أن التأمين لا يفهم على الوجه الصحيح إلا إذا نظر إلى الجانب الآخر وهو جانب العلاقة بين المُؤَمن ومجموع المُؤَمن لهم حيث يكون المُؤَمن وسيطاً بينهم ينظم تعاونهم جميعاً على مواجهة الخسارة التي قد تصيب بعضهم [26] .(31/393)
يقول السنهوري عن الجانب الآخر من عقد التأمين - على حد تعبيره- "إنه يبر ز التأمين في ثوبه الحقيقي ويبين أنه ليس إلا تعاوناً منظما تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون, وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة ... فالتأمين إذاً هو تعاون محمود, تعاون على البر والتقوى يبر به المتعاونون بعضهم بعضاً ويتقون به جميعاً شر المخاطر التي تهددهم فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟ " [27] .
وقد استند على قول السنهوري هذا كل المشاغبين على مسألة وجود الغرر في عقود التأمين.
فهذا مثلاً علي الخفيف يقرر نفس المعنى في بحثه عن التأمين [28] . وكذا محمد سلام مدكور حيث يقول: "إن شركات التأمين تقوم بدور الوسيط بين الأفراد المتعاونين" [29] . والزرقا حيث يقول: "إن التأمين قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب والأضرار الناشئة من مفاجآت الأخطار" [30] .
ولو سلمنا القول بما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله فلا يصلح مستنداً لما ذهبوا إليه البتة لأنها لا تصح أبداً دعواهم أن عقد التأمين من قبيل التبرعات بل هو عقد معاوضة محضة ويتضح ذلك من التعريف القانوني لعقد التأمين [31] .فليس هناك شك أن عقد التأمين عقد معاوضة بين متعاقدين يلتزم بمقتضاه كل منهما بعوض مقابل ما يلتزم به الآخر وإذا كان كذلك فلا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية ما في عقد التأمين من غرر كثير وكبير ولا تعدو هذه الدعوى أن تكون مغالطة بعيدة عن الواقع الحقيقي لعقد التأمين.(31/394)
ولا يجادل عاقل في أن مقصد شركات التأمين إنما هو تحقيق الربح الوفير لها من جراء اتجارها بدعوى توفير الأمن للمتعاقدين معها فلا يصح بحال دعوى أن هذه الشركات ليست إلا الوسيط الذي ينظم التعاون ... إنها مغالطة للواقع.
3- حاول الزرقا دفع الغرر عن عقد التأمين بدعوى أن في عقد التأمين معاوضة محققة النتيجة فور عقده.. وأن الاحتمال فيه بالنسبة للمُؤَمن إنما هو بالنظر إلى كل عقد على حدة وأما بالنظر إلى مجموع العقود فإن التأمين يعتمد على أساس إحصائية تنفي عنه الاحتمال عادة.. وأما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقة في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه وهو حاصل بمجرد العقد لأنه بهذا الأمان لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدم وقوعه [32] .
وهذه المحاولة غير صحيحة أما بالنسبة للمُؤَمن فكل عقد يجريه فيه غرر كبير يوجب بطلانه والتحايل بلفت النظر إلى مجموع العقود لا يصح فإنه ليس له وجود في الخارج وإنما الذي له وجود هو العقد الغرر وهو يتضمن غرراً كبيراً من الجانبين.
ومقتضى قوله بالصحة بالنظر إلى مجموع العقود يلزم منه أن العقد الباطل في ذاته إذا انضم إليه غيره مما يشبه في البطلان صار بهذا الانضمام صحيحاً وهو لازم باطل لا وجه له عند أحد من فقهاء المسلمين.(31/395)
على أن دعوى زوال احتمال الغرر من مجموع العقود مغالطة ظاهرة فشركات التأمين لا يمكن أن تعرف مجموع ما سوف تأخذ وما تعطى وإنما تستعين بالإحصائيات لمعرفة صورة تقريبية وهذا لا ينفي عنها عنصر الاحتمالية ... هذا وهناك أحداث وأخطار غير متوقعة تقلب كل توقعات المُؤَمنين فكيف يقال إنه يعتمد على أسس إحصائية تنفي عنه الاحتمال؟ وحاصل ما تقدم أن الغرر الكبير في عقود التأمين موجود رغم كل ما قالوه حتى بالنسبة لمجموع العقود وهذا يقتضي بطلانها على أية حال.
وأما بالنسبة للمُؤَمن له فالغرر متحقق لديه وقت العقد في أنه لا يدرى ماذا سيعطى وماذا سيأخذ وهذا كاف للحكم ببطلانه.. ودعوى أن القسط في مقابل الأمان دعوى غير صحيحة ذلك أن عقد التأمين مذكور فيه أن القسط في مقابل مبلغ والتأمين هكذا يقول شراح القانون [33] .
وأما الأمان فلا يقدر عليه إلا الله وشركات التأمين لا تستطيع أن تضمن عدم وقوع الخطر وإنما تعوض عن بعض آثاره بعد وقوعه.
وقول الزرقا: "لم يبق بالنسبة إليه- أي المُؤَمن له- فرق بين وقوع الخطر وعدمه…الخ "مغالطة ظاهرة وهل يعقل ذلك فيمن يُؤَمن على حياته أو على أعضائه؟ أيستوي عنده أن يفقد حياته وأعضاءه أو أن يبقى حياً معافى؟ لا يستويان فكل هذا إنما هو تحايل ومغالطة لنفي الغرر من عقود التأمين وهو متحقق فيها على أية حال.
ومن خلال النظر إلى أركان هذا العقد وشروطه كما تقدم تصويره لا يراودنا أدنى شك في بطلانه.. ولا اعتبار بعد ذلك لأي دعاوى تتعلق في أمر خارج عن هذه الأركان والشروط لأن العبرة في الحكم على العقود إنما هو بالنظر إلى ما تضمنته من أركان وشروط.
ثانيا: الربا:(31/396)
عقد التأمين يتضمن الربا بنوعيه أما النسيئة فدائماً وأما الفضل فغالباً وذلك أنه عندما يضع الخطر المُؤَمن منه وتسلم شركة التأمين مبلغ التأمين المتعاقد عليه فإنه لا يخلو في الغالب من أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المُؤَمن له وفي هذه الحالة يتحقق ربا الفضل بسبب عدم تساوى البد لين وكذا ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين وإن كان المبلغ مساوياً- وهذا نادر- تحقق ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين لأن عقود التأمين لا تخرج عن الصرف إذ هي نقد بنقد وهذا واضح من تعريفه حيث أن المُؤَمن يلتزم بدفع مبلغ من المال في نظير قسط مالي وعقد الصرف يشترط فيه التقابض مطلقاً سواء اتحد الجنس أو اختلف ويشترط أيضاً التماثل عند اتحاد الجنس وهذا كله متحقق بين مبلغ التأمين وقسطه وبهذا يتبين أن عقود التأمين تشتمل على نوعي الربا.
والنصوص الواردة في طلب التماثل والتقابض في مبادلة المال الربوي بجنسه متواترة وقد أجمع المسلمون على مدلولها [34] .
شبه المخالفين في تضمن التأمين للربا والرد عليها:
ا- كما ادعوا في باب الغرر أن عقود التأمين من قبيل التعاون الذي يغتفر فيه الغرر ادعوا هنا أيضاً أن التأمين من أساسه قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب فيغتفر ما فيه من ربا أو شبهة ربا [35] .
وهي دعوى مردودة كما تقدم فعقود التأمين ليست من قبيل التعاون وإنما هي عقود معاوضة وتجارة فلا يمكن حملها على تصرفات التبرع والإرفاق التي يغتفر فيها ما لا يغتفر في عقود المماكسة التي يقصد منها الربح.(31/397)
2- حاول بعضهم أن يحصر شبهة الربا في بعض صور التأمين وهو ما يحصل في التأمين على الحياة حيث يشترط فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حياً بعد مدة العقد ومن ثم يحكم على هذا الشرط وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته ولذا يقترح الزرقا إلغاء شرط الفائدة في هذه الصورة من التأمين بحيث يرد مبلغ الأقساط بعينه دون فائدة [36] .
والجواب عن هذا أن جوهر عقد التأمين لا يخلو من شبهة الربا حتى لو خلا من مثل هذا الشرط فإنه وإن انتفى التفاضل فإن النَسَاء متحقق على أية حال.
ثالثا: القمار:
عقد التأمين يتضمن شبهة القمار وذلك أنه معلق على خطر قد يقع وقد لا يقع فهو يشبه في معناه معنى ميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه. قال ابن عباس: "كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قامر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [37] .
وأي مخاطرة ومقامرة أشد من دفع مبلغ التأمين كاملاً مقابل قسط واحد فيما إذا وقع الخطر المُؤَمن عليه ففي مقابل ماذا دفع المُؤَمن هذا المبلغ الكبير؟ وكيف تكون المخاطرة والمقامرة إذا لم تكن هذه مخاطرة ومقامرة؟
والحقيقة أننا لو نظرنا إلى عناصر عقد المقامرة عند شراح القانون لوجدناها متوفرة في عقود التأمين ولذا قال السنهوري إنه إذا نظرنا إلى عقد تأمين بمفرده لم يعدُ أن يكون عقد مقامرة [38] .(31/398)
شبه المخالفين في تضمن عقد التأمين للمقامرة والرد عليها:
وقد حاول الزرقا ومن على شاكلته إيجاد فروق بين عقد التأمين وبين القمار سوف أذكرها حسب ورودها في بحثه وأجيب عليها.
أ- يقول: "إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق ... فأين القمار الذي هو من أعظم الآفات ... من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله ... " [39] .
والجواب عن هذا أن وجه الشبه بين عقد التأمين وبين القمار هو عنصر المخاطرة في كل منهما حيث أن عقد التأمين يكون على شيء غير محقق الوقوع وهو عنصر أساسي فيه وفي القمار أيضاً وهذا هو مناط التحريم وأما ما يقر بسبب القمار من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهذا من حكمة التحريم فإن القمار حرام حتى ولو قدر خلوه من ذلك فكذا عقد التأمين حرام لتضمنه مناط التحريم وهو المخاطرة على أن نظام التأمين يقع فيه شيء من العداوة والبغضاء حين يأخذ أحد الطرفين في عقد التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل. وحتى لو سلمنا بأن القمار يؤدي إلى العداوة والبغضاء وعقود التأمين لا تؤدى إلى ذلك فإن معنى المخاطرة والمقامرة متحقق فيها على أية حال.
2- يقول: "إن عقد التأمين يعطى المستأمن طمأنينة وأماناً من نتائج الأخطار ... فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة؟ " [40] ..
والجواب عن هذا أنه لو سلمنا جدلا أن في التأمين أماناً وطمأنينة لا توجد في المقامرة فإن هذا ليس له أثر في الحكم إذ أن العنصر الذي له أثر في الحكم هو عنصر المخاطرة في إجراء العقد على واقعة غير محققة في كل من التأمين والقمار وهذا لا صلة له بما يصحب العقد من خوف أو أمان فالمقامرة في عقد التأمين متحققة حتى لو سلمنا بهذا الفارق المزعوم.(31/399)
3- يقول: "ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين ففيها ... ربح اكتسابي للمُؤَمن وفيها أمان للمستأمن ... فأين هذه المعاوضة في القمار؟ وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز " [41] ..
والجواب عن هذا أن كونه عقد معاوضة لا يمنع أن يكون فيه معنى القمار وأيضاً فإن مثل هذا الفارق لو سلم بوجوده لا أثر له في الحكم فعنصر المخاطرة الذي هو مناط التحريم متوفر على أية حال فلا يفيد بعد ذلك ما قاله الزرقا من أن التأمين معاوضة مفيدة للطرفين فسواء كانت مفيدة أو غير مفيدة فحكمها لا يتغير طالما اشتملت على عنصر يقتضي تحريمها.
وأخيراً فإن شراح القانون قد قرروا أنه بالنظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة بين المُؤَمن وأي من المستأمنين لا يعد أن يكون عقد مقامرة كما في قول السنهوري المتقدم وإذا تقرر ذلك فهو كاف في الحكم عليه بالتحريم ولا تأثير بعد ذلك للفروق التي ادعوها حتى ولو سلم بشيء منها.
رابعا: بيع الدين بالدين:
يقول الدكتور محمد بلتاجي: "ويكون قسط التأمين عادة مبلغاً سنوياً والمستأمن لا يدفعه في مجلس العقد إنما يدفعه بعد ذلك على أقساط فهو دين في ذمة المستأمن يلزمه أداؤه حسبما نص على ذلك في العقد والذي يقابله يبلغ التأمين الذي تلتزم الشركة بدفعه إذا حدث الخطر المُؤَمن منه فهو الآخر دين في الذمة معلق على وقوع الخطر ومن ثم فعقد التأمين يتضمن بيع دين بدين" [42] .
وما ذكره بلتاجي متحقق حقيقة في عقد التأمين وقد أجمع المسلمون على تحريم بيع الدين بالدين [43] ..
والخلاصة أنه اجتمع في عقد التأمين الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين وواحد من هذه الأمور يكفي للحكم بتحريمه فكيف وقد اجتمعت كلها على نحو ما تقدم؟..
احتجاج المجوزين للتأمين والرد عليهم(31/400)
حاول المخالفون في تحريم عقد التأمين أن يطبقوا عليه بعض القواعد العامة أو أن يقيسوه على بعض الصور في الفقه الإسلامي بشكل عام وهذا ما سأتناوله في النقاط التالية:
1- أن عقد التأمين عقد جديد فهو جائز بناء على أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه [44] وأن الشريعة تركت الباب مفتوحاً للناس أن يحدثوا أنواعاً جديدة من العقود إذا دعت الحاجة لها بشرط أن تتوفر فيها الأركان والشروط العامة المعتبرة في العقود وفي هذا الصدد يمثل الزرقا بعقد بيع الوفاء وأنه أشبه بواقعة عقد التأمين فعقد بيع الوفاء "عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كل عقد من العقود المسماة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرمة لأنه يخفي وراءه أنواعا من الربا المستور وهو الحصول على منفعة من وراء القرض حيث يدفع فيه الشخص مبلغاً من النقود ويسميه ثمناً لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ الذي يسميه مشترياً للعقار لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء بشرط أن صاحب العقار متى وفى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استرد العقار… ولكل منهما الرجوع عن هذا العقد أي فسخه وطلب التراد ولو حددت له المدة" [45] .
وقد اختلف الفقهاء فيه وقت ظهوره فمنهم من أعتبره بيعاً فاسدا لاقترانه بشرط مفسد للعقد. ومنهم من أعتبره بيعاً صحيحاً وأبطل الشرط وحده واعتبره لغوا. ومنهم من نظر إلى الهدف من هذا العقد والشرط فاعتبره في معنى الرهن الذي يشترط فيه المرتهن الانتفاع بالشيء المرهون فأبطل شرط الانتفاع بالمرهون وأبقاه رهناً لأن العبرة في التصرفات للمقاصد. إلا أنه استقرت الفتوى في المذهب الحنفي بعد ذلك على أنه عقد جديد ذو خصائص مختلفة عن هذه العقود الثلاثة لذا قرروا له أحكاماً مستمدة منها جميعاً.(31/401)
والمقصود من هذا أن قضية عقد التأمين تشبه بيع الوفاء من ناحية أن بيع الوفاء شاهد تاريخي واقعي في الفقه على جواز إحداث عقود جديدة وإن تعرض في أول نشأته لمثل ما تعرض له اليوم عقد التأمين من اختلاف [46] ...
والرد على ذلك أن وجه الحرمة في عقد التأمين ليس لأنه عقد جديد يختلف عن العقود المعروفة لدى فقهاء الشريعة الإسلامية بل وجه الحرمة فيه ما يتضمنه من غرر وربا وقمار وبيع دين بدين كما تقرر, وبناء على هذا فهذا العقد الجديد غير جائز لا لأنه جديد بل لأنه تضمن أمورا تقتضي بطلانه.
وليعلم أنه من المتفق عليه عند القائلين إن الأصل في العقود الإباحة تقييد ذلك بأن لا يرد الشرع بتحريمه وعليه فقد اشتمل عقد التأمين على عدة أمور ورد الشرع بتحريمها فلا يندرج عقد التأمين تحت هذا الأصل القائل بأن الأصل في العقود الإباحة حتى على تقدير رجحانه على القول بأن الأصل فيها الحظر إلا ما ورد الشرع بإباحته. وغنى عن البيان القول بأن عقد الوفاء مختلف عن عقد التأمين في موضوعه وهذا ما سلم به الزرقا نفسه [47] .
على أن الصواب في بيع الوفاء أنه لا يخرج عن أن يكون بيعاً أو رهنا اقترن به شرط فاسد والحكم فيه هو إبطال العقد بسبب هذا الشرط أو إبطال الشرط وحده على الخلاف المذكور آنفاً وعلى هذا فليس هنا عقد جديد أصلاً وإنما هو عقد قديم- بيع أو رهن- اقترن بشرط.
والحقيقة أن جر الكلام إلى موضوع إيجاد عقود جديدة إبعاد للمسألة عن مناط الحكم فيها فليس المحذور في عقد التأمين كونه عقداً جديداً- كما تقدم - وإنما لأنه تضمن الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين وكل هذه الأمور قد اعتبرها الشارع مبطلة للعقود.
- عقد الحراسة:(31/402)
يقول الزرقا إن المستأجر للحراسة ليس لعمله نتيجة سوى تحقيق الأمان لمن استأجره باطمئنانه على سلامة الشيء المحروس ... وهكذا الحال في عقد التأمين يبذل المستأمن فيه جزءاً من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار [48] .
ويرد عليه بأن عقد الحراسة ليس محل العقد فيه هو الأمان وإنما الأجير يستحق الأجرة في مقابل القرار في مكان معين للقيام بالحراسة وهذا هو محل العقد وهو المتحقق في الواقع وأما الأمان فهو الهدف من العقد والباعث عليه وهذا الهدف قد يتحقق وقد لا يتحقق والأجير يستحق الأجرة بمجرد قيامه بالحراسة سواء حصل الأمان أولم يحصل وليس عليه شيء إذا لم يفرط.
فالأمان إذاً ليس محلاً للعقد وإنما هو أمر معنوي نفسي لا يمكن أن يباع ويشترى بل قد يأتي بلا ثمن وقد يدفع في طلبه الثمن الكثير ولا يتحقق.
والحقيقة أن عقد الحراسة معاوضة معلومة من الطرفين فصاحب الشيء المحروس يدفع أجرة معلومة والأجير يقوم بعمل معين فليس هناك غرر أو جهالة في هذا العقد.
وأما عقد التأمين ففيه جهالة العوضين وجهالة مدة العقد فلا وجه لإلحاقه بعقد الحراسة المعلوم المحدد.
وهذه المقايسة لا تعد أن تكون وسوسة شيطانية الهدف منها التضليل والمغالطة.
ودعوى أن الأمان هو محل العقد في عقد الحراسة وعقد التأمين دعوى باطلة يكذبها العقل والواقع فليس في مقدور أحد من البشر توفير ذلك وإنما هو حقيقة بيد الله سبحانه وتعالى.
3- ضمان خطر الطريق:
ضمان خطر الطريق هو فيما إذا قال شخص لآخر أسلك هذه الطريق فإنها آمنة وإن
أصابك شيء فأنا ضامن حيث يضمن القائل عند بعض الفقهاء.
يقول الزرقا: "فإني أجد فيه فكرة فقهية تصلح أن تكون نصاً استثنائياً قوياً في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار" [49] ..(31/403)
والرد على هذا أن الأصل في ضمان خطر الطريق عند من قال به أن المغرور إنما يرجع على الغار إذا حصل الغرور في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور [50] ..
والتنظير بين هذا وبين التأمين غير صحيح فشركات التأمين لا تغر الناس ولا تضمن صفة السلامة لمن يتعاقد معها فليس هنا تغرير يشبه التغرير في مسألة ضمان خطر الطريق عند من يقول به وعليه فلا يمكن قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق.
وهنا فارق جوهري آخر وهو أن ضمان خطر الطريق التزام من طرف واحد فلا يمكن أن يقاس عليه عقد التأمين وهو عقد معاوضة والتزام من الطرفين.
وأخيراً فإن السلامة شأنها شأن الأمان ليست شيئاً يباع ويشترى لأنها ليست في مقدور البشر فالتلويح بها مغالطة ظاهرة.
وأما قول الزرقا: "إن فقهاءنا الذين قرروا هذا الحكم في الكفالة… لو أنهم عاشوا في عصرنا اليوم… لما ترددوا لحظة في إقرار التأمين نظاماً شرعياً " [51] . فلا يستطيع أن يقنعنا بصدق قوله إلا أن يعيد أولئك الفقهاء فيصدقوه فيما زعم وليس بقادر، ومن جانبنا لا نظن في أولئك الفقهاء أن يقروا التأمين نظاماً شرعياً وقد تضمن ما يقتضي بطلانه من الغرر والربا.
4- إلحاق عقود التأمين بولاء الموالاة عند الحنفية:
وصفة هذا الولاء أن الرجل يوالى رجلا آخر على أن يعقل عنه إذا جنى ويرثه إن مات وليس له وارث ويمكن أن يشترطا الإرث من الجانبين وهو عند الحنفية خاصة والإرث به عندهم مؤخر عن أرث ذوى الأرحام ومن شرط هذا العقد عندهم أن يكون المعقول عنه حراً مجهول النسب وأن لا يكون عربياً وليس عليه ولاء عتاقة ولا ولاء مولاة مع أحد قد عقل عنه.
وأن لا يكون عقل عنه بيت المال وأن يشترط العقل والإرث في العقد [52] .(31/404)
وفي صدد القول بجواز عقود التأمين ينتهي أحد الباحثين إلى أن أركان عقد ولاء الموالاة تتفق إلى حد كبير مع أركان عقد التأمين من المسئولية لأن ولاء المولاة رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتعاقدان على أن يعقل أولهما عن الآخر إذا جنى فيدفع عنه الدية في مقابل أن يرثه مولى الموالاة إذا توفي غير مخلف وارثاً قط وهو في هذا يناظر عقد التأمين من المسئولية [53] .
والأصل في عقد ولاء الموالاة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [54] .
والجمهور على القول بعدم صحة هذا العقد فلا يحصل به توارث ولا عقل.. والحق في هذا مع الجمهور لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: "إنما الولاء لمن أعتق " [55] . حيث أفاد حصر الولاء في نوع واحد هو العتق لشخص واحد هو المعتق وأما الآية فهذا كان في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المواريث.
وقول الحنفية في ولاء الموالاة على تقدير التسليم بصحته جدلاً لا يشبه عقد التأمين من المسئولية ذلك أن الهدف الذي بني عليه ولاء الموالاة ليس هو هدف الذي بني عليه عقد التأمين.. فولاء الموالاة بني على النصرة والحماية ولجوء الضعيف الغريب إلى القوى النسيب ولذا فهولا يعتبر من عقود المعاوضة عند الحنفية القائلين به وإنما هو من عقود التبرع التي يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها.. أما عقد التأمين فهو عقد معاوضة ظاهرة لا يقصد منه عند إنشائه إلا الربح والاستغلال فلا يصح أن يقاس على ولاء الموالاة مع وجود هذا الفارق الجوهري.. على أن قول الحنفية بمشروعية عقد ولاء الموالاة قول ضعيف مرجوح كما تقدم.
5- إلحاق عقد التأمين بالوعد الملزم عند بعض المالكية:
وخلاصة مسألة الوعد الملزم عندهم أن الشخص إذا وعد غيره عدة مما ليس بواجب عليه في الأصل هل يصبح بهذا الوعد ملزما بالوفاء؟(31/405)
من المالكية من يقول إنه ملزم مطلقاً ومنهم من يقول إنه غير ملزم مطلقاً ومنهم من يقول يلزم إذا ذكر لها الواعد سبباً وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب كأن يقول أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، والراجح عندهم أنه يلزم إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد [56] .
يقول الزرقا: "فإنا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعاً لتخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المُؤَمن للمستأمنين ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر ... ولا يخفي أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين إنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير التزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية" [57] .
وقول بعض المالكية في هذه المسألة على التسليم بصحته جدلاً لا يصح أن يقاس عليه عقد التأمين لوجود الفارق بينهما.. فالوعد الملزم عند من قال به تبرع محض لا معاوضة فيه وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان حيث أن الموعود لا يلتزم بشيء مقابل وعد الواعد أما عقد التأمين فمعاوضة واضحة والتزام من الجانبين كما تقرر.. والتبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعوضات كما تقرر أيضاً فلا يمكن أن تقاس المعاوضة من الطرفين في عقد التأمين على التبرع من طرف واحد في الوعد الملزم مع وجود هذا الفارق الجوهري.
6- إلحاق عقد التأمين بمسألة عقل العاقلة: [58](31/406)
في هذا الصدد يقول الزرقا: "إن نظام العواقل أصله عادة حسنة قائمة قبل الإسلام في توزيع المصيبة المالية ... وقد أقر الشرع الفكرة لما فيها من مصلحة ... وجعلها إلزامية في جناية القتل لأن فيها مسئولية متعدية بسبب التناصر وذلك بعد إخراج حالة العمد منها ... فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث بجعله ملزماً بطريق التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزامياً دون تعاقد في نظام العواقل؟ " [59] .
يقول الزرقا: "يكفي في القياس التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهي العلة وهذا ما رأيناه في نظام العواقل الإسلامي ونظام التأمين الحديث في بعض فروعه" [60] .
وهذا القياس المزعوم قياس باطل من أساسه لأن نظام العقل في الإسلام إلزام من الشارع لمجموعة من الناس تربطهم رابطة معينة بتحمل ما توجبه جنايات بعضهم وليس التزام منهم باختيارهم بتحمل شيء ما مقابل عوض كما هو الحال فيعقد التأمين فأين وجه الشبه المزعوم؟.
وأيضا فإن نظام العقل في الإسلام مبنى على التناصر والبر بين أفراد عائلة واحدة وله أهداف جليلة وحكمة فأين هو من نظام التأمين المبني على التجارة وطلب الكسب والربح واستغلال الناس؟ ومن أين للزرقاء أن يزعم مع كل ذلك أن نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهى العلة متفقة في النظامين؟.
والخلاصة أنه لا يصح هذا القياس مع وجود هذه الفروق الأساسية في جوهر النظامين.
7- الاحتجاج بالمصلحة:
وفي هذا يقول عبد الرحمن عيسى: "إن التأمين التجاري يحقق مصالح اقتصادية كبيرة للمجتمع.."وبعد سرد شواهد تدل على اعتبار المصلحة في الشرع يقول: "وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة هامة فيكون حكمه الجواز شرعاً اعتبارًا لما يحققه من المصالح" [61] ..(31/407)
وبناء الشريعة على مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد أمر معروف ومسلم به لكن المراد بالمصالح ما اعتبرها الشرع كذلك وأما المصالح الملغاة في الشرع فلا اعتبار لها ولو اعتبرها العقل البشرى مصالح. فالأمور المنهي عنها أو التي تتضمن ارتكاب نهى لا اعتبار لما يزعم فيها من مصالح فهي على تقدير وجودها مصالح ملغاة.
وما يزعم في نظام التأمين من مصالح وهي- على تقدير وجودها- مصالح ملغاة لتضمن عقد التأمين أموراً وردت النصوص القطعية بالنهي عنها والوعيد الشديد عليها من الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين كما سبق فإن رأت بعض العقول البشرية في نظام التأمين مصلحة ما فهي مصلحة مهدرة ملغاة شرعا لما تقدم.
وجميع ما نقل عن الصحابة وفقهاء السلف من تقرير أحكام استناداً إلى المصلحة إنما كان ذلك في أمور موافقة لمقاصد الشريعة ولم يرد فيها نص عن الشارع فالمصلحة المعتبرة عندهم ما فهموه من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ولا يستقل العقل بدركه [62] .. وبهذا يعلم يقيناً أنه لا اعتبار لما يزعم في عقود التأمين من مصلحة لعدم موافقتها لمقاصد الشريعة بل لورود النص بالنهى عما تضمنته هذه العقود من غرر وربا ... الخ.
8- الاحتجاج بأن التأمين ضرورة اقتصادية:
خلاصة الاحتجاج بالضرورة أن حاجة الناس إلى التأمين قد اشتدت وعظمت وأنه يشق عليهم تركه خوفاً من الكوارث حيث أصبح التأمين ضرورة لحفظ أموالهم وإن لم يكن من ضروريات الناس فإنه من حاجياتهم التي يترتب على فقدها الضيق والمشقة حيث أنهم قد ألفوه وتغلل في جميع نواحي حياتهم فلو منعوا منه لوقعوا في حرج ومعلوم في الشريعة الإسلامية أن المشقة تجلب التيسير والضرورات تبيح المحظورات [63] ..
وتقريرهم للاحتجاج على النحو السابق يتضمن اعترافهم بأن عقد التأمين يشتمل على أمور محرمة.(31/408)
وهذا الاحتجاج يدل على جهل قائله بأصول الشريعة الإسلامية ومبادئها إذ كيف يتصور أن توجد الضرورة إلى نظام كنظام التأمين؟ قد توجد الضرورة في حالات فردية تقدر بقدرها وتقيد بشروطها مثل اضطرار الذي يخشى الهلاك إلى أكل الميتة ومثل هذه الصورة لا تتصور في نظام كهذا النظام.
وإذا عرفنا أن للضرورة حدوداً يعرف بها ما يكون ضرورة في واقع الأمر وما لا يكون وعرفنا معنى الضرورة وأنها ما يرتب على تركه تلف النفس أو العضو فهل الحاجة إلى التأمين من هذا الصنف؟ كلا.
وإذا وجدت ضرورة فإنما تقدر بقدرها كما تقدم وتعتبر أمراً استثنائيا يزول بزوال الحالة التي ألجأت إليه ولا يمكن أن يجعل قاعدة عامة في صورة نظام عام فإن مثل هذا يستلزم حاجة الشريعة إلى أنظمة وعقود محرمة واعتقاد مثل هذا قد يؤدى بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله لأنه يستلزم الاعتقاد بنقص الشريعة الإسلامية وتكذيب الله عز وجل القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ …} [64] .
وحتى الحاجة التي تُنَزّل منزلة الضرورة مشروطة بأن يكون قد شهد لها الشرع بالاعتبار فليس كل ما يسبب حرجاً للناس يستباح به المحظور وقد ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [65] قول العلماء: "رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع" [66] .
وما من شك أن من استقام على منهاج الشرع واتقى الله عز وجل فلن يجد حرجاً حين يمتنع من عقود التأمين.
والخلاصة أن الاحتجاج بالضرورة لا يصلح دليلاً لإباحة عقود التأمين إذ ليس هناك في الحقيقة ضرورة بالمعنى الشرعي.
الاحتجاج بنظام التقاعد:(31/409)
يستدل الزرقا بموقف فقهاء الشريعة- كما يقول- من نظام التقاعد مع أنه نظام تأميني بكل ما في كلمة التأمين من معنى ... يقول: "فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين على الحياة؟ ... ويضيف بأن الغرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة ومع هذا يقره علماء الشريعة ... فلماذا يحسن وجود هذا النظام التقاعدي بين الدولة وموظفيها ولا يجوز نظيره تعاقدًا بين الناس [67] ..
والرد على تساؤله هو وجود الفارق بينهما فالتأمين عقد بين طرفين مبني على الغرر والربا مراد به الربح والكسب وأما نظام التقاعد فليس فيه تعاقد وإنما هو إلزام من طرف الدولة وحدها ليس فيه اتفاق وتعاقد مع الموظف ولا يراد به الربح والتجارة.. وحقيقة أن الراتب ومعاش التقاعد كله من الدولة وكان بإمكانها أن تحسب الرواتب صافية دون الإشارة إلى حسم تقاعد وتلتزم بإعاشة الموظف بعد التقاعد وهي ملزمة برعاية رعيتها وعلى الأَخص الذين قضوا حياتهم في خدمتها.. فعلماء الشريعة لم يعلنوا النكير على نظام التقاعد لأنهم لم يروا فيه صورة العقد الذي يشترط له ما يشترط للعقود وإنما هو إجراء وإلزام من جانب الدولة وحدها في مجال تنظيم رواتب ومعاشات موظفيها.
وليس كلامي هنا في مجال الحكم على نظام التقاعد من حيث جوازه أم لا وإنما كلامي يدور حول وجود الفارق الجوهري والأساسي بين عقود التأمين وبين نظام التقاعد فلا يصح مع هذا التنظير بينهما.
10- الاحتجاج بالتراضي:(31/410)
ورد في كلام بعضهم أن كلا من طرفي العقد في التأمين يتعاقد مع الآخر عن رضى تام ورغبة تامة [68] .. وهذا القول يدل على جهل فاضح فمتى كان التراضي على العقد المحرم مبيحاً له فعقد الربا المحرم بالإجماع لا يمكن أن يحله التراضي فكذلك عقد التأمين لا يحله التراضي وهو يتضمن أموراً يحرمها الشرع، فالتراضي المعتبر في قوله عز وجل: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [69] . هو فيما أحله الله من العقود ولا اعتبار للتراضي فيما حرمه الله سبحانه وتعالى.
11- إلحاق عقود التأمين بالجعالة:
زعم محمد البهي أن عقد التأمين هو عقد جعالة بين الشركة وجميع المُؤَمنين [70] ..
ولا وجه لزعمه هذا فالجعالة إجارة على منفعة مظنون حصولها مثل مشارطة الطبيب على البرء والناشد على وجود العبد الآبق.. ويشترط فيها عند من أجازها أن يكون الثمن معلوماً وأن يكون العمل مما لا ينتفع الجاعل بجزء منه.. والأصل فيها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [71] . وما في الأثر من أخذ الثمن على الرقية بأم القرآن [72] .
فالجعالة إذاً معاوضة بين الجاعل وبن من يعمل العمل.. الجاعل يلتزم بمال معلوم والآخر يقوم بعمل معين فأين هذا من عقد التأمين بين المُؤَمن والمستأمن؟ وأيهما الجاعل؟ وأيهما الذي يقوم بالعمل؟ كل هذا لا ينطبق على عقد التأمين فالتأمين التزام بمال مقابل التزام بمال وهذا الالتزام غير معلوم المقدار وفي الجعالة يشترط أن يكون معلوماً.. والالتزام في عقد التأمين لا يقابله عمل وإنما يقابله التزام بمال أيضاً وفي الجعالة يقابل الثمن المعلوم عمل معين فلا يمكن أن يقاس عقد التأمين على الجعالة للاختلاف الظاهر بينهما بوجود مثل هذه الفروق الجوهرية التي تمنع القياس.(31/411)
وبهذا يتبين أنه ليس هنا مستند صحيح للقائلين بجواز عقود التأمين وقد أغفلت بعض أقوالهم مما لا وجه له ولا يستحق المناقشة.. وفي الحقيقة أن كل ما أثاروه لا قيمة له ولكنها وساوس وشبه أثيرت فلزم البيان.
وقد أصاب السنهوري عندما قال: "لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي فهولا يشبه عقد المضاربة ولا هو كفالة ولا هو وديعة بأجر ولا هو عقد موالاة ولا يدخل في ضمان خطر الطريق ولا في الوعد الملزم ولا في نظام العواقل ... وإنما التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي [73] .
وهكذا ننتهي إلى أن عقد التأمين لا يشبه أي عقد من عقود المعاوضة في الفقه الإسلامي وكل ما أثاروه من شبه تبين بطلان الاحتجاج بها وبهذا ننتهي إلى الجزم بتحريم عقود التأمين لتضمنها ما نهى الشرع عنه من الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين..
عقد التأمين التعاوني
لقد انتهى أكثر الباحثين في التأمين إلى أن عقود التأمين عقود محرمة إلا أن بعضهم استظهر جواز عقد التأمين التعاوني وفرق بينه وبين التأمين التجاري معتمداً على بعض الشواهد والفروق وقالوا إنه يمكن إيجاد نظام تأمين تعاوني يتفق مع نصوص الشريعة وقواعدها [74] .
وقد استدلوا لذلك بالنصوص الآمرة والمرغبة بالتعاون على البر والتقوى والتواد والتراحم والتعاطف بين أفراد المسلمين.
كما ذكرت بعض الشواهد الواردة في هذا المجال وهى كالتالي:(31/412)
ا- حديث جابر بن عبد الله أنه قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثاً قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد [75] فأمر أبو عبيدة بازواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مِِزوَدَى تمر فكان يقوتناه كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة ... "الحديث متفق عليه [76] .
وجمع الطعام في السفر يدخل في النهد والتناهد هو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة وقيده بعضهم بالسوية وبالسفر ولعل هذه أصله- خلط الزاد في السفر- لكن قد يتفق حصوله في الحضر [77] . وقيده ابن الأثير بسفر الغزو فقال: "ما تخرجه الرفقة عند المناهدة إلى العدو وهو أن يقسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يتغابنوا ولا يكون لأحدهم على الآخر فضل ومنة" [78] .
2- حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا [79] فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في نحر إبلهم فأذن لهم فلقيهم عمر فاخبروه فقال ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النبي –صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فبُسط لذلك نِطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فدعا وبرك عليه [80] ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى [81] الناس حتى فرغوا ... "الحديث متفق عليه [82] .
3- حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إن الأشعريين إذا أرملوا [83] في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم" متفق عليه [84] .(31/413)
والأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة [85] وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين ولأن الذي يوضع للأكل سبيله المكارمة لا التشاح ... وقد اغتفر الربا في النهد لثبوت الدليل على جوازه [86] وذلك أن الشخص قد يأكل أكثر أو أقل مما أخرج وكذلك في القسمة قد يكون ما يقسم للشخص أكثر أو أقل ما أخذ منه لكنه اغتفر هذا الفضل للدليل الدال على جوازه.
وما حصل فيما ذكر لم يتم عن طريق التعاقد والالتزام بين أطراف في هذا التعاقد بدفع شيء معين أو غير معين مقابل التزام آخر وإنما يتم عن طريق المواساة في أوقات الحاجة والمجاعة.
وكذلك ليس فيما ذكر إرادة المبايعة والبدل وإنما يفضل بعضهم بعضاً بطريق المواساة.. فما ذكر في هذه الأحاديث إنما هو خلط الزاد في السفر والإقامة من باب الإيثار والمواساة وطلب البركة [87] فلا يصلح أن يستدل بها لإنشاء عقد تأمين بدعوى أنه تعاوني وليس تجاري.
والذي يظهر أن ما ورد في هذا إنما هو حالة استثنائية خاصة فيمكن أن يطبق حكمها على ما يماثلها فقط ولا يصح أن تجعل قاعدة عامة يبنى عليها تنظيم عام وهذا ما يدل عليه تقييد العلماء للنهد بما تقدم كما يدل عليه الحالات التي حصلت فيها الشواهد المذكورة.
ثم إنه لا عبرة بتسميته تأمين تعاوني وإنما العبرة بالكيفية التي يتم بها هذا الشيء فإن كان على سبيل التبرع والإحسان بحيث لا يلزم أحد بدفع أقساط معينة بل كل يدفع ما شاء متى شاء وكذلك لا يلتزم له بدفع تعويض عن خطر ما وإنما يواس ويجبر دون التزام له بذلك فإن كان بمثل هذه الكيفية فلا بأس به إن شاء الله و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في غيرها.(31/414)
وأما إن كان عن طريق التعاقد بان يلتزم كل واحد بدفع أقساط معينة ويلتزم له بتعويض لما يصيبه فهذا لا يُخرِجه عن صورة العقد المحرم كونه يراد منه التعاون والتكافل وكذا لا يغير من الحقيقة شيئاً تسميته عقد تأمين تعاوني أو إسلامي أو غير ذلك فالعبرة بجوهره وحقيقته وهي هنا التزام بما لا يلزم ومشتمل على شبهة المحاذير السابقة.
والذي يظهر من كلام المجوزين للتأمين التعاوني أنهم يريدون إنشاء تعاقد في هذا المجال يدل على هذا تسميته عقداً حيث يوحي بأنه التزام كما يدل عليه أيضاً وصفهم له بأنه تبادلي. يقول: الدكتور محمد بلتاجي: "لابد أن يكون تعاونياً ... وتبادلياً لأن لكل من المشتركين فيه أصلاً نفس الحقوق والواجبات " [88] فوصفه بأنه تبادلي يقتضي أنه عقد معاوضة لأن البيع هكذا أصله مبادلة مال بمال [89] .
ومن ذلك أيضاً ما يرد في كلامهم عن التأمين التعاوني من قولهم:"أطراف التعاقد". "نظاماً تعاقدياً". "ومن ثم يتفقون فيما بينهم على قسط الإسهام ونوع الخطر المُؤَمن منه ومبلغ التأمين" [90] .
يقول محمد بلتاجي: "يصبح الاتجاه إلى تكون التعاونيات الإسلامية أمراً مطلوباً ليس لأنه بديل عن الزكاة والصدقات والتزام بيت المال بل هو يؤازرها بتعاقدات ااختيارية " [91] .
ويقول: "فهل هناك مانع من قيام نظم تعاقدية اختيارية تؤازر هذا النظام؟ إن ذلك فيما نرى أمر مطلوب…" [92] .(31/415)
فكل هذه التعبيرات وغيرها تدل على أنهم يعنون بالتأمين التعاوني ما يتم عن طريق التعاقد الذي يلتزم فيه المستأمن بدفع أقساط معينة ويلتزم له بدفع تعويض عن آثار خطر ما وهو بهذه الكيفية لا يخرج عن صورة عقد التأمين الممنوع ولا يفيد كونه يراد منه التعاون أو يسمى تعاونياً كما لا يفيد أيضاً وصفه بأنه اختياري فما يسمون عقد تأمين تجاري يكون اختيارياً وهم لا يجوزنه فكذلك ما يسمونه تعاونياً بل إن عقد الربا يكون اختيارياً بين أصحابه ولا يحله ذلك وبهذا يتبين أن مثل قولهم "تعاقدات اختيارية" لا معنى منه.
وأما دعوى قيام الحاجة إلى مثل هذا العقد [93] فهي في ظل الإسلام لا تعد أن تكون خرافة لا أساس لها فعند التطبيق الكامل للإسلام لن يكون هناك حاجة إليها أبداً والذين يدعونها ينطلقون فبتقديراتهم من واقع مجتمعات لا تطبق الإسلام في الأموال فلو طبق لما قامت الحاجة المدعاة كما لم تقم هذه الحاجة في الماضي عندما كان يطبق نظام الإسلام كاملا.(31/416)
هذا ما انتهيت إليه فيما يسمى التأمين التعاوني مع التسليم بأن التبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات إلا أن التبرعات تتم من طرف واحد دون التزام من الطرف الآخر وكذا ما يتم بطريق المواساة في أوقات المجاعة كما في الأحاديث المتقدمة وما لم ير فيه المسلمون بأساً من النهد لأن ما يقدم للأكل مبني على المكارمة لا التشاح فكل ذلك يدل على جواز ما يتم من طريق التبرع والإحسان والمواساة والمكارمة- وخلط الإزواد في السفر لأجل ذلك وطلباً للبركة- لكن لا يدل هذا على جواز إنشاء عقود تبادلية فيها التزامات من أطراف العقد ولو كان القصد منها التعاون لأن جوهرها في الحقيقة معاوضة مادامت مبنية على تعاقد والتزام من أطراف التعاقد وهو التزام بما لا يلزم وترد عليه شبهة المحاذير السابق بيانها ... والله سبحانه وتعالى أعلم و صلى الله وسلم - وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كتاب الخطر في التامين البحري تأليف محمود الشرقاوي ص 31 الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة 1385هـ.
[2] انظر الوسيط لعبد الرزاق السنهوري 7/1906 دار النهضة العربية بالقاهرة 1968م.
[3] راجع السابقين.
[4] انظر الوسيط 7/1085.
[5] حاشية ابن عابدين (رد المحتار 4/170) الطبعة الثانية 1386 هـ طبعة مصطفى الحلبي.
[6] انظر عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي لمحمد بلتاجي ص 26 و27 الناشر دار العروبة الكويت1402 هـ والتأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه لمحمد الدسوقي ص 75 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1387 هـ.(31/417)
[7] لم يأت ذكر للخسارة مع احتمال حصولها والذي يظهر أنه ربح محدد عند التعاقد بنسبة معينة ويزيد الأمر وضوحاً رأى محمد عبده في أن ربا النسيئة لا يكون إلا في الديون ولا يكون في العقود عند إنشائها فقد جاء في تفسير المنار 3/97 طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب أنه لا يدخل في الربا الجلي المحرم بنص القرآن من يعطى آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظاً معيناً.
وهذا وإن كان من صياغة تلميذه رشيد رضا إلا أنه أقره كما جاء في مقدمة التفسيرِ المذكور 1/15 أن أستاذه الشيخ كان يقرأ ما يكتبه عمه ويقره.
وقد تبعه في هذا الرأي تلميذه رشيد رضا انظر كتابه الربا والمعاملات في الإسلام ومحمود شلتوت انظر مجلة لواء الإسلام العددان 11و12 وعبد الكريم الخطيب انظر مجلة البنوك الإسلامية عدد 11 وغيرهم.
ومقتضى ما تقدم أن محمد عبده يحلل القرض بفائدة ولذا لم يتوقف بالإجابة بالجواز فيما سئل عنه في شأن العقد المذكور.
[8] انظر التأمين لعيسى عبده ص 31 دار البحوث العلمية بالكويت.
[9] انظر الإسلام والحياة ص 216 وهو من تأليف المذكور.
[10] انظر بحث التَأمين له المقدم لندوة التشريع الإسلامي بالجامعة الليبية عام 1392 هـ.
[11] انظر له رأى الدين بين السائل والمجيب ص 186 وما بعدها- دار الفكر- 1392 هـ.
[12] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 382 وما بعدها طبع بواسطة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة عام 1382 هـ وهو مجموعة البحوث المقدمة للمؤتمر الذي عقد بدمشق 16 ـ21شوال 1380هـ. ومجلة العربي العددان 192، 195 والمعاملات الحديثة لعبد الرحمن عيسى.
[13] انظر المراجع المتقدمة.
[14] صحيح مسلم3/1153 كتاب البيوع رقم 4 بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء الكتب العربية- بمصر.(31/418)
[15] انظر النووي على مسلم 10/156-157 طبعة -المطبعة المصرية- والمقدمات الممهدات لأبى الوليد بن رشد 2/ 222 طبعه- مطبعة السعادة - بمصر وبداية المجتهد 2/153 الناشر- مكتبة الكليات الأزهرية-.
[16] انظر الوسيط 7/ 1140 وأصول الفقه الإسلامي 461.
[17] انظر من فقه السنة ص 36- 37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[18] انظر من فقه السنة ص 36- 37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[19] انظر من فقه السنة ص 36-37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[20] انظر الوسيط 7/ 1218.
[21] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 401.
[22] انظر بحث التأمين للشيخ علي الخفيف ص 6 وعقود التأمين لمحمد سلام مدكور مجلة العربي العدد 195.
[23] سورة النساء آية 29
[24] انظر الأم 3/ 2-3 للإمام الشافعي وبهامشه مختصر المزني - طبعة دار الشعب - والمقدمات الممهدات2/ 222.
[25] انظر الفروق للقرافي 1/150 بهامشه تهذيب الفروق - دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت وبداية المجتهد 2/327 والمغنى لابن قدامة 5/657 الناشر- مكتبة الجمهورية العربية- بمصر ومكتبة الرياض الحديثة-.
ويجب أن يعلم أن مذهب مالك فيما يستباح فيه الغرر يشترط أن يكون من باب الإحسان المحض حالياً من أي صفات المعاوضة أي تكون الرغبة محضة لتصد الهبة والتبرع وليس عقد التأمين هكذا.
[26] انظر مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/ 32-33 والوسيط 7/ 089 1 وكلاهما للمذكور.
[27] 1لوسيط 7/1087.
[28] ص 59 وما بعدها.
[29] انظر مجلة العربي العدد 192.
[30] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 401 وما بعدها.
[31] تقدم في أول البحث.
[32] انظر أصول الفقه الإسلامي صر 402 وما بعدها.
[33] انظر الوسيط 7/ 1139.
[34] انظر طرفا من ذلك من فقه السنة ص 100 وما بعدها.(31/419)
[35] انظر نظام التأمين لمصطفى الزرقا ص 25 وأصول الفقه الإسلامي ص 404 وما بعدها.
[36] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 406.
[37] سورة المائدة الآية 90 -91 وانظر تفسير الطبري2/357 -359 و7/32-35 جامع بيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري الطبعة الثالثة طبعه-مصطفى الحلبي - بمصر، وتفسير القرطبي 3/52 الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي الطبعة الثالثة عن - طبعة دار الكتب المصرية-.
[38] انظر الوسيط 7/1087.
[39] أصول الفقه الإسلامي ص 398 وانظر بحث الخفيف ص 17.
[40] أصول الفقه الإسلامي ص 399.
[41] المصدر السابق ص 399
[42] عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي ص 117.
[43] انظر بداية المجتهد 2/123 ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 5/166 لمحمد بن علي الشوكاني الطبعة الثالثة- ملتزم الطبع والنشر مصطفى الحلبي-.
[44] في هذا خلاف أصولي لا مجال لذكره هنا راجع إن شئت الإحكام في أصول الأحكام لا بن حزم 1/52 وما بعدها - منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت. والقواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص184 وما بعدها تحقيق الفقي - مطبعة السنة المحمدية -.
[45] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 387.
[46] انظر المصدر السابق ص 388.
[47] انظر المصدر السابق ص515.
[48] انظر المصدر السابق ص 404.
[49] انظر المصدر السابق ص 410.
[50] انظر حاشية ابن عابدين 4/ 70 ا- ا 17.
[51] أصول الفقه الإسلامي ص 410.
[52] انظر شرح الدر المختار بحاشية ابن عابدين 6/ 25 ا-127.
[53] انظر بحث الأحمد السنوسي في مجلة االأزهر 25/232-303.
[54] سورة النساء آية 33.
[55] صحيح البخاري بشرح فتح الباري5/.19 و 326 رقم 2563 بترقيم محمد فؤاد عد الباقي- المطبعة السلفية – وصحيح مسلم 2/1141 و 1142 و 1143 حديث رقم6و7.(31/420)
[56] انظر الفروق للقرافي 4/22 وما بعدها.
[57] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 410.
[58] عاقلة الرجل عصبته التي تعقل عنه: أي التي تؤدي عنه دية الخطأ.
[59] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 412.
[60] انظر المصدر السابق ص 517.
[61] انظر المصدر السابق ص 473 وما بعدها.
[62] راجع إن شئت المستصفى لأبي حامد الغزالي ص250 وما بعدها تحقيق محمد أبو العلا الناشر- مكتبة الجندي - بالقاهرة والاعتصام للشاطيى 2/ 66 وما بعدها الناشر - دار التحرير للطباعة والنثر-.
[63] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 464 و476 وما بعدها.
[64] سوره المائدة آية 3
[65] سورة الحج آية 78.
[66] تفسير القرطبي 12/ 101
[67] انظر أصول الفقه الإسلامي ص- 414 وما بعدها.
[68] انظر أصول الفقه الإسلامي ص 473.
[69] سورة النساء آية 29.
[70] انظر رأى الدين بيت السائل والمجيب ص186 وما بعدها.
[71] سورة يوسف آية 72.
[72] انظر بداية المجتهد 2/ 234-235 والمغنى 5/ 722 وحديث الرقية بأم القرآن رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري4/453 رقم الحديث 2276 صحيح مسلم 4/ 1727-1728 كتاب السلام حديث رقم 65 و 66.
[73] 1لوسيط 7/ 1089.
[74] من هؤلاء الشيخ محمد أبو زهره وبحثه في أصول الفقه الإسلامي ص 526 ومحمد الدسوقي في كتابه التأمين وموقف الشريعة منه ص 39 1 وما بعدها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة عام 387 اهـ. وحسين حامد حسان في كتابه حكم الشريعة في عقود التأمين ص 136 وما بعدها دار الاعتصام. وعباس حسنى في كتابه عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ص 73 ومحمد بلتاجى في كتابه عقود التأمين ص200 وما بعدها.
[75] أي كاد يفنى.(31/421)
[76] صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم 2483 ومسلم 3/1537 صيد رقم 21 واللفظ للبخاري.
[77] انظر فتح الباري 5/129.
[78] النهاية في غريب الحديث والأثر 5/135 تحقيق الطناحى طبعة عيسى الحلبي.
[79] أملقوا: أي افتقروا.
[80] برك: عليه: أي دعا بالبركة.
[81] إحتثى: من الحثى وهو الأخذ بالكفين.
[82] صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم الحديث 2484 وصحيح مسلم 3/1354-1355القطة رقم الحديث 19 وروى نحوه عن أبى هريرة 1/55-56 كتاب الإيمان رقم الحديث 44.
[83] أرملوا: أي فني زادهم وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في قوله تعالى: {ذَا مَتْرَبَةٍ} البلد/16.
[84] صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128-129 رقم 2486 ومسلم 3/944 ا-1945 فضائل الصحابة رقم 167
[85] في حديث سلمة لم يذكر فيه التسوية في القسمة إلا أن يقال إن مثل هذا داخل في موضوع المعجزات فلا يستدل به لهذا الباب أصلا وهذا هو الظاهر.
[86] انظر فتح الباري 5/ 129 وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/ 40 و. 5 للعيني الناشر دار الفكر.
[87] يدل لهذا ما رواه أبو عبيد في الغريب عن الحسن قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم "انظر فتح الباري 5/ 129وقال العيني: "وحكى عن عمرو بن عبيد عن الحسن فساقه وزاد "وأطيب لنفوسكم "عمدة القاري 13/ 40والله أعلم بالصواب.
[88] عقود التأمين ص 215.
[89] انظر المصباح المنير 1/77 طبعة مصطفى الحلبي.
[90] عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي ص 233.
[91] المصدر السابق ص 236.
[92] المصدر السابق ص 241.
[93] انظر المصدر السابق 232.(31/422)
البدع وآثَارُهَا السَّيِّئَة
للشيخ عبد الكريم مراد
أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة.
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى المبعوث رحمة للعالمين، فتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد فقد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"فإن البدع قد فشت ومدت أعناقها حتى أصبحت سننا ثابتة وشرائع مقررة حسبها العامة والجمهور دينا لا يرون الحق غيره. والمتمسك بمحض السنة عندهم كالخارج عنها. ولقد صدق حذيفة رضي الله عنه: "والله لتفشون البدع حتى إذا ترك شيء منها قالوا: تركت السنة". والمؤمن المتبصر في أمر دينه لا يشك في أن اتباع البدع خروج عن الصراط المستقيم ورمى في عماية وضلالة. أعاذنا الله منها.
وهذه كلمة موجزة منتخبة من كلام أئمة الإسلام مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أبي إسحاق الشاطبي وغيرهما رحمهم الله في معنى البدعة شرعا وذمها وسوء منقلب أهلها مع إلقاء الضوء على الاستحسان الفقهي والاستدلال المرسل المسمى بالمصلحة المرسلة حتى يتبين أن البدع ليست من هذين الأصليين الفقهيين في ورد ولا صدر ولا تبقى لأحد شبهة في أنه ليس في البدع مستحسن وفي أن كل بدعة ضلالة.
معنى البدعة:(31/423)
أصل مادة (بدع) معناه الاختراع على غير مثالا سابق. ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مخترعاهما لا عن مثال سابق متقدم. والبِدْع: الشيء الذي يكون أولاً، يقال: فلان بدع في هذا الأمر أي أولٌ لم يسبقه أحد. ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل} أي ما كنت أول رسول أرسل قد أرسل قبلي كثيرون [1] .
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فإحداثها واستجراحها للسلوك عليها هو: الابتداع، وكيفيتها وهيئتها هي: البدعة.
وقد يسمى العمل المعمول على هذا الوجه أيضا بدعة.
تعريف البدعة:
البدعة شرعا: هي طريقة مخترعة في الدين تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تعالى.
شرح التعريف: (طريقة) الطريقة والطريق والسبيل والصراط والسنة ألفاظٌ معناها واحد وهو: ما رسم للسلوك عليه.
(مخترعة في الدين) محدثة فيه على غير مثال سابق من الشرع. خرج بهذا القيد كل ما يظهر لبادئ الرأي أنه مخترع مما له أصل في الشرع كجمع القرآن وتدوين السنن.
وإنما قيدت بالدين لأن البدعة تحدث في الدين وإليه يضيفها صاحبها وهو المبتدع، فلو كانت مخترعة في الأمور الدنيوية على الخصوص لم تسم بدعة كالمخترعات الحديثة وسائر مالا عهد به فيما تقدم من الزمان.(31/424)
(تضاهي الطريقة الشرعية) أي تشابهها يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية وهو: التعبد لله تعالى وفي الحقيقة هي مخالفة لظاهر الشريعة من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات الخاصة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ورفع الأيدي في الدعاء جماعيا بعد الصلوات الخمس على الدوام واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد عيسى عليه السلام، وقد أحدث عيد الميلاد هذا في الإسلام بعد المائة السادسة من الهجرة لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لسبق إليه السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في متابعته وطاعته وهي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان [2] .
وكذلك صوم يوم النصف من شعبان وقيام ليلته. والحديث الذي رواه ابن ماجه في ذلك ضعيف جدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فضل ليلة النصف من شعبان مختلف فيه بين أهل العلم من السلف والخلف وأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له وكذلك ما أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء مكروه لم يشرع. والحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وسميت بالصلاة الألفية لقراءة سورة الإخلاص فيها ألف مرة.
وكذلك صوم يوم أول خميس من رجب وقيام ليلة تلك الجمعة والصلاة فيها المعروفة عند الجهال بصلاة الرغائب المحدثة في الإسلام بعد المائة الرابعة من الهجرة. والحديث في ذلك أيضا موضوع.(31/425)
والبدعة لو كانت لا تضاهي الأمور الشرعية ولا تشابهها لم تكن بدعة شرعا بل تصير من باب الأفعال العادية.
(يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تعالى) هذا إتمام لمعنى البدعة إذ هو المقصود بابتداعها.
خرج بهذا القيد العادات، فكل ما أحدث مما لم يقصد به التعبد لا يسمى بدعة شرعاً. ومن سمى ذلك بدعة فهو إما ملبس على غيره أو جاهل بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قوله معتدا به ولا معتمدا عليه.
والتعريف يشمل البدع التركية فإن من ترك شيئا من المطلوبات الشرعية تدينا فهو مبتدع قطعاً حيث تدين بضد ما شرعه الله تعالى.
وأما الترك إذا كان لغير التدين من كسل أو لتضييع أو نحو ذلك من الدواعي النفسية فلا يكون بدعة بل هو عائد إلى المخالفة للأمر فيكون التارك عاصياً لمخالفة ما أمر الله تعالى به.
كل بدعة ضلالة:
ذم البدع والمحدثات في الدين عام لا يخص محدثةً دون محدثةٍ. والأدلة الشرعية تدل على العموم من وجوه:
الأول: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ولم يأت ما يقتضي أن من البدع ما هو هدى، فلو كان هنالك بدعة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان لأشير إلى ذلك في آية أو حديث لكنه لا يوجد.
فدل ذلك على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية والعموم لا يتخلف عن مقتضاها فرد من أفراد البدعة.
الثاني: أنه قد تقرر أن كل قاعدة كلية ودليل شرعي إذا تكررت في مواضع كثيرة ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها فذلك دليل على بقاء تلك القاعدة على مقتضى ظاهر لفظها من العموم مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وما أشبه ذلك.(31/426)
وما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على عموم ذم البدع والمحدثات في الدين ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر العموم والكلية فيها.
فدل ذلك دلالة واضحة على أن تلك الأحاديث على ظاهرها من العموم والإطلاق.
الثالث: إجماع السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ذم البدع بدون استثناء والهروب عنها وعن أصحابها.
فهذا بحسب الاستقراء إجماع ثابت يدل على أن كل بدعة مذمومة.
الرابع: أن معنى البدعة ومفهومها يقتضي عموم ذم البدع كلها بدون استثناء لأنه باب مضادة الشارع واطراد للشرع، وكل ما كان كذلك فممتنع أن ينقسم إلى: حَسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع ومخالفته [3] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (268) بعد الكلام على أعياد الكفار والمشركين: "ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة لما في ذلك من المشابهة للكفار ولأنها من البدع".
وهذه المواسم إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به إلى الله تعالى. فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب والمشركين لأن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"، وفي رواية النسائي: "وكل ضلالة في النار"، وفي حديث العرباض ابن سارية الصحيح: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". رواه أبو داود وغيره.(31/427)
وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"متفق عليه ولمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته سواء بلغت الكراهة التحريم أولم تبلغه هي قاعدة عظيمة دل عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا.
وأما ما ثبت حسنه بدليل شرعي فليس من البدع الشرعية فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه إذ البدعة شرعا: ما لم يدل عليه دليل شرعي.
تقسيم البدعة إلى: حسنة وسيئة تقسيم محدث لا يدل عليه دليل شرعي:
فإن قيل إن غير واحد من العلماء قسم البدعة إلى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة مثل النووي وملا علي القاري وغيرهما بدليل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه"، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي ليست مكروهة بل حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس وقد بسط القول في ذلك أبو العباس شهاب القرافي من المالكية فقال: "اعلم أن الأصحاب فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبى زيد وغيره والحق التفصيل وأنها خمسة أقسام:
الأول: واجب وهو ما تناولته أدلة الوجوب وقواعده من الشرع كجمع القرآن وتدوين الشرائع إذ خيف عليها الضياع.
الثاني: محرم وهو ما تناولته أدلة التحريم وقواعده من الشرع كالمكوس والمحدثات من المظالم.
الثالث: مندوب وهو ما تناولته أدلة الندب وقواعده من الشرع كصلاة التراويح في المسجد جماعة.
الرابع: مكروه وهو ما تناولته أدلة الكراهة وقواعدها من الشرع كتخصيص بعض الأيام أو الليالي بنوع من العبادات. والزيادة في المندوبات المحدودة من هذا الباب والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع.(31/428)
الخامس: مباح وهو ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشرع مثل اتخاذ المناخل للدقيق وغسل اليدين بالأشنان.
قال: فالبدعة تعرض على قواعد الشرع وأدلته فأي شيء تناولها من الأدلة ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما".
وقد قسم البدعة قبل القرافي شيخه عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام إلى الأحكام الخمسة.
وملخص الإيراد والمعارضة: ليست كل بدعة ضلالة.
أقول: قد تقدم الجواب عن ذلك في كلام الشاطيي وأشير إليه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله وأعيد الجواب موجزاً لمسيس الحاجة إلى ذلك.
فأقول: إن هذا تقسيم محدث لا يدل عليه دليل شرعي بل هو تقسيم في نفسه متدافع منها ولا أساس له لأن البدعة الشرعية هي ما لم يدل عليه دليل شرعي فإذا دل دليل شرعي على وجوب أمر أو ندبه أو نحو ذلك لم يكن بدعة.
فالجمع بين عد بعض الأشياء من البدع وبين كون الأدلة تدل عليها من وجوب أو تحريم أو غيرهما جمع بين المتنافيين [4] .
قال في الدين الخالص: إن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضيان بدعة أي بدعة كانت. فلو كانت بدعة حسنة لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".يا لله العجب من أمثال هذه المقالة، ألم يعلموا أن في إشاعة البدع إماتة السنن وفي إماتتها إحياء الدين وعلومه.(31/429)
والذي نفسي بيده إن دين الإسلام كامل تام غير ناقص لا يحتاج إلى شمس في إكماله وإتمامه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة"، نص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد أن يدفع في دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم. وقال: لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية وهي: قوله: "كل بدعة ضلالة"، بسلب عمومها وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول – صلى الله عليه وسلم - أقرب منه إلى التأويل.
وقال: وقصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصا أو استنباطاً. وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فليست هي طريقة أهل العلم بل هو نوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل.
قال: وأما صلاة التراويح فليست بدعة بل سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه".
وكذلك صلاتها جماعة في المسجد ليست بدعة بل سنة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الشهر ليلتين بل ثلاثا وصلاها في العشر الأواخر مرات ثم تركها وقال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج لكم إلا كراهة أن يفرض عليكم"، فعلل الترك بخشية الافتراض على الأمة.
وأما الجواب عن قول عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة هذه"ففي قول الصحابي الذي لم يخالف فيه, قولان لأهل العلم:(31/430)
أحدهما: حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وهذا قول مالك والقديم للشافعي ورواية عن أحمد وقول بعض الحنفية.
والثاني: ليس بحجة لأن الصحابي لم تثبت عصمته يجوز عليه الخطأ والغلط.
وهذا قول عامة المتكلمين والجديد للشافعي واختاره أبو الخطاب [5] . وعلى القولين لا تصلح ولا تصح معارضة الحديث بقول الصحابي. وهو ظاهر. نعم أكثر ما في هذا هي تسمية عمر تلك بدعة.
وهذه تسمية لغوية لا شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق.
فلما كانت صلاة التراويح في عهد عمر بهذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على قارئ واحد مع إسراج المسجد عملا محدثا لم يعهد من قبل سماه بدعة.
فإذا دل نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على استحباب شيء أو إيجابه بعد موته أو دل على ذلك مطلقا ولم يعمل بذلك إلا بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم - صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به - صلى الله عليه وسلم - يسمى بدعة ومحدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن المهاجرين إلى الحبشة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف" [6] .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "البدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة فقوله –صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة"، من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء. وهو أصل عظيم من أصول الدين.
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح: "نعمت البدعة هذه"، وروى عنه: "إن كانت بدعة فنعمت البدعة" [7] .
من آثار البدع السيئة:(31/431)
من شؤم البدعة وآثارها السيئة أنها لا يقبل معها عمل من صلاة ولا صيام ولا صدقة وغيرها من القربات، وهي مانعة من الورود على حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ومانعة من شفاعته، وعلى المبتدع إثم من عمل ببدعته إلى يوم القيامة، وليس له توبة.
وقد تبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون، يخاف عليه من سوء الخاتمة والعياذ بالله والبدعة لا يقبل معها عمل إما أن يراه بذلك عدم القبول مطلقا على أي وجه وقع عمل المبتدع وافق السنة أو خالفها أو أن يراد منه أنه لا يقبل ما ابتدع فيه من الأعمال خاصة دون ما لم يبتدع فأما الأول وهو أن المبتدع لا تقبل أعماله مطلقا سواء داخلتها بدعة أم لا، فيدل على ذلك أدلة:
منها ما صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في القدرية وهو قوله: "فو الذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله حتى يؤمن بالقدر"ثم استشهد بحديث جبريل الذي رواه مسلم.
ومنها ما في حديث الخوارج وهو قوله - صلى الله غليه وسلم -: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، بعد قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم"الحديث. ومنها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه المشهور بحديث الصحيفة المتفق عليه وفيه قوله: "المدينة حرم ما بين عير وإلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".
والحديث عام يشمل كل حدث ينافي الشرع والبدع أقبح المحدثات وهو وإن كان خاصاً بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فغيرها داخل في المعنى، وهذا الحديث من أشد ما يكون على أهل البدع.(31/432)
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يراد عدم قبول ما داخلت البدعة من الأعمال خاصة فذلك ظاهر جدا يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه ولمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقوله: كل بدعة ضلالة.
والبدعة مانعة من الورود على حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن شفاعته فذلك للحديث الصحيح: "فليذاد رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال" وفي رواية: "أنا على الحوض أنتظر من يَرِد علىّ منكم فيؤخذ أناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ وفي رواية: ما تدرى ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقا سحقا".
والمبتدع عليه إثم من عمل ببدعته إلى يوم القيامة فذلك لقول الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم} الآية وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها". فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب على مبتدعها إثم من عمل بها زيادة على إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا.
وأيضاً فإذا كانت كل بدعة تستلزم رفع السنة التي تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك زائدا على إثم الابتداع.
والتوبة محجوبة عن صاحب البدعة فيدل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه المرفوع: "إن الله حجز أو قال حجب التوبة عن كل صاحب بدعة". رواه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني: "صحيح بشواهده".
ويدل عليه ما في حديث الخوارج وهو قوله: "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه".(31/433)
ويدل على ذلك قوله في حديث الفرق: "وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"، وعدم قبول التوبة من المبتدع يقتضي ظاهر الحديث عموم ذلك فهو محمول على العموم العادي لأن الغالب عادة في الواقع الإصرار من المبتدعة على البدع.
وأما براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من أهل البدع فيدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رغب عن سنتي فليس مني".
وقول ابن عمر رضي الله عنهما في أول فرقة من أهل البدع في الإسلام وهم القدرية: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني".
والآثار عن السلف في التحذير عن أهل الأهواء والبدع والابتعاد عن مجالستهم كثيرة.
والمبتدع يخاف عليه من سوء الخاتمة وذلك أن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، والحمد لله على ذلك وإنما يكون سوء الخاتمة لمن له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر أو يكون مستقيما في أول أمره ثم تغيرت حاله وأخذ في طريق غير طريق الاستقامة فيكون عمله ذلك سببا لسوء عاقبته وخاتمته والعياذ بالله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الآية. وقال سبحانه: {َفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
الفرق بين البدع وبين المصالح المرسلة والاستحسان(31/434)
لما كان هذا المقام مزلة قدم لأهل البدع ومشتبها عليهم حتى استدلوا على البدع من جهته كان لابد من بيان الفرق بين البدع وبين الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة والاستحسان الفقهي حتى يتبين أن البدع ليست من المصالح المرسلة ولا من الاستحسان
فأقول أولا: إن المصالح المرسلة لابد فيها من اعتبار أمور:
الأول: الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تتنافى مع أصل من أصوله ولا دليل من أدلته.
الثاني: أن النظر المصلحي إنما يكون فيما عقل معناه وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول.
فلا مدخل للمصالح المرسلة في الأمور التعبدية ولا ما جرى مجراها لأن العبادات لا يعقل لها معنى على وجه التفصيل مثل الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والحج وسائر العبادات.
ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادئ الرأي فإن البول والبراز خارجان نجسان يجب فيهما تطهير أعضاء الوضوء دون الاكتفاء على تطهير المخرجين فقط.
والتطهير من ذلك واجب مع نظافة الأعضاء وغير واجب في قذارتها بالأدران والأوساخ إذا فرض عدم وجود الحدث.
ثم التراب من شأنه التلويث يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.
وأوقات الصلوات الخمس لا توجد فيها مناسبة تعقل لإقامة الصلوات فيها دون غيرها من الأوقات.
والصيام والحج نجد فيهما من التعبدات غير المعقولة شيئا كثيرا.
وهكذا توجد سائر العبادات إلا قليلا منها ظهر فيه معنى مناسب فهم من الشارع فاعتبر به.
لقد صدق على رضى الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".(31/435)
لذلك التزام الإمام مالك بن أنس رحمه الله في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادئ الرأي وقوفا منه رحمه الله مع ما فهم من مقصود الشارع في التعبدات من التسليم لها على ما هي عليه بخلاف العادات فهي جارية على المعاني المناسبة الظاهرة للعقول فإن مذهب مالك فيها الرجوع إلى المصالح المرسلة والاستحسان.
الأمر الثالث: أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من الضروريات فهو من باب الوسائل ومالا يتم الواجب إلا به.
أو ترجع إلى دفع جرح لازم فهو من باب التخفيف.
فإذا تقرر ذلك علم أن البدع مخالفة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة: ما عقل معناه على التفصيل مثل الأمور العادية فلذا كانت مظنتها بخلاف العبادات فليس حكمها حكم العادات لاهتداء العقول لها في الجملة وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى. فلذا لا يقدم على اختراع عبادة لا أصل لها في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن أعمال العباد تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أوفي الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معاشهم.
فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى.
والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظر الله تعالى" [8] .
ونكرر ونقول: إن المصالح المرسلة مرجعها إما حفظ ضروري فهو من باب الوسائل لا من المقاصد. أو رفع جرح لازم فهو راجع إلى التخفيف لا إلى التشديد.
فلا يمكن إذًا إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة لأن البدع متعبد بها فليست وسائل بل هي من المقاصد عن أصحابها، ولأن البدع زيادة في التكليف فهي منافية للتخفيف، فلا حجة لأهل البدع في المصالح المرسلة أصلا.(31/436)
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده في العبادات والزيادة عليه بدعة كما أن النقصان منه بدعة.
وثانيا أن الاستحسان أيضا مظنة شبهة لمن أراد أن يبتدع فقد يقول: "إن استحسنت كذا وكذا ففلان من العلماء قد استحسن".
لذلك كان لزاما من بيان معنى الاستحسان عند من اعتبره في الأحكام من أهل العلم حتى لا يغتر به جاهل ولا يحتج به مبتدع.
فنقول: قد اعتبر الاستحسان الإمامان: أبو حنيفة ومالك رحمهما الله والذي يُستقرى من مذهبهما أن مرجع الاستحسان هو العمل بأقوى الدليلين كما قال ابن العربي المالكي ويشعر به قول الكرخي من الحنفية حيث يقول: "إن الاستحسان هو العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى".
وعرفه ابن العربي فقال: "إنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضته ما يعارض به في بعض مقتضياته".
وقسمه إلى عدة أقسام وذكر منها: ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة وتركه في اليسير لرفع المشقة ومثل لذلك.
وعرفه ابن رشد المالكي بقوله: "الاستحسان طرح للقياس وعدول عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص ذلك الموضع". والاستحسان على هذه التعريفات ليس بخارج عن الأدلة. والأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضاً.
فلا حجة في الاستحسان لمبتدع ولا يمكن أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا.
وأما تعلق أهل البدع بالاستحسان على قول من عرفه بأنه: "ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه أو أنه: دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره".
فلم يعرف التعبد بذلك لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون. والاستحسان بهذا المعنى مصداق قول الإمام الشافعي رحمه الله: "من استحسن فقد شرع".(31/437)
ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم قد حصروا نظرهم في الحوادث والوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول ولم يقل أحد منهم: "إني حكمت في كذا لأن عقلي استحسنه أو طبعي مال إلي من البدع وأهلها وأنت المسئول المرجو الاجابة أن تمتعنا بالإسلام والسنة والعافية بمنك وك هـ".
وختاما نستعصم اللهم رمك.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لسان العرب.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم ص294.
[3] الاعتصام للشاطبي.
[4] الاعتصام للشاطبي.
[5] الروضة لابن قدامة.
[6] اقتضاء الصراط المستقيم.
[7] جامع العلوم والحكم لابن رجب.
[8] اقتضاء الصراط المستقيم ص 269.(31/438)
القُرْآن الكَرِيْم مَصْدَرٌ لِلتَّاريخ
للدكتور بشير كوكو حميدة
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
القرآن الكريم، كتاب الله المبين، والتنزيل الحكيم، لم ينزل ليكون سفرا في التاريخ أوفي العلوم أوفي الأدب أوفي غيرها من المعارف الإنسانية، وإنما جاء لهداية البشرية جمعاء. فهذه هي طبيعة القرآن التي ينبغي علينا أن نعيها. مصداقا لقوله تعالى في أول سورة البقرة المباركة: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . فهو هداية الله وهديته إلى خلقه [1] قال تعالى: { ... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . المائدة 15-16. ومن هنا فإن القرآن الكريم كتاب دين وليس كتاب علم أرضي بمعنى أنه لا يشرح نظريات الهندسة أوقوانين الطب [2] ، ولنا أن نتساءل إذن عن مدار البحث الرئيسي في هذا الكتاب الحكيم، وعن موضوعه.
حقيقة الأمر أن موضوع القرآن هو:
أولاً: الإنسان وحياته التي تفضي به إما إلى عيشة راضية أو إلى نار حامية.
وثانيا: فإن بحثه هو إجلاء الحقيقة ودعوة البشر إليها.
وثالثا: فإن هدفه دعوة الإنسان إلى الحق المبين والنهج القويم [3] .(31/439)
على أن القرآن يحوي بين دفتيه الكثير من العلوم والمعارف المختلفة. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . الأنعام:38 وقال جل شأنه: {َنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . النحل:89 وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين" [4] . وفي ما أخرج البيهقي عن الحسن أنه قال "أنزل الله مائة وأربعة كتب وأودع علومها أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان" [5] . إذن فالقرآن العظيم هو الجامع الشامل لكامل الدين. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ... } الشورى: 13.
وفي تقديري ... أنه ليس على المؤرخ حرج في أن يستنبط حقائق التاريخ من آيات الله البينات. فالقرآن مأدبة الله، وهو أدسم الموائد قاطبة. ويمكن لكل من أوتى حظا من العلم أن يتناول ما يناسبه من هذه المائدة الدسمة علما بأن فريقا من العلماء قد جوز استعمال بعض آيات القرآن في التصانيف والرسائل والخطب [6] . والتاريخ علم ويمكن أن نأخذه من القرآن. وعلى حد تعبير الزركشي: "وكل علم من العلوم منتزع من القرآن، وإلا فليس له برهان" [7] .(31/440)
وفي المبتدأ ينبغي لي أن أثبت حقيقة ناصعة لا تقبل الشك ألا وهي أن ما ورد في القرآن الكريم من التاريخ حق لا ريب فيه. وآية ذلك أن القرآن كتاب عزيز: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . فصلت:46. فلم يتصد للقرآن بالنقد والرفض في مطلع الدعوة الإسلامية إلا المشركون من أهل مكة الذين لم يؤمنوا بآيات الله سبحانه وتعالى وهي القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم-، فقالوا إن محمدًا كان يتلقى القرآن من قين (حداد) نصراني كان النبي عليه الصلاة والسلام يدخل عليه [8] . علماً بأن ذلك النصراني كان أعجميا لا يعرف العربية أو على الأقل لا يجيدها وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .النحل:103.
ولا نزاع في أن زعماء المشركين بمكة كانوا يعلمون أن ما جاء به النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - حق قال تعالى: {… فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .الأنعام: 33. فها هو أبو جهل- أحد صناديد قريش وسادتها- يقول قولته المشهورة حينما سئل عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فقال: "والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط".
ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش!؟ " [9] . إذن فإن أبا جهل إنما كان ينطلق من منطلق النعرة الضيقة والتفاخر بين الأسر القرشية. فلم يعجب بعض القرشيين أن يكون من الهاشميين نبي يأتيه الوحي من السماء، وهم لا يدركون ذلك. فأقسموا بالله ألا يؤمنوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم - ولا يصدقوه [10] . هذا بالطبع أحد الأسباب الأخرى التي جعلت المشركين يقفون موقف العداء من الدعوة الإسلامية.(31/441)
أما في العصر الحديث فقد تصدى للقرآن ونبي الإسلام بعض المستشرقين ومن ورائهم الكنيسة التي أشاعت بين الأوروبيين أن القرآن لم يأت بغير أساطير أستمد أصولها من المدراش والتلمود وبعض ما ذهب إليه الفكر المسيحي. بل إن التحريف قد أصاب القرآن في أكثر من موضع!! [11] . بيد أن الكنيسة التي أعماها التعصب ضد الإسلام والبغض له، لم تستطع أن تبين موقفا واحدا حدث فيه تحريف أو تغيير في القرآن، ولن تستطيع أن تفعل ذلك لأن القرآن محفوظ بعناية الله وما ينبغي لبشر أو شيطان أن يعبث فيه. وكان حريا بالكنيسة أن تتذكر أن التوراة والإنجيل هما اللذان أصابهما التحريف. وفي هذا الصدد يقول الطبيب الفرنسي والعالم المستشرق موريس بوكاي في كتابه التوراة والإنجيل والقرآن والعلم في ضوء المعارف الحديثة لما ما نصه: "لا يستطيع أحد أن يقول كيفَ كانت النصوص الأصلية، وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها أو ما نصيب التحريف المقصود من قبل كتبة هذه النصوص أو ما نصيب التعديلات غير الواعية التي أدخلت على الكتب المقدسة" [12] .
أما أعداء الله من المستشرقين الذين هاجموا القرآن فمنهم من البريطانيين: الفرد جيوم (A.Geom) وهـ. أ. ر. جِبْ (H.A.R.Gibb) ومن الفرنسيين: لوى ماسينيون، ومن المجريين: جولد تسيهر وهو يهودي أصلا، ومن الأمريكيين: كينيت كراج. ثم يأتي أعداء الإسلام من العرب المسيحيين أمثال: فيليب حتى المؤرخ اللبناني، وعزيز عطية سوريال المصري، ومجيد قدوري العراقي. وكل أولئك قد تميزوا بحقدهم على الإسلام والمسلمين.(31/442)
ويتبع هذه القائمة تلاميذ المستشرقين من المسلمين الضالعين في ركابهم الآكلين من شتات موائدهم وعلى رأس هؤلاء الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي""مسألة الانتحال والوضع في الشعر الجاهلي"تأكيدًا لنظرية الشك في كل ما جاء بالعربية من شعر ونثر ومن ذلك القرآن الكريم. فهو يرى أنه يتعين على الباحث أن يخضع كل ما ورد من أخبار الأمم السابقة وقصصهم في القرآن إلى هذا المنهج وهو الشك ويخلص من ذلك إلى أن القرآن ليس وحيا الهي وبذلك حقق هدفا من أهداف الاستشراق وهو أن القرآن موضوع وليس وحيا من الله، سبحانه وتعالى [13] . وفي هذه الضلالة التي تردى فيها طه حسين زعم أنه كان يحكم منهج ديكارت الفيلسوف الفرنسي. فضل الطريق وضلل تلاميذه [14] . وجدير بالذكر أن الإمام الغزالي قد سبق ديكارت لهذا المذهب. وما قرره ديكارت هو أنه يجب علينا ألا نقولَ عن شيء أنه حق إلا إذا قام البرهان على أنه كذلك. ومن الحقائق التي وصل إليها ديكارت في فلسفته: "أن ما وجد في الدين واضحا جليا فهو حق يجب أن يسلم به تسليما" [15] .
ومن هنا نستطيع القول بأن طه حسين لم يكن دقيقا فيما ذهب إليه عن مذهب ديكارت. وقد تبين لبعضهم أن الدكتور طه حسين كان واقعا تحت عبودية فكرية تمثلت في كتابه "الأدب الجاهلي"الذي كان ترديدا لآراء غلاة المستشرقين المتعصبين ضد العرب والإسلام أمثال: مرجيليوث الذي نقل طه حسين آراءه كلها في كتابه الأدب الجاهلي ونسبها إلى نفسه [16] ، وكتاب مرجليوث هذا هو "أصل الشعر العربي".
هذا، وقد رميت من هذا الاستطراد إلى أن القرآن حق لا يتطرق إليه الشك. وأن ما ذكره المستشرقون ومن سار في ركابهم لا يمس كتاب الله في قليل أو كثير على حد قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل(31/443)
وعلى ذلك فما على المؤرخ إلا أن يعد عدته ويأخذ من القرآن ما يحتاج إليه في تدوين الأحداث التاريخية موقنا بأن هذا الكتاب أصدق وثيقة على وجه الأرض، وأنه قد سما بنظراته العلمية والتاريخية عن الارتباط بحوادث تاريخية أو قضايا علمية مشكوك في صحتها [17] .
على أن القرآن لم يفصل كثيرا من الحقائق عن المسائل الشرعية إذ ترك مسألة التفاصيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليوضح ما غمض، وليفصل ما أجمل وليحلل ما أوجز. ومن هنا تأتى أهمية السنة المطهرة في التشريع الإسلامي. فإذا كانت هذه هي حال القرآن تجاه الأمور الشرعية، فمن الأولى أن يكون ذلك كذلك بالنسبة للتاريخ.
ولنا أن نتساءل لماذا لم يتناول القرآن الأحداث التاريخية بالأسلوب التاريخي المعهود؟ وفيما قدمت آنفا فإن من أهداف التنزيل دعوة البشرية إلى الحق وإلى سلوك النهج القويم. فالقرآن يتناول الأحداث بأسلوب إجمالي لأغراض الدعوة والإنذار والتبشير. ويتبع نفس الأسلوب وهو الإشارات الإجمالية في ذكر آيات الكون التي تشير إلى حكمة الله وراء خلق العالم [18] .
هذا ويمكن أن نقسم هذا الموضوع إلى فترتين متميزتين: الأولى عن القرآن وتاريخ الأمم السابقة، والثانية عن القرآن والحقبة الإسلامية. ولأن الحقبة الإسلامية قريبة منا نسبيا إذا ما قارناها بتاريخ الحضارات السابقة، وأن تاريخها قد سجل في كتب السيرة وكتب التاريخ الإسلامي عامة، فإني سأكتفي بالحديث في هذا المقام بما تيسر لي عن العهود القديمة السَابقة للإسلام.(31/444)
أما عن الفترة الأولى فإن القرآن الكريم، فيما نعلم، قد تضمن قصص الأنبياء وأشار إلى أخبار الأمم السابقة. ويطلق بعضهم على هذا الجزء "أيَام الله" [19] . وتعني عند بعض المفسرين وقائع الله بأعدائه [20] .وعند آخرين معناها "نعم الله" [21] .ومهما يكن من شيء فإن تلك الأحداث والوقائع التاريخية عن الماضين من الأمم لتثبت أن للكون إلها واحدا أرسل رسله بالهدى ودين الحق. وهو الذي يحدد مصير الشعوب وأقدار الحضارات [22] .
ولهذه الأحداث التاريخية أهميتها إذ بين الله في القرآن أخبار الأمم الماضية وما فعله بها لكي يفهموا أمر الله وتوحيده [23] .
ولعله من المهم في عصرنا هذا تدوين علم الآثار القرآني بصورة أكبر لتصبح الرؤية بالنسبة للباحثين والدارسين واضحة. فالمؤرخون القدامى لم يستطيعوا تسجيل الأحداث بأسلوب التدوين التاريخي السليم. والآن، وبعد أن تم اكتشاف سجلات ووثائق كثيرة عن تلك الأحداث بدراسة الآثار ونتائج الحفريات، أضحى من اليسير شرح الإشارات القرآنية حول أيام الله وتوثيقها تاريخيا، وبالتالي تدوين الدعوة القرآنية بلغة التاريخ [24] .
إذا التفتنا بعد ذلك إلى تاريخ الأمم السابقة للإسلام في القرآن وبدأنا بالحضارة العربية في اليمن، ألفينا القرآن يشير إلى مملكة سبأ في سورة سبأ المباركة حيث يقول تعالى، وهو أصدق القائلين: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} سبأ: 15.
وبالرجوع إلى التفسير يتبين لنا أن سبأ أرض باليمن. ويقال إنها كانت قبيلة سميت باسم جدها من العرب [25] . ويقال إنها سميت بهذا الاسم لأنها كانت منازل ولد سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان [26] .(31/445)
ومهما يكن من شيء فإن أقدم الحضارات بالجزيرة العربية قد وجدت- فيما يبدو- باليمن حيث قامت الدولة المعينية وحاضرتها معين (1300-.65 ق. م) ثم ورثتها الدولة السبئية (950-1115 ق. م) وعاصمتها مأرب. وكان للسبئيين أعمال عمرانية منها السدود كسد مأرب الذي بنى من الحجارة، وهو أعظم سد في الجزيرة العربية. وكان أشبه بخزان عظيم لمياه السيول التي تتكون من الأمطار الساقطة من الجبال. وثمة "قناطر وسدود وأحواض تدل على نبوغ أهل اليمن في فن العمارة وهندسة المباني ومعرفتهم بأنظمة الرى" [27] . فلا غرو فقد أشار القرآن الكريم إلى "الجنتين"ويعني بذلك البساتين التي كانت تحف جانبي الطريق أو عن يمين واديهم وشماله. وهما رمز الخصوبة والنماء. فقد وجدت في آثار سبأ لوحات وتماثيل من المرمر والرخام والبر ونز لسنابل القمح والبقر والخيل [28] . فضلا عن نقاء هواء سبأ الذي بينه القرآن في قوله تعالى: {وبلدة طيبة} .ووفق تفسير الجلالين فإن معنى طيبة "أنه ليس فيها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ويمر الغريب وفي ثيابه قمل فيموت القمل لطيب هوائها" [29] .
ولم يكن اقتصاد سبأ زراعيا فحسب، بل كانت منفتحة على العالم الخارجي ومزدهرة تجاريا إذ كان من أهم أعمال السبئيين الملاحة في المحيط الهندي والبحر العربي حيث كانوا يسيرون سفنهم فيها حسب الرياح الموسمية [30] .(31/446)
وعلى الرغم من كل هذه النعم التي تمثلت في أوجه التطور المتعددة، والرخاء، وهناءة العيش إلا أن مدن سبأ وقراها كفرت بأنعم الله ولم تستجب لدعوة أنبيائه الذين بعث بهم إليها، والذين بلغت عدتهم ثلاثة عشر نبيا دعوا أهل سبأ لتوحيد الله الواحد الأحد الفرد الصمد. ولكنهم أعرضوا عن الإيمان وإجابة الرسل، ولم يشكروا لله أنعمه [31] . وآية ذلك أنهم كانوا يصرون على عبادة آلهتهم المتعددة ومنها عثتر (الزهرة) وذات حميم (الشمس) وذات بعدان (القمر) . قال تعالى على لسان هدهد سليمان عليه السلام عن بلقيس ملكة سبأ: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} . النمل24.
ومما يفسر إشارات الله تعالى هنا ما اكتشفه علماء الآثار عن هذه المعابد الكثيرة التي مازالت آثارها باقية تدل عليها بمأرب وغيرها [32] .
على أن بلقيس، ملكة سبأ، قد آمنت بالله وبرسوله سليمان عليه السلام. وحين آبت من أورشليم إلى بلادها شيدت هيكلا بمدينة مأرب لعبادة الله وحده. وقد أطلق عليه "هيكل سليمان"وترى منه الآن أعمدته الجرانيتية الضخمة وأسس من بقاياه مسجد يعرف الآن بمسجد سليمان عليه السلام بمدينة مأرب الحديثة التي تشغل الآن جانبا من المدينة الأثرية القديمة.(31/447)
وأكبر الظن أن السبئيين لم يواصلوا عبادة الله على دين سليمان عليه السلام، بل ارتدوا إلى تقديس آلهتهم المتعددة القديمة وكان من الطبيعي أن يلقوا الجزاء وفاقا على كفرهم وصدهم عن سبيل الله إذ أرسل إليهم سيل العرم. فجرف ديارهم وجناتهم وبدلهم أشجارا ذوات ثمر مر لا يسمن ولا يغنى من جوع، ومن ذلك الخمط وهو الأراك، والأثل وهو نبات الطرفاء والسدر. قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} . سبأ: 6 ا-17.
وبعد أن تصدع بناء سد مأرب في القرن الثاني من الميلاد، بعد أثنى عشر قرنا من الزمان، حلت الكوارث بالبلاد، وأصبح من العسير العيش فيها، فلم يملك الناس إلا أن يهاجروا إلى بلاد أخرى ويتفرقوا أيدي سبأ [33] . وقد نظمت أشعار في هذا الحدث التاريخي الكبير أذكر منها قول الأعشى:
وفي ذاك للمؤتسي أسوة
ومأرب عفا عليها العرم
رخام بنته لهم حمير
إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزرع وأعنابها
على سعته ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون
منه على شرب طفل فطم [34]
تلك إذن كانت حال الجنوب العربي فيما يتعلق بمعتقدات الناس.
أما في شمالي الجزيرة العربية فقد وجدنا ثمود- قوم صالح عليه السلام - بوادي القرى الذي ذكر في الشعر حيث يقول الشاعر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد(31/448)
ويسمى ذلك الوادي وادي الحجر الذي ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} . الفجر: 9,0ويقع في شمال غرب المدينة المنورة بين خيبر وبحر القلزم. وفيه ديار ثمود [35] . وفي قرية الحجر بئر ثمود التي مر بها النبي- صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في طريقه إلى غزوة تبوك (رجب سنة 9 هجرية) فنهى أصحابه عن شرب مائها والوضوء منه للصلاة. وما كان من عجين عجنوه أمرهم أن يعلفوه الإبل ولا يأكلوا منه شيئا [36] ومن البين أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - خشي أن تحل لعنة ثمود على المجاهدين في سبيل الله فأمرهم بقوله: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم" [37] .
وفيما ورد من أخبار ثمود أنهم ورثوا أرض عاد التي أهلكها الله بذنوبها فعمروا الأرض، وفجروا العيون، وغرسوا الحدائق والبساتين، وشادوا القصور في السهول (للصيف) ، ونحتوا من الجبال بيوتا للشتاء، وتمتعوا بسعة العيش. بيد أنهم لم يحمدوا لله فضله عليهم، إذ أشركوا به، وعبدوا الأوثان [38] . ومن أصنامهم ود، وشمس، ومناف، واللات وغيرها [39] . وكما نعلم أن قريشا وغيرها كانت في الجاهلية تعبد بعض هذه الأصنام. وقد أرسل الله تعالى نبيه صالحا إلى ثمود ليوحدوا الله ولا يشركوا به شيئا. قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . الأعراف: 73.(31/449)
غير أن أصحاب الحجر قد كذبوا رسولهم صالحا، وأعرضوا عن آيات الله وهي الناقة وغيرها. بل عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم. فما هي إلا أن أهلكهم الله بذنوبهم. قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . الأعراف: 78.
ويهمنا الآن أن آثار ثمود المتمثلة في بيوتهم المنحوتة في الجبال مازالت باقية إلى يومنا هذا ماثلة للعيان وهي تتفق مع ما ورد في كتاب الله الكريم حيث يقول تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} . الحجر: 82. ويطلق على هذه الآثار اليوم "مدائن صالح ". بيد أن قصورهم التي شادوها في السهول ظلت مطمورة تحت أطباق الثرى بعد أن مرت عليها الدهور الطويلة.
والمأمول اليوم في الأوساط العلمية أن يوجه المسؤولون من العرب عنايتهم ويستثمروا جزءا من أموالهم في عمليات التنقيب عن آثار ثمود وغيرها سيما وأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا عربا. فصالح أحد أنبياء العرب الأربعة وهم هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام [40] . وتحضرني بهذه المناسبة حقيقة وهي أن قصة هود عليه السلام وقومه، قبيلة عاد التي وردت في القرآن (الأعراف وهود والشعراء) قد صدقتها المكتشفات الأثرية الحديثة في منطقة الأحقاف [41] .التي تقع في شمال شرق حضرموت قرب البحر العربي.(31/450)
ومن القصص القرآني قصة قوم لوط عليه السلام- أهل سدوم- القرية التي كانت تعمل الخبائث وعلى رأسها ممارسة اللواط، ذلك الشذوذ الجنسي الذي لم يسبقهم أحد على مدار التاريخ الماضي إلى ممارسته. ولم تكن أفعالهم الخبيثة مقصورة على تلك الفاحشة فحسب، بل كانوا يفعلون المنكر علانية في ناديهم فلا يستترون. فلا غرو فقد تفشت فيهم الموبقات [42] . وما هي إلا أن أوحى الله إلى لوط عليه السلام أن يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ارتكاب الكبائر حتى صموا آذانهم، واستكبروا، وتحدوه أن يأتيهم بالعذاب من الله إن كان صادقا، بل توعدوه بالنفي من بلدهم [43] . فما كان من لوط إلا أن سأل ربه أن يوقع بهم العذاب الأليم على كفرهم وفجورهم. فسلط الله على مدنهم زلزالا جعل عاليها سافلها، وأتبع ذلك بوابل من الحجارة دمرتها تدميرا. قال تعالى:
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . الحجر: س3 7-75.
ويعتقد بعضهم أن البحر الميت، المعروف الآن ببحر لوط وبحيرة لوط لم يكن موجودا قبل الزلزال الذي دمر سدوم وغيرها حتى صارت أخفض من سطح البحر بنحو أربعمائة متر! وقد جاءت الأخبار في السنين الماضية بأن المهتمين بالحفريات في الأردن قد اكتشفوا آثار مدن قوم لوط على حافة البحر الميت [44] . وليس ذلك بمستغرب فالله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه العزيز أن تلك المدن تقع في طريق دائم يمر عليها الناس، حيث يقول: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . الحجر: 76.(31/451)
ولا نزاع في أن هذا الاكتشاف العظيم الذي قام به المهتمون بالآثار في الأردن حديثا يؤيد ما ورد في القرآن الكريم عن المؤتفكات أو المنخسفات وهي مدن قوم لوط. ولعل أعمال الحفر والتنقيب تسير قدما في هذا الحقل حتى تميط اللثام عن كثير من الحقائق التي أشار إليها الله تعالى في كتابه المبين، فتقنع المرتابين المتشككين في آيات الله البينات، وتزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
بعد هذه الإلمامة بشيء عما ورد في القرآن الكريم من إشارات عن تاريخ جزيرة العرب والشام، نتجه شطر العراق القديمة لنقف على بعض الإشارات القرآنية الخاصة بذلك البلد. والحديث عن العراق القديمة يجرنا بالضرورة إلى أن نتطرق إلى قصة إبراهيم عليه السلام.
فالخليل عليه السلام من أرض بابل. وبلدة أور الكلدانية التي تقع بين دجلة والفرات والتي تعرف اليوم باسم مغير هي مهده [45] . وكانت أور أعظم مدن السومريين وقد وجد علماء الآثار بها بقايا مملكة ازدهرت حول عام 2900 ق. م. وقد اكتشفوا من الكنوز والنفائس ما يرقى إلى مستوى المدنية المصرية القديمة. ومما يؤكد أن إبراهيم نشأ بأور أن المستر وولى المبعوث من قبل المتحف البريطاني في الأعوام 1922-1934 م قد وجد رقيما طينيا في حفرياته بإحدى دور السكن بأور مكتوبا عليه اسم إبراهيم، فسمى الشارع باسم إبراهيم الذي يقال إنه نشأ في ذلك الحي سنة 2000 ق. م [46] .(31/452)
ولعل في هذا الاكتشاف، وهو برهان مادي، عن نشأة إبراهيم عليه السلام في مدينة أور ما يكفي للرد على تشكك الدكتور طه حسين وإلى ما ذهب إليه في كتابه الأدب الجاهلي حيث قرر أنه لم يقم دليل تاريخي وفق الطرق الحديثة بوجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقصة هجرته إلى مكة وبناء الكعبة. حيث يقول: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة" [47] . ويخلص الدكتور طه حسين إلى نتيجة عبر عنها في ما نصه: "أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني" [48] .
وكان قوم إبراهيم عليه السلام أهل أوثان وكان أبوه آزر نجارا ينحت الأصنام ويبيعها. أما إبراهيم فقد أنار الله بصيرته وهداه إلى صراط مستقيم [49] . قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . الأنبياء: 51-54(31/453)
هذا ولعله من الأوفق أن نرجع مرة أخرى للذين في قلوبهم مرض، والذين لا يؤمنون بما جاء في القرآن العظيم إلا بعد ثبوت الدليل التاريخي القاطع. فنقرر أن بلاد ما بين النهرين القديمة بابل، وأور، ونينوى، وآشور، ونمرود وغيرها لتزخر بالمعابد التي خصصت لعبادة آلهة متعددة كالإله شمش وهو الشمس، والقمر (نانار) ، والزهرة (عشتار) ، والمريخ (مردوخ) ونابو (إله الكتابة) وغيرهم [50] . وكل هذه المعابد كانت تزخر بالأوثان وهي التماثيل التي كان الناس يعكفون لها ويقدسونها. الشيء الذي دفع إبراهيم عليه السلام ليحطم بعضها وفق ما ورد في القرآن الكريم. قال تعالى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} .الأنبياء: 57ـ 58.
وفيما نعلم أن إبراهيم عليه السلام كان يغتنم الفرص ويحاور قومه ويجادلهم في معبوداتهم ليصل بهم إلى حقيقة أو نتيجة هي أن المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له. فقد جاء في القرآن:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . الأنعام: 75-79.(31/454)
وهكذا تبرأ إبراهيم من شرك قومه بعد أن قال لهم إن الكوكب ثم القمر ثم الشمس ربى. قال ذلك على معنى الاستهزاء لهم لأنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجوم. فأنكر عليهم، فاستهزأ بهم، وقال لهم: أمثل هذا يكون الرب؟ [51] .
ومن آثار العراق القديمة التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله الكريم تل النبي يونس بن متى، ذي النون، صاحب الحوت عليه السلام. وهذا التل الذي يطلق عليه الآن "تل التوبة"يقوم اليوم في داخل أسوار مدينة نينوى القديمة من أرض الموصل، وهي العاصمة الثانية بعد آشور [52] . ولعلنا نذكر ما ورد في سيرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - أنه سأل عداسا النصراني، غلام بنى ربيعة بالطائف الذي أحضر له قطفا من العنب حين جلس يستريح في ظل حائط مما عاناه من آلام الضرب بالحجارة من سفهاء الطائف وصبيانها وعبيدها. من أي البلاد هو؟ فقال عداس من نينوى. فقال عليه الصلاة والسلام: "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: ذلك أخي يونس كان نبيا وأنا نبي" [53] .
ولعل آخر ما هدى إليه البحث الأثري في أيامنا هذه ما وافق القرآن الكريم في سورة الكهف. وقصة أهل الكهف معروفة. فأولئك الفتية الذين آمنوا بربهم ووحدوه، نأوا بأنفسهم عن قومهم المشركين الذين عبدوا آلهة متفرقة، وآووا إلى ذلك الكهف. قال تعالى: وهو أصدق القائلين:
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} . الكهف: 9-.1) . وفي هذه السورة المباركة يقول تعالى:(31/455)
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} . الكهف: 22.
وفي تفسير هذه الآية قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أنا من القليل هم ثمانية سوى كلبهم" [54] .وقد ثبت بالدليل القاطع صحة هذا الرأي إذ كشف الدكتور معاوية إبراهيم، عميد كلية الآداب بجامعة اليرموك بالأردن، في حفريات جامعة الأردن، كشف أهل الكهف في مدينة أفسوس القديمة حيث عثر في كهف قديم على ثمانية هياكل بشرية ومعها هيكل كلب، وهو كلبهم قطمير وقد تم هذا الكشف العظيم منذ خمس أو ست سنين. ولعل الدكتور معاوية إبراهيم يستقصي كل ما يمكن استقصاؤه في هذا الشأن، ومن ثم ينشر نتيجة اكتشافه هذا في الأوساط العلمية العالمية، فيلقى بذلك ضوءاً ساطعا على هذا الموضوع.(31/456)
هذا ... ومن تحصيل الحاصل أن أقرر أن القرآن العظيم أدق وثيقة على وجه البسيطة. فلا يرقى التوراة والإنجيل إلى دقة القرآن وآية ذلك أن هذين الكتابين قد عهد الله بحفظهما للبشر. وهؤلاء إما نسوا حظا مما ذكروا به، وإما كتموا بعض ما لم ينسوا أو حرفوا فيه، وزعموا أنه من عند الله تعالى [55] . فالرسل السابقون كانوا يتلقون الكتب السماوية وهي التوراة والإنجيل والزبور في حالة الوحي معاني، ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد لهم. ولذلك لم يكن فيها إعجاز [56] . أما القرآن فقد تكفل الله تعالى بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . الحجر: 9. ولا نزاع في أن القرآن قد مزق حجاب الماضي وروى لنا تاريخ الرسل، وحوادث الأمم السابقة [57] .
.. بل أكد القرآن صدق القصص القرآني، وأنه رواية لأخبار حدثت في الواقع دون إضافة أي خبر لم يحدث بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يوسف: 111.(31/457)
ومادام القرآن قد تفرد بهذه الصفات العظيمة فإن ما جاء فيه من قصص الأولين أمما وأفرادا، تاريخ لا يتطرق إليه الشك، وإن هدف من ذلك إلى الاعتبار والاتعاظ عسى أن يتطهر الناس من الأرجاس والفساد [58] . فضلا عن أن الله سبحانه وتعالى اتخذ من أنباء الغيب وأخبار الرسل والصالحين من عباده وأحاديث الأقوام الغابرين وسائل لشرح عقيدة التوحيد التي هي جوهر الدين، وما لقيه الأنبياء والمرسلون في سبيل بيان هذه العقيدة للناس من العنت والمتاعب والبلايا [59] ولا ننسى أن في قصص الأنبياء، وما لاقوه من إيذاء أقوامهم، وما تم لهم من نصر الله تعالى، تثبيتا للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم -، وتسرية عنه، وتأكيدا له أن نصر الله قريب [60] .
ولعله من الأوفق أن أشير هاهنا إلى الاختلاف بين القرآن والإنجيل فما يتعلق باحتواء الكتابين المقدسين على التاريخ. فالإنجيل يحوى بين دفتيه قسما يسمى "الأسفار التاريخية"، وهي خمسة أسفار تشتمل على قصص تاريخية منها قصة حياة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتاريخه وعظاته ومعجزاته. وثمة سفر أطلق عليه "رسالة أعمال الرسل"وتشمل قصص معلمي المسيحية لاسيما بولس [61] . أما القرآن، وإن لم يكن كتاب تاريخ، إلا أن الأحداث التاريخية التي تضمنتها قصصه إن هي إلا وقائع تاريخية لا ريب فيها، ويستحيل ألا يتفق معها التاريخ الصادق الذي كتبه الثقات من المؤرخين. وآية ذلك أن علم القرآن "يقيني" في حين أن علم البشر لاسيما في مجال التاريخ علم "ظني" [62] .(31/458)
إجمال القول إن القرآن الكريم أدق وثيقة سماوية بين يدي المجتمع البشرى. وبالتالي فهو أصدق مصدر للتاريخ ومن هنا ففي وسع المؤرخين على مر العصور أن ينهلوا من معينه الثر الذي لا ينضب. كيف لا وهذا الكتاب الحكيم الذي لا تحصى عجائبه قد حوى بين دفتيه عيون أخبار الأمم السالفة. وفي هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ستكون فتن قيل وما المخرج منها؟ قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم " [63] .
وإذا كانت إشارات القرآن إلى الأمم السالفة بحاجة إلى مزيد من الشرح والتفصيل، فإن الكشوف الأثرية مازالت تتمخض من حين إلى آخر عن بعض الحقائق التي من شأنها أن تلقى أضواء ساطعة على ما ورد في القرآن الكريم. وغني عن البيان أن أعمال المنقبين عن آثار الماضي ذات أهمية كبرى ليس في كشف النقاب عن التاريخ القديم فحسب، بل لأنها تعيننا أيضا على فهم معاني القرآن. وحقيقة الأمر أن علم الآثار وأعمال الحفريات، وإن حققت بعض الإنجازات في هذا الحقل، إلا أنها لازالت تقصر عن عرض أخبار الماضين بصورة متكاملة. على أن الأمل كبير في أن يتقدم العلم وتتطور وسائل التكنولوجيا الحديثة فتكشف من الحقائق ما يوضح للباحثين معاني الآيات البينات وما تضمنت من إشارات وقصص، فتخرس ألسنة المرجفين والحاقدين على الإسلام والمسلمين والطاعنين في كتاب الله المبين. وتعين فوق ذلك على إجلاء صورة الماضي فنكون على بينة من تاريخ العالم القديم. وعلى الله قصد السبيل.
ثبت المراجع
(1) أبو الأعلى المودودي: تفهيم القرآن، "الجزء الأول ". تعريب أحمد يونس (دار القلم. الكويت 1398 هـ 1978 م) .
(2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، "الجزء الثالث ". (بيروت 1385 هـ-1966م) .
(3) ابن هشام: سيرة ابن هشام، "الجزء الأول ". (القاهرة 383 1 هـ- 1963م) .(31/459)
(4) ابن عباس: تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، (بيروت، غفل من التاريخ) .
(5) ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر. (بيروت 1956 م) .
(6) إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي، (القاهرة 1964 م) .
(7) أحمد شلبي (الدكتور) : مقارنة الأديان: المسيحية (القاهرة 1978 م) .
(8) الجلالين: جلال الدين محمد بن على، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي: تفسير الجلالين (المطبعة الهاشمية بدمشق 1385 هـ) .
(9) المعالم الأثرية في البلاد العربية، "الجزء الأول ". أصدرته جامعة الدول العربية (القاهرة 1970 م) .
(10) بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى: البرهان في علوم القرآن، "الجزء الأول " (القاهرة 1376هـ- 1957 م) .
(11) جامعة الدول العربية: المعالم الأثرية في البلاد العربية، "الجزء الأول ". (القاهرة 1970 م) .
(12) جلال الدين السيوطى: الإتقان في علوم القرآن، "الجزء الثالث". (بيروت 1973 م) .
(13) طه حسين: في الأدب الجاهلى. (القاهرة 1958) .
(14) محمد الغزالي: فقه السيرة. (القاهرة 1976 م) .
(15) محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل إبراهيم، على محمد البخاري، وسيد شحاته: قصص القرآن (القاهرة 973 1 هـ- 1954م) .
(16) محمد متولي الشعراوي: الله والكون (القاهرة 1400 هـ- 1980 م) .
(17) محمد متولي الشعراوي: معجزة القرآن، "الجزء الأول " (القاهرة 1401 هـ- 1981 م) .
(18) محمد فريد وجدي: المصحف المفسر (القاهرة 1377 هـ) .
(19) موريس بوكاى: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم في ضوء المعارف الحديثة، ترجمة دار المعارف، (دار المعارف. القاهرة 1979 م) . ص 13.
(20) مصطفى السباعي (الدكتور) : الاستشراق والمستشرقون، (مكتبة دار البيان. الكويت 387 1 هـ 1968) . ص 10.(31/460)
(1 2) أصالة الحضارة العربية، (بيروت 1395 هـ-1975م) .
(22) عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، (بيروت 1353 هـ-1934م) .
(23) عبد الحميد كشك: مصارع الظالمين، (القاهرة. بلا تاريخ) .
(24) عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم (بيروت1980م) .
دوريات:
مجلة الاعتصام: العدد (9) ، شعبان 1398 هـ- يوليو 1978م، ص 17.
مجلة الوعي الإسلامي: السنة الثانية عشرة، العدد (137) ، غرة جماد الأول 1397 هـ أيار 1976، ص هـ 2.
مجلة الوعي الإسلامي: العدد (206) 1402هـ- ديسمبر 1981م ص 13 ا-114.
مجلة منار الإسلام: العدد الثامن، شعبان 03 4 1 هـ- مايو- يونيو1982 م، ص 85.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الدكتور عبد المنعم النمر: علوم القرآن الكريم. (دار الكتاب المصري القاهرة 1399 هـ/ 1979 م) ص 3.
[2] محمد متولي الشعراوي: معجزة القران. "الجزء الأول". (القاهرة 1401 هـ/ 1981 م) 197 ـ 8 0
[3] أبو الأعلى المودودي: تفهيم القران "الجزء الأول", تعريب أحمد يونس (دار القلم. الكويت 1398 هـ/1978) ص11-12
[4] جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: الإتقان في علوم القرآن ج2 (بيروت1973 م) . ص 26 1.
[5] المصدر السابق.
[6] لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي: البرهان في علوم القرآن. "الجزء الأول ". (القاهرة 376اهـ/1957م) ص 481.
[7] الزركشي المصدر السابق. ج1 ص8.
[8] تفسير الجلالين: ص 366
[9] ابن كثير: تفسير القرآن الكريم العظيم. جـ 3 (بيروت 1385 هـ/196م) ص18.
[10] المصدر السابق.
[11] أحمد البشبيشي: "المستشرقون والإسلام على ضوء التراجم "مجلة الوعي الإسلامي، السنة الثانية عشرة. العدد"137". غرة جمادى الأولى 1397هـ أيار 1976م ص25.(31/461)
[12] موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم في ضوء المعارف الحديثة.ترجمة دار المعارف. (دار المعارف القاهرة 1978م) ص13.
[13] إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون العالم العربي والإسلامي. (القاهرة 1964 م) . ص 83.
[14] عبد الجواد محمد الخضري: (الرافعي: تارخ لن ينسى وذكرى لن تموت) . مجلة الوعي الإسلامي. العدد "206".
1402هـ ديسمبر 1981م ص 113 ـ114.
[15] أنور الجندي: نظرية ديكارت ومنهج الشك الفلسفي في كتاب الأدب الجاهلي مجلة منار الإسلام. العدد الثامن السنة
الثامنة شعبان 1403هـ- مايو- يونيو 1982. ص 85-86.
[16] الدكتور مصطفي السباعي. الاستشراق والمستشرقون. (مكتبة دار البيان. الكويت 1387 هـ 1968م) .
ص10.
[17] الدكتور السيد الدرش: سبأ في القرآن "مجلة المسلمون "العدد 42، 24. شوال 1402 هـ-13 آب أغسطس 1982، ص 68.
[18] وحيد الدين خان: "نحو علم كلام جديد". مجلة الاعتصام. العدد 9. شعبان 1398 هـ- يوليو 1978 م. ص 17.
[19] وحيد الدين خان: "نحو علم كلام جديد"، المصدر السابق. ص 17 انظر سورة الجاثية. الآية 14.
[20] محمد فريد وجدي: المصحف المفسر. (القاهرة 1377 هـ) ص 662.
[21] ابن كثير تفسير القرآن العظيم. الجزء الربع. ص 109.
[22] وحيد الدين خان: نحو علم كلام جديد المصدر السابق ص 17.
[23] تنوير القياس من تفسير ابن عباس (بيروت. غفل من التاريخ) ص 111.
[24] وحيد الدين خان: نحو علم كلام جديد. المصدر السابق. ص 17.
[25] تفسير الجلالين. ص 576.
[26] عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم. (بيروت 1980 م) . ص 289.
[27] الدكتور ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية. (بيروت1395 - 1975 م) ص 86،87.(31/462)
[28] توجد هذه اللوحات والتماثيل في متحفي مأرب وصنعاء. وهى مصورة في كتاب المعالم الأثرية في البلاد العربية الذي أصدرته جامعة الدول العربية. جـ 1. (القاهرة 1970م) . ص ا 26-277- 279- هـ 30.
[29] تفسير الجلالين: ص 567.
[30] الدكتور ناجى معروف: أصالة الحضارة العربية. ص 88.
[31] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس. ص 360.
[32] أنظر كتاب المعالم الأثرية في البلاد العربية: المصدر السابق ج ا. ص221، 223، 231، 233، 235، 247،249، 255.
[33] المعالم الأثرية في البلاد العربية. جـ 1 ص 206 و212.
[34] سيرة ابن هشام الجزء الأول. (القاهرة 383 1 هـ-1963م) . ص 7.
[35] تفسير الجلالين: ص 349.
[36] سيرة ابن هشام: جـ4. ص 948.
[37] من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري ومسلم.
[38] محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل إبراهيم، على محمد البجاوي، وسيد شحاته: قصص القرآن. (القاهرة 1373هـ - 1954م) .ص25.
[39] عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم: المصدر السابق ص 92.
[40] عبد الحميد كشك. مصارع الظالمين (القاهرة. بلا تاريخ) ص15.
[41] الدكتور محمد رجب البيومى "رسول معجزته البيان "، مجلة الوعي الإسلامي السنة الثانية عشرة. العدد 137.غرة جماد الأولى 1396 هـ- أيار 1976 م. ص55.
[42] أحمد جاد المولى. قصص القرآن. المصدر السابق. ص 64- 65.
[43] أحمد جاد المولى. قصص القرآن. المصدر السابق. ص 64- 65.
[44] عبد الوهاب النجار. قصص الأنبياء (بيروت 353 اهـ 1934) ص 113.
[45] عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم. المصدر السابق. ص 107.
[46] المعالم الأثرية في البلاد العربية. ج ا. ص 47.(31/463)
[47] نظرية ديكارت ومنهج الشك الفلسفي في كتاب الأدب الجاهلي، مجلة منار الإسلام العدد الثامن. السنة الثامنة شعبان 1403 هـ- يونيو 1983م. ص 89.
[48] المصدر السابق.
[49] عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، المصدر السابق ص 79.
[50] المعالم الأثرية في البلاد العربية:جـ 1 ص 34،55،78،84.
[51] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: المصدر السابق.ص 113.
[52] المعالم الأثرية في البلاد العربية.جـ 1، ص54 ـ55.
[53] محمد الغزالي:فقه السيرة. (القاهرة 1976م) .ص133.
[54] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ص245.
[55] محمد متولي الشعراوي. الله والكون- (القاهرة1400 هـ - 1980 م) . ص 22.
[56] ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون. (القاهرة 1930 م) ص 367، إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي (القاهرة 1384 هـ- 1964 م) ص 87.
[57] محمد متولي الشعراوي: معجزة القرآن (القاهرة 398 1 هـ- 1978 م) . ص 38.
د. رشدي عليان، د. قحطان عبد الرحمن الدوري علوم القرآن. (بغداد 1980م) ص147.
[58] د. رشدي عليان، د. قحطان عبد الرحمن الدوري علوم القرآن. (بغداد 1980م) ص 147.
[59] فتحى رضوان: خصائص القصة القرآنية، مجلة منبر الإسلام. العدد 110 السنة …. 34 ذو القعدة 1396 هـ نوفمبر 1976م.ص 14.
[60] عودة الله منيع القيسي. صحة الحدث التاريخي والقصص القرآني. مجلة منار الإسلام. العدد الثامن شعبان 1403هـ مايو- يوليو 983 1 م. ص100.
[61] الدكتور أحمد شلبي. مقارنة الأديان: المسيحية (القاهرة 1978 م) . ص202.
[62] عودة الله منيع القيسى: صحة الحدث التاريخي في القصص القرآني. المصدر السابق. ص 106.
[63] أخرجه الترمذي وغيره. انظر السيوطى: الإتقان في علوم القرآن. ص125 ـ126.(31/464)
لا ... لخصُوَمةِ المسْلِمِ مَعَ الدُّنيَا وَالنّاس
للدكتور جميل عبد الله محمد المصري
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين.
الحمد لله الذي أراد للأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وأعز بتأييده وتوفيقه الصادقين الصابرين من عباده المخلصين وصلى الله عليه. سيدنا محمد رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين وخاتم النبيين. وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد ظهرت في عالم المسلمين المعاصر نغمات منحرفة ناشزة تزعمها عدد من الكتاب المشهورين تتّهم المسلمين بالعصبية والفوقية وبأنهم ينظرون لغيرهم بالدونية، وهذه تعبيرات دخيلة على الإسلام وعلى الفكر الإسلامي وعلى الحضارة الإسلامية، قُصد منها التلاعب بالألفاظ والشعارات ممّن انبهر بالحضارة الغربية بشقيها الرأسمالية والاشتراكية، ومن هؤلاء من تطاول فاتهم المسلم أنّه في خصومة مع الدنيا كما هو في خصومة مع الناس. وكيف يتأتى لمسلم - صحيح الإسلام - أن يكون في خصومة مع الدنيا أوفي خصومة مع الناس وهو يحيا الحياة بكل ما فيها، اختصه الله بخلافة الأرض وأعمارها ونشر الخير فيها، فالإسلام لا يقر الرهبانية ولا الزهادة بمعنى اعتزال الحياة، وليست الزهادة بتحريم الحلال، ولكن الزهادة هي أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وما يسميه الناس من زهد المسلم وتعففه هو التزام بمنهج الإسلام وحسن خلافة في الأرض، فهو يعمل ويجهد نفسه ليقدم خيراً لأمته، طاعة لله إذ حثّ على العمل- قال تعالى:
{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} . سورة الملك: 15.(31/465)
وجعل كسب المال من عبادة الله أو التقرب إليه إذا قصد به المسلم الإنفاق على أهله أو على أرملة أو مسكين، أو قصد إخراج زكاة المال، أو غرس غرسه فأكل منها طير أو إنسان أو حيوان. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة" [1] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" [2] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" [3] .
وهكذا فرض الإسلام كفالة مشتركة بين أهله، وجعل العجزة والضعفاء والمحرومين موضع تقديركبير، فلم يطالب بإسقاطهم من المجتمع، بل أوجد لهم حمايات وضمانات كاملة، واعتبرهم موضع الرزق والنصر: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" [4] .
هذا الحث على السعي والعمل يجعل خصومة المسلم مع الحياة بعيدة ولا وجود لها إلا في أوهام أعداء الإسلام والمسلمين فالدنيا مطية للآخرة، وأعمال المسلمين أيام عزّهم دليل على التزامهم بنصوص دينهم، فالثراء الذي حازه عبد الرحمن بن عوف [5] ، والزبير بن العوام [6] ، وطلحة ابن عبيد الله [7] ، وعثمان بن عفان [8] ، وهم من الصحابة- رضي الله عنهم جميعا- وغيرهم كثير. أمثلة على أن الدنيا ليست هدفاً للمسلم ذاتها بل هي مطية للآخرة.
فالمال عند المسلم وسيلة لا غاية، وطريق لا هدف، فالمال لله وحده والإنسان مستخلف فيه، استخلفه للانتفاع به وتوجيهه في سبيل الله ومصلحة الأمة، وكما كرّم الإسلام السعي والعمل قال صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" [9] . كرّم الإنفاق، فالمال تطهره الصدقة. قال تعالى:(31/466)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . سورة التوبة: 103.
وأمر بتداول المال بين الناس دون تداوله بين طائفة خاصة. قال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} . سورة الحشر: 7.
وهذا من شأنه اتساع دائرة العمل والإنفاق، وقد قيد الشرع الإسلامي حق التصرف بالإنفاق فمنع السرف والتقتير. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . سورة الأنعام: 141.
وقال سبحانه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} . الإسراء: 29.
وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .سورة الفرقان: 67.
وحث الشرع على تنمية الثروة وفق ضوابط معينة على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار":
فمنع الغش- قال صلى الله عليه وسلم: "من غشّنا فليس منا" [10] .
والربا فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . (سورة البقرة: 275) .(31/467)
والاحتكار. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ" [11] . وأنكر احتكار الثروة بيد طبقة واحدة، واحتكار التجارة في الأسواق العامة، ومنع كنز الأموال وتوعد الله سبحانه من يفعل ذلك بالعذاب الشديد. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . سورة التوبة 34- هـ 3. وحرّم أكل أموال الناس بالباطل، ومنع الرشوة. قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} . سورة البقرة: 188.
وتكفلت الدولة في الإسلام من لا مال له ولا عمل عنده، وتتولى إيواء العجزة وذوي العاهات.
هذا هو التوازن للنفس والمجتمع والأمة، وليس صحيحاً أن تصرف فئة من المسلمين ينسحب على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين عموماً، فالتعميم العشوائي والقياس الشمولي دون تمَحيص، أسلوب درج عليه أعداء الإسلام والمسلمين المبهورون بحضارة الغرب من أبناء هذه الأمة عن قصد ليحفروا هوّة بين المسلمين ودينهم، وأي ظلم أفدح وأعظم من قياس الإسلام على أوضاع المسلمين الراهنة؟ والأعجب من كل ذلك أن يُتهم المسلم وممن ينتسب إلى الإسلام بأنه في خصومة مع الناس- فمتى كان ذلك؟!.
لقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراَ، وجاء يبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاَ كبيراً [12] .(31/468)
والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى- فورثته الأمة- وعلى المسلم يقع عبء هداية الإنسانية، وتبصيرها بالطريق الصحيح، وعليه عبء الأخذ بيد العميان إلى الهدى والسبيل القويم، وقام المسلمون بهذا التكليف خير قيام فانتشر الإسلام بسرعة عجيبة في أقطار الأرض، سرعة عجز كثير من المؤرخين عن تفسيرها لعدم إدراكهم روح الإسلام وحركته.
لقد انتشر الإسلام بالقرآن الكريم وعمارة الصدور به، كان المسلم يحمله ويتمثله قولاً وعملاً وسلوكاً وقانوناً، فيتحرك بالقرآن، وفي أقل من قرن من الزمان امتدت دولة الإيمان والإسلام من حدود الصين شرقا [13] إلى المحيط الأطلسي غربا [14] ، ومن جبال البرانس شمالا [15] إلى الصحراء الكبرى والمحيط الهندي جنوباً، شاملة العالم القديم بأسره [16] . نقل خلالها المسلمون عقيدة الإسلام وروحه ومفاهيمه إلى الناس فارتفعوا به وتساموا ... ولم تكن هذه الفتوحات للغلبة أو السيطرة أو الاستعمار بمفهومه الحديث، بل كانت حركة لنشر عقيدة الإسلام الخالصة، وإزالة الحواجز من طريق هذه الدعوة، فلم يكن الهدف إزالة ملك أو دولة، ولذا فإن من قبل الإسلام وطبقه من أهل هذه البلاد وخضع للإسلام ترك وشأنه وأقرّ على حكم بلاده، وكانت هذه الفتوحات طريقا لتحرر الفكر من القيود التي فرضتها أوضاع الجاهليات التي سادت والاضطهادات الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية- فكان المسلمون كما قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس في القادسية عام 14 هـ: "إن الله ابتعتنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" [17] . وسرعان ما وجدنا من يشارك من تلك الأمم في حركة المد الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً- فضمت كتائب الإسلام العرب والبربر والعجم ... فكيف نفسر تخلي أصحاب العقائد العريقة عن عقائدهم واندماجهم(31/469)
في المجتمع الإسلامي، بل وتخليهم عن لغاتهم العريقة ثم حملهم للإسلام وقبولهم له عقيدة وشريعة ومنهج حياة وتكلمهم بلغته- لغة القرآن؟ وكيف يفسر انتشار الإسلام الهادي بعد ذلك في إندونيسيا والملايو والفلبين والصين وأواسط إفريقيا وشرقها وجنوبها- وركوب المسلمين البحر وابتكاراتهم واختراعاتهم وإنجازاتهم العلمية؟ كيف نفسر كل ذلك إذا كان المسلمون في خصومة مع الناس؟.
نعم أصاب المسلمين انحراف تدريجي عن منهج نشر الهدى في كل الأرض ولكنهم ظلوا قبساً منيراً يُعلمون الناس ويهدونهم إلى سواء السبيل إلى أن وصلوا درجة انحسروا في داخل أنفسهم وركنوا عن الحركة والانطلاق ... وعندئذ انقضت عليهم الجاهلية تغمرهم بظلالها البالغ في الطغيان حتى خرج كثير منهم من دين الله واتبعوا خطوات الشيطان. مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . سورة الرعد: 11.
لم تظهر خصومة المسلم مع الناس إلا عندما اهتزت عقيدته، وانحط فكره، وضعف تصوره للإسلام ورسالته، وهذا ليس لأنه مسلم بل هو انحراف عن نهج الإسلام، ومن الظلم أن نطلق ذلك على المسلم الحق أو على أحد الفقهاء الأجلاء الذين فهموا الإسلام من منابعه الأصلية ومن خلال تطبيقاته على أرض الواقع في بلاد الإسلام، وآراء الفقهاء الأجلاء وتمحيصاتهم هي أجل وأعظم ما أنجزته الحضارة الإسلاَمية في ميادينها- وهى شاهدة على حيوية الأمة الإسلامية وعلى قدرتها على العطاء وعلى قيادة العالم إلى الخير، وشاهدة على ما في الإسلام نفسه من حركة وحيوية قادرة على أن تحرك هذه الأمة في كل وقت وحين، حركته حركة نابعة من القرآن والسنة الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا الحوض" [18] .(31/470)
وقد أشار الإمام الشافعي للسنة "بالحكمة" [19] .في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . سورة الجمعة: 2. ولقد حفظ الله سبحانه وتعالى كتابه في ألفاظه وكلماته منقولا بالتواتر مدوناً على أسلم ما يكون النقل والتدوين. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} . سورة الحجر: 9. وكذلك حفظ بيانه بما كان من عمل الفقهاء والمحدثين، حتى اختصت الأمة الإسلامية دون غيرها بالإسناد فكان اجتهاد الفقهاء من خلال النصوص، وإذا كان النص قطعي الثبت لا شبهة فيه فليس عندهم اجتهاد يصيب ويخطئ بل هو التسليم إذ: "لا اجتهاد في موضع النص". ولم يذكر أحد من الفقهاء أن المسلمين صنف متميز ومتفوق من البشر لمجرد كونهم مسلمين، ولكن الإسلام أعطى بحق أفضلية للملتزم به، والإسلام ليس لطبقة ولا لجنس فهو دين للناس كافة تتساوى فيه سائر الأجناس في الحقوق والواجبات، لا يعترف بطبقية ولا عنصرية ولا كهنوتية. قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . سورة الحجرات: 13. "فلا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى". وهذه دعوة للمساواة بين بني البشر. طبق المسلمون ذلك طيلة فترة دولتهم التي استمرت عشرة قرون الدولة الأولى في العالم. فبلال العبد الحبشي يعتلى ظهر الكعبة ليؤذن للصلاة [20] ، وسليمان الفارسي يتولى المدائن [21] ، وطارق بن زياد البربري يقود جيش الإسلام فيفتح الأندلس [22] ، وكافور الأخشيدي يتولى مصر [23] ، والمماليك يحكمون في مصر والشام [24] . والهند [25] . وآل عثمان يتولون الخلافة الإسلامية [26] والموحدون [27] ، والغزنويون [28] وغيرهم، وغيرهم يقودون حركة الجهاد.(31/471)
والناس شئنا أم أبينا مؤمن وكافر، والكفر نكران لنعمة الله وهديه، وأي شيء أفظع من إنكار رسالة الإسلام والدين عند الله الإسلام؟ والتنكر لرسول الإسلام- "محمد رسول الله" [29] ، والإسلام أجلّ نعم الدنيا يتمناه الكافر يوم القيامة- قال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . سورة الحجر: 3. ويشترك المؤمن والكافر في الإنسانية وهي ليست ديناً وليست مبدأ ينبثق منها عقيدة أو نظام حياة، بل هي بحاجة إلى تهذيب وإلى مقياس عادل صحيح، وليس ما يهذبها كالإسلام!!. ولو نحينا الإسلام جانباً ونادينا بالإنسانية فقط كما يحلو لكثير من الناس فهل نصبح نحن وأصحاب العقائد الأخرى على قدم المساواة؟ إن من يفعل ذلك كمن يلقى سلاحه أمام عدوه الحاقد ليتحكم فيه بما يشاء.(31/472)
فالقضية أساسا قضية عقيدة، وجهة نظر في الإنسان والكون والحياة وما قبل الحياة وما بعدها، ولا تؤخذ الحضارة إلا من منبعها وإلا انحرفت أو ذابت واضمحلت، ومنبع الحضارة الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبنية على عقيدة التوحيد،- والحضارة غير المدنية التي كثيراً ما يخلطها الكتاب بالحضارة المدنية - هي المظهر المادي منها المكيفات الأمريكية ولمبات تونسجرام الهنجارية، ومكبرات الصوت الهولندية، والأقمشة الإنجليزية، والحرير الياباني، والساعات السويسرية، والأحذية الإيطالية- والطائرات والسيارات ... وما إلى ذلك من مظاهر مدنية من مبتكرات العلم وهي ملك عام لجميع البشر بما ركب الله فيهم من قدرة على الابتكار والاختراع الصناعي، يستوي في الاستفادة منها المسلم وغير المسلم، ولا يجوز احتكارها، كما لا يجوز الانزواء عنها- ولا شأن للمخترعين واختراعاتهم بالجنة والنار، بالإسلام والكفر، فمن يكفر بالخالق الذي يستحق العبادة وحده لا يمكن أن يبتغى بعمله خدمة الإنسانية حقاً، ولن ينفع المشتغلين بالبحث العلمي يوم القيامة علمهم إذا كانوا كفاراً ولن يضر الجاهلين بالعلم يوم القيامة جهلهم إن كانوا مؤمنين.(31/473)
ومن الغريب العجيب أن يدعي بعض الكتاب أن هناك خللاً في علاقة المسلمين بغيرهم، وأن يزعم أن المسلمين اتخذوا من الآية الكريمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . سورة آل عمران من الآية 115. شهادة بالفوقية للمسلمين، في الوقت الذي لم يذكر أحد من المسلمين لا من المفسرين ولا من الفقهاء الإجلاء ولا من غيرهم من علماء هذه الأمة مثل ذلك، ولا يستشهد بالآية إلا مرتبطة بأسسها الثلاثة: الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والإيمان بالله، وحينئذ تصبح الأمة الإسلامية فعلاً خير أمة أخرجت للناس لأنها تكون قائدة وهادية، فهي تكليف قبل أن تكونَ تشريفا. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . سورة فصلت: 33، فالمسلم داعية إلى الله يعمل صالحاً فينال التكريم.(31/474)
ويعلق بعض الكتاب على الفقهاء الأجلاء من استنباطاتهم في الآية الكريمة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . سورة التوبة: 29، وهى آية واضحة المعنى بينة ليس فيها من المتشابه شيء، فقد قامت دعوة الإسلام على الجهاد بمعنى بذل الجهد مطلقا في حرب وغير حرب في التبشير بالرسالة الإسلامية وتأييدها ونشرها والدفاع عنها حرباً وسلماً، والجهاد كلمة إسلامية خاصة بالمسلمين ولا يصح إطلاقها إلا على ما كان في سبيل الله- وهو ذروة سنام الإسلام [30] وأفضل العبادات [31] و"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [32] . وقد قال أحد الفقهاء: "اعلم أن الجهاد إنما يتحقق إذا كان خالصاً لله تعالى ويكون لإعلاء كلمة الله عز وجل وإعزاز الدين ونصرة المسلمين، أما من جاهد وغزا لحيازة الغنيمَة واسترقاق العبيد واكتساب اسم الشجاعة وتحصيل الصيت، أو طلب دنيا أو امرأة، فإنه تاجر أو طالب وليس بمجاهد" [33] . فالقتال في الإسلام نوع من الجهاد في سبيل الله وليس من أجل الاستيطان أو إبادة الغير كالاستعمار الأوروبي الذي واكب حركة الكشوف الجغرافية [34] ، ولا هو من أجل السيطرة والاستعلاء واستعباد الغير وإذلالهم واستغلال خيراتهم ونهب ممتلكاتهم كما هو واقع الاستعمار الأوروبي الحديث الذي رافق حركة الثورة الصناعية [35] ولا لاحتكار الخيرات واستغلالها كالاستعمار المعاصر اليوم [36] ، الجهاد إنقاذ للبشرية من ضلالها، وتحريرها من طواغيتها المادية والمعنوية- حتى يصبح الناس أمام دعوة الإسلام وجها لوجه، ولا يستهدف أبدًا إكراههم على الدخول فيه واعتناقه، ولا يستهدف الغنائم والإسلاب،(31/475)
بل يترك الخيار لكل إنسان. قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . سوره الكهف: 29، فلا إكراه ولا عنت ولا مشقة ولا محاكم تفتيش [37] ، ولا خطف أطفال [38] ، ولا تضييق في المعاش، ولا فرض لغة أوتشريد وتهجير وتجويع [39] . قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . سورة يونس: 99.
ومن مبادئ الحرب في الإسلام أن يعرض المسلمون على الأعداء أحد أمرين قبل القتال: الإسلام أو الجزية، فمن أجاب للجزية قبل الحرب فليس هناك ذل أو صغار، أما من حارب حتى رضخ للجزية فهو الصغار الذي هو الخضوع لحكم الإسلام. قال الإمام الشافعي: "وسمعت عدداً من أهل العلم يقولون: إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام" [40] .
وهذا هو محتوى الآية الكريمة. فالجزية في أبسط مفاهيمها في الإسلام ضريبة على الذمي من رعايا الدولة الإسلامية مقابل ضريبة الجهاد المفروضة على المسلم، وهى في مقابل حمايته، وإذا عجز المسلمون عن حمايته سقطت الجزية- فعندما صالح خالد بن الوليد أهل الحيرة قال:
"إني عاهدت على الجزية والمنعة ... فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا" [41] . وتسقط هذه الجزية عن الذمي إذا قام بواجب الدفاع عن دار الإسلام [42] ، ودليل ذلك ما صنعه عتبة بن فرقد مع أهل أذربيجان: "عليهم أن يؤدوا الجزية قدر طاقتهم إلا من حشر منهم في سنة فيوضع عنه جزاء تلك السنة" [43] . كما يعفى منها من لا يستطيع القتال كالمرأة والصبي والشيخ الكبير ورجل الدين فمن من الفقهاء والحال هذه استدل أن هذا فوقية للمسلم على غيره؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} , الكهف: 5.(31/476)
لقد بلغ تسامح المسلمين مبلغاً لم يمر ولن يمر من غيرهم في تاريخ البشرية فلم يضيقوا على المخالفين [44] فيما يعتقدون حتى فيما اعتقده المسلمون حراما، فسمحوا للنصارى بالخمر والخنزير- قال الشافعي أحد الفقهاء:
"علينا أن نمنع أهل الذمة إذا كانوا معنا في الدار وأموالهم التي يحل لهم أن يتموّلوها مما نمنع منه أنفسنا وأموالنا من عدوهم إن أرادهم، أو ظلم ظالم لهم، وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم، وأموالهم التي يحل لهم، فإذا قدرنا استنقذناهم وما حل لهم ملكه ولم نأخذ لهم خمراً ولا خنزيرا" [45] .
وعلى من يريد التلاعب بالألفاظ أن يدرك أن الإسلام هو سنة الله في الكون، والفطرة التي فطر الناس عليها، أما أن الإسلام يتغير بتغير الزمان والمكان فإنه براء من ذلك- فالإسلام لا ينحني لا لزمان ولا لمكان، فالزمان والمكان يخضعان للإسلام ولا يخضع لهما- هو طراز خاص في الحياة متميز عن غيره من خالق الزمان والمكان يعالج ما يجدّ من أمور من خلال الخطوط العريضة التي جاء بها كتاب الله وجاءت بها سنة رسول الله، وهي معانٍ عامة تعالج جميع مشاكل الإنسان في الحياة في كل زمان ومكان، يستنبط منها كل مسألة إنسانية بحيث تجعل العلاج في مستنداً إلى قاعدة متينة تندرج تحتها جميع الأفكار عن الحياة، وتكون مقياسا تبُنى عليه جميع الأمور الفرعية، وكل المعالجات والمعاني منبثقة من عقيدة التوحيد، مستنبطة من خطوط الشريعة العريضة. وقد حدد الإسلام للإنسان القواعد الأساسية ولكنه لم يحدّ عقله بل أطلقه، وقيد سلوكه في الحياة بوجهات نظر معينة، فجاءت نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة أمل باسم وجدّية واقعية، كما جاءت نظرة تقدير لها مفصلة على قدرها من حيث أن يجب أن تنال ومن حيث أنها ليست غاية، يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة التي هي دار البقاء والخلود.(31/477)
وكما أن رسالة الإسلام شاملة لجوانب التنظيم التي تستند إليها المجتمعات الصحيحة وتقوم على أساسها الحياة الإنسانية الكاملة مما ينظم شئون الأفراد والمجتمع والأمة، فإنها عنيت بمطالب الروح والجسَد، ولبت رغبات البطن والعقل والفرج بالقسطاس والعدل على أساس من الحق والخير والتوازن مما يكفل سعادة الإنسان في السلم والحرب [46] ، ومن هنا تنزل القرآن الكريم منجماً، فلكل حادث حديث، فالآية الكريمة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . سورة الأنفال: 39. "وهي التي حاول بعض الكتاب أن يضع حول معانيها الشبهات". نزلت في شركي مكة والجزيرة العربية- ولكن ماذا نقول اليوم في عالمنا المعاصر عن مذابح المسلمين في فلسطين ولبنان وأفغانستان وإريتريا والفليبين وفطاني؟ وماذا نقول لما يصيب المسلمين في الهند ونيبال والصين وروسيا وجنوب إفريقية؟ بل ماذا نقول لما يصيب المسلمين من اضطهاد في أرض المسلمين نفسها؟ وهل زال الجرح العميق الذي أحدثه أعداء المسلمين في الذاكرة الإسلامية؟ الذي ابتدأ بتدبير المؤامرات لتقويض الدولة الإسلامية من داخلها تلك التي بدأها يهود المدينة ونصاراها بالاشتراك مع المجوس [47]- وبقيت تسير في مسلسلات دامية إلى أن قضى يهود الدونمة على الخلافة العثمانية [48]- والدول الأوروبية الصليبية التي قادت الهجمات الشرسة على المسلمين [49] وتكالبت عليهم وأبادتهم في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وسردينيا والبلقان والقرم وشاشان وشركسيا وفنزويلا وقبرص- وهل انتهت هذه الهجمات حتى يزول هذا الجرح الغائر؟! وبماذا نردّ على اللورد ويفل من كبار القواد الإنجليز وساستهم الذي نقل عن إحدى المجلات الإنجليزية صورة رمزية للقائد الإنجليزي للنبي في عودته من الحرب في فلسطين وقد كتب تحتها: "العودة من الحروب الصَليبية". ولأسقف نيويورك الذي أرسل إلى رئيس أساقفة كانتربري(31/478)
برقية من مائة أسقف وشكره على المساعي التي يبذلها في الحروب الصليبية التي تبذل ضد بقاء الأتراك في الآستانة [50] . وللقائد الفرنسي بييركيلر الذي صرح بالدوافع الصليبية فقال في كتابه عن "القضية العربية في نظر الغرب"صفحة 119:
"إن مصالح فرنسا في الشرق الأوسط هي قبل كل شيء مصالح روحية، وتعود هذه العلاقات إلى عهد الصليبين حيث وقعت معاهدات لحفظ الأماكن المقدسة، وجددت هذه المعاهدات على مرّ القرون، وتحملت فرنسا مهمة حماية نصارى الشرق [51] ، وللجنرال غورو الذي قصد قبر صلاح الدين عند دخوله دمشق بعد ميسلون [52] عام 1920م فقال: "قم يا صلاح الدين- نحن أبناء غودفرى عدنا إليك منتصرين". وغودفرى كان أبرز القادة الصليبين الذين نكلوا بالمسلمين في الحملة الصليبية الأولى [53] .
لقد تخلىّ العربي بالإسلام عن عصبيته القبلية وآمن بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . سورة الحجرات: 13. فسالم مولى أبي حذيفة المجهول الأب يؤم المسلمين في هجرتهم إلى يثرب وفيهم الصحابة منهم- عمر بن الخطاب- لأنه كان أقرأهم [54] . وأما من بقي على عصبيته فقد عد جاهليا، إذ لما تقاول أوسي وخزرجى بفعل الدسائس اليهودية تنادى الأوس والخزرج: السلاح- السلاح فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال غاضباً: "الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ... " [55] . فذاك الذي بقيت لديه عنجهية العصبية والتفاخر بالآباء لا يجوز قياس الإسلام عليه أو اعتباره حجة على الإسلام، بل الإسلام حجة عليه. فقد كان عمر بن الخطاب يقول: "أبو بكر سيدنا اعتق بلالا سيدنا" [56] .(31/479)
وأما تعصب المسلم للإسلام فلأنه على حق وعلى قناعة جازمة، فلا يجوز أن يتهم في تعصبه بأنه ذو اعتقاد باطل ينحاز إلى موقف الجماعة دون اختيار ودون تفكير وأنه يستعلي على الآخرين كما وصفه أحد الكتاب ظلماً وعدواناً، إن التعصب للحق موقف الشرفاء من البشر أصحاب العقائد القوية- والتعصب للباطل موقف الجهلة أعداء الإنسان- التعصب الأول فضيلة وواجب، والتعصب الثاني رذيلة ومنكر، التعصب للإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [57] هو لسعادة البشر وهو واجب على كل إنسان مستنير عرف الحق، لأن الحق إن لم يجد من ينصره ويعززه فسيجد الباطل المدعم بالقوة الفرصة أمامه لكي يسيطر ويضرب بجرّانه في أعماق الأرض، والتعصب العنصري والقومي والوطني والقبلي يقف ضد إنسانية الإنسان.
إن الصراع بين الإسلام وغيره في حقيقته صراع عقائدي بدأه أعداؤه من أول ظهوره، والواقع الشرعي يؤكد أن عداء الكفر للإسلام مستمر. قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [58] وهم صف واحد في مهاجمة الإسلام. قال تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [59] . والرسول –صلى الله عليه وسلم - يؤكد أن الجهاد ماض في أمته إلى يوم القيامة [60] وليس من سبيل إلى عزة المسلمين إلا بالتفاقهم حول عقيدتهم وفهمهم أبعاد الصراع لا بالتنازلات التي تتلوها تنازلات.
وإن تحجب فعجب قول أحد الكتاب المسلمين ضمن حملته على الفقهاء الإجلاّء وعلى المسلمين:(31/480)
"ولكن المقطوع إن أكثر الكتب الفقهية تعامل غير المسلمين عندما يتعلق الأمر بأحكام المعاملات- دعك عن العقائد والعبادات بقدر من الدونية لم يعد يليق بكرامة الإنسان". فهل أراد بقوله هذا أن يفتح المسلمون مساجدهم لغيرهم وأن توحّد المساجد والمعابد والكنائس والكنس؟ وهل أراد أن يجمع بين الوحدانية والثالوث، وبين المساواة بين بنى البشر وفكرة شعب الله المختار [61] ، وبين من يعتقد توحيد الربوبية والألوهية لله وحده ومن يقول: "لا إله والحياة مادة [62] ؟! لقد حاول أحد المتحذلقين أن يوفق بين الإسلام والبوذية قبل خمسمائة عام في الهند فماذا كانت النتيجة؟ مخلوق مسخ عجيب وغريب لا ينتمي إلى هذا ولا إلى ذلك سمي دين السيخ [63] أندحر معزولاً في بعض جهات الهند ونيبال ... والكل يعرف ما آلت إليه البهائية [64] .
لقد التزم الفقهاء الأجلاء بالنصوص في معاملة غير المسلمين- وآراؤهم في جملتها إسلامية عادلة- درسوا كل قضية على حدة في ظل أوضاع إسلامية تطبق فيها أحكام الشريعة. وفي تطبيق أحكام الشريعة ككل تبدو الهنات باهتة كليلة يرتضيها غير المسلم ويأنس بها ويسعد، وهمسة في أذن المتحاملين: كيف عاشت فئات غير إسلامية في المحيط الإسلامي الكبير طيلة عهد الدولة الإسلامية بين الغالبية المسلمة، في حين لم يستطع مسلم واحد العيش في ظل غير المسلمين في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وسردينيا وجنوب فرنسا وروسيا الأوربية وأمريكا الجنوبية؟ هل هناك من جواب؟(31/481)
لقد حافظ الإسلام على كرامة الإنسان- أي إنسان - مهما يكن لونه وجنسه ودينه ولغته ووضعه الاجتماعي، ففي الوقت الذي كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحلون ويحرمون [65] كان يوصي بهم خيراً، ويزورهم ويكرمهم ويحسن إليهم ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فقد استقبل وفد نجران في مسجده بحضرة المسلمين [66] وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود [67] ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبى الشحم اليهودي [68] وكان في وسعه أن يقترض من أصحابه ولكنه أراد أن يعلم أمته، وقد وقف لجنازة يهودي مرتّ به [69] . وسار أصحابه رضوان الله عليهم والمسلمون من بعدهم على هديه، فعمر بن الخطاب يمّر على يهودي يتسوّل فيبكى ويقول: "أكلناه في شبيبته، وخذلناه عند هرمه، ويفرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين" [70] ، وطعنه أحد أهل الذمة بالتآمر مع اليهود والنصارى [71] . وقال وهو في النزع الأخير: "أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا، أن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألاّّ يكلفهم فوق طاقتهم" [72] . فهل هناك جسور فوق هذه الجسور يجب مدّها بين المسلمين وبين غير هم؟ إنها جسور قائمة ولا تنقطع- لأن انقطاعها يعني انقطاع دعوة الإسلام- التي حفظها الله من الانقطاع- نعم ما انقطعت هذه الجسور منذ أن ظهر الإسلام وظهرت دولته وطبقت أحكامه على أرض الواقع، وما وهنت إلا عندما انحسرت أحكامه على أرض الواقع، ولكنه بقى على النطاق الفردي يهذب الإنسان. أما في مجال العقيدة- فما هي الجسور التي يمكن مدها بين عقيدة "لا إله إلا الله"وعقيدة تقول: إن الله ثالث ثلاثة [73] . أو عقيدة تقول الله خاص بنا ونحن أحباؤه وأبناؤه وما خلق الله البشر (في زعمهم) إلا لخدمتهم كالحيوانات (الجوبيم) [74] أو عقيدة مادية ملحدة مبنية على صراع الطبقات تقول الحياة(31/482)
مادة والدين أفيون مخدّر للشعوب [75] .
وعلينا في هذا المجال أن نتذكر أن هناك دينا وشريعة- وقد تشابهت دعوات الرسل جميعا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . سورة البقرة الآية: 285، وفي الحين الذي يعتقد المسلمون ذلك ولا يفرقون بين أحد من الرسل لا نجد عقيدة من العقائد الأخرى تعترف بالإسلام أو برسول الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه ... وقد اختلفت شرائع الرسل- قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . سورة المائدة: 48، وكانت شريعة الإسلام بما انطوت عليه من أحكام ينحني لها الزمان والمكان نهاية المطاف وخاتمته في تدرج الشرائع نحو الكمال-. إذن فالأولى أن يركز الكتاب على وجوب تركيز العقيدة في نفوس المسلمين- وعلى وجوب تطبيق شريعة الله في الأرض ليستريح برّ ويُستراح من فاجر، الأولى أن يبرزوا التعصب اليهودي وشوفينيته [76] والصهيونية وأهدافها وأساليبها في محاسبة الإسلام والمسلمين، والغرب المستعمر وتمييزه العنصري واستغلاله واحتكاراته، الأولى أن يبرزوا خصومة المعسكر الليبرالى مع الإنسان في تمييزه بين البيض والسود في أمريكا وفي جنوب إفريقيا وغيرهما، ومع الحياة التي تبرز في القلق وكثرة حوادث الانتحار، وأن يبرزوا خصومة المعسكر الاشتراكي مع الإنسان في عمله على خلق التناقضات بين بني البشر وتقسيمهم إلى طبقات متصارعة متعادية متنافرة باسم التطور والديالكتيك، ومع الحياة حين خالفت هذا المعسكر الفطرة ففقدت الحياة معناها وخضعت للآلة- الأولى أن يبرزوا مذابح المسلمين في الهند والفليبين وإرتيريا وجنوب إفريقيا وتايلاند وأن يدعو المسلمين للالتفاف حول عقيدتهم ليقودوا العالم إلى الهدى فهذا دورهم بعد أن أعلنت الحضارة الغربية الشرقية والغربية عن خوائها الإنساني وفراغها بأن كبلتها المادية وأعمتها الشوفينية فآذنت شمسها بالغروب [77] . والأولى(31/483)
أن ينادى الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً..} . سورة آل عمران: 64.
وليس غير الإسلام الذي ارتضاه الله دينا - من عقيدة وتشريع ومبدأ يرتفع بإنسانية الإنسان - وهو وحده الذي يقضي على عناصر الخوف والقلق والتنافس على المصالح والتحاسد وحب السيطرة والاستعلاء التي كرستها الرأسمالية والاشتراكية المتحكمة في عالم اليوم- ويوم تعود قيادة الدنيا للإسلام، تسعد البشرية- ولكل ليل فجر باسم بإذن الله، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه} . سورة الروم: هـ. {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .سورة البقرة من الآية: 214.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري: دار إحياء التراث العربي بيروت. ج7 ص 80
[2] نفسه ج7 ص 81.
[3] صحيح البخاري: تحقيق وتعليق محمود النوادي، محمد أبو الفصل إبراهيم، محمد خفاجىج3 ص 95 كتاب المزارعة صحيح مسلم. كتاب المساقاة- 7، 9، 2 1، أبو داود- البيوع رقم 67. سلسلة الأحاديث الصحيحة ناصر الدين الألباني، منشورات المكتب الإسلامي. الحديث رقم (8) .
[4] صحيح البخاري جـ3 ص 1061 الطبعة الثالثة دار ابن كثير اليمامة – بيروت – سنة النشر 1407هـ-1987م تحقيق د:مصطفى أديب البغا.
[5] هو عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري رضي الله عنه من أكابر الصحابة، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم.(31/484)
كان أحد أثرياء الصحابة ينفق ماله في سبيل الله وخدمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعده. عن الزهري: كان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضى دينهم، ويصل ثلثا. وكان لا يعرف من بين عبيده (سير إعلام النبلاء للذهبي ج 1ص88 ـ 89) طبقات ابن سعد ج 2 ص 124/ البداية والنهاية ج 7 ص 179) .
[6] هو الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي رضي الله عنه، حواري رسول الله مجحف وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، الصحابي الجليل الشجاع المقدام أحد العشرة المترين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى. كان مؤسراً كثير المتاجر وكان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فلا يدخل بيته من خراجهم شيئا بل يتصدق بها. قتله ابن جرموز غدرا بعد الجمل بوادي السباع على 7 فراسخ من البصرة سنة 36 هـ. (سير أعلام النبلاء ج ص ا 4-65، البداية والنهاية ج 7 ص 249،) .
[7] هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمى القرشي المدني رضي الله عنه من الأجواد وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى- كان يقال عنه: طلحة الجود وطلحة الخير وطلحة الفياض، لكثرة ثرواته وصدقاته وإنفاقه في سبيل الله. استشهد يوم الجمل سنة 36 هـ. بنبل غرب (طبقات ابن سعد ج 3 ص 4 21 0 الإصابة 2/ 1: 229/ تهذيب ابن عساكر ج 7 ص 71) .
[8] هو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي (رضي الله عنه) - الخليفة الثالث من الخلفاء
الراشدين. ذو النورين صهر رسول صلى الله عليه وسلم على ابنتيه- وأحد العشرة المبشرين بالجنة. كان غنياً شريفاً في الجاهلية ومن أعظم أعماله تجهيز جيش العسرة بماله. تولى الخلافة وهو أكثر المسلمين مالاً- واستشهد وهو أقلهم مالا سنة 35 هـ. أنظر الطبري. تاريخه ج5 ص145 الإصابة ج 2 ص 462. أسد الغابة ج 3 ص 376.
[9] صحيح البخاري ج 3 ص 50 كتاب البيوع..(31/485)
[10] صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 108 ,إيمان 164، أبو داود بيوع 50، الترمذي بيوع 72 ابن ماجة. بيوع 72. نيل الأوطار للشوكاني ص 325.
[11] صحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 43-44 0 المطبعة المصرية ومكتبتها، أبو داود بيوع 47 0 ابن ماجة. تجارات راجع 6 البخاري عن الاحتكار (بيوع) ج 3 ص 0 6 رقم 4 5، وأنظر نيل الأوطار للشوكانى ج هـ ص 336، والمنتقى في أخبار المصطفى ج2 ص 353 1 لأرقام: 2947- 2951.
[12] قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} . (الأحزاب: 45-47) .
[13] على يد القائد المسلم قتيبة به مسلم الباهلي الذي وصل في فتوحاته كاشغر وراسل ملك الصين وتهدده وتوعده فان تجاه لطلباته (البداية والنهاية ج 9 صر: 157-159) .
[14] على يد القائد المسلم عقبة به نافع الفهري الذي وصل المحيط الأطلسي فاقتحمه بفرسه وقال: "والله يا رب لولا هذا البحر المحيط لمضيت مجاهدا في سبيلك ".
[15] على يد طارق بن زياد وموسى به نصير (البداية والنهاية ج 9 ص 96) وقد اخترق المسلمون هذه الجبال ووصلت بقيادة عبد الرحمن الغافقي إلى أواسط فرنسا حيث ارتدوا إلى جنوب فرنسا بعد معركة بلاط الشهداء عام 132 هـ.
[16] وهو المعروف آنذاك من القارات: آسيا وإفريقيا وأوربا.
[17] البداية والنهاية ج 7 ص 44.
[18] كنز العمال ج 1 ص 173.
[19] الإمام الشافعي: الرسالة ص 32.
[20] ابن سعد. الطبقات ج 3 ق اص 167/ ابن هشام. السيرة ج 2 ص 413.
[21] والمدائن هي طيسفون وكانت عاصمة كسرى. انظر الطبقات ج 4 ص 221 / الإصابة ج 4 ص 223
[22] ولا يزال المضيق الذي عبره إلى الأندلس يسمى مضيق جبل طارق إلى اليوم.(31/486)
[23] ان كافور مولى السلطان محمد بن طغج لأخشيد اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا. كان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، توصل إلى حكم الديار المصرية والشامية والحجازية سنة 3 55 هـ. مدحه الشعراء ومنهم المتنبي الذي عاد فهجاه (البداية والنهايةج11/266) .
[24] خلف المماليك الدولة الأيوبية في مصر والشام والحجاز ودامت دولتهم من 250 ا-1517 م ومن أعظم مآثرهم في بلاد الإسلام:
(أ) رأوا التتار المغول عن ديار الإسلام بعد أن كسروا حدة موجتهم في معركة عين جالوت عام 658 هـ/1260م.
(ب) طهروا بلاد الشام من بقايا الصليبيين على يد الأشرف بن قلاوون سنة1291 م.
[25] حكم المماليك الهند الإسلامية 602ـ689 هـ/1290م ومن أشهرهم قطب الدين آيبك، والتمش 607-633 هـ الذي لقبه الخليفة العباسي المستنصر بالله ناصر أمير المؤمنين. وبلبن (الشيخ خان أي السيد الأعظم) الذي أشتهر بعدله وتمسكه الشديد بآداب الإسلام (ت سنة 686 هـ) .
[26] تنتسب الدولة العثمانية إلى عثمان بن ارطغرل التركي الذي انتقلت إليه زعامة الأتراك عام 687 هـ/ 1288 م. وأعلن استقلاله بإمارته عام 699 هـ/ 1300 م وأصبحت المنفس الوحيد للجهاد في الإسلام اجتذبت كل راغب فيه، وتمكنت من الاتساع وفتح القسطنطينية سنة 857 هـ/1453م. واتخذتها عاصمة لها. تنازل الخليفة العباسي للسلطان سليم عن الخلافة بعد أن دخل مصر فاتحا سنة 923 هـ/1517م. فأعاد العثمانيون للخلافة هيببتها إلى أن أسقطها كمال أتاتورك من جود الدونمة سنة1924م.
[27] الموحدون: دولة أسسها محمد بن عبد الله بن تومرت من البربر المغاربة سنة 515 هـ وقد خلفت دولة المرابطين في المغرب والأندلس. واستمرت هذه الدولة حتى سنة 668هـ (المغرب الكبير. (2) العصر الإسلامي. د. السيد عبد العزيز سالم ص 767-831) .(31/487)
[28] الدولة الغزنوية: مؤسسها سبكتكين التركي سنة 367 هـ في غزنة (بأفغانستان) ، وأشهر سلاطينها محمود الغزنوي. (387- ا 42) الذي لقبه الخليفة يمين الدولة وأمين الملة وقاد سبع عثرة غزوة إلى الهند فقضى فيها على الفرق الضالة من رافضة وقرامطة وغيرهم، ووطد حكم الإسلام في البنجاب ودهلي ولاهور وعمل على نشر الإسلام هناك. واستمرت هذه الدولة تحمل راية الإسلام في المشرق والهند إلى أن سقطت سنة 582 هـ على أيدي الغوربين الأتراك أيضا. انظر ابن كثير- البداية والنهاية ج 12، وابن الأثير ـ الكامل ج7.
[29] سورة الفتح الآية: 29.
[30] انظر زاد المعاد لابن القيم ج 2 ص 38.
[31] انظر نيل الأوطار للشوكانى ج 8 ص 62.
[32] انظر صحيح مسلم ج هـ ص 46 باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
[33] الخوارزمى- مفيد العلوم- ص 589.
[34] وهى الحركة التي قامت بها أوربا في القرن الخامس عشر والسادس عشر لتطويق العالم الإسلامي تمهيدا لضربه من الداخل
بعد أن عجزت عن ضربه في القلب في الحروب الصليبية التي استمرت قرنين. كما هدفت إلى كشف طريق تجارى لا يمر بديار المسلمين للعمل على إفقار العالم الإسلامي.
[35] أو الانقلاب الصناعي الذي شهدته أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي لإحلال الآلة محل الأيدي العاملة البشرية فزاد الإنتاج وازداد الشره على المواد الخام، فاتجهت أوربا للاستعمار لإيجاد أسواق لتصريف بضاعتها وللحصول على المواد الخام اللازمة للصناعة.
[36] الأمريكي والروسي الذي يقوم على السيطرة والابتزاز والاحتكار والألاعيب السياسية والمناورات.
[37] وهي المحاكم التي اتبعتها أسبانيا لمطاردة المسلمين في الأندلس والعمل على إبادتهم.(31/488)
[38] وهي السياسة التي أتبعتها روسيا القيصرية في بلاد المسلمين في عمليات لإجبار المسلمين على التنصر على المذهب الارثوذكسى.
[39] وهي السياسة التي اتبعها المستعمرون في مختلف بلاد الإسلام في الهند وأفريقيا وإندونيسيا والتركستان والقرم والقفقاس وغيرها.
[40] الشافعي- الأم- ج 4 ص 186.
[41] الطبري - تاريخ- ج 4 ص 16.
[42] انظر الكاشانى ج 7 ص 111.
[43] الطبري ج 5 ص 250.
[44] أنظر عهد عمر بن الخطاب لأهل إيلياء النصارى/ الطبري ج 3 ص 69. مجير الدين- الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ج 1 ص220.
[45] الأم للشافعي ج 4 ص 220.
[46] محمد الصادق عفيفي- المجتمع الإسلامي والعلاقات الدولية ص 29.
[47] تفصيل المؤامرة في كتاب: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن- الأول الهجري- تحت الطبع.
[48] وهم الدين تظاهروا بالإسلام تقية في سالونيك بعد أن فتحت لهم الدولة العثمانية ذراعيها فعملت على الإطاحة بها وتمكنوا
من ذلك على يد كمال أتاتورك سنة 1924 م. (أنظر- أنور الجندي- العالم الإسلامي والاستعمار ص 38) .
[49] وهى بريطانيا وفرنسا وروسيا وأسبانيا والبرتغال وهولندا وبلجيكا وإيطاليا.
[50] د محمد محمد حسين- الاتجاهات الوطنية ص 24.
[51] نفسه ص 24.
[52] المعركة التي انتصر فيها الفرنسيون على القوات العربية التي كان يقودها فيصل. واستشهد فيها يوسف العظمة. ودخل الفرنسيون دمشق سنة 1920 م.(31/489)
[53] سنة 492 هـ/1099م، وقد قتلت في ساحة المسجد الأقصى سبعين ألفا من المسلمين ومنهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف (ابن الأثير. الكامل ج 10 ص 282 ـ284، ابن الطبري- تاريخ مختصر الدول ص 197، غوستاف لوبون- حضارة العرب ص 324-327.
[54] ابن سعد- الطبقات ج 3 ق 1 ص ا 6/ سير أعلام النبلاء ج 1ص 168.
[55] ابن هشام- السيرة ج 2 ص 184.
[56] أخرجه البخاري في المناقب 3754/ والطبراني رقم 1015.
[57] سورة آل عمران: 19.
[58] سورة البقرة: 120.
[59] سورة المائدة51.
[60] انظر البخاري في كتاب الجهاد والسير.
[61] وهى الفكرة اليهودية التلمودية0
[62] وهى الفكرة الشوعية الملحدة.
[63] ومؤسس ديانة السيخ (السيك) هو بابانانك ولد سنة 1469م. وتوفي سنة 1538 وكان هذا الدين في بدايته أقرب إلى الإسلام منه إلى الهندوكية ثم إنه غدا بعد ضعف الدولة الإسلامية في الهند أقرب إلى الهندوكية وهو الآن دين قائم برأسه ويضمر أهله عداوة شديدة للإسلام والمسلمين.
[64] ظهرت في إيران على يد ميرزا على محمد عام 1260 هـ/1844م. (انظر البهائية للإحسان إلهي ظهير. خفايا الطائفة البهائية للدكتور أحمد محمد عوف) .
[65] قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} . سورة التوبة: 31.
[66] ابن هشام: السيرة. ج 2 ص 206.
[67] أبو عبيد: الأموال ص 613.
[68] الشافعي: الأم. ج3 ص 153.
[69] كشف الغمة ج 2 ص 215.
[70] د. سليمان محمد الطماوي: عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة صلى الله عليه وسلم ص 98.(31/490)
[71] في الدعوة الإسلامية: (د. جميل المصري- تحت الطبع) تفاصيل هذه المؤامرة.
[72] يحي بن آدم: الخراج 74- سنن البيهقى ج 9 ص 206 باب الوصاة بأهل الكتاب.
[73] العقيدة النصرانية التي أسسها بولس- شاود- والتي انحرفت عن المسيحية الموحْدة.
[74] العقيدة اليهودية التلمودية التي انحرفت عن شريعة موسى عليه السلام والأنبياء من بعده.
[75] العقيدة الشيوعية التي أسسها كرل ماركس اليهودي.
[76] شدة التعصب والانحراف كالذي ظهر عند الصهيونية والنازية والفاشية.
[77] انظر: انهيار الحضارة الغربية لاشينجلر. والإنسان ذلك المجهول لالكسيس كارليل.(31/491)
عُقُودُ الزَّبَرجَد على مُسْنَدِ الإمَام أحمَد في إعْرَاب الحَدِيث
ـ2ـ
تأليف: جلال الدين السيوطي
تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
مُسند أُبَّيْ بن كَعْب رضي الله عنه
1ـ حديث "ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فَرَقا" [1]
[في التمييز] [2] .
[عَرَقًا وفَرَقا] هما منصوبان على التمييز. فالأوّل محّوِل عن الفاعل، والأصل: ففاض عرقي، فحّول الإسناد إلى ضمير المتكلم، وانتصب عرقاَ على التمييز.
قال ابن مالك في شرح التسهيل [3] : "ممّيز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة. وإنما أطلق على هذا النوع بخصوصه مع أن كلّ تمييز فضلة يلي جملة، لأن لكلّ واحد من جزأي الجملة في هذا النوع قسطاً من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف غيره، فإن الإبهام في أحد جزأي جملته، فأطلق على مميزه مميّز مفرد، وعلى هذا النوع مميّز جملة. والأكثر أن يصلح لإسناد الفعل إليه مضافاً إلى المجهول فاعلا، كقولك في: طاب زيدٌ نفساً، و {َاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [4] : طابت نفس زيد، واشتعل شيب الرأس".
وقال الزمخشري في المفصّل [5] : هذه التمييزات مزالة عن أصلها، إذ الأصل وصف النفس بالطّيب، والعرق بالتصبب، والشيب بالاشتعال، وأن يقال: طابت نفسُه، وتصبب عرقهُ، واشتعل شيبُ رأسي، لأن الفعل في الحقيقة وصف في الفاعل. والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد.(31/492)
قال ابن يعيش في شرحه [6] : "ومعنى المبالغة أن الفعل كان مسنداً إلى جزء منه، فصار مسنداً إلى الجميع، وهو أبلغ في المعنى. والتأكيد أنه لما كان يفهم منه الإسناد إلى ما هو منتصب [به] ، ثم أسند في اللفظ إلى زيد تمكّن المعنى، ثم لما احتمل أشياء كثيرة، وهو أن تطيب نفسه بأن تنبسط ولا تنقبض، وأن يطيب لسانه بأن يعذب كلامه، وأن يطيب قلبه بأن يصفا انجلاؤه، بُيّن المراد من ذلك بالنكرة التي هي فاعل في المعنى، فقيل طاب زيدٌ نفساً، وكذا الباقي. فهذا معنى قوله: والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد".
انتهى
وأما الثاني فليس محّولاً عن شيء، وإنما هو مبيّن لجهة التشبيه، نحو: أنت الأسدُ شجاعةً، والبحرُ كرماً، والخليفةُ هيبةً.
وفي أوّل هذا الحديث عند مسلم [7] "فسُقِطَ في نفسي من التكذيب ولا إذْ كنتُ في الجاهلية":
[معنى سُقِط]
قال القاضي عياض [8] : "معنى سُقِطَ في نفسي لما أي أعزته حيرة ودهشة".
قال الهروي [9] في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [10] : "أي تحيّروا وندموا، يقال للنادي المتحيرّ على فِعْلٍ فعله: سُقط في يده. وهو كقوله: قد حصل في يده من هذا مكروه".
انتهى.
وقال أبو حيان في البحر [11] : "ذكر بعض النحويين أن قول العرب "سُقِطَ في يده"فعل لا يتصرف، فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول. وكان أصله متصرفاَ. تقول!: سَقَط الشيء إذا وقع من علو، فهو في الأصل متصّرف لازم ... وسُقط مبني للمفعول، والذي أوقع موقع الفاعل هو الجار والمجرور، كما تقول: جُلِسَ في الدار، وضحِكَ من زيد. وقيل: سُقِط يتضمن معقولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط، كما يقال: ذُهِبَ بزيد".(31/493)
قال أبو حيان: "وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط، لأن سُقِطَ ليس مصدره الإسقاط، وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يُسَّم فاعلُه، بل هو ضميره [12] . وقوله: "ولا إذْ كُنْتُ في الجاهلية".
قال أبو البقاء [13] : "تقديره ولا أشكل علىَّ حال القرآن إذْ أنا في الجاهلية كإشكال هذه القصّة علىَّ.
وقال التوُّرِبشْتي [14] في شرح المصابيح: قيل فاعل "سقط " محذوف، أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لمَ أقدر على وصفه، ولم أعهد بمثله ولا إذْ كنتُ في الجاهلية.
وقال الطّيبىّ في شرح المشكاة [15] : "قد أحسن هذا القائل وأصاب في هذا التقدير، ويشهد له قوله: "فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما غشيني"أي من التكذيب. فَ "مِنْ"على هذا بيانية. والواو في "ولا إذْ كنتُ"لما تستدعى معطوفاَ عليه، و"لا"المؤكدة توجب أن يكون المعطوف عليه منفياً، وهو هذا المحذوف. وهذا أسدّ في العربية من جعل "ولا إذْ كنتُ"صفة لمصدر محذوف، كما قدّره المظهري [16] ، حيث قال: "يعنى وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في تحسينه لشأنهما تكذيب أكثر من تكذيبي إياه قبيل الإسلام، لأن واو العطف مانعة، ولو ذهب إلى الحال لجاز على التعسّف".
قال: "وذكر المظهري أن "عرقاً وفرقاً"منصوبان على التمييز، والظاهر أن يكون "فرقاً"مفعولاً له، أوحالا، لأنه لا يجوز أن يقال: انظر فرقي".
قال: "وقوله: "فَرَدَدْتُ إليه أنْ هَوِّن على أمتي".
يجوز أن تكون "أنْ "مفسّرة [17] ، لما في رددتُ من معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، وإن كان مدخوله أمراً. وجوّز ذلك صاحب الكشاف نقلا عن سيبويه" [18] .
وقوله: "ولك بكُلِّ رَدَّةٍ مسألةٌ تسْألُنيها".
" تَسْألُنيها"صفة مؤكدة لمسألة، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [19] أي مسألة(31/494)
ينبغي لك أن تسألها، وأنك لا تخيب فيها. انتهى [20] .
2- حديث اللُّقَطَة "فإنْ جاء صاحِبُها وإلاّ استَمْتِعْ بها" [21] .
قال ابن مالك في توضيحه [22] : "تضمَّن هذا الحديث حذف جواب "إنْ "الأولى وحذف شرط "إنْ " الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل: فإنْ جاء، صاحبُها أخذها وإلا يجئ فاسْتمتعْ بها".
3- حديث: "يغسلُ ما مَسَّ المرأةَ منه" [23] .
قال أبو البقاء: -وهو أول حديث ذكره في إعرابه-: ""ما"بمعنى الذي، وفاعل "مسَّ "مضمر فيه يعود على الذي، والذي وصلتها مفعول "يغسل"، و" المرأةَ"مفعول "مسَّ ". ولا يجوز أن ترفع "المرأة"بمسَّ على معنى ما مسَّت المرأةُ لوجهين: أحدهما: أن تأنيث المرأة حقيقي، ولم يفصل بينها وبن الفعل فلا وجه لحذف التاء. والثاني: أن إضافة المسّ إلى الرجل وإلى أبعاضه حقيقة، قال تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [24] وإضافة المسّ إليها في الجماع تجوّز". انتهى.
4- حديث موسى والخضر: [25]
قال أبو البقاء [26] : "قوله: "أنَّى بأرضك السلام".
في "أنّى"ها هنا وجهان: أحدهما: من أين، كقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [27] فهي ظرف مكان. و"السلام"لما مبتدأ. والظرف خبر عنه. والثاني: هي بمعنى كيف، أي كيف بأرضك السلام؟ ووجه هذا الاستفهام أنه لما رأى ذلك الرجل في قفر من الأرض استبعد علمه بكيفية السلام. فأما قوله "بأرضك"فموضعه نصب على الحال من السلام، والتقدير: من أين استقرَّ السلام كائناً بأرضك؟ ".
وقوله: "موسى بني إسرائيل":
أي أنت موسى بني إسرائيل؟ فأنت مبتدأ، وموسى خبره.
وقوله: "فكلموهم أن يحملوهما فعُرف الخضر فحملوهما".(31/495)
المعنى أن موسى والخضر ويوشع قالوا لأصحاب السفينة هل تحملوننا؟ فعرفوا الخضر فحملوهم. فجمع الضمير في "كلموهم "على الأصل، وثنّى "يحملوهما"لأنهما المتبوعان، ويوشع تبع لهما. ومثله قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [28] فثنى ثم وحد لما ذكرنا.
وقوله: "قومٌ حملونا".
أي هؤلاء قوم، أوهم قوم. فالمبتدأ محذوف. وقوم خبره.
وقوله: "فأخذَ برأسه".
في الباء وجهان أحدهما: هي زائدة، أي أخذ رأسه. والثاني: ليست زائدة، لأنه ليس المعنى أنه تناولت رأسه ابتداء، وإنما المعنى أنه جرّه إليه برأسه ثم اقتلعه. ولو كانت زائدة لم يكن لقوله "اقتلعه"معنى زائد على أخذه.
وقوله: "لَوددْنا لو صبرَ".
"لو" هنا بمعنى "أنْ "الناصبة للفعل [29] ، كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} [30] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} [31] . وقد جاء بأنْ لا قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَه} [32] . و"صبر"بمعنى يصبر، أي وددنا أن يصبر". انتهى كلام أبى البقاء.
قلت: وبقى فيه أشياء منها قوله: "موسى بني إسرائيل":
فيه إضافة العلم وهو"موسى" إلى بني إسرائيل. والقاعدة النحوية أن العلم لا يضاف لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف الإضافة، إلا أنه جاء إضافة العلم قليلاً في قول الشاعر:
علا زيْدُنا يومَ النَّقا رأسَ زَيْدِكُم [33]
فأوّل على أنه تُخُيّل فيه التنكير لوقوع الاشتراك في مسمَّى هذا اللفظ، وكذا يؤول في هذا الحديث.
قال ابن الحاجب [34] : "شرط الإضافة الحقيقية تجريد المضاف من التعريف".(31/496)
قال الرضي [35] : "فإن كان ذا لام حذفه لامه، وإن كان علماً نكّر بأن يجعل واحداً من جملة من سمّي بذلك اللفظ ... قال: وعندي أنه يجوز إضافة العلم مع بقاء تعريفه، إذ لا منع من اجتماع التعريفين كما في النداء، نحو: يا هذا، ويا عبد الله. وذلك إذا أضيف العلم إلى ما هو متصف به معنى، نحو: زيدُ الصدّق، ونحو ذلك. وإن لم يكن في الدنيا إلا زيد واحد. ومثله قولهم: مُضمرُ الحمراء [36] ، وأنمارُ الشّاء وزيدُ الخيل [37] . فإن الإضافة فيها ليست للاشتراك المتفق… انتهى.
وقوله: "ما نَقَصَ عِلْمي وعلمُك مِنْ عِلْمِ الله إلا كنقرةِ هذا العصُفورِ مِنْ هذا البحْر"
ليس هذا الاستثناء على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل "نقص"بمعنى أخذ، وهو توجيه حسن، فيكون من باب التضمين [38] ، ويكون التشبيه واقعاً على الآخذ لا على المأخوذ منه. وقيل المراد بالعلم المعلوم بدليل دخول حرف التبعيض، لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمه لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض. وقيل هو من باب قول الشاعر:
بهنّ فُلولٌ مِنْ قِراع الكتائب [39]
ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفهُم
لأن نقر العصفور لا يُنقص البحر. وقيل "إلا"بمعنى "ولا"، أي ولا كنقرة هذا العصفور [40] . كما قيل بذلك في قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [41] ، أي ولا الذين ظلموا. لكن قال أبو حيان في البحر [42] : "إن إثبات "إلا"بمعنى "ولا"لا يقوم عليه دليل.
وقوله: "إني على عِلْم من عِلْم الله". "على"هنا للاستعلاء المجازى.
وقوله: "فبينما هُمْ في ظلِّ صَخْرة في مكانٍ ثَرْيان" [43] .(31/497)
قال ابن مالك في توضيحه [44] : " [ثَرْيان] ، هو بلا صرف، وفيه شاهد على أن منع أصرف، فَعْلان ليس مشروطا بأن يكون له مؤنث على فَعْلى، بل شرطه ألا تلحقه تاء التأنيث، ويستوي في ذلك مالا مؤنث له من قبل المعنى "لَحْيان" [45] ومالا مؤنث له من قبل الوضع كـ"ثَرْيان"، وما له مؤنث على فَعْلى في اللغة المشهورةكـ"سَكْران"". انتهى.
وقال الكرمانى [46] : "اللام في قوله (لَوَدِدْنا) جواب قسم محذوف. و (لوصَبَر) في تقدير المصدر، أي والله لوددنا صبر موسى. وهذا حكم كلّ فعل وقع مصدّراً بلو بعد فعل المودّة. قال الزمخشرى في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} [47] ودّوا إدهانك [48] . و (يُقَصّ) بصيغة المجهول. و (مِنْ أمرهما) مفعول ما لم يسمّ فاعله". [انتهى كلام الكرمانى] .
5- حديث: "فُرِجَ سَقْفُ بيتي" [49] الحديث.
وفيه "ثم جاء بطَسْتٍ مِنْ ذَهَب مملوءاً حِكْمةً وإيماناً فأفْرغَها في صدري".
قال أبو البقاء [50] : ""مملوءًا" بالًنصب على الحال. وصاحب الحال "طَسْت"لأنه وإن كان نكرة فقد وصف بقوله "مِنْ ذَهَب"فقرب من المعرفة ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الجار، لأن تقديره بطَسْتٍ كائنِ من ذهب أو مصوغ من ذهب، فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار. ولو روي بالجَر جاز على الصفة. وأما "حكمة وإيمانا"فمنصوبان على التمييز".
قال: "والطَّسْت مؤنث ولكنه غير حقيقي، فيجوز تذكير صفته حملاً على معنى الإناء"انتهى.
6- حديث: "أتَدري أي آيةٍ في كتابِ الله مَعكَ أعْظَمُ" [51] .
قال أبو البقاء [52] : "لا يجوز في "أيّ"هاهنا إلا الرفع على الابتداء و"أعظم"خبره. و"تدرى"معلّق عن العمل [53] ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه الفعل الذي قبله، وهو كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [54] ".(31/498)
وفي حديث عمران بن حصين "أتدرون أيُّ يوم ذاك" [55] : "أيّ "مبتدأ، و"ذاك "خبره. وقيل "ذاك " المبتدأ، و"أيّ "الخبر. ولا يجوز نصبه بتدرون البتة".انتهى.
7- حديث: "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سورة وعده أن يعلمه إياها، فقال أبيّ: "فقلت: السورةَ التي قلت لي" [56] .
قال أبو البقاء [57] : "الوجه النصب على تقدير اذكر لي السورة، أو علمني. والرفع غير جائز إذ لا معنى للابتداء هنا".
8- حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا إذا أصْبَحْنا أصْبَحْنا على فِطْرَةِ لإسلام، وكلمة الإخلاص، وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشرَكين" [58] .
قال أبو البقاء [59] : "تقديره: يعلّمنا إذا أصبحنا أن نقول أصبحنا على كذا، فحذف القول للعلم به، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم} [60] أي يقولون سلام عليكم".
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام [61] في أماليه [62] : "على" إذا استعملت نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [63] تدل على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئاً تمكن منه، واستقر عليه".
9- حديث "كأيّنْ تقرأ سورةَ الأحزاب أو كأيِّن تعدُّها؟ قال: ثلاثا وسبعين آية. قال: قط" [64] .
[كأيّن وقط]
قال أبو البقاء [65] : "أمّا "كأيّنْ"فاسم بمعنى كم. وموضعها نصب بتقرأ أو تعد. وقوله "ثلاثاً وسبعين"منصوب بتقدير أعدّها ثلاثاً وسبعين، فهو مفعول ثانٍ. وأما "قطّ"فاسم مبنى على الضم، وهو للزمان الماضي خاصة. ومنهم من يضمّ القاف، ومنهم من يفتح القاف ويخفف الطاء ويضمّها. ولا وجه لتسكينها هنا. والتقدير: ما كانت كذا قط". انتهى.
قلت: في "كأيِّن"خمس لغات. قال ابن مالك في الكافية الشافية [66] :(31/499)
وهكذا كَيَن وكأيِنْ فاسْتَبِنْ
وفي كأيِّنْ قيل كائِنْ وكَإنْ
وقال في شرحها: "أصلها "كأيِّنْ "وهي أشهرها، وبها قرأ السبعة إلا ابن كثير [67] . ويليها "كائِنْ"وبها قرأ ابن كثير، والبواقي لم يقرأ بشيء منها في السبع. وقرأ الأعمش [68] وابن مُحيصن [69] "وكأيِنْ"بهمزة ساكنة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة خفيفة، وبعدها نون ساكنة في وزن "كَعْيِنْ"ولا أعرف أحداً قرأ باللغتين الباقيتين".
وقال ابن الأثير [70] في النهاية [71] في هذا الحديث: "قوله "أقط "بألف الاستفهام. أي أحَسْب. قال: ومنه حديث حيْوة بن شُرَيح [72] : "لقيت عقبة بن مسلم [73] فقلت له: بلغني أنك حدّثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل المسجد: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" [74] قال: أقط؟ قلت: نعم".
وقال الأندلسي [75] في شرح المفصَّل: "قط"مخففة ومشدّدة. فالمخففة معناها. حَسْب، وهي مسكنّة مبنيّة لوقوعها موقع فعل الأمر. والمشدّدة معناها ما مضى من الزمان. وبُنيت لأنها أشبهت الفعل الماضي، إذ لا تكون إلا له، ولأنها تضمنت معنى "في"، لأن حكم الظرف أن يحسن فيه "في"، ولماّ لم يحسن ظهوره هنا مع أنه اسم زمان دل على أنها مضمنة لها، وحرِّكت لالتقاء الساكنين، وضمّت لأنها أشبهت "مُنْذُ"لأنها في معناها، فإذا قلت: ما رأيتُه قطُّ، فمعناه: ما رأيته منذُ كنت. انتهى.
10- حديث: "أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، وكان رجال يكتبون، وُيمِلُّ عليهم.." [76] .
قال أبو البقاء [77] : "يُملُّ"لما بضمِ الياء لا غير، وماضيه أمَلَّ. وفي القرآن "أولا يَسْتطيع أنْ يُملَّ هو" [78] . وفيه لغة أخرى: أمْلى يُمْلي، ومنه قوله تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [79] .(31/500)
قلت: ذكر أن أملَّ يُمِلّ لغة الحجازيين، وأمْلى يُمْلي لغة [تميم] [80] .
11- حديث: "لمّا كان يومُ الفتْح قال رجل: لا قُريْشَ بعْدَ اليوم" [81] .
[دخول لا النافية للجنس على المعرفة]
قلت: هو من مشاهير الأحاديث التي تكلمت النحاة على تخريجها، لدخول "لا"فيه على المعرفة، وبنائها معها على الفتح، وذلك على خلاف القاعدة. ومثله قول عمر بن الخطاب "قضية ولا أبا حسنٍ لها"في أشياء أخر. ونسوق كلام النحاة في ذلك.
قال ابن مالك في شرح الكافية: "يُتَأوَّل العلم بنكرة فيجعل اسم لا مركباً معها إن كان مفردًا, كقول الشاعر:
نكِدْن ولا أميَّة في البلاد [82]
أرى الحاجاتِ عنْدَ أبي خُبيْبٍ
وكقول آخر:
لا هَيْثَمَ الليلةَ للمطيِّ [83]
ومنصوباً بها إن كان مضافاً، كقولهم: قضيةٌ ولا أبا حسن لها [84] . ولابدَّ من نزع الألف واللام مما هما فيه، ولذلك قالوا: ولا أبا حسنٍ، ولم يقولوا: ولا أبا الحسن. فلو كان المضاف مضافاً إلى ما يلازمه الألف واللام [كعبد الله] [85] لم يجز فيه هذا الاستعمال [86] .
وللنحويين في تأويل العلم المستعمل هذا الاستعمال قولان: أحدهما أنه على تقدير إضافة "مِثْل"إلى العلم، ثم حُذف "مِثْل"فخلفه المضافُ إليه في الإعراب والتنكير. والثاني أنه على تقدير: لا واحد من مسمّيات هذا الاسم. وكلا القولين غير مرضي، أما الأول فيدل على فساده أمران: أحدهما التزام العرب تجرد المستعمل ذلك الاستعمال من الألف واللام، ولو كانت إضافة "مثل"منوية لم يحتج إلى ذلك. الثاني: إخبار العرب عن المستعمل ذلك الاستعمال بمثل، كقول الشاعر:
برئ من الحُمَّى سليمُ الجوانح [87]
تُبكّي على زيْدٍ ولا زيْدَ مِثْلهُ
فلو كانت إضافة "مثل"منوية لكان التقدير: ولا مثل زيد مثله. وذلك فاسد.(32/1)
وأما القول الثاني فضعفه بينِّ لأنه يستلزم أن لا يستعمل هذا الاستعمال إلاّ علم مشترك فيه كزيد، وليس ذلك لازماً، كقولهم: لا بَصْرَةَ لكم، ولا قُريْشَ بعد اليوم، وكقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" [88] .
وإنما الوجه في هذا الاستعمال أن يكون على قصد: لا شيء يصدق عليه هذا الاسم كصدقه على المشهور به، فضمّن العلم هذا المعنى، وجُرِّد لفظُه مما ينافي ذلك.
انتهى كلام ابن مالك في شرح الكافية.
وقال في شرح التسهيل [89] : قد يؤوّل العلم بنكرة، فيركبّ مع "لا"إن كان مفرداً، وينصب بها إن لم يكن مفرداً، فالأوّل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" وكقول الشاعر:
نكدْن ولا أميَّة بالبلاد [90]
أرى الحاجات عند أبي خُبيبٍ
وكقول الراجز:
إنَّ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم [91]
والثاني نحو: "قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها". لما أوقعوا العلم موقع نكرة جرّدوه من الألف واللام إذ كانتا فيه، كقوله: ولا عُزَّى لَكم. أو فيما أضيف إليه كقولهم: ولا أبا حسن. فلو كان العلم "عبد الله"لم يعامل بهذه المعاملة للزوم الألف واللام، وكذا عبد الرحمن على الأصحّ لأن الألف واللام لا ينزعان منه إلا في النداء.
وقدّر قوم العلم المعامل بهذه المعاملة مضافاً إليه ["مثل"ثم] [92] حذف مضافه وأقيم العلم مقامه في الإعراب والتنكير، كما فُعل بأيدي سبا في قولهم: "تفرّقوا أيدي سبا" [93] يريدون مثل أيدي سبا، فحذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه في النصب على الحال. وقدّره آخرون بلا مسمَّى بهذا الاسم، أو بلا واحد من مسمّيات هذا الاسم. ولا يصحّ واحد من التقديرات الثلاثة على الإطلاق.
أما الأول فممنوع من ثلاثة أوجه: أحدهما: ذكَر "مثْل"بعده كقول الشاعر:(32/2)
تبكى على زَيْدٍ ولا زيْدَ مِثْله
فتقدير"مثل"قبل زيد مع ذكر"مثل" بعده وصفاً أو خبراً يستلزم وصف الشيء بنفسه، أو الاخبار عنه بنفسه وكلاهما ممتنع. الثاني: أن المتكلم بذلك إنما يقصد نفي مسمَّى العلم المقرون بلا، فإذا قدّر"مثل"لزم خلاف المقصود، لأن نفي مثل الشيء لا تعرّض فيه لنفي ذي المثل. الثالث: أن العلم المعامل بها قد يكون انتفاء مثله معلوماً لكل أحد فلا يكون في نفيه فائدة نحو: لا بصرة لكم.
[وأما التقدير الثاني والثالث فلا يصح اعتبارهما مطلقا، فإنّ] [94] من الأعلام المعاملة بذلك ماله مسمّيات كثيرة كأبي حسن، وقيصر. فتقدير ما كان هكذا بلا مسمَّى لهذا الاسم أو بلا واحد من مسمّياته لا يصح لأنه كذب.
فالصحيح أن لا يقدّر هذا النوع بتقدير واحد، بل يقدّر ما ورد منه بما يليق به وبما يصلح له، فيقدر"لا زيد مثله"بلا واحد من مسميات هذا الاسم مثله، ويقدّر"لا قُريش بعد اليوم"بلا بطن من بطون قريش بعد اليوم، ويقدّر"لا أبا حسن لها"و"لا كسرى بعده"و"لا قيصر بعده"بلا مثل أبي حسن، ولا مثل كسرى ولا مثل قيصر، وكذا لا أمية ولا عُزَّى. ولا يضرّ في ذلك عدم التعرّض لنفي المثل. فإن سياق الكلام يدلّ على القصد.
انتهى.
وقال الرضيّ [95] : أعلم أنه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينصب بـ "لا" التبرئة، وينزع منه لام التعريف إن كان فيه، نحو: "لا حسنَ"لا الحسن البصري، و"لا صَعِقَ"في الصَّعق [96] . أو مما أضيف إليه نحو: "لا أمرأ قيس"و"لا ابنَ زبير". ولا تجوز هذه المعاملة في لفظي عبد الله وعبد الرحمن، إذ الله والرحمن لا يطلقان على غيره تعالى حتى يقدّر تنكرهما قال:
لا هيثمَ الليلةَ للمطيّ
وقال:
نكدْنَ ولا أميةَ في البلاد
أرى الحاجاتِ عند أبي خُبيبٍ(32/3)
ولتأويله بالمنكر وجهان: إما أن يقدر مضاف هو"مثل"، فلا يتعرف بالإضافة لتوغله في الإبهام، وإنما يجعل في صورة المنكر بنزع اللام، وإن كان المنفي في الحقيقة هو المضاف المذكور، الذي لا يتعرف بالِإضافة إلى أي معرف كان، لرعاية اللفظ وإصلاحه. ومن ثمّ قال الأخفش [97] على هذا التأويل يمتنع وصفه لأنه في صورة النكرة، فيمتنع وصفه بمعرفة، وهو معرفة في الحقيقة فلا يوصف بنكرة. وإما أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الخلة كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك المعنى، لأن معنى "قضية ولا أبا حسن لها": ولا فَيْصلَ لها، إذ عليّ رضي الله عنه كان فيصلا في الحكومات على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقضاكم عليّ" [98] فصار اسمه كالجنس المفيد لمعنى الفصل والقطع، كلفظ الفيصل، وعلى هذا يمكن وصفه كالمنكر. وهذا كما قالوا: "لكل فرعون موسى"، أي لكل جبّار قهّار، فيصرف موسى وفرعون لتنكيرهما بالمعنى المذكور. انتهى.
12- حديث: "إن مَطْعَمَ ابْنِ آدمَ جُعِلَ مثلا للدُّنيا، وإنْ قزَّحَهُ [99] وملَّحَهُ، فانظروا إلى ما يصير" [100] .
قلت: "ما" موصولة وعائدها محذوف، لأنه جُرّ بمثل الحرف الذي جرّ الموصول به، والتقدير: إلى ما يصير إليه، ونظر به يتعدى.
13- حديث: "جاءت الرّاجفةُ تتْبعُها الرادفة" [101] .
قلت: هذه الجملة الفعلية حال من الراجفة.
وقوله: "جاء الموت بما فيه".
جملة الجار والمجرور حال من الموت، والباء للمصاحبة.
14- وقوله: "أرأيتَ إن جَعَلْتُ صَلاتي كلّها عليك". "أرأيت"هنا بمعنى أخبرني. وقوله: "إذنْ يكْفِيَك الله ما أهمّك مِنْ دنياك وآخرتِك" [102] . "إذن" هنا للجواب والجزاء معا، وهي ناصبة للفعل لاستيفائها الشروط من التصدّر وغيره [103] .(32/4)
15- حديث: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحْسَنها وأكْمَلَها وتركَ فيها مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لم يَضَعْها، فجعل الناسُ يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تمَّ موضعُ اللبنة" [104] .
قلت: "جعل"لها معان: أحدها: الشروع في الفعل، كأنشأ وطفق، ولها اسم مرفوع وخبر منصوب، ولا يكون غالبا إلا فعلا مضارعا مجرّدا من أنْ، وهي في هذا الحديث بهذا المعنى. قال ابن مالك [105] : وقد يجيء جملة فعلية مصدرة بإذا كقول ابن عباس: "فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا" [106] .
الثاني: بمعنى اعتقد، فتنصب مفعولين نحو: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [107] .
الثالث: بمعنى صيرّ، فتنصب مفعولين أيضاً، نحو: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [108] .
الرابع: بمعنى أوجد وخلق، فتتعدى إلى مفعول واحد، نحو: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} [109] .
الخامس: بمعنى أوجب، نحو: جعلتُ للعامل كذا.
السادس: بمعنى ألقى، كجعلتُ بعض متاعي على بعض.
16- حديث: "قال مَعْبَد: أيْ رسولَ الله، يُخْشى علىَّ مِنْ شبهه" [110] .
قال أبو البقاء [111] : "أيْ"بفتح الهمزة وتخفيف الياء، مقلوب "يا"وهو حرف نداء.
17- حديث شرح الصدور [112] .
قال أبو البقاء [113] : "قوله: فرجعتُ بها أغدو بها رقّةً على الصغير ورحمةً للكبير"تقديره ذا رقة وذا رحمة. وهو منصوب على أنه خبر أغدو، وهى من أخوات كان، فحذف المضاف ونصب المضاف إليه".
قلت: ويجوز أن يكون النصب على الحال.
18- حديث: "إذا كان يومُ القيامة كنتُ إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر" [114] .(32/5)
قلت: "كان"في أول الحديث تامة بمعنى وجد. و"يومُ القيامة"بالرفع فاعلها. و"كان"الثانية ناقصة. والتاء اسمها. و"إمام"خبرها وقوله "غير فخر"منصوب على الحال. قال التوربشتي: "إمام النبيين"بكسر الهمزة. والذي يفتحها وينصبه على الظرف لم يصب.
وقال الرافعي في تاريخ قزوين [115] : "قوله وصاحب شفاعتهم"يجوز أن يقال معناه: وصاحب الشفاعة العامة بينهم. ويجوز أن يريد وصاحب الشفاعة لهم".
19- حديث: "يوشك الفراتُ أن يحْسرَ عنْ جبل من ذهب" [116] .
قال ابن مالك: "اقتران خبر "أوشك"بأنْ أكثر من تجريده منها، بعكس كاد، كقوله:
إذا قيل هاتوا أن يَملُّوا وَيمْنَعُوا [117]
ولو سُئِلَ الناسُ التراب لأوشكوا
ومثال التجريد قوله:
في بَعْضِ غِرَاتِه يُوافِقُها [118]
يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِه
قال: "واختص كاد وأوشك باستعمال مضارعهما. وسائر أفعال المقاربة لزمت لفظ الماضي" [119] .
قلت: ففي الحديث شاهد للأمرين معاً.
20- حديث: "صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصُّبح فقال: شاهدٌ فلان؟ فقالوا: لا" [120] .
قال أبو البقاء [121] : "يريد الهمزة فحذفها للعلم بها. وهو مرفوع بأنه خبر مقدّم. و"فلان" مبتدأ، ويجوز أن يكون "شاهد"مبتدأ لأن همزة الاستفهام فيه مرادة. ولو ظهرت لكان مبتدأ البتة، و"فلان"فاعل يسدّ مسدّ الخبر". انتهى.
قلت: الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ "أشاهد" بإثبات الهمزة فعرف أن إسقاطها من تصرّف الرواة.
وقوله: "صلّى بنا".
قال الِطّيبي [122] : "أي أمَّنا. والباء إما للتعدية أي جعلنا مصلين خلفه، أو للحال أي صلى ملتبساً بنا".
وقوله: "ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبْوا".(32/6)
يحتمِل أن يكون من باب حذف كان واسمها بعد لو وهو كثير، والتقدير: ولوكان الإتيان حبوًا. ذكره الطّيبي قال: "ويجوز أن يكون التقدير: ولو أتوهما حابين، تسمية بالمصدر مبالغة".
قوله: "وإنّ الصف الأول على مثل صفّ الملائكة".
قال الطيبي [123] : "قوله "على مثْل "خبر إنّ، والمتعلق كائن".
21 - حديث الصدقة [124] .
قوله: "فلما جمع إليّ ماله لم أجد عليه فيه إلاّ ابنة مخاض، فأخبرته أنها صدقته فقال: ذاك ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهْر".
قلت: الإشارة بذاك وهو صيغة المذكر إلى ابنة مخاض وهي مؤنث. وكذا ضمير "فيه"عائد إليه. لأنه قد ينزل المؤنث منزلة المذكر على إرادة معنى الشخص.
وقوله: "وقد عرضتُ عليه ناقةً فتيةً سمينةً ليأخذها، فأبى وردّها عليّ، وها هي ذه قد جئتُك بها".
قال ابن مالك في شرح التسهيل [125] : "تفصل هاء التنبيه من اسم الإشارة المجرد بأنا وأخواته كثيراً كقولك: ها أنا ذا، وها نحن أولاء إلى ها هن أولاء. ومنه قول السائل عن وقت الصلاة "ها أنا ذا يا رسول الله" [126] وقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [127] "0 انتهى.
وفي حديث جابر في الذي اخترط سيفه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال لي: مَنْ يمنَعُك منّي؟ قلت: الله. فها هو ذا جالساً" [128] . وفي حديث جُليبيب فقال: "يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه" [129] .
وقال الأندلسي في شرح المفصل: "وأما قولهم "ها أنا"ونحوه، فـ"ها"عند سيبويه [130] داخله على الأسماء المضمرة. وعند الخليل [131] مع الأسماء المبهمة في التقدير، على أنهم أرادوا أن يقولوا "هذا أنا"فجعلوا أنا بين ها وذا".(32/7)
وقال السيرافي [132] :" "ها"في هذه الحروف للتنبيه، والأسماء بعدها مبتدآت، والخبر أسماء الإشارة ذا ونحوه. وإن شئت جعلت أنت ونحوه الخبر والإشارة هي الاسم". قال: "وإنما يقول القائل: "ها أنا ذا"إذا طُلب رجلٌ لم يُدْر أحاضر هو أم غائب، فيقول المطلوب: ها أنا ذا، أي الحاضر عندك".
قال ابن الأنباري [133] : "إنما يجعلون المكنىّ بين "ها"و"ذا "إذا أرادوا القريب في الأخبار، فمعنى ها أنا ذا ألقى فلاناً: قد قرب لقائي إياه. قال: وقول العامة "هو ذا لقي فلاناً"خطأ عند جميعِ العلماء، لأن العرب إذا أرادت هذا المعنى قالوا: ها هو ذا يلقى فلاناً، وها أنا ذا ألقى فلاناً. وأنشد قول أمية:
ها أنا ذا لديكمُا [134]
لبيكُما لبيكُما
وقال في موضع آخر: قولك "ها أنا ذا"إنما يقع جواباً لمن طلب إنساناً شك في أنه حاضر أم غائب، فتقول مجيباً له: "ها أنا ذا"، ولا تقول مبتدئا "ها أنا"فتعرف بنفسك، لأنك إذا أشرت إلى نفسك بـ "ذا"فالإخبار "أنا"بعده لا فائدة فيه". انتهى.
قوله: "فإن تطوّعت بخير".
هو على الأصل. وجاء قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراًً} [135] بالنصب على إسقاط الخافض.
مراجع هذه الحلقة
ا- الأصول في النحو: لأبى بكر بن السراج، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي، الطبعة لأولى، مطبعة النجف1393 هـ 1973م.
2- إعراب الحديث النبوي: العكبري، تحقيق د. حسن موسى الشاعر، الطبعة الأولى, عمان
3- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: ابن هوام الأنصاري، تحقيق الشيخ محمد محمى الدين، الطبعة الخامسة- دار الجيل- بيروت 1399 هـ 1979 م.
4- الإيضاح: الخطيب القزويني، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
5- البحر المحيط: أبو حيان، مطبعة السعادة 1328 هـ.(32/8)
6- البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة: المرحوم عبد الفتاح القاضي، الطبعة الأولى، دار لكتاب العربي 1401 هـ1981 م.
7- بغية الوعاة: السيوطى: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- مطبعة عيسى الحلبي الطبعة
الأولى 1384 هـ 1964 م.
8- تاج العروس: الزبيدي.
9- تخريج أحاديث شرح الكافية: عبد القادر البغدادي، مخطوطة مصورة بالجامعة الإسلامية برقم 266 عن شهيد علي.
10- تذكرة الحفاظ: الذهبي، مطبوعات دائرة المعارف العثمانية، نشر دار إحياء التراث العربي, بيروت.
11- التصريح على التوضيح: الشيخ خالد الأزهري. دار إحياء التراث العربية، عيسى الحلبي.
12- تهذيب التهذيب: ابن حجر, دار صادر عن الطبعة الأولى بحيدر آباد الدكن.
13- حاشية الأمير على مغني اللبيب.
14- حسن المحاضرة: السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى 1387 هـ 1967 م
15- خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون.
16- ديوان النابغة الذيباني، تحقيق د. شكر فيصل.
17- الزاهر: أبو بكر بن الأنباري، تحقيق د. حاتم الضامن, بغداد 1399 هـ 1979 م.
18- سنن أبي داود: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. ومختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري وعليه معالم السنن للخطابي، تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي.
19- سنن ابن ماجه: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة عيسى الحلبي.
20- سنن الترمذي: تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان, مطبعة الفجالة الجديدة.
21- السيرة النبوية: ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وجماعة، مطبعة الحلبي، الطبعة الثانية 1375 هـ 1955م.
22- شذور الذهب: ابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
23- شرح أبيات سيبويه: ابن السيرافي، تحقيق د. محمد عاب سلطاني, دار المأمون للتراث، دمشق 1979 م.(32/9)
24- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ومعه حاشية الصبان، دار إحياء الكتب العربية.
25- شرح التسهيل: ابن مالك، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 15 ش نحو. ومنه مصورة بالجامعة الإسلامية برقم 1411.
26- شرح التسهيل: ابن مالك، الجزء الأول، تحقيق د. عبد الرحمن السيد، الطبعة الأولى 1394 هـ 1974م القاهرة.
27- شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ: ابن مالك، تحقيق عدنان الدوري، بغداد 1397 هـ1977 م.
28- شرح الكافية: الرضي. دارا لكتب العلمية, بيروت.
29- شرح الكافية الشافية: ابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي, منشورات جامعة أم القرى.
30- شرح مشكاة المصابيح: الطيبي، مخطوط بالمكتبة المحمودية في المدينة المنورة، الجزء الأول برقم 548 والثاني برقم 613 والرابع برقم 945.
31- شرح المفصّل: ابن يعيش، إدارة الطباعة المنيرية.
32- شواهد التوضيح والتصحيح: ابن مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
33- شواهد العينى على شرح الأشموني.
34- صحيح البخاري بشرح الكرماني، الطبعة الأولى 1933 ـ1938 م.
35- صحيح مسلم بشرح النووي, دار إحياء التراث العربي.
36- طبقات الشافعية: السبكي، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو, الطبعة الأولى.
37- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ابن حجر, دار المعرفة, بيروت.
38- الفوائد في مشكل القرآن: العز بن عبد السلام، تحقيق د. رضوان الندوي.
39- القاموس المحيط: الفيروز آبادي.
40- القراءات الشاذة: المرحوم عبد الفتاح القاضي.
41- الكتاب: سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
42- كشف الظنون: حاجي خليفة، منشورات مكتبة المثنى, بيروت.
43- مجمع الأمثال: الميداني، تحقيق المرحوم محمد محي الدين عبد الحميد.(32/10)
44- المذكر والمؤنث: ابن الأنباري، تحقيق د. طارق الجنابي، بغداد الطبعة الأولى 1978 م.
45- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: علي بن سلطان القاري.
46- مسند الإمام أحمد بن حنبل. وبهامشه منتخب كنز العمال، بيروت 1398 هـ 1978م.
47- معاني القرآن: الأخفشي، تحقيق د. فايز فارس، الطبعة الثانية 1401 هـ 1981 م.
48- مغني اللبيب: ابن هشام، تحقيق د. مازن المبارك وزميله، الطبعة الأولى 1964م.
49- النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي وزميله، الطبعة الأولى1383 هـ 1963 م.
50- همع الهوامع: السيوطي، تحقيق د. عبد العالم سالم، دار البحوث العلمية- الكويت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحديث عن أبي وأوّله: "كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه.."
انظر: مسند أحمد 15/27، 29 1. مسلم لشرح النووي: فضائل القرآن 6/151.
[2] ما بين المعقوفتين زيادة للتوضيح.
[3] شرح التسهيل لابن مالك مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 10 نحوش ورقة 131 ومنه مصورة في الجامعة برقم 1411.
[4] سورة مريم آية 4.
[5] شرح المفصّل لابن يعيش 2/74.
[6] شرح المفصل لابن يعيش 75/2. وابن يعيش هو موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي، كان من كبار أئمة العربية، ماهر في النحو والتصريف، تصدّر بحلب للإقراء زمانا. صنف: شرح المفصل، شرح تصريف ابن جني، مات سنة 643 هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 351.
[7] صحيح مسلم بشرح النووي- باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف جـ6ص101.
[8] القاضي عياض سبقت ترجمته في الحلقة الأولى، وكلامه هنا مذكور في شرح النووي على مسلم 6/102.(32/11)
[9] أبو عبيد أحمد به محمد بن عبد الرحمن الهروي، صاحب الغريبين على أبي سليمان الخطابي وأبي منصور الأزهري
ومات سنة 401 هـ.
انظر طبقات الشافعية للسبكي 4/ 84، بغية الوعاة 1/ 371.
[10] سورة الأعراف آية 149.
قال الأخفش في معاني القران 2/ 315 العرب تقول سًقط في يديه. وأًسْقط في أيديهم. وفي اللسان [مادة سقط] : قال الزجاج. يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه: قد سُقط في يده وأسقط. وقال أبو عمرو: لا يقال اسْقط بالألف على ما يسمّ فاعله، وفي التنزيل "ولما سُقط في أيديهم"لما قال الفارسي: ضربوا لأكفّهم على أكفّهم من الندم. وقد قرئ: "سَقَط في أيديهم "كأنه أضمر الندم..
[11] البحر المحيط 4/393-349 وفيه زيادة وتفصيل.
[12] مذهب الجمهور أن المجرور الحرف مفعول به في المعنى فصحّت نيابته عن الفاعل. وذهب ابن درستويه والسهيلى والرندي إلى أن النائب الضمير المصدر المفهوم من الفعل المستتر فيه، والتقدير: ولما سُقط هو أي السقوط. انظر التصريح على التوضيح 1/287.
[13] هو أبو البقاء العكبري، وقد سبقت ترجمته في الحلقة الأولى. وكلامه هذا مذكور في الحديث رقم 5 من كتابه إعراب لحديث النبوي لتحقيق د. حسن الشاعر.
[14] شهاب الدين فضل الله بن حسير التًوربثتي، محدث فقيه من أهل شيراز. شرح مصابيح السنة للبغوي شرحاً حسناً سمّاه
انظر كتف الظنون 1698/2، طبقات الشافعية للسبكى 349/8، مرقاة المفاتيح للقاري 1/ 59.
[15] مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، شرحها الطيبى شرحاً سماه "الكاشف عن حقائق السنن ". ورموزه هكذا: معارا السنن للخطابي (خط) شرح السنة للبغوي (حد) شرح صحيح مسلم للنووي (مح) والفائق للزمخشري (فا) ومفردات الرأب (غب) والنهاية لابن الأثير (نه) والتوربثتى (تو) والقاضي البيضاوي (قض) والمظهر (مظ) والأشرف (شف) .(32/12)
ومن هذا الشرح عدد من النسخ الخطية. وقد اعتمدت لا توثيق كلام الطيبي هنا على! 2 ورقة 46 ا-47 1 مخطوط في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة برقم 613.
[16] هو مظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسن الزيداني المتوفي سنة 727 هـ، له شرح على مصابيح السنة سماه "المفاتيح في شرح المصابيح ". انظر: كشف الظنون 2/ 1699.
[17] انظر في "أنْ "المفسرة وشروطها مغني اللبيب ص 29 بتحقيق د. مازن المبارك، الطبعة الأولى.
[18] قال سيبويه 3/ 162: وأما قوله: كتبت إليه أن أفعل، وأمرتُه أن قُمْ، فيكون على وجهين: على أن تكون "أن "التي تصب الأفعال ووصلتها بحرف الأمر والنهي ... والوجه الآخر: أن تكون بمنزلة أيْ..
[19] سورة الأنعام آية 38.
[20] أي انتهى كلام الطيبي في شرح المشكاة.
[21] الحديث في البخاري- كتاب اللقطة/ باب هل يأخذ اللقطة. انظر فتح الباري 5/ 91 مسند أحمد 5/ 126.
[22] شواهد التوضيح والتصحيح ص 135.
[23] قال أبي (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: الرجل يجامع أهله ولا ينزل. قال: يغسل ما مس المرأة منه ويتوضأ ويصلي) . انظر البخاري- كتاب الغسل- فتح الباري1/398، مسند أحمد 5/113.
[24] النساء آية 43.
[25] حديث طويل، وفيه "قام موسى النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم ... ". البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام. فتح الباري 6/ 431.
البخاري: كتاب التفسير باب سورة الكهف، كتاب العلم- باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم- فتح الباري1/217,والترمذي: أبواب تفسير القرآن 4/ 371، مسند أحمد 5/120.
[26] إعراب الحديث النبوي- الحديث الثاني.
[27] آل عمران آية 37.
[28] سورة طه 117.(32/13)
[29] أي المصدرية. وأكثرهم لم يثبت ورود لو مصدرية. وممن أثبته الفراء والفارسي والعكبري وابن مالك. انظر مغني اللبيب ص 294.
[30] سورة القلم آية 9.
[31] النساء 89.
[32] البقرة 266.
[33] صدر بيت لرجل من طيء ـ وعجزه: بأبيض ماضي الشفرتين.
ويوم النقا: يوم الحرب عند النقا وهو الكثيب من الرمل.
انظر العينى على الأشمونى 2/243، شرح الكافية 1/ 274، مغنى اللبيب ص 53، حاشية الأمير 1/50، خزانة الأدب 2/224.
[34] شرح الكافية 1/274.
[35] العلامة رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي المتوفي سنة 686 هـ. قال عنه السيوطي: صاحب شرح الكافية لابن الحاجب، الذي يؤلف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثلها جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل.
انظر بغية الوعاة 1/576 وللرضي أيضا شرح قيم على الشافية لابن الحاجب.
[36] مًضر الحمراء وربيعة الفرس وإياد الشمطاء وأنمار المضل أولاد نزار، وردت قصتهم في مجمع الأمثال للميداني عند ذكر المثل "إن العصا من العصبية"ج اص 14 لتحقيق محي الدين عبد الحميد.
[37] زيد الخير هو ابن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي النبهاني كان يدعى زيد الخيل لشجاعته فسماه النبي صلى الله عليه وسلم لما وفد عليه في سنة تسع من الهجرة زيد الخير لأنه بمعناه، وأثنى عليه، وأقطعه أرضين.
انظر تاج العروس (مادة خيل) ، السيرة النبوية لابن هشام- القسم الثاني ص 577.
[38] قال أبو هشام. قد يشربون لفظا معنى لفظ يعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً. انظر مغنى اللبيب ص 762
[39] البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 60- بتحقيق د. شكري فيصل. ويستدل به في علم البلاغة على تأكيد المدح بما يشبه الذم- انظر الإيضاح للقزوينى ص 524 بتحقيق د. خفاجي. والبيت من شواهد سيبويه 2/ 326 بتحقيق هارون، وهمع الهوامع 3/ 281 بتحقيق عبد العال سالم. وخزانة الأدب 3/327 بتحقيق هارون.(32/14)
[40] الكلام كلّه مأخوذ من ابن حجر في فتح الباري 1/ 220 بتصرف يسير، دون إشارة.
[41] سورة البقرة: آية 150.
[42] البحر المحيط 1/442.
[43] ثريان: أي فيه بلل أوندى.
[44] شواهد التوضيح والتصحيح ص 156.
[45] لحيان: كبير اللحية. قال الأشموني 3/232: وفيه خلاف والصحيح منع صرفه.
[46] صحيح البخاري بشرح الكرماني 2/145
[47] القلم:9.
[48] الكشاف 4/ 142.
[49] الحديث: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب مملوءا حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه". مسند أحمد 5/ 0122 البخاري: كتاب الصلاة- باب كيف فرضت الصلوات 1/458 من فتح الباري.
[50] إعراب الحديث النبوي: 7.
[51] تكملة الحديث عن أبي قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر". مسند أحمد 5/143. مسلم: فضائل القرآن 6/93 بشرح النووي. أبو داود: ما جاء في آية الكرسي رقم الحديث1410.
[52] إعراب الحديث النبوي: الحديث الثالث.
[53] التعليق عن العمل يخص المتصرف من الأفعال القلبية، وهو إبطال عملها في اللفظ دون التقدير، لاعتراض ما له صدر الكلام بينها وبين معموليها. انظر: شذور الذهب365.
[54] الكهف:12.
[55] مسند أحمد 4/ 435، وفي إعراب الحديث للعكبري برقم 323.
[56] مسند أحمد 5/114 وفي آخر الحديث (…فقرأت الفاتحة الكتاب، قال: هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم) .
[57] إعراب الحديث النبوي: 6.
[58] مسند أحمد 5/123.
[59] إعراب الحديث: رقم 8.
[60] الرعدة 23-24.(32/15)
[61] الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء ولد سنة 577 هـ وبرع في الفقه والأصول والعربية ألقى التفسير بمصر دروساً، وهو أول من فعل ذلك. من مصنفاته: تفسير القران، القواعد الكبرى والصغرى توفي بمصر سنة 660 هـ. انظر حسن المحاضرة 314 ـ316.
[62] الفوائد في مشكل القرآن للعز بن عبد السلام تحقيق د. رضوان الندوي ص 29.
[63] البقرة: 5.
[64]- مسند أحمد 5/ 132 الحديث عن زر بن حبش قال، قال لي أبي "كأيّن تقرأ سورة الأحزاب أو كأيّن تعدها؟ قال، قلت لي ثلاثاً وسبعين آية. فقال: قط، لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة…"
[65] إعراب الحديث: 9.
[66] شرح الكافية الشافية 4/1702 وانظر في مغني اللبيب 203.
[67] "وكأين من نبي… "آل عمران 146 وابن كثير هو عبد الله به كثير المكي من التابعين توفى بمكة سنة 120هـ. انظر البدور الزاهرة للمرحوم القاضي ص 8.
[68] الأعمش. هو أبو محمد سليمان به مهران الأعمش الأسدي الكوفي الإمام الجليل كان ورعاً واسع الحفظ للقرآن، ولد سنة 60 هـ ومات سنة 148هـ. انظر: القراءات الشاذة للمرحوم القاضي ص 16-17.
[69] ابن محيصن: هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي مولاهم المكي، مقروء أهل مكة مع ابن كثير. ثقة، روى له مسلم، وكان عالماً بالعربية كان له اختيار في القراءة على مذهب العربية فخرج به عن إجماع أهل بلده. مات سنة 23 اهـ انظر. القراءات الشاذة ص 11.
[70] المبارك بن محمد أبو السعادات الجزري المشهور ببن الأثير، من مشاهير العلماء ولد سنة 544 هـ وانتقل إلى الموصل وأخذ النحو عن ابن الدهان وتنقل في الولايات وكتب في الإنشاء. ومن مصنفاته: النهاية في غريب الحديث، جامع الأصول من أحاديث الرسول، البديع في النحو. مات سنة 606 هـ. انظر: بغية الوعاة 2/ 274-275.
[71] النهاية في غريب الحديث 4/ 79.(32/16)
[72] حيوة به شريح: شيخ الديار المصرية، روى عن عقبة بن مسلم وغيره. وثقه أحمد بن حنبل وغيره توفى سنة 158 هـ.
انظر. تذكرة الحفاظ للذهبي 1/185-186.
[73] عقبة بن مسلم التجيبي إمام المسجد العتيق بمصر. روى عن ابن عمر وغيره. توفى حوالي سنة 120هـ. انظر: تهذيب التهذيب 7/249-250
[74] أبو داود كتاب الصلاة باب 18 رقم الحديث 466 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
[75] القاسم بن أحمد اللورقي الأندلسي (575-661 هـ) إمام في العربية، عالم بالقراءات، يعرف الفقه والأصول. شرح المفصل في أربعة مجلدات، وسماه الموصّل. كما شرح الجزولية والشاطبية. انظر: بغية الوعاة 2/ 250، كثف الظنون 2/1770.
[76] مسند أحمد 5/134 والرواية فيه "ويملي عليهم".
[77] إعراب الحديث: رقم 10.
[78] البقرة آية 282.
[79] الفرقان آية5.
[80] قال أبو حيان: أملَّ وأملى لغتان الأولى لأهل الحجاز وبني أسد، والثانية لتميم. البحر المحيط 2/ 342.
[81] مسند أحمد 5/135.
[82] لفضالة بن شريك الأسدي، وقيل لابن الزبير الأسدي من أبيات يهجو بها عبد الله بن الزبير. وأبو خُبيب كنية عبد الله بن الزبير، وكان بخيلا. انظر: سيبويه 2/297, شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي 1/ 569، الأصول لابن السراج 1/ 466، المقتضب للمبرد 4/ 362، همع الهوامع 2/ 195، شرح الأشموني 2/ 4.
[83] شطر رجز لم يعرف قائله، وهو من شواهد سيبويه 2/ 296، والمقتضب 4/ 362، والأصول لابن السراج 1/ 465 وهمع الهوامع 2/ 195 والأشموني 2/ 4 وخزانة الأدب 2/ 57.
[84] انظر سيبويه 297/2. وقال الأشمونى 2/ 4: هو نثر من كلام عمر في حقّ علي رضي الله عنهما كما في شرح الجامع، لشطر بيت، ولهذا لم يذكره العيني في شواهده، وصار مثلا يضرب عند الأمر العسير ...
[85] أثبتها من شرح الكافية الشافية.(32/17)
[86] قال البغدادي لا الخزانة 4/58: رأيت في (تذكرة أبي حيان) ما نصّه: قال الفرّاء: من قال قضية ولا أبا حسن لها لا يقول ولا أبا الحسن، بالألف واللام، لأنها تمحض التعريف في ذا المعنى وتبطل مذهب التنكير. وقال: إنما أجزنا "لا عبدَ الله لك"بالنصب لأنه حرف مستعمل، يقال لكل أحد عبد الله، ولا نجيز لا عبدَ الرحمن ولا عبدَ الرحيم، لأن الاستعمال لم يلزم هذين كلزومه الأول وكان الكسائى يقيس عبد الرحمن وعبد العزيز على عبد الله، وما لذلك صحة. أهـ.
[87] قائله مجهول، انظر: همع الهوامع 2/196، حاشية يس على التصريح 1/236.
[88] روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده "انظر فتح الباري 6/219.
[89] شرح التسهيل لابن مالك مصور في الجامعة الإسلامية عن مخطوطة دار الكتب ورقة 75-76.
[90] ما بين المعقوفتين من شرح التسهيل لابن مالك وقد مرّ ذكر البيت قريباً.
[91] قاله أبو سفيان به حرب بعد انتهاء غزوة أحد، وهو يومئذ مع المشركين. انظر: فتح الباري 7/ 349 كتاب المغازي، ولم يذكر إنَّ في أوله. وذكره أبن مالك في شرح التسهيل 1/195 من المطبوع هكذا: إنّ لنا عُزّى ولا عزّى لكم.
[92] ما بين المعقوفين من شرح التسهيل- المخطوط.
[93] في القاموس (مادة سبأ) : تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبا تبدّدوا. ضرب المثل بهم لأنه لما غرق مكانهم وذهبت جناتهم تبددوا في البلاد.
[94] ما بين المعقوفتين من شرح التسهيل.
[95] شرح الكافية 1/259-260.
[96] الصَّعِق. الشديد الصوت. ولقب خويلد بن نُفيل، فارسي لبني كلاب (القاموس المحيط. صعق) .(32/18)
[97] أبو الحسن سعيد بن مسعدة، الأخفشي الأوسط، سكن البصرة وقرأ النحو على سيبويه دخل بغداد وناظر الكسائي. من مصنفاته: معاني القرآن. انظر بغية الشاة 1/ 590، معاني القرآن للأخفشي تحقيق د. فايز فارس جـ 1/ الدراسة.
[98] قال عبد القادر البغدادي في تخريج أحاديث شرح الكافية ورقة 19: "أقضاكم علي" أخرجه ابن ماجة عن ابن عمر لكن بلفظ أرحم أمتي أبو بكر وأقضاهم على. وقال السخاوي في المقاصد: لم أقف على حديث "أقضاكم على"مرفوع. ويروي في المرفوع عن أنس "أقضى أمتي على". ما أورده البغوي في المصابيح وأخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علىّ. وقال إنه صحيح ولم يخرجاه.
أقول وفي البخاري8/167 من فتح الباري، ومسند أحمد 5/113 قال عمر: "أقرؤنا أبي وأقضانا عليّ ".
[99] قال ابن الأثيرفي النهاية 4/58: "وإن قزًحه وملّحه "أي توبله من القزح وهو التابل الذي يطرح في القدركالكموّن والكًزبرة ونحو ذلك. يقال: قزّحت القدر إذا تركت فيها الأبازير.
[100] مسند أحمد 5/136.
[101] مسند أحمد 5/136، وفي الترمذي: أبواب صفة القيامة 4/53 رقم الحديث 2574.
[102] عن أبي قال (قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلّها عليك. قال: إذاً يكفيك الله تبارك وتعالى ما من دنياك وآخرتك) . انظر: مسند أحمد 5/136.
[103] شروط النصب بإذن ثلاثة: الأول: أن يكون الفعل مستقبلا، الثاني: أن تكون مصدرة. الثالث: أن لا يفصل بينها وبين الفعل بغير القسم. انظر شرح الأشموني 4/ 287 ـ 288.
[104] تكملته "فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" الترمذي: المناقب 5/246 رقم الحديث 3692. مسند أحمد 5/137.
[105] انظر شواهد التوضيح ص 78.
[106] البخاري: كتاب التفسير/ سورة الشعراء. انظر فتح الباري 8/501.
[107] الزخرف:19.
[108] الفرقان: 23.(32/19)
[109] الأنعام:1.
[110] حديث طويل في مسند أحمد 5/137 ـ 138.
[111] إعراب الحديث: رقم 11.
[112] حديث طويل عن أبي، انظر مسند أحمد 5/139.
[113] إعراب الحديث: رقم 12.
[114] مسند أحمد 137/5، 138. وفي الترمذي: المناقب 5/247 برقم 3692 وفي ابن ماجة برقم4314.
[115] التدوين في أخبار قزوين للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني المتوفى السنة 623 هـ. انظر كشف الظنون 382-383.
[116] مسند أحمد 5/ 139-140. وفي البخاري. كتاب الفتن13 /78 من فتح الباري. وفي مسلم بشرح النووي: كتاب الفتن 18/19.
[117] استشهد به ابن مالك في شرح عمدة الحافظ ص 817. وهو من شواهد الأشموني 1/261 وأوضح المسالك1/311 وهمع الهوامع 2/140.
[118] البيت لأمية بن أبي الصلت. وقد استشهد به ابن مالك في شرح الكافية 1/456 وفي شواهد التوضيح ص 144 وهو من شواهد سيبويه 3/ 161 والأشموني 1/ 262 وهمع الهوامع 2/ 135.
[119] شرح عمدة الحافظ ص 823.
[120] مسند أحمد 5/140، 141. أبو داود: فضل صلاة الجماعة رقم522.
[121] إعراب الحديث: رقم 13.
[122] شرح مشكاة المصابيح مخطوط في المكتبة المحمودية برقم 613 ج 2 ورقة 3.
[123] شرح مشكاة المصابيح جـ2 ورقة 3.
[124] الحديث عن أبي، وفيه قال: "بعثتي رسول الله عليه وسلم مصدقاً على بلى وعذرة وجميع بني سعد…) . مسند أحمد5/ 142. أبو داود: زكاة السائمة برقم 1521.
[125] شرح التسهيل لابن مالك 1/375.
[126] في البخاري السائل عن الساعة قال "ها أنا يا رسول الله"فتح الباري 1/142 وفي مسلم بشرح النووي 4 /115بريدة أن السائل عن وقت الصلاة قال "أنا يا رسول الله ".
[127] آل عمران 119.(32/20)
[128] رواه البخاري في كتاب الجهاد وكتاب المغازي عن جابر برواية "فها هو ذا جالس"انظر فتح الباري 6/97، 7/ 426.
[129] مسند أحمد 4/422.
[130] كتاب سيبويه 2/353.
[131] كتاب سيبويه 2/ 354.
[132] كتاب سيبويه2 /353 الحاشية. والسيرافي هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرِزبان نسب إلى سيراف مدية بفارس، كان إماماً في النحو والفقه واللغة والشعر أخذ النحو عن ابن السراج شرح كتاب سيبويه شرحاً لم يسبق إلى مثله، توفى سنة 368 هـ انظر بغية الوعاة 1/507.
[133] أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، كان من أعلم الناس بالنحو واللغة والأدب. له مصنفات كثيرة منها: المذكر والمؤنث، الزاهر، شرح القصائد السبع الطوال، إيضاح الوقف والابتداء. توفي ببغداد سنة 328 هـ. انظر بغية الوعاة 1/212.
[134] كلام ابن الأنباري هنا مذكور في كتابه الزاهر 2/278-279 والبيت لأمية بن أبي الصلت. وانظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري 738ـ 739.
[135] البقرة: 158.(32/21)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة: "هل"
لقد وعدتك من قبل أن أحدثك في هذه الرسالة الرابعة عشرة عن همزة الاستفهام الداخلة على "إذا"الشرطية، وها أنا ذى منجزة ما وعدتك، لقد وردت هذه الهمزة في ثلاث عشرة آية من آيات لقرآن الكريم:
الآية الأولى: في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
الآيات: (48-52) من سورة يونس.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن المشركين من قريش كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: "متى هذا الوعد وعد العذاب الذي تعدنا به؟ إن كنت صادقا أنت وأتباعك فيما تعدوننا به من هذا العذاب فليأتنا على عجل".
كانوا يقولون ذلك إنكاراً واستخفافاً وسخرية.
وتتضمن أيضا أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: "أنا لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا إلا ما شاء الله، والأمر كله بيد الله، وقد جعل الله جلّ وعلا لكل أمة موعدا لا يعلمه إلا هو، فإذا حان حينه جاء في وقته المحدّد له دون أن يتأخر أو يتقدم".(32/22)
وأمره أيضا أن يقول لهم: "أيّ شيء تستعجلون من عذاب الله إن أتاكم في ليل أو نهارا ليس شيء من العذاب يُستعجل، فالعذاب كله على اختلاف ألوانه وتعدّد ضروبه مرّ المذاق.
ثم أنتم قوم مجرمون فينبغي لكم أن تنفروا من العذاب وأن تَفْرقوا لمجيئه، فكيف تطلبونه على عجل؟! يا لَهول ما تطلبون!! ويا لشقائكم بما تستعجلون!! ".
وتتضمن أيضا: "سوف يقال لهم إذا وقع عذاب الله بهم فآمنوا به على حين لا ينفعهم إيمان، سوف يقال لهم توبيخا وتقريعا: الآن تؤمنون بالعذاب وقد كنتم من قبل هذا تستعجلونه مكذبين مستهزئين؟!! فذوقوا ما كنتم به تكذّبون".
وقد جاء هذا الاستفهام: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} جاء مفيدا الإنكار والتوبيخ [1] : إنكار الإيمان منهم وقت وقوع العذاب بهم حصان لا ينفعهم إيمان، وتوبيخهم على تأخير الإيمان إلى زمن رؤية العذاب واقعا بهم حين لا يقبل الإيمان.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} :
(ثم) : حرف عطف كالفاء والواو العاطفتين اللتين تقعان بعد همزة الاستفهام، وقد عطفت الجملة الشرطية التي بعدها على ما قبل الهمزة.
و (إذا) : شرطية غير جازمة في محل نصب على الظرفية، والعامل فيها فعل الشرط بعدها، وجملة الشرط: (وقع وفاعلها المستتر) لا محل لها من الإعراب. و (ما) الواقعة بعد إذا زائدة للتوكيد. و (آمن) هو جواب إذا، وجملة الجواب (آمنت به) لا محل لها من الإعراب.
وهذا الذي تقدم من أن العامل في إذا الشرطية هو شرطها لا جوابها هو مذهب المحققين من النحاة على ما ذكره ابن هشام في كتابه مغنى اللبيب [2] . وقال الرضى في شرح الكافية: "وبه قال الأكثرون" [3] .
ولا يعترض عليهم بأن (إذا) مضافة إلى شرطها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، لأن (إذا) عند هؤلاء غير مضافة.(32/23)
وهناك رأي لبعض النحاة يقول إن (إذا) مضافة إلى جملة الشرط بعدها، وإن العامل فيها هو جوابها.
الآية الثانية: في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
الآيات: (2-5) من سورة الرعد.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله عز وجل قد أبدع خلائق عظيمة: فسماوات مرفوعة بغير عمد، وشمس وقمر مُسَخّران بأمره، وأرض مدّها وجعل فيها رواسي وأنهارا وزوجن اثنين من كل ثمر، ونهار يغشاه ليل وليل يعقبه نهار، وقطع من الأرض متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل تسقى بماء واحد، ولكن قدرة الله عز وجلّ جعلت بعضها أفضل من بعض مذاقا ومطعما.
لقد كان في هذه الخلائق العظيمة التي أبدعها الله عز وجل آيات لمن كان له قلب يفقه ويتدبّر، وعقل يذّكر ويفكّر، وحسّ سليم يرى ويتذوّق ويعتبر.(32/24)
لقد كان في هذه الخلائق العظيمة دلالات واضحة جلية على أن الذي اخترعها وأبدعها من العدم المحض قادر على أن يعيد الحياة إلى الناس جميعا بعد الممات.
فكان عجيبا كل العجب إنكار أناس أن يكون هناك حياة أخرى، وتكذيبهم أن يبعثوا بعد موتهم خلقا جديدا، مع أنهم يرون ويحسّون هذه الخلائق العظيمة الدالة على أن الله الذي خلقها قادر على كل شيء، ولكن من يكون أولئك الذين ينكرون البعث بعد موت؟! وماذا كان جزاؤهم عند الله جل جلاله؟!.
أولئك الذين كفروا بربهم !! وأيّ كفر أشنع من أن يكفر الإنسان بربه الذي هو خالقه ومولاه؟ !.
أولئك الذين أذلهم الله فجعل في أعناقهم الأغلال أغلال الهوان والصغار والاحتقار، أولئك أصحاب النار ليس لهم منها مفرّ، هم فيها خالدون لا يموتون ولا يخرجون.
وقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} جاء مفيدا الإنكار والتكذيب والاستهزاء والاستبعاد والتعجب [4] ، مفيدا إنكار المشركين لأن يخلقوا مرة ثانية بعد الموت، وتكذيبهم بأن يبعثوا من قبورهم بعد أن صاروا ترابا في جوف الأرض، لقد سخروا من ذلك واستبعدوه وعجبوا أن يكون.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} سهل واضح:
فإذا شرطية غير جازمة، وهي في محل نصب على الظرفية، والعامل فيها شرطها على نحو ما مرّ في الآية السابقة، وجوابها محذوف دل عليه أإنا لفي خلق جديد تقديره أنخلق خلقا جديداً، والهمزة الثانية مؤكدة للهمزة الأولى.
وذهب أبو حيان في تفسيره البحر المحيط [5] إلى أن (إذا) هنا متمحضة للظرفية، وتابعه على ذلك السمين في حاشية الفتوحات الإلهية [6] ، وهذا الذي قالاه يحتمل ولا يتحتم.(32/25)
على أن أبا حيان نفسه قال في استفهام الآية القادمة [7] وهو: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} قال إن إذا شرطية، وقال السمين [8] يجوز أن تكون شرطية، وأسلوب الاستفهام في هذه الآية وفي الآية القادمة جاء على نسق واحد، فالقول بشرطية إذا في أحد الاستفهامين ينطبق على الاستفهام الثاني.
الآية الثالثة في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدا أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .
الآيات: (48- ا 5) من سورة الإسراء.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن شركي قريش كانوا يشبهون الرسول صلى الله عليه وسلم تشبيهات كثيرة، ويضربون له الأمثال المختلفة، فتارة يقولون هو شاعر، وتارة يقولون هو مجنون، وتارة يقولون هو مسحور ... ولكنهم جميعا بهذه الأمثال التي ضربوها قد جاروا عن قصد السبيل ولم سلكوا سبيل الهدى والإيمان.
وتتضمن أيضا أنهم كانوا يقولون منكرين مستهزئين: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} إن هذا لن يكون، ولكن محمدا يدعيه ويقوله.
ومما تضمنته هذه الآيات أيضا أن الله جل جلاله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهم: "لو صارت عظامكم ورفاتكم شيئا آخر أبعد عن الحياة من العظام والتراب، لو صارت حجارة أو حديدا، لو صارت خلقا آخر غيرهما مما يكبر ويعظم في صدوركم وتظنون أنه أبعد عن قبول الحياة، فلابد لكم من البعث مهما صرتم".(32/26)
سيقول لك هؤلاء المنكرون: "من ذا الذي يقدر على إعادة الحياة إلينا؟! "قل لهم: "الذي فطركم وأنشأكم من العدم الصرف هو الذي يعيدها إليكم، فالقادر على الابتداء قادر على الإعادة".
وحين يسمع المشركون قولك هذا سيحركون رءوسهم حركة من يسمع الشيء فينكره ويكذبه ويستبعده ويعجب منه، وسيقولون مستهزئين متى هذا العود والإحياء؟!!.
قل لهم عسى أن يكون قريبا.
وقد أفاد هذا الاستفهام: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أفاد الإنكار والاستهزاء والتكذيب والاستبعاد والتعجب [9] .
ينكر هؤلاء المشركون ويكذبون أن يبعثوا من قبورهم خلقا جديدا إذا ماتوا وصاروا عظاما وترابا، ويهزءون بهذا البعث ويستبعدونه ويعجبون أن يكون.
وقد سبق إعراب مثل هذا الاستفهام، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار، وكلمة (خلقا) الواردة في هذا الاستفهام يجوز أن تكون مصدرا منصوبًا على المفعولية المطلقة والعامل فيه مبعوثون لأنه يلاقيه في المعنى وإن اختلف عنه في اللفظ، ويجوز أن يكون (خلقا) بمعنى مخلوقين فهو منصوب على الحالية.
الآية الرابعة في قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُوراً} .(32/27)
الآيات: (97-99) من سورة الإسراء.
تتضمن هذه الآيات الكريمة:
مَن يهده الله تعالىِ فهو المهتدى، ومَن يضلهم الله تعالى فهم الضالون الذين لا يجدون من دونه أنصارًا يحمونهم من عقابه وعذابه.
وسوف يحشر الله تعالى هؤلاء الضالين يُسحبون على وجوههم إذلالاً وهوانًا، عُمياً يسيرون على غير هدى ولا يرون طريقا ولا غير طريق مما قد يُسرِّى وشرّ، بُكماً لا ينطقون بما ينفعهم أو يكون لهم حجة، صُمَّا لا يسمعون شيئا يخفّف عنهم ما هم فيه من خوف وقلق وذهول ورعب وفزع.
ولكن إلى أين يحشرون؟! إلى جهنم، فهي مأواهم، وهم وقودها، كلما أحرقتهم فخبت بدّلوا خلقا جديدا فازدادت لهيبا وسعيرا ليذوقوا عذابا أشدّ وحسرة أوجع.
تلك الحال المهينة المذلة التي حشرهم الله عليها، وجهنم هذه التي كانت هي المأوى، وهذا العذاب الدائم الذي يعذبونه، ذلك كله كان جزاء كفرهم بآيات الله، وجزاء كفرهم بقدرته عزّ وجلّ على إحيائهم مرة ثانية بعد أن يصيروا في قبورهم عظاما وترابا، فقد أنكروا قدرة الله تعالى على بعثهم، وعميت قلوبهم فلم تدرك أن الله الذي خلق السماوات وما فيها والأرض ومن عليها قادر على أن يعيدهم كما خلقهم أول مرة.
لقد جعل الله تعالى لبعث هؤلاء المنكرين المكذبين أجلا مقدّرا وموعدا محدّدا لا ريب فيه ولا يعلمه إلا الله، ولكن هؤلاء الظالمين الذين حادوا عن طريق الحق والإيمان بالبعث أبوا مع ظهور الأدلة وقيام الحجج إلا جحودا لهذا البعث وكفرًا بآيات الله.
وقد أفاد هذا الاستفهام الذي قاله المشركون: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أفاد الإنكار والتكذيب والاستبعاد والسخرية والتعجب، لقد أنكروا أن يبعثوا بعد موت، وكذبوا به تكذيبا، ولقد استبعدوه ساخرين متعجبين من أن يكون.(32/28)
وقد مضى إعراب مثل هذا الاستفهام في الآية الخامسة من سورة الرعد وهى الآية الثانية من آيات استفهام (أإذا) في هذه الرسالة.
الآية الخامسة: في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} الآيات: (66-70) من سورة مريم. تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الإنسان الكافر ينكر أن يبعث حيّا من قبره بعد أن يموت.
وتتضمن أيضا توبيخ هذا الإنسان المنكر على عزوب التعقل والتدبر عنه، فهو لو تذكر وتفكر لأدرك أن الله الذي خلقه أوَل مرة من العدم المحض هيّن عليه أن يعيد خلقه بعد أن يصير ترابا.
وتتضمن أيضا مصير هؤلاء الناس المنكرين للبعث، فالله جل جلاله سوف يحشرهم يوم القيامة مع الشياطين أذلة جاثين على ركبهم حول جهنم، ثم ينزع من كل شيعة أيهم أشد عتوّا وتمّردا وتجبرّا فيقذفون في النار، ثم يتبعهم أتباعهم من بعد.
وقد جاء هذا الاستفهام: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} جاء مفيدا الإنكار والاستبعاد والتعجب، فقد أنكر الكافرون من الناس أن يبعثوا من قبورهم أحياء بعد أن يموتوا في هذه الدنيا، ورأوا ذلك بعيدا لا يمكن وعجيبا أن يكون.
وقد كان إنكارهم هذا بعيدا عن التعقل والتبصر، فالذي خلقهم أول مرة ولم يكونوا شيئا هيّن عليه أن يعيد خلقهم بعد أن صاروا عظاما ورفاتا، فليس في هذه الإعادة ما يدعو إلى استبعاد أو يثير شيئا من التعجب لو كانوا يعقلون.(32/29)
و (إذا) في هذا الاستفهام شرطية. و (ما) زائدة لتأكيد مضمون الجملة التي بعدها، وجواب إذا محذوف تقديره أخرج وقد دلّ عليه {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} .
الآية السادسة: في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .
الآيات: (78-89) من سورة المؤمنون.(32/30)
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد خلق لكم أيها الناس السمع الذي به تسمعون، والأبصار التي بها تبصرون، والأفئدة التي بها تفقهون، وهذه من أعظم النعم التي أنعمها الله عليكم، فكان ينبغي لكم أن تشكروا الله على هذه النعم العظيمة، ومن الشكر أن تنتفعوا بها فيما خلقت له، ومما خلقت له أن تسمعوا بها آيات الله التي تسمع، وأن تبصروا بها آيات الله التي تبصر، وأن تتفكروا وتتدبروا هذه الآيات جميعا فتدركوا أن الذي أنشأها من العدم قادر على أن يخلقها مرة ثانية بعد الموت، ولكنكم أيها الناس قليلا ما تشكرون الله الذي خلقها لكم وأنعم بها عليكم، قليلا ما تشكرونه شكرا يرضى عنه في هذه الدنيا، وينفعكم عنده يوم يقوم الحساب.
وتتضمن أيضا أن الله قد أنعم عليكم بنعمة الحياة في هذه الدنيا فخلقكم فيها وبثكم من فوق الأرض، ولكنها نعمة لا تدوم، فسوف يميتكم بعد هذا ثم إليه وحده تحشرون فيجازيكم بما كنتم تعملون.
كان ينبغي لكم أيها الكافرون أن تتفكروا وتتدبروا أن الذي يحي ويميت ويخلق الليل والنهار خلفه قادر على أن يخلقكم مرة ثانية، ولكنكم أناس لا تعقلون ولا تبصرون فقلتم مثل ما قال أسلافكم الأولون الذين كذبوا بالرسل، أنكرتم البعث مثل ما أنكروا، وقلتم هيهات هيهات أن نبعث من قبورنا وقد صرنا ترابا وعظاما، ثم قلتم إن هذا الوعد الذي تعدنا به يا محمد قد وعده آباءنا أناس من قبلك ذكروا أنهم رسل الله كما تذكر أنت إنك لرسول، ولكن آباءنا ظلوا في قبورهم لم يبعثوا منها، فكيف نصدق ما تقول؟! إنْ نرى ما تقول يا محمد وما قيل لآبائنا من قبلك إلا أكاذيب سطرها الأولون.
وتتضمن أيضا اعتراف هؤلاء المنكرين للبعث من قريش بأن الأرض ومن فيها ملك لله، وأن الله هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، وأن الله هو الذي يملك كل شيء ينجي من يشاء ويعذب من يشاء.(32/31)
كان إقرارهم هذا بعظيم سلطانه تعالى وقدرته يقتضي- لو كان عندهم مُسكه من عقل ولَمحة من تدبر- أن يؤمنوا بأن الله قادر على إحيائهم بعد الممات. ولكنهم قوم قد عزب عنهم التذكر والتدبر، وغاب عنهم التفكير السليم والإدراك المستقيم، كانوا قوما كأنما أصابهم سحر وغشيهم خبال.
وقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} جاء مفيدا الإنكار والتكذيب والسخرية والاستبعاد والتعجب: فقد أنكر المشركون من قريش أن يبعثوا من قبورهم أحياء بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، وكذّبوا به وسخروا منه، ورأوا ذلك بعيدا عن الإمكان عجيما أن يكون.
و (إذا) شرطية في محل نصب على الظرفية والعامل فيها شرطها، وجوابها محذوف دلّ عليه (أإنا لمبعوثون) وتقديره نبعث.
الآية السابعة: في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} . الآيات: (67-69) من سورة النمل. تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الذين كفروا بربهم أنكروا أن يُخرجوا هم وآباؤهم من قبورهم أحياء بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا، وقالوا: "لقد وُعِدنا هذا، ومن قبل محمد وَعَد آباءنا ذلك واعدون، فلم نرا لذلك حقيقة ولم نتبين له صحة، فما هذا الوعد إلا أكاذيب سطّرها الأولون في الكتب وتحدثوا بها جيلا بعد جيل".(32/32)
فردّ الله سبحانه وتعالى عليهم فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل لهؤلاء المكذبين سيروا في الأرض فانظروا إلى ديار من كذبوا رسل الله قبلكم كيف صاروا وكيف صارت مساكنهم، لقد دمرهم الله بتكذيبهم الرسل ودمّر ديارهم، فإن لم تنيبوا إلى الله وتؤمنوا بما جئتكم به كانت عاقبة أمركم خسرا كعاقبة المجرمين من قبل".
ولقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} للإنكار والتكذيب والاستهزاء والاستبعاد والتعجب: لقد أنكروا أن يبعثوا وكذّبوا الرسل الذين جاءوهم بذلك، واستبعدوا ساخرين متعجبين من أن يكون هذا البعث.
و (إذا) في هذا الاستفهام شرطية في محل نصب على الظرفية والعامل فيها شرطها، وجملة الشرط (كنا ترابا) لا محل لها من الإعراب، وآباؤنا عطف على اسم كان وهو الضمير المتصل البارز (نا) ، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للهمزة الأولى وجملة (أإنا لمخرجون) لا محل لها من الإعراب قائمة مقام جواب إذا ودالة عليه وتقديره نخرج، وجملة {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} في محل نصب مفعول به لقالوا.
الآية الثامنة: في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} . الآيات: (10-12) من سورة السجدة.(32/33)
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن المكذبين بالبعث كانوا يقولون أإذا متنا وصرنا ترابا من تراب الأرض أفنعود خلقا جديدا كما كنا من قبل في حياتنا الدنيا؟! إن هذا لن يكون!!. بل كانوا يذهبون إلى أبعد من هذا وأشنع، كانوا يكذبون بلقاء ربهم من بعد الممات ليجازيهم بما كانوا يعملون.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المكذبين: "إنّ الله هو الذي خلق الموت والحياة وإنه هو الذي يحي ويميت، وقد وكل أمر موتهم إلى ملك من ملائكته هو ملك الموت، فهو الذي يتوفاهم بأمره تعالى، ثم يبعثهم الله جلّ وعلا أحياء يوم القيامة فيرجعون إليه ليجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته".
ولو ترى يا محمد أولئك الذين أجرموا وأنكروا البعث وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد، لوتراهم يا محمد يوم القيامة لرأيت أمراً عجبا، كانوا على أسوأ حال، قد طأطأوا رءوسهم عند ربهم من الخزي والذل والغم والندم والحسرة، يقولون: "ربنا أبصرنا اليوم ما كنّا نكذب به في الدنيا، وسمعنا الآيات التي كنّا ننكرها ونعرض عنها في حياتنا الأولى، إننا اليوم موقنون أن ما جاء به محمد كان حقا وصدقا، ربنا أرجعنا إلى الدنيا لنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل".
ولكن هيهات هيهات لما يطلبون لقد أبصروا حصان لا ينفعهم إبصار، وسمعوا حين لا ينفعهم سمع.
وقد أفاد هذا الاستفهام: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أفاد الإنكار والتكذيب والاستهزاء والاستبعاد والتعجب: فقد أنكروا أن يبعثوا خلقا جديدا من بعد موتهم في الحياة الدنيا وكذبوا به، وهزئوا من ذلك، واستبعدوه من الإمكان، وعجبوا من أن يكون.
وقد مضى إعراب مثل هذا الاستفهام أكثر من مرة، ومع ذلك أُعيد وأكرّر وأقول:(32/34)
(إذا) شرطية في محل نصب على الظرفية والعامل فيها شرطها وجملة الشرط (ضللنا في الأرض) لا محل لها من الإعراب على الرأي الأرجح والأقوى، وجواب إذا محذوف قام مقامه ودلّ عليه أإنا لفي خلق جديد تقديره نخلق خلقا جديدا.
الآية التاسعة: في قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} .
الآيات (11- 18) من سورة الصافات.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سل يا محمد هؤلاء المشركين الذين ينكرون البعث من بعد الممات، أخلقهم أشد وأشق أم خلق من عندنا من الملائكة والشياطين والسماوات والأرض وما بينهما.
إنا خلقنا أباهم آدم من طين لزج، فكيف يستنكرون أن يخلقوا من تراب مثله، ولقد قدرنا على خلقهم بدءاً فمن السهل الهينّ أن نخلقهم مرة أخرى.
لقد عجبت يا محمد من إنكارهم البعث وهم يعلمون أن الله قد خلق ما هو أشد من خلقهم، وهم يسخرون من هذا البعث الذي تدعوهم إلى الإيمان به.
وإذا ذُكِّر هؤلاء المشركون حجج الله على صحة البعث لا يتعظون بتلك الحجج ولا ينتفعون، وإذا رأوا آية باهرة معجزة دالة على البعث قالوا هازئين ساخرين: ما هذا إلا سحر مبين، أنبعث إذا صرنا في تراب الأرض عظاما وترابا؟! أو يبعث أيضا آباؤنا الأولون الذين مضى عليهم في باطن الأرض دهر طويل؟! إن هذا لشيء عجاب هيهات هيهات أن يكون!!.(32/35)
قل لهم يا محمد في حزم وحسم وتقريع ودون جدل: "نعم سوف تبعثون على رغم أنوفكم وأنوف آبائكم الأولين، سوف تبعثون جميعا وأنتم أذلة صاغرون".
أختي العزيزة:
قد قرأ حمزة والكسائي [10] من القراء السبعة (بل عجبتُ ويسخرون) بضم تاء عجبتُ وقرأ باقي السبعة بفتح التاء. وقال الطبري [11] في تفسيره لهذه الآية: "إنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب"اهـ.
وعلى قراءة حمزة والكسائي يكون التعجب مسندا إلى الله عزّ وجلّ ولكنه تعجب يليق بكماله وجلاله وليس كتعجب الآدميين، إذ ليس كمثله شيء والمعنى على قراءة ضم التاء- والله أعلم-: بل عجبتُ من أن ينكر المشركون قدرتي على البعث وهم يعلمون أنني قد خلقت ما هو أعظم وأشد من خلقهم.
هذا، وقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} جاء مفيدا الإنكار والتكذيب والاستهزاء والاستبعاد والتعجب، فقد أنكر أولئك المشركون بعثهم بعد موت، وكذّبوا، واستهزءوا به، واستبعدوا كل الاستبعاد أن يقع، وعجبوا أيّما عجب أن يكون.
وقد سبق أن أُعرب مثل هذا الاستفهام أكثر من مرة، غير أن (آباؤًنا) الواردة في هذا الاستفهام الواقعة بعد واو العطف المسبوقة بهمزة الاستفهام قد اختلف الرأي في إعرابها: فقال الزمخشري [12] عند تفسيره لهذه الآية: "وآباؤنا معطوف على محل إنَّ مع اسمها، أو على الضمير (المستتر) في مبعوثون، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام"اهـ.
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين [13] عند تفسير هذه الآية مثل هذا الإعراب نقلا عن السمين.(32/36)
غير أن الشيخ أبا حيان في تفسيره البحر المحيط [14] ردّ هذين الوجهين من الإعراب: فقد ردّ الوجه الأول وهو العطف على محل إن مع اسمها بأنه على خلاف مذهب سيبويه، وردّ الوجه الثاني وهو العطف على الضمير المستتر في مبعوثون بأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، وهذا العطف يجعلها داخلة على مفرد. ووجه الإعراب عنده أن (آباؤنا) مبتدأ خبره محذوف تقديره مبعوثون، ويدل عليه ما قبله.
الآية العاشرة: في قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} .
الآيات (50-57) من سورة الصافات.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أنّ مما يتمتع به أصحاب الجنة في الجنة أن يقبل بعضهم على بعض فيأخذوا بأطراف الأحاديث فيما بينهم، يتذكرون أحوال الدار الدنيا وما كان قد حدث لهم فيها، وكان من ذلك أن قال قائل منهم: "إني كان لي مصاحب في الدنيا يقول لي منكراً هازئاً بي وبإيماني بالبعث والحساب: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أحياء فمحاسبون على أعمالنا فمجازون عليها؟! ".
ثم قال لأصحابه وجلسائه الذين كانوا يتساءلون في الجنة: "ألا تطلعون لنرى ماذا كان مصير ذلك القرين؟! فاطلعوا واطلع فرآه في وسط الجحيم يقاسى العذاب الأليم، فقال له شامتا: تالله إنْ كدت لتهلكني بإغوائك، ولولا نعمة ربي علّي بالهداية والإيمان لكنت مثلك من المحضَرين هذا العذاب الذي أنت فيه".(32/37)
وقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} جاء مفيدا الاستهزاء والإنكار والتكذيب والتعجب والاستبعاد, كان قرين السوء بهذا الاستفهام يستهزئ بالبعَث والحساب والجزاء، وبصاحبه الذي آمن بذلك كله، وأفاد هذا الاستفهام أيضا أن ذلك القرين قرين السوء كان منكرا للبعث والحساب والجزاء مكذّبا به، يعجب كل العجب أن يقع، ويستبعد كل الاستبعاد أن يكون.
الآية الحادية عشرة: في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} . الآيات: (2-4) من سورة ق.
تتضمن هذه الآيات الكريمة عَجَبَ كفار قريش أَنْ جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم رسولا منذرا يخوفهم بالبعث وما يعقب البعث من حساب وعقاب، وهو رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته وإخلاصه في النصح وحرصه على ما ينفع الناس، هذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما وإقرارهم بخلقه تعالى إياهم أول مرة.
لقد كان عجبُ كفار قريش- وهذه حالهم وحال الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم- بعيدا عن مواطن العجب وما ينبغي أن يكون.
لقد كفروا حين أنكروا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من بعث وحساب وعقاب، وكذّبوا به واستبعدوه وقالوا هذا شيء عجيب، أإذا متنا وكنّا ترابا أنبعث أحياء كما كنا؟! هذا رجع لا يمكن وهيهات هيهات أن يكون!!.
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على استبعادهم هذا الرجع بأنه عالم بما تنقصه الأرض من أجسامهم وتأكله من لحومهم وتبليه من عظامهم، وعنده كتاب حافظ كل شيء لا يضل ولا ينسى، ومن كان عالما بذلك كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا.(32/38)
وقد أفاد هذا الاستفهام: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أفاد الإنكار والتكذيب والاستبعاد والتعجب، فقد أنكروا رجعهم أحياء من بعد أن يصيروا ترابا، وكذبوا به، واستبعدوا وقوعه، وعجبوا أن يكون.
وجواب إذا الشرطية محذوف تقديره نبعث، وقد دلّ عليه (ذلك رجع بعيد) .
الآية الثانية عشرة: في قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} .
الآيات: (41-56) من سورة الواقعة.
تتضمن هذه الآيات الكريمة وصفا لما يلاقيه الكافرون أصحاب الشمال في نار جهنم يوم القيامة من مصاب عظيم وعذاب أليم، فهم فيها في سموم تهب عليهم ساخنة فتشوى الجلود، ويحسّون بظمأ شديد فيشربون ماء حميما يظنون به رِيًّا فيقطّع أمعاءهم، ويأوون إلى ظل لعلهم يجدون فيه بردا فإذا هو دخان أسود حار يهب عليهم من شفير جهنم لا بارد ولا كريم.
وتتضمن أيضا أن هذا العذاب كان جزاء بما كانوا عليه في دارهم الدنيا، إنهم كانوا مترفين فأعماهم الترف أن يشكروا الله عزّ وجلّ على ما أنعم عليهم، فلم يقوموا بطاعاته، وجعلهم متكبرين عن أن يستجيبوا إلى ما دعتهم إليه الرسل، فأبعدوا في الضلال.(32/39)
وكانوا أيضا يشركون بالله ويُصرّون على هذا الشرك، ويرفضون في عناد أن يتوبوا إلى الله فيوحدوه وينبذوا الأنداد وعبادة الأنداد.
وكانوا أيضا ينكرون البعث والحساب ويوم القيامة ويقولون في إنكار وسخرية مكذّبين! مستبعدين في عجب: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، ثم يتمادون في السخرية والإنكار والاستبعاد قائلين: "أو يبعث آباؤنا الأولون الذين مضى عليهم دهر طويل في باطن الأَرض فأصبحوا ترابا في تراب".
وقد أخبر الله جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأصحاب الشمال هؤلاء إن العالم كله سيبعث ويحشر يجمع يوم القيامة ويحاسب، وسوف تكونون أنتم وآباؤكم مع من يبعث يجمع، ثم إنكم أيها الضالون طريق الهدى المكذبون بالبعث والحساب، إنكم أنتم وآباءكم ومن كان من أمثالكم سوف تصلون سعيرا، وسوف يكون نزلكم فيها شجرا خبيثا مرّ المذاق من زقوم، فتملأون منه بطونا طواها الجوع ولكنها لن تشبع ثم تشربون عليه من ماء حميم لعلكم ترتوون ولكنكم لا تنتهون.
وقد جاء هذا الاستفهام: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} وقد جاء مفيدا الإنكار والتكذيب والسخرية والاستبعاد والتعجب: فقد أنكروا أن يبعثوا هم وآباؤهم الأوَلون من بعد الممات، وكذبوا به أيّما تكذيب، وسخروا من هذا البعث وما بعد هذا البعث من حساب وعقاب، واستبعدوا أن يقع مثل هذا في الوهم، وعجبوا كل العجب أن يكون.(32/40)
الآية الثالثة عشرة: في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ. أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ. يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ. أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} . الآيات: (1-14) من سورة النازعات.
يقسم الله سبحانه وتعالى في الآيات الخمس الأولى بطوائف مختلفة من الملائكة ذوات صفات مختلفة، وجواب هذا القسم قد اختلف فيه العلماء، والرأي- فيما يبدو لي- ما ذهب إليه الفراء من أنه محذوف تقديره لتبعثن، وهذا الجواب المحذوف هو العامل في ظرف الزمان في (يوم ترجف الراجفة) .
وتتضمن آليات التي وردت بعد هذا القسم أن البعث سوف يكون في يوم تقع فيه نفختان: النفخة الأولى (الراجفة) التي تميت كل شيء بإذن الله، ثم تتبعها النفخة الثاني (الرادفة) التي تحي كل شيء بإذنه تعالى، وفي هذا اليوم تضطرب قلوب الكافرين أشد الاضطراب، ويصيبها من الخوف والهلع أشدّ ما يكون عليه الخوف والهلع. وفي هذا اليوم تخشع أبصار الكافرين وتذل، وتغشاها الكآبة ويملأها الغم والهم والحزن والحسرة، وتنظر نظرات من يترقب نزول البلاء العظيم.
هؤلاء الكافرون الذين تجف قلوبهم في هذا اليوم وتخشع أبصارهم هم الذين كانوا يقولون في الدنيا منكرين مستهزئين مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه كل الاستبعاد، متعجبين من أن يكون: "أإنا لمردودن إلى الحياة بعد موتنا في الحافرة، أنردّ إليها ونحن عظام نخرة بالية أشد ما تكون بعدا عن الحياة؟! إن هذا لشيء عجاب!! ".(32/41)
وكانوا يقولون أيضا ساخرين هازئين: "إن صحّت تلك الرجعة إلى الحياة بعد الموت فنحن الخاسرون حقا لأنّا كنا بها مكذبين".
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بعد أن أقسم في أول السورة أنهم سيبعثون أحياء يوم القيامة، ردّ سبحانه وتعالى عليهم بما يتضمن:
"لا تحسبوا هذه الكرة صعبة تحتاج إلى معاناة وطول زمن، إنها سهلة هينة في قدرة الله تعالى، فما هي إلا صيحة واحدة لا ثانية لها ولا ثالثة ولا تحتاج إلى شيء يصاحبها ويشدّ من أزرها، صيحة واحدة فقط، ثم في أقل من لمح البصر يخرج هؤلاء المنكرون للبعث أحياء من فوق الأرض، تجف منهم القلوب وترتعد الفرائص وتغشى أبصارهم الذلة".
وقد جاء هذا الاستفهام {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} جاء مفيدا الإنكار والتكذيب والاستهزاء والاستبعاد والتعجب:
فقد أنكروا أن يردوا إلى الحياة بعد أن يصير وفي قبورهم ترابا وعظاما نخرة، ينكرون ذلك الردّ ويكذبون به ويهزءون، ويستبعدون أن يقع في وهم ويعجبون أن يكون.
أختي العزيزة: هل:
في ختام هذه الرسالة أحب أن أنبهك لأشياء:
1 - لعلك قد لحظت أن هذه الاستفهامات الثلاثة عشر التي جاءت في هذه الرسالة وقد دخلت فيها همزة الاستفهام على إذا الشرطية كانت- ماعدا الأول منها- محكية عن المشركين، وأنها قد أفادت أول ما أفادت إنكار هؤلاء المشركين للبعث، وتكذيبهم بقدرة الله عزّ وجلّ على إعادة خلقهم مرة ثانية بعد أن يموتوا ويصبحوا في تراب الأرض ترابا.(32/42)
2- ولعلك قد لحظت أيضا أن صيغ الاستفهام نفسها كانت متقاربة جدّا في الألفاظ والتراكيب والأسلوب والمعنى، ولكنك إذا نظرت إلى السياق الذي سيقت فيه، وإلى المورد الذي أوردته وجدت أن كل استفهام كان جديدا بما يصحبه من آيات تتضمن الدليل على قدرة الله تعالى، وآيات تتضمن العقاب الذي سوف يلاقيه هؤلاء المنكرون، ومن قسم يقسمه الله عزّ وجلّ على تقرير البعث وتأكيد وقوعه.
3- ولما كان إثبات البعث من المقاصد الأولى للقرآن الكريم، وكان منكروه كثيرين على تعاقب الأجيال والقرون، لما كان ذلك كذلك جاء ذكره في القرآن الكريم كثيرا ليقرر صحته ويقيم الدليل عليه، وليكفّر من لم يؤمن به، ولينذرهم عذابا أليما.
4- كثيرا ما ينهج الأسلوب القرآني منهج التصوير الحسي في التعبير عن المعاني ليعطيها دقة وعمقا وشمولا وقوة دلالة ورسوخا في النفس أكثر مما تعطيه الألفاظ والكلمات ذوات الدلالات المباشرة.
ومما جاء في آيات هذه الرسالة من هذا الأسلوب هذه الصورة الحسية التي يكون عليها المكذبون بالبعث يوم القيامة: {وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} .
لقد كانت هذه الأغلال التي في الأعناق أفصح وأقوى دلالة وأبعد تأثيرا في النفوس من تلك الكلمات التي تدل دلالة مباشرة من مثل أذلاء أو محتقرون.
ثم انظري إلى صورة حسية ثانية يكون عليها المكذبون بالبعث: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} .
هذه الصورة الحسية التي يحشرون عليها تجعل ما كانوا فيه من الويل والعذاب والخوف والرعب والحيرة والذهول والقلق، تجعله (مُجسّماً) تراه العينان فترتعد له الفرائص وتجف له القلوب ويذهب في أعماق النفس يغالب النسيان دهرا طويلا.(32/43)
وإن هذه الصورة الحسية لتذهب بالخيال كل مذهب في تصور شقاء هؤلاء المجرمين المسحوبين على وجوههم وقد سلبت منهم كل حاسة يمكن أن تخفف عنهم ما هم فيه، وأُبقيت لهم الحاسّة التي تُحسِن تذوّق العذاب وتَحسِّي الألم.
ثم تعالي إلى صورة ثالثة ورابعة يحشر عليهما المكذبون المنكرون للبعث: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} أين أنت أيتها الألفاظ التي تسطيعين أن تعبري عما تعبر عنه هذه الصور! المفزعة المروّعة صورة الحشر مع الشياطن، إن هذه الصورة لتنقل السامع إلى عالم غير محدود من الخوف والرعب والفزع يعجز عن وصفه اللفظ، وتقصر دون بلوغه العبارة.
وانظري إلى هذه الصورة الرابعة: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} هذا
الحضور- وهم جاثون على ركبهم وأمام أعينهم نار جهنم تتلظى- صورة يتجلى فيها الذل والهوان والاحتقار والصغار والخوف والرعب والفزع، صورة تظل قائمة نُصب الأعين لا تغيب، راسخة في الأذهان لا تمّحى، وهيهات هيهات أن تغنى غَناءها الألفاظ، أو أن تسدّ مسدّها العبارة.
أختي العزيزة:
البلاغة القرآنية لا تفنى ولا تنفد، ولا تنتهي عند حد، ولكن رسائلي إليك لها نهايات تنتهي إليها، وقد آن لهذه الرسالة أن تنتهي.
أسأل الله تعالى أن يعين على رسالة قادمة أحدثك فيها عن همزة الاستفهام الداخلة على "لو"الشرطية، وعلى "كلّما" و"لمّا"الشرطيتين، وأسأله تعالى أيضا أن يوفقني إلى ما فيه الخير والنفع والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
مراجع هذه الرسالة الرابعة عشرة
أ- المراجع على وجه الإجمال:
1 - تفسير أبى جعفر بن جرير الطبري- الطبعة الثالثة- الناشر: شركة الحلبي(32/44)
2- البحر المحيط لأبى حيان الأندلسي: الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة, الرياض.
3- تفسير أبى السعود: الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد, القاهرة.
4- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين- الناشر: الحلبي بمصر.
5- تفسير الفخر الرازى: الناشر: دار الكتب العلمية- طهران- الطبعة الثانية.
6- تفسير القرطبي: الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
7- تفسير ابن كثير: الناشر: الحلبي بمصر.
8- الكشاف للزمخشري: الناشر: الحلبي بمصر.
9- مغنى اللبيب لابن هشام الأنصاري: تحقيق الدكتور مازن المبارك وزميله الناشر: دار الفكر.
10- شرح الرضي على كافية ابن الحاجب في النحو: الناشر: دار الكتب العلمية, بيروت.
ب- المراجع التي أشير إليها بالأرقام المسلسلة:
1- البحر المحيط ج5 ص167 – تفسير أبي السعود ج4 ص153- الفتوحات الإلهية ج2 ص355.
2- مغني اللبيب لابن هشام ج1 ص100.
3- شرح الرضى على كافية ابن الحاجب ج2 ص110.
4- البحر المحيط ج5 ص365 – تفسير أبي السعود ج5 ص6 – الكشاف للزمخشري ج2 ص349.
5- البحر المحيط ج5 ص366.
6- الفتوحات الإلهية ج2 ص491.
7- البحر المحيط ج6 ص44.
8- الفتوحات الإلهية ج2 ص629.
9- البحر المحيط ج6 ص44 – تفسير أبي السعود ج5 ص177 – تفسير البيضاوي ج1 ص587.
10- البحر المحيط ج7 ص354 – الفتوحات الإلهية ج3 ص532.
11- الطبري ج23 ص43.(32/45)
12- الكشاف للزمخشري ج3 ص337.
13- الفتوحات الإلهية ج3 ص533.
14- البحر المحيط ج7 ص355.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البحر المحيط جـ5 ص 167- تفسير أبى السعودي جـ4 ص 153- الفتوحات الإلهيةجـ2 ص355.
[2] مغنى اللبيب لابن هشام جـ1 ص100.
[3] شرح الرضى على كافية ابن الحاجب جـ 2 ص.11.
[4] البحر المحيط جـ5 ص365 - تفسير أبى السعود جـ 5 ص 6 الكشاف للزمخشري جـ 2 ص349
[5] البحر المحيط جـ5 ص 366.
[6] الفتوحات الإلهيةجـ2 ص 491
[7] البحر المحيط جـ6 ص 44.
[8] الفتوحات الإلهيةجـ2 ص 629.
[9] البحر المحيَط جـ 6 ص 44- تفسير أبى السعود جـ5 ص 177- تفسير البيضاوي جـ1 ص 587.
[10] البحر المحيط جـ7 ص 354- الفتوحات الإلهيةج3 ص 532.
[11] الطبري جـ23 ص 43.
[12] الكشاف للزمخشري جـ3 ص 337.
[13] الفتوحات الإلهية جـ 3 ص533.
[14] البحر المحيط جـ7 ص355.(32/46)
ألْفِيَّةُ ابْن مَالِكٍ مَنْهَجُهَا وَشرُوحُهَا
(1) للأستاذ الدكتور غريب عبد المجيد نافع
أستاذ اللغوّيات بالدّراسات العليا بالجامعة.
في مدينة جَيّان بالأندلس، ولد الإمام العلامة أبو عبد الله جمال الدين، محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله الطائي سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائة من الهجرة (598 هـ) ، وفيها تلقى جانبا من دراسته الأولية، ثم هجرها في شبابه المبكر إلى بلاد الشام، وفي طريقه إليها عرَّج على مصر، فأقام بها مدة تحوَّل خلالها من مذهب الإمام مالك إلى مذهب الإمام الشافعي.
ثم ارتحل إلى الأراضي المقدسة؛ رغبةً في الحج، ومنها واصل المسيرة إلى دمشق، وحضر فيها دروساً على بعض علمائها، ثم انتقل إلى حلب، فأطال بها المقام، باحثا، ومدرسا. ومن حلب رحل إلى حَماة، ومنها إلى دمشق، وفي دمشق ألقى عصا التَّسيار، بعد أن لمع نجمه، وارتفع قدره فتصدر للتدريس فيها صابراً على متابعة البحث، محتسباً أجره عند الله، حتى وافاه الأجل المحتوم يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان عام اثنين وسبعين وستمائة للهجرة (672 هـ) .
وقد جمع الله لابن مالك من الأسباب ما يؤهله لأن يكون واحد عصره، وقدوةً لمن جاء بعده، فهيأ له البيئة التي تموج بالعلم، وتدفع إليه دفعا، كما منحه العقل المفكر، والذهن المتفتق، والحافظة الواعية، والرغبة المتدفقة في البحث والتقصي.
وكان لكثرة اطلاعه على أشعار القدامى، وسرعة حفظه لما يقع عليه بصره، أو يلتقطه سمعه- أثرٌ واضح في تأجيج الملكة الشعرية؛ فقد كان نظمُ الشعر عليه سهلاً حتى عالجه في أدق مسالكه، وهو نظم العلوم والفنون.(32/47)
ولابن مالك في المكتبة العربية مؤلفات كثيرة متنوعة، ولكن أبرزها وأشهرها "الخلاصة" المعروفة بـ "الألفية "، فقد سارت بذكرها الركبان، وتبارى العلماء على مرّ العصور في شرحها، أو اختصارها، أو محاكاتها، أو نقدها [1] .
و"الألفية": منظومة علمية تعليمية، اختصرها من منظومته الكبرى "الكافية الشافية"، وجعلها في أرجوزة لطيفة، جمعت خلاصة النحو، وأغلب مباحث الصرف، في إيجاز محكم، مع الإشارة أحياناً إلى مذاهب العلماء، وبيان ما يختاره من آراء.
ألا ترى إلى قوله في بيان حركة نون المثنى، وما جُمعَ على حَدِّه:
ونُونَ مَجْمُوعٍ وَمَا بِهِ التحق
فَافْتَحْ وَقَلَّ مَنْ بِكَسْرِهِ نَطَقْ
ونُونُ مَا ثنِّيَ وآْلمُلْحَقِ بِهْ
بِعَكْسِ ذَاكَ اسْتَعْمَلُوهُ فآنْتَبِهْ [2]
أو إلى قوله في أحوال انفصال الضمير واتصاله:
وفي اخْتِيَارٍ لا يجيء المُنْفَصِلْ
إِذَا تَأتَّى أنْ يَجِيءَ المُّتَّصِلْ
صِلْ أو افصل هَاء "سَلْنيِه"وَمَا
أشْبَهَهُ في "كُنْتُهُ"الْخُلْفُ انْتَمَى
كَذَاكَ خِلْتَنِيهِ وَاتِّصَالا
أخْتَارُ غَيْري اخْتَارَ الانفصالا [3]
أو إلى قوله في حكم "أنِ"المخففة:
وإنْ تُخَفَّفْ "أنَّ"فاسْمُهَا اسْتَكَنّ
وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً منْ بَعْدِ "أنْ"
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلاً وَلمْ يَكُنْ دُعَا
وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا
فَالأحْسَنُ الْفَصْلُ بِ "قَدْ"أو نَفْيٍ أو
تَنْفِيسٍ أو"لَوْ"وَقَلِيلٌ ذِكْرُ"لَوْ" [4]
وقد اشْتَهَرت "الخلاصة"بين الناس باسم "الألفية"؛ لأن عددها ألفُ بيت من الرجز التام.
وتسمية "الألفية": مأخوذة من قوله في أولها:
وأسْتَعِنُ الله في ألْفِيَّهْ(32/48)
مَقَاصدُ النحْوِ بهَا مَحْوِيَّهْ [5]
وتسمية (الخلاصة) : مأخوذة من قوله في أخرها.
أحْصَى مِنَ الكافية الخلاصة
كمَا اقتضَى غِنىً بِلاَ خَصَاصهْ [6]
و"الألفية"تسير وفق منهج تربوي، تسعى فيه الأحكام الإفرادية أمام الأحكام التركيبية، وتتصدر الجملة الاسمية فيه الجملة الفعلية، مع تقديم المرفوعات على المنصوبات، والمنصوبات على المجرورات.
فقد تناول ابن مالك في المقدمة الكلام وما يتألف منه، وأتبعه بالمعرب والمبني، والنكرة والمعرفة، ثم تكلم عن المبتدأ والخبر، والنواسخ، متمما الحديث عن المرفوعات بالحديث عن الفاعل ونائبه.
ولما كان "اشتغال العامل عن المعمول"جامعاً للمرفوعات والمنصوبات، وجوباً، أو رجحاناً، أو تسويةً- أتى به بين نائب الفاعل والمفعول به - إلا أنه ترجم المفعول به في باب "تعدى الفعلِ ولزومه"، وأردفه بالحديث عن "التنازع في العمل"؛ لأنه مرتبط بالمفعول به ارتباطا وثيقاً، ثم تحدث عن بقية المفاعيل؛ فذكر"المفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمفعول فيه، والمفعول معه"، وختم الحديث عن الفضلات بما يشبهها؛ فذكر "الإستثناء، والحال، والتمييز".
ولما فرغ من المنصوبات تناول المجروراتِ بشيء من التفصيل؛ فبدأ بحروف الجر، وأنواعها ومعانيها، وأحكامها، وثنى بالإضافة، مبينا أنواعها، وأحوالها، وأحكامها، مفرداً "المضاف إلى ياء المتكلم "بفصل خاص، لاختلاف أحكامه باختلاف أنواعه.
ولأدنى ملابسة، يتحدث ابن مالك عن "إعمال المصدر، واسم الفاعل"بعد حديثه عن الإضافة، ثم يُتْبعهما بالحديث عن "أبنية المصادر، وأسماء الفاعلين والمفعولين"، مجملا القول في صياغة "الصفة المشبهة باسم الفاعل"وعملها.(32/49)
وقبل أن يتحدث الناظم عن التوابع، يتحدث عن "التعجب، وأفعال المدح والذم! واسم التفضيل"، ثم يتناول النداء الحقيقي والمجازى، وأحكامهما في دقة تامة، وإحكام عجيب.
والاختصاص يشبه النداء في نصبه وبنائه على الضم، وفي الارتباط بالحاضر مع إفادة التوكيد؛ ومن ثمة يذكره بعد آخر مبحث من مباحث المنادى، وهو الترخيم، ثم يتحدث عن التحذير والإغراء للشبه بينهما وبين الاختصاص في إضمار العامل.
ولم يكتف ابن مالك بما أجمله في المقدمات من الحديث عن "اسم الفعل، ونون التوكيد، والممنوع من الصرف، والفعل المعرب"؛ بل عاد، فعقد لما أجمله أولاً أبواباً مستقلة، فصّل فيها القول إلى حدٍّ ما، فتكلم عن "أسماء الأفعال" وما يشبهها من "أسماء الأصوات"، ثم تناول "مالا ينصرف"بشيء من التفصيل، وأسهب القول في أحوال الفعل المضارع، فتناوله في بابي "إعراب الفعل، وعوامل الجزم"، متمما الحديث عن أدوات الشرط بعقده فصْلاً عن "لو"وآخر عن "أمّا، ولولا، ولوما".
وقبل أن ينتهي ابن مالك من الأحكام النحويّة، يضع نظاماً للتطبيق عليها فيعقد باباً في "الإخبار بالذي والألف واللام"، ثم يختتم حديثه عن النحو بـ"العدد، وكناياته"، مشيرًا في النهاية إلى "الحكاية"ب "أيٍّ، ومَن"الاستفهاميتين.(32/50)
وأما "الصرف"فقد أغفل قدراً كبيراً من "تصريف الأفعال"، فضلاً عن التقاء الساكنين وتخفيف الهمزة؛ فلم يتحدث عن "الجامد والمتصرف"، ولا عن "الصحيح والمعتل"، ولا عن "إسناد الأفعال إلى الضمائر"؛ اعتماداً على منظومته "لاميّة الأفعال". ولنجاح ابن مالك في منهجه بحرصه على تيسير العربية، لغة القرآن، أقبل العلماء والمتعلمون على ألفيته - من بين كتبه بنوع خاص - إقبالاً منقطع النظير، وعكف عليها المتخصصون في جميع الأزمان والأمصار، يدرسونها، ويعلقون عليها نظماً أو نثراً بالعربية وبغيرها، حتى طُويت مصنّفات من قبله من أئمة النحو، ولم ينتفع من جاء بعده بمحاكاته، أو الانتقاص منه. ولو لم يشر في ألفيته إلى ألفية الإِمام العلاّمة زين الدين يحي بن عبد النور الزواوي الجزائري المعروف ب "ابن معطى"المتوفى سنة 627 هـ "ذكره الناسُ، ولا عرفوه [7] .
فابن معطى، لم ينتفع في منظومته "الدُّرَّة الألفية في علم العربية"بسبقه الزمني، ولا بتقدمه المنهجي، على الرغم من إقرار ابن مالك بفضله، واعترافه بعلمه.
وأبو حيان النحوي، المتوفي سنة 745 هـ، لم ينتفع بمنظومته "نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب"على الرغم من حملته الضارية على ابن مالك، وألفَيته [8] .
وجلال الدين السيوطى المتوفي سنة 911 هـ، لم ينتفع بقوله في مطلع ألفيته:
أقول بعد الحمد والسلام
على النبيِّ أفِصح الأنامِ
النَّحُو خَيْرُ ما به المرء عُنِي
إذْ ليس علمٌ عنه حقَّا يغتني
وهذه ألفيةٌ فيها حَوَتْ
أصولَه، ونفعَ طُلاَب نَوَتْ
فائقةً ألفيّة ابْنِ مالِك
لكونها واضحة المسالك
وجَمْعِها من الأصول ما خلتْ
عنه، وضَبْطِ مُرسَلات أهمِلتْ
ترتيبُها لم يَحْو غيري صنْعهْ(32/51)
مقدماتٌ، ثم كُتْبٌ سبْعَهْ
وأسأل الله وفاء الملتَزمْ
فيها مع النفع، وحُسْنَ المختتمْ [9]
ولم يكتف العلماء بقراءة الألفية، أو التعليق عليها وإنما نظروا في بعض الأمهات المخالفة لمنهجها، فأعادوا ترتيبها على نظامها، كما فعل الشيخ أحمد بن عبد الفتاح الملوي المتوفى سنة 181 هـ في كتابه "الأنوار البهيّة، في ترتيب الرضي على الألفية" [10] .
ولجأ بعض المحققين في العصر الحاضر، إلى وضع فهارس لكتب القوم على نظام الألفية؛ تيسيرًا لفهمها، كما فعل الأستاذ الشيخ محمد عبد الخالق عُضيمة، المتوفى سنة 1404 هـ في تحقيقه لكتاب "المقتضب"الذي ألفه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، المتوفى سنة 285 هـ، ونشره في أربعة أجزاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة 1388 هـ فقد رتب الشيخ عضيمة فهرس الموضوعات ترتيب ابن مالك في الألفية لشهرته، وأخرجه في 225 صفحة من القطع الكبير، وألحقه بالجزء الرابع.
وزاد من أهمية الألفية في ميدان الدراسات اللغوية- إحكام صياغتها، وخِفة لفظها، ودقة أفكارها، وسرعة جوابها، وسداد منهجها، فضلاً عن إخلاص صاحبها؛ ألا ترى إلى قوله في بيان مجيء الحال من المضاف إليه:
وَلاَ تُجِزْ حَالا مِن المضاف لَهْ
إِلا إذَا اقْتَضى المضاف عَمَلَهْ
أوْ كَانَ جُزْءَ مَالَهُ أضِيفَا
أوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيفَا [11]
أو إلى قوله في كيفية العطف على ضمير الرفع المتصل:
وَإن عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصلْ
عَطَفْتَ، فَافْصِلْ بِالضَّمِير المُنْفَصِلْ
أو فَاصِلٍ مَّا، وَبِلاَ فَصْلٍ يَرِدْ
في الْنَّظْمِ فَاِشياً وَضَعْفَهُ اعْتَقِدْ [12]
أو إلى قوله في تذكير العدد وتأنيثه، مع بيان تمييزه:(32/52)
ثلاثَةً بِالتَّاء قُلْ لِلْعَشَرَهْ
في عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ
في الضدِّ جَرِّدْ وَالمُمَيِّزَ اجْرُرِ
جَمْعاً بِلفْظِ قلَّةٍ في الأكْثرِ
وَمِائَةً وَاْلألْفَ لِلْفَرد أضفْ
ومِائَةٌ بِالْجَمْعِ نَزْرًا قَدْ رُدِفْ [13]
أو إلى قوله في ضبط أوزان ألف التأنيث المقصورة والممدودة:
وَألِفُ الْتَّأنِيثِ ذَاتُ قَصْرِ
وَذَاتُ مَدٍّ نَحْوُ أنْثَى الْغُرِّ
والاشْتِهَارُ في مَبَاني الأولَى
يُبْدِيهِ وَزْنُ "أرَبَى وَالطُّولَى"
وَ "مَرَطَى"وَوَزْن "فَعْلَى"جَمْعا
أوْ مَصْدَراً أو صِفَةً"شَبْعَى"
وَكـ "حُبَارَى سُمَّهى سِبَطْرَى
ذكْرَى وَحِثيثى مَعَ آلْكُفُرّى "
كَذَاكَ "خُلَّيْطَى مَعَ الشّقَّارَى
واْعْزُ لِغَيْرِ هذِهِ آسْتنْدَاراَ"
لمِدِّها " فعْلاء أفْعِلاء
مُثلَّثَ الْعَين وَفَعْلَلاَء"
ثُمَّ "فِعَالا فُعْلُلاَ فَاعُولاَ
وَفَاعِلاء فِعْلِيَا مَفْعُولاَ "
ومُطْلَقَ العين "فَعَالا"وَكَذَا
مُطْلَقَ فَاء "فَعَلاَءُ"أخذا [14]
وذاعت شهرة الألفية في الأوساط العلمية الدولية؛ فنشرها بالعربية، ومعها ترجمة بالفرنسية المستشرق الفرنسي البارون أنطوان إيزاك سلفستر دى ساسى، المتوفى سنة 1252هـ (1838م) ، وطبعت في باريس سنة 1834م، وفى القسطنطينية سنة 1887م [15] .
ونُشرت موسوعة ب "الخلاصة"في النحو، ومعها شروح وتعليقات باللغة الفرنسية للمستشرق الفرنسي جوجويه , A) Goguyet) . وطبعت بالمطبعة الأدبية ببيروت سنة 1888م في 353صفحة [16] .(32/53)
وترجمها إلى الألمانية، مع نشرها بالعربية المستشرق الألماني فردريخ ديتر يشي ((Friedrich.Dietrici) المتوفى سنة 1903م، وطبعت في برلين سنة 1852م [17] .
ونشرها بالعربية مع ترجمة بالإيطالية المستشرق الإيطالي فيتو (Vitt , Enrico) قنصل إيطاليا في بيروت سابقا والمتوفى سنة 1954م، وطبعت في بيروت سنة 1898م [18] .
وإلى العدد القادم مع الحلقة الثانية إن شاء الله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نفح الطيب ج2 ص 222- 233، والأعلام ج6 ص 233، ومعجم المؤلفين ج1 ص 234، وطبقات الشافعية للأسنوي ج اص 166، وج2 ص 165، وتاريخ الإِسلام للذهبي، الجزء الأخير، وحدائق الأنام لابن عبد الرازق الدمشقي ص 204- 205، ودائرة المعارف الإسلامية ج1 ص 272، 274، وهدية العارفين ج 6 ص130، والخضري على ابن عقيل ج اص 7، وابن حمدون على المكودى ج1 ص 9ـ10والصبان على الأشموني ج اص 7-8، ومقدمة الألفية ص135، طبعة مكتبة طيبة بالمدينة المنورة، وفهرس المؤلفين بالظاهرية، والوافي ج3 ص 359، والفوات ج 2 ص 452، وغاية النهايةج2 ص 180، وبغية الوعاة ص 53.
[2] الألفية ص 22.
[3] الألفية ص 26.
[4] الألفية ص 36.
[5] الألفية ص19.
[6] الألفية ص 111.
[7] مقدمة تحقيق شرح ابن عقيل للشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، جـ 1 ص5 ـ 6.
[8] نفح الطيب للمقري، ج 2 ص 229- 231.
[9] المطالع السعيدة في شرح الدرة الفريدة للسيوطي، بتحقيق الدكتور نبهان ياسين حسين جـ1ص 35ـ36، وص 79 ـ 81.
[10] المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وبها نسخة في 634 ورقة.
[11] الألفية ص50.
[12] الألفية ص70.
[13] الألفية ص 86-87.
[14] الألفية ص 90.(32/54)
[15] المستشرقون للأستاذ نجيب العقيقي، ج1 ص182، دار المعارف بمصر سنة 1964م ـ الطبعة الثالثة.
ومعجم المطبوعات العربية حتى 1339 هـ (1919م) للأستاذ يوسف إليان سركيس بمصر 1346 هـ (1928م) 234.
[16] المستشرقون جـ 1 ص202. ومعجم المطبوعات ص 897، والمستشرقون جـ 2 ص716.
[17] الأعلام للزركلي جـ 2ص145، ومعجم المطبوعات ص 897، والمستشرقون جـ 2 ص 716.
[18] المستشرقون جـ 2 ص 716، ومعجم المطبوعات ص 234.(32/55)
تحقيق القول بالعمل بالحديث الضعيف
د. عبد العزيز عبد الرحمن بن محمد العثيم
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
جامعة أم القرى
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضِل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراً
أما بعد:-
فإن أوّل أصول التشريع وأجلها هو القرآن الكريم، الذي هو كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي هي وحي كذلك قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) وقد وصلت السنة المطهرة إلينا من طرق مختلفة صحة وضعفاً.
ورغم ما بذله أساطين هذه الأمة من جهود مضنية حيال السنة فقد بقي جزء منها لم تثبت صحته بل ثبت ضعفه وهو متفاوت الضعف فمنه ما اشتد ضعفه ومنه ما قرب ضعفه. وهذا القسم اختلفت فيه آراء العلماء في العمل به قديماً وحديثاً فمن قائل بجواز العمل به مطلقاً، ومن مانع لذلك، ومنهم من فصَّل فيه واشترط له شروطاً.
وكنت إذا سمعت القول بجواز العمل بالحديث الضعيف أخذت أتساءل هل نحن بحاجة إلى مثل هذا، وبين أيدينا كتاب الله وما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حوت كلَّ ما تحتاج إليه هذه الأمة من أمور دينها ودنياها قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (2) فأحببت أن أجمع شتات هذه المسألة من بطون الكتب ومن أقوال الأئمة ثم أحقق القول فيها، وأرجح ما أراه راجحاً إذا عضده الدليل مع مناقشة ما خالف ذلك مناقشة علميّة مبنية على الحجج والبراهين. وسأتكلم على العمل بالحديث الضعيف المتفق على ضعفه، وإن كان مختلف فيه فعلى رأي من قال بضعفه لا على رأي من قال بصحته. وجعلته على خمسة أبواب:(32/56)
الباب الأول: الأحاديث الواردة في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان معنى الكذب والوعيد الوارد في ذلك. وقد استفتح كلامي على هذا الموضوع بهذا الباب لأن الحديث الضعيف الباقي على تلك الصفة لا يزال احتمال عدم ثبوته قائماً فالعمل به وهو على تلك الصفة يؤيد ثبوته فيكون للعامل به نصيب من الكذب.
الباب الثاني: تعريف الحديث الضعيف وأنواعه.
الباب الثالث: وجوب معرفة الحديث الصحيح من الضعيف.
الباب الرابع: رواية الأحاديث الضعيفة.
الباب الخامس: العمل بالحديث الضعيف.
والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني وقارئه بما فيه، ويعفو عن ما صدر من خطأ أو زلل إنه جواد كريم.
الباب الأول
الأحاديث الواردة في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان معنى الكذب والوعيد الوارد في ذلك:
وردت أحاديث في وعيد من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كان بعض الصحابة يتحرج من التحديث خوفاً من الوقوع في الكذب عليه - صلوات الله وسلامه عليه - كالزبير بن العوام وأنس وأبو قتادة وعثمان بن عفان وصهيب رضي الله عنهم. واستفتح البحث في هذا الموضوع بإيراد بعض الأحاديث المتضمنة لوعيد من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وأشير إلى الأحاديث التي لم يخرجاها.
1 - عن علي رضي الله عنه: قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليّ فليلج النار" (1) .
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار" (2) .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (3) .(32/57)
4- وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كذباً عليَّ ليس ككذبِ على أحد، من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) .
5- وعن عبد الله بن الزبير قال قلت للزبير: "إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما أني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار" (2) .
6- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (3) .
7- وعن سلمة رضي الله عنه: قال:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" (4) .
8- وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل" (5) .
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عنيٍ غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ- قال همام- أحسبه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (6) .
10- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (7) .
أحاديث أخرى لم ترد في الصحيحين:
وهناك أحاديث أخرى ليست في الصحيحين، وهي صحيحة أو حسنة أو ضعيفة متفاوته في ضعفها.(32/58)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وصح أيضاً في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر وأبي قتادة وجابر وزيد بن أرقم، وورد بأسانيد حسان من حديث طلحة ابن عبيد الله وسعيد بن زيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر وعمران بن حصين وابن عباس وسلمان الفارسي ومعاوية بن أبي سفيان ورافع بن خديج وطارق الأشجعي والسائب بن يزيد وخالد بن عرفطة وأبي أمامة وأبي قرصافه وأبي موسى الغافقي وعائشة رضي الله عنهم فهؤلاء ثلاث وثلاثون نفساً من الصحابة وورد أيضاً عن نحو من خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة".
ثم قال: "وقد اعتنى الحفاظ بجمع طرق هذا الحديث فذكر من جمعهم من الحفاظ مبتدأ بعلي بن المديني ثم ذكر بعده عدداً من الحفاظ ممن جمع طرق هذا الحديث إلى أن قال: وتحصل من مجموع ذلك كله رواية مائة من الصحابة على ما فصلته من صحيح وحسن وضعيف وساقط مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص، ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه جماعة أنه متواتر".
بيان معنى الكذب:
والكذب: خلاف الصدق
قال الصغاني: "تركيب الكذب يدل على خلاف الصدق وتلخيصه أنه لا يبلغ نهاية الكلام في الصدق".
وقال النووي: "الكذب فهو عند المتكلمين من أصحابنا الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً هذا مذهب أهل السنة". وقالت المعتزلة: "شرطه العمدية"، ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا فإنه قيده صلى الله عليه وسلم بالعمد لكونه قد يكون عمداً وقد يكون سهواً مع أن الإجماع والنصوص المشهورة في الكتاب والسنة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسي والغالط فلو أطلق صلى الله عليه وسلم الكذب لتوهم أنه يأثم الناسي أيضاً فقيده وأما الروايات المطلقة فمحمولة على المقيدة بالعمد والله أعلم.(32/59)
ومعنى "لا تكذبوا عليَّ"قال الحافظ: "هو عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب. ومعناه - لا تنسبوا الكذب إليَّ، ولا مفهوم لقوله "عليَّ"لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكراهية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتج بأنه كذب له لا عليه. وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار وأبو نعيمِ قال البزار: حدثنا عبد الله بن سعيد ثنا يونس بن بكير ثنا الأعمش عن طلحة بن مصرف عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب عليّ ليضل به الناس ... " الحديث. وقد اختلف في وصله وإرساله ورجح الدارقطني والحاكم إرساله.
قال الهيثمي في سند البزار: "رجاله رجال الصحيح".
قلت: فيه يونس بن بكير من رجال مسلم لكنه صدوق يخطئ وقد وهم في سند هذا الحديث في موضعين.
قال الحاكم: "يونس بن بكير واهم في إسناد هذا الحديث في موضعين: أحدهما أنه أسقط بين طلحة بن مصرف وعمرو بن شرحبيل أبا عمار.
والآخر أنه وصل بذكر عبد الله بن مسعود، وغير مستبدع من يونس بن بكير الوهم"
وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث طلحة والأعمش، لم يروه مجوداً مرفوعاً إلا يونس بن بكير".
قلت: فدل هذا على أنه لم يصله بذكر ابن مسعود بالزيادة المذكورة غيره.
وأخرجه الدارمي من حديث يعلي بن مرة وهو من طريق عمر بن عبد الله بن يعلي بن مرة عن أبيه عن جده وعمر قال الحافظ: فيه ضعيف.
قلت: حاله أسوأ مما قاله الحافظ.(32/60)
وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) .
والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} (2) و {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} (3) فإن قتل الأولاد، ومضاعفة الربا، والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم.
قال القاري: "وبهذا يندفع زعم من جوز وضع الأحاديث للتحريض على العبادة كما وقع لبعض الصوفية الجهلة في وضع أحاديث في فضائل السور وفي الصلوات الليلية والنهارية وغيرها والأظهر أن تعديته بعلي لتضمين معنى الافتراء".
قلت: وحمل بعضهم حديث "من كذب عليَّ"على من قال في حقه صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون مستدلين على ذلك بحديث أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم فشق ذلك على أصحابه، فقالوا: يا رسول الله نحدث عنك بالحديث نزيد وننقص؟ قال: ليس ذا أعنيكم إنما أعني الذي يكذب علي متحدثاً يطلب به تشقيق الإسلام"وأخرجه الحاكم.
قال الحاكم فيه: "حديث باطل والحمل فيه على محمد بن الفضل بن عطية وهو ساقط" وقال ابن حجر: "فيه كذبوه".(32/61)
قال الترمذي: "سألت عبد الله بن عبد الرحمن أبا محمد عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" قلت له: من يروي حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ، أتخاف أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو إذا روى الناس حديثاً مرسلاً فأسنده بعضهم، أو قلب إسناده يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: لا. إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديثاً ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل فحدث به فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث".
قال ابن حجر: "فإن قيل الكذب معصية، إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره، والمعاصي قد توعد عليها بالنار فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب غيره فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده.
وقال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر. والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى. والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك.
الجواب الثاني: أن الكذب عليه كبيرة، والكذب على غيره صغيرة فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه، أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحد أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم "فليتبوأ "على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلاً غيره إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين.
وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبن الكذب على غيره كما في حديث المغيرة بن شعبة المتقدم "أن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد".(32/62)
وقال السخاوي مشيراً إلى حديث سمرة المتقدم: "وكفى بهذه الجملة وعيداً شديداً في حق من روى الحديث وهو يظن أنه كذب فضلاً أن يتحقق ذلك ولا يبينه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركاً لكاذبه في وضعه".
والكذب على الله تعالى وعلى رسوله بالجملة معلوم تحريمه من الدين ضرورة فإن القرآن مملوء بذلك في حقه تعالى والسنة في حق رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن الإفتراء على الرسول افتراء على الله عز وجل.
بيان معنى فليتبوأ: فليتبوأ: أي فليتخذ لنفسه منزلاً، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكناً، وهو أمر بمعنى الخبر، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أودعا على فاعل ذلك: أي بوأه الله ذلك.
وقال الكرماني:يحتمل أن يكون الأمر حقيقة، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبؤ ورجح أنه أمر بمعنى الخبر. ووافقه الحافظ ابن حجر عليه مستدلاً بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يكذب عليَّ يبنى له بيت في النار" (1) .
الباب الثاني
وجوب معرفة الحديث الصحيح من الضعيف
يجب على المشتغل في الحديث النبوي الشريف، أن يبذل قصارى جهده في معرفة الحديث الصحيح من غيره، إذا كان من أهل الصناعة، حتى يتبين له الحديث الصحيح الذي تتوفر فيه شروط الصحة أو الحُسْن المعروفة من ضبط وعدالة واتصال وسلامة من شذوذ وعلة من الحديث الذي لا يتوفر فيه ذلك أو بعضه.(32/63)
وإن لم يكن من أهل الصناعة فعليه أن يتعرف على ذلك من مظانه، كالكتب المشهود لها بالصحة، أومن أقوال العلماء المعتبرين في هذا الفن، حتى لا يتعرض للوعيد الشديد الصادر من فيه صلوات الله وسلامه عليه، المتقدم ذكره، إذا نسب حديثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منه براء، إذا لم يرد من وراء ذلك بيان حاله لأنه يترتب على الأحاديث الأحكام الشرعية والأمور العلمية، فإذا كان الحديث ضعيفاً كيف يسوغ أن ينسب ذلك القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يصدر عنه.
والاشتغال في تمييز الحديث الضعيف من الصحيح أولى من الاشتغال في تمييز الصحيح من الحسن أو العكس لأن كلا القسمين من المقبول، ويعمل بهما إلا إن احتيج إلى ذلك عند التعارض للترجيح.
وقد نهض أئمة هذا الشأن ببيان حال أكثر الأحاديث من صحة أو ضعف أو وضع وأصَّلوا أصولاً متينة، وقعدوا قواعد رصينة، من أتقنها وتضلع بمعرفتها أمكنه أن يعلم درجة أي حديث ولو لم ينصوا عليه وذلك هو علم أصول الحديث أو مصطلح الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: "السبيل لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن الأربعة لا سيما سنن ابن ماجة ومصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق مما الأمر فيه أشد، أو بحديث من المسانيد لأن هذه لم يشترط جامعوها الصحة والحسن: أنه إن كان أهلاً للنقل والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحيط به. وإن لم يكن أهلاً لذلك فإن وجد أهلاً لتصحيح أو تحسين قلّده، وإلا فلا يقوم على الاحتجاج كحاطب ليل، فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر".
ونحو ذلك قال زكريا الأنصاري في فتح الباقي شرح ألفية العراقي.(32/64)
وقال ابن تيمية: "المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب وغير نحو العرب، ونرجع إلى علماء اللغة، فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به، والعلماء بالحديث أجل قدراً من هؤلاء وأعظمهم صدقاً، وأعلاهم منزلة وأكثر ديناً وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وعلماً وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل".
فعلى هذا يجب التحري في كل حديث حتى تتبين حاله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) .
ومن المعلوم أن حجة الله عز وجل على عباده إنما هي الكتاب والسنة لا غير، إلا اللهم ما استنبطه العلماء منهما: فالقرآن تكفل الله عز وجل بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
وأما السنة المطهرة فلم يتكفل بحفظها كالقرآن لحكمة يعلمها، ولهذا قد أدخل فيها ما لم يكن منها، فالاعتماد عليها مطلقاً، ونشرها دون تمييز أو تحقيق يؤدي حتماً إلى تشريع ما لم يأذن به الله. وفاعل ذلك قد لا يسلم من الوقوع في المحظور الذي هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيض الله عز وجل للأمة رجالاً أمناء، يقظين، مخلصين، قاوموا الوضاعين وتتبعوهم، ومازوا الغثه من السمن، ولولا الجهود المضنية التي بذلها الصحابة، والتابعون وعلماء الأمة من بعدهم لاشتبه على كثيرين من الناس بعض أمور دينهم لكثرة ما اختلقه من الكذب الوضاعون، ونسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً.
فصانوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن يكون مطية لأهل الأهواء.(32/65)
وقد كان بعض كبار التابعين، إذا سمعوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير الصحابة فزعوا إلى من عندهم من الصحابة ليتثبتوا عن ذلك الحديث، وكذلك شأن في صغار التابعين، يفزعون إلى من عندهم من كبار التابعين كل ذلك ليثبت.
وهكذا أسهمت جهود العلماء في هذا المضمار بتكوين علم الجرح والتعديل، الذي أرسى قواعده وأسسه الصحابة والتابعون وأتباعهم، وقد ظهر في كل عصر عدد كبير من النقاد تكفل ببيان أحوال الرواة، ونقل السنة وحفظها على أسلم القواعد العلمية. ثم ما لبث أن صنف العلماء المؤلفات الضخمة في الرواة وأقوال النقاد فيهم، حتى أنه لم يعد يختلط الكذابون والضعفاء بالعدول الثقات.
قيل لابن المبارك: "هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة".
وقال مسلم: "فلولا الذي رأينا من سؤ صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثاً فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيراً مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل، ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت".(32/66)
وقال في موضع آخر: "ولا أحسب كثيراً ممن يُعَرِّج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها، من التوهن والضعف - إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألَّف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه. وكان بأن يسمى جاهلاً، أولى من أن ينسب إلى علم".
وقد لا يسلم الإنسان من الوقوع في المهالك إذا لم تكن عنده الخبرة التامة في معرفة الأحاديث، أو يعتمد في ذلك على من اعترف له بالإمامة في هذا الشأن.
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله. عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع".
ومن أجل ذلك قال مالك: "ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ما سمع".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يُمسك عن بعض ما سمع"
وقال: "إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث لا يسمى عالماً".
وقال الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية: "أن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً".
وقال الثوري: "اتقوا الكلبي قال فقيل له: فإنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه".
قال أبو عوانة: "لما مات الحسن البصري رحمه الله، اشتهيت كلامه فتتبعته عن أصحاب الحسن، فأتيت به أبان بن أبي عياش فقرأه عليَّ كله عن الحسن، فما استمل أن أروي عنه شيئاً".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لإن أعرف علة حديث هو عندي أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثاً ليست عندي".(32/67)
قال يحيى بن سعيد: "سألت شعبة وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس عن الرجل لا يحفظ أو يتهم في الحديث قال: قالوا جميعاً: بين أمره" فكل من كان متهماً في الحديث بالكذب أو كان مغفلاً يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه ألا ترى أن عبد الله بن المبارك حدث عن قوم من أهل العلم فلما تبين له أمرهم ترك الرواية عنهم.
الباب الثالث
تعريف الحديث الضعيف وأنواعه
تعريفه: عرفه ابن الصلاح بأنه هو: "كل حديث لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن"
وعرفه ابن دقيق العيد بأنه: "هو ما نقص عن درجة الحسن" وهذا هو التعريف المختار. لأن ما لم تجتمع فيه صفات الحسن فهو من الصحيح أبعد ولأنه لو اختلت بعض صفات الصحيح كخفة الضبّط مثلاً لا يكون ضعيفاً وإنما يكون حسناً.
والأولى من ذلك أن يقال في تعريفة: هو ما لم تتوفر فيه صفات القبول وأنواع الحديث الضعيف كثيرة منها ما يعود إلى اتصال السند ومنها ما لا يعود إلى اتصال السند وإنما إلى أسباب متعددة تكون في السند أو المتن أو فيهما معاً.
وأنواعه كثيرة أوصلها ابن حبان إلى تسعة وأربعين نوعاً. وبلغ بها العراقي إلى اثنين وأربعين وبلغ بها غيرهما إلى ثلاثة وستين نوعاً، وزاد آخرون على هذا العدد.
والحاجة لا تدعو هنا إلى تعداد أنواع الحديث الضعيف لأنها مبسوطة في كتب علوم الحديث. وهذه الأنواع متفاوتة الضعف ويمكننا حصر ذلك التفاوت في ثلاثة أقسام:
الأول: الموضوع وهو أشر أنواع الضعيف، وما قيل في إسناده كذاب أو وضاع.
الثاني: أخف من سابقه قليلاً، لكنه شديد الضعف، وهو ما قيل فيه متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو ذاهب الحديث أو هالك أو منكر أو ساقط أو ليس بشيء أو ضعيف جداً.(32/68)
الثالث: الضعيف الذي ينجبر بمثله، وهو ما كان في سنده سيئ الحفظ أوله أوهام أو يهم أو مدلس معنعن أو مختلط أو ما قيل فيه ضعيف فقط أو لم أر فيه توثيقاً ونحو ذلك.
تنبيه: وفائدة هذا التقسيم هو معرفة ما ينجبر ومالا ينجبر فالقسم الأول والثاني لا ينجبران بالمتابعة، ولا ينتفعان بالشواهد إلا ما قيل في قرب ضعفه كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وأما الثالث فهو بعكس ذلك، وهو الذي وقع الخلاف فيه بالعمل به في حال تفرده، في فضائل الأعمال، كما ذهب إليه بعض الأئمة، وسيأتي بيان الحق فيه إن شاء الله وسنتكلم على كيفية رواية الأحاديث الواقعة في هذه الأقسام في الباب الرابع.
الباب الرابع
رواية الأحاديث الضعيفة
الأحاديث الضعيفة تنقسم بالنسبة إلى روايتها إلى قسمين:
أحاديث صالحة للاعتبار.
وأحاديث اشتد ضعفها، لا تصلح للاعتبار بها، إلا على قول من قال: إن شديدة الضعف يعضد بعضها البعض الآخر حتى يقرب ضعفها، وتكون بمجموعها بمثابة طريق ضعيف صالح للمتابعة. وبهذا يظهر أن للحديث أصلاً، فإذا أتى الحديث من طريق آخر، أو عن صحابي آخر وضعفه يسير اعتضدا، وعمل بما فيها لأنه أصبح من قسم الحسن لغيره.
فالقسم الأول: إما أن يكون مسنداً أو غير مسند.
والمسند إما أن يكون في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب والقصص وما أشبه ذلك، وإما أن يكون في الأحكام أو في العقائد.
فإن كانت مسندة وكانت في فضائل الأعمال وما في معناها جازت روايتها على قول كثير من الأئمة ولو لم تبين حالها، لأنه يُحتاج إليها للاعتبار بها عند ما يرد طريق آخر أو حديث آخر عن صحابي آخر صالح للمتابعة فعندئذ يكون ما اشتمل عليه من أقسام المقبول ويعمل به.
ولأنه لو لم تنقل لتعطل جزء كبير من السنة عن العمل به. وتقدم قول الحافظ ابن حجر أن أهل السنن الأربعة لا سيما سنن ابن ماجة، وأهل المصنفات، والمسانيد لم يلتزموا الصحة والحسن.(32/69)
ففرق بين رواية الحديث الضعيف وبين العمل به. فالأحاديث الضعيفة موجودة في بطون دواوين السنة لا سيما عند من لم يلتزم الصحة.
قال أحمد في رواية عباس الدوري عنه - ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث يعني المغازي ونحوها وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا وقبض أصابع يده الأربع.
وقال النوفلي: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال، وما لا يضع، حكماً أو يرفعه، تساهلنا في الأسانيد".
وقال الميموني: "سمعت أبا عبد الله يقول: أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجئ شئ فيه حكم".
وكان أبو زكريا العنبري يقول: "الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيب أو ترهيب أو تشديد أو ترخيص وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته".
وقال البيهقي في المدخل عن ابن مهدي: "إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال".
وممن رُوي عنه ذلك السفيانان وابن معين وابن المبارك.
وقال ابن عبد البر: "أحاديث الفضائل لا نحتاج فيها إلى من يحتج به".
وأما إذا كانت في الأحكام والعقائد فلا تروى وإذا كانت مسندة إلا مع بيان حالها، ولم ينقل عن أحد التساهل فيها.
قال ابن الصلاح: "يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله عز وجل وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما وذلك كالمواعظ وقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد".
ونحو ذلك قال النووي والعراقي.(32/70)
وإذا لم تكن في الأحكام والعقائد وكانت غير مسندة، فإنها لا تروى بصيغ الجزم، بل تروى بصيغ التمريض، لا سيما عند عدم بيان حالها.
قال ابن الصلاح: "إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وإنما تقول فيه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو بلغنا عنه كذا وكذا، أو ورد عنه، أو جاء عنه، أو روى بعضهم، وما أشبه ذلك.
وهكذا الحكم فيما تشك في صحته وضعفه وإنما تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ظهر لك صحته".
لكن هذا الأمر لا يقال أعني نسبة الحديث الضعيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة التمريض إلا عند العلماء، أما عند طلاب العلم المبتدئين، أوفي المجالس العامة أو على رؤوس المنابر، فلا ينبغي الاكتفاء بذلك، لأنهم إذا سمعوا التلفظ برسول الله صلى الله عليه وسلم ظنوا أنه حديث صحيح لجهلهم بقواعد علم الحديث وحصول هذا كثير مشاهد.
ويؤيده قول علي- رضي الله عنه- "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".
والأولى الاحتياط في ذلك كله، ما دام الحديث ضعيفاً فلا يروى أو ينقل إلا مقروناً ببيان حاله من غير تمييز بين ما كان في الأحكام والعقائد، وما كان في فضائل الأعمال.
ولهذا كان بعض الأئمة كابن خزيمة إذا روى حديثاً ضعيفاً بسنده قال: حدثنا فلان مع البراءة من عهدته، وربما قال هو والبيهقي "إن صح الخبر".
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب على كل حال لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه، أنه حديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل من علماء الحديث الذي يرجع إلى قولهم في ذلك".
وقال الترمذي: "وقد روى غير واحد من الأئمة عن الضعفاء وبينوا أحوالهم"(32/71)
قال الشاطبي: "ولو كان من شأن أهل الإسلام الأخذ بكل ما جاء عن كل ما جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل".
القسم الثاني: ما اشتد ضعفه، على اختلاف أنواعه، بأن يكون لوضاع أم متروك أو ما أشبه ذلك.
وقد كثرت الأحاديث التي من هذا القبيل، وانتشرت في بطون الكتب، ككتب التفاسير والسير والترغيب والترهيب وغيرها.
وقد أوجدت لغايات مختلفة وأغراض متباينة، منها عدم الدين كما وقع من بعض الزنادقة، والعصبية المذهبية، والأحوال السياسية، والأغراب لقصد الاشتهار، والتقرب إلى الله بوضع الأحاديث بزعمهم، وما وضع للتكسب به كالقصاص، ومن ذلك أيضاً ما وقع خطأ من بعض المغفلين من الصوفية، وضعفاء الحفظ، ممن لا عناية لهم بالحديث.
وهذا الأمر مستمر متجدد في كل عصر، فيجب على علماء هذا الشأن بيان وجه الحق فيما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث لا سيما التي لم يسبق لها بيان، ويخشى من عدم ثبوتها.
فالأحاديث التي من هذا القبيل لا تجوز روايتها مسندة، أو غير مسندة، إلا على جمعة بيان حالها، لخطورة أمرها، لأن روايتها من غير بيان حالها تفصيلاً أو جملة، يؤدي إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على ذلك ابن الصلاح والنووي وابن حجر وغيرهم.
قال النووي (1) : "تحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعاً أو غلب على ظنه وضعه، فمن روى حديثاً علم أو ظن وضعه ولم يبين حال رواية وضعه فهو داخل في هذا الوعيد، مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه الحديث "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".(32/72)
وقال: أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع خلافاً للكراهية إلى أن قال وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور وخالفوا إجماع أهل الحل والعقد وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على آحاد الناس فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي"!!
وإذا نظر إلى قولهم وجد كذباً على الله تعالى فإن الله تعالى قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) .
قال الشافعي: "إذا كان الحديث عندك كذباً فحدثت به فأنت أحد الكاذبين" (2) .
وقد تقدم بعض الأحاديث المحذرة من ذلك وبيان وعيده.
ولا يجوز نشر الحديث التي من هذا القبيل وروايتها دون التثبت من صحتها، وأن من فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشارك في الإثم لواضعه أو كاذبه، لأن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشترط في حقه تعمد الكذب أو عدمه وقد تقدم سؤال الترمذي للدارمي عن حكم هذه المسألة (3) .
دل على هذا الحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن الذي يكذب عليَّ يبنى له بيت في النار" أخرجه أحمد والشافعي والبزار والحاكم والبيهقي والخطيب.
وصحح الحافظ مسند الإمام أحمد وذكر مرة أخرى بأنه من الأحاديث الصحيحة (4) الواردة في هذا المقام.
وحدث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار".
أخرجه الطيالسي وأحمد والبزار والطحاوي والحاكم وصححه الحافظ ابن حجر.(32/73)
قلت: فيه عند هؤلاء عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد ولم يتبين لي هل رُوي عنه هذا الحديث قبل ذلك أم بعده. وتصحيح الحافظ له إما لعلمه بأن عبد الرحمن حفظه أو أن له متابعاً لم أقف عليه.
وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: "إن من أفرى الفري من قولني ما لم أقل".أخرجه البخاري وقد تقدم.
ويؤدي مع ذلك إلى العمل عند جهلة الناس كما نسمع من بعض الناس في بعض الأحيان إذا سئلوا عن عمل استدلوا عليه بحديث، فإذا نظر ذلك الحديث وجد أنه من الموضوعات.
ولما سئل السيوطي رحمه الله عن حديث موضوع استغفر الله عز وجل قبل إيراده وبعد إيراده وقال: "علي ذلك ولولا الضرورة إلى حكايته لأجل بيان أنه كذب ما حكيته" ثم قال بعد بيان بطلانه: "لا تحل روايته ولا ذكره وخصوصاً بين العوام والسوقة والنساء".
وابن حجر لما أورد حديثاًُ لأبي الدرداء في فضل صيام أيام من رجب قال: "وهذا حديث موضوع ظاهر الوضع قبح الله من وضعه فوالله لقد قف شعري من قراءته في حال كتابته فقبح الله من وضعه، ما أجرأه على الله وعلى رسوله".
فظهر بهذا أنه لا تجوز رواية الأحاديث التي لا أصل لها إلا مقرونة ببيان حالها لئلا يغتر بها، ولأنه لو سكت عن ذلك مع العلم به لكان آثماً، وكان له نصيبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(32/74)
قال مسلم- بعد بحث عن وجوب الكشف عن معائب رواة الحديث وذكر أقوال الأئمة في ذلك: "- إنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معائب رواة الحديث، وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك غاشاً لعوام المسلين إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع".
قال أبو بكر بن خلاد: "قلت ليحيى بن سعيد آما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم حدثت عني حديثاً ترى أنه كذب".
وقال يحيى بن سعيد: "سألت شعبة وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس عن الرجل لا يحفظ أو يتهم في الحديث فقالوا جميعاً: بين أمره".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "مررت مع سفيان الثوري برجل فقال: كذاب والله! لولا أنه لا يحل لي أن أسكت لسكت".
وقال الشافعي: "إذا علم الرجل من محدث الكذب لم يسعه السكوت عليه، ولا يكون ذلك غيبة فإن مثل العلماء كالنقاد، فلا يسع الناقد في دينه أن لا يبين الزيوف من غيرها.
وقال محمد بن بندار بن السباك الجرجاني: "قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله إنه ليشتد علي أن أقول فلان كذاب فلان ضعيف، فقال لي: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم".
ويجاب عن ما وجد في كتب بعض الأئمة العارفين بالحديث كالحافظ أبي نعيم الأصبهاني بأنهم نقلوا ما وجدوا كما هو من غير بيان حاله، لأنهم جعلوا العهدة على قائله.(32/75)
قال ابن تيمية: "وقد روى أبو نعيم في أول الحلية في فضائل الصحابة وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفة بل منكرة، وكان رجلاً عالماً بالحديث فيما ينقله لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب لا يعرف أنه روي، كالمغسي الذي ينقل أقوال الناس في التفسير، والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، والمصنف الذي يذكر حجج الناس ليذكر ما ذكروه وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول أنا نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل".
والأحاديث الموضوعة أو الساقطة كثيرة نذكر قولاً لحماد بن زيد يوضح شيئاً من ذلك أخرج العقيلي بسنده عن حماد بن زيد قال: "وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث".
أضرار رواية الأحاديث شديدة الضعف
الأحاديث شديدة الضعف لا تنفك عن أضرار جسيمة منها:
أ- الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه.
ب- العمل بها وذلك يؤدي إلى زيادة في الدين لا أصل لها.
ج- تفضي إلى الإبتداع في الدين، لأن معظم البدعة قدم أمرها، أم حدث مستندها حديث لا أصل له
د- ما توجده من الشقاق والخلاف بين صفوف المسلمين، وهي لا أصل لها.
هـ- تحليل بعض المحرمات، أو تحريم بعض الحلال.
و الخوض في شأن بعض الصحابة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (1) .
ز- مدح بعض المهن والبلاد أو ذمها.
ح- تضارب الأحاديث في مدح أو ذم بعض الصحابة، مما يؤدي إلى التناقض الذي قد ينسب إلى السنة، والسنة منه براء.
ط- انشغال الناس بها عن أمور دينهم، الثابتة بالأدلة الصحيحة.
ى- ما تحدثه من بعض التكاليف، التي لا أصل لها، حتى يتصور أن دين الإسلام شاق وصعب.
ك- أنه يفتح ثغرة لأعداء الإسلام لنيل منه باستغلال تلك الأحاديث لخدمة أغراضهم الدنيئة، ولتشويش أذهان بعض المسلمين.(32/76)
الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء:
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قد يقال لم حدَّث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يُحتج بهم؟ ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أنهم رووها ليعرفوها، وليبينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم، أو على غيرهم، أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر به أو يستشهد، ولا يحتج به على إنفراده.
الثالث: رواية الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض وذلك سهل عليهم، معروف عندهم. وبهذا احتج سفيان رحمه الله، حين نهى عن الرواية عن الكلبي، فقيل له: أنت تروي عنه.! فقال:"أنا أعلم صدقه من كذبه".
الرابع: أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال، والقصص، وأحاديث الزهد، ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام، وسائر الأحكام.
وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه، ورواية ما سوى الموضوع منه، والعمل به لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع، معروفة عند أهله.
وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئاً يحتجون به على انفراده في الأحكام، فإن هذا الشيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء وأما فِعْلُ كثيرين من الفقهاء، أو أكثرهِم، ذلك، وِاعتمادهم عليه، فليس بصواب! بل قبيح جداًَ! وذلك لأنه إن كان يعرف ضعْفه لم يحلّ له أن يحتجّ به فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام، وإنْ كان لا يعرف ضعفه، لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفاً، أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفاً" انتهى.(32/77)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "قد يكون الرجل عندهم ضعيفاً لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه الغالب عليه الصحة، فيروون عنه لأجل الاعتبار به، والاعتضاد به، فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجاراً وفساقاً، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط؟ ومثل هذا عبد الله بن لهيعة، فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضياً بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة. قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل ابن لهيعة، وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئاً. وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به، والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول: إنه يميز بين ما يكذبه وبين مالا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي، وينهى عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف. ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيراًَ بشخص، إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه، وما كذب فيه، بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب" انتهى.
وروى الإمام ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) في باب الرخصة في كتابة العلم، عن سفيان الثوري أنه قال: "إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه، حديث أكتبه أريد أن أتخذه ديناًَ، وحديث رجل أكتبه فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به. وقال الأوزاعي: تعلم ما لا يؤخذ به، كما تتعلم ما يؤخذ به".
الباب الخامس
العمل بالحديث الضعيف(32/78)
العمل الذي ندين الله به من فعل أو كف لا يكون إلا بدليل من كتاب الله أو مما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأخبار المقبولة أربعة أقسام:
الأول: متواتر لفظاً ومعنى.
والثاني: أخبار متواترة معنى، وإن لم تتواتر لفظاً.
والثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة.
والرابع: أخبار أحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما عدا ذلك فهو الحديث الضعيف وتتفاوت درجته في الضعف بحسب بعده عن شروط الصحة، وله أحوال:
إما أن تتعدد طرقه وفيها طريقان فأكثر صالحة للاعتبار فيعضد بعضها البعض الآخر فيصبح حسناً لغيره، ويكون من أقسام الحديث المقبول المعمول به.
وإما أن تتعدد طرقه وكلها غير صالحة للاعتبار على تفاوت مراتب ضعفه كأن يكون موضوعاً وهو الذي في إسناده كذاب أو وضاع - وهو أشر أنواع الضعيف- أو أخف من سابقه قليلاً وهو الذي اشتد ضعفه بأن يكون في إسناده متهم أو مجمع على تركه، أو ذاهب الحديث، أو هالك، أو منكر الحديث، أو ليس بشيء أو ضعيف جداً، فهذا لا يلتفت إليه، مهما تعددت طرقه، ما دامت بهذه الصفة إلا على قول أنه بتعدد طرقه تخف شدة ضعفه بحيث تكون بمجموعها بمثابة طريق واحد صالح للمتابعة فهذا يكون العمل به كلاحقه.
وإما أن لا تتعدد طرقه بأن لا يكون له إلا طريق واحد صالح للاعتبار، أو تتعدد وهي كلها واهية سوى طريقاً واحداً صالحاً للمتابعة، فهذا إما أن تتلقاه الأمة بالقبول، فيعمل به على الصحيح، كما قال الشافعي: حديث "لا وصية لوارث" أنه لا يثبته أهل الحديث ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية له (1) .
قلت: هذا إذا كان الحديث ضعيفاً، أما هذا الحديث فصحيح.
وإما أن لا تتلقاه بالقبول فهذا يتوقف فيه، لأنه لا عاضد له من متابع وشاهد فيقبل ولم يشتد ضعفه فيرد من أجل ذلك.(32/79)
وهذا القسم اختلف العلماء في العمل به على أقوال ثلاثة:
الأول: لا يعمل به مطلقاً، لا في الأحكام، ولا في الفضائل، حكاه ابن سيد الناس عن يحيى ابن معين ونسب إلى أبي بكر بن العربي.
والظاهر أنه مذهب البخاري ومسلم، أخذ ذلك من شروط البخاري في صحيحه وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف وعدم إخراجها في صحيحهما شيئاً منه ذكره القاسمي.
وذهب ابن حزم إلى هذا قال: "ما نقله أهل المشرق والمغرب، أو كافة عن كافة، أو ثقة عن ثقة، حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلاً مجروحاً: بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا يقول به بعض المسلمين، ولا يحل عندنا القول به، ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه".
الثاني: أنه يعمل به مطلقاً، إذا لم يوجد في الباب غيره، ولم يوجد ما يدفعه، ولم يشتد ضعفه، لأن شديد الضعف متفق على عدم العمل به روي ذلك عن أحمد وأبي داود وغيرهما.
قال الحافظ:"وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال سمعت أبي يقول: "لا تكاد ترى أحداً ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل"، والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي.
قال: وسألته عن الرجل يكون ببلد لا يوجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب الرأي فمن يسأل؟ قال: "يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي".
وكان يقول: "يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره، ولم يكن ما يعارضه" (1) .
وفي رواية عنه: "ضعيف الحديث أحب إلينا من رأي الرجال" (2) .
ونحو ما حكي عن أحمد قال الشافعي: "أن المرسل يحتج به إذا لم يوجد دلالة سواه"حكاه الماوردي عنه في الجديد.
وذكر ابن القيم بأنه أخذ بأحاديث ضعيفة وقدمها على القياس كحديث تحريم صيد وج وجواز الصلاة بمكة في وقت النهي وحديث "من قاء أو رعف فليتوضأ ولبين على صلاته" (3) .(32/80)
ونقل أبو عبد الله بن مندة عن أبي داود- صاحب السنن- أنه يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
قال الشاطبي: "فكلام أحمد ومن وافقه دال على أن العمل بالحديث الضعيف يقدم على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم".
وقال السيوطي: "ويعمل به أيضاً في الأحكام إذا كان فيه احتياط".
وذكر ابن حزم أن جميع الحنفية مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس.
وذكر ابن القيم أن مالكاً يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس.
وقال ابن القيم: "يؤخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يكن في الباب شئ يدفعه"وهو الذي قدمه الإمام أحمد على القياس وقال: وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن. ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف. وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثر يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس أحد من الأئمة إلا وهو وافقه على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس".
ولما ذكر ابن حزم صفات وجوه النقل عند المسلمين قال في الوجه الرابع الذي هو المرسل والخامس الذي في إسناده ضعيف أنه أخذ بهما بعض المسلمين.
ثم إن الإمام أحمد وغيره ممن نقل عنه القول بجواز العمل بالحديث الضعيف مطلقاً نقلت عنه روايات تدل على منع ذلك. وأن ذلك مخصوص في فضائل الأعمال.
قال أحمد- في رواية الميموني عنه-"الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم".(32/81)
وقال- في رواية عباس الدوري عنه-"ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث يعني المغازي ونحوها، وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا وقبض أصابع يده الأربعة". وسيأتي مزيد إيضاح لذلك في القول الثالث.
القول الثالث: يعمل به في الفضائل والمستحبات والمكروهات بشروط:
ا- أن يكون ضعفه غير شديد فيخرج ما اشتد ضعفه كحديث الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه وهذا الشرط متفق عليه نقله العلائي.
2- أن يكون الحديث في الفضائل وما في معناها.
3- أن يندرج تحت أصل معمول به.
4- أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
وستأتي مناقشة هذه الشروط إن شاء الله تعالى.
قال النووي: "قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً".
وحكي إجماع * (1) أهل الحديث وغيرهم على العمل به في الفضائل.
قيل لابن المبارك لما روى عن رجل حديثاً- هذا رجل ضعيف فقال:"يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء. قلت لعبدة مثل أي شيء كان؟ قال: في أدب، موعظة، في زهد".
وقال ابن معين في موسى بن عبيدة يكتب حديثه في الرقائق.
وتقدم نحو هذا عن أحمد وابن مهدي وأبي زكريا العنبري وابن عبد البر.
ولما قال ابن حجر الهيتمي بجواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، قال: "لأنه إن كان صحيحاً في نفس الأمر فقد أعطى حقه من العمل، وإلا لم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم ولا ضياع حق حتى للغير" (2) .
وقال في الدر المختار: "فيعمل به في فضائل الأعمال" (3) .
وقال محشيه ابن عابدين: "لأجل تحصيل الفضيلة المترتبة على الأعمال" (4) .
وقال نور الدين عتر: "ووجه هذا المذهب أن الحديث الضعيف لما كان محتملاً للإِصابة ولم يعارضه شيء، فإن هذا يقوي جانب الإصابة في روايته فيعمل به" (5) .
الأحاديث التي استدلوا بها:(32/82)