وأما التنكير في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} فهو للتقليل والتحقير بمعنى أن أي شيء ينفقه المسلم في إعداد العدة للجهاد، أو ينفقه على رحم أو فقير ولو قل كدرهم، أو حَقُر كحبل أو عصا لا يعدم المنفق أجره من الله عز وجل، ومضاعفاً أيضا الحسنة بعشر أمثالها أو بسبعمائة إن كانت نفقة جهاد؛ للآية الكريمة {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} . (الآية) .
شرح المفردات:
{أَعدُّوا} : هيئوا وأحضروا وأرصدوا.
{مَا اسْتَطَعْتُم} : ما قدرتم عليه بعد بَذْلِكم الُجُهدَ فيه.
{مِن قُوَةٍ} : من كل أنواع القوة المادية من سلاح وكراع، ومعنوية من إيمان صادق وثقة في الله تعالى كاملة، ووحدة صف، وطاعة قيادة، وخلق فاضل.
{رِبَاطِ اْلْخَيْلِ} : الرباط قد يكون مصدر رابط يرابط، إذ كل من العدوينِ يرابط لصاحبه وقد يكون جمع رَْبط ككتب وكتاب، وقد يكون المراد به جماعة الخيل خمساً فأكثر. والخيل اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى، وأيها أفضل في الجهاد؟ الغالب أن الذكر أفضل.
{تُرهِبُونَ} : تخوفون بإيقاع الرهب في النفوس.
{عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} : العدو لفظ يطلق على المفرد والمثنى والجمع مذكراً ومؤنثا.
عدو الله الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، وعدو المؤمنين هو عدو الله، وإنما ذكر من باب التهيج والإثارة للمسلمين حتى يُعدوا العدة وُيوطّنوا أنفسهم للقتال.
{مِن دُونِهِم} : من غيرهم أي من غير كفار قريش واليهود.
{لا تَعْلَمُونَهُمُ} : أي لا تعرفون من هم من أعدائكم غير الظاهرين لكم كالمنافقين.(29/131)
{الله يَعْلَمُهُمْ} : لأنه تعالى بكل شيء عليم، وفي إخباره تعالى بعلمه بهم ما يبعث المؤمنين على الجد في الإعداد والتحرز واليقظة، كما فيه ما يشير إلى كفاية الله تعالى عباده المؤمنين كيد أعدائهم متى عملوا بطاعته.
وَمَا تُنفِقوُا مِن شيء فِي سبِيل الله يُوَفَّ إلَيْكُمْ: هذه الجملة شرطية وجوابها: يوف إليكم أداة الشرط هي {مَا} وجملة الشرط {تُنفِقُوا} ، و {مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه} متعلق بتنفقوا وجواب الشرط {يُوفَّ} ، وسبيل الله هنا هو الإعداد للجهاد، ويوف يؤده إليكم أجره وافيا غير منقوص.
{وَأنتمْ لاَ تُظْلَموَن} : هذه جملة حالية ومعناها أن أجوركم التي استوجبتموها بالإنفاق في سبيل الله سوف توفونها كاملة حال كونكم غير مظلومين لخوف عدوكم ورهبته منكم فلا يظلمكم باعتداءٍ عليكم. ولا منقوص الأجر والمثوبة ولا محرومين منهما لأن الله وعدكم ووعده تعالى حق وصدق.
معنى الآية الكريمة:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين الموجودين ساعة نزول هذه الآية ومن يأتي من بعدهم إلى أن يقاتلوا الكفار ويأمرهم بإعداد القوة أي بإحضارها وإرصادها لقتال عدوّ الله وعدوهم وإرهابه بذلك، والقوة المأمور بإعدادها تكون حسيّة كأنواع السلاح المختلفة، وآلات الحرب المتنوعة، وتكون معنوية كالإيمان القوي والثقة في نصر الله تعالى، ووحدة الصف وطاعة القيادة، مع طاعة الله تعالى وطَاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من الثبات عند اللقاء وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.
كما يخبرهم تعالى بأن ذلك الإعداد للقوة من شأنه أن يرهب أعداءهم، وينزل الرعب في قلوبهم فلا يفكرون في غزوهم ولا قتالهم، وسواء في ذلك العدو الظاهر لهم المعروف عندهم، أو العدو الذي لا يعلمونه والله يعلمه كالمنافقين المتربصين أو المجوس الحاقدين، أو اليهود الحاسدين.(29/132)
ولما كان إعداد القوة المطلوبة المبذول لها كلُّ ما في استطاعة الأمة وقدرتها يتوقف في الجملة على المال إذ به يتم صنع السلاح أو شراؤه، والمال لا مصدر له إلا جيوب المؤمنين وصناديقهم، وقد أنفقوا فعلا وجمعوا المال وأعدوا به القوة الواجبة الإعداد
أخبرهم تعالى بأنهم ما ينفقون من شيء في سبيل الله لإعداد القوة أو لغيرها من سائر طرق الخير وسبل البر مما يرفع من شأن أمة الإسلام ويكملها ويسعدها في الدنيا والآخرة يوفيهم أجره مضاعفاً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والحال أنهم لا يظلمون بحرمانهم من أجر إنفاقهم، ولا ينقصه بل يوفونه كاملا مضاعفاً.
ما في الآية من أحكام:
اشتملت الآية على الأحكام الفقهية التالية:
1- وجوب إعداد القوة لقتال العدو أو إرهابه.
2- وجوب إنفاق المال لذلك. لتوقف القوة على المال.
3- وجوب تعلّم فنون الحرب المختلفة وتعليمها لأفراد الأمة.
4- وجوب صنع السلاح وتطويره بحسب أحوال الأمم والشعوب.
5- وجوب الوحدة وجمع الكلمة ونصب الإمام وطاعته.
إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم جهاد ولا إعداد له إلا بما ذكر.
وهذه الواجبات كفائية إذا وجدت في الأمة وقام بها بعضها سقط هذا الواجب عن باقي الأمة.
هداية الآية:
قد اشتملت هذه الآية الكريمة على أنواع من الهدايات منها:
1- أمة الإسلام: أمة واحدة تتكافأ دماؤها، ويسعى بذمتها أدناها، وهي يَدٌ واحدة على من سواها، دل على ذلك صيغة الجمع التي خاطبها الله تعالى بها في قوله: وأعدوا، ترهبون، وما تنفقوا، يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون.
2- السلام المسلح: إذ الأمر بإعداد القوة أمر بما يُرهب العدو ويخيفه وبذلك هو إما أن يسلم أو يستسلم بدفع الجزية، أو يعاهد، ولا حرب ولا قتال مع كل ذلك وإنما هو السلم والسلام.(29/133)
3- في قوله تعالى: ومن رباط الخيل، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي كما في حديث عقبة بن عامر عند مسلم: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا، عَلَم من أعلام النّبُوّة المحمدية إذ تحضير الدبابات والطائرات، قاذفات القنابل والصواريخ هي اليوم أنكى سلاح وأقواه أثراً في الحروب وقد أْشير إليه في الآية والحديث الشريف بصراحة ووضوح.
4- في وعد الله تعالى المنفقين بتوفية أجورهم كاملة غير منقوصة ما يساعد المؤمن على الإنفاق والبذل والعطاء في سبيل الله تعالى، وبذلك تقوى أمة الإسلام وتعز.(29/134)
حول مشروعية نقل الحيوان من أستراليا إلى بلادنا
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الدكتور: (ت. عبد الهادي اسكينر) . من استراليا وجه سؤالا حول نقل الحيوان من استراليا إلى الشرق الأوسط ... وما يتعرض له من ظروف الشحن السيئة طالبا من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز أن يجيبه على سؤاله ... وكان جواب فضيلة الشيخ كما يلي:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى جناب الأخ المكرم الدكتور: ت. ج. عبد الهادي اسكينر وفقنا الله وإياه.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد اطلعت على رسالتكم بخصوص ما رغبتم في كتابته منا في موضوع نقل الحيوان من بلادكم بأستراليا إلى الشرق الأوسط وما يتعرض له من ظروف الشحن السيئة وأحوال السفن التي ينقل عليها وما ينتج من الزحام وما إلى ذلك. وإذ ندعو الله أن يسلك بنا وبكم وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم لنشكركم على اهتمامكم بهذا الجانب المهم. كما تسرنا إجابتكم على ضوء نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة الراشدة بالحث على الإحسان الشامل للحيوان مأكول اللحم وغير مأكوله مع طائفة من الأحاديث مما صح في الوعيد لمعذبه سواء كان ذلك نتيجة تجويع أو إهمال في حالة نقل أو سواه.
فمما جاء في الحث على الإحسان الشامل للحيوان وسواه قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، وفي رواية: "فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".(29/135)
وفي إغاثة الملهوف منه صح الخبر بعظيم الأجر لمغيثه وغفران ذنبه وشكر صنيعه فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. قال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. فقالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم لأجرا. فقال: في كل كبد رطبة أجر".(29/136)
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يطيف بركبة قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها به". رواه مسلم في صحيحه، وكما حث الإسلام على الإحسان وأوجبه لمن يستحقه نهى عن خلافه من الظلم والتعدي فقال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} . وفي صحيح مسلم: أن ابن عمر - رضي الله عنهما- مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا. وفيه عن أنس - رضي الله عنه - "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم: أي تحبس حتى تموت"، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النحلة والنملة والهدهد والصرد". رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إن هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"ج 16: ص 172 م/ دار الفكر، وفي سنن أبي داود عن أبي واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة". وأخرج الترمذي: "ما قطع من الحي فهو ميت".
وعن أبي مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة تعرض فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها"ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: " قلنا: نحن. قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار". أبي داود ص 419-420 المجلد: (5) .(29/137)
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها". قيل: يا رسول الله وما حقهما؟. قال: "أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها". رواه النسائي والحاكم وصححه. وهذا موجب لترك ذلك وهو عين الرحمة بهذه الأنعام وغيرها.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على حمار قد وسم وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه". رواه مسلم، وفي رواية له "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه". وهذا شامل للإنسان وللحيوان.(29/138)
فهذه النصوص وما جاء في معناها دالة على تحريم تعذيب الحيوان بجميع أنواعه حتى ما ورد الشرع بقتله كالخمس الفواسق: الغراب والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور. وعند البخاري: والحية ومنطوق هذا ومفهومه عناية الإسلام بالحيوان سواء ما يجلب له النفع أو يدرأ عنه الأذى، فالواجب جعل ما ورد من ترغيب في العناية به وما ورد من ترهيب في تعذيبه في أي جانب يتصل به أن يكون نصب الأعين وموضع الاهتمام ولاسيما النوع المشار إليه من الأنعام لكونه محترما في حد ذاته أكلا ومالية، ويتعلق به أحكام شرعية في وجوه الطلعات والقربات من جهة ومن أخرى لكونه عرضة لأنواع كثيرة من المتاعب عند شحنه ونقله بكميات كبيرة خلال مسافات طويلة ربما ينتج عنها تزاحم مهلك لضعيفها وجوع وعطش وتفشي أمراض فيما بينها وحالات أخرى مضرة تستوجب النظر السريع والدراسة الجادة من أولياء الأمور بوضع ترتيبات مريحة شاملة لوسائل النقل والترحيل والإعاشة من الطعام والسقي وغير ذلك من تهوية وعلاج وفصل الضعيف عن القوي الخطر والسقيم عن الصحيح في كل المراحل حتى تسويقها قدر المستطاع وهو اليوم شيء ممكن للمؤسسات المستثمرة والأفراد والشركات المصدرة والمستوردة وهو من واجب نفقتها على ملاكها ومن هي تحت يده بالمعروف.(29/139)
ومما يؤسف منه ويستوجب الإنكار وجاء البيان والتحذير منه: "الطرق المستخدمة اليوم في ذبح الحيوان مأكول اللحم في أكثر بلدان العالم الأجنبي وما يمهد له عند الذبح منه بأنه من التعذيب كالصدمات الكهربائية في مركز الدماغ لتخديره ثم مروره بكلاليب تخطفه وتعلقه منكسا وهو حي مارا بسير كهربائي حتى موضع من يتولى ذبحه لدى بعض مصانع الذبح والتعليب ومنها نتف ريش الدجاج والطيور وهي حية أو تغطيسها في ماء شديد الحرارة وهي حية أو تسليط بخار حار عليها لإزالة الريش زاعمين أنه أوفر بما يراد ذبحه من الحيوان حسبما هو معلوم عن بعض تلك الطرق للذبح وهذا فيه من التعذيب مالا يخفى مخالفته لنصوص الأمر بالإحسان إليه والحث على ذلك في الشريعة الإسلامية السمحاء وكل عمل مخالف لها يعتبر تعديا وظلما يحاسب عليه قاصده لما سلف ذكره ولما صح في الحديث:"إن الله ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"، فكيف بمن يعقل الظلم ونتائجه السيئة!!!
وبناء على النصوص الشرعية ومقتضياتها بوب فقهاء التشريع الإسلامي ما يجب ويستحب أو يحرم ويكره بخصوص الحيوان بوجه عام وبما يتعلق بالزكاة لمباح الأكل بوجه تفصيلي خاص نسوق طائفة مما يتعلق بجانب الإحسان إليه عند تذكيته ومنه: المستحبات الآتية:
1- عرض الماء على ما يراد ذبحه للحديث السابق: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"الحديث.
2- أن تكون آلة الذبح حادة وجيدة وأن يمرها الذابح على محل الذكاة بقوة وسرعة ومحلة اللبة من الإبل والحلق من غيرها من المقدور على تذكيته.
3- أن تنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى إن تيسر موجهة إلى القبلة.
4- وذبح غير الإبل مضجعة على جنبها الأيسر إن كان أيسر للذابح ويضع رجله على حفة عنقها غير مشدودة الأيدي أو الأرجل وبدون لي شيء منها أو كسره قبل زهوق روحها وسكون حركتها ويكره خلع رقبتها ذلك أو أن تذبح وأخر تنظر.(29/140)
وهذه المذكورات مما يستحب عند التذكية للحيوان رحمة به وإحسانا إليه ويكره خلافها مما لا إحسان فيه كجره، فقد روى عبد الرزاق موقوفا أن ابن عمر رأى رجالا يجر شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا.
أو أن يحد الشفرة والحيوان يبصره وقت الذبح لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار وأن توارى عن البَهائم. وما ثبت في معجمي الطبراني الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها. قال: "أفلا قبل هذا؟ أتريد أن تميتها موتتين!! ".
أما غير المقدور على تذكيته كالصيد الوحشي أو المتوحش وكالبعير يند فلم يقدر عليه فيجوز رميه بسهم أو نحوه بعد التسمية عليه مما يسيل الدم غير عظم وظفر، ومتى قتله السهم جاز أكله لأن قتله بذلك في حكم تذكية المقدور عليه تذكية شرعية ما لم يحتمل موته بغير السهم أو معه.(29/141)
وهذا جرى ذكره منا على سبيل الإفادة بمناسبة طلبكم لا على سبيل الحصر لما ورد وصح نقله بشأن الحيوان على اختلاف أنواعه فالإسلام دين الرحمة وشريعة الإحسان ومنهاج الحياة المتكامل والطريق الموصلة إلى الله ودار كرامته فالواجب الدعوة له والتحاكم إليه والسعي في نشره بين من لا يعرفه وتذكير عامة المسلمين بما يجهلون من أحكامه ومقاصده ابتغاء وجه الله فمقاصد التشريع الإسلامي في غاية العدل والحكمة فلا حرمان من كل نافع حيوان خلافا لما عليه البوذيون ولا إباحة لكل ضار منه خلافا لما عليه أكلة الخبائث من الخنزير والسباع المفترسة وما في حكمها ولا ظلم ولا إهدار لحرمة كل محترم من نفس أو مال أو عرض، فنشكر الله على نعمه التي أجلها نعمة الإسلام مع الابتهال إليه أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن لا يجعلنا بسبب تقصيرنا فتنة للقوم الكافرين وصلى الله وسلم على نبينا محمد المبلغ البلاغ المبين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأمية
كثيرا ما نرى بعض الداعين إلى العلم يشجبون الأمية ويعدها من علامات التخلف، والله تعالى وصف هذه الأمة بالأمية فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} . فأرجو أن توضحوا ذلك وشكرا ...
وكانت إجابة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز كما يلي.(29/142)
كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم لا يقرؤون ولا يكتبون ولهذا سموا أميين وكان الذين يكتبون ويقرؤون منهم قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الكتابة ولا يكتب كما قال الله سبحانه {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وكان ذلك من دلائل صدق رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام لأنه أتى إلى الناس بكتاب عظيم أعجز به العرب والعجم أوحاه الله إليه ونزل به عليه الروح الأمين جبرائيل عليه الصلاة والسلام وأوحى إليه سبحانه السنة المطهرة وعلوما كثيرة من علوم الأولين وأخبره سبحانه بأشياء كثيرة مما كان في غابر الزمان ومما يكون في آخر الزمان، ومما يكون في يوم القيامة كما أخبره بأحوال الجنة والنار وأهلهما وكان ذلك مما فضله الله به على غيره وأرشد به الناس إلى منزلته العالية وصفة رسالته عليه الصلاة والسلام وليس وصف الأمة بالأمية المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الإخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} الآية، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقال أيضا عليه الصلاة(29/143)
والسلام: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" متفق على صحته والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق ...(29/144)
رجعية التقدميين
ينادي بعض الكتاب (التقدميين) المعاصرين من خلال دراساتهم الإسلامية الشباب الدارسين إلى إعادة النظر في مادة القدماء. وقد يتصور الناس أنهم اكتشفوا مفاهيم جديدة لم يطلع عليها القدماء في مجال العلم والمعرفة لفقد الوسائل التي حصلت للإنسان بعد التطور العلمي والصناعي.
غير أن استعراض أفكارهم يخيب الأمل حيث لا يجد الإنسان عندهم اكتشافا جديداً أو موضوعاً طريفاً يستحق الاهتمام والتنويه وكل ما يجده في أفكارهم هي جاهلية العصور الأول، عصور كثيرة الفرق وتضارب الأهواء في الملل والنحل بسبب استيراد التصورات اليونانية الوثنية في الإلهيات، ومباحث ما وراء الطبيعات.
والشيء الذي يبعث على الضحك والبكاء معاً هو نداء هؤلاء الكتاب إلى إحياء الفكر الاعتزالي وقضايا: تعطيل الرب من الصفات، وإيجاب الأصلح عليه، ومنح الإنسان حرية خلق أفعاله، واستقلاله عن الوحي، والإيمان بمنزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، وجعل المعاد، والجنة والنار، وكل ما يتعلق بالحياة الأخروية رموزاً وأشياء فنية – كل هذه الآراء أثيرت أثناء غزو الفكر اليوناني عن الكون والحياة، غير أنها تبخرت أمام الفكر الإسلامي الصحيح وبوقوف العلماء المخلصين في وجه هذا التيار المنحرف.
ويندهش الإنسان أمام رجعية الكتاب المتنورين التقدميين اليوم حينما ينادون –إلى إحياء تلك الأضاليل من جديد حيث أنهم رغم كل ادعاءاتهم عن تمجيد العقل والبلوغ إلى مراتب الاجتهاد العليا لا يستطيعون إلا بنبش قبور الأولين من المعتزلة والخوارج والجهمية والفرق المنحرفة الأخرى والتوقف عند ما توصلت إليه عقولهم قبل قرون من الزمان.(29/145)
لذا لا نبالغ حينما نقول إن كتابات كافة أدعياء (التنور) و (العقلانية) والتقدم في هذا العصر لا يؤكد إلا حتمية واحدة وهي أنهم أغبياء رغم دعاويهم عن الاجتهاد والتعقل، جبناء رغم تظاهرهم بالشجاعة، رجعيون رغم هتافاتهم عن (التنور) و (العقلانية) .
أغبياء ... لأنهم ما استطاعوا زيادة شيء على ما يؤثر عن الفرق المنحرفة من الأفكار والآراء بل ما استطاعوا استيعاب تلك الآراء وإدراكها إدراكا صحيحا، لأننا لا نجد عندهم شجاعة أدبية في نسبة الأفكار إلى المصادر التي يأخذون منها من كتب الملل والنحل بواسطة المستشرقين أئمتهم الذين اغترفوا أيضا من تلك المياه العكرة.
رجعيون ... لأنهم لا يقدرون على نقد أفكار أئمة الضلال بل يقبلون كل ما ينزل عليهم من سحاب الاعتزال أو غيوم الاستشراق كالوحي المنزل من السماء، لا تؤكد كتاباتهم ودراساتهم إلا هذه الحقيقة.
فهل يتنبه الشباب المسلمون إلى تضليل هذه الفئة من الناس التي تتفنن في الأساليب أثناء الحديث عن التراث وأصول الدين والتاريخ والأدب…؟
ولا يحمل هؤلاء الناس على الكلام حول غياب الإنسان غياب الوعي من التراث إلا غياب الإيمان من نفوسهم {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ...
(عن البلاغ - العدد 1694 لسنة 1403هـ)(29/146)
أخبار الجامعة
إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
أضواء على نتائج الامتحانات بالجامعة في العام الجامعي 1402-1403هـ في مجال الدراسات العليا
1- بلغ عدد الحاصلين على درجة الدكتوراه عام 1402/ 1403هـ خمسة عشر طالباً منهم ستة طلاب سعوديون، والباقون ينتمون إلى الأردن، والسودان، وفولتا العليا والهند واليمن ولبنان.
وقد حصل أربعة عشر منهم على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى.
2- وبلغ عدد الحاصلين على درجة الماجستير في نفس العام خمسة وثلاثين طالباً منهم سبعة عشر سعوديون والباقون ينتمون إلى الأردن وأندونيسيا وباكستان وبورما وراوندي والسودان والصومال ومصر ونيبال والهند واليمن الجنوبي.
حصل أحد عشر منهم على درجة الماجستير بتقدير (ممتاز) وثلاثة وعشرون بتقدير (جيد جداً) وواحد فقط بتقدير (جيد) .
ثانيا: كليات الجامعة.
1- كلية الشريعة: بلغ عدد الطلاب الذين حصلوا على درجة الشهادة العالية (الليسانس) في الدور الأول لعام 1402/ 1403هـ مائة وخمسة وأربعين طالباً، منهم سبعة عشر طالباً بتقدير (ممتاز) . وسبعة وخمسون بتقدير (جيد جدا) . وستة وستون طالبا بتقدير (جيد) . وخمسة طلاب بتقدير (مقبول) . ومنهم ستة عشر سعوديا، والباقون ينتمون إلى تسع وثلاثين جنسية من أنحاء العالم الإسلامي وبلاد الأقليات الإسلامية.
وبلغ عدد الطلاب الذين دخلوا امتحان الدور الثاني ستين طالبًا. نجح منهم اثنان وثلاثون، فيكون عدد الحاصلين على الليسانس من كلية الشريعة لعام 1402 / 1403هـ سبعة وسبعين ومائة طالب.(29/147)
2- كلية الدعوة وأصول الدين: بلغ عدد الطلاب الحاصلين على الشهادة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين في امتحان الدور الأول ستة ومائة طالب ينتمون إلى ثلاث وثلاثين جنسية. حصل منهم اثنا عشر على تقدير (ممتاز) . وتسعة وعشرون على تقدير (جيد جدا) . وثمانية وخمسون على تقدير (جيد) . وسبعة طلاب فقط على تقدير (مقبول) .
هذا بالإضافة إلى خمسين طالباً كان لهم حق امتحان الدور الثاني كلهم غير سعوديين نجح منهم أربعة عشر طالبا، فيكون عدد الحاصلين على شهادة الليسانس من كلية الدعوة لهذا العام مائة وعشرين طالبا.
3- كلية القرآن الكريم: بلغ عدد الطلاب الذين حصلوا على شهادة الليسانس في الدور الأول ستة عشر طالبا ينتمون إلى خمس جنسيات منهم طالب سعودي، وحصل أربعة منهم على تقدير (ممتاز) وأربعة على تقدير (جيد جدا) وثمانية على تقدير (جيد) .
وكان أربعة عشر طالبا غير سعوديين لهم حق دخول الدور الثاني نجح منهم سبعة طلاب في الدور الثاني.
4- كلية الحديث الشريف: بلغ عدد الحاصلين على شهادة الليسانس في الدور الأول خمسة وأربعين طالباً. منهم ستة طلاب سعوديون والباقون ينتمون إلى سبع عشر جنسية. وحصل أربعة منهم على تقدير (ممتاز) . وستة عشر على تقدير (جيد جدا) . وأربعة وعشرون على تقدير (جيد) ، وواحد فقط على تقدير (مقبول) . وكان خمسة وثلاثون طالبا يحق لهم دخول الدور الثاني منهم طالب سعودي واحد، نجح ممن دخلوا امتحان الدور الثاني منهم اثنا عشر طالبا.(29/148)
5- كلية اللغة العربية: بلغ عدد الحاصلين على الليسانس ستين طالباً منهم اثنان سعوديان والباقون ينتمون إلى ثلاث وعشرين جنسية. حصل منهم واحد فقط على تقدير (ممتاز) وخمسة وعشرون على تقدير (جيد جدا) . والباقون وعددهم أربعة وثلاثون على تقدير (جيد) . وكان يوجد 29 طالبا جميعهم غير سعوديين يحق لهم دخول امتحان الدور الثاني، نجح ممن دخلوا الامتحان منهم أحد عشر طالبا.
أقامت الجامعة الإسلامية المخيم الصيفي التربوي - الذي تقيمه كل عام للطلاب في إجازة الصيف لمدة شهر- وقد أقيم هذا المخيم في الفترة من 7/10 إلى 9/11/1403هـ بمدينة النماص، بمنطقة عسير (أبها) وشارك فيه ثلاثة وسبعون طالبا من مختلف الجهات التعليمية بالجامعة يمثلون سبعا وعشرين جنسية.
اشتركت الجامعة الإسلامية بمائة طالب في مخيم الحج الثالث من 6 ذي الحجة إلى 14 ذي الحجة لطلاب جامعات الخليج، وقد بلغ عدد الطلاب المسجلين بالمخيم من طلاب الجامعات الخليجية حوالي ألف وخمسمائة طالب.
وقد أسهمت الجامعة بتقديم تسهيلات كبيرة للمشاركين في هذا المخيم، إذ وفرت لأعمال المخيم 16 (ست عشرة) ناقلة لتنقلات طلاب الجامعات المشاركين، كما استضافت طلاب الجامعات الخليجية المشاركين بالمخيم أثناء زيارتهم للمدينة المنورة.
وكان لإسهام الجامعة ومشاركتها أثره – بفضل الله – في إنجاح المخيم.
وقد تلقى معالي الدكتور: عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة برقية شكر من الدكتور: محمد الأحمد الرشيد مدير مكتب التربية العربي لدول الخليج، الذي كان مديرا للمخيم، على ما قامت به الجامعة من دور كان له أبرز الأثر في إنجاحه.(29/149)
عقدت الأمانة العامة لندوة عمادات شئون الطلاب بجامعات المملكة اجتماعا بمقر الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة يوم الأربعاء 28من شهر ذي الحجة 1403هـ برئاسة فضيلة الشيخ عوض بن أحمد سلطان الشهري عميد شئون الطلاب بالجامعة والأمين العام للندوة.
ونوقش في هذا الاجتماع الموضوعات والمقترحات التي أعدتها اللجان المتفرعة من الأمانة العامة للندوة الخامسة القادمة والتي من المقرر إن شاء الله أن تعقد في رحاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
توقيع عقد المخطط العام والتصميمات المعمارية للمشروع العام للجامعة
في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 27/12/1403هـ تم توقيع عقد إعداد المخطط العام والتصميمات المعمارية والهندسية للمشروع العام للجامعة الإسلامية الذي يتضمن إنشاء مدينة جامعية متكاملة على أحدث المستويات العالمية تشتمل على كل ما تتطلبه المدينة الجامعية من وحدات للجهات التعليمية والأجهزة الإدارية من المرافق العامة، وسكن للطلبة والموظفين ... الخ.
وقد وقع العقد عن الجامعة معالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة وعن شركة أرثر أريكسون - التي تشرف على تنفيذ المشروع - السير ديفيد جويس.
ويأتي هذا المشروع في نطاق اهتمام حكومة جلالة الملك – أيدها الله - بالجامعة الإسلامية، والنهوض بها دوما إلى الأمام.
وقد صرح معالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة بمناسبة توقيع العقد بقوله:
لقد تحقق بتوقيع عقد إعداد المخطط العام لمشروع الجامعة أمل منسوبي الجامعة الإسلامية في النهوض بهذه الجامعة لتأخذ مكانتها اللائقة بين جامعات العالم حتى تؤدي رسالتها التي أقيمت من أجلها.(29/150)
وقد وعد صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز المعظم في لقائه بأبنائه طلاب الجامعة في شهر محرم من هذا العام بأن (هذه الجامعة سوف تقام بشكل مناسب وملائم فيما يتعلق بمبانيها وجميع أمورها التي تعود بالفائدة الكبرى، كما أكد جلالته بأن المملكة العربية السعودية – حكومة وشعبا - لا يمكن أن تبخل بأي شيء فيه دعم الجامعة حتى تأخذ مستواها اللائق بها) .
وهكذا - وقبل نهاية العام - تحقق توقيع هذا العقد الذي يترجم اهتمام حكومة جلالة الملك وفقها الله بالجامعة الإسلامية، وبه يبدأ عهد جديد من التقدم المرجو لها، وبهذه المناسبة أتقدم بوافر الشكر لحضرة صاحب الجلالة وسمو ولي عهده، وأدعو الله أن يوفقهم لمزيد من عمل الخير في سبيل دعم الأمة العربية والإسلامية، كما أقدم شكري للأخوة العاملين في الجامعة وعلى رأسهم المهندسون والعاملون بإدارة المشروع العام في الجامعة لما بذلوه من جهد في إبراز هذا المشروع، كما أقدم شكري للأخوة في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، وعلى رأسهم معالي الشيخ محمد أبا الخيل وللأخوة في وزارة التخطيط وعلى رأسهم معالي الشيخ هشام ناظر على الجهد الذي قاموا به من أجل استكمال الدراسات والإجراءات المالية والنظامية والقانونية لإخراج هذا المشروع إلى حيز الوجود وبصورة متكاملة … وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد.
صياغة الشيخ محمود محمد سالم(29/151)
فضل أهل الحديث
شهادة العدول الصادقين لهم
بأنهم على الصراط المستقيم والحق الواضح المبين
للدكتور ربيع بن هادي المدخلي
أستاذ مساعد بالدراسات العليا
شهادة ابن قتيبة:
ألف فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ كتابا سماه (تأويل مختلف الحديث دفاعا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حملتها وناقليها وحفاظها أهل الحديث) .
قال في مطلع الكتاب: (أما بعد) أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته ووفقك للحق برحمته وجعلك من أهله فإنك كتبت إليَّ تُعْلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث ثم ذكر الخوارج وما تعلقت به من الأحاديث في تأييد مذهبها والمرجئة وما تعلقت به كذلك والمفوضة وما تعلقت به من الأحاديث والرافضة وما تعلقت به من الأحاديث في ضلالتها وتكفيرها الصحابة ومفضلوا الفقر وما تعلقت به، ثم ذكر طعون الزنادقة في أهل الحديث.(29/152)
ثم قال: (باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي) فقال: وقد تدبرت رحِمك الله مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون ويفتنون الناس بما يأتون ويبصرون القذى في عيون الناس وعيونهم تُطْرَف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في التأويل، ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والآنية ولَو ردُّوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج، ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الاتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً، ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك
أتباعا وأشياعاً. وقد كان يجب- مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّابُ والمسَّاح والمهندسون لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء ونبض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد، فما بالهم أكثر الناس اختلافاً لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين.
ثم ذكر تضارب الآراء واختلاف الأهواء والاتجاهات بين زعماء أهل الكلام وانتقدهم أشد النقد ثم قال ذكر أصحاب الحديث.(29/153)
فأما أصحاب الحديث، فإنهم التمسوا الحق من وجهته وتتبعوه من مظانه وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً وشرقا وغربا يرحل الواحد منهم راجلا مقويا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لا يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا وبسق بعد أن كان دارسا واجتمع بعد أن كان متفرقا وانقاد للسنن من كان عنها معرضا وتنبه لها من كان عنها غافلا، وحُكِمَ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان، وإن كان فيه خلاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف وطلبهم الغرائب، وفي الغريب الداء. ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقا، بل جمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم ليميزوا بينهما ويدلوا عليهما وقد فعلوا ذلك. ثم ذكر طائفة من الأحاديث الموضوعة وذكر نقد المحدثين لها وتزييفهم إياها وفضح واضعيها.
رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
شهادة الإمام ابن حبان:
قال الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سعيد التميمي المتوفى سنة 354 في مقدمة صحيحه (انظر الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان (1/20-23) . بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:(29/154)
ثم اختار طائفة لصفوته وهداهم للزوم طاعته من اتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار فزين قلوبهم بالإيمان وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه واتباع سنن نبيه بالدّؤُب في الرحل والأسفار وفراق الأهل والأوطار في جمع السنن ورفض الأهواء والتفقه فيها بترك الآراء فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه وسألوا عنه وذاكروا به ونشروه وتفقهوا فيه وأصلوه وفرعوا عليه وبذلوه وبينوا المرسل من المتصل والموقوف من المنفصل والناسخ من المنسوخ والمحكم من المفسوخ والمفسر من المجمل والمستعمل من المهمل والمختصر من المتقصىَّ والملزوق من المتفصىَّ والعموم من الخصوص والدليل من المنصوص والمباح من المزجور والغريب من المشهور والغرض من الإرشاد والحتم من الايعاد والعدول من المجروحين والضعفاء من المتروكين وكيفية المعمول من المجهول وما حرف عن المخزول وقلب من المنحول من مخايل التدليس وما فيه التلبيس حتى حفظ الله بهم الدين على المسلمين وصانه من ثلب القادحين، جعلهم عند التنازع أئمة الهدى وفي النوازل مصابيح الدجى، فهم ورثة الأنبياء ومأنس الأصفياء.
ثم بعد الشهادة لرسول الله بالرسالة والبلاغ المبين والجهاد وآثار ذلك قال: وإن في لزوم سنته تمام السلامة وجماع الكرامة لا تطفأ سرجها ولا تدحض حججها من لزمها عصم ومن خالفها ندم إذ هي الحصن الحصين من تمسك به ساد ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل والمغبوطون بين الأنام في العاجل. وقال: (1/105) وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث العرباض بن سارية وفيه "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".(29/155)
ثم قال: في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنن وقال بها ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرقة الناجية في القيامة جعلنا الله منهم بمنة.
ثم قال في: (1/107) ذكر البيان بأن من أحب الله عز وجل وصفيه صلى الله عليه وسلم بإيثار أمرهما وابتغاء مرضاتهما على رضا سواهما يكون في الجنة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم قال في: (1/151) كتاب العلم ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة.
ثم أورد حديث معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة".
شهادة الإمام الرامهرمزي:
وقال الإمام أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي المتوفى سنة 360 في مقدمة كتابه (المحدث الفاصل) (ص: 1-4) :(29/156)
اعترضت طائفة ممن يشنأ الحديث ويبغض أهله، فقالوا بنقص أصحاب الحديث والإزراء بهم وأسرفوا في ذمهم والتقول عليهم وقد شرف الله الحديث وفضل أهله وأعلى منزلته وحكمه على كل نحلة وقدمه على كل علم ورفع من ذكر من حمله وعنى به، فهم بيضة الدين ومنار الحجة وكيف لا يستوجبون الفضيلة ولا يستحقون الرتبة الرفيعة وهم الذين حفظوا على الأمة هذا الدين وأخبروا عن أنباء التنزيل وأثبتوا ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وما عظمه الله عز وجل به من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فنقلوا شرائعه ودونوا مشاهده وصنفوا أعلامه ودلائله وحققوا مناقب عترته ومآثر آبائه وعشيرته وجاءوا بسير الأنبياء ومقامات الأولياء وأخبار الشهداء والصديقين وعبروا عن جميع فعل النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وحضره وظعنه وإقامته وسائر أحواله من منام ويقظة وإشارة وتصريح وصمت ونطق ونهوض وقعود ومأكل ومشرب وملبس ومركب وما كان سبيله في حال الرضا والسخط والإنكار والقبول حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها، والنخاعة من فيه أين كان وجهتها، وما كان يقوله عند كل فعل يحدثه ويفعله، وعند كل موقف ومشهد يشهده تعظيما له صلى الله عليه وسلم ومعرفة بأقدار ما ذكر عنه وأسند إليه، فمن عرف للإسلام حقه وأوجب للرسول حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه وأعلى مكانه وأظهر حجته وأبان فضيلته ولم يرتق بطبيعته إلى حزب الرسول واتباع الوحي وأوعية الدين، ونقلة الأحكام والقرآن، الذين ذكرهم الله عز وجل في التنزيل فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} .
فإنك إذا أردت التوصل إلى معرفة هذا القرن لم يذكرهم لك إلا راوي الحديث متحقق به أو داخل في حيز أهله ومن سوى ذلك فربك بهم أعلم.
ثم ذكر كلاما لبعض الحاقدين على أهل الحديث وبين باعث هذا الحقد ثم رد عليه ثم وجه نصيحة لطلاب الحديث فقال:(29/157)
فتمسكوا – جبركم الله - بحديث نبيكم صلى الله عليه وسلم وتبينوا معانِيَهُ وتفقهوا به وتأدبوا بآدابه ودعوا ما تعيرون به من تتبع الطرق وتكثير الأسانيد وتطلب شواذ الأحاديث وما دلسه المجانين وتبلبل فيه المغفلون واجتهِدوا في أن توفوه حقه من التهذيب والضبط والتقويم، لتشرفوا به في المشاهد وتنطلق ألسنتكم في المجالس ولا تحفلوا بمن يعترض عليكم حسداً على ما آتاكم الله من فضله، فإن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذاكرون ونسب لا يجهل بكل مكان وكفى بالمحدث شرفا أن يكون اسمه مقرونا باسم النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بذكره وذكر أهل بيته وأصحابه.
ولذلك قيل لبعض الأشراف: نراك تشتهي أن تحدث فقال: أولا أحب أن يجتمع اسمي واسم النبي صلى الله عليه وسلم في سطر واحد، وحسبك جمالا عصبة منهم علي ابن الحسن بن علي رضي الله عنهم، ومن يليه من ذريته وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبناء المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأهل الزهادة والعبادة والفقهاء وأكثر الخلفاء ومن لا يدركه الإحصاء من العلماء والنبلاء والفضلاء والأشراف ذوي الأخطار فكيف بمن يسميهم الحشوية الرعاع ويزعم أنهم أغثار وحملة أسفار والله المستعان.
شهادة الحاكم:
وقال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 في مقدمة كتابه: (معرفة علوم الحديث) (ص: 1-4) :(29/158)
الحمد الله ذي المن والإحسان والقدرة والسلطان الذي أنشأ الخلق بربوبيته وجنسهم بمشيئته واصطفى منهم طائفة أصفياء وجعلهم بررة أتقياء فهم خواص عباده وأوتاد بلاده يصرف عنهم البلايا يخصهم بالخيرات والعطايا، فهم القائمون بإظهار دينه والمتمسكون بسنن نبيه وأشهد أن لا إله إلا الله الذي زجِر عن اتخاذ الأولياء دون كتابه واتباع الخلق دون نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى بلغ عنه رسالته فصلى الله عليه آمراً وناهياً ومبيحا وزاجراً وعلى آله الطيبين.
أما بعد- فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت ومعرفة الناس بأصول السنن قلت مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علم الحديث مما يحتاج إليه طلبة الأخبار المواظبون على كتابة الآثار.
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن مرزوق البصري بمصر، حدثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال ناس من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة".
سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الآدمي بمكة يقول سمعت موسى ابن هارون يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وسئل عن معنى هذا الحديث فقال: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم؟. قال أبو عبد الله: وفي مثل هذا قيل من أمَّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحق. فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر إن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث.(29/159)
ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين واتبعوا آثار السلف الماضين ودفعوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الدمن والأوطان وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة العلم والإخبار وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار قد تركوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ جعلوا المساجد بيوتهم وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم.
حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة ثنا محمد بن الحسين بن أبي الحسين ثنا عمر بن حفص بن غياث قال: سمعت أبي وقيل له: ألا تنظر إلى أصحاب الحديث وما هم فيه. قال: هم خير أهل الدنيا.
وحدثني أبو بكر محمد بن جعفر المزكي ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق قال: سمعت علي ابن خشرم يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: إني لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس يقيم أحدهم ببابي وقد كتب عني فلو شاء أن يرجع ويقول: حدثني أبو بكر جميع حديثه فعل ولكنهم لا يكذبون.
قال أبو عبد الله: ولقد صدقا جميعا إن أصحاب الحديث خير الناس وكيف لا يكونون كذلك وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم وجعلوا غذاءهم الكتابة وسمرهم المعارضة واسترواحهم المذاكرة وخلوتهم المداد ونومهم السهاد واصطلاءهم الضياء وتوسدهم الحصى فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، قلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة تعلم السنن سرورهم ومجالس العلم حبورهم وأهل السنة قاطبة إخوانهم وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم.
سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد يقول سمعت أبا إسماعيل محمد ابن إسماعيل الترمذي يقول:(29/160)
كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء. فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه فقال: زنديق زنديق زنديق ودخل البيت.
سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول: سمعت جعفر بن سنان الو اسطي يقول: سمعت أحمد بن سنان القطان يقول: "ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث"وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه. قال أبو عبد الله وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة ويسميها الحشوية ... اه.
أقول هذه الكراهية والبغضاء والحقد الأرعن مازال أهل البدع والزيغ يتوارثونه جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا فأشد أعدائهم هم أهل الحديث والسنة والتوحيد والحديث، بقال الله قال رسول الله خصوصا فيما يتعلق بتوحيد الله ورد البدع أشد عليهم من وقع السهام وقرع السيوف وصوت القنابل والمدافع.
شهادة الخطيب البغدادي:
وألف الإمام الكبير أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 كتابا أسماه (شرف أصحاب الحديث) :
قال في مقدمته: بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذم الرأي من (ص: 3-5) فلو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم وطلب سنن رسول رب العالمين واقتفى آثار الفقهاء المحدثين لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد وبيان ما جاء من الوعد والوعيد وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين والإخبار عن صفة الجنة والنار، من صنوف العجائب وعظيم الآيات وذكر الملائكة المقربين ونعت الصافين والمسبحين.(29/161)
إلى أن يقول: وقد جعل الله أهله أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة فهم أمناء الله في خليقته والواسطة بين النبي وأمته والمجتهدون في حفظ ملته أنوارهم زاهرة وفضائلهم سائرة وآياتهم باهرة ومذاهبهم ظاهرة وحججهم قاهرة وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه وتستحسن رأيا تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم والرسول فئتهم وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء ولا يلتفتون إلى الآراء يقبل منهم ما رووا عن الرسول وهم المأمونون عليه العدول، حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في الحديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، منهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلته، مخصوص بفضيلته، وقارئ متقن وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم وسبيلهم السبيل المستقيم وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وعلى الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله ومن عاندهم خذله الله لا يضرهم من خذلهم ولا يفلح من اعتزلهم المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير وبصر الناظر بالشر إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير، ثم ساق إسناده إلى علي بن المديني قال: في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم".(29/162)
قال (أي ابن المديني) : (هم أهل الحديث) والذين يتعاهدون مذاهب الرسول ويذبون عن العلم ولولاهم لم نجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئاً من السنن فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين فشأنهم حفظ الآثار وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولا وفعلا وحرسوا سنته حفظا ونقلا، حتى بينوا بذلك أصلها وكانوا أحق بها وأهلها، فكم من ملحد يروم أن يخلط في الشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها إذا صُدِفَ عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(29/163)
ثم قال في ص 6: قال الخطيب: قد ذكر أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المؤلف في تأويل مختلف الحديث ما يتعلق به أهل البدع من الطعن على أصحاب الحديث ثم ذكر من فساد ما تعلقوا به ما فيه مقنع لمن وفقه الله لرشده، ورزقه السداد في قصده وأنا أذكر في هذا الكتاب إن شاء الله ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على التبليغ عنه وفضل النقل لما سمع منه، ثم ما روي عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء الخالفين في شرف أصحاب الحديث وفضلهم وعلو مرتبتهم ومحاسنهم المذكورة ومعالمهم المأثورة. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بمحبتهم ويحيينا على سنتهم ويميتنا على ملتهم ويحشرنا في زمرتهم إنه بنا خبير بصير وهو على كل شيء قدير. ثم أورد حديث "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه" من طرق إلى زيد بن ثابت وجبير ابن مطعم وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - ثم روى بإسناده إلى سفيان بن عيينة أنه قال: ما من أحد يطلب الحديث إلا في وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه" (ص:10-11) . ثم أورد روايات في وصية النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام أصحاب الحديث (ص: 11-12) . ثم أورد حديث: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء" من طريق أبي هريرة وعبد الله بن مسعود ثم قال عقبه: "قال عبدان: هم أصحاب الحديث الأوائل" (ص: 13) . ثم أورد حديث: "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" ثم روى بإسناده إلى الإمام أحمد بن حنبل أنه قال:(29/164)
يعني في الفرقة الناجية: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ (ص:13) . ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" من حديث معاوية بن قرة وعمران بن حصين. ثم قال: يزيد بن هارون إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ وروى بإسناده إلى عبد الله بن المبارك أنه قال: هم عندي أصحاب الحديث، ثم روى أيضا بإسناده إلى أحمد ابن حنبل وأحمد بن سنان وعلي بن المديني أنهم قالوا: إنهم أصحاب الحديث وأصحاب العلم والأثر (ص: 14-15) . ثم أورد حديثا عن علي رضي الله عنه- في كون أهل الحديث خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عنه. (ص:17-18) .
ثم قال: وصف النبي صلى الله عليه وسلم إيمان أهل الحديث ثم ذك ر في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن عمرو وآخر عن عمر بن الخطاب مرفوعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم (ص18-19) . ثم قال: "كون أصحاب الحديث أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم لدوام صلاتهم عليه"، ثم أورد في هذا المعنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة علي"، ثم قال: قال أبو نعيم -رحمه الله- وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً (ص:19-20) .
ثم قال: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بكون طلبة الحديث بعده واتصال الإسناد بينهم وبينه وساق حديثا في هذا المعنى عن ثابت بن قيس مرفوعا وآخر عن ابن عباس- رضي الله عنهما-.(29/165)
ثم قال: ذكر بيان فضل الإسناد وأنه مما خص الله به هذه الأمة ثم ذكر جهود أهل الحديث واهتمامهم بالأسانيد وتحريهم في الأخذ عن الثقات واجتهادهم في كتابة الحديث وتتبع طرقه ونقدهم للرواة وبعدهم عن المحاباة فلا يحابي أحدهم في الحديث أباه ولا أخاه ولا ولده، ثم قال: وهذا علي بن المديني وهو إمام الحديث في عصره لا يروى عنه حديث واحد في تقوية أبيه، بل يروى عنه ضد ذلك (ص: 22-23) .
ثم قال: كون أصحاب الحديث أمناء الرسول صلى الله عليه وسلم لحفظهم السنن وتبيينهم لها.
ثم نقل عن أبي حاتم فضل أهل الحديث وعن عبد الله بن داود الخريبي يقول: سمعت أئمتنا ومن فوقنا أن أصحاب الحديث وحملة العلم هم أمناء الله على دينه وحفاظ سنة نبيه ما عملوا وعلموا. ثم روى بإسناده إلى- كهمس- رحمه الله قال: من لم يحقق أن أهل الحديث حفظة الدين فإنه يعد في ضعفاء المساكين الذين لا يدينون لله بدين (ص: 24-25) .
ثم أورد العنوان التالي: وهو كون أصحاب الحديث حماة الدين بذبهم عن السنن وساق تحت هذا العنوان قول الثوري: "الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض". وقول يزيد بن زريع: "لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد". (ص:25) .
ثم قال: كون أصحاب الحديث ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خلفه من السنة وأنواع الحكمة.
وذكر أثراً عن ابن مسعود أن السنة هي ميراث رسول الله ثم اعتبار الفضيل بن عياض أهل الحديث ورثة الأنبياء، ثم قول الشافعي: "إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حيًّا"ساق هذا إلى الشافعي بإسناد صحيح (ص: 25-26) .
ثم قال: "كونهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر".
وروى بإسناده إلى إبراهيم بن موسى أنه سئل من الأمارون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ قال: نحن منهم نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا كذا (ص: 26) .(29/166)
ثم قال: "كونهم خيار الناس. ثم روى بإسناده إلى أبي بكر بن عياش أنه قال: "ما قوم خير من أصحاب الحديث وقال: ما أعلم في الدنيا خيرا منهم".
وبإسناده إلى أحمد بن حنبل: قال: ليس قوم عندي خيراً من أهل الحديث ليس يعرفون إلا الحديث. وقال: أهل الحديث أفضل من تكلم في العلم.
وقال أحمد أيضا: إن لم يكن هؤلاء هم الناس فلا أدري من الناس؟. وبإسناده إلى الأوزاعي أنه قال: لا أعلم أحدا أفضل من أهل الحديث، وبإسناده إلى عثمان بن أبي شيبة أنه قال في أهل الحديث: أما إن فاسقهم خير من عابد غيرهم.
وبإسناده إلى أبي يوسف القاضي أنه قال وقد رأى أصحاب الحديث على الباب "ما على الأرض خير منكم" (ص: 26-28) ثم عنون بما يأتي: "من قال: إن الأبدال والأولياء أصحاب الحديث ثم ساق قول صالح بن محمد الرازي ويزيد ابن هارون وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل في هذا المعنى أي أن أهل الحديث: هم أولياء الله وهم الأبدال (ص: 28) .
ثم أورد عنوانا بلفظ، من قال: لولا أهل الحديث لاندرس الإسلام، ثم ساق بإسناده أقوال حفص بن غياث وأبي داود وعلي بن المديني في هذا المعنى وَلفظ أبي داود: لولا هذه العصابة لاندرس الإسلام يعني أصحاب الحديث الذين يكتبون الآثار (ص: 29) .(29/167)
ثم قال: من قال: إن الحق مع أصحاب الحديث، وساق أسانيده إلى هارون الرشيد والوليد الكرابيسي ومحمد بن قريش العنبري البصري شهادتهم لأهل الحديث أنهم أهل الحق، ولفظ الرشيد: "طلبت أربعة فوجدتها في أربعة، طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث" (ص: 31- 32) . ثم قال: كون أهل الحديث أولى الناس بالنجاة في الآخرة وأسبق إلى الجنة. ثم ساق بإسناده حديثا مرفوعا في هذا المعنى ثم عقبه بأقوال في هذا المعنى أسندها إلى أبي جعفر النفيلي وإلى أبي مزاحم الخاقاني وشاذان بن يحيى وابن المبارك والحسن بن علي التميمي.
وقول النفيلي: إن كان على وجه الأرض أحد ينجو فهؤلاء الذين يطلبون الحديث. (ص: 32-33) .
ثم تكلم في فضل الرحلة في طلب الحديث وسماعه وكونه فيه خير الدنيا والآخرة وذم الذين لم يسمعوا الحديث والترغيب في كتابة الحديث وثبوت حجة صاحب الحديث، ووصف الراغب في الحديث والزاهد فيه.
ثم قال: الاستدلال على أهل السنة بحبهم أصحاب الحديث وأسند إلى قتيبة ابن سعيد قوله: "إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن ابن مهدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وذكر قوما آخرين فإنه على السنة ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع". (ص:40) .
ثم أسند إلى أحمد بن حنبل أن أحمد بن الحسن الترمذي قال له: يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال له: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه. فقال: زنديق زنديق زنديق ودخل بيته. وذكر أقوالا عن الأوزاعي وغيره أن من علامة المبتدعة عدم انقيادهم للحديث. (ص: 40-41) .
ثم قال: من جمع بين مدح أصحاب الحديث وذم أهل الرأي والكلام الخبيث.
وأسند إلى الشعبي وأحمد بن شبويه ومحمد بن عبد الرحمن النسفي أقوالهم في ذم الرأي.(29/168)
ثم أسند إلى عبيدة بن زياد الأصبهاني أنه قال:
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى آثار
لا تخدعن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى سبل الهدى
والشمس بازغة لها أنوار
وساق أقوالا لعلماء في ذم الرأي. ثم أسند إلى أبي عبد الله محمد بن علي الصوري أنه قال:
قل لمن عاند الحديث وأضحى
عائبا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا ابن لي
أم بجهل فالجهل خلق السفيه
أيعاب الذين هم حفظوا الدين
من الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه
راجع كل عالم وفقيه
ثم ساق أقوالا في ذم الكلام وأهله ومنها قول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ بالكلام. (ص: 41-43) -رحمه الله وجزاه الله عن الحديث وأهله خيراً.
فهذا قليل من كثير في حال أهل الحديث وواقعهم وما قيل من مدح بحق وشهادة بصدق. نقلت هذا لمن كان على نهجهم في اتباع الكتاب والسنة ليزداد إيمانا وثباتا ولمن خدع من المنتسبين إلى السنة بمغالطات وتلبيسات الجهمية والمرجئة وغيرهما من الفرق الضالة فوقع في شيء من التعطيل والتأويل الجهمي أو التحريف الصوفي أو وقع في مزالق الإرجاء أو سقط في أفخاخ الجبرية ليعود إلى أصله ويأوي إلى عرينه فيلزم عرين أهل الحديث ويكون في ركبهم ويتبع حاديهم:
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى آثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار(29/169)
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} .(29/170)
فقه السنة:
صلاة الجماعة
للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
الأول: حكم صلاة الجماعة:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". (إسناده صحيح) [1] .
وفي رواية عند أحمد: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وآمر فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار" [2] .
وفي إسناد أحمد: أبو معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي المشهور بكنيته، ضعيف.
وقوله: "حبواً" أي المشي على الأيدي والركب، وهو الزحف كما يزحف الصغير.
خص النبي صلى الله عليه وسلم الصلاتين وهما العشاء والفجر وجعلهما ثقلاً على المنافقين لأن العشاء كانت وقت الإيواء إلى البيوت من العمل، وكانت ظلمة الليل تمنعهم من الخروج من البيت. وأما الفجر فلذة النوم تمنع من القيام وخاصة في البرد الشديد.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لأنهم ما كانوا يؤدون الصلاة على جهة الاحتساب فكلما وجدوا فرصة للغياب لم يفرطوا فيها، بل اغتنموها فكأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمنين تاركي حضور الجماعة في صلاتي الفجر والعشاء بالمنافقين، وهددهم بالإحراق بالنار.
واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة لأنها لو كانت سنة لما هدد النبي صلى الله عليه وسلم تاركها بالتحريق.
فتفرع عن ذلك عدة أقوال في حكم صلاة الجماعة منها:(29/171)
1- أنها فرض على الأعيان: وهو رأي الأوزاعي، وأحمد، وداود الظاهري، بعض محدثي الشافعية كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، ثم اختلف هؤلاء، فقال داود الظاهري: إنها شرط في صحة الصلاة، ففي المحلى "ولا تجزي صلاة فرض أحداً من الرجال، إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعداً ولابد، فإذا لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحداً يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة" [3] .
وذكر ابن عقيل من الحنابلة وجهاً في اشتراطها عن أحمد أيضاً قياساً على سائر واجبات الصلاة. والصحيح عنه أنها ليست شرطاً في صحة الصلاة بدليل عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على اللذين صليا في رحالهما.
يقول ابن دقيق العيد: "ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد في أظهر قوليه بوجوبها على الأعيان بدون شرطية" [4] .
وكذلك انعقد الإجماع على أن من صلى في بيته وحده لا يجب عليه الإعادة.
2- وذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة. وهو رأي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة، وبه قال الثوري: وللشافعي ومالك قول بأنها فرض كفاية.
أدلة القائلين بوجوب الجماعة:
1- قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} (سورة النساء) .
هذه الآية تختص بصلاة الخوف، فإذا لم يأذن الله أن نتخلف عن الجماعة في حالة الخوف، ففي الأمن أولى.
قال ابن كثير: "وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ لك" [5] .(29/172)
وقال ابن قدامة: "ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها" [6] .
2- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى أن يتخلف عن الجماعة مع عذره.
قال أبو هريرة: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فرخص له، فلما ولىَّ دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "فأجب" [7] .
وعن عمرو بن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني ضرير البصر، شاسع الدار، لي قائد لا يلاومني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟. قال: "هل تسمع النداء؟ "قال: نعم. قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة". وفي رواية "قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟. قال: "تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ ". قال: نعم. فقال: "فحي هلا"، ولم يرخص" [8]
قوله: يلاومني من الملاومة أي الموافقة والمناسبة.
قال الخطابي: "هكذا يروى في الحديث بالواو، ولكن الصواب: يلايمني: أي يوافقني، وأما الملاومة فإنها من اللوم وليس هذا موضعه".
والهوام: هوام الأرض أي حشراتها.
فحي هلا: حي بمعنى هلمَّ، وهلا: بمعنى عجل وأسرع.
قال الخطابي: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك ندباً لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم".(29/173)
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: "ليس لأحد من خلق في الحضر، والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة". وقال الأوزاعي: "لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعات، سمع النداء أو لم يسمع". وكان أبو ثور يوجب الجماعة. واحتج هو وغيره ممن أوجبه بأن الله سبحانه وتعالى أمر أن يصلى جماعة في حال الخوف، ولم يعذر في تركها فعقل أنها في حال الأمن أوجب.
وقال: "وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا على الأعيان. وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة، وإنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال. واحتجوا في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". انتهى كلامه [9] .
2- حديث ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر، قال: وما العذر؟، قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه صلاته التي صلى".
رواه أبو داود والدارقطني والحاكم [10] كلهم بطرق عن أبي جناب، عن مغراء العبدي، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عنه.
قال أبو داود: "روى عن مغراء أبو إسحاق أيضاً".
وسكت عليه الحاكم والذهبي.
ومغراء: بفتح أوله وسكون المعجمة - أبو مخارق الكوفي ذكره ابن حبان في الثقات وطعن فيه عبد الحق وتكلم فيه الذهبي. قال ابن القطان: "أنكر على عبد الحق طعنه في حديثه، ولا يعرف فيه تجريح".
وفيه يحيى بن أبي حية، أبو جناب الكلبي: قال الحافظ: "ضعفوه لكثرة تدليسه".
وقال المنذري: "أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي ضعيف، وأخرجه ابن ماجة بنحوه وإسناده أمثل وفيه نظر". انتهى.
وحديث ابن ماجة الذي أشار إليه المنذري هو بلفظ "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر".(29/174)
رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم [11] كلهم من طرق عن هشيم بن بشير عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. كما رواه الحاكم أيضا بطريق عبد الرحمن بن غزوان أبي نوح المعروف بقراد عن شعبة. وقال: "هذا الحديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهشيم، وقراد أبو نوح ثقتان، فإذا وَصَلاه فالقول فيه قولهما". انتهى. ووافقه الذهبي وقال: الدارقطني بعد ذكر هذا الحديث بطريق هشيم بن بشير عن شعبة، حدثنا ابن مبشر وآخرون قالوا: أخبرنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد عن شعبة بإسناده نحوه.
ثم قال: "رفعه هشيم، وقراد شيخ من البصريين مجهول". انتهى.
وقراد هذا الذي زعمه الدارقطني هنا أنه مجهول قد وثقه هو نفسه في الجرح والتعديل كما نقله عنه الحافظ في التهذيب [12] .
قال الحافظ: "ورواه قاسم بن أصبغ في مسنده موقوفاً ومرفوعاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابت به ولم يقل في المرفوع: "إلا من عذر". ثم ذكر كلام الحاكم وأنه أخرج في مستدركه بعض الشواهد، منها: عن أبي موسى الأشعري وهو من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين عن أبي بردة عنه بلفظ: "من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له". ثم قال: ورواه البزار من طريق قيس بن الربيع عن أبي حسين أيضاً. ورواه من طريق سماك عن أبي بردة عن أبيه موقوفاً". وقال البيهقي: "الموقوف أصح. ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر، وضعفه، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه". انتهى كلام الحافظ [13] .
وقال الحاكم: "وقد صحت الرواية فيه عن أبي موسى عن أبيه (هكذا والصحيح عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه) ". ووافق الذهبي على تصحيح الحديث [14] .(29/175)
قال الكاساني: "تجب الجمعة على الرجال العاقلين الأحرار القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد ومقطوع اليد والرجل من خلاف والشيخ الكبير لا يقدر على المشي والمريض"انتهى [15] لأن هؤلاء من أصحاب الأعذار.
4- حديث جابر بن عبد الله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"وهو حديث مشهور بين الناس وليس له إسناد ثابت. فقد رواه الدارقطني [16] عن جابر بن عبد الله وفيه: محمد بن سكين الشقري المؤذن. قال عنه الذهبي: لا يعرف وخبره منكر. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر. ورواه العقيلي في الضعفاء وضعفه. ورواه أيضاً هو والحاكم [17] . عن أبي هريرة: وفيه سليمان بن داود اليمامي قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان متروك. ورواه ابن عدي في الكامل وضعفه، ورواه أيضا عن علي بن أبي طالب. وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف جداً.
وقال ابن الجوزي: رواه عمر بن راشد من حديث عائشة. قال ابن حبان: لا يحل ذكر عمر إلا على سبيل القدح فيه [18] .
ذكر السيوطي في الجامع الصغير [19] ، والعجلوني في كشف الخفاء [20] .
وقالا: إنه ضعيف. هذه هي بعض ما روي في هذا الموضوع وإليكم الآن:
وجهة نظر الجمهور القائلين بعدم وجوب الجماعة:
نظر الجمهور إلى الأحاديث التي مر ذكرها، وإلى الأحاديث التي تفضل الجماعة على الفرد بدرجات فقالوا: نحمل هذه الأحاديث على تأكيد الجماعة وعدم التهاون فيها لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "على صلاته وحده" يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة (أفعل) الاشتراك في أصل التفاضل فإن ذلك يقتضي أيضاً وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه.(29/176)
قال الإمام الشافعي: "ومنعني أن أقول إن صلاة الرجل لا تجوز وحده وهو يقدر على الجماعة بحال تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل لا تجزئ المنفرد صلاته، وأنا قد حفظنا أن قد فاتت رجالا معه الصلاة فصلوا بعلمه منفردين، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا، وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوما فجاءوا المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد، فصلى كل واحد منهم منفردا" [21] .
قال القرطبي: ولا يقال إن لفظة (أفعل) قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} . لأنا نقول: إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة (أفعل) مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا: هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد.
ولا يقال: يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله: صلاة الفذّ صيغة عموم فيشمل من صلى منفرداً بعذر، وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل، وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور [22] .
ويحتج على الظاهرية القائلين بالوجوب بحديث أبي هريرة أنه بمقتضى مذهبهم لا يدل على وجوب الجماعة في غير الفجر والعشاء، لأنهم يأخذون بالظاهر، فإذا ثبت أن الصلوات الأخرى غير واجبة، وجب أن نحمل حديث أبي هريرة على غير الوجوب أيضاً لأن الصلوات الأخرى لا يختلف حكمها.
فإذا كان كذلك وجب تأويل حديث أبي هريرة حتى يصلح أن يكون حكمه مثل الصلوات الأخرى.
وإليكم بعض هذه التأويلات نقلاً من الحافظ:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه.
وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه كما أن تركه لهما حال التحريق لا يستلزم الترك مطلقا لإمكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده.
2- إنها لو كانت شرطاً أو فرضاً لبين ذلك عند التوعد.(29/177)
يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.
قال ابن دقيق العيد: بأن البين قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة.
فلما قال: قد "هممت" دل على وجوب الحضور.
3- قال الباجي وغيره: إن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار.
وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزاً بدليل حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلانا فاحرقوهما بالنار". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
رواه البخاري في الجهاد في باب لا يعذب بعذاب الله، وأصحاب السنن، إلا أن هذا الحكم كان خاصا بالكفار.
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد فلو كان واجباً ما عفا عنهم.
قال القاضي عياض: ليس في الحديث حجة لأنه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل وزاد النووي: ولو كان فرض عين لما تركهم.
وأجاب ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكون انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه وقد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون". الحديث [23] .
5- قالوا: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة وهو متعقب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة" أي لا يحضرون، وفي رواية أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع". أي في الجماعة.(29/178)
6- إن هذا التهديد ورد في حق المنافقين لتركهم الجماعة. تعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وتعقب هذا التعقيب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا إن ادعي أن ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم [24] .
قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء…".
وبقوله: "لو يعلم أحدكم" لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية، لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان: "لا يشهدون العشاء في الجميع". وقوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة" وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة". فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء. انتهى [25] .(29/179)
وأجاب الجمهور عن حديث ابن أم مكتوم وغيره من أصحاب الأعذار بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد لهم رخصة تحصل لهم فضيلة الجماعة من غير حضورها، وليس معناه إيجاب الحضور على الأعمى، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم رخص لعتبان بن مالك - رضي الله عنه - حين قال: يا رسول الله إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سنفعل". فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أين تريد؟ ". فأشار إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين.
وفي رواية إن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة، والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلى … الخ [26] .
وقالوا أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر رجلين صليا في رحالهما بإعادة الصلاة، ولم يبين لهما أن حضور الجماعة واجب وهذا وقت بيانه.
ثم الاستدلال بحديثي الأعمى وأبي هريرة على وجوب مطلق الجماعة ففيه نظر، لأن الدليل أخص من الدعوى إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لسامع النداء.
وكان من جملة أدلتهم أيضاً حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً وهو "إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى، والذي ينتظر الصلاة يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام" [27] .
وأيضا حديث أبي هريرة بهذا المعنى [28] .
وأما حديث ابن عباس المتقدم بلفظ "من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر". فإن المراد به كاملة على أن في إسناده يحيى بن أبي حية أبو جناب ضعيف كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب.
الثاني: كيف تحصل فضيلة الجماعة؟(29/180)
تحصل فضيلة الجماعة بالاثنين وأكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في قوله: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". فسوى الجماعات في الفضل سواء كثرت أم قلت.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهم التضعيف خمسا وعشرين [29] انتهى.
ولكنه لا ينفي مزيد الفضل إذا كان أكثر، لاسيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما أكثر فهو أحب إلى الله" [30] .
والصحيح أن الجماعة تحصل باثنين لما رواه مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال: "إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما" [31] .
وقد بوب البخاري في صحيحه: الاثنان فما فوقهما جماعة. وهذه ترجمة مأخوذة من حديث ورد من طرق ضعيفة منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير، وفي أفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمر، وفي البيهقي من حديث أنس، وفي الأوسط للطبراني وعند أحمد من حديث أبي أمامة: "أنه رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل يصلي معه فقال: "هذان جماعة" والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة"أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح [32] .
وقال الإمام النووي: "قال أصحابنا: أقل الجماعة اثنان إمام ومأموم، فإذا صلى رجل برجل، أو بامرأته، أو أمته، أو بنته أو غيرهم أو بغلامه، أو بسيدته أو بغيرهم حصلت لهما فضيلة الجماعة التي هي خمس أو سبع وعشرون درجة، وهذا لا خلاف فيه، ونقل الشيخ أبو حامد وغيره فيه الإجماع" [33] .(29/181)
وذلك بدون تفريق ما بين الفرض والنفل. وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا تنعقد الجماعة بصبي، وذهب هو في رواية، والإمام مالك إلى الصحة في النافلة دون الفرض.
وعموم الأحاديث قاضية على هذا الخلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين بأن الجماعة لا تنعقد مع صبي فالأمر على الأصل حتى يثبت بالدليل ما يخالفه.
الثالث: العدد الصحيح لمضاعفة فضل صلاة الجماعة على الفذ
قال الترمذي: عامة من روى هذا الحديث قالوا خمساً وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال: سبعا وعشرين.
قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق [34] عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه: خمس وعشرون. لكن العمري ضعيف. ووقع عند أبي عوانه في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع فإنه قال فيه: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة [35] . وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك ابن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع وأما غير ابن عمر، فصح عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن مسعود، عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجة، والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبي فقال: أربع أو خمس على الشك وسوى رواية أبي هريرة عند أحمد فقال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين، وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذاً لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ [36] .
ثم قال: وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه:(29/182)
منها: أن ذكر القليل لا ينفي ذكر الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل، فأخبره بالسبع وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه.
ومنها: الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده.
ومنها: بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع.
ومنها: إيقاعها في المسجد وغيره.
ومنها: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره.
ومنها: الفرق بإدراك كلها أو بعضها.
ومنها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم.
وقد رجح الحافظ دخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع.
وقال: الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى، ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوة التي قصرت علوم الألباب عن إدراك حقيقتها كلها. انتهى كلام الحافظ من الفتح.
وقد أطال الحافظ الكلام في هذا الحديث وبيان المفهوم المراد من العدد، فمن أحب الإطلاع عليه فليرجع إليه.
والذي يظهر لي أن بيان فضائل الأعمال بالأعداد أمر معروف وشائع في الشريعة الإسلامية في مثل فضائل التسبيح والتهليل والتحميد وهو أمر متعارف أيضا بين الناس في المسابقة والمناقشة لتعيين أجر معدود لمن فعل كذا ولمن فعل كذا ...
والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وإلى حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.
تصحيح
جاء في العدد 58 في مقال (صلاة المسافر) ص 77 أن أنس بن مالك هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصواب أنه أنس بن مالك الكعبي، وليس له في كتب الحديث إلا هذا الحديث
الذي ذكر في المقال.. فليتنبه.
--------------------------------------------------------------------------------(29/183)
[1] رواه البخاري (2/125 مع الفتح) ومسلم (1/145) وأبو داود (1/371-372) والنسائي (2/107) والترمذي (1/422-423) وأحمد (2/244، 292، 314، 319) .
[2] أحمد (2/367) .
[3] المحلى (4/265) .
[4] إحكام الأحكام (1/166) .
[5] تفسير ابن كثير (2/354) .
[6] المغني (2/149) [6]
[7] رواه مسلم (1/452) والنسائي (2/109) [7]
[8] رواه أبو داود (1/375) والنسائي (2/110) وابن ماجة (1/260) [8]
[9] مختصر المنذري (1/292) وهامش سنن أبي داود (1/374) [9]
[10] أبو داود (1/374) والدارقطني (1/420) والحاكم (1/245) [10]
[11] ابن ماجة (1/260) والدارقطني (1/420) والحاكم (1/245) .
[12] التهذيب (6/249) . [12]
[13] انظر التلخيص الحبير (2/30) . [13]
[14] انظر المستدرك (1/246) . [14]
[15] البدائع (1/422) . [15]
[16] الدارقطني (1/420) . [16]
[17] المستدرك (1/246) . [17]
[18] الموضوعات: (2/93) . وانظر المجروحين لابن حبان: (2/93) . 6/431: (مع فيض القدير) .
[19] 6/431: (مع فيض القدير) . كشف الخفاء (2/365) .
[20] كشف الخفاء (2/365) . الأم (1/155) .
[21] الأم (1/155) .
[22] انظر فتح الباري (2/136) .
[23] هذه الزيادة لا تصح وقد سبق بيانه.
[24] إحكام الأحكام: (1/ 165) .
[25] فتح الباري: (2/127) .
[26] رواه البخاري (2/157 مع الفتح) ومسلم (1/455) والنسائي (2/80) .
[27] رواه البخاري (2/136 مع الفتح) ومسلم (1/460) .(29/184)
[28] رواه أبو داود (1/377) وابن ماجة (1/257) وأحمد (2/350، 428) بطرق عن ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي هريرة مرفوعا: ولفظه "الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا"وعبد الرحمن بن مهران –الهاشمي مولاهم- قال عنه الحافظ في التقريب: مجهول. وقال الخزرجي في الخلاصة: وثقه ابن حبان.
أقول لأنه مشى على قاعدته وهي توثيق المجاهيل، فإنه لم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب.
[29] المصنف (2/531) .
[30] أحمد (5/140) وأبو داود (1/376) والنسائي (2/105) .
[31] رواه البخاري (2/111 مع الفتح) ومسلم (1/465) وأبو داود (1/396) والترمذي (1/399) والنسائي (2/77) .
[32] انظر فتح الباري (2/142) .
[33] انظر شرح المهذب (4/81) .
[34] المصنف: (1/524) إلا أنه رواه عن عبيد الله بن عمر العمري: (وهو ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب) وهو ثقة غير أن أخاه عبد الله بن عمر ضعيف.
[35] أقول: ومن أصحاب عبيد الله، شعيب، رواه البخاري عنه، ويحيى بن سعيد الأنصاري رواه مسلم والدارمي وابن ماجة، وأبو أسامة وابن نمير رواه عنهما مسلم، وأيوب بن أبي تميمة السختياني عند البيهقي، وعبدة عند الترمذي وعبد الوهاب بن عبد المجيد عند ابن خزيمة، هؤلاء كلهم رووا عن عبيد الله بن عمر. فقالوا: خمس وعشرون إلا الضحاك عند مسلم فقال: بضع وعشرون.
ولقد استقصيت هذه الطرق في كتابي أبو هريرة في ضوء مروياته (غير مطبوع) .
[36] ذكرت أحاديث بعض هؤلاء في الجزء المطبوع من: أبو هريرة في ضوء مروياته ص 134- 137.(29/185)
وجوب عبادة الله وحده
وبيان أسباب النصر على أعداء الله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد: فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه أن يعبد ربه سبحانه، رب السموات والأرض ورب العرش العظيم القائل في كتابه الكريم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وأخبر سبحانه في موضع آخر من كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} . وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها وهي توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة والحج والركوع والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة وسائر أنواع الدعاء ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها وأرسل الرسل جميعاً وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها بإخلاصها لله وحده كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا} . ومعنى قضى في هذه الآية أمر وأوصى وقال تعالى: {وَمَا(29/186)
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . والآيات في هذا المعنى في كتاب الله كثيرة، وقال عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . الآية. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية. وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} .(29/187)
فهذه الآيات المحكمات وما جاء في معناها من كتاب الله كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وأن ذلك هو أصل الدين، وأساس الملة، كما تدل على أن ذلك هو الحكمة في خلق الجن والإنس وإرسال الرسل وإنزال الكتب فالواجب على جميع المكلفين العناية بهذا الأمر والتفقه فيه والحذر مما وقع فيه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام من الغلو في الأنبياء والصالحين والبناء على قبورهم واتخاذ المساجد والقباب عليها، وسؤالهم والاستغاثة بهم واللجأ إليهم وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكروب وشفاء المرضى والنصر على الأعداء إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ما دل عليه كتاب الله عز وجل، ففي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله". فقال معاذ: الله ورسوله أعلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". الحديث. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار". وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهذه المسألة هي أهم المسائل وأعظمها وقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك فقام بتبليغ ما بعثه الله به عليه الصلاة والسلام أكمل قيام وأوذي في الله أشد الأذى فصبر على ذلك وصبر معه أصحابه رضي الله عنهم على تبليغ الدعوة حتى أزال الله من الجزيرة العربية جميع الأصنام والأوثان ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكسرت الأصنام التي حول الكعبة وفي(29/188)
داخلها، وهدمت اللات والعزى ومناة، وكسرت جميع الأصنام التي في قبائل العرب، وهدمت الأوثان التي لديهم وعلت كلمة الله.
وظهر الإسلام في الجزيرة العربية ثم توجه المسلمون بالدعوة والجهاد إلى خارج الجزيرة وهدى الله بهم من سبقت له السعادة من العباد ونشر الله بهم الحق والعدل في غالب أرجاء المعمورة وصاروا بذلك أئمة الهدى وقادة الحق ودعاة العدل والإصلاح وسار على سبيلهم من التابعين واتباعهم بإحسان أئمة الهدى ودعاة الحق ينشرون دين الله ويدعون الناس إلى توحيد الله ويجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم لا يخافون في الله لومة لائم فأيدهم الله ونصرهم وأظهرهم على من ناوأهم ووفى لهم بما وعدهم به في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
وقوله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الذين الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . ثم غير الناس بعد ذلك وتفرقوا وتساهلوا بأمر الجهاد وآثروا الراحة واتباع الشهوات وظهرت فيهم المنكرات إلا من عصم الله سبحانه فغير الله عليهم وسلط عليهم عدوهم جزاء بما كسبوا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} . قال تعالى: {اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوباً الرجوع إلى الله سبحانه وإخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه مما سلف من تقصيرهم وذنوبهم والبدار بأداء ما أوجب الله عليهم من الفرائض والابتعاد عما حرم عليهم والتواصي فيما بينهم بذلك والتعاون عليه.(29/189)
ومن أهم ذلك إقامة الحدود الشرعية وتحكيم الشريعة بين الناس في كل شيء والتحاكم إليها وتعطيل القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله وعدم التحاكم إليها وإلزام جميع الشعوب بحكم الشرع كما يجب على العلماء تفقيه الناس في دينهم ونشر التوعية الإسلامية بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشجيع الحكام على ذلك، كما يجب محاربة المبادئ الهدامة من شيوعية واشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة، وبذلك يصلح الله للمسلمين ما كان فاسدا ويرد لهم ما كان شارداً ويعيد لهم مجدهم السابق وينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض كما قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} .(29/190)
والله المسئول سبحانه أن يصلح قادة المسلمين وعامتهم وأن يمنحهم الفقه في الدين ويجمع كلمتهم على التقوى ويهديهم جميعاً صراطه المستقيم وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل وأن يوفقهم جميعا للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.(29/191)
الفكرة السنية والحاجة إليها
للشيخ محمد إسحاق الصديقي
عضو مجلس الدعوة والتحقيق الإسلامي- باكستان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وسيد العالمين، محمد وعلى آله الذين هم أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله عز اسمه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} . (سورة آل عمران/ 19) ، والإسلام هو الانقياد الكامل ظاهرا وباطناً، فالمسلم هو المنقاد الكامل لله تعالى، ولا نعني بالانقياد الكامل الظاهري والباطني إلا أن ينقاد العبد لله تعالى في عقائده وأفكاره، ومنهج فكره وأخلاقه، وأعماله في حياته الفردية وحياته الاجتماعية، وبالجملة: لا تبقى شعبة من شعب حياته سواء كانت فردية أو اجتماعية إلا وهي تابعة ومنقادة لأوامر ربه تعالى ونواهيه، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} . (سورة البقرة) .
أجزاء الحياة الإنسانية:
الحياة الإنسانية تنقسم إلى أجزاء كثيرة، وتجزئتها إلى جميع أجزائها خارجة عن موضوعنا، بل يكفي لنا أن نقسمها إلى جزئيها اللذين نراهما في بادئ النظر ولا نحتاج إلى التفكر العميق لمعرفتهما، بل يكفي لشعورهما أدنى التفكر، وهما كما ترى الحياة الفكرية أو التفكر، والحياة العملية أو العمل، فالإنسان يتفكر ويعمل، ولابد له من التفكر كما لابد له من العمل.
الإسلام يطالب بانقياد كلا الجزئين في حياتنا:
وهذه التجزئة تدلنا إلى أن معنى الآية المذكورة آنفاً أنه يجب أن تدخل حياتنا الفكرية في الإسلام كما تدخل حياتنا العملية فيه، وتنقاد لهداية الله تعالى شأنه في الحياة الفكرية كما تنقاد لها في الحياة العملية.
معنى الانقياد في الحياة الفكرية:(29/192)
الانقياد في العمل واضح لا حاجة لتوضيحه، فإن كلنا يعرف أن معناه أن نعمل كما أمرنا الله بوساطة كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فنأتي بما أمرنا به ونحذر عما نهى عنه.
أما الانقياد في الحياة الفكرية فمعرفته أدق من هذا، لأن له ثلاث شعب وإحدى شعبها معروفة عند الخواص والعوام، وشعبتان منها لا يعرفهما إلا أخص الخواص.
أما الشعبة الأولى المعروفة عند الناس فهي: شعبة العقيدة، وحقيقتها أن نعتقد ما أمر الله به أن نعتقده ونؤمن ونستيقن به، فنؤمن بوحدانية الله تعالى مثلا، ونستيقن أن الشرك بأقسامه كلها باطل، وكذلك نؤمن برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن القرآن كلام الله وكتابه، وقس على هذا.
وأما الشعبة الثانية التي هي غير معروفة عند الناس فهي: شعبة الوجهة الفكرية.
وأما الشعبة الثالثة التي هي أيضاً غير معروفة عندهم فهي: شعبة منهاج الفكر أي طريق التفكر. والإسلام يطالبنا بالانقياد في هاتين الشعبتين أيضا كما يطالبنا بانقياد فكرنا وذهننا في الشعبة الأولى، ولابد لحصول الإسلام الكامل من انقياد أفكارنا لأوامر الله تعالى ونواهيه في هاتين الشعبتين أيضاً، وسنلقي الضوء على هاتين الشعبتين مفصلاً في السطور الآتية لدقتهما وخفائهما على أكثر الناس.
الوجهة الفكرية:
إن الله العليم الحكيم خلق الإنسان وأعطاه القوة الفكرية، وهذا العطاء عام للمؤمن والكافر والتقي والفاجر، فإنه لا فرق بينهما في نفس القوى الذهنية والاستعداد للتفكر والتأمل والنظر، أما ما يميز المؤمن من غير المؤمن من هذه الناحية فأمران: (الوجهة الفكرية) و (المنهاج الفكري) ونقدم تنوير الوجهة الفكرية:(29/193)
الحركة الإرادية لابد لها من هدف ومقصد تسكن المتحرك إذا وصل إليه، فلابد للحركة الفكرية من هدف ومقصد تنتهي إليه ويسكن الذهن إذا وصل إليه، فإرادة مقصد وهدف هي التي نسميها ب (الوجهة الفكرية) . وينقسم الفكر إلى قسمين باعتبار المقصد والهدف:
الأول: ما أريد به حصول معلوم جديد فحسب.
الثاني: ما قصد به الانتفاع والاستفادة بمعلوم جديد كما قصد به حصوله.
فالوجهة الفكرية على نوعين: أي الوجهة إلى العلم للعلم، والوجهة إلى العلم والانتفاع به، مثال الأول: الوجهة الفكرية لعالم الفلكيات المولع بها في كثير من تفكراته في مسائلها فإنه يجتهد ويتفكر ليعلم أن الكواكب كذا مثلا ما شأنه؟ ما هي أحواله الطبيعية؟ هل فيها جبال ووهاد؟ وما هو بعده من الشمس؟ إلى غير ذلك من العلوم التي لا تفيد العالم بها شيئاً إلا أنها تعد فوائد في أنفسها لأنها جديدة لم تكن حاصلة له قبل التفكر، وتتنوع باختلاف العلوم المقصودة، فإن وجهة فكر الرياضي مثلاً مغايرة لوجهة فكر الطبعي.
ومثال الثاني: تفكر الفلكي في نفس تلك الكواكب وفي أحوالها الطبيعية وخواصها لينتفع بهذا العلم كتفكره مثلاً في حركات الشمس والقمر ليعلم عدد السنين والشهور والحساب، ويعرف زمان المد والجزر في البحار، وكذلك تفكر الطبيب في عالم النبات لاستخدامها لإصلاح البدن وإزالة الأمراض، فإن وجهة فكره هي العلم مع الانتفاع به. وتتنوع باختلاف المنفعة المقصودة فإن وجهة فكر الفلكي هي الانتفاع بمعرفة حركة الشمس مثلا في عدد السنين والحساب، وأما الطبيب فغاية علمه بالنبات مثلا هي نفعها للجسم الإنساني من خشية دفع المرض أو تقويته، فوجهة فكره مغايرة لوجهة فكر الفلكي.
منهاج التفكر:(29/194)
معناه طريق التفكر والنظر، ويمتاز أحد المنهاجين من الآخر بامتياز المتفكر فيه والوجهة الفكرية وكيفية حركة الذهن في الحركة الفكرية، وينقسم إلى قسمين كبيرين باعتبار المتفكر فيه والوجهة الفكرية وكيفية حركة الذهن:
الأول: تحريك القوة الفكرية في أمر وبكيفية لا دخل لهما في سعادة النفس وشقائها بحسب نفس الأمر أو بحسب زعم المتفكر.
الثاني: تحريكها في أمر بكيفية لهما أو لأحدهما دخل في سعادة النفس وشقائها، فههنا منهاجان للتفكر كأنهما نوعان من الفكرة، فالفكرة الأولى نسميه (الفكرة الطبعية) لأن هذا المنهج هو المختار في العلوم الطبعية كالطبعيات والكيمياء والرياضة وأمثالها من العلوم التي لا دخل لها في أنفسها في سعادة النفس وشقائها.
الفكرة الثانية نسميها (الفكرة النفسية) لتأثير مسائلها على النفس الإنسانية من حيث السعادة والشقاء، وهي المختارة في علوم التمدن والمعاشرة غالبا كالأخلاقيات والسياسيات والمعاشيات وأمثالها من العلوم التي لها دخل في سعادة النفس وشقائها.
الاختلاف بين مناهج التفكر:
ثم إنا نجد اختلافاً كثيراً بين المتفكرين في مناهج التفكر، واختيار طريق الفكر والنظر، فهذا شاعر ينظر إلى الورد لألوانه الجميلة، وذاك طبيب يتفكر في نفس ذلك الورد لخواصه النافعة للمرضى، وإن الرياضي يتفكر في القمر في حركته ومطالعه ومغاربه وبعده من أجرام أخرى، كما أن الطبيعي يمعن النظر فيه ليعرف أحواله الطبعية من جباله ووهاده وكثافته وثقله وأمثالها من الأمور الطبعية التي يبحث عنها في الطبعيات، ولا نعني بالاختلاف
في المنهج الاختلاف المنطقي أو الاختلاف في مادة الفكر، وإنما نعني الاختلاف النفسي في الوجهة الفكرية وأمثالها من الاختلاف في العقائد والعواطف والميول النفسية.
مسألة مهمة:(29/195)
إنا إذا نظرنا إلى الاختلاف المذكور قريباً بين المناهج الفكرية واجهتنا مسألة مهمة، وهي أن ديننا الإسلام دين كامل فهل عنده من منهج فكري يمتاز عن سائر المناهج الفكرية؟ وهل يطالبنا الدين الحق اتباعه؟ أم جعل لنا الخيرة في استخدام أي منهاج وطريق للتفكر والنظر حسب ما نختار ونرضى؟ هل يجوز لنا أن نسلك في الفكرة الطبعية مسلك الجاهلين عن الإسلام أو الضالين الذين هم أعداؤه؟ أيباح لنا أن ننظر إلى العالم كما ينظر إليه كافر منكر لقدرة الله تعالى شأنه وعظمته؟ أم يجوز لنا أن نختار في الفكرة النفسية منهاج التفكر الذي يختاره أوربيون أو أمريكيون الذين هم منكرون للدين المبين كافرون به؟ كيف وإن الإسلام هداية كاملة، فلابد لنا أن يعلمنا منهاجا خاصاً للتفكر، لأن المزاج الخاص الذي تمتاز به أمة من أمة يحتاج إلى منهاج فكري خاص بها لحصوله وبقائه.
ولا حاجة إلى التصريح بأنه لا يتصور قوام أمة بدون مزاجها المخصوص بها، فإذا فسد مزاجها أو ضعف أصبحت تدحض عن موقفها وتبدل قوامها حتى تصير أمة أخرى أو تحرم مقام الأمة وتصبح زحام أفراد متفرقة لا يصدق عليها اسم الأمة أو القوم، أليس هذا أمارة واضحة وبرهان جلي على أن الأمة المسلمة هداها الإسلام إلى منهاج خاص للتفكر والنظر تمتاز به عن سائر الأمم، وتحفظ بها مزاجها الخاص بها؟ وبعد ما أوصلنا العقل السليم إلى هذه الحقيقة الضرورية لابد لنا أن نسأل القرآن المبين والسنة الكريمة عن وجود ذلك المنهاج المتين وحقيقته فاستمع لما يتلى عليك من الآيات الكريمة:(29/196)
1- قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . (سورة التغابن) . ومعنى القلب هنا هو العقل وقوة التفكر، والآية تدل على أن الإيمان يهدي العقل واهتداؤه أن يتفكر على منهاج صحيح، ويصل إلى هدف صحيح، ويفوز بمعرفة الحق، فتبين أن الإيمان يهدي العقل والفكر إلى منهاج خاص صحيح، ولابد للمؤمن أن يتبع ذلك المنهاج.
2- وقال تعالى شأنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . (سورة الحديد) . فما هذا الميزان؟ واضح أنه هو منهاج التفكر الذي علمه الكتاب والسنة ولابد من اتباعه للوصول إلى (القسط) في كل أمر، لأن الميزان المعد لوزن الأشياء المادية لم ينزل مع الرسل والأنبياء، وليس من فرائض النبوة تعليمه وتعريفه، نعم تعليم الميزان الفكري يناسب شأن الأنبياء والمرسلين، وحقيقة إنهم
رفعوا الحجاب عن وجه هذا الميزان وأمروا متبعيهم باتباعه كما سيتضح إن شاء الله تعالى.(29/197)
3- وقال الله عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة الحديد) . إن معنى النور ما هو ظاهر بنفسه مظهر لغيره، والمراد بالنور ههنا هو نور الإيمان، فالآية تدل على أن المؤمن يمشي بنور الإيمان ويهتدي به، وبديهي أنه لم يرد ممشاه المادي بل المراد هو ممشاه الفكري وأن المؤمن يهتدي وينبغي له أن يهتدي بإيمانه في تفكره ويهدي به غيره، وذلك بأن النور المذكور ينور منهاج تفكره، ويعينه على التميز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، إن الآيات المتلوة قريباً تدل دلالة واضحة على أن الإسلام يهدي إلى منهاج خاص للتفكر، ويطالبنا باتباعه ومعرفة هذه الحقيقة توردنا أمام السؤال عن نوعية ذلك المنهاج وكيفيته، فلنشرع في إجابة هذا السؤال وهو المقصود بالبيان في هذه المقالة الوجيزة:
قد أسلفنا أن الفكرة على قسمين: الفكرة الطبيعية، والفكرة النفسية، ولهما منهاجان مختلفان لكونهما نوعين مختلفين من التفكر، فينبغي أن نلقي الضوء على كل واحد منهما على حدة بعد الكشف عن وجه القسم.
الفكرة السنية:(29/198)
إن منهاج التفكر الذي نريد تعريفه وبيانه في هذه المقالة الموجزة ليس من مخترعات العقل بل هو ثابت بالكتاب والسنة القولية والعملية وكذلك بتعامل الصحابة - رضي الله عنهم - وبلفظ أخص هو سنة أي طريق مسلوك به ومأمور باتباعه في الإسلام، ولذلك سميناه (بالفكرة السنّية) أضف إلى ذلك أننا إذا تصورنا السنة بمعنى أوسع وعرفناها بكل ما ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذي علمنا الكتاب الحكيم، فمعنى الفكرة السنية هي الطريقة التي عرفت بالسنة أي بالقرآن العظيم وحديث النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم كما نسمي بأنفسنا أهل السنة والجماعة أي متبعي القرآن والحديث وجماعة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ونثلث التوجيه بالتنبيه على أمر واقعي وهو أن (الفكرة السنّية) خاصة بأهل السنة والجماعة لا تختارها ولا تتبعها جماعة غيرهم، بل لا يريد ولا يتصور اختيارها واتباعها إلا أهل السنة.
وبناء على الوجوه المذكورة اخترنا لفظ (الفكرة السنّية) لمنهاج التفكر الذي هدانا إليه ديننا الإسلام، ويمكن أن تسمى ب (الإسلامية) أو (الفكرة الإيمانية) لكنا اتخذنا لفظ (الفكرة السنّية) مصطلحا في هذه المقالة الوجيزة ونستعمله في السطور الآتية لأنه أحسن الألقاب من ناحية دلالته على حقيقة ثابتة أننا معاشر أهل السنة ممتازون بين سائر الملل باعتبار منهاج التفكر كما نمتاز بينهم لخصائص أخر.
ماهية الفكرة السنّية:
ما ذكرنا من قبل من الآيات الحكيمة إنما تدل على أن الدين المتين يطالبنا باتباع منهاج مخصوص في تفكرنا ونظرنا وأنه تعالى شأنه قد أخبرنا بوجوده في تعليم دينه، أما ماهية هذا المنهاج أي ماهية (الفكرة السنّية) فلم يعلم بعد، ونريد أن نلقي الضوء عليها في السطور التالية:(29/199)
إن الماهية الكلية للفكرة السنّية قد نورها القرآن المبين وأوضحتها سنّة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ودل عليه عمل الصحابة أجمعين، أما القرآن الكريم فنتلوا عليك منه أولاً هذه الآية المقدسة:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِم} (سورة يونس) . قد دلت الآية دلالة واضحة على أن المؤمن لابد له أن يتفكر في ضوء إيمانه ويهتدي به إلى نتائج صحيحة في فكره، ومعناه أن تكون مقدمات فكره ونظره مبنية على إيمانه ومعتقداته الحقة، ولا تكون غير مناسبة لها فضلا عن كونها منافية لجزء من أجزاء الإيمان وكذلك لا تجوز أن تكون غير متعلق به كلية، بل يجب أن تكون مربوطة به ولو برابطة بعيدة دقيقة، فيكون استدلاله واستنتاجه ولوفي أمر دنيوي مبنيا على العقائد الحقة التي هي أجزاء إيمانه ودينه.
هذه هي (الفكرة السنّية) التي تهدي إلى علم نافع قطعا في الآخرة أو فيها وفي الدنيا كليهما لمن يتبعها ويختارها في تفكره، كما أنه يحفظه من الضرر في الآخرة والزلل في الدنيا، وبهذا فسره البيضاوي - رحمه الله - حيث قال: "بسبب إيمانهم إلى سلوك السبيل المؤدي إلى الجنة ولإدراك الحقائق".
ولاشك أن لفظ (الهداية) عام في الآية لتنوير الطريقتين أي طريقة التفكر وطريقة العمل بل الأولوية للأولى لأنه لابد من تقدم الفكر على العمل، فدلالة الآية على أن المؤمن ينبغي له بل يجب عليه أن يهتدي به في أعماله وأخلاقه واضحة.
وثانيا: نتلو عليك الآيات الكريمة من سورة الفاتحة التي نتلوها مرارا في صلواتنا وقد علمنا الله فيها كلمات ندعوه بها ونسأله ما اشتملت عليه تلك الكلمات العظيمة، فقال الله عز اسمه تعليما لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .(29/200)
إن الله تبارك وتعالى يأمرنا في كلامه هذا أن نتبع الصراط المستقيم ولا نزال متبعين له مستقيمين عليه حتى نلقى الله عز وجل، وظاهر أن {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في الآية شاملة لقسميه كليهما أي صراط الفكر وصراط العمل، فتبين أنه يجب على المسلم أن يتبع في تفكره صراطاً أي منهاجاً هداه الله إليه بالقرآن الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ويلزمه العلم لزوما بينا بأن الإسلام قد هدانا إلى صراط خاص من التفكر فما هو؟ وقد أجابت الآية الثانية عن هذا السؤال بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم؛ فعلينا أن نتفكر كما تفكروا، ثم صرح بأن صراط المؤمنين مغاير لصراط المغضوب عليهم، كما أنه مغاير لصراط الضالين، فعلى المسلم أن يحترز عن صراط كل واحد منهما في تفكره وعمله.
بقي السؤال عن الذين أنعم الله عليهم، نجد جوابه في سورة النساء فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فبالنظر إلى الآيات المنقولة من سورة الفاتحة، وإلى هذه الآيات التي في سورة النساء يجب علينا أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في منهاج الفكر، كما يجب علينا اتباعهم في العمل، بل الاتباع في منهاج التفكر أشد تأكيدا، لأن العمل تابع للفكر، فإن الإنسان يتفكر ثم يعمل ولأن الخطأ في الفكر أشد ضرراً، وهذه الآيات المقدسة تنور الماهية الكلية (للفكرة السنية) وتكشف عن القوانين والأصول التي هي أجزاء هذه الماهية كما نفصلها في الفقرات الآتية المستمدة من الآيات القرآنية المزبورة أصولا:(29/201)
الأول: أن تفكر المؤمن ينبغي بل يجب أن يكون في ضوء إيمانه بالله تعالى وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، ومعناه أن المقدمات التي يستعين بها للوصول إلى علم جديد لابد أن تكون مناسبة للإيمان ولا تكون مخالفة له، ولا منقطعة عنه انقطاعا كليا بحيث لا يوجد أدنى ربط بينهما، وقد ألقينا الضوء على هذا الأصل من قبل حين فسرنا الآية.
الثاني: أنه لابد أن تتحرك فكرتنا على الصراط المستقيم أي على منهاج وطريق اختاره الذين أنعم الله عليهم من عباده، فيكون صراط أفكارنا هو صراط فكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعن، أما بيان ذلك المنهاج وتعريف الصراط الذي كانوا يختارونه في فكرهم فيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.
الثالث: أن الاحتراز عن الصراط الذي تختاره أمة غضب الله عليهم أو تختاره أمة ضالة في تفكرهم واجب، وأن اليهود هم المغضوب عليهم قطعاً، كما أن النصارى هم ضالون قطعاً، وإن كان مفهوم اللفظين عاماً ولا نريد حصر مصداقيهما فيهما، فالاحتراز عن المنهاج الذي يتبعونه في التفكر والنظر واجب بالآية المزبورة، و (الفكرة السنّية) هي التي تكون مستضيئة من هذه القوانين، وتتحرك على طريق تُنَوِرُهُ القوانين والأصول المذكورة، فالماهية الكلية (للفكرة السنية) هي المركبة منها وهي أجزاؤها.
الفكرة السنية الطبيعية:(29/202)
المراد بها المنهاج الذي يجب أن يتبعه المؤمن إذا تفكر في المسائل التي لا دخل لها بالذات في سعادة النفس وشقائها وظاهر أنها المسائل المتعلقة بعالم الخلق والأمور التكوينية، وإنما نذكر في السطور الآتية الأصول التي علمنا القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم واتبعتها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للتفكر في عالم الخلق والأمور التكوينية واتباع تلك الأصول والضوابط في التفكر في الأمور المذكورة هي التي نسميها ب (الفكرة السنية الطبيعية) . وسيرى القارئ أن لتلك الأصول والضوابط شأنا تمتاز به عن غيرها، فمعرفتها نفسها تغني عن بيان الفرق بينها وبين الفكرة الخاطئة التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله العظيم وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى صرف القلم في بيان الفرق بينهما، فنعطف عنان القلم إلى بيان الأصول في السطور الآتية، واسأل القرآن الحكيم عن هذا الأمر ستجد جوابه، قال الله تعالى جل شأنه:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الذين الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . (سورة آل عمران) .
إن إيماننا بالقرآن العظيم يقتضي أن نسأله عن هذه المسألة، فسألناه فأجاب، فإن هذه الآيات المقدسة الحكيمة تدل دلالة واضحة على الأصول التي اتباعها واجب على كل مسلم يريد أن يتفكر في عالم الخلق أي الكائنات وهي هذه:
الأصل الأول:(29/203)
إن نظر المؤمن إلى الكائنات يجب أن يكون نظر عبد مخلوق لله تعالى، إلى عبد مخلوق لله الخلاق الحكيم، سواء كانت النظرة نظرة الرياضي أو نظرة الطبيعي أو غير ذلك، فلا ينظر المؤمن إلى السموات والأرض والنجوم أو شيء آخر من حيث هي موجودات مع قطع النظر عن موجده، بل ينظر إليها من حيث أنها وجدت بعد العدم بإيجاد الله البديع الحكيم وإبداعه، والإشارة بهذا إلى أن فكرة المؤمن في الكائنات فكرة موضوعية subjective وليست بفكرة معروضية objective واضحة.
الأصل الثاني:
إن الاعتقاد بأن الكائنات بأسرها مجموعة لآيات الله تعالى جل شأنه وعلى أن كل جزء منها آية من آياته الباهرة الدالة على ذاته تعالى وعلى صفاته العلية العظيمة، واجب على كل مسلم، وهذه العقيدة واليقين يجب أن يظهر في تفكره فيها، وأنه إذا تفكر فليتفكر فيها من حيث أنها آيات الله تعالى شأنه كما هو ظاهر من الآيات المزبورة، وهذا المنهج من التفكر يميزه عن سائر المناهج الفكرية التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
الأصل الثالث:
ومما يستنبط من الآيات المزبورة هو أن الفكر ينبغي أن يتقدمه ذكر الله تعالى شأنه، وذلك بأن الله تعالى قدم الذكر على التفكر.
الأصل الرابع:
تدل الآية على أن تفكر المؤمن في عالم الخلق، ينبغي أن يكون لتحصيل نفع من علمه ومعلومه سواء كان المقصود أن ينتفع به نفسه أو أن ينفع غيره، لأن المؤمن يعتقد ويقر بأن الرب الحكيم لم يخلق شيئا باطلا، فيجب أن يبتغي منافع السموات والأرض وأمثالهما من أجزاء الكائنات التي يتفكر فيه ثم يدعو الله أن يهديه إليها.(29/204)
ثم إنه ليس من شأن المؤمن أن يقصد نفعاً دنيوياً فقط، بل ينبغي له أن يقصد نفع الآخرة قصدا أوليا والنفع الدنيوي قصداً ثانوياً، يشير إليه قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . كما يشير إلى قصد مطلق النفع قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} .
إن الحركة الفكرية في عالم الخلق والتكوين التي تقودها هذه الأصول الأربعة وتقطع مسافتها في ضوئها تسمى ب (الفكرة السنية الطبعية) سواء كانت في الطبعيات أو الكيمياء أو الهيئة والرياضة أو في غيرها من العلوم الطبعية، وهي (سنية) لكونها مهتدية بهداية القرآن الحكيم، و (طبعية) لاختصاص مسافتها بعالم الخلق والتكوين وعدم علاقتها في نفسها بعالم الأمر والتشريع، وعدم تأثيرها في نفسها في سعادة النفس وشقائها كما أوضحناه من قبل.
ثم إن التفكر في عالم الخلق والتكوين لا يختص بالمسلمين وهو مجال لكل من له قوة في التفكر والنظر سواء كان مؤمناً أو كافراً، وإن من المخلوق ما هو خير لنا كما أن منه ما هو شر لنا، فكما أنه يمكن لنا أن ننتفع به يمكن أن نتضرر به، وإذا تفكر أعداء الإسلام
الكافرون بالدين المبين في عالم الخلق وأثاروا شره، ومنعونا عن خيره، ولم نستطع أن ندافع عن أنفسنا ونقاومهم لسبق فكرهم في عالم الخلق على فكرنا فما هو المخلص لنا من شرورهم؟ وكيف نحفظ ديننا وعرضنا وأنفسنا من عدوانهم وإفسادهم؟.
ومرجع السؤال إلى أنه كيف نتفكر في الخلق والتكوين حتى نستطيع لجلب الخير ودفع الشر، ونقدر على الدفاع عن ديننا وملتنا، وعلى حفظ الإنسانية من الدمار والفساد بأيدي المجرمين من أوروبا وأمريكا؟ وهذه هي المشكلة الشديدة التي واجهناها اليوم كما هو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.(29/205)
إن (الفكرة السنية) تدعو إلى أن نستعين بالإيمان، وهذا يقتضي أن نسأل القرآن الكريم لحل هذه المسألة العويصة، وننظر هل فيه هداية خاصة للأمة المسلمة إذا ابتليت بهذا البلاء العظيم؟ بلى وربنا إن القرآن الكريم قد حل هذه المشكلة وهدى إلى صورة خاصة للفكرة السنية الطبيعية التي هي أسرع وأقوم وأنجح من كل فكرة تتحرك في عالم الخلق والتكوين في الدنيا، وسبيل للنجاة من المصيبة التي ابتلينا بها، ليتنا نتبع هذه الفكرة القويمة القوية السريعة، وهذه الطريقة الأقوم التي يدعو إليها الفرقان الحميد قد أشير إليها في (سورة الفلق) فقد قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} ونقدم في السطور الآتية مقدمات يتطلبها توضيح الإشارة.
الأولى: أن الاستقراء يدل دلالة واضحة على أن سنة الله في خلق شيء من شيء في هذا العالم المادي هي (الفلق) ، إن الشجرة لا تنبت إلا بفلق الحب والنواة، وأن ظهور الغصن مسبوق بفلق ساقها، كما أن القوة الذرية (atomic energy) المدهشة لا تظهر إلا بفلق الذرة (atom) وأن النظام الشمسي (solarstem) الذي نعيش تحته قد خلقه الله الخلاق العليم بإبداع الفلق العظيم في مجرة (galaxy) ، وإذا نظرت إلى الحوادث وجدت هذا القانون التكويني أي (قانون الفلق) جارية فيها، ولا تجد مثالا ينفيه.
الثانية: أن الحوادث التي تبدو بعد الفلق كنتيجته بعضها تكون موجبا للخير كما أن بعضها تكون موجباً للشر، فعلينا أن نحصل الخير ونتجنب الشر.
الثالثة: أن الله وحده هو رب الفلق وهو القادر على الإطلاق، وهو قدير على أن يلهمنا بعلم جديد وتدبير قوي نفوز باستخدامه بهدفنا، أو يمحو الشر ويخلق الخير ويمن علينا بتوفيق الاستعاذة به.(29/206)
الرابعة: أنه لابد لنا من التفكر في عالم الخلق إذا واجهتنا المشكلة المذكورة وابتلينا بالضراء المذكورة، فإن الميل إلى ابتغاء السبيل إلى دفع الضرر والتحرز عن الهلاك والدمار والجهد للبقاء أمور فطرية تطالب بالتفكر في عالم الخلق، وقد أوجبته الشريعة كما أوجبه العقل السليم - لاسيما وأن هجوم المخاوف قد بدأ قرنه من جهته - وإن التفكر في عالم الخلق والتكوين لدفع شر أعداء الإسلام وللدفاع عن الدين والمسلمين ولإعلاء كلمة الله الحق المبين واجب على الكفاية لأنه لابد منه في هذا الزمان للوصول إلى تلك المقاصد الحسنة. وبعد هذا التمهيد نقول وبالله التوفيق: إن الله الحكيم العظيم أمرنا في هذه الآية ب (الاستعاذة) به عز اسمه من شر مخلوق مساوق للشر، والأمر بالتوجه إلى شأن الربوبية المتعلقة (بالفلق) إشارة إلى أن المؤمن إذا ابتلي بشر مخلوق حادث من الفلق وأخذه التفكر في تدبير دفع الشر وجلب الخير لاقتضاء الفطرة وأمر الشريعة، فليكن تفكره ممزوجا بالاستعاذة بالله الذي هو رب الفلق وبيده الخير ولا حول ولا قوة إلا به، وليس المراد الاستعاذة القولية فقط بل المراد الاستعاذة الحالية والعملية أي الإنابة إلى الله والتوجه إليه والتزام طاعته مع سؤال العلم الصحيح النافع وتوفيق العمل به والتهيؤ للدفاع عن الإسلام متوكلا على الله العليم العظيم.(29/207)
وهذا لأن الاستعاذة تقتضي طبعا أن يطيع المستعيذ المستعاذ به، ويفي معه بعهده ويلجأ إليه ولا يعصيه، وهذه هي صورة خاصة (للفكرة السنية الطبعية) المشار إليها بالآية الأولى من سورة الفلق المزبورة قريباً، ولها مع عموم حكمها ونفعها نوع من الخصوصية بالتفكر لإطفاء (فتنة الفلق) التي ابتلينا بها، لأن غلبة أعداء الإسلام علينا في الفلق إنما هي لعدم استطاعتنا على استخدامها مثل ما يستطيعون فإن الاستطاعة بفلق الذرة (atom) أو النواة (nucleus) سلطهم على الأقوام الضعيفة. ولا يدان لأحد من المسلمين لدفعهم، ومحصول البيان أن الفكرة السنية الطبعية معناها اتباع الأصول التي دلت عليها الآية التي ذكرت أولاً في هذا الباب، وأضف إلى تلك الأصول الأصل الذي دلت عليه هذه الآية من (سورة الفلق) ، وخاصة إذا كان التفكر في (الفلق) وقوته ونتائجه والأمور المتعلقة به.
وهذا الأصل مشتمل على أجزاء، ونزيده وضوحاً بذكر الأجزاء مفصلاً:
الأول: أن التفكير لابد أن يكون ممزوجا بالاستعاذة بالله العزيز الحكيم من فتنة الفلق وشر المخلوق الحادث منه الاستعاذة به عز اسمه لدفعها والغلبة عليها.
الثاني: أن نسأل الله تعالى الذي هو رب (الفلق) الاستطاعة لاستخدام (قوة الفلق) لاكتساب الخير ودفع الشر والانتفاع بها في الدنيا والآخرة.
والثالث: أن التفكر لابد أن يكون مسبوقا بالتوبة عن الذنوب، وتصفية القلب عن العقائد الفاسدة وتجديد تنويره بنور الإيمان.
الرابع: أن يكون مقصدنا الوحيد من التفكر هو رضي الله تعالى شأنه باستخدام تلك القوى لإعلاء كلمة الله وغلبة دينه المتين، ولاكتساب الخير للمسلمين ونفع خلق الله أجمعين.(29/208)
فإن المتفكر إذا أراد نصرة دين الله المبين، وأخلص نيته سيأتيه نصر الله القوي العظيم كما وعده ربنا الكريم بقوله في القرآن الحكيم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وإن من النصرة إلهام العلم الصحيح والهداية إلى التدبير النجيح، وليس ذلك على الله بعزيز.
تنبيه: ظاهر أن لا ينتفع بتلك الأصول حق الانتفاع إلا من له معرفة معتد بها بالعلوم الطبعية (سائنسية) أو الرياضية، فتحصيلها واجب على الكفاية على الأمة في زماننا.
الفكرة السنّية النفسية:
قد بينا من قبل أنها التفكر في أمر مؤثر بالذات في سعادة النفس وشقائها، فإنها أعظم شأنا من الفكرة الطبعية لكونها أقوى ارتباطا بالسعادة والشقاء، ولكون تعلق حكم الشريعة بها أظهر وهي مطلوبة في كل شعبة من شعب حياتنا الاعتقادية والعملية من المعاشرة والسياسة والمعيشة وأمثالها، سواء كانت فردية أو اجتماعية لكن الحاجة إليها في حياتنا الاجتماعية والقومية أشد جدا، لأن تركها فيها أدهى وأضر، فإن الخطأ في الفكر المتعلق بالفرد فقط يوجب ضرر الفرد لكن الخطأ في الفكر المتعلق بالمجتمع موجب لضرر المجتمع، ثم يذوق وباله الفرد أيضاً، فضرره أشد وأمر مراراً من ضرر الأول.
والأمور التي تدخل تحت هذا النوع على قسمين:
الأول: الأمور التي لا حاجة فيها إلى الفكر لكونها مسلمة الثبوت عندنا، كفرضية الصلاة وحرمة القمار ونفع العدل وضرر الظلم.
الثاني: الأمور التي تحتاج إلى النظر والفكر ليتضح صحتها أو سقمها، وهي موضوعنا في هذه المقالة، ويواجهها المجتمع كما يواجهها الفرد، مثالها في الحياة الفردية مسألة تعلم الولد من رجل غير مسلم في هذا الزمان، وفي الحياة الاجتماعية مسألة التعاون والاتحاد بفرقة ضالة لهدف مشترك.(29/209)
واضح أن هذا القسم من مسائل الحياة يحتاج إلى النظر والفكر، فأي منهاج نختار فيها للتفكر، وما هي الأصول الثابتة بالكتاب والسنة التي يجب علينا اتباعها عند التفكر في هذا النوع من المسائل؟.
الأصول المتبعة:
حقيقة جلية وصادقة لا ريب فيها أن مرجع العلم والمعرفة والفارق بين الصحيح والسقيم في الأمور التي لها دخل بالذات في سعادة النفس وشقائها هو القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا أمر مسلم لا يشك فيه أحد من المسلمين كما قال الله تعالى في شأن كتابه المبين: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} فهو مأخذ الهداية ومنبع العلم والمعرفة، والفرقان المبين بين الحق والباطل والصحيح والسقيم، وما هذا شأنه فحقه أن يتخذ مأخذا ومرجعا للعلم والمعرفة، أما الإجماع والقياس فيرجعان إليهما، إن اتباع الصراط المستقيم هو المنهاج المختار في التفكر لأن منهاج الذين أنعم الله عليهم، هو الاهتداء بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصل علمه ومنبعه هو الوحي الإلهي، وإذا اجتهد كان يتفكر في ضوء الوحي، ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يتعلمون منه صلى الله عليه وسلم ويتبعونه، وإذا احتاجوا إلى الاجتهاد كانوا ينظرون إلى الكتاب أولاً ثم إلى السنة ثم إلى الرأي المبني على أحدهما، مثاله ما ورد في قصة سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا إلى اليمن، فاختبره بالسؤال عن منهاج التفكر والاجتهاد، ولما أجاب بذكر المراجع المذكورة بالترتيب المذكور صوب النبي صلى الله عليه وسلم رأيه.(29/210)
ثم إن الكتاب والسنة كل واحد منهما قد وصل إلينا بأيدي الصحابة رضي الله عنهم الذين تعلموهما عن النبي من غير واسطة، وفهموا معناهما وعقلوا مغزاهما وعملوا بهما تحت مراقبته صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه تولى تربيتهم وتزكيتهم، وجعلهم أسوة متبوعة لمن سواهم من الأمة الكائنة إلى يوم القيامة ومبلغين لدعوته إلى سائر الناس، ومعلمين ما علمهم من الكتاب والسنة لمن سواهم من أمته صلى الله عليه وسلم فجماعة الصحابة هم الواسطة الكبرى بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم وكل صحابي رضي الله عنه هو أنموذج عملي لتعليمه عليه أفضل الصلوات والسلام، فبديهي أنه لا تتضح معاني الكتاب والسنة إلا بالنظر إلى عمل الصحابة وتشريحهم وتفسيرهم لهما.
فالكتاب والسنة منبعان لماء الحياة، وجماعة الصحابة نهر مملوء بمائهما جامع لهما لا يزال يجري إلى يوم القيامة.
فقد تبينت من هذه المقدمات الممهدة الأصول التي هي أجزاء الفكرة السنية النفسية وهي هذه:
الأصل الأول: يجب أن يكون تفكرنا في مسألة من مسائل الحياة من هذا النوع مبنيا على عقيدتنا الجازمة بأن المأخذ الأول للعلم الفارق بين الحق والباطل هو الكتاب والثاني هو السنة، أما الإجماع والقياس فيرجعان إليهما، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخذوهما من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، ونقلوهما إلى من بعدهم من الأمة، ولم ينقل ولا يمكن أن ينقل كذلك شيء عن الدين عن غير الصحابة، ومن نسب شيئاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغير توسط صحابي فهو كاذب زنديق، فعمل الصحابة هو مأخذ ثالث للعلم فكونه دليلاً قطعياً على كون ذلك العمل والقول ثابتا بالكتاب أو السنة مطابقاً لهما، ولكونه أنموذجاً عملياً لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة شرعية ما لم يعارضه حجة شرعية أخرى أقوى منه كنص الكتاب مثلاً.(29/211)
الثاني: ولتكن وجهة فكرنا ومقصدنا بالذات في كل فكرة هي المنفعة الدينية ورضا الله سبحانه ولو بوسائط عديدة، ولتكن المنفعة الدنيوية تابعة لها غير مقصودة بالذات بل مقصودة تبعا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} . (سورة الإسراء) .
الثالث: علينا أن نتفكر في الكتاب والسنة وعمل الصحابة هل نجد فيها هداية جزئية، قولية أو عملية مخصوصة بما نحن فيه أو عامة كلية تنطبق على ما نتفكر فيه، ثم أن علينا اتباعها إن فزنا بها في الكتاب أو السنة أو عمل الصحابة، فقد قال الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . (الأنبياء) . وسيوضح المسألة المثال الآتي: أن أرباب الحل والعقد من مملكة إسلامية يتفكرون في سياستها الداخلية في تفويض الوزارة الداخلية أو الخارجية أو غيرها، إلى رجل مناسب يفوضونها إليه، ثم ينظرون إلى الكتاب المبين فيجدون فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} . الآية، وهذه الآية تهديهم إلى أصل عظيم ينور طريقهم لأنها تحذرهم عن تفويض الأمر إلى شيعي أو شيوعي وأمثالهما من أعداء الإسلام.(29/212)
الرابع: أن الاحتراز عن الباطل واجب كإحقاق الحق، والحذر عن سبيل الغي حَتم واجب كاتباع سبيل الحق والهدى، فيجب علينا أن لا نستخدم دليلاً ولا نعمل عملا يعين أهل الباطل في طغيانهم أو يؤيدهم في ضلالهم أو ينفعهم في إظهار بواطلهم فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} . وقال عز اسمه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . فينبغي لنا أن نراعي في فكرتنا في جانب النفي أيضا، فتكون فكرتنا مشتملة على نفي الباطل كاشتمالها على إثبات الحق.
الخامس: يجب الاحتراز كل الاحتراز عن فكرة تؤدي إلى قطع صلتنا بالكتاب أو السنة أو الصحابة أو ضعفها وعن عمل كذلك- والعياذ بالله- فإن الاعتصام والتمسك بالكتاب والسنة واجب على كل حال، ولا يمكن الاعتصام والتمسك بهما إلا باتباع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كما أوضحناه من قبل، وما يؤدي إلى ضعف هذا الاعتصام والتمسك فباطل مهلك فضلا عما يؤدي إلى قطعه والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" والآيات الدالة على هذا الأصل العظيم والأحاديث المضيئة له كثيرة وحق إن قلنا: إن (الموطأ للإمام مالك) من ضروريات الدين.(29/213)
السادس: لا نقبل فكراً أو حلا لمسألة ثبت كونه غير مرضي عند الله بالكتاب أو السنة أو قول الصحابة أو عملهم، قال الله تعالى في مدح الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} . فعلى المؤمن أن يبتغي رضوان الله تعالى شأنه، ويترك ما هو غير مرضي عنده عز اسمه، مثاله الاستعانة بما تمنح الدول الكافرة باسم العون على الرقي في المعاش وإصلاحه، فإن أخذه يؤدي إلى مفاسد كثيرة كالميل إلى الدولة المانحة في مسلكها السياسي وإن كان باطلاً وغير ذلك من المفاسد، ولاشك أن هذه الاستعانة غير مرضية عند الرب سبحانه وتعالى بالنظر إلى ما تؤدى إليه. فينبغي للمؤمن أن يحترز عن هذا القسم من المقدمات إذا تفكر في تدبير أمر أو إنجاح حاجة من الحوائج القومية.
السابع: لا ينبغي أن تكون مقدمات فكرتنا مبنية على مجرد الميل والرغبة إلى أمر أو عن أمر بل لابد أن تكون ناشئة عن الفهم السليم والحكمة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} . (سورة البقرة) ، وهذه الأصول هي أجزاء (الفكرة السنية النفسية) ، والفكرة التي تراعى فيها هذه الأصول وتكون على طبقها تسمى ب (الفكرة السنية) ، وهي متروكة في حياتنا الاجتماعية منذ قرون، على الغالب وتركها هو سبب زوال الأمة المسلمة في حياتها الدينية والسياسية وفي غيرهما من شعب الحياة،
وعلاجه إنما هو اتباع هذه الفكرة، ولاشك أن اتباعها في فكرتنا الاجتماعية وسيلة قوية لرقي الاجتماع وغلبة الإسلام والمسلمين.
الأمثلة:
ولزيادة التنوير نورد أمثلة للفكرة السنية النفسية في الأمور الاجتماعية:(29/214)
المثال الأول: نفرض أن دولة من دول المسلمين تفكرت في مسألة تعليم العلوم الحديثة، لكنها لم تتبع (الفكرة السنية) إذاً تجعل الدنيا غاية فكرها وجهدها وتكون فكرتها فكرة أوروبا وأمريكية، وتختار ما اختار أهلها من الرغبة عن الدين، والميل إلى الفسق والفجور، واتخاذ سبيل الغي في النظام التعليمي ومناهجه كرفع حجاب الطالبات وأمثالها من الأمور المخالفة للشريعة المقدسة، وكذلك لا تبالي هذه الدولة بتسليط أهل الضلالة كالشيعة والمرزائين وغيرهما من الضالين على الإدارات التعليمية ونظمها.
وأما إذا كانت فكرتها (الفكرة السنّية) فتكون غاية فكرها وجهدها ومرام سعيها من إشاعة العلم هي إعلاء كلمة الله ومنافع الآخرة وترويج الخير في العالم.
وتكون الغاية هي إرضاء الله تعالى شأنه، أما المنافع الدنيوية فتكون مقصودة تبعا للمنافع الدينية، فتتخذ سبيل الرشد سبيلا إلى مرامها، وتحترز كل الاحتراز عما نهى عنه الشرع الشريف، ولا تجترئ بتسليط أهل الضلال وأعداء الإسلام من المنافقين والمجاهرين بالكفر على الإدارات التعليمية.(29/215)
المثال الثاني: فرضنا أن أرباب الحل والعقد لمملكة مسلمة يريدون أن يضعوا دستوراً لمملكتهم فيلجأون إلى الكتاب والسنة وعمل الصحابة ومشاورة الفقهاء، ولا يلتفتون إلى ما يتفوه به أهل أوربا وأمريكا وغيرهما من الذين لا يتبعون الإسلام، لأن الفكرة السنّية النفسية ترشدهم إلى تلك المآخذ والمنابع، وتصدهم عن النظر إلى غيرها، ويصرحون في الدستور بأن مملكتهم هي مملكة إسلامية سنّية قائمة على منهاج الخلافة الراشدة، وغاية وجودها هي إجراء الأحكام الشرعية وحفظها والدعوة إليها ونصرتها، والرقي الديني والدنيوي لأهل الإسلام بحيث تكون دنياهم تابعة لدينهم، ثم أنهم لا يغفلون عن الأغيار الأشرار المجاهرين بعداء الإسلام الداعين إلى النار كالشيعة والمرزائية وغيرهما من أهل الضلالة والنفاق، فإن أرباب الحل والعقد وقواد المسلمين المتفكرين بالفكرة السنّية النفسية لا يغفلون عن مكائد تلك الأشياع الضالة، فيضعون قوانين وضوابط في الدستور التي تسد طرق هذه الأشياع المنافقة على المملكة وطرق غدرهم بها، ويحفظون المملكة عن شرهم.
وأما الذين لا يتفكرون بالمنهاج الإسلامي أي لا يختارون (الفكرة السنّية) فلا يبالون بتلك الأمور المهمة، أو يغفلون عن بعضها، أو يطرحون بعضها قصداً لضعف إيمانهم واعوجاج فهمهم لفقدهم (الفكرة السنّية) فيذوقون وبال أمرهم، ويخسرون في الدنيا والآخرة، يوردون قومهم مورد الهلاك والخسران كما نرى الآن في بعض البلدان الإسلامية فإن أهل السنة بها يبتلون بظلم شديد ومصائب عظيمة وما ذلك إلا لفقدهم (الفكرة السنّية) في حركاتهم السياسية وذهولهم عن الحقيقة أنهم أهل السنة والجماعة وأنهم هم المسلمون، وأن الرافضة ليست من الإسلام في شيء بل هم أعداء الإسلام والمسلمين.(29/216)
مثال آخر: أرادت دولة مسلمة حديثة إصلاح معيشة القوم وإجراء نظام للمعيشة يكون موجبا لفلاح القوم ويحفظ أهل الملك من الفقر والمسكنة، وظلم الظلمة من المستحصلين المتمولين المغلوبين من الشحّ والبخل، فإن كانت الدولة معتادة للفكرة السنّية واختارتها للتفكر في هذه المسألة المهمة، فلابد أن تنظر إلى الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال الفقهاء وتختار النظام الإسلامي للمعيشة الذي أمر به الله تعالى شأنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم وفسرته الصحابة بقولهم وعملهم، وفصلته الفقهاء في ضوء عمل الصحابة وأقوالهم، ولا تلتفت هذه الدولة المؤمنة إلى نظام غير إسلامي كالشيوعية وغيرها من الأنظمة الخاطئة الباطلة، وأما الدولة التي ليس لها حَظ من (الفكرة السنّية) فتخبط خبط عشواء وتتبع كل عمياء، وتنظر إلى أنظمة غير إسلامية فتختار بعضها فتذوق وبال إثمها في الدنيا والآخرة، وكانت عاقبة أمرها خسراً، والأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا للفكرة السنّية النفسية تكفي للزيادة في وضاحتها وتنور مفهومها ومصداقها فنختم بيانها، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
شهادة التاريخ:(29/217)
التاريخ يدخر المواعظ والعبر لنتعظ بها، ولنسلك طريق المستقبل في ضوئها، فنشير إلى بعض الحوادث الماضية التي تصدق ما قلناه من أن (الفكرة السنّية) لها أثر عظيم في رقي الأمة المسلمة وعروجها، وإن تركها موجب لزوالها وانحطاطها، فإن زوالها إنما بدأ حين ضعف اعتصامها بالكتاب والسنة، ولاشك أن هذا الضعف قد طرأ عليها بسبب التغير في منهاج فكرها ووجهة نظرها، وذلك بأن المجتمع الإسلامي من حيث المجتمع قد ترك (الفكرة السنّية) في الأمور الاجتماعية لاسيما في الأعمال السياسية وإن بقيت مختارة لكثير من الأفراد في الحياة الفردية، وكفاك مثلا وعبرة حادثة زوال الخلافة العباسية فإنها سقطت في أول فتنة في التاريخ الإسلامي التي أثارها المنافقون، وأصبحت تلك الفتنة قائدة لجيش الفتن التي صحبتها، كفتنة القول بخلق القرآن وفتنة إنكار الحديث وأمثالها من الفتن التي ظهرت في عصر العباسيين وانتهت بزوالهم.
وتوضيح هذا المجمل أن أول فتنة ظهرت في الإسلام هي فتنة تنقيص شأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن سعي اليهود لإزالة حب الصحابة وتعظيمهم وتوقيرهم عن قلوب المسلمين أنتجت فرقة في الأمة تسمي نفسها باسم الشيعة.
وهذه الفرقة التي نشأت على عداوة الصحابة وتنقيص شأنهم، قد قويت على عهد الخلافة العباسية، لأن العباسيين استعانوا بها حين أثاروا الثورة ضد الأمويين، ثم إن خلفاءهم وزعماءهم قربوا هذه الفرقة ونصبوا رجالها على مناصب جليلة وأشركوهم في أمور الخلافة، حتى أنها تسلطت عليهم، وكان عاقبة الأمر أن الشيعة لعداوتهم لأهل السنة ولدينهم الحق دمروا الخلافة العباسية تدميرا واستأصلوها بالمؤامرة بتآمر الذين دعوهم للتدمير وأعانوهم على هذا المقصد الشنيع.(29/218)
والسبب الأساسي لتلك الحادثة الفاجعة الأليمة هو أن العباسيين ومن كان معهم من المسلمين أي من أهل السنة صرفوا النظر عن هداية الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} . (الآية) وخالفوها باتخاذ أعداء الإسلام المنافقين بطانتهم وبالاعتماد عليهم وتركوا الفكرة السنّية فذاقوا وبال خطئهم.
ثم إن هذا المرض أصبح وباء متعديا إلى العامة من أهل السنة وأفسد مزاج المجتمع لأن الاختلاط والمودة بالذين أشربوا في قلوبهم عداوة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والسخط على دينهم الحق أدّى إلى ضعف حب الصحابة وسنتهم ونقص عظمتهم في قلوبهم، فأدى إلى ضعف في اعتصامهم بالكتاب والسنة وقد حفظ الله تعالى شأنه طائفة من المؤمنين من هذا الداء العضال حتى أصبحت مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". أو كما قال، لكنها كانت قليلة في العدد.
وكما أن التاريخ يقص قصص زوال الأمة وأسبابها ويرفع الحجاب عن الحقيقة أن إهمال الفكرة السنّية وتركها واختيار فكرة غير سنّية هي أعظم أسباب زوال الأمة وانحطاطها كذلك ينبئنا عن عروج الأمة ورقيها وأسبابه، ويضيء لنا الطريق إليه ويأتينا بأخبار كثيرة تدل دلالة واضحة على أن (الفكرة السنية) كفيلة بعروج الأمة ورقيها وهي الطريقة الوحيدة إليه.(29/219)
وإني أستطيع أن آتي من التاريخ بأمثلة كثيرة لهذا الأصل، لكني قصداً للإيجاز أكتفي بإيراد قصة المجاهد الجليل والفتى النبيل محمد بن القاسم الثقفي - رحمه الله - حين وصل إلى قلعة محكمة في غزوة السند، وكانت القلعة التي غزاها على ساحل بحر السند، ولم يكن هناك جسر ولا سفينة، فنظر إلى جيوشه وسألهم: أرب البحر والبر واحد أم لهما ربان؟ قالوا: إن الله وحده هو رب البحر والبر ورب كل شيء وهو رب العالمين، فقال: ربنا الذي نصرنا وحفظنا في البر وإنا خرجنا في سبيل الله فلا ينبغي لنا أن نرجع على أعقابنا فادخلوا البحر، فدخل المجاهدون في الماء يمشون عليه كما يمشي الرجل على الأرض، ولما رأت جيوش الهندوس الذين كانوا يرمون الحجارة عليهم بالمنجنيق هذه الحالة المدهشة العجيبة طرحوا أسلحتهم وفتحوا باب الحصن وأطاعوا المسلمين المجاهدين، وواضح أن محمداً بن القاسم ومن كان معه من المجاهدين تفكروا بفكرة سنية، فنظروا إلى وعد الله تعالى شأنه لا إلى الأسباب الظاهرة، واستعانوا بالإيمان فأفلحوا ونجحوا، ثم لا يخفى على من طالع تاريخ السند أن الفتح المذكور، جاء في تلك البلاد ببركات كثيرة من غلبة الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا، ونشاط علمي وفكري كما جاء بالأمن والسلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(29/220)
نظام الإثبات في الفقه الإسلامي
دراسة مقارنة (3)
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
الأدلة المختلف فيها:
بعد أن تناولنا في المقالين السابقين السمات الأساسية لنظام الإثبات في الفقه الإسلامي، ووضحنا تفرده بنظام يتسق مع عدله وشموله، وبينا أنه يحتوي على قسمين من أدلَة الإثبات –قسم اتفق عليه الفقهاء، وهو يتمثل في الإقرار والشهادة. وقسم آخر اختلفوا فيه –ومن هذا القسم المختلف فيه موضوع بحثنا في هذا المقال- اليمين والنكول عنه وعلم القاضي.
اليمين والنكول عنه:
النكول عن اليمين هو الامتناع عنها حينما توجه إلى المدعى عليه من القاضي بطلب المدعي [1] . فإذا لم يكن للمدعي بينة وطلب يمين المدعى عليه فنكل، قال أبو حنيفة وأصحابه يقضى عليه بنكوله، ذلك لأن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها، وجب أن نكل أن تحقق عليه الدعوى، وقالوا إن عثمان رضي الله عنه قد قضى بالنكول، ولم يعلم له مخالف من الصحابة فكان ذلك إجماعا [2] .
غير أن مذهب أبي حنيفة بالقضاء بالنكول وحده منتقد من وجوه:-
الأول: إن النكول لا يدل على أن الحق قد ثبت على الناكل، لأنه قد يمتنع عن الحلف تورعا وترفعا حتى وإن كان صادقا في إنكاره للدعوى.
الثاني: قالوا لهم إنكم قد خالفتم قضاء عثمان رضي الله عنه، فإنه لم يقض بالنكول في بعض الوقائع التي رفعت إليه. يقول ابن حزم: "فكيف وقد خالفوا عثمان في هذه القضية نفسها، لأنه لم يجز البيع بالبراءة إلا في عيب لم يعلمه البائع، وهذا خلاف قولكم. ومن العجيب أن يكون حكم عثمان بعضه حجة وبعضه ليس بحجة، هذا على أن مالك بن أنس روى هذا الخبر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله فقال فيه عن أبيه: فأبى أن يحلف وارتجع العبد فدل هذا على أنه اختار أن يرتجع العبد فرده إليه عثمان برضاه" [3] .(29/221)
الثالث: إن دعوى الإجماع غير صحيحة، فالإجماع يكون صحيحا بعدم المخالف، لا بعدم العلم بالمخالف، وفرق بين عدم المخالف وعدم العلم به.
أما الأئمة مالك والشافعي وأحمد فيقولون إن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين لا يجب للمدعي بنكوله شيء، وإنما ترد اليمين إلى المدعي، فإذا حلف استحق المدعى به. وتوجيه هذا القول هو أن نكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي، فالأولى أن يقوى بيمين الطالب، إذ النكول ليس بينة من المدعى عليه ولا إقرارا، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معه المدعي قوي جانبه [4] .
قالوا: وإن هذا المعنى يستفاد من الآية الكريمة في شأن الوصية في السفر {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِم ... } الآية (المائدة 107-108) .
ووجه الاستدلال في الآية أنها أفادت رد اليمين إلى الجهة التي شرعت فيها أولا وهي الشاهدان إلى غيرهما، ويؤخذ منه رد اليمين من المدعى عليه إلى غيره [5] .
وكذلك استدلوا بما رواه الدارقطني والحاكم في المستدرك وصحح إسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد اليمين على طالب الحق [6] .
ومع أن هذا المذهب أظهر من سابقه وأرجح لكونه اعتمد على أدلة نقلية منها ما هو منطوق في محل النزاع كحديث ابن عمر رضي الله عنه، إلا أنه لم يسلم أيضا من انتقاد وجه إليه، ويتلخص هذا الانتقاد في:(29/222)
أولا: إن استدلالهم بالآية لا يستقيم لهم في موضوع النزاع، لأنها تدل على أن شاهدين يقومان مقام شاهدين آخرين ظهر كذبهما بعد الحلف، وليس ذلك موضوع الخلاف.
ثم إن الشافعية والمالكية وهم من أنصار هذا المذهب يقولون بنسخ هذه الآية بالآيات التي تمنع ولاية الكافر على المسلم، والشهادة فيها ولاية على المشهود عليه، ولذا فقد أبطلوا شهادة الكافر على المسلم. فكونهم لم يعملوا بالآية في موضوعها فمن باب أولى ألا يستدلوا بها هنا.
ثانيا: إن حديث ابن عمر الذي استندوا عليه مطعون في إسناده فلا يصح الاعتماد عليه. (انظر الهامش) .
هل تكفي اليمين لقطع النزاع؟
لاشك أن المدعى عليه إذا أقر بالدعوى إقراراً صحيحاً، أو ثبتت عليه الدعوى بشهود المدعي، وحكم القاضي بناء على ذلك انقطع النزاع بينهما لاتصال الحكم بالدليل الذي يؤدي إلى الحق غالبا، ولكن هل يعتبر الحال كذلك عند اتصال الحكم باليمين؟ أي هل تنقضي الدعوى إذا حلف المنكر عند عجز المدعي من تقديم بينته؟ وبمعنى آخر هل يجوز للمدعي أن يقدم بينة بعد احلاف المدعى عليه اليمين؟.
جمهور الفقهاء يرون سماع بينة المدعي بعد حلف المدعى عليه اليمين، ويعتبرون إنهاء الدعوى باليمين إنما هو إنهاء مؤقت يمكن أن تعاد مرة أخرى إذا قدم المدعي البينة التي كان قد عجز عن تقديمها قبل اليمين، ويقولون إن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة، ولأن البينة مثبتة واليمين نافية، والإثبات أولى من النفي، ولأن اليمين تكون مع عدم البينة، فإذا وجدت البينة سقط حكم اليمين، ولأن سقوط الدعوى باليمين ليس موجبا لسقوط الحق، فالحقوق لا تسقط إلا بقبض أو إبراء، وليست اليمين قبضاً ولا إبراء [7] .
ويرى بعض الفقهاء أن اليمين طريق من طرق الإثبات، فإذا حلف المدعى عليه سقط حق المدعي في الدعوى وترتب على ذلك اليمين قطع النزاع [8] .(29/223)
اليمين مع الشاهد:
روى مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين"، وفي رواية أحمد: "إنما كان ذلك في الأموال"وروى الدارقطني في سننه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق" [9] .
استناداً على هذه الأحاديث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي في المال، وما يؤول إلى المال من حقوق الأبدان كالنكاح والطلاق، ولا يحكم بذلك في القصاص والحدود.
وخالف أبو حنيفة وأصحابه وقالوا: "لا يحكم بشاهد ويمين إذ الآية الكريمة {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} (البقرة: 282) قد قصرت الإثبات في البينة على النحو المذكور، وحديث الشاهد واليمين زيادة على النص، والزيادة على النص تكون نسخا، وخبر الواحد لا ينسخ المتواتر" [10] .
وقد أورد الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار أدلة الفريقين وانتصر لمذهب الجمهور قائلا: "جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من إنصاف، فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ... } الآية وعلى ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه"غير منافية للأصل، فقبولها متحتم، وغاية ما يقال على فرض التعارض- وإن كان فرضا فاسدا- إن الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين [11] .
يمين القسامة:
القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت، وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم [12] .(29/224)
أما في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفها ابن قدامة في المغني بقوله: "القسامة هي الأيمان المكررة في دعوى القتل" [13] . ويقول ابن عرفة المالكي: "هي حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم" [14] . وعند فقهاء الحنفية القسامة هي "أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيها قتيل به أثر، يقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا" [15] .
يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية.
وقد اختلفوا فما القسامة هل هي قسم من أقسام اليمين؟ أم هي طريق آخر من طرق الإثبات إذ قد يترتب على حلفها عند الجمهور إثبات الدم المترتب عليه القود أو الدية. وعلى كل فإن القسامة طريق لإثبات الدم يقوم على حلف اليمين.
ويحتج جمهور الفقهاء القائلون بالقسامة بالأحاديث الصحيحة التي نصت على مشروعيتها ففي صحيح البخاري عن بشير بن يسار: "زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل ابن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا. فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا. فقال: الكبر الكبر. فقال: لهم تأتون بالبينة. فقالوا: يا رسول الله مالنا بينة. قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة" [16] .(29/225)
ورواية مسلم وأبي داود: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف. قال: "تبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا: يا رسول الله قوم كفار، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله". قال سهل: "فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل برجلها" [17] .
وعند الترمذي "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم ... " ثم ساق الحديث.
وجه الدلالة من هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع أيمان القسامة. وفي الروايتين الأخيرتين أجاز لأولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينا على من اتهموه في بالقتل، ويستحقون بهذه الأيمان دم القاتل، وإلا حلف المتهمون خمسين يمينا لتبرئة أنفسهم من الاتهام الموجه إليهم.
ويتضح أيضاً من هذه الأحاديث اعتماد المدعين على قرينة العداوة بين اليهود والأنصار مما دعاهم إلى توجيه تهمة القتل إليهم، لاسيما وقد وجد القتيل بينهم، وقد أجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم الحلف على ذلك.
هذا ولم يخالف في الأخذ بالقسامة إلا ما روى عن سالم بن عبد الله وسليمان ابن يسار وقتادة وأبى قلابة وعمر بن عبد العزيز والبخاري، محتجين بأن القسامة تخالف أصول التشريع الإسلامي، إذ أن الأصل في الشريعة ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل. ويقولون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلطف بالأولياء ليريهم أنه كيف لا يلزم الحكم بها في الإسلام لأنها كانت من أحكام الجاهلية. ويحتجون أيضا بأن الأيمان لا تأثير لها في الدماء فلا تصلح لإشاطتها. وتخالف القول بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر [18] .(29/226)
وأجاب من أخذ بالقسامة عليهم بأن القسامة أصل قائم بنفسه قررته السنة النبوية الشريفة كسائر السنن المقررة للأصول، وأنه يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وللإنسان أن يحلف على غالب ظنه. ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لهم استحقاق دم القاتل بقوله: "وتستحقون دم صاحبكم"أو "ويدفع إليكم برمته". وليس ثمة ما يمنع أن تكون الأيمان سبيلا لإشاطة الدماء أي إهدارها مادامت الأيمان تؤدي إلى إثبات القتل [19] .
علم القاضي:
وقد اختلف الفقهاء أيضاً في قضاء القاضي في حادثة بناء على علمه بحقيقتها فإن كان الحق المدعى به من حقوق الله الخالصة -كالحدود- فهذه اتفقوا على أنه لا يقضي فيها بعلمه، اللهم إلا ما روي عن ابن حزم الظاهري بجواز ذلك. أما إن كان من حقوق العباد -كالبيع والشراء- ففيها اختلاف بين الفقهاء.
قال متقدمو الحنفية: "إنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بناء على علمه الشخصي فيها"، وعن محمد بن الحسن "لا يقضي بشيء أصلا". وهو ما أفتى به المتأخرون منهم.
جاء في البحر الرائق: "علم القاضي بشيء ينفذ القضاء في غير الحدود، وأما القصاص، فله القضاء بعلمه كما في الخلاصة، وتركه المصنف للاختلاف وظاهر ما في جامع الفصوليين أن الفتوى على أن القاضي لا يقضي بعلمه لفساد قضاة الزمان" [20] .
وقول ابن حزم والمتقدمين من الحنفية هو أيضا رواية عن أحمد وقول للشافعي.
أما المشهور عند المالكية والرواية الأخرى لأحمد والشافعي لا يجوز للقاضي الحكم بعلمه الشخصي في الدعوى.
ويستند هذا القول الأخير- الذي يمنع القاضي من الحكم بناء على علمه - على أمرين:
الأول: إن قضاء القاضي بعلمه يعرضه إلى التهمة والريبة، والقضاة مأمورون بصيانة أنفسهم عن التهم. كما يؤدي إلى زعزعة الثقة بالقضاء وبأحكامه.(29/227)
الثاني: إن ترك الحرية للقاضي ليقضي بعلمه يمكن من لا خلاق لهم من القضاة بالتلاعب بالأحكام بتقتيل من يخالفهم وتفسيقهم وتجريح من يبغضهم، وتمييز من يواددهم، وتغيير الأحكام بناء على أطماعهم وأهوائهم الشخصية.
ولهذا فإن هذا القول أرجح من سابقه وأظهر وأكثر ملاءمة لوقتنا الحاضر. وبه أفتى المتأخرون من علماء الشريعة، وذهبوا إلى منع ذلك منعا باتا بناء على ما تقتضيه المصلحة العامة حيث فسد الناس وعمت الفوضى وخربت الذمم، وأصبح الاختيار لمنصب القاضي لا يقوم على ما كان عليه عند أسلافنا من تحري التقوى والورع.
يقول الشيخ أحمد إبراهيم رحمه الله: "الحق أن الاحتياط في ذلك واجب بل هو من أعظم مطالب الشريعة الحكيمة العادلة، فلا نسلم للقاضي بما يقضي به ولا نقره عليه إلا إذا بين أسبابا مقنعة وحججا واضحة استند في قضائه عليها يزيل بها التهمة عن نفسه وبدون ذلك لا توجد الطمأنينة في نفس أحد" [21] .
ويقول الدكتور محمد البهي رحمه الله: "أما إذا منعناه من القضاء بعلمه فالضرر الذي يترتب على هذا المنع محدود الدائرة ضيق الأثر لأنه لا يتعدى بعض المتقاضيين، أما نفعه فإنه يعود على المجتمع كله، فيأمن الناس معه على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، كما أنه حماية للقاضي ومكانة القضاء من أن تزلزل في نفوس الناس ويهن شأنها في نظرهم" [22] .
--------------------------------------------------------------------------------(29/228)
اتفق الفقهاء على أن الحقوق الخالصة لله تعالى- كالحدود- لا توجه اليمين إلى المدعى عليه لإثباتها، وإن كانت هناك رواية عن الشافعي تجيز ذلك. أما حقوق العباد الخالصة- كالأموال- فهذا اتفقوا على توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق، فمالك ورواية عن أحمد على منع توجيه اليمين فيها، والشافعي وبعض الحنفية وابن حزم على جواز توجيه اليمين فيها، وأبوحنيفة يقول إن كانت هذه الحقوق مما يحتمل البذل أي ترك المنازعة فيجوز توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والنسب فلا يجوز. أما الحقوق المشتركة بين العبد والرب فاختلفوا فيها- فمن رجح جانب العبد أوجب اليمين، ومن يرجح جانب الله لم ير ذلك.
[1]
الاختيار لتعليل المختار للموصلي ج2 ص162 ط السعادة مصر.
[2]
المحلى ج10 ص 533-534 ط دار الاتحاد العربي مصر.
[3]
الطرق الحكمية لابن القيم ص 137، بداية المجتهد ج2 ص 469.
[4]
الأم للشافعي ج 7 ص 34.
[5]
سنن الدارقطني ج4 ص 213- وجاء في التعليق المغني على سنن الدارقطني للمحدث أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي "الحديث أخرجه البيهقي والحاكم وفي إسناد كلهم محمد بن مسروق وهو لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه"
[6]
المغني ج10 ص 104.
[7]
المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الإبياني ص9 وما بعدها.
[8]
سنن الدارقطني ج3 ص214، نيل الأوطار ومنتقى الأخبار ج10 ص282 ط الطباعة الفنية. [9]
[9]
نيل الأوطار ج10 ص284، تبصرة الحكام ج1 ص268، إعلام الموقعين ج3 ص85
[10]
نيل الأوطار ج 10 ص 284.
[11]
لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) .
[12]
المغني ج8 ص65.
[13]
مواهب الجليل للحطاب ج6 ص269 [14]
[14]
العنابة بهامش تكملة فتح القدير ج8 ص383.
[15]
صحيح البخاري (باب القسامة) ج4 ص 156.
[16](29/229)
صحيح مسلم مع شرح النووي ج11 ص148، وسنن أبي داود ج4 ص299.
[17]
صحيح البخاري (باب القسامة) ج4 ص157، المبسوط للسرخسي ج26 ص109، بداية المجتهد ج2 ص428.
[18]
شرح النووي على صحيح مسلم ج 1 ص144، بداية المجتهد ج 4 ص 428. [19]
[19]
البحر الرائق ج 7 ص204 ط دار المعرفة بيروت، وانظر في الموضوع الأشباه والنظائر لابن نجيم ج 1 ص 338 المطبعة العامرة مصر، والطرق الحكمية ص 227 ونيل الأوطار ج 1 ص287.
[20]
طرق القضاء في الشريعة الاسلامية ص 39.
[21]
من طرق الإثبات في الشريعة والقانون ص145
[22](29/230)
ترجمة القرآن الكريم
للأستاذ أحمد علي عبد الله
بكلية الشريعة والقانون - جامعة بايرو- نيجيريا
مقدمة:
في حين أن موضوع ترجمة القرآن لا يأخذ حيزاً واسعًا ولا ضيقًا من الدارسين في البلاد العربية إلا أنه يستحوذ على قدر غير قليل من اهتمام الدارسين في البلاد الإسلامية غير العربية ومن المسلمين غير العرب.. وهذا بدوره يؤكد قواعد الشريعة الإسلامية الأصولية القائلة بأن الواقع المعاش في كل مكان وآن هو الذي يولد المشاكل والهموم الفقهية ومن ثم يسعى الفقهاء لتكييفها وحلها لمصادر الشرع الخالدة والمرنة مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".
"ولقد تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي" وموضوع ترجمة القرآن الذي نحن بصدده الآن ليس من الموضوعات ولا المسائل الفقهية الجديدة.. بل هو قديم قدم الفقه الإسلامي وحي كحياة الشريعة الإسلامية التي من أصولها مجابهة الواقع لا مداراته وتحاشيه.. تتعامل الشريعة بوضوح وجرأة مع كل مسألة تنشأ في ظل سلطانها فتضع لها الحل وتعطيها الحكم الشرعي الملائم والمتسق مع مبادئها العامة وأحكامها الجزئية.. على عكس ما آل إليه الأمر اليوم من دفن الرؤوس في الرمال أمام الواقع الذي تفلت بسبب ذلك من حكم الشرع.. مما صور الشريعة بصورة العاجز عن معالجة هذا الواقع.. وما العجز في حقيقة الأمر إلا أن المسلمين خاصة أولي الأمر من الحكام والعلماء.
قلنا تتعامل الشريعة مع كل واقع جديد مهما عظم بإيجابية وجرأة لأن من طبيعتها الشمول ومن خصائصها المرونة التي تتسع بها لاستيعاب كل جديد ومن عقيدتها أن تحكم حتى تقوم الساعة.(29/231)
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} (آل عمران: 19) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) .
وليس هنالك رهبة أو وجل في أعمال الشريعة لأن المجتهد فيها مأجور ما خلصت نيته وأفرغ جهده "أجتهد رأيي ولا آلو ... " فلئن أصاب في اجتهاده أجر مرتين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ... وإن أخطأ في اجتهاده نال أجر الاجتهاد ولا يغرم شيئاً في الخطأ. فعلام المهابة إذاً وإلام الاستكانة يا علماء المسلمين.
والموضوع كما قدمنا قديم وأرى أن معالجته بشيء من الوضوح والواقعية تقتضي تقسيمه إلى قسمين:
القسم الأول: يعالج ما إذا كانت الترجمة قرآناً أم لا.
القسم الثاني: يناقش الآراء الفقهية حول جواز الترجمة أو عدم جوازها باعتبارها تفسيراً لمعاني القرآن.. وأفضل أن أبدأ بالمسألة الأولى لأسباب منها:
1- من حيث الظرف التاريخي فإن المسألة الأولى طرحت نفسها أولا.
2- ثم إنها أثرت سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الفكر الإسلامي في مجابهته للمسألة الثانية.
تعريف القرآن:
إن أجمع وأوضح ما قيل في القرآن هو قول الإمام الآمدي: "إن الكتاب: هو القرآن المنزل" [1] .
وقلنا هو أجمع وأوضح لأن معظم التعريفات الأخرى تؤدي إلى متاهات لا حاجة للناس فيها في أمر جده معلوم لدى الكافة.. ومع ذلك، ومن أجل الدخول في الموضوع سنورد تعريف الإمام اليزدوي: "أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً متواتراً بلا شبهة. وهو النظم والمعنى جميعا في قول عامة العلماء، وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازماً في حق جواز الصلاة خاصة وجعل المعنى ركنا لازماً والنظم ركناً يحتمل السقوط رخصة" [2] .
القرآن نظمًا ومعنى:(29/232)
وتعريف اليزدوي أعلاه يشير بوضوح إلى أن القرآن يتألف عند عامة العلماء.. من النظم العربي والمعنى معا تأليفاً لا تنفك فيه المعاني القرآنية عن ألفاظها العربية وأن النظم (العربي) المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل كما يقول النيسابورى [3] .
ويدل النص من ناحية أخرى على ما نسب لأئمة الحنفية من خلاف حول المعنى السابق.. وما نسب للأحناف يصوره ما أورده النيسابوري قال:
قال الشافعي: "ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها"، وقال أبو حنيفة: "إنها كافية في حق القادر والعاجز". وقال أبو يوسف ومحمد: "كافية في حق العاجز لا القادر" [4] .
وبناء على ما نقله النيسابوري يتضح أن أبا حنيفة: يجوز قراءة ترجمة القرآن في الصلاة.. وأن ذلك الجواز إنما هو للقادر على قراءته باللغة العربية وللعاجز معاً وإن الصاحبين خالفاه في هذا الإطلاق فرخصا للعاجز دون القادر.. وإن قراءة الترجمة في الصلاة تفيد أن المقروء قرآنٌ لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} .(29/233)
والأجدر بنا أن نرجع إلى كتب الحنفية أنفسهم حتى نتعرف عن قرب على رأي الإمام وأصحابه في هذا الصدد ولكن قبل أن نشرع في ذلك ينبغي أن ننبه إلى أن أبا حنيفة ليسَ بعربي.. بل تربى وتأثر بالثقافة والحضارة الفارسية قبل الإسلام.. وعاش في منطقة العراق الحالية حيث كان يسكنها الفرس مع غيرهم من العرب والأجناس الأخرى.. لا غرو أن يجابه الإمام الأعظم وأي إمام في مكانته بمثل هذه المسألة الفقهية التي تعكس الواقع الذي كان يعيشه.. ذلك أن الناس يدخلون كل يوم في دين الإسلام وأنهم يعانون ويجابهون صعوبة في تعلم العربية لوقتها.. فهل من حاجة في أن يعرب لهم المعنى القرآني بلغتهم ليؤدوا الصلاة حتى حفظوا من السور القرآنية ما يغني عن ذلك أم أنه ليس هناك حاجة ابتداء لهذا التجوز؟؟ ولقد واجه هذا الواقع من قبل - ولكن بصورة أخف - سيدنا عبد الله بن مسعود قالوا وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه، فقال: "قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله ليس الخطأ في القرآن أن نقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع مكان آية الرحمة آية العذاب". قلنا الظن بابن مسعود غير ذلك [5] .
تلكم كانت صورة من البيئة والظروف التي وجد فيها أبو حنيفة نفسه مضطرا لمجابهة مثل هذا الواقع الذي قلما يجابه إماماً كمالك بالمدينة أو الأوزاعي بالشام أو الشافعي بمصر وهاك موجزا لما جاء في كتب الحنفية في هذا الموضوع:
1- من حيث أن القرآن مؤلف من النظم العربي والمعنى معاً فمذهب أبي حنيفة ذلك كمذهب الجمهور.. حتى أن أبا حنيفة يعد كافرا كل من أنكر أن القرآن غير النظم العربي والمعنى معا.(29/234)
2- مع ذلك لم يجعل أبو حنيفة نظم القرآن ركناً لازماً بالنسبة للصلاة خاصة وذلك في تقديره لأن قراءة القرآن في الصلاة مبنية على شيء من التوسعة.. ومقصودها مناجاة الله.. وفوق ذلك فقد جعلت القراءة فيها على التيسير:
أ- لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20) .
ب- ولسقوط القراءة عن المأموم بتحمل الإمام وبسقوطها بخوف فوات الركعة.. في حين أن هذا لا يجوز في سائر أركانها.
3- لكل ذلك جوز الإمام الاكتفاء في الصلاة بأداء الركن الأصلي من قراءة القرآن وهو المعنى الذي تتحقق به المناجاة.. ودليل ذلك أن القرآن نزل ابتداء بلغة قريش فلما شق على غير القرشيين من العرب رخص في قراءته باللغات السبع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف" فلما جاز للعربي أن يدع لغة قريش إلى لغته مع قلة الكلفة جاز من باب أولى لغير العربي أن يدع العربية لعجزه عنها والاكتفاء بالمعنى القرآني الذي هو المقصود.
4- فالعدول إذن عن النظم العربي إلى الترجمة إنما هو رخصة كالمسح على الخفين والقصر في حال السفر.
5- قصر الأحناف الرخصة على الصلاة خاصة ولا يصح عندهم تجاوزها إلى غيرها.. حتى أن أبا حنيفة حرم مداومة قراءة الترجمة في الصلاة نفسها.
6- وفوق ذلك قيدت صحة الصلاة بالترجمة على اللغة الفارسية، لأنها كما يزعمون قريبة من فصاحة العربية.
7- ورغم كل القيود السابقة فقد صح عن أبي حنيفة عدوله عن جواز القراءة في الصلاة بترجمة القرآن.. وبذلك يصبح الخلاف حول صحة الصلاة بالترجمة مجرد تاريخ يحكى على ما عليه الفتوى في المذهب الحنفي.
ويبسط الإمام عبد العزيز البخاري ثم يبرر ويوجه ما روي عن أبي حنيفة في هذا الخصوص ثم يقرر عدوله عن ذلك الرأي من خلال تعليقه على تعريف اليزدوي السابق للقرآن كالآتي:(29/235)
"ومنهم (أي من العلماء) من اعتقد أنه (أي القرآن) اسم للمعنى دون النظم. وزعم [6] الصلاة بغير عذر مع أن قراءة القرآن فيها فرض مقطوع به.
فرد الشيخ (يعني اليزدوي) ذلك وأشار إلى فساده بقوله وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة عندنا أي المختار عندي أن مذهبه مثل مذهب العامة في أنه اسم للنظم والمعنى جميعا، وأجاب عما استدل به الزاعم بقوله: لكن أبا حنيفة لم يجعل النظم ركناً لازماً له. قال مبنى النظم على التوسعة لأنه غير مقصود خصوصاً في حالة الصلاة إذ هي حالة المناجاة وكذا بنى فرضية الصلاة على التيسير قال تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} ولهذا يسقط عن المقتدي بتحمل الإمام عندنا وبخوف فوات الركعة عند مخالفنا بخلاف سائر الأركان، فيجوز أن يكتفي فيه بالركن الأصلي وهو المعنى، يوضحه أنه نزل أولاً بلغة قريش لأنها أفصح اللغات فلما تعسر تلاوته بتلك اللغة على سائر العرب نزل التخفيف بسؤال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأذن بتلاوته بسائر لغات العرب وسقط وجوب رعاية تلك اللغة أصلاً واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرءوا بلغتهم ولغة غيرهم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنزل القرآن بسبعة أحرف كلها كاف شاف"فلما جاز للعربي ترك لغته إلى لغة غيره من العرب حتى جاز للقرشي أن يقرأ يلغة تميم مثلاً مع كمال قدرته على لغة نفسه جاز لغير العربي أيضاً ترك لغة العرب مع قصور قدرته عنها والاكتفاء بالمعنى الذي هو المقصود.(29/236)
فصار الحاصل أن سقوط لزوم النظم عنده رخصة كمسح الخف والسلم وسقوط شطر صلاة المسافر حتى لم يبق اللزوم أصلاً فتستوي فيه حال العجز والقدرة وفي قوله خاصة -تنصيص على أن فيما سواه من الأحكام من وجوب الاعتقاد حتى يكفر من أنكر كون النظم منزلاً وحرمة كتاب المصحف بالفارسية وحرمة المداومة على الاعتياد على القراءة بالفارسية وقيل الخلاف في الفارسية لأنها قربت من العربية فى الفصاحة فأما القراءة بغيرها فلا يجوز بالاتفاق.
وقد صح رجوعه إلى قول العامة رواه ابن أبي مريم عنه. ذكره المصنف في شرح المبسوط وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد وعامة المحققين وعليه الفتوى" [7] .
والصواب طبعاً ما ذهب إليه الكافة ورجع إليه أبو حنيفة من أن القرآن هو المعنى والنظم معاً.. والحاجة التي أدت بأبي حنيفة إلى أن يقول بعدم ركنية النظم في الصلاة
خاصة قد اندفعت عند الجمهور بصورة تهمل فيها ركنية النظم وهو مذهب أولى بالاعتبار وادعى لبطلان ما ذهب إليه الأحناف ابتداء.
ولنا كما يقول النيسابوري: "أنه أي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرءوا إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم فكيف يجوز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر" [8] .
لقد وسع العلماء - وفقاً لقواعد الشريعة العامة - على الذين لم يتعلموا بعد ما يقيمون به الصلاة من القرآن.
1- بالصلاة مع إمام يحسن أو يعرف ذلك.
2- وإن لم تتيسر الصلاة في جماعة فيمكن له أن يؤديها بأي نوع من الذكر يعرفه.
3- على أن يجد في حينه في تعليم القرآن وغيره من الأحكام التي يحتاجها في الصلاة.(29/237)
يقول الإمام ابن جوزي: "ومن لم يحسنها أي (أم القرآن) إن كان أبكم لم يجب عليه شيء، وإن كان يتعلمها وجب عليه تعلمها والصلاة وراء من يحسنها فإن لم يجد فقيل يذكر الله وقيل يسكت ولا يجوز ترجمتها خلافا لأبي حنيفة" [9] .
وقال الحسن بن محمد: "إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن ثم ما ذكر من الأذكار ثم عليه بوقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه" [10] .
وعن أبي هريرة قال:- كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل". الآية.
يقول ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث قال ابن بطال: "استدل بهذا الحديث من قال تجوز قراءة القرآن بالفارسية وأيد ذلك بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء عليهم السلام كنوح عليه السلام وغيره ممن ليس عربياً بلسان القرآن وهو عربي مبين ويقول تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم فقراءة أهل كل لغة بلسانهم حتى يقع لهم الإنذار به". وقال ابن حجر في أجزاء الصلاة من قرأ فيها بالفارسي: "والذي يظهر التفصيل، فإن كان القارئ قادراً على التلاوة باللسان العربي فلا يجوز له العدول عنه ولا تجزئ صلاته وإن كان عاجزاً وإن كان خارج الصلاة فلا يمتنع عليه القراءة بلسانه لأنه معذور، وبه حاجة إلى حفظها يجب فعلا وتركا، وإن كان داخل الصلاة فقد جعل الشارع له بدلا وهو الذكر وكل كلمة من الذكر لا يعجز عن النطق بها من ليس بعربي فيقولها ويكررها فتجزئ عن الذي يجب عليه قراءته في الصلاة حتى يتعلم، وعلى هذا فمن دخل في الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يعرب له لتعريف أحكامه أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه" [11] .(29/238)
والقياس الذي عقده الأحناف لصحة القراءة بالترجمة في الصلاة على صحة القراءة بالأحرف السبعة هو قياس مع الفارق الكبير كما لا يخفى.. ذلك لأن العدول عن لغة قريش إلى أي لغة أخرى عربية لا يخرج القرآن عن عربيته.. ومع ذلك فهذه رخصة بموجب النص استثناء وما شرع رخصة واستثناء لا يصح القياس عليه كما هو مقرر في الأصول.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا أرى وجهاً لإلزام المرء بالصلاة من قبل أن يتعلم من القرآن والأحكام القدر الضروري لأداء الصلاة.. والصورة الوحيدة التي يمكن إلزامه بها إنما في الجماعة ما تيسر، ولا وجه لإلزامه بالصلاة لأنها كغيرها من الأحكام بنيت على أركان وشروط فما لم تكتمل الأركان وتحقق الشروط لا تتوفر لها أسباب الأداء بالأصالة.. ويقول تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لا يقرأ فاتحة الكتاب.." فما لم يستطع الإنسان أن يحفظ بفاتحة الكتاب أو أي جزء منها لا تلزمه الصلاة ما لم يفرط وإن فرط أثم على تفريطه.
وبما أن الصلاة أصلا هي الصلة بين العبد وربه فللمرء مندوحة في أن يأتي بأسباب هذه الصلة الكثيرة والمتعددة الأوجه كالدعاء والذكر والتفكير.. دون الصلاة التي شرعت بكيفية وهيئة معلومتين فلا تؤدى إلا وفقا لتلك الهيئة أو وفقا للرخص المعلومة.. والتيسير الذي ذكره الله بالنسبة للقراءة في الصلاة هو متسق مع مبادئ الشريعة العامة في رفع الحرج عن العباد ولكن لا يمكن أن يستقل ذلك لإلغاء نظمه ركنية النظم العربي للقرآن.. وعلى المرء أن يحرص كل الحرص ويجند كل طاقاته لتعلم الفاتحة وغيرها من السور والأحكام حتى ينتظم في أداء هذا الركن الركين من الدين الإسلامي ألا وهي الصلاة.(29/239)
ويؤيد رأي الجمهور أن علماء الحنفية أنفسهم حاروا في توجيه المسألة المنسوبة لإمامهم قال عبد العزيز البخاري: "فإن قيل لما جاز الاكتفاء بالمعنى عنده في الصلاة من غير عذر لابد من أن يكون ذلك قرآناً إذ لا جواز للصلاة بدون قرآن وبالإجماع وحينئذ
لا يكون الحد المذكور متناولاً له لعدم إمكان كتابة المعنى المجرد في المصحف ونقله بالتواتر وما تعلق المعنى به في العبارة الفارسية مثلاً ليس بمكتوب في المصحف ولا منقول بالتواتر أيضاً فلا يكون الحد جامعاً أولا يكون المعنى بدون النظم قرآنا فينبغي أن لا تجوز الصلاة.
قلنا إنما جاز الاكتفاء بالمعنى عنده إما لقيام المعنى المجرد في الصلاة مقام النظم والمعنى أو لقيام العبارة الفارسية الدالة على معنى القرآن مقام النظم المنقول كما قال أبو يوسف ومحمد في حالة العذر فيكون النظم المنقول المكتوب موجوداً تقديرا وحكما فيدخل تحته الحد ويكون الحد جامعاً ويفسر قوله المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلاً متواتراً بالكتابة والنقل حقيقة أو تقديراً أو نقول هو يسلم أن المعنى بدون النظم ليس بقرآن ولكن لا يسلم أن جواز الصلاة متعلق بقراءة القرآن المحدود بل هو متعلق بمعناه ويحمل قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} على أن المراد وجوب رعاية المعنى دون النظم لدليل لاح له فلا يرد الإشكال" [12] .
فبرجوع أبي حنيفة عما كان يقول به من اعتبار الترجمة قرآنا في الصلاة على الرأي المفتى به في المذهب الحنفي اجتمعت كلمة المسلمين في الجملة على أن القرآن إنما هو النظم العربي والمعنى معا سواء كان ذلك بالنسبة للصلاة أو غيرها من الأحكام الشرعية. وقلنا في الجملة لأن فريقا من الأحناف ما يزال يعتقد أن الرأي ما ذهب إليه الإمام أولاً لأن رجوعه عن هذا الرأي لم يصح في تقديرهم.. وهذا رأي مرجوح في المذهب الحنفي.
ترجمة معاني القرآن:(29/240)
إذا ثبت بالدليل القاطع أن الترجمة لا تعتبر قرآناً لأن أحداً لم يقل بذلك ولأن الرأي المقيد الذي كان يقول به أبو حنيفة قد صح رجوعه عنه بنفسه، مما يدل على فساده من ناحية أخرى فما حكم ترجمة القرآن على وعي تام بأن الترجمة ليست قرآنا.
أحكامهم على القرآن من خلالها.
وما دام الأمر قد استقر بين المسلمين على أن الترجمة لا تعتبر قرآناً وإنما يقصد بها نقل معاني القرآن بحيث يتسنى للإنسانية الإطلاع عليها والاهتداء بتعاليمها فما علينا إلا أن نعالج المسألة من ناحية موضوعية فنورد ما لها وما عليها في ضوء القواعد الأصولية العامة والمبادئ الشرعية الحاكمة.
والترجمة المقصودة هنا هي نقل لمعاني وأحكام القرآن إلى لغة أخرى أشبه ما يكون الأمر بالتفسير ... كل ما هناك أن التفسير يهتم بإبراز الأحكام بأنواعها بينما تسعى الترجمة لإبراز الأحكام والمعاني تبعا لنقل روح وأهداف وإيقاع العبارة القرآنية ما أمكن [13] .
بالرغم من هذا فقد انبرى كما قدمنا فريق من المسلمين وقالوا بعدم جواز ترجمة القرآن وساقوا الحجج الآتية لتأييد ما ذهبوا إليه.
1- إن ترجمة القرآن تعتبر بدعة خطيرة، أما إنها بدعة فلأن الأولين لم يقدموا على مثل هذا العمل وهم أقدر ما يكون عليه وهي في المقام الثاني خطيرة لما يترتب عليها من مفاسد كهجران اللغة العربية من قبل المسلمين غير العرب بعد اكتفائهم بالترجمة في تعلم القرآن ودراسته وتلاوته.
2- إن إحجام الصحابة ومن بعدهم من المسلمين عن ترجمة القرآن أدى إلى انتشار اللغة العربية فتحقق من أجل ذلك ما لا يحصى من الفوائد بالنسبة للإسلام والمسلمين.
3- أما عن واجب تبليغ الدعوة للناس كافة فيقول أصحاب هذا الرأي: "الواجب هو تبليغ مجمل الدعوة.. فلا ينبغي كل ما جاء بالقرآن.. بل يجب على تلك الأمم أن تشرع في تعلم العربية فور إسلامها حتى تستكمل دينها".(29/241)
4- ثم قالوا: "إن عدم جواز الترجمة مبني أيضاً على قصور الترجمة عن تحمل المعاني الكثيرة التي أودعها الله القرآن بنظم عربي معجز.. فلا يستطيع كائن ما أن يحيط بهذه المعاني أولاً وأن ينقلها في المقام الثاني بحيث يحافظ على إعجازها اللفظي والمعنوي.."أو كما يقول الأستاذ إبراهيم أنيس: "وفي الحق أنه لا يكاد المرء ينتهي من تصفح هذه الكتب وأمثالها حتى يحس في قرارة نفسه أن الوقوف على دلالات الألفاظ القرآنية أمر عسير المنال دونه صعوبات جمة، فلا يكاد يسلم المترجم لها من الزلل أو القصور في إبراز تلك الدلالات، وتصويرها بالقدر الذي يقارب ما هي عليه في منبتها القرآني من جمال وروعة وإعجاز لأهل اللسن والفصاحة في كل زمان ومكان" [14] .
ومن ناحية أخرى ذهب الأكثرون إلى القول بجواز بل بضرورة ترجمة القرآن لنقل روح وأهداف القرآن - ما أمكن - لمن لا يحسنون أو لا يعرفون اللغة العربية.
وحيث أن الأحناف قالوا بصحة تلاوة ترجمة القرآن في الصلاة فهم ومن باب أولى يجوزون ترجمته باعتبارها تفسيرا ونقلا لمعاني وأحكام القرآن.
كذلك أورد الإمام البخاري في صحيحه ما يدل على صحة ترجمة القرآن قياساً على صحة ترجمة غيره من كتب الله، وقد بنى على ذلك الفهم الإمام ابن حجر - في شرحه لصحيح البخاري - جواز ترجمة القرآن.
تحت باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . أورد البخاري الآتي.(29/242)
وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب: أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد ... فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وعن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل ... "الآية.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما. قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فجاءوا وقالوا لرجل ممن يرضون أعور: أقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه قال: ارفع يدك. فإذا فيه آية الرجم تلوح فقال: يا محمد إن عليهما الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فرجما، فرأيته يجافى عليهما الحجارة" [15] .
في تعليقاته على هذه الأحاديث يقول ابن حجر: والحاصل أن الذي بالعبرية يجوز التعبير عنه بالعربية وبالعكس، وهل يتقيد الجواز بمن لا يفقه ذلك اللسان أو لا؟ الأول قول الأكثر قوله: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ..} وجه الدلالة أن التوراة بالعبرية وقد أمر تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية فقضية ذلك الإذن بالتعبير عنها بالعربية ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث:(29/243)
الأول: حديث ابن عباس. ووجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي ولسان هرقل رومي ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه والمترجم المذكور هو الترجمان [16] ، والثاني حديث أبي هريرة ولقد أوردناه وما علق به ابن حجر من قبل [17] .
لقد أشار الإمام البخاري في هذا الباب إشارة كما أفصح ابن حجر في شرحه إفصاحاً على جواز الترجمة أخذاً من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وارتضائه ترجمة التوراة إلى العربية في حضرته وبإرساله الكتب التي تحمل الآيات القرآنية بلسان عربي إلى ملوك الأرض حينئذ إلى هرقل وكسرى والنجاشي وهم لا يفقهون اللسان العربي وهو يعلم أنها ستترجم لهم إلى لغاتهم المختلفة وذلك إقرار منه صلى الله عليه وسلم على جواز ترجمة القرآن إلى هذه اللغات وخبر إرساله بهذه الكتب إلى أولئك الملوك معلوم ومشهور [18] .
وقد نسب أيضا ابن الخطيب إلى ابن حجر قوله بجواز الترجمة في غير هذا المكان، إذ يقول: "وقد قرر الإمام ابن حجر وهو من كبار أئمة المحدثين وجوب الترجمة حيث يقول: إن الوحي متلو أو غير متلو إنما نزل بلغة العرب ولا يرد على هذا كونه صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى الناس كافة عربا وعجماً وغيرهم، لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي وهو يبلغه إلى طوائف العرب وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم " [19] .(29/244)
ويقول جار الله محمود الزمخشري تعليقاً على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم 14) أي ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة على الله، ولا يقولوا لا نفهم ما خوطبنا به كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ..} فإن قلت لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضاً.
قلت: لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو واحد منها ولا حاجة لنزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك، وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أقرب إليه فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى
الحال ونشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم.. ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ما كلم أمته التي هو منها، يتلوه عليهم معجزا لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء [20] .
وهذا نص واضح وقاطع ليس في جواز الترجمة وحسب بل هو قائل بوجوبها اعتماداً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث للناس كافة برسالة القرآن التي ينبغي أن تصل للكل مفهومة حتى تقوم بها الحجة ولا سبيل لذلك إلا بالترجمة وسيأتي بيان ذلك.(29/245)
وختاما يقول الأستاذ محمد صالح سمك: "واستدل الإمام الشاطبي في الموافقات على جواز ترجمة القرآن بالقياس على ما هو حاصل من إجماع الأمة على تفسيره للعامة، ومن ليس له من الفهم ما يقوى به على إدراك كل معانيه الدقيقة وما الترجمة إلا تفسير وإيضاح لغير العرب حتى يفقه القرآن وأحكامه ويتدبر معانيه ومقاصده" [21] .
هذه جملة الأدلة التي احتج بها المؤيدون لجواز ووجوب الترجمة وهي الأولى بالاعتبار في نظري لمنحاها الايجابي المتسق مع مقاصد الدين وأهداف الشرع الإسلامي.. غير أن ذلك لا يعفينا من مناقشة الاعتراضات والحجج الوجيهة التي أثارها أصحاب الرأي الأول.
1- قالوا: إن الترجمة بدعة وأمر لم يقدم عليه الأوائل.. وهذه حجة قد اندفعت بحصول ترجمة القرآن إلى الرومية والفارسية والحبشية على أقل تقدير فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبإقراره.
وكما لا يخفى على دارس أصول السنة فإن إقراره صلى الله عليه وسلم كفعله وقوله من حيث الحجية.. ولما حصلت وقبلت الترجمة من الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث المبدأ فلا يضيرها وإن كانت وقتئذ على مستوى بسيط واقتضت الحاجة إلى أن ترفعها الآن إلى مستوى أكبر وعلى نطاق أوسع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن البدعة المزعومة ليست في عمل كل شيء لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لكان مجرد جمع القرآن في مصحف وتفسيره في صحائف وجمع السنة وغير ذلك مما قصد به خدمة الشرع الإسلامي بدعة.. ولا أحسب أن عاقلا يقول بذلك خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى أن: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً".(29/246)
فالترجمة إذن من قبيل السنة المأجور فاعلها لا من قبيل البدعة ولا السنة السيئة المذموم فاعلها. وعلى أي فإن العمل ينتقل من حكم العادة إلى درجات العبادة بنية ودوافع صاحبه فالترجمة التي قصد بها وجه الله وخدمة الإسلام والمسلمين هي التي من قبيل السنة الحسنة.. فالترجمة كغيرها من الأفعال تحمد وتذم وفقا لجهد وصدق أو سوء نية صاحبها.
2- قيل: إن الترجمة تؤدي إلى إحجام المسلمين غير العرب عن دراسة اللغة العربية التي هي لغة القرآن والاهتمام بها، وهذه بدورها حجة لا تستند إلى دليل، فمجرد الترجمة لا يؤدي إلى هذه النتيجة لأن الترجمة كما يقول محمد أكبر: مجرد محاولة لمساعدة الدارس لفهم وإدراك النص القرآني وليست بأي حال بديلا له [22] .
ومعلوم أيضا أن اللغة العربية تنتشر تبعاً للإسلام وليس العكس فإذا كان ذلك كذلك وإذا كان الغرض من الترجمة هو - نقل معاني القرآن من ناحية وتبليغ دعوة الإسلام لغير العرب من ناحية أخرى.. فينتظر من هذا الجهد كما هو ملحوظ- إدخاله الناس في دين الله أفراداً وأفواجاً.. وهم من بعد دخولهم الإسلام سيدفعون بأكثر من دافع وحافز لتعليم العربية.. لأن الترجمة ليست قرآناً والقرآن هو أساس الإسلام وكل مسلم يحس في نفسه الحاجة الماسة لتعلم العربية حتى يأخذ الإسلام من مصادره الأصلية والمؤثرة.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
3- ثم قالوا: إن الترجمة قاصرة عن تحمل المعاني الكثيرة التي أودعها الله القرآن في نظم معجز بحيث لا يستطيع امرؤ أن يحيط بهذا المعاني ولا أن ينقلها بعد المحافظة على إعجازها اللفظي والمعنوي.. هذه دعوى صحيحة على فرض أن الترجمة تعتبر قرآنا الشيء الذي قررنا فساده من قبل وقصور الترجمة عن نقل الإعجاز اللفظي والمعنوي.. كقصور التفسير تماما عن نقله بل إن قصور الأخير أشد ومع ذلك لم يقل أحد ببطلان التفاسير ... بل هي ضرورة عند الجميع.(29/247)
ولقد نوهت من قبل إلى أن معظما آراء المعارضين للترجمة مبنية على فهم خاطئ ألا وهو اعتبار الترجمة قرآناً.. ولم يستطع كثير من المفكرين المسلمين أن يتجاوزوا هذا الشعور. يقول الأستاذ محمد أكبر في مقدمته لترجمة الإمام المودودي للإنجليزية: "ويجب أن ألفت النظر إلى مسألة هامة ذلك أن الاتجاه العام لدى كثير من الناس هو اعتبار الترجمة إلى اللغة الإنجليزية قرآنا وهذا لعمرو الله من الخطأ البين الخطير.. إذ ليست هناك ترجمة مهما بلغت من الجودة يمكن أن تسمو وتبلغ درجة القرآن العظيم" [23] .
إنه ولإزالة هذا اللبس والفهم الخاطئ سمى الإمام المودودي ترجمته للقرآن بالأردية تفهيم القرآن وعند ترجمة ذلك إلى الإنجليزية سميت: (The Meaning of the Quran) أي معاني القرآن. ولنفس السبب سمى الشيخ أبو بكر غومي ترجمته للقرآن إلى لغة الهوسا: معاني للقرآن بلغة هوسا.
وفي الحقيقة فإن القول بأن إعجاز القرآن إنما هو في لفظه فقط تقليل من شأن القرآن وانتقاص من قدره [24] ذلك أن المعنى والموضوع عاملان مهمان بالنسبة لجمال أي عمل.. ورغم أن إعجاز القرآن اللفظي مع غيره كان التحدي المباشر للعرب إلا أن معانيه وأحكامه وقصصه وأهدافه وتعاليمه ونبوءاته كل هذه مع غيرها تكون الإعجاز القرآني وإليك هذه المقتطفات التي تبين أن الإعجاز ليس قاصرا على النظم وحده.
يقول الإمام السيوطي: "اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة وهي:
إما حسية وإما عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل حسية، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزات العقلية الباقية ليراها ذووا البصائر كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". أخرجه البخاري.(29/248)
قيل: إن معناه إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عمر من الأعمار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون دليلا على صحة دعواه. وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا" [25] .(29/249)
وقال الجاحظ: "بعث الله محمداً أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته. ودعاهم بالحجة وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة وكلما ازداد تحدياً لهم بها لعجزهم عنها تكشف عن نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفياً فحين لم يجدوا حيلة. قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا. قال: "فهاتوها مفتريات"فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر فدل ذلك على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كان أنقص لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أصحابه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ولهم القصيدة العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه [26] .(29/250)
وقال ابن عطية: "الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظه تصلح إن تلى الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر بعضهم يعمهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن أحداً من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن فما الغاية القصوى من الفصاحة. والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا نرى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها وهلم جرا وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالأطباء فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم" [27] .
ويقول الخطابي: إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفا وأشد تلاوة وتشاكلاً من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فإما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير.(29/251)
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضع الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق منه مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ومعلوم أن الإتيان بهذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ومناقضته في شكله.
ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . وقال: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} .(29/252)
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس قال: "جاء المغيرة بن شعبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ له القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله. قال: علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له. قال: فماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي نقول شيئاً من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإن لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره".
المقتطفات أعلاه تؤكد أن هناك أكثر من وجه واحد للإعجاز القرآني، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون الإعجاز اللفظي مشتركاً في تصوير أي معنى أو جانباً عن معانيه السامية والمقصودة أصلاً بالتصديق والاتباع.
غير أن الإعجاز اللفظي ليس مقصودا لذاته وإنما أريد به نقل المعنى في أحسن صورة وأبلغها وأنجعها، حتى كان المعنى هو الغاية واللفظ هو الأداة والوسيلة، وكثير من الناس يعتقد أن القرآن أعجز العرب بفصاحته فحسب، ولكنه في الحقيقة أعجزهم بفصاحته وبمعانيه معا، فهم لم ينكروا أن الألفاظ والتعابير هي ألفاظهم وتعابيرهم وإن عجزوا عن نظم مثل نظمها ولكنهم قالوا إن هذه المعاني ليست مما عرفوا، وقالوا هي ليست من صنع البشر فنسبوها للكهنة وللجن، وعلى أي فمراد الله حتى من عجزهم عن بناء اللفظ إنما لينتبهوا ويعوا الحقيقة: إن هذا المعنى القرآني ليس من صنع البشر حتى يؤمنوا به ويعملوا بمقتضاه فيكتب لهم النجاح في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة.(29/253)
والإعجاز القرآني جملة ومنه اللفظي إنما يتجلى للمسلمين على درجات متفاوتة وإن الذين يقفون على جل أسرار الإعجاز اللفظي فقط قلة حتى بين العرب فإذا غاب الإعجاز اللفظي على نسبة كبيرة من المسلمين العرب فهو على غيرهم من المسلمين أكثر غيابا، فلماذا والحال كذلك تضع العراقيل في وجه تبليغ الدعوة للناس كافة على أمر هو على أهميته وسيلة وليس غاية في حد ذاته، ليس ذلك فحسب بل إن هذه الوسيلة لا تدرك على أكمل وجه وأبلغه بمجرد تعلم اللغة العربية وإنما ببلوغ درجات عظيمة في علومها وفنونها، ومع ذلك فإن مفاتيح إدراك وجوه الإعجاز والمعاني القرآنية لا تكمن في اللغة فحسب وإن كانت اللغة أهم أدواتها، ولكن بشاشة الإيمان وصدقه وإخلاص القلب وصفاءه هي المصابيح التي تنير طريق المؤمن وتكشف خبايا هذا الكنز الميسر للمؤمنين إن شاء الله {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وبشاشة الإيمان كما لا يخفى لا تدرك بكثير علم في الشرع ولا باللغة ولكن بنور الله الذي يعطاه من أصدق الله ونصره، فما سبق الناس أبو بكر بكثرة الصيام ولا قيام ولكن سبقهم بشيء في قلبه، وبالعبادة يرقى العبد إلى أعلى عليين فيدفعه ذلك إلى التعطش للمعرفة والتقرب إلى الله من خلال الحديث إليه مباشرة والأخذ من مأدبته: ألا إن مأدبة الله القرآن: فيجد المسلم - والحال كذلك - نفسه مدفوعاً إلى تعلم العربية وفنونها وهو الأفضل لأن الحاجة لتعلمها تأتي من خلال الحاجة لاستعمالها وذلك هو المحك الرئيسي للعلم وهذا ما فعله ويفعله المسلمون الخلص كل يوم وبلغ به الأعاجم مكانة في اللغة بزوا فيها العرب وما كانوا ليبلغوها لولا هذا الحافز الديني.(29/254)
كان هذا القدر كافياً في الدلالة على أنه ليس ثمة ما يحرم ترجمة معاني القرآن لأي لغة أخرى بغرض تبليغ الدعوة الإسلامية إلى القاصي والداني، وما دامت الترجمة لم تحرم بالنص الشرعي ولم يجمع على تحريمها بناء على ذلك فقد أصبحت من الأمور الجائزة شرعا عملا بقاعدة: (إن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد الحظر) .
ولكن الترجمة في نظري تتمتع بما هو أكثر من الجواز الشرعي فبينما انعدمت واندفعت النصوص والأدلة المانعة لها تضافرت الأدلة القوية المجوزة والموجبة لها، ابتداء من عمل وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم للترجمة وانتهاء بالشروح والتفسيرات والتخريجات المبنية على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وسبل الاجتهاد الأخرى.
وفوق هذا وذاك هناك توجيه ثالث ينبغي أن لا يفوت على المسلمين: ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتعثه الله خاتما للنبيين وأرسله إلى الناس كافة بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون أرسله بشيرا ونذيرا ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. فقال تعالى:
1- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [28] .
2- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [29] .
3- {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [30] .(29/255)
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء هذه الرسالة وتبليغ الأمانة. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [31] . وقال صلى الله عليه وسلم في نهاية وصيته لأصحابه في حجة الوداع: "ألا هل بلغت". قالوا: بلى. قال: "اللهم فاشهد ثلاثا. ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى ممن سمع". كما ينبغي أن يؤدى الواجب وأمر المسلمين أن يحملوا الراية من بعده إلى يوم الدين إذ لا نبي بعده.
وكما يقول الإمام الشاطبي: "وذلك أن العالم وارث النبي صلى الله عليه وسلم فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم والدليل على ذلك أمران: أحدهما: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثاً قيامه قيام مورثه في البيان وإذا كان البيان فرضاً على المورث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضاً، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة وبين أصول الأدلة في الإتيان بها فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ.
والثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} .
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .(29/256)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} . والآيات كثيرة وفي الحديث: "ألا يبلغ الشاهد منكم الغائب". وقال: "لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". وقال: "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل". والأحاديث في هذا كثيرة ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم" [32] .
ومعلوم لدى الكافة أن الرسالة الإسلامية لم تصل بل ولم تبلغ صحيحة لكثير من أمم العالم اليوم فما على المسلمين إلا أن يشمروا ساعد الجد وأن يسعوا في تبليغها حية وصحيحة بكل سبيل إلى الناس أجمعين وما الترجمة إلا واحد من هذه الوسائل التي يمكن أن يؤدي بها هذا الواجب الذي حملوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الله من قبل حيث قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [33] .(29/257)
وصحيح ما أعرب عنه الكثيرون من أن الترجمة لا يمكن أن تنقل المعاني القرآنية بكل دلالاتها وإيقاعاتها، بكل سحرها وروعتها المؤثرة في النفوس الملينة للقلوب، إلا أنه ومن خلال التجارب والترقي في فنون الترجمة القرآنية سيصل المسلمون - ما أخلصوا النية - إلى مستوى من الترجمة معقول ومقبول، ولقد نشأت الآن بعض الدراسات ورصدت بعض الملاحظات التي من شأنها أن تهدي إلى إزالة كثير من القصور الذي صاحب التراجم الأولى وعلى كل فما يدرك كله لا يترك كله ويقرر ذلك في بساطة الأستاذ محمد أسد في مقدمة ترجمته للقرآن فيقول: دون سائر الكتب فإن معاني القرآن وتعبيراته اللغوية يكونان كلا لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، ذلك أن مكان الكلمة من الجملة وموسيقى العبارات والتركيب العضوي للجمل القرآنية والهيئة المثلى التي تتدفق فيها العبارات القرآنية الرمزية إلى دلالات واقعية حية بإيقاعات ونبرات محكمة مؤثرة، كل هذا يجعل من القرآن عملاً فريداً يعجز البشر عن ترجمته وفقاً لهذه الخصائص إلى أي لغة أخرى إلا أنه من الممكن أن تترجم رسالته (معانيه) بلغة معبرة ومفهومة لقوم كالغربيين لا يعرفون العربية البتة وكمعظم المسلمين غير العرب الذين لا تسعفهم حصيلتهم من العربية إلى أن يجدوا سبيلهم إلى القرآن دون مساعدة [34] .
إن واجب المسلمين تجاه العالم اليوم لأكبر من أن يؤدى بمجرد ترجمة القرآن وإنما يحتاج لمجهود أكبر من ذلك، فهو عالم حائر يتخبط ذهبت به المادة مذاهب ليس فيه المزيد من القوى لتحملها كما لم يعد في المادة نفسها مزيدا من البريق والجاذبية لتلهيه وتجذبه ... فضل أيما ضلال فما على المسلمين إلا أن يقدموا له الإسلام حيا يسعى بأعمالهم قبل أقوالهم.(29/258)
ولكي يتسنى للمسلمين أن يضطلعوا بهذا الدور الكبير والخطير لابد من أن يحرروا له فكرهم من معتقلات عصر الجمود الطويل ومن شعاراته التي تقول: ليس في الإمكان أحسن مما كان هذا وأن التحرر الفكري للاجتهاد العصري لن يتم بمجرد الوعي بأهميته وإنما لابد له من فهم واسع وعميق للشريعة واستخدام صحيح للطبيعة على ضوئه، إذا لن يتأتى إسهام فكري وعلمي جديد ذو شأن في هذا العصر إلا كان ناتجه رائدا على ناتج المعدلات الفكرية والعلمية الحاضرة والمتصوِرة. وحيث أن المعدلات الراهنة تتنافس في حيز ضيق في القمة، فدربها قد أصبح مسدودا لكل طامح. ولا يلوح في الأفق فكر - سوى الإسلام - يمكن أن يأتي بمعدلات جديدة. وذلك لما فيه من إمكانية التزاوج بين علوم الشريعة والطبيعة بما يحقق التكامل الفطري الذي يفتقده الإنسان المعاصر، لأن الحضارة المادية سلبته جل مقوماته الروحية، وأي تصحيح لها من داخَله سيقلب كفة الميزان على غير هدى كما نشاهده في حركات الرفض الغربية والتصوف الإسلامية والرهبنة النصرانية، وما يرشح الإسلام للقيام بهذا الدور هو قدرته على الاحتفاظ بكَفتي الميزان في اعتدال، ومن هنا يأتي الإسهام بمعدلاته الجديدة الكاسحة إن شاء الله - فقد يتطلب الأمر من المسلمين فهما للإسلام أكثر إحاطة وعمقاً لكل من علم الوحي المنزل – الشريعة - وعلم الكون المفتوح- الطبيعة- ومن ضمن ما ينبثق عن علم الوحي الاستخدام الصحيح لعلم الطبيعة حتى يتم التزواج بين العلمين في اتساق وانسجام ليعطي كفاية إنتاجية عالية، لأن تفجير طاقات الإنسان بواسطة هذا التزاوج الواعي يفوق كل أسباب الدفع والحوافز الحالية، بل إنها جميعا كسر صغير من أسباب الدفع الديني في الحياة تحت ظل العقيدة الإسلامية.
خاتمة(29/259)
ولقائل أن يقول علام هذا الجهد في أمر قد أصبح مطروقا ومألوفاً ومعمولاً به عند الناس؟ وهو اعتراض صحيح من وجه ولكن رغم العمل والألفة فمازال يحيك في صدور الكثيرين منا شيء من الوجل وعدم الاطمئنان لموضوع الترجمة مثلاً في الاعتراضات القوية التي أثبتناها من قبل، وما مثل هذا الجهد المتواضع إلا كمثل إبراهيم عليه السلام حين سأل ربه ضارعا: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [35] .
فلو أفلح هذا في إدخال الطمأنينة إلى نفوس أولئك الذين كانت تحيك في صدورهم أشياء من الترجمة لكفى به جهدا والله المستعان وعليه التكلان......
--------------------------------------------------------------------------------
الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (1/82) . مطبوعات محمد علي صبيح. بميدان الأزهر بمصر.
[1]
أصول فخر الإسلام - اليزدوي مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري (1/21-25) 1307.
[2]
تفسير النيسابوري المطبوع بهامش تفسير الطبري: لمؤلفه الحسن بن علي بن محمد بن حسين القصي النيسابوري (1/80) المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق – مصر - 1223 – الطبعة الأولى.
[3]
المرجع السابق.
[4]
المرجع السابق
[5]
إن ذلك مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - بدليل جواز القراءة بالفارسية عنده في الصلاة.
[6]
كشف الأسرار لعبد العزيز اليزدوي البخاري (1/26-27)
[7]
تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري (1/80)
[8](29/260)
القوانين الفقهية لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزى (ص:44) الطبعة الأولى1977م. دار القلم -بيروت- لبنان.
[9]
تفسير النسابوري أعلاه (1/81) .
[10]
فتح الباري لابن حجر العسقلاني (17/299-300) .
[11]
كشف الأسرار (1/25-26)
[12]
الفرقان لمحمد محمد عبد اللطيف بن الخطيب (ص 221) الطبعة الأولى (1367-1948) مطبعة دار الكتب المصرية - القاهرة.
[13]
دلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس (ص 186) الطبعة الثانية، (1963) مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة.
[14]
فتح الباري بشرح صحيح البخاري (17/299-300) شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر: 1387
[15]
فتح الباري لابن حجر العسقلاني (19/299-301) .
[16]
انظر: ص
[17]
إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني الموضوع بها من الأنفاق في علوم القرآن للسيوطي
[18]
الفرقان (ص 222) .
[19]
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل –لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري.
[20]
فن التدريس للتربية الإسلامية (ص 522) .
[21]
ترجمة بتصرف.
[22]
المرجع السابق: ترجمة بتصرف.
[23]
الفرقان (ص: 228) .
[24]
الإتقان في علوم القرآن (2/116-117) .
[25]
المرجع السابق.
[26]
المرجع السابق: (ص: 119) .
[27]
الفرقان: (1)
[28]
النساء: (174) .
[29]
الأنعام: (19) .
[30]
المائدة: (67) .
[31]
الموافقات في أصول الأحكام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (3/176) . المطبعة السلفية بمصر.
[32]
الأحزاب: (72) .
[33]
الترجمة بتصرف.
[34]
البقرة: (260)
[35](29/261)
تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
-2-
للدكتور ملك غلام مرتضى
رئيس قسم الترجمة بالجامعة
في هذه الحلقة أتم ما بدأت من موضوع تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
8- السيدة: جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها:
وكانت أرملة ماتع بن صفوان الذي كان من ألد أعداء الإسلام وأشدهم خصومة للرسول صلى الله عليه وسلم. كان قد قتل يوم المريسيع خلاله غزوة بني المصطلق وتركها فوقعت أسيرة في يد المسلمين، وهي أيضا بنت الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق الذين كانوا يتآمرون على المسلمين وأحيانا يغيرون عليهم ويوقعون بهم الضرر.
وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة- رضي الله عنها تعالى- أنها قالت:
"أصاب رسول الله خير نساء بني المصطلق، فأخرج الخمس منه ثم قسمه بين الناس، فأعطى الفرس سهمين والرجل سهما، فوقعت (جويرية بنت الحارث) في سهم ثابت بن قيس، فجاءت إلى الرسول فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمت، وقد كاتبني ثابت على تسع أواق، فأعني على فكاكي، فقال عليه السلام: "أو خير من ذلك؟ ". فقالت: ما هو؟. فقال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". فقالت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: "قد فعلت".
فلما علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا قالوا: "أصهار رسول الله يسترقون؟ ". فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقهم مائة بيت بزواجه عليه السلام بنت سيد بني المصطلق.(29/262)
ولم يسع لبني المصطلق بعد إطلاق سراحهم والإحسان عليهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلا أن يسلموا ويتخلصوا من حقدهم على الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن جرائم قطع الطريق والغارات التي كانوا يشنونها على ديار المسلمين (كانت هذه القبيلة من قطاع الطريق) . وقد ورد في بعض الروايات أنه وصل أبو السيدة جويرية لعتقها من الأسر قبل زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم وأراد أن يأخذها معه ويدفع تسع أوقيات من عنده وهنا ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للسيدة جويرية أن تختار بين أمرين.
(1) إما أن تذهب إلى قبيلتها مع أبيها.
(2) وإما أن تسلم وتختار الزواج بالرسول صلى الله عليه وسلم فاختارت الإسلام والزواج بالرسول صلى الله عليه وسلم على الكفر والرجوع إلى أهلها وقبيلتها.
فكان هذا الزواج بركة عليها وعلى أهلها وقبيلتها لأنه كان سببا لإسلامهم وعتقهم وترك أعمال قطع الطريق، فقال الناس: "إن جويرية أيمن امرأة على قومهَا".
من هنا نرى أن هذا الزواج كان ميمونا على بني المصطلق لأنه استبدل عداوتهم للإسلام إلى حبهم لله والرسول والإسلام وهو مبارك على المسلمين أيضا لأنه خلصهم من غَارات بني المصطلق ومؤامراتهم وبدأ بنو المصطلق يساعدون المسلمين ويجاهدون في سبيل الله.
9- السيدة: أم حبيبة- رضي الله عنها:
وهي بنت أبي سفيان الذي كان في جاهليته (ألد أعداء الإسلام بعد أبي جهل) وكانت قد أسلمت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فرارا بدينها، ومات زوجها في الحبشة فأصبحت وحيدة ليس لها كفيل ولا معين، إن هي عادت إلى أبيها في مكة المكرمة فالنتيجة واضحة، ستجبر على الرجوع إلى الكفر قهرا وإلا عذبت عذابا شديداً، أما في المدينة المنورة فليس لها من يكفلها ويرعاها.(29/263)
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بوفاة زوجها، خطبها وأرسل إلى النجاشي ملك الحبشة ليزوجه إياها، فلما علمت السيدة أم حبيبة بما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فرحت وسرت سرورا عظيما ووافقت على هذا الزواج، فزوجها النجاشي بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا أخرى ثمينة وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة فوصلت في سنة سبع من الهجرة إلى المدينة المنورة، وكان عمرها حينئذ سبعاً وثلاثين سنة، ولما علم أبو سفيان بهذا الزواج أقره وقالت: "هو الفحل لا يقدع أنفه". ونرى حكمة بالغة وراء هذا الزواج وهي تأليف قلب أبي سفيان وقومه فصار هذا الزواج سبباً لتخفيف الأذى عن المسلمين في مكة المكرمة وأصبح أكثر ميلا إلى الصلح، فنراه قادما إلى المدينة المنورة لتجديد الصلح ويزور ابنته في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم والابنة تقنعه أنه لا كرامة لأي إنسان إلا بالإسلام وإن كان والدها، فمن الواقع أن أبا سفيان ما جاء غازيا ضد أهل المدينة بعد هذا الزواج.
10- السيدة: صفية -رضي الله عنها:
وكانت سيدة بني قريظة وأيضا سيدة بني النضير وهما قبيلتان من اليهود عقدتا صلحاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم نقضتا العهد غدرا وخيانة. والسيدة صفية ابنة حيي بن أخطب الذي كان سيد بني قريظة ومن ناحية الأم هي ابنة صيمويل الذي كان سيد بني النضير. وكانت السيدة (صفية) قد أسرت بعد مقتل زوجها في غزوة خيبر وروي أنها - رضي الله عنها - لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لم يزل أبوك من أشد اليهود عداوة لي حتى قتله الله". فقالت: "يا رسول الله إن الله يقول في كتابه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ".(29/264)
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اختاري فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك"، فقالت: "يا رسول الله لقد هويت الإسلام، وصدقت بك قبل أن تدعوني إلى رحلك ومالي في اليهودية أرب، ومالي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام فالله ورسوله أحب إلي من العتق، وأن أرجع إلى قومي". فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه. ونرى كثيراً من اليهود أسلموا بعد هذا الزواج، ولا نراهم يتآمرون ويؤلبون قبائل العرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده.
11- السيدة: ميمونة -رضي الله عنها:(29/265)
كانت السيدة (ميمونة) قد تزوجت مرتين قبل زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم ومات زوجها الثاني (أرحم بن عبد العزى) في السنة السابعة من الهجرة، وهي أيضا أخت أم المؤمنين (زينب بنت خزيمة) من ناحية الأم. وكان في هذا الزواج مصلحة كبيرة لأن السيدة ميمونة كانت أخت زوج سيد بعض قبائل عربية تآمرت على الإسلام والمسلمين إذ طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل سبعين من الفقهاء ليعلموهم الدين وما لبثوا أن غدروا بهؤلاء المبعوثين فقتلوهم عن بكرة أبيهم، واستمروا على عدائهم، حتى أن تمت مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لسيدهم بزواجه ميمونة - ضي الله عنها - وجدير بالذكر أن نقف برهة لنميز بين هذا النوع من الزواج بين ملوك وأباطرة العالم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذه الزيجات كانت معروفة لدى أباطرة العالم بمصاهرة أعدائهم إتقاء شرهم ولكسبهم إلى صفوفهم أو ضمان حيادهم على أقل تقدير ويكون الإصهار دائما في جانب قوي. لا يتمكن الصهر من كسر شوكتهم ... أما الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن زواجه من هذا القبيل وإن اتفق في النهاية بمصاهرة أقوام ناصبوه العداء فمصاهرته لم تكن خاضعة للمفاوضات والمبادلات، ولكنه مصاهر بعد كسر شوكتهم وتغلبه عليهم ودحرهم وحتى لم يكن هناك طلباً رسميا مقدم إلى رئيس القبيلة أو القوم المعاديين لهذه المصاهرة.(29/266)
والجانب الآخر أن الإسلام لم يكن قط طريقا للعبودية والسخرة التي دأبتها البشرية في عصورها وما تناله النساء خاصة بعد انكسار قواتهم في الحروب من هتك لأعراضهم وذل وعار بهيمي في الدرك الأسفل من البهيمية، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته قدوة للمؤمنين، خيرهن بين خير الإسلام وعتقهن، ومن ثم تشريفهن بالزواج بعد إيمانهن لا بالرق ليتمثل به المؤمنون ... والوقائع تشهد لنا بذلك والقرآن الكريم يؤكد هذا الأمر: {وَلأََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .
مزاعم أعداء الإسلام ودفعها:
يزعم أعداء الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عدد زوجاته لإشباع رغباته، وفيما سبق أشرت بإيجاز إلى الظروف والملابسات التي أدت إلى كل زيجة من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم ومنها يمكن أن يرد على أولئك الأعداء فيما يزعمون من جهة، ومن جهة أخرى لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعمون لما ظل وفيا لخديجة -رضي الله عنها- التي كانت قد بلغت الخامسة والستين من العمر وهو ما يزال في الخمسين من عمره، فكيف يقنع بامرأة متقدمة في السن تكبره خمس عشرة سنة ولا يختار امرأة أخرى حتى توفيت وهي في الخامسة والستين من عمرها، فهل يمكن لرجل شهواني أن يصبر على شهوته إلى هذا الحد حتى يهرم ويصير شيخا كبيراً؟.
فضلا عن ذلك، فإن قريشا عرضت عليه صلى الله عليه وسلم أن ينصبوه ملكا عليهم، وأن يزوجوه أجمل النساء على أن يترك دعوته ولو كان كما يزعم أعداء الإسلام لرحب بهذا العرض، واختار لنفسه إحدى الشابات الجميلات.
ولكنه عاش حياة البساطة والتقشف رغم أن الله تعالى يسر للمسلمين غنائم كثيرة.
وأسوق شاهدا لهذا حادثين موجزين فيما يلي:-
1- حادث الإيلاء:(29/267)
عندما كثرت الفتوحات والغنائم والأموال، طالبت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة يسيرة في نفقات المعيشة حتى ينتقلن من حياة الفقر إلى حياة اليسر والراحة مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم إزعاجا شديداً. وعندما علم سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر بهذا جاءا إلى بنتيهما أم المؤمنين السيدة عائشة وأم المؤمنين السيدة حفصة ونبهاهما إلى قلق النبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهما، أما الأزواج الأخريات فلم يرق لهن تدخل أبي بكر وعمر وأصررن على المطالبة بزيادة النفقات على أساس أن ما يطلبن يعتبر شيئا يسيرا بل متوفرا لدى غالبية المسلمين، وجئن بدليل قوي وهو أنهن قد صبرن على آلام الفقر والحرمان والمسكنة في الماضي، أما بعد أن أفاء الله بنعمائه وكثرت الأموال والغنائم والجواري فلم يبق أي مبرر لاستمرار حياة الفقر والمسكنة والجوع والفاقة.
فانزعج النبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه هجر أزواجه كلهن لشهر كامل والتزم الصمت معهن حتى ذل بين الناس أنه قد طلقهن.
2- حادث التخيير:
هذا الحدث تتمة لحدث الإيلاء، فعندما ظلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مصرات على طلب زيادة النفقات، أنزل الله سبحانه آيات التخيير وجعلهن يخترن بين أمرين:
(1) إما الحياة مع الرسول صلى الله عليه وسلم مع الفقر والمسكنة.
(2) وإما الحياة بدون الرسول صلى الله عليه وسلم مع رغد وبحبوحة في العيش وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} . (سورة الأحزاب: 28-29) .(29/268)
فخير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته بين الأمرين وأسمعهن هذه الآيات. وقال للسيدة عائشة: "تشاوري مع والديك ولا تتعجلي في الأمر" فردت على الفور: "هل أتشاور في الله والرسول يا رسول الله؟ ".
والمعروف أن كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم اختارت الله سبحانه وتعالى والنبي صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة مع حياة الفقر والفاقة والمسكنة والتقشف والبساطة حتى شهد التاريخ أنه ما كان يوجد زيت للإنارة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم انتقل إلى رحاب الله.
فهل يمكن هذا لرجل غير النبي أن يعيش مثل هذه العيشة ويجبر زوجاته أيضا عليها؟.
والشخص الذي يتدبر هذه الأمور ويتعرف على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما حياته العائلية لا يمكن أن يتهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالشهوانية والتكالب على الملذات الحسية لو كان لهذا الشخص أدنى وازع من الضمير أو لديه ذرة من الحياء والخجل.
المصالح والغايات وراء تعدد الزوجات:
وهي خمسة أقسام:-
(أ) المصالح التعليمية.
(ب) . المصالح التشريعية
(ج) .المصالح الاجتماعية
(د) المصالح السياسية.
(ر) .المصالح الشخصية
والآن لنتناول بإيجاز كل من هذه المصالح الخمس:
أ - المصالح التعليمية: المرأة كما هو معروف نصف المجتمع لذلك كان لابد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يهيئ معلمات ومفتيات لتبصير نساء المسلمين بأمور دينهن.
فهذه هي الحكمة الأساسية وراء تعدد الزوجات، وقد عرفنا أن السيدة عائشة ظلت تدرس وتبلغ تعاليم الإسلام وتفتي في الكثير من المسائل الهامة ثماني وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل ربع الأحكام الشرعية إلى الأمة الإسلامية من خلال توجيهاتها ومساعيها، ومن هنا تتضح لنا المصلحة وراء زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة وهي صغيرة السن.(29/269)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم (أشد حياء من العذراء في خدرها) وهكذا يكون الأنبياء فما كان يمكنه أن يرد على كل سؤال يوجه إليه من جانب النساء بكل صراحة فكان يجيب بأسلوب الكناية أو يستعين بإحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن رواية السيدة عائشة –رضي الله عنها - أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الغسل من المحيض فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل، ثم قال لها: "خذي فرصة ممسكة (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهري بها"، قالت: "كيف أتطهر بها"، قال: "تطهري بها"، قالت: "كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ ". فقال لها: "سبحان الله تطهري بها"، قالت: السيدة عائشة: "فاجتذبتها من يدها فقلت ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم".
وهكذا كان هناك الكثير من الأسئلة المحرجة لاسيما عن أحكام الحيض والنفاس والجنابة فكانت تجيب عنها زوجاته الطاهرات في أكثر الأحيان في حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم والسنة المطهرة بعد القرآن الكريم هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام وتشتمل على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وتقريره ولا يمكن لأحد أن يعرف ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو تقرير إلا أن يكون معه في جميع الأوقات حتى خلال أوقات فراغه متابعاً لكافة حالات فرحه وغضبه ويسره وعسره ويصاحبه في كل أمور حياته مهما كانت هامة أو بسيطة، عامة أو شخصية.
وهذا الشرف لم يقدره الله سبحانه وتعالى إلا لزوجاته صلى الله عليه وسلم اللاتي ظللن يصحبنه طوال حياته إلى لحظة انتقاله إلى الرفيق الأعلى. فلهذا نرى أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يستفتون أمهات المؤمنين -رضوان الله تعالى عليهن أجمعين- فيما يعن من أمور هامة في حياة المسلمين العامة والخاصة.(29/270)
ويقول الإمام الزهري التابعي: "كانت عائشة أعلم الناس يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". (طبقات ابن سعد: ج 2: قسم 2: ص 26) .
ب- المصالح التشريعية: كما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيق بعض الغايات التشريعية ومنها إبطال بعض العادات التي سادت زمن الجاهلية مثل التبني والتآخي.
كان بعض الناس من العرب يقول للآخر: "أنت ابني" فكان يتخذه ابنا حقيقيا فكان له حكم الأبناء من النسب في جميع الأحوال، في الزواج والطلاق ومحرمات النكاح ومحرمات المصاهرة والميراث.
وكذلك كان بعض الناس يقول للآخر: "أنت أخي"فكان يتخذه أخاً حقيقيا بنفس الطريقة وكان يحل له كل ما يحل للأخ الحقيقي ويحرم عليه كل ما يحرم على الأخ الحقيقي أيضا.
فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة التبني بزواجه بمطلقة متبناه زيد وهي أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش. الحق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أيضا من ألسنة الناس ويتردد في هذا الزواج فنزلت الآية: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} . فالنقطة الهامة أنه ما كان لأي إنسان غير النبي يستطيع أن يبطل عادة التبني إذا لم يبطلها النبي صلى الله عليه وسلم لخشيته من الناس. ففرض الله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الزواج ليبطل نظام التبني.
وبالمثل فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم عادة التآخي بزواجه بأم المؤمنين السيدة عائشة لأنها ابنة أخيه في الإسلام سيدنا أبي بكر الصديق. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق أن ذكرنا "أنت أخي في الإسلام" ولا يعني هذا أنك أخي من ناحية النسب. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التآخي في الإسلام والأخوة على أساس النسب.(29/271)
ج- المصالح الاجتماعية: حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يربط أهم وأبرز أعضاء الأمة الإسلامية بعضهم ببعض عن طريق المصاهرة فمثلا زواجه بالسيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق والسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب جاء تتويجا للوشائج الوثيقة التي ربطت بينه وبين أهم وأعظم أصحابه وهما سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر بن الخطاب اللذان أسديا خدمات جليلة للإسلام والمسلمين وقد تقلد كل منهما أمور المسلمين بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن ناحية أخرى فقد زوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعض بناته بسيدنا عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وقربهما إليه وقد كان هذا حافزا لهما بالتضحية في سبيل الله بكل شيء. وهكذا صار سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي من أعاظم الرجال وأتقاهم وأقربهم إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
د- المصالح السياسية: ونرى الكثير من المصالح السياسية التي تحققت من وراء زيجات النبي صلى الله عليه وسلم فمثلا زواجه بالسيدة جويرية بنت سيد بني المصطلق، وعتق أسرى بني المصطلق فأسلموا وتخلوا عن أعمال قطع الطريق وغاراتهم التي كانوا يشنونها ضد المسلمين ولا نرى أية مؤامرة يحيكها بنو المصطلق ضد المسلمين بعد هذا الزواج.
وهكذا زواجه بالسيدة صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني قريظة قد خفف بل قضى على موقف العداء الذي وقفه اليهود ضد الإسلام ووضع حداً لمؤامرتهم ضد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الزواج. وهكذا زواجه بالسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان سيد قريش، فنرى أبا سفيان الذي كان ألد أعداء الإسلام قبل إسلامه، خفيفا غير ممعن في عداوته ضد الإسلام حتى جاء إلى المدينة المنورة يلتمس تجديد عقد صلح الحديبية ولا نراه يأتي غازيا إلى المدينة المنورة بأحزابه بعد هذا الزواج.(29/272)
وزواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة ميمونة أخت زوج سيد بعض قبائل سعت فسادا في الأرض واغتالت سبعين من كبار الصحابة بالمكر والخديعة، كان له أثر بالغ في تلطيف مخاصمة هذه القبائل للمسلمين.
ر- المصالح الإنسانية: وهناك المصالح الإنسانية أيضا وراء بعض زيجاته صلى الله عليه وسلم، فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعض النساء رأفة بهن بسبب ظروفهن الخاصة، وكانت هناك بعض النساء العجائز اللاتي مات عنهن أزواجهن فلم يبق لهن سند أو معين في الحياة أو هناك الأمهات اللاتي افتقدن الكفيل لهن ولأطفالهن، وكانت هناك بعض الأرامل اللاتي لو رجعن إلى أهلهن لعذبن عذاباً شديدا ولفتن فتونا كبيراً، فتزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيانة لهن ورعاية لإنسانيتهن فمنهن السيدة
سودة -رضي الله عنها- (عمرها 55 سنة وقت الزواج) . والسيدة زينب بنت خزيمة (كان عمرها 65 سنة حينئذ) . والسيدة أم سلمة - رضي الله عنها - (كان عمرها حوالي 60 سنة حينئذ) .
فما رأي الأفاكين والمغرضين من المستشرقين في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسوة؟، هل تمت هذه الزيجات بدافع الأنانية كما يزعمون أو هو منتهى الإيثار
والتضحية وتكريم الإنسانية؟.
الخاتمة
إذا كان ذهن ومستوى فكر بعض الناس أضيق من أن يتصور حقيقة الكرامة والشرف للإنسان فما هو ذنب أهل الكرامة والشرف؟. وما على هؤلاء الناس إلا أن يعالجوا أذهانهم ومستوى فكرهم ويوسعوا أفق تصورهم. إنما الحق أن زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على نبوته ورسالته وهي دلائل قاطعة وبراهين ساطعة على أنه لم يأت ولن يأتي رجل مثل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضحى بكل ما يملك مرضاة لله سبحانه ثم حباً للإنسانية.
إن الرجل هو في الحقيقة أنقى وأطهر الناس في العالم بدليل أنه لا يختار لنفسه إلا الأرامل والعجائز والوحيدات اللاتي فقدن كل سند ومعين في الحياة.(29/273)
والسيدة عائشة هي الوحيدة بين كل أمهات المؤمنين التي كانت بكراً، وأما الأخريات فهن كلهن أرامل ومسنات - هل هذه شهوانية وأنانية أم هذه قمة الإنسانية؟. والأمر الهام جدا أن نرى هذه الزيجات في إطار الظروف والملابسات التي أحاطت الرسول الداعي إلى الإسلام وإمام الإنسانية، ما الذي كان يناسبه لنشر دعوته إلى الناس جميعا، فمنهم الرجال والنساء، ومنهم أصحابه وأعداؤه ومنهم قبائل العرب ودول العجم وقد أرسله الله رسولا إلى الناس كافة فكان عليه أن يؤم الحركة الإسلامية ويبلغ الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة، ويعطيها نفوذاً وقوة في كل مجال وفي كل ناحية. فإذا نظرنا إلى زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الناحية نرى أنها أمر لابد منه وهكذا سنة النبيين جميعاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين....(29/274)
العدد 61
فهرس المحتويات
1- الدَّعوَة إلى الله وَالوَاقِع المعاصِرْ: الدكتور عبد الله الصالح العبيد
2- آيةُ العَدَدِ: للشيخ أبي بكر الجزائري
3- الجَمَاعَة في ضوءِ الكتاب وَالسُّنَّةِ: للدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
4- فقه السُّنّةِ - صَلاة الجَمَاعَة: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
5- مِن مَزَايَا التشرِيع الإسلامِي: محمد بن ناصر السّحِيباني
6- مَنْهَجُ السَّلَفِ في العَقِيدَةِ وأثَرُهُ في: وحدَةِ المُسلِمِينَ: الدكتور صالح سعد السحيمي
7- أثر العقيدَة الإسلاميَّةِ في تضامُنِ وَوَحْدَة الأمَّةِ الإسلاميَّةِ: الدكتور أحمد سعد الغامدي
8- العِبَادَاتُ في الإسلام وَأثرُهَا في تَضَامُن المسلِمِينَ: للدكتور علي عبد اللطيف منصور
9- التضَامن الإسلامي: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
10- الإسلام يَسُدُّ مَنافِذَ الفرقة وَالاختِلاَف وَيَصُون عَوامِل الوحدة وَالائتلاف: للدكتور جمعة علي الخولي
11- مُرْتكزَاتُ التّضامُن وَالوَحْدَة: للشيخ عطيّة محمد سالم
12- كَيفَ أقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّل دَوْلة إسلاميَّة عَلى التضَامُنِ وَالوَحْدَة؟ : الدكتور محمد السيد طنطاوي
13- الفتح العُمَرِي لِلقدسِ نموذج للدّعوَة بالعمل وَالقدوَةِ: د. شفيق جاسر أحمد محمود
14- الإسْلاَمُ والمسلِمُونَ في إنجلتِرَا مَاضيهمْ وَحَاضرهم وَمسْتقبلهمْ (2) : للدكتور محمد إبراهيم الجيوشي
15- المشارق في المغارب: الدكتور عبد الله بن أحمد قادري
16- رسائل لم يحملها البريد: الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
17- حديث مع البلبل: محمد بن عبد الله زربان الغامدي
18- من تراثنا الشعري المعاصر المؤاخاة بين المهَاجرين والأنصَارِ: للشاعر أحمد محرم
19- الرَّأيُ العَامُ في المجُتمع الإسلامِيِّ: لِلدكتور إبراهيم زيد الكيلاَني
20- دَورُ الإعلاَمِ في التضَامُنِ الإسلاَمِي: الدكتور إبراهيم إمام
21- مِنَ الفَتَاوى الشرعيَّة: حُكْمُ الصَّلاةِ عَلى النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم والإشارة إليهَا بالحُروفِ: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
22- مختارات من الصحف: آراء ومواقف جَلالة الملك لخدمَة الإسلام بمناسَبَة اختياره لجائِزة الملك فيصَل
23- أحدَاث العَالمِ الإسلاميِّ: إعداد الشيخ محمد محمود سالم
24- أخبار الجامعة
25- القسم الإنجليزي (English Section)
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(29/275)
الدَّعوَة إلى الله وَالوَاقِع المعاصِرْ
الدكتور عبد الله الصالح العبيد
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله العزيز القائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد النبي الأمين خير من دعا إلى الله وآمن به وعمل لشرعه فكان القدوة المثلى والأسوة الحسنة ورضي الله عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:
فإنه لشرف للجامعة الإسلامية أن تحتضن المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة الذي ينعقد تحت موضوع (سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين) وفي نطاق الاستعداد لهذا المؤتمر يشرفها كذلك أن تصدر هذا العدد الخاص من
(مجلة الجامعة الإسلامية) الذي يضم بعض المقالات والبحوث والدراسات عن الدعوة من خلال اهتمامات المؤتمر.
وبين يدي هذه المناسبة أطرح هذه الأسطر التي تتعلق بمنهج الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ومتطلباتها إذ لعل في مناقشتها ما يلقي بعض الضوء في طريق الوصول إلى الحكمة المنشودة في هذا السبيل.
أهمية الدعوة:(29/276)
تكتسب الدعوة إلى الله أهميتها من أنها رسالة الله إلى الخلق وأمر الله الذي أراد من عباده أن ينهجوه، ومن هذه الأهمية يتسابق محبّوا الخير، وفي السباق يكون التنافس ومعروف أنه إذا لم يحكم التنافس منهج وضوابط فإنه يورث الحقد والكراهية والحسد. والضوابط التي يضعها الله سبحانه هي القول الحسن في الدعوة، والعمل الصالح في سبيلها، والانتماء الصادق لجماعة المسلمين، حيث يقول سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وهي مع هذه الالتزامات لا تقف على وسيلة معينة ولا على جماعة مخصصة أو بلاد محددة، إنها رسالة المسلم حيث وجد على ظهر الأرض أياً كان عمله وأينما كان مركزه وكيفما كان موقعه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وللحكمة أبعادها وآفاقها وللموعظة حكمها وأساليبها وللمجادلة أسبابها وآدابها والأمر مع كل ذلك لا يعني أن العمل في مجال الدعوة مطلق للفرد على عواهنه فالفرد يخسر بمفرده لكن للنجاة من الخسار عليه أن يعمل مع الآخرين لهدايتهم ومع الآخرين للاستعانة بهم يقول عز وجل {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .(29/277)
ومع هذه المسئولية الكبيرة والرسالة العظيمة يصبح من نافلة القول الإطالة في الحديث عن أهمية العلم والمعرفة للإنسان ولجماعة المسلمين قبل الدخول في مجالات العمل، ذلك أن المعرفة في دين الله وفي أصول الدعوة إذا لم تقم وتبنى على العلم الشرعي فسوف تقام وتبنى على غيره وأمر الله لا يقوم إلا على شرعه {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} ومن المسلم به عقلاً وشرعاً ألا يعبد الله إلا بما شرع. فالعلم بشرع الله أولا ثم الالتزام بالدعوة إليه ثانياً. من خلال المسئولية الفردية والتعاون الجماعي وعلى الأصل المشار إليه يتشكل منهج الدعوة إلى الله سبحانه ثم إن الدعوة بهذا تعتبر حركة مستمرة لا تنتظر مؤتمرات تعقد ولا اجتماعات ترتب إلا أن الاجتماع على الخير أمر مطلوب وتدارس أحوال الدعوة والدعاة إلى الله أمر مرغوب "ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ".
واقع الدعوة:(29/278)
ويعيش المسلمون هذه الفترة من حياتهم على الكثير من الخلافات والصراعات القائمة بينهم وبين أعدائهم من جهة وبينهم وبين أنفسهم من جهة أخرى. ويصعب في الوقت الحاضر التفريق بين الواجهتين الداخلية والخارجية ذلك أن الأعداء نقلوا المعركة من المواجهة العسكرية المكشوفة بعد فشلهم فيها وتحرر بعض البلدان الإسلامية من ربقة الاستعمار، نقلوها في كثير من المواقع إلى مواجهات بين المسلمين أنفسهم من خلال زرع بذور الفتنة والخلافات العنصرية والعصبية والقبلية وأن يتسمى بالمسلمين من ليس منهم فيؤسسون الجمعيات ويقيمون الجماعات كيما يضرب المسلمون رقاب بعض ويستعين بعضهم بأعداء الله لقتال البعض بل لقتال المستقيمين منهم على أمر الله. لقد كان من المقبول في السابق أن تعيش القبيلة على تعدد فصائلها والدولة على شتات أقاليمها واختلاف تضاريسها وخلفياتها أيام الاستعمار. أما الآن فأصبح ذلك من سمات التخلف وصفات الماضي التي يجب أن لا تعود وأضحى من اللازم أن تتفرع القبيلة وتتشتت الأسرة الكبيرة وتتوزع الدولة إلى دويلات كيما تكون دواعي الافتراق أقوى من دواعي الالتقاء وعوامل الاختلاف أكبر من عوامل الائتلاف وليس بخاف على كل مسلم مدرك ما يعايشه المسلمون اليوم من جراء ذلك ولكن بفضل الله ومنته- تولدت بين المسلمين عودة إلى دين الله واستعادة لمنهج الله فبقدر ما لقوا من العناء وما كابدوا من الشقاء عملوا بقوة واندفاع لاستعادة المكانة وإعادة البناء، وفي ظل هذه الظروف وملابساتها كانت الصحوة الإسلامية المعاصرة التي بدأت بيئية وإقليمية بحكم المعايشة للظروف المحلية ثم انتقلت إلى صيغة الشمول والعالمية بحكم ما جد في العلاقات والاتصالات والمصالح والروابط الدولية، لقد حققت الدعوة الإسلامية في العصر الحديث جانبا هاما في سبيل التضامن الإسلامي وتحقيق وحدة المسلمين، ولكن ما يخشى هو ألا تستمر الجماعات والجمعيات الإسلامية في أداء هذا الدور(29/279)
بل إن ما يخشى منه أكثر أن تكون بعض تلك الجماعات والجمعيات نقطة ضعف في تضامن المسلمين وتحقيق وحدتهم ولذا فلابد من مواجهة الواقع من قبل العاملين في مجال الدعوة الإسلامية ومن قبل القادة والمسئولين في مجال تلك الجماعات والجمعيات بدراسة الوضع ومعالجته. وليست هذه العجالة مكانا لتشخيص الداء ولا لوصف الدواء، ولكن بقدر ما تقدم من لمحة عن أهداف الدعوة إلى الله وما يستعرض من أسباب أدت إلى الصحوة الإسلامية المعاصرة بما فيها من سلبيات وإيجابيات ما يمكن أن ينظر على ضوئه - وما يمكن أن يضاف عليه- في منهج للتفكير في مواجهة التحديات الجديدة والصراعات القائمة.
من أسباب وظواهر الصحوة الإسلامية:
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى الصحوة الإسلامية المعاصرة وما اكتنف تلك الأسباب من سلبيات ما يلي:
أولاً: إن المسلمين قد تجاوزوا مرحلة من مراحل الجهل التي ضربت أطنابها على بقاعهم فانتشر التعليم وتوسعت دوائر المعرفة وتعددت وسائل الإعلام والنشر وأصبحت وسائل التعريف بالدعوة بين المسلمين في وضع أفضل مما كانت عليه في الفترة الممثلة لعصر التخلف والانحطاط. ومع أن المناهج والبرامج التعليمية والإعلامية لم توجه التوجيه الديني الكافي إلا أن التوجيه الديني كان قويا حتى بين صفوف المشتغلين بالعلوم التطبيقية والذين حصيلتهم الدينية من خلال المناهج التربوية بسيطة وعامة. إلا أن الوسائل والمؤسسات العاملة في مجالي التعليم والإعلام لم تسلم من التأثيرات الخارجية وضعف التجربة الذاتية. كما أن الكتاب الإسلامي لم يسلم من سبل الارتزاق والمتاجرة.(29/280)
ثانياً: قيام بعض الحركات الإصلاحية في الجزيرة العربية والهند ومصر والسودان وتونس وغيرها من بلاد المسلمين مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمهدية والسنوسية وأهل الحديث وأنصار السنة والجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون وما تولد عن تلك الحركات من نشاطات وما صاحب ذلك من تضحيات بالأموال والأنفس والثمرات وما نتج عن ذلك كله من تمدد وانكماش وما رافق العنف الذي حوربت به تلك الحركات والنشاطات من تعاطف مع التوجيه الديني فالملاحظ أن الضربات التي واجهت تلك الحركات قد أضعفت الحركة نفسها لكنها ضاعفت من النشاط الإسلامي من المتعاطفين مع العمل الإسلامي حتى أصبحنا نرى ما بين فينة وأخرى ميلاد جماعات جديدة وأصبحت العواطف وردود الفعل هي الموجه حتى كان حرب القلم واللسان التي مر بها العالم الإسلامي في مرحلة ما تعود اليوم وقد حملت مع القلم واللسان السيف والسنان.(29/281)
ثالثاً: الاتجاه الرسمي الجديد من قبل بعض القيادات السياسية في العالم الإسلامي إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية مثل ما حصل في الباكستان والسودان مما يدل على فشل النظم والمبادىء المستوردة، وإن الممارسات المبنية على تلك النظم والمبادىء لم تحقق آمال وتطلعات المسلمين في تحكيم شريعة الله في الأرض. لقد أعطى هذا الاتجاه التوجه لمراجعة حصيلة المسلمين من العلوم والمعارف الشرعية وإجراء المزيد من الدراسة والبحث في تلك العلوم والمعارف من أجل التطبيق على أرض الواقع كما بعث روح التفكير في طبيعة الحياة الإسلامية المتكاملة لدى المسلمين وغيرهم وما يمكن أن تقدمه التجربة الإسلامية في مثل تلك البلدان بعد أن مرت بالعديد من التجارب ذلك أن النظام العام لا يمس كل فرد في الدولة فقط بل يتعداه إلى من هم خارج الدولة بحكم العلاقات المتبادلة ووسائل الاتصال المترابطة وعلى كل فليس ما تم أو أعلن عن التوجه إليه في تطبيق أحكام الشريعة هو نهاية المطاف إذ أن ذلك إنما يمثل جانباً من جوانب تحقيق حكم الله سبحانه وتعالى في الأرض. ذلك أن الأمر يتطلب إعادة النظر في البناء الاقتصادي والسياسي والتربوي في تلك البلدان.
رابعاً: اهتمام الطبقة المثقفة والمتعلمة من غير المسلمين بدراسة الإسلام والتعرف عليه وإعلان العديد منهم اعتناق الإسلام وكان من أشهر من أسلم منهم من رجال الدين خليل إبراهيم ومن الأدباء ميشيل سركيوسكي ومن الباحثين فنسان منتيل ومن المؤرخين بنواميشان ومن الفلاسفة روجي جارودي.
قد دفع إسلام هؤلاء وما يقومون به من أبحاث ودراسات، دفع من يختلط بهم من المسلمين بحكم التعامل إلى العودة لتاريخهم وتراثهم كما وفر الكثير من القناعة لدى الشباب المسلم الذي انبهر بحضارة الغرب بضرورة العودة إلى دينه الأصيل والنهل من منابعه الصافية التي لم تكدرها التحزبات والطوائف والتجمعات المنحرفة.(29/282)
خامساً: دعم بعض الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية- التي قامت على أساس تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية- والمؤسسات والهيئات والأفراد في تلك الدول للنشاط الإسلامي مادياً ومعنوياً مما ساعد الهيئات والمنظمات والجماعات الإسلامية على تخطي بعض الصعاب وتجاوز بعض العقبات. إلا أن تلك المساعدات قد لا تنفق في وجهها المشروع مما جعل الثقة في بعض المشاريع الإسلامية تضعف وتهتز.
سادساً: قيام بعض التنظيمات والروابط الدولية وشبه الدولية بين بلدان العالم الإسلامي مثل رابطة العالم الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية والدعاة للتضامن الإسلامي التي تولاها جلالة الملك فيصل رحمه الله وما أسفرت عنه من عقد مؤتمر القمة الإسلامي وما انبثق عنه من منظمات ومقررات ومواقف. وقد كان لهذه الجوانب تأثيراً إيجابياً في سبيل تحقيق الشعور بالذات بين المسلمين وتقوية وتنمية الروابط فيما بينهم كأمة واحدة دولا وأقليات ولاجئين إلا أن هذه التنظيمات والروابط تحتاج إلى المزيد من الشعور بالأهمية والالتزام بالمسئولية من جانب جميع الدول الإسلامية من أجل تنفيذ القرارات وتحقيق الأهداف الإسلامية في كافة المجالات.
الحاجة لمراجعة واقع الصحوة:
وعند الرغبة في التفصيل فإن هذه العناصر تحتاج إلى المزيد من التسبير والتفريع، إلا أن الحاجة القائمة تدعو إلى تجاوز ذلك إلى النظر في توجيه هذه الصحوة من حيث الدوافع والمقاصد والنتائج.(29/283)
إن هذه الصحوة في معظم دوافعها ومقاصدها قد ارتبطت بمواجهة التخلف من جهة ومقاومة الاستعمار من جهة أخرى ولذا فقد اتسمت بالاندفاع الشديد المرتبط بالقوة العسكرية من جانب والاندفاع الفكري والجدلي من جانب آخر وهي أمور فرضتها الظروف وقد حققت تلك الأمور الكثير مما نتج عنه هذه الصحوة الإسلامية التي تعم ليس فقط أرجاء العالم الإسلامي بل العالم أجمع. وإذا كان ذلك أمر تطلبه وضع الدفاع فإن الأمر يحتاج اليوم إلى إعادة النظر في الأمور من أجل ترميم المواقع وترتيب الصفوف والاستعداد للمرحلة القادمة.
لقد كان من نتائج هذه الصحوة عودة الأذان إلى منابر الأندلس في الغرب وإلى منائر الصين في الشرق وإلى مواقعه القديمة في عمق العالم الإسلامي التي اسكت فيها فترة من الزمن كما امتد الأذان إلى مآذن جديدة في مواقع جديدة في أوربا وأمريكا واستراليا وأفريقيا وآسيا ولكن السؤال المطروح هو هل متطلبات ودوافع العمل الإسلامي في المستقبل هي نفس متطلبات ودوافع ذلك العمل في الماضي؟
ولن تكون الإجابة على هذا السؤال متطابقة نتيجة للظروف التي يعايشها المسلمون وهي ظروف متعددة ومتغايرة، ومع أن هذا التعدد والتغاير يكون في كثير من الأحيان مجالا للخلاف في الرأي والتباين في وجهات النظر إلا أنه ينبغي ألا يخرج إلى حد نقل المعركة من المسلمين وأعدائهم إلى ما بين المسلمين أنفسهم.(29/284)
لقد بات من الملاحظ وجود فراغات في بنية العمل الإسلامي وأخطاء في الممارسات القائمة في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فالدعوة تعاني من تشتيت الجهود بل تعارضها وتصادمها في كثير من الأحيان حتى انشغلت بعض الجماعات الإسلامية في محاربة بعضها بدلاً من توجيه السهام إلى العدو المشترك، كما تعاني من الشقاق داخل الجماعة الواحدة حتى أصبح منها اليمين واليسار والحمائم والصقور واندست في صفوف الدعوة جيوش النفاق التي كانت عاملا من عوامل ذلك الشقاق وتشتيت الجهود. كما كان من اهتمام بعض الجماعات الإسلامية بتكثير السواد وتجميع الأتباع أن يتحدث عن الإسلام من لا يعرفه ويدعو إليه من لا يلتزم به.
متطلبات الدعوة:
وأمام هذا الجانب من الصورة وهو الجانب السلبي نحتاج إلى وقفة وفي هذه الوقفة نستعرض شيئا مما يدعو إليه ديننا الحنيف وما يأمر به من توجيه في مجال أدب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(29/285)
يقول سبحانه وتعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ويقول سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ويقول سبحانه {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} ويقول سبحانه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ويقول سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ذلكم هو منهج كتاب الله ووصف الله للمؤمنين العاملين والدعاة الصادقين. أما رسول الهدى ونبي التقى فيقول "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" ويقول "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" ويقول عليه الصلاة والسلام " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" وذلكم هو منهج رسول الله وخلق رسول الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} .
وعلى ضوء هذه الأوامر والتوجيهات يمكن التركيز على أن المتطلبات والمقاييس الثابتة للدعوة هي:
أولاً: الانطلاق من وحدة الفكر والهدف من خلال التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى مهما كانت الظروف المكانية والمصالح الزمنية والتحديات الحضارية.
ثانياً: العلم بشرع الله والفهم الصحيح له على هدى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: العمل على أساس الصدق والإخلاص والتضحية والتجرد والتحلي بالحكمة والبصيرة في التلقي والتلقين لدعوة الله.
بين الواقع والمستقبل:(29/286)
وعلى ضوء هذه المتطلبات والمقاييس يجب وضع الضوابط الخاصة بطبيعة العمل وطريقة التحرك لمواجهة الظروف المكانية والمصالح الزمنية والتحديات الحضارية المعاصرة وهي أمور بلا شك تختلف في عدة جوانب عن الظروف والمصالح والتحديات التي دعت إلى نشأة بعض الحركات الإسلامية وحددت منهج العمل فيها. لقد انتقل التحدي الاستعماري من العمل العسكري إلى العمل الفكري، كما انتقلت المواجهة من الشخصية الأجنبية إلى الشخصية الوطنية وذلك في معظم المواقع. لقد ارتحل الاستعمار بعساكره من بعض البلدان لكن قوافل الصليب ومناجل الإلحاد قد تكالبت على نشر الفساد في البلاد والكفر بين العباد، ومن جهة أخرى فإن الاستقرار الذي تم في بعض البلاد الإسلامية وتطلعها إلى تحكيم شرع الله يتطلب توفير الأسس والتطورات والأساليب والإجراءات الخاصة بتطبيق تحكيم الشريعة في تلك البلدان في كافة الشؤون الاقتصادية والسياسية والتربوية والفكرية ويجب ألا يكون العاملون في مجال الدعوة إلى الله في غيبة عن هذه المواقع لأنها المحك العملي والممارسة الفعلية لتطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين.
أمل ورجاء:
ومن هذا التصور أتطلع إلى أن يلتقي العاملون في مجال الدعوة إلى الله وأن تكون هذه المقاييس والمتطلبات ضابطاً للجميع فيما يقولون ويعملون وأن تكون عونهم فيما يواجهون.
وما مناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في رحاب الجامعة الإسلامية إلا إحدى الظروف المناسبة لمناقشة مثل هذه الأمور ودراستها والتفكير فيما يمكن أن يعمل من أجلها وأسأل الله سبحانه على ألا يقتصر هذا الاجتماع على إضافة اضبارة إلى خزانة الأوراق أو كسب ورقة في مجال الدعاية والاستهلاك والله سبحانه وتعالى هو المسئول أن ينشر دينه وأن يعلي كلمته وأن يوفق عباده إلى الخير والسداد والهدى والرشاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.(29/287)
الإسلام يَسُدُّ مَنافِذَ الفرقة وَالاختِلاَف
وَيَصُون عَوامِل الوحدة وَالائتلاف
للدكتور جمعة علي الخولي
رئيس قسم الدعوة بالجامعة
يحرص الإسلام حرصاً بالغاً على أن تبقى أواصر الود والائتلاف بين المسلمين متينة العود، صلبة القوام، لا يكدرها غيم، ولا يوهنها كيد.. ولذلك نفر من كل ما من شأنه أن يوغر الصدور أو يوهي رباط الاخوة.
فحرم الغيبة والنميمة:
لما لهما من أثر سيء على علاقات الناس، قال عليه الصلاة والسلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله " [1] وجاء في خطبة الوداع "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" [2] .
والغيبة كما قال عليه الصلاة والسلام هي "ذكرك أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد أغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته" [3] ومعنى بهته افتريت عليه الكذب.
والنميمة هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة نمام " [4] وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أْخرج إليكم وأنا سليم الصدر" [5] .
ونفر من المراء والجدال:
لما يولده ذلك من الخصومة والاختلاف، ويورثه من الفرقة والتعدد، روى ابن ماجة عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " [6] تم تلا هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وكذا روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى أجنة" [7] وقال أبو الدرداء "كفى بك إثما ألا تزال ممارياً".
ونهى عن التباغض والتقاطع والتدابر:(29/288)
وفي الحديث "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " [8] .
وفيه أيضا "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال "أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا" [9] .
كما نهى عن احتقار المسلم ولمزه والسخرية به والتجسس عليه وسوء الظن به من غير ضرورة:
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وقال عليه الصلاة والسلام "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" [10] ، وقال "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " [11] .
وأتى برجل إلى ابن مسعود فقيل له "فلان هذا تقطر لحيته خمرا، فقال: إنا نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" [12] .
ونهى عن إظهار الشماتة بالمسلم:
عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك" [13] والشماتة هي الفرح ببلية الغير.
****
وهكذا حاول الإسلام أن يبعد أتباعه عن كل ما من شأنه أن ينفر بعضهم من بعض، أو يقطع صلات بعضهم ببعض، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الكره للفرقة والاختلاف، كثير التحذير من عواقبهما السيئة، ولذلك كان يحارب كل مظهر يشى بالفرقة والشذوذ، أو يدل على التشتت والانقسام.(29/289)
عن أبي ثعلبة.. كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية - ولعل ذلك كان لتفيهؤهم الظل وأماكن الشجر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تفرقكم هذا من الشيطان.. فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال "لو بسط ثوب عليهم لعمهم" [14] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار" [15] .
وهكذا ترهب السنة من الخروج على صورة في التجمع الإسلامي وتهدد من يشد عن الجماعة ولو كان يؤدي عبادة. روى الترمذي بسنده عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".
إن الحفاظ على وحدة الصف الإسلامي والإبقاء على جماعته وأمته قربة عظيمة يجب أن تمحى من أجلها كل ما يشينها أو يخلخلها، ولذلك فإن الإسلام في الوقت الذي نفر فيه من عوامل الفرقة والاختلاف، بارك كل ما من شأنه أن يقوي الروابط، ويشيع الألفة، وكافأ على ذلك الأجر الجزيل.
فدعا إلى التآخي والتواد والتحابب في الله:
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وجاء في الحديث القدسي "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء" [16] وفي رواية للإمام مالك "وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في".(29/290)
وروى أبو داود بسنده عن عمر بن الخطاب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم، قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية من سورة يونس {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [17] .
ودعا إلى المصافحة والبشر عند اللقاء:
قال عليه الصلاة والسلام "إذا التقى المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه كان أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا بصاحبه، فإذا تصافحا أنزل الله عليهما مائة رحمة للبادي تسعون وللمصافح عشرة" [18] وذلك لأن المصافحة كالبيعة، ومن شرط الإيمان الأخوة والولاية، فإذا لقي المسلم أخاه فصافحه فكأنه بايعه على هاتين الخصلتين- الأخوة والولاية- ففي كل مرة يلقاه يجدد بيعته، فيجدد الله ثوابها كما يجدد للحامد على النعمة ثوابا على شكرها، فإذا فارقه بعد مصافحته لم يخل في أثناء ذلك من خلل فيجدد عند لقائه، فالسابق إلى التجديد له من المائة تسعون لاهتمامه بشأن التمسك بالأخوة والولاية، ومسارعته إلى تجديد ما وهى منهما، وحثه على ذلك وحرصه عليه " [19] .
كما دعا إلى التعاون والتناصر ودعم أواصر الجماعة:
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
ومن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما يلي.
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"وشبك عليه الصلاة والسلام بين أصابعه" [20] .
"المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله" [21] .(29/291)
"المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه " [22] .
"من دل على خير فله مثل أجر فاعله" [23] .
"من يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" [24] .
"من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا. ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا" [25] .
"انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، فكيف أنصره إن كان ظالما،؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره " [26] .
كما دعا الإسلام إلى التزاور بين الإخوان في الله:
روى مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ أي تحفظها وتربيها وتسعى في إصلاحها، قال: لا. غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " [27] .
وروى الترمذي عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً".
النزاع والشقاق مدمر للأمة مذهب لريحها:(29/292)
من قوانين المجتمعات الإنسانية التي لا تتخلف أن "الاتحاد قوة والتفرق ضعف "فإذا اتحدت الأمة عز جانبها، وقوي سلطانها، واحترمها العدو والصديق، أما إذا تفرقت وتوزعت طمع فيها من لا يدفع عن نفسه.. ولذلك بين الله عز وجل للأمة الإسلامية أن عقبى الخلاف والنزاع قاتلة وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فالنزاع والخلاف واتباع الأهواء لن يورث إلا المذلة والفشل، وقد جنت الأمة من وراء ذلك المر والحنظل، كما ينبه الله في آية أخرى أن افتراق الأمة وتمزقها شيعا متناحرة إنما هو كارثة اجتماعية مدمرة لا تقل في خطورتها عن خطورة الكوارث الكونية الأخرى التي تبدل الأرض غير الأرض، وذلك في قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض} فالآية كما ترى تقرن الوعيد بافتراق الأمة شيعاً وأحزاباً بالكوارث الكونية المدمرة كالحرق والغرق.
وهذا يدل على أن تمزق الأمة من الداخل بلاء خطير يقضي عليها ولا تجد من يرثى لها ولقد ساق المفسرون عند شرح هذه الأحاديث عدة أحاديث منها ما رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيت لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها- أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضا" [28] .(29/293)
وهذا الحديث يعطي- ضمن ما يعطى- أن الأمة الإسلامية لا تزال قوة غالبة ما دامت محتفظة بمقومات الغلبة والقوامة من الاجتماع على شريعة الله والاعتصام بحبله المتين، عندئذ لا تستطيع قوة في الأرض مهما بلغت من العتو والفجور أن تنال منها شيئاً، ولو اجتمعت عليها من كل جانب.. ومن هذا نفهم أن أخطر بلاء يصيب الأمة هو تمزيق وحدتها من الداخل.. وأن الفرقة تصنع مالا يصنعه الأعداء.. ولاشك أن الفرقة والاختلاف نتيجة حتمية لبعد الناس عن التطبيق النظري والعملي لشرع الله، عندئذ تلعب بهم الأهواء وتظهر القوميات والعصبيات وكل ما يجر الشقاق والبلاء، ولذلك وجهنا القرآن الكريم إلى العصمة من هذا كله فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(29/294)
فالنجاة مما تعانيه الأمة من عواقب الفرقة والاختلافات تكمن في الاعتصام بحبل الله والتجمع حول عقيدته ونهجه ودينه، وليس على أي تصور آخر, أو تحت راية أخرى. ذكر ابن اسحق وغيره أن هذه الآية- والآيات قبلها- نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود يدعى شاس بن قيس مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم وأن يذكر ما كان بينهم من حروب.. ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتوعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم.. وكذلك بين الله لهم فاهتدوا، وكذلك يبين الله لنا {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
مؤتمر على الطريق:
ولقد فطن المسئولون في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى الخطر الذي يتهدد المسلمين من جراء فرقتهم واختلافهم.. فدعوا إلى المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة بناء على الموافقة السامية على انعقاده في شهر ربيع الأول من هذا العام سنة 1404 هـ، وإنها لبادرة طيبة ويقظة مباركة من الجامعة أن تجعل الموضوع الرئيسي للمؤتمر "سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين" وذلك بعد أن تردى بالمسلمين الحال إلى درجة طمع فيهم عدوهم وتجرأ عليهم أراذل خلق الله وأجبنهم من الصهاينة الذين وصفهم الله بقوله {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(29/295)
أجل "إنها ليقظة جليلة موفقة- نسأل الله أن يباركها ويكتب لها العون والنجاح- جاءت في وقت اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى التضامن والوحدة، ونبذ الخلافات والأهواء، والالتقاء على كلمة سواء".
ومن يمن هذا المؤتمر أن ينعقد في طيبة الطيبة، مركز الهجرة، وعاصمة الدولة الإسلامية الأولى.. فمن هذا المكان الطاهر المقدس جمع النبي صلى الله عليه وسلم القبائل المتنافرة في حزمة متآلفة وقضى على الأطماع الشخصية والرايات العنصرية ووحد الجميع تحت راية التوحيد فأصبحوا بنعمة الله إخواناً متحابين.
واليوم يجيء علماء الأمة من كل أصقاع الأرض إلى دار التوحيد والوحدة يحدوهم الأمل في أن يرسموا للأمة طريق الخلاص من واقعها الأليم..
فاللهم إن هذه الجموع التي قطعت الفيافي والقفار التقت قلوبها على محبتك، ونصرة دينك وبإعلاء كلمتك، فأيد اللهم يا رب جهودها، وامنحها عونك ونورك، ورضاك وتوفيقك، وكلل عملها ومسعاها بالنجاح والفلاح , إنك يا مولانا نعم المولى ونعم النصير.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مسلم رقم 2564 ترتيب فؤاد عبد الباقي.
[2] البخاري ج1/145 ومسلم 1679.
[3] مسلم 2589.
[4] مسلم 105.
[5] أبو داود 4860 والترمذي 3893.
[6] ابن ماجة ج1/19.
[7] في لفظ لابن ماجة ج1/20 "من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها".
[8] البخاري ومسلم، (انظر فتح الباري ج10/401 ومسلم 2559) .
[9] مسلم 2565.
[10] مسلم 2564.
[11] البخاري ج10/404 ومسلم 2563.
[12] أبو داود 4890.
[13] الترمذي 2508.
[14] أبو داود كتاب الجهاد ج3/95 وأحمد ج4/193.(29/296)
[15] متفق عليه عن أبي هريرة، البخاري كتاب الأذان ومسلم كتاب الصلاة.
[16] الترمذي وابن ماجة كتاب الزهد.
[17] أبو داود ج3/799، كتاب البيوع.
[18] البزار والطبراني والحكيم في النوادر (انظر فيض القدير (ج1/301) .
[19] انظر فيض القدير ج1/301.
[20] البخاري كتاب الصلاة ومسلم كتاب البر.
[21] مسلم عن النعمان بن بشير ـ كتاب البر.
[22] أبو داود والترمذي.
[23] أبو داود وكتاب الأدب.
[24] مسلم عن أبي هريرة كتاب الذكر.
[25] البخاري كتاب الجهاد ومسلم كتاب الإمارة.
[26] البخاري كتاب المظالم ومسلم كتاب البر.
[27] أحمد ج2 / 4292, 408، 462.
[28] مسلم كتاب الفتن.(29/297)
مُرْتكزَاتُ التّضامُن وَالوَحْدَة
للشيخ عطيّة محمد سالم
المدرس بالمسجد النبوي والقاضي بمحكمة المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم. وبعد:
إن الحديث عن التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية موفي حقيقته ومعناه حديث عن الإسلام، وعن الأمة الإسلامية.
إذ إن التضامن كما يقال على وزن تفاعل ولا يكون إلا بين أطراف متعددة تعمل متضامنة على تحصيل ما يضمن لها تحقيق سعادتها ويكفل لها متطلبات حياتها في عزة وكرامة. وحرية إرادة، وإقامة مجتمع فاضل تسوده العدالة وتظله الحرية ويعمره الأمن والرخاء.
وعليه فإن التضامن الإسلامي بهذا المعنى هو بعينه الدعوة إلى الإسلام بكل معانيه وتعاليمه ومناهجه.(29/298)
بل إن مفهوم التضامن هو نتيجة حتمية لدعوة الرسل جميعا الذين دعوا أممهم لعبادة الله وحده والالتفاف حول ما دعوهم إليه، والالتزام بما جاءوهم به من عند الله كما قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وقوله سبحانه في دعوة إبراهيم- عليه السلام- وإسماعيل في رفع بناء البيت: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
وبعد محاجة اليهود والنصارى وابطالها أمر سبحانه المؤمنين أن يعلنوها صريحة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .(29/299)
فالدعوة إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية دعوة إلى الإسلام الذي دعت إليه جميع الرسل في جميع الأمم.
تعدد الدعوات المعاصرة:
والدعوة إلى التضامن الإسلامي ووحدة العالم الإسلامي قد جاءت في هذا العصر الذي كثرت فيه الدعوات وتميزت فيه التكتلات، واختلفَت فيه مناهج الحياة وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد غشيت العالم الإسلامي من هذا كله سحب معتمة حجبت عن الكثيرين أضواء الحقيقة. وغزت عقولَ المسلمين حملات فكرية مشككة أوقعت العوام في حيرة وتركتهم في متاهة. تشتت فيها الصفوف وتفرقت فيها الكلمة وضاعت فيها الشخصية الإسلامية السليمة فطمع فيهم العدو وعجز عن مساعدتهم الصديق.
فاغتصبت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، ودنست مقدساتهم. وعجز العالم كله ماثلا في المنظمة العالمية (هيئة الأمم) أن يفعل لنا شيئا مهما كان الحق واضحا والظلم فادحا. وأصبحنا على كثرة عددنا نكاد لا يعبأ بنا فتخلفنا عن مكانتنا المرموقة وتخلينا عن مواقع قيادتنا الحكيمة.
بل أصبحنا تبعا لغيرنا وبدون اختيارنا. الأمر الذي جعل المخلصين من ولاة أمورنا يبحثون عن الشخصية الإسلامية الضائعة وعن المنهج العملي الصالح ويتطلبون أقوم السبل التي تعيدنا إلى ما كنا علَيه وترد لنا حقوقنا وتخلصنا من تبعيتنا لغيرنا ونصبح حيث وصفنا الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
فأيقن أولئك المخلصون أن لن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي أصلح أولها ألا وهو العودة إلى الإسلام وليست تلك الدعوات الزائفة ولا المفلسفة فدعوا إلى التضامن الإسلامي والوَحدة الإسلامية.
وكان من فضل الله وتوفيقه أن يكون انطلاقها من مهبط الوحي ومنطلق الرسالة يقودها خادم الحرمين الشريفين وتتبناها رابطة العالم الإسلامي برحاب بيت الله تعالى.(29/300)
ثم يأتي هذا المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة فينعقد وللدورة الثانية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي انطلق منها الغزاة والدعاة على السواء.
وموضوعه الآن: سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين وقد حددت أهداف هذا المؤتمر في أهداف نبيلة بناءة واضحة وافية وهي كالآتي:
أهداف المؤتمر:
جاءت أهدافه محددة في خمس نقاط وهي:-
1- تبصير الأمة بالطريق الذي رسمته الدعوة لتحقيق التضامن والوحدة لتعود كما كانت وكما يريد لها دينها أن تكون {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه} . {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة} .
2- تعميق الانتماء والولاء للأمة الواحدة عقيدة وسلوكا، والتجاوب مع مقوماتها من الأخوة والولاية، والتضامن، والاعتزاز بما اختصها الله به من الخيرية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
3- إيجاد رأي عام إسلامي قوي يعي عن إيمان وبصيرة على هدى الكتاب والسنة حقيقة التضامن والوحدة، ويربط حركته بهما في كل جوانب الحياة واتجاهاتها.
4- تحكيم شريعة الإسلام بين جميع المسلمين والتسليم بما حكم به.
5- أن يتحقق للأمة الإسلامية ما تسعى إليه من التقدم والقوة، وأن يراها العالم في مكانتها التي يجب أن تكون فيهَا لكي تعطي ذلك المكان ما هو مفتقر إليه لتصحيح أوضاعه وإصلاح حيا ته.
وهذه الأهداف كلها تلتقي مع العمل الجاد الأكيد الشامل لكل الأفراد وعلى مختلف المستويات للانضواء تحت راية الدعوة إلى التضامن الإسلامي وتطبيقه عمليا على واقع حياتنا وفي منهج سلوكنا.
وقد وضعت عناوين لمواضيع مختلفة كفيلة بتحقيق هذه الأهداف بلغ عددها الثلاثين عنوانا ...(29/301)
ومنها ومن أهمها الموضوع الثاني بعنوان مرتكزات التضامن والوحدة وبما أن المرتكزات في كل شيء وهي جمع ركيزة ما تكون بمثابة القواعد والأسس التي يقوم عليها وظهرت لي أهمية العناية بهذا الموضوع أحببت الكتابة فيه آملا التوفيق والسداد ومن الله تعالى العون والتأييد ...
تمهيد بين يدي الموضوع:
إن المتأمل لتاريخ الدعوات التي ظهرت في المجتمع الإنساني أيا كان شعارها وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في دول المنطقة فإن لكل دعوة مرتكزات ترتكز عليها، ومنطلقات تنطلق منها. وقد تزيف أو تفلسف بما يوهم العامة ويغريهم بها.
من ذلك الدعوة إلى القومية فإنها ترتكز على الجنس والعنصر ولا تبالي بالمبادئ ولا بالعقائد، أشبه ما تكون بدعوى الجاهلية من التعصب للقبيلة ويكفي لفساد هذه الدعوة أنها كانت ولا تزال السبب في تمزيق الأمم التي تظهر فيها وأول خطر منها على العالم ضياع الدولة العثمانية إذ عمل اليهود على إثارة الأتراك ضد العرب وحرضوهم على اختصاص تركيا بالأتراك، فكانت ثورة (أتا ترك) وضياع الخلافة العثمانية وتمزيق العالم الإسلامي دويلات.
وفي أوروبا القومية الجرمانية وغير ذلك.
وآخر الويلات التي جاءت بها دعوة القومية تقسيم قبرص بين الجنسية التركية والجنسية اليونانية.
ومما يندى له الجبين ما سمعته في نجيريا في رحلة داخلية ضمن بعثة الجامعة الإسلامية مع الزعيم الراحل أحمد بلو أنه أثناء الحرب الفلسطينية جهزت سفينة حربية لتتجه إلى فلسطين لإنقاذ القدس فسمع المسؤولون التنادي بالقومية العربية وأن على العرب حماية القدس وعليهم مسؤوليتها، فقال المسؤولون هناك إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب وأمروا السفينة بالعودة.(29/302)
ومن ذلك الدعوة إلى الوطنية. وكان من سوء نتائجها على الشعب البريطاني صاحب المدنية والحضارة حينما طرد عيدى أمين جميع الرعايا البريطانيين من بلده امتنع الشعب البريطاني في بريطانيا أن يقبلهم بدعوى أنهم استوطنوا غير وطنهم. إلى غير ذلك مما شهده العالم أخيرا.
وكل تلك الدعوات مع خطورتها فإنها محدودة الأفق محصورة الموطن مهزوزة المرتكزات لم تلبث أن تنهار فتنهدم بأصحابها.
وبعض تلك الدعوات قد تأباها فطر البشر فتفرض عليهم بقوة السلطة كالاشتراكية والتمييز العنصري، فتسلب الفرد أخص خصائص الإنسانية وهي حرية الاختيار، وتعطيل الإرادة وإهدار الكرامة.
أما دعوه التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية:
فهي دعوة تتفق تماما مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وتساير طبيعته كل المسايرة وتتجاوب مع جبلته إلى أعماق نفسه.
ولهذا فلقد لمست شفاف القلوب واستجابت معها العواطف. فبرزت بين تلك الدعوات العديدة وكتب لها البقاء وقوبلت بقبول حسن لأنها ارتكزت على مرتكزات أصيلة وعميقة وعملية واقعية لم تخرج عن طبيعة الإنسان ولم تغاير عقيدته الإسلامية ولم تصطدم مع واقع حياته التي يحياها في هذا العالم. وهذا هو الإطار الكلي للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي.
وتتلخص تلك المرتكزات في نظري في ثلاثة أمور:-
(1) سنة الحياة وتكوين الإنسان.
(2) منهج التشريع الإسلامي جملة وتفصيلا.
(3) الواقع السياسي والوضع الاجتماعي الذي نعيشه مع العالم حولنا ...
ولكل مرتكز من هذه المرتكزات معطياتها، وفعاليتها لو تأملها كل عاقل ومسلم لما حاد عنها ولبادر إلى الانتماء إليها ولعرف أنها هي السبيل الوحيد التي تحقق له كل ما يتطلع إليه من استرجاع حقوقه المسلوبة والحاقه بأمجاد أسلافه.
وسنحاول بعون الله تعالى وتوفيقه بيان كل مرتكز من هذه الثلاثة ومدى عطائه لدعوة التضامن والوحدة ...(29/303)
وإني لآمل أن أكون بهذا العمل المحدود وجهد الطاقة حسب ما أجتزؤه من الوقت وأزاحم به من الأعمال قد أسهمت ولو بأيسر اليسير بين الثلاثين موضوعا ومن بين العديدين من أفاضل الكتاب الذين تمكنهم ظروفهم من الاستيفاء والاستقصاء وبالله التوفيق ...
المرتكز الأول: تكوين الإنسان وسنن الحياة:
قام تكوين الإنسان على أن يكون تعاونيا متضامنا مع غيره لا انعزاليا منفردا بنفسه. ولعل معنى إنسان من الإيناس.
ففي تاريخ هذا الإنسان لم يستطع الإنسان الأول وهو أبو البشر آدم عليه السلام أن يعيش وحده ولو كان في جَنة الفردوس. فخلقَ الله له من نفسه زوجة يسكن إليها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} . (الأعراف: 189) .
قال ابن كثير في تفسيره (ج1 ص79) ويقال إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟.
قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟. قالت: لتسكن لي ...
وذلك ما يشعر بأن تكوين الإنسان أساسا تكوينا جماعيا تعاونيا.
ثم بعد هبوطه إلى الأرض كانت حاجته أشد إلى من يعاونه فيها فبدأ بالإنجاب وتزاوج الأولاد وإيجاد الأجيال والحفاظ على بقاء النوع. ومن ثم تقاسم أعباء الحياة.
ثم كانت الجماعة البشرية أمام العوامل الكونية التي اضطرتها اضطرارا على التضامن والتعاون والاتحاد لتواجه مجتمعة تلك العوامل التي لا يستطيع الفرد أن يواجهها كحماية أنفسهم من المخلوقات المتوحشة وكتذليل الصعاب في الأرض لاستنبات نباتها، واستحصاد زرعها، واستخراج كنوزها، وتصنيع موادها مما يحتاجونه في حياتهم على هذه الأرض.(29/304)
ثم بعد انتشار الجماعة وتكاثر الجماعات جاءت التنظيمات الجماعية التي تميزت فيها التخصصات الميدانية وتخصص لها بعض أفراد الجماعة.
1- فتميز مثلا مجال الاقتصاد من مآكل وملبس ومسكن وتخصص له رجال يعملون وينتجون ما يوفر للجماعة حاجتها الاقتصادية.
2- وتميز مجال الدفاع وحفظ الأمن، وتخصص له عسكريون ومدافعون.
3- وتميز مجال الطب والعلاج وتخصص له أطباء ومعالجون.
4- وتميز مجال التعليم وغير ذاك من المجالات بقدر ما تستجد حاجة الأمة.
5- ومن وراء ذلك كله السياسة والحكم والحكام والسياسيون مما هو في حكم الضرورة للجماعات البشرية ولا يمكن أن تقوم كلها ولا بعضها إلا بتعاون الأفراد بعضهم البعض بل إن كل تلك المجالات ذات الاختصاصات لا يمكن أن تقوم واحدة منها منفردة بدون معاونة مع الآخرين.
وإنا لنلمس ونشاهد ذلك في عالمنا المعاصر في جميع مؤسساته وفي مجموعها فيما بينها. ففي جميعها نجد أن كل مؤسسة تشتمل رئيسا ومرؤوسين وجميعهم من القاعدة إلى القمة كل في موقعه يؤدي واجبه. ولا غنى لرئيس عن مرؤوس.
وكذلك فيما بين تلك المؤسسات كل منها تؤدي دورها في خدمة المجتمع مما لا تؤديه غيرها. وكل منها خادم ومخدوم في دائرة التعاون والتضامن كما قيل:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فسنة الحياة تلزم الأحياء أفرادا وجماعات بالتضامن معا، وقد امتد فشمل هذا المرتكز الطبيعي جميع دول العالم كله اليوم طوعا أو كرها سواء كان في السلم أوفي الحرب.
عن طريق تبادل منافعهم فيما بينهم فعند هذه سلع وإنتاج ولتلك حاجة ماسة إليها وقد قامت السوق الأوربية بين دول أوربا بتنظيم هذه العلاقة بسبب تفاوت الثروات الطبيعية والكفاءات البشرية. فالسلعة التي تفيض عند هذه تحتاجها تلك وكذلك العكس وهلمّ جرا.(29/305)
ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش في معزل عن العالم حيث ارتبطت كلها بمصالح مشتركة فهي تسير في نظام تضامن إلزامي تمليه ظروف الحياة وتطورات العالم وعلى سبيل المثال ترابط العالم في تسيير الخطوط الجوية والخدمات البريدية، والأعمال المصرفية، والإصدارات المالية، والتمثيل الدبلوماسي وغير ذلك مما له الصبغة العالمية.
ولا يبعد من يقول إن هذه السنة الكونية التعاونية ليست قاصرة على الإنسان بل هي أيضا موجودة في عالم الحيوانات والحشرات ولا أدل على ذلك من عالم النحل والنمل.
وعلى هذا فإن هذا المرتكز التضامني فطري كوني وهو إلزامي جبري ليس للإنسان فيه اختيار ولا له عنه استغناء.
فإذا كان هذا المرتكز الفطري يقر في إطار إسلامي، وكانت دعوة التضامن من هذا المنطلق دعوة فطرية تساير الفطرة وتساندها طبيعة الحياة.
وإذا كان لابد للإنسان أن يتضامن مع غيره ولكل جماعة أن تتعاون مع غيرها على أي مبدأ كان سواء كان عنصريا بالجنس أو وطنيا بالموطن أو اقتصاديا بالإنتاج أو عسكريا بالأحلاف فلأن يكون باسم ومنهج الإسلام من باب أولى حيث أنه منهج التعاون على البر والتقوى. وأن الخلق كلهم عباد لله والأرض كلها له سبحانه ...
المرتكز الثاني: منهج التشريع الإسلامي:
ولكي نحدد معالم هذا المنهج نعود إلى مدلول التضامن والغرض منه وهو أن يجد الإنسان فردا كان أو جماعة ما يضمن له حياة أفضل يتوفر له فيها ما ينقصه، ويسلم فيها مما يضره ومعلوم أن هذين المطلبين جلب النفع ودفع الضر هما مطلب كل عاقل كما قيل:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما
يراد الفتى كيما يضر وينفع
أي يضر عدوه أو ينفع صديقه.(29/306)
ومنهج الإسلام شامل لهذين المطلبين ومعهما الحث على مكارم الأخلاق وهو مطلب إنساني كما قال أكثم بن صيفي حين بلغه أمر ظهور دعوة الإسلام فأرسل ولده ليأتيه بخبر محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فرجع إليه وقال له: إنه يأمر بصلة الرحم وصدق الكلم وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وينهى عن كذا وكذا ...
فقال أكثم: إنه والله يا بني إن لم يكن دينا فهو من مكارم الأخلاق.
وقد شرع الإسلام عقود المعاملات لجلب النفع وتبادل المصالح لتوفير حاجيات الإنسان. من مطعم وملبس ومسكن في صناعة وزراعة وتجارة.
كما شرع لدفع الضر تحريم كل ضار بجواهر الحياة الخمسة- الدين- النفس- العقل- النسب والعرض. والمال. وجعل فيها حدودا رادعة وزاجرة.
كما أرشد ووجه لمكارم الأخلاق في الروابط الاجتماعية ابتداء من حقوق الزوجين وبر الوالدين. وحسن المعاشرة من العفو عن المسيء والإحسان والإيثار على النفس وغير ذلك، وكذلك روابط الجوار وصلة الأرحام وكفالة الأيتام ومساندة الضعفاء. وعموم التعاون على البر والتقوى.
وتظهر صور التضامن والوحدة في منهج الإسلام مفصلة ابتداء من العقيدة السليمة ثم العبادات التي هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . فجميع المسلمين يلتقون على عبادة الله تعالى وحده وبالوجه الذي يرضاه.
وهذا المنهج قد ربط بين جميع الأمم الإسلامية كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} . فهي وحدة دينية تربط الحق بالخلق في إطار التشريع الإسلامي.(29/307)
وكما تقدم قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
وعقيدة التوحيد هي المرتكز والتي يجتمع عليها العرب والعجم ويستوي فيها الغني والفقير والكبير والصغير ويلتقي عليها من بالمشرق بمن بالمغرب. وهى العقيدة التي تحرر الإنسان من استعباد الإنسان ومن طغيان المادة وعوامل الطغيان لأن الفرد بإحساسه بأن جميع الخلائق عباد لله ملتزمون بأوامر الله.
وفي العبادات تتجلى هذه الصور عمليا بصور ملموسة وذلك كالآتي:-
(1) ففي الصلاة:
أ- وحدة التوقيت مرتبطة بحركة كونية من طلوع الشمس إلى غروبها.
ب- واستجابة النداء حي على الصلاة حي على الفلاح الله أكبر: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْع} .
ج- وحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى البيت الحرام: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} .
تبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
(2) وفي الصيام:
أ- وحدة الزمن في الصوم بشهر واحد للجميع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
ب- وحدة الشعور بالتعاطف والتراحم- يبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام وإخراج الفطرة طعمة للمساكين وطهرة للصائمين.
(3) - أما الزكاة:(29/308)
أ- فهي تضامن إلزامي يربط مختلف الطبقات بعضها ببعض ويقارب بين من باعدت بينهم المادة ويجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} .
فالزكاة طهرة للنفوس من شح الأغنياء وحسد الفقراء، وزكاة للمال فلا تنقص وتصون المجتمع من حرب الطبقات وغزو الدعايات.
أما الحج وهو الركن الأعظم:
فهو عين التضامن ومظهر الوحدة في أظهر الصور وأقوى المعاني يفد الحجيج من كل فج عميق ملبين الداعي لحج بيت الله العتيق. مجددين العهد القديم مستجيبين نداء إبراهيم- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يخرج الحاج من أهله ودياره مفارقا زوجه وصغاره حتى يأتي الميقات فيتجرد من ثيابه متخليا عن مظاهر دنياه. مُتدثرا رداءه وإزاره متهيأ لحال أخراه.
هناك يعود الحجيج على مختلف ألوانهم وتباعد أقطارهم وتعدد لغاتهم يعودون إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها. وتعود إليهم فطرتهم التي ابتعدوا عنها فطرة الوحدة والإخاء والمساواة. فيستوي غنيهم وفقيرهم وأميرهم ومأمورهم. ويستوي عربيهم وعجميهم. وقاصيهم ودانيهم وحدة في الشكل والصورة ووحدة في الهدف والغاية يهتفون لبيك اللهم لبيك.
ب- وفي أرض عرفات في ذلك المشهد الفريد في تاريخ البشرية حاضرها وماضيها حواضرها وبواديها. مشهد يذكر بالماضي في عالم الذرة، حين أخرج الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .(29/309)
مشهد ينبههم لمستقبلهم يوم يجمع الله الخلائق ويحشرهم حفاة عراة. مشهد تذوب فيه فوارق الجنس والعنصر واللون وتتجلى فيه وحدة الأصل (كلكم لآدم وآدم من تراب) . مشهد تفتح له حدود الأقاليم والأقطار والدول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} .
مشهد تلتقي فيه الأشباح وتتعانق فيه الأرواح {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} .
جـ - وفي منى يلتقي الجميع على موائد الهدى والإخلاص فيأكلون ويطعمون {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .
أمانة الدعوة: ومن هناك يتحملون أمانة الدعوة والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حملها أصحابه لمن بعدهم: "بلغوا عني ولو آية". "رب مبلغ أوعى من سامع". فيرجع الحجاج بمثابة السفراء إلى بلادهم الدعاة إلى ربهم وقد تعارف كل منهم على الكثيرين من إخوانهم ووثقوا عرى الأخوة والولاء، قد ينتج عنها زيارة وصلة ونحو ذلك.
الاجتماعيات:
وكما ظهر مدى التضامن والوحدة في العبادات يظهر كذلك وبقوة في مجال الاجتماعيات لأن الإسلام أقام المجتمع الإسلامي على قواعد مثالية عالية ترتفع عن مقاييس المادة والمعاوضة إلى حد البذل والإيثار.
أ- ففي أصل تكوين المجتمع توجد المساواة في المبدأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . ففيها وحدة الإنسانية جمعاء.(29/310)
ب- وفي تكوين الأسرة التي هي لبنة بناء المجتمع. أقامها على روابط المودة والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وجعل معادلة بين الزوجين غاية في تضامنهما: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنّ} .
فإذا جاء الأولاد: قابل بين عاطفة الأبوة بإيجاب بر البنوة وجعلها وفاء بحق قد استوفاه الأولاد من قبل {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} . ثم أظهر مدى حق الوالدين حين قرنه بحقه سبحانه في قضاء مبرم. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} . ثم إن الولد سيستوفي مثل هذا الحق من أولاده إن هو أداه لأبويه. وهكذا دواليك.
جـ - ثم هو يراعي هذا الصنف من الناس الذي حرم رعاية الأبوين وذاق بؤس القطيعة وذل العزلة ألا وهو اليتيم فكفله بالرعاية وأحاطه بالحنان وجعل صلى الله عليه وسلم لكافله أعلى المنازل في الجنة.
وهذا من أقوى دلائل التضامن الإسلامي في المجتمع الإنساني. لأنه يطيب نفس الأب على ولده إذا حضرته الوفاة بأن المجتمع كافل له ولده.
ثم إن هذا الولد اليتيم المكفول اليوم سيصبح غدا رجلا ويكفل يتيماً غيره.
د- ثم يفسح المجال خارج نطاق الأسرة فيأتي للجوار فيقول صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه". "ولا يزال جبريل- عليه السلام- يوصيه بالجار حتى ظن صلى الله عليه وسلم أنه سيورثه ".
هـ- ثم يربط العالم كله برباط النصح والإخلاص ومحبة الخير "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله. قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(29/311)
و فتكون النتيجة ترابط العالم الإسلامي كالبناء الحصين "مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد". "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا" فأي تضامن بعد هذا وأي وحدة بعد هذا وأي وحدة تضاهي ذلك.
ومن هنا حمل الإسلام جماعةَ المسلمين مسوؤلية الحفاظ على تلك الوحدة وعلى هذا التضامن في السلم وفي الحرب أفراد أو جماعات.
(1) {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} . الآية ...
(2) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
"كلكم راع وكل مسئول عن رعيته".
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
وفرض حقوقا عامة على كل مسلم لأخيه المسلم: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا عطس فحمد فشمته. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا مرض فعده. وإذا مات فشيعه".
وتلك حقوق متبادلة بين الأفراد يتقاضونها فيما بينهم وقد استوعبت كامل وضع الإنسان من أول لقائه بالسلام عليه إلى آخر وداعه بالتشييع إلى مثواه الأخير.
ربط الإيمان بالمحبة والمودة والعاطفة والرحمة بينهم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه ".
وحرم الجنة عليهم حتى تسودهم المحبة: "لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا".
فالدعاة إذا ما ركزوا دعوتهم إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية على منهج الإسلام كان تركيزا قويا ينطلق من عواطف وشعور كل مسلم حيث يحقق للجميع أفرادا وجماعات كل ما يسمو إليه دون أن تعترضه العقبات ولا تكدره الشبهات.
وهناك مجال الحكم في سلطاته الثلاث:(29/312)
السلطة التشريعية. والسلطة القضائية. والسلطة التنفيذية، وهذه السلطات الثلاث وإن كانت بصورها موجودة في كل دولة إلا أنها في الإسلام تتميز بصبغة خاصة تضفي عليها بهاء الرفق ورونق الإحسان.
فالسلطة التشريعية في كل أمة هيئة متخصصة تنظر في ظروف وملابسات حياة الأمة فتشرع لها ما تراه صالحا.
ومهما يكن من شأن هذه الهيئة وتخصصاتها فهو عمل بشري جائز عليه الخطأ والصواب وهو ما يشهده العالم من طروء التغيير والتبديل فقد يكون ما رأوه اليوم يكون غير صالح في الغد.
وإن ما يطرأ على تلك الهيئات من سياسة داخلية واتجاهات فكرية قد تؤثر عليها إلى غير ذلك.
بينما التشريع في منهج الحكم الإسلامي مرجعه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمختصون للتشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العلماء ورثة الأنبياء فإذا ما لزم نظروا تشريع لمستجد في الحياة فإنهم لن يخرجوا عن المنهج الإسلامي في حدود ما أنزل الله من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نوّه القرآن الكريم إلى أصل هذه السلطات وإلى تميزها عما سواها. في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فإرسال الرسل بالبينات من ربهم، وإنزال الكتاب لتشريع مناهجهم والميزان للعدالة ...
والسلطة القضائية، ليقوم الناس بالقسط إذ القضاء تطبيق للمنهج التشريعي.(29/313)
وأنزل الحديد إشارة إلى السلطة التنفيذية وأداة لنصرة دين الله فيكون المجتمع الإسلامي تحت سلطة حكم عادلة قوية حكيمة وأساس الحكم في البشر إنما هو لله خالقهم لا سواه، وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم. فهو كالعبادة سواء في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . (يوسف:40) .
ومن هذا المنطلق في الحكم كان الظلم في غيره محققا في أي حكم سوى حكم الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وفي مقابل ذلك لا يتم إيمان العبد حتى ينزل على حكم الله راضيا مسلما تسليما:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . (النساء: 55) .
ومن هذا المنطلق فان ارتكاز دعوة التضامن إلى منهج التشريع الإسلامي وفي ظل الحكم بما أنزل الله تكون دعوة ممتدا سببها بالله لا تلاقيها صعوبات ولا تعطلها عقبات وهي دعوة مضمون لها النصر من عند الله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . مضمونة نتيجتها للأمة سعادة في الدنيا وفلاحا في الآخرة.
المرتكز الثالث: واقع الحياة الذي نعيشه والتيارات السياسية التي حولنا:
من الواضح البين حالة العالم السياسي والسياسة التي فرضت على الجميع وألزمت العالم كله العيش ضمن تكتلات سياسية، وأحلاف عسكرية واتفاقيات اقتصادية. وليس بوسع أي دولة أن تعيش وحدها في معزل عن هذا العالم بعيدة عن تلك التكتلات لقوة ترابط الدول بعضها مع بعض شاءت أم أبت.(29/314)
ولم تعد السياسة مجرد تنظيم لعلاقات الدولة في الخارج بل أصبح الداخل مرتبطا بالخارج في السلم وفي الحرب عن طريق الإنتاج والتسويق. فهي منافع مشتركة ومصالح متبادلة. توثقت باتفاقيات عالمية أو ثقافية وأحلاف عسكرية. وأهم ذلك كله الأحلاف العسكرية لأنها لحماية الدولة بكل مرافقها والداعي لكل ذلك من اتفاقيات وأحلاف هو شعور تلك الدول بالضعف وبالحاجة إلى تضامنها بعضها مع بعض وذلك منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث كانت عصبة الأمم لدولة أوروبا ضد هتلر والنازية لعجز تلك الدول منفردة عن مقاومتها.
وبعد عصبة الأمم جاءت هيئة الأمم وضمت دول العالم على أمل الحياة في أمن وطمأنينة. ولكن هيئة الأمم لم تحقق للعالم ما أمله فيها حيث أقيمت في بادئ أمرها على التخصيص والامتياز فمنحت الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) .
ومن العجب أن يمنح هذا الحق للدول القوية التي تستطيع أن تظلم وأن تتعدى مما يصعب معه استخلاص حق المظلوم أو استرجاع حق مغصوب.
وكان الأولى لو أجيز ذلك أن يعطى للدول الضعيفة لترد به عن نفسها.
وأن أحداث التاريخ وخاصة في الدول النامية لتشهد بذلك.
قامت جامعة الدول العربية وكان قيامها مظهرا من مظاهر تضامن دول المنطقة مهما قيل عن أسباب قيامها.
وكل تلك الهيئات والمؤسسات العالمية لم تستطع استتباب الأمن ولا منح الطمأنينة للعالم فنشأت تكتلات وأحلاف عسكرية انطلقت في سياق التسلح النووي بما يهدد العالم كله بالدمار. وذلك في حلفي الناتو وحلف شمال الأطلسي.
وانقسم العالم إلى معسكرين اقتصاديين شيوعي في الشرق ورأسمالي في الغرب وما بقي من العالم يدعى بدول عدم الانحياز.
ولكن عدم انحيازه لم يعزله عن غيره ولم يبعده عن الخطر ومن ثم أوجد لنفسه ارتباطات فيما بينه وعقدت له عدة مؤتمرات لدراسة وضعه ووضع التدابير لصالحه.(29/315)
وآخر ما يكون ما حدث في المنطقة من قيام مجلس تعاون دول الخليج دفع قيامه واقع العالم السياسي وحاجة دول المنطقة إلى التعاون الأخوي وقد شمل عدة مجالات عامة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وثقافيا وإعلاميا. فهو أصدق صورة لما نرجوه للعالم الإسلامي من التضامن والوحدة.
ومع هذا كله فان هذه المؤسسات الدولية على اختلاف مناهجها وأشكالها فهي إما إقليمية محدودة وإما عالمية غير عادلة.
أما التضامن الإسلامي فليس هو بالتضامن المادي النفعي وإنما هو تضامن أخوي عاطفي إنساني ديني دعَا إليه الإسلام والتزم المسلمون بمضمونه ولا غنى لهم عنه.
"المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه، المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه لما".
وتحت هذا الشعار واستجابة لهذا النداء: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} يدعوا دعاة التضامن بكل قوة ووضوح.
وحدة الأمة:
إن الوحدة والتضامن متلازمان ويلزم من وجود كل منهما وجود الآخر لأن الأمة المتحدة المتضامنة، والأمة المتضامنة، متحدة، وهذا من خصائص الإسلام ونتائج منهجه وتشريعه.
ووحدة الأمة في نظر الإسلام وتعاليمه ترتكز على مرتكزين رئيسين:
(1) وحدة الجنس.
(2) وحدة العقيدة.
ومن ورائهما عناية الله وإنعامه على عباده وامتنانه.
(1) أما وحدة الجنس ففي إرجاعهم إلى أبيهم آدم عليه السلام وأمهم حواء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} ومن وراء هذا التعارف إخاء وتراحم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقد صور الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ معنى وحدة الجنس فقال في أبيات له:
أبوهم آدم والأم حواء
الناس من جهة التمثيل أكفاء(29/316)
(2) أما وحدة العقيدة فهي الوحدة المعنوية التي تقابل الوحدة الحسية لأن العقيدة عمل القلب لا علاقة لها بالجنس ولا باللون ولا بالمكان ولا بالزمان فيرتبط فيها جميع أبناء المعتقد الإسلامي فيؤمن أنه وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وآمن بما آمن به السلف الصالح ودعا إليه الكتاب والسنة، شعر يقينا أن كل من دان بذلك أنه أخ له في دينه وملتزم معه في تكاليفه فيرتبط آخر الأمة بأولها بل صالح هذه الأمة بصلحاء الأمم واقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} .
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
(ج) أما عناية الله في هذه الوحدة وإنعامه على هذه الأمة فهو من تأليف هذه القلوب وتقارب هذه النفوس يلقى المسلم أخاه المسلم من أقصى الدنيا وأدناها. فإذا هو يبادله التحية ويتبادل معه التعاطف. وذلك تحقيق لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} .
وقوله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . فهي نعمة امتن الله تعالى بها على هذه الأمة. وبعد امتنانه بها شرع ما يحفظها. وما يديمها فبعد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} .(29/317)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَاب} .
كما نهى عن سوء الظن وعن التجسس والغيبة. وهي كلها عوامل فرقة وتمزيق الوحدة بينما دعا إلى تقوية هذه الوحدة بالتراحم والتعاون وحسن الجوار وكل ما فيه معاني الإنسانية من عفو وتسامح إلى حد الإحسان إلى المسيء: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
فهذه كلها روافد تصب في أصل أوجه الوحدة الإسلامية ترويها فتنمو على أثرها.
الخاتمة:
وإذا كانت دعوة التضامن الإسلامي كدعوة ظهرت في هذا العصر متميزة من بين الدعوات التي انطلقت في العالم وخاصة بين المسلمين. من قومية وطنية ومدنية ديمقراطية وشعارات متعددة.
فإن الدعوة إلى التضامن الإسلامي في هذا الوقت بالذات وبدت هذه الدعَوات والشعارات لهي أولى وأحرى للأمة الإسلامية لتعود بها إلى صميم دينها والحفاظ على كيانها وإثبات شخصيتها وتثبيت دعائمها على تلك المرتكزات الثلاث ...
وإذا كانت في ظهورها ومنطلقها من خادم الحرمين الشريفين ومن جوار القبلة المشرفة قبلة وجهتهم ومهوى أفئدتهم فإنها بلا شك قد لامست شغاف القلوب المؤمنة وأيقظت شعور الشعوب المسلمة، ولا طقت عواطف كل مسلم في العالم فلقيت بحمد الله قبولا لدى الجماعات واستقبلت بترحاب من الأفراد.
ولا نزال نسمع كل حين وآخر بنتائج عظيمة حيث تنادي بعض الدول بالعودة إلى الإسلام والتزامها بتنفيذ أحكام الشريعة بدلا من القوانين التي كانت تسير عليها.
ومن ثم يلتقي قادة تلك البلاد بشعوبها وتلتف تلك الشعوب بقادتها وتواصل الأمة سيرها على نور الله.(29/318)
واليوم ومن رحاب الجامعة الإسلامية ومن أرض المدينة المنورة مهد الدعوة ومنطلق الدعاة تتجدد تلك الدعوة من المؤتمر الثاني لإعداد الدعاة تنطلق في جدتها وجديد رونقها وصفاء محاسنها بريئة من كل شائبة نزيهة عن كل غرض شخصي أو مادي بعيدة عن أي اتجاه سياسي أو فكر أجنبي مصطبغة بصبغة الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} فإنها بحمد الله لتعلوا على الشبه وتسمو عن الشكوك وتحلق في سماء الحق معلنة أنها دعوة السلف وأمانة الخلف وأنه لا يصير آخر هذه الأمة إلا ما قد أصلح أولها وسما بسلفها قمة المجد.
كما أنها بارتكازها على تلك المرتكزات الثلاث التي أسلفنا وهي مرتكز طبيعة تكوين الإنسان وسنة الحياة. ومرتكز منهج التشريع الإسلامي. ومرتكز الحالة السياسية والوضع الاجتماعي الذي نعيشه. فإنها ترتكز على عوامل قبولها وتحمل دواعي بقائها.
كما تحقق للأمة الإسلامية كل مطالبها وتمكن لها ما أراده الله منها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُم} . أي دعوة التضامن الإسلامي بما تشير إليه هذه الآية في نهايتها لم يقتصر نفعها على المسلمين فحسب بل وعلى أهل الكتاب لو آمنوا بها وأيدوها.
ثم بين تعالى ما لو تم للعالم الإسلامي اتحاده وتضامنه وأخذ الأعداء يكيدون له أنهم سيندحرون كما قال: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} .
ونحن لا نبعد إلى هذا الحد ولا نفرط في التفاؤل أو نتطلع إلى غير المسلمين وإنما ندعو إلى تضامن الأمة الإسلامية تحت شعار الوحدة والإخاء
وإن دور الدعاة إبراز أهمية التضامن وضرورة الوحدة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله ومحاسن الإسلام وحكمة التشريع ما أمكن ذلك.(29/319)
فإن العالم الغربي اليوم في متاهة الحيرة وظلمة الضلالة ولو وجد ضياء من تعاليم الإسلام لبادر إليه.
وليس بعيدا عنا إسلام (الدكتور المسيحي) في المؤتمر الطبي. لما رأى ما في الإسلام من تعاليم وما في القرآن من إعجاز الأمر الذي جعله يعلن عن إسلامه في قاعة المؤتمر عن قناعة وإدراك ومعرفة.
وها هي الأعداد الكثيرة التي يعلن عن إسلامها في كثير من دول العالم. وفي هذه البلاد وفي المدينة بالذات لما يشاهدون من إخاء وتعاطف وتعاون وتراحم فالله الله في الدعوة إلى الله وإلى التضامن الذي هو التطبيق العملي لدعوة الإسلام: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} .
كما إنا لنهيب بالجهات المختصّة أن تمد يد العون وتبذل كل الجهد لمساعدة الدعاة إلى الله في دول العالم بما يستطيعون به القيام بواجبهم وأداء عملهم على الوجه الذي يرونه وتتطلبه دعوتهم في مراكز عملهم.
كما نأمل دوام انعقاد هذا المؤتمر وعلى فترات متقاربة لمدارسة أحوال الدعاة على ضوء واقع حياتهم وما يستجد أمامهم: وتقديم المساعدة إليهم قولا وعملا وبالله التوفيق.. وصلى الله وسلم وبارك على إمام المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم ...(29/320)
كَيفَ أقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّل دَوْلة إسلاميَّة
عَلى التضَامُنِ وَالوَحْدَة؟
الدكتور محمد السيد طنطاوي
رئيس شعبة التفسير بالدراسات العليا بالجامعة
كلمتا التضامن والوحدة، من الكلمات المحببة إلى النفوس، لأنهما تدلان على التكافل، والترابط، والتراحم، بين الأفراد والجماعات.
وقد سما الإسلام بهاتين الكلمتين، فجعلهما رمزاً للتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، بعد أن كانتا في الجاهلية، تخضعان للروابط العنصرية، وللنزعات القبلية، ولإرضاء ما جبلت عليه النفوس - التي استحوذ عليها الشيطان- من حب للسيطرة، ومن التعالي على الغير، وإخضاعه لسلطانه ... فمثلا، قبل الإسلام، تضامنت واتحدت قبيلة الأوس فيما بينها، وقبيلة الخزرج فيما بينها، على أن تنتقم كل قبيلة من الأخرى، وأن تخضعها لسلطانها ...
أما بعد أن وفق الله- تعالى- هاتين القبيلتين للدخول في الإسلام فقد صار هذا التضامن، يقوم على الحب والإخاء والتعاطف بين الجميع، بدون تفرقة بين قبيلة وأخرى.
ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة إسلامية على التضامن والوحدة، عن طريق التوجيهات القرآنية، والإرشادات النبوية.
وذلك لأن القرآن الكريم، هو الكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم لكي يخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وليكون هداية لهم إلى ما هو أقوم، وليرشدهم إلى ما يسعدهم ويصلحهم، وليجنبهم الوقوع في الأخطاء التي لا تحمد عقباها.
أما السنة النبوية فمن أهم وظائفها: تفصيل ما جاء في هذا القرآن من إجمال، وتأكيد ما أمر به أو نهى عنه ...(29/321)
روى الإمام أبو داود في سننه عن المقداد بن معد يكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع" [1] .
وهذه التوجيهات القرآنية، وتلك الإرشادات النبوية، قد سلكت في إقامة أول دولة إسلامية على التضامن والوحدة، مسالك متنوعة، أن أهمها ما يأتي:
أولاً: أن القرآن الكريم، قد بين للناس جميعا، أن الله- تعالى- قد خلقهم بقدرته من نفس واحدة، فعليهم أن يعيشوا في هذه الحياة متآخين متحابين.. قال - تعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ] النساء: [1.
والمعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه، وبأن تشكروه فلا تكفروه، فهو وحده الذي أوجدكم من نفس واحدة، هي نفس أبيكم آدم، وهو وحده الذي أوجد من هذه النفس الواحدة زوجها حواء، وهو وحده الذي "بث "أي: نشر وفرق، من تلك النفس الواحدة وزوجها، على وجه التوالد والتناسل، رجالا كثيرا، ونساء كثيرة.
فأنت ترى أن هذا النداء لجميع المكلفين، قد نبههم إلى أمرين:
أولهما: وحدة الاعتقاد بأن ربهم واحد لا شريك له، فعليهم أن يخلصوا له العبادة، لأنه هو الذي خلقهم وهو الذي رزقنهم، وهو الذي يميتهم وهو الذي يحييهم، وهو الذي أوجدهم جميعاً - بقدرته النافذة- من نفس واحدة.
وثانيهما: وحدة النوع والتكوين، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وأشكالهم وأجناسهم، قد انحدروا عن أصل واحد..(29/322)
ومادام الأمر كذلك فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم، وأن يبنوا علاقاتهم فيما بينهم على التضامن والتكافل والإخاء وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس عَلى جنس، ولا للون على لون، إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم، وطاعتهم لخالقهم- عز وجل-.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في كثير من أحاديثه، ومن ذلك ما جاء في خطبته الجامعة في حجة الوداع فقد جاء فيها:
"أيها الناس ألا إن ربكم واحد, لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود, إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: فليبلغ الشاهد الغائب".
ثانياً: لقد صرح القرآن الكريم، بالحكمة التي من أجلها خلق الله- تعالى- الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل، فقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ] الحجرات: 13 [.
وقوله "شعوباً" جمع شعب، وهو الجمع العظيم من الناس يجمعهم أصل واحد.
وقوله "قبائل"جمع قبيلة. والقبيلة: الجماعة من الناس يضمهم أب واحد.
والمعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وهما آدم وحواء {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} .
أي: وجعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً، فتصلوا الأرحام، وتتبينوا الأنساب، وتتعاونوا على ما ينفعكم، ويصلح شأنكم.
فالتعارف - لا التناكر- هو أساس العلائق بين البشرِ، وهو الحكمة التي من أجلها خلق الله- تعالى- الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل. ويجب أن يعود الناس إلى هذا التعارف والتآلف، وأن يزيلوا ما نشب بينهم من خلاف، وما دب فيهم من خصام، حتى تتحقق الحكمة المنشودة من وجودهم في هذه الحياة.(29/323)
ثالثاً: لقد بين القرآن الكريم في كثير من آياته، أن الأمة الإسلامية، أمة واحدة في عقيدتها وفي شريعتها، مهما تناءت ديارها، وتباعدت أوطانها، واختلفت لغاتها، ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ] الأنبياء: 92 [.
وقوله- تعالى-: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ] المؤمنون:52 [.
أي: إن هذه الأمة الإسلامية، التي هي أمتكم- أيها المسلمون- "أمة واحدة"لأن إلهها واحد، ودينها واحد، وشريعتها واحدة، وقبلتها واحدة، وأهدافها واحدة ...
{وَأَنَا رَبُّكُمْ} لا شريك لي في الربوبية {فَاعْبُدُونِ} أي: فأخلصوا لي العبادة والطاعة، ولا تشركوا معي أحداً من خلقي في ذلك.
وهذه الوحدة للأمة الإسلامية، قد أكدها الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيداً قوياً، عن طريق إرشاداته المتنوعة، وتوجيهاته السامية.
وفي هذا المعنى يقول بعض العلماء: لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، الوحدة الإسلامية الجامعة لأمته، فقد تضافرت عنه الروايات الدالة على الأخوة الإسلامية التي لا تفرق بين عربي وأعجمي، ولا بين شريف وضعيف، ولا بين إقليم وإقليم، وقال في عبارة جامعة: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ... "
وغير هذا مشهور مستفيض، حتى إن ذلك ليتواتر في المعنى، فهو من المعاني التي تفهم من تعاليم الإسلام بالضرورة، ولا يعد من المسلمين من ينكرها، أو يخالفها جحودا بها.
وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم المبينة لهذه الوحدة الجامعة، فهي تلك المؤاخاة التي ربط بها بين القرشي، والخزرجي، والأوسي، ومن كان من أصل غير عربي ...
المسلمون إذن أمة واحدة، وتلك حقيقة يعد من نافلة القول بيانها، فضلاً عن إقامة الدليل عليها، لأنها مجمع عليها [2] .(29/324)
رابعاً: أن القرآن الكريم، قد بين للناس، أن الرسالات السماوية جميعها، قد اتفقت على إقامة الدين على إخلاص العبادة لله- تعالى- وعلى نبذ التفرق والاختلاف في أحكامه..
قال- تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ] الشورى: 3 ا-14 [.
والمعنى: إن الله - تعالى- سن لكم- يا معشر المسلمين- من الدين، ما سنه لنوح والذين من بعده من الأنبياء إلى زمن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- ما أمرهم به جميعاً فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
أي: أن أقيموا الدين على ما أمركم به الله- تعالى-، من توحيده وطاعته، ولا تختلفوا في أحكامه التي أجمعت على صحتها شرائع الأنبياء السابقين، فإن هذا الاختلاف يؤدى إلى فشلكم وذهاب ريحكم ...
ثم بين- سبحانه- موقف المشركين من دين التوحيد فقال: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} .
أي: شق وعظم على المشركين ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله- تعالى-، ومن ترك الاختلاف في أحكامه الدين الحق.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان من هم أهل لرضاه وهدايته فقال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .
أي: الله- تعالى- يصطفي من يشاء من عباده، فيقربهم إلى محل كرامته، ويوفق للعمل بطاعته من ينيب إليه، ويسلم له وجهه.(29/325)
ثم يبين- سبحانه- الأسباب التي أدت بالناس إلى التفرق في أحكام الدين الحق، فقال - تعالى-: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم ... } .
أي: وما تفرق هؤلاء السابقون بعد موت أنبيائهم {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْم} الدال على صدق هؤلاء الأنبياء، وكان الدافع لهم على هذا التفرق والاختلاف، هو البغي والحسد وتجاوز الحدود التي شرعها الله- تعالى.
وقوله: {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} وهو زيادة في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أشد في القبح والعناد.
فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم بأنه حق، لأن العلم كالمطر، فكما أن المطر لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، فكذلك العلم لا ينتفع به إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية، والأفئدة المستقيمة.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين، قد بينتا للناس، أن جميع الأنبياء قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله – تعالى- وحده، وإلى اجتناب التفرق والاختلاف في أحكام الدين، التي أجمعت عليها الشرائع الإلهية، والتي لا يترتب على الاختلاف فيها سوى الفساد والخسران.
خامساً: لقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين في كثير من آياته، بسوء عاقبة الاختلاف والتنازع، وحذرهم من طاعة أعدائهم، وحرضهم على الاعتصام بحبل الله - تعالى-، وعلى التآلف والتضامن فيما بينهم، وهذه بعض الأمثلة لذلك:
أ- في أعقاب غزوة بدر، تطلع بعض الناس إلى الغنائم، واختلفوا في شأن تقسيمها، فنزل قوله- تعالى-: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ] الأنفال: ا [.(29/326)
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، عدداً من الروايات التي وردت في سبب نزولها، ومن هذه الروايات، ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه - واللفظ له-، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:
لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنع كذا فله كذا، فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت الغنائم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا رِدْءاً لكم، لو انكشفتم لثُبْتمُ إلينا، فتنازعوا، فأنزل الله- تعالى- {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَال......} الآية.
وروى الإمام أحمد- بسنده- عن أبى أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت، عن هذه الآية فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقسَّمه بين المسلمين عن بواء - أي على السواء- " [3] .
والمعنى: يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تُقسَّم؟ ومَن المستحق لها؟ قل لهم: الأنفال لله يحكم فيها بحكمه - سبحانه-، ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها.
فاتقوا الله- تعالى- أيها المؤمنون، وأصلحوا ما بينكم من أحوال وروابط، بأن يكون ما بينكم من صلات، يقوم على الألفة والمحبة والمودة وترك الخلاف ...
وفي هذه الإجابة على سؤالهم، تربية حكيمة لهم- بعد أول لقاء بينهم وبين أعدائهم-، حتى يجعلوا جهادهم بعد ذلك خالصاً لوجه الله- تعالى-، وحتى لا تكون أعراض الدنيا، سببا في اختلافهم ...(29/327)
ب- وفي السورة نفسها، وفي أعقاب غزوة بدر- أيضاً-، ناداهم بصفة الإيمان، ودعاهم إلى الثبات عند لقاء الأعداء، وإلى الإكثار من ذكر الله- تعالى-، وإلى التزام طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن التنازع، وبين لهم سوء عاقبته فقال ـ تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ] الأنفال: 45-46 [.
فقوله- سبحانه-: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} نهي لهم عن الاختلاف المؤدي إلى الفشل وضياع القوة، بعد أمرهم بالثبات والمداومة على ذكر الله- تعالى- وطاعته.
والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين، يراهما قد رسمتا للمؤمنين في كل زمان ومكان، الطريق التي توصلهم إلى الفلاح والظفر.
إنهما تأمران بالثبات عند لقاء الأعداء، والثبات من أعظم وسائل النجاح، وأقرب الفريقين إلى النصر، أكثرهما ثباتاً ...
وتأمران بمداومة ذكر الله، لأن ذكر الله هو الصلة التي تربط الإنسان بخالقه الذي بيده كل شيء، ولا يعجزه شيء ...
وتأمران بطاعة الله ورسوله، لأن طاعتهما دليل على قوة الإيمان، وصفاء النفوس، وطهارة القلوب ...
وتنهيان عن التنازع، لأنه يؤدى إلى الضعف، والتخاذل، وهوان الأمر، وذهاب القوة ...
ثم تختمان بالأمر بالصبر، الذي هو توطين النفس على ما يرضى الله، وعلى احتمال المكاره والمشاق في جَلَد. وهذه الصفة لابد منها لكل من يريد الوصول إلى آماله وغاياته.
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين الكريمتين: "هذا تعليم من الله- تعالى- لعباده المؤمنين، آداب اللقاء، وطريق الشجاعة، عند مواجهة الأعداء" [4] .(29/328)
سادساً: أن القرآن الكريم قد أمر المؤمنين، بأن يصلحوا بين إخوانهم في العقيدة، إذا ما دب نزل فيهم، وأن يجبروا الفئة الباغية، على الخضوع للحق والعدل، حتى ولو أدى ذلك إلى قتالها ...
قال- تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ] الحجرات: 9 , 10 [.
ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها، ما أخرجه الإمام أحمد - بسنده- عن أنس بن مالك قال: قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ قال: فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون ...
فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نَتْن حمارك.
فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.
فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي.. فبلغنا أنه نزل فيهم قوله- تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... } الآية" [5] .
ومن المعروف بين العلماء، أن هاتين الآيتين وإن كانتا قد نزلتا في حادثة معينة، إلا أن ما اشتملتا عليه من أحكام وآداب يعم الأمة الإسلامية كلها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقوله أهل العلم.
والمعنى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي: تقاتلوا أو دبّ بينهما ما يوجب حجزهما وردهما إلى المحبة والسلام.(29/329)
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} عن طريق النصح، وإزالة الشبهة وأسباب الخصام، والدعاء إلى حكم الله- تعالى- والرضا به.
والأمر هنا للوجوب، والخطاب لأولي الأمر، ولكل من في إمكانه الإصلاح بين المسلمين.
وقوله- سبحانه-: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} أي: تعدت إحداهما على الأخرى بغير حق، وأبت الصلح، والاستجابة لحكم الله- تعالى-.
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: قاتلوا الباغية حتى ترجع إلى حكم الله - تعالى-، وتقبل قضاءه عن سمع وطاعة.
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أولا.
فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يُمشَى بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكافَّة والموادعة.
فإن لم يتحاجزا ولم يصلحا وأقامتا على البغي، صِيرَ إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلا أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل" [6] .
وقوله- سبحانه-: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} بيان لما يجب اتباعه مع الفئة الباغية، إذا ما ثابت إلى رشدها، وقبلت حكم الله - تعالى-.
أي: فإن رجعت الفئة الباغية إلى حكم الله، فأصلحوا بين الفئتين بالعدل الذي أمر الله- تعالى- به، وأقسطوا في كل الأمور، لأن الله- تعالى- يحب العادلين في أحكامهم. وجمع- سبحانه- في هذه الجملة بين الأمر بالعدل وبالقسط، لتأكيد هذا الأمر؛ لأن عدم العدل في الأحكام، كثيراً ما يؤدي إلى ازدياد التنازع والخصام.(29/330)
ثم بين- سبحانه- الأسباب الداعية إلى وجوب المسارعة إلى الإصلاح بين المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} .
أي: إنما المؤمنون إخوة في العقيدة والدين، فهو يجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، كما يجمع الإخوة أصل واحد وهو النسب.
بل إن أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب، لن أخوة النسب تنقع بمخالفة الدين، أما أخوة الدين فلا تنقطع بمخالفة النسب.
قال الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين: "وخص الاثنين بالذكر في قوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجماعة، أكثر من في شقاق الاثنين" [7] .
ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله ما دعا إليه القرآن من وجوب الإصلاح بين المسلمين إذا ما نشب بينهم نزاع.
أما قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك فمنه ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل سُلامى [8] من الناس عليه صدقة، وكل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة".
وأما عمله فقد كان صلى الله عليه وسلم يسعى في الإصلاح بين الناس، حتى ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة..
أخرج الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه، فحبس صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس، وحانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال:
نعم إن شئت.....الحديث" [9] .(29/331)
سابعاً: أستطيع أن أقول ـ على سبيل الإجمال ـ: إن تعاليم الإسلام، قد أمرت باعتناق كل فضيلة، تؤدي إلى وحدة المسلمين، وتضامنهم، وترابطهم، وتكافلهم ...
وحاربت كل رذيلة من شأنها التفريق بينهم، وتشتيت كلمتهم، وتمزيق وحدتهم، وإشاعة البغضاء فيهم ...
ولقد سقنا قبل ذلك من توجيهات القرآن الكريم، ما فيه العبر والعظات، لقوم يعقلون.
وبقي أن نسوق المزيد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي من أهم وظائفها، تفصيل ما أجمله القرآن الكريم، وتأكيد ما أمر به أو نهى عنه ...
أ- لقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على التضامن والاتحاد، في عشرات الأحاديث، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه [10] .
ب- وحض على التمسك بكل فضيلة توصل إلى غرس روح المحبة والمودة بين المسلمين، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم: أمر بالتزاور والتواصل والتحاب في الله، وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله - تعالى- على مَدْرَجته ـ أي ـ طريقه- ملكا، فلما أتى عليه قال له: أين تريد؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية.
قال: هل لك من نعمة تَرُبُّها عليه؟ [11] قال: لا غير أنى أحببته في الله- تعالى-.
قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته" [12] .
جـ - وأمر بالتهادي، وبالطيب من الكلام، وبطلاقة الوجه عند اللقاء. روى الإمام الترمذي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا فإن الهدية تذهب وقر الصدر" أي تذهب غله وغشه وبغضه.
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها".(29/332)
وروى الشيخان عن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" [13] .
د- هذه بعض الفضائل التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه بالتخلق بها، لأنها مدعاة إلى غرس روح الإخاء والمحبة فيهم..
وقد نهى صلى الله عليه وسلم وفي مقابل ذلك عن كل ما من شأنه أن يزعزع وحدة المسلمين، أو يضعف تضامنهم وتعاونهم على البر والتقوى.
وحسبنا أن نسوق في ذلك هذا الحديث الجامع، الذي رواه الشيخان، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ولا تجسسوا [14] ، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا [15] ، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم.
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا، ـ ويشير إلى صدره- صلى الله عليه وسلم.
بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [16] .
هـ- هذه بعض أقواله صلى الله عليه وسلم قالها الداعية إلى وحدة المسلمين وتضامنهم، والناهية عن تفرقهم وتناكرهم وتباغضهم.
فإذا ما اتجهنا إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم وجدناها تقوم على تأكيد هذا المعنى وتحقيقه عمليا، ومن أبرز الأدلة على ذلك ما يأتي:(29/333)
و حرصه صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المسلمين، منذ السنوات الأولى للدعوة الإسلامية، فقد ذكر أصحاب السير، أنه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، آخى بين أبي بكر وعمر، وبين الحمزة وزيد بن حارثة، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين أبي عبيدة وسالم - مولى أبي حذيفة-، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ... وهذه المؤاخاة في الدين والعقيدة، تعتبر أول تنظيم للجماعة الإسلامية الأولى، يقوم على الترابط، والتكافل، والتكاتف ...
ز- فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وسَّع دائرة هذا التضامن والإخاء، فجعله بين المهاجرين والأنصار.
قال ابن إسحاق- رحمه الله-: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال- فيما بلغنا عنه ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل-: "تآخَوا في الله أخوين أخوين"، ثم أخذ بيد عليّ بن أبى طالب فقال: "هذا أخي"، وكان جعفر بن أبي طالب ومعاذ ببن جبل أخوين، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زهير أخوين، وعمر بن الخطاب وعِتْبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، وعثمان بن عفان وأوس ابن ثابت أخوين، وطلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين ...
وبلال بن رباح وأبو رُوَيْحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي أخوين ...
فلما دون عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهدا، فقال عمر لبلال: "إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها بينه وبيني، فَضُمّ إليه" [17] .
حـ - وقد استمر صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا الإخاء بين المسلمين- بقوله وعمله- إلى أن لقي ربه.(29/334)
ولقد بلغ من حرصه على ذلك، أنه عندما كان في سفر مع أصحابه، ورأى أن القافلة حين تستريح يتفرق أهلها، لم يعجبه هذا التفرق، بل دعاهم إلى التجمع والتقارب ...
روى أبو داود عن أبى ثعلبة الخُشَني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تفرقكم هذا من الشيطان" فلم ينزلوا بعد منزلا، إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى قال: لو بُسِط عليهم ثوب لعمهم" [18] .
هذه بعض الأحاديث من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله، ومنها نرى، كيف كان صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على وحدة المسلمين، وعلى تضامنهم، وعلى إخائهم وترابطهم، ويسوق الإرشادات المتنوعة، التي من شأنها أن تجعل المسلمين- متى اتبعوها- كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ويحذر من الفرقة والتباغض وشق عصا المسلمين تحذيرا شديدا، وأختتم هذه الأحاديث بما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" [19] .
أي: ولكنه لم ييأس من الإفساد بينهم، وتغيير قلوبهم، والعمل على تقاطعهم..(29/335)
وبما رواه- أيضا- الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه - أي خيمته -، ومنا من ينتضل،- أي يسابق بالرمي- ومنا من هو في جَشَره - أي في رعاية دوابه -، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلم لهم. وإن أمتكم هذه جُعِلت عافيتها في أولها [20] ، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقِّقُ بعضُها بعضا [21] ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلِكَتِي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يُزَحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤتَى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه، وإن جاء آخرُ ينازعه، فاضربوا عنق الآخر. ومن مات وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية " [22] .
أما بعد: فإن التضامن والتراحم والاتحاد، يزيد الأقوياء قوة على قوتهم، ويرفع عن الضعفاء ضعفهم ...
أما الشقاق والتفرق والتدابر ... فيضعف الأمم القوية، ويمحق الأمم الضعيفة ...
وقد فطن إلى هذا المعنى رجل حكيم، فقد جمع أولاده عندما أحس بدنو أجله، ـ ليلقنهم درسا في فوائد الاتحاد-، ثم أحضر حزمة من العصي قد اجتمعت عيدانها، وطلب منهم أن يكسروها فعجزوا، فلما فرق عيدانها سهل عليهم كسرها، فقال لهم:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب، ولا تتفرقوا آحاد
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
فإذا انفردن تكسرت أفرادا
وإذا كان أهل الباطل يتجمعون من أجل نصرة باطلهم ...
فأولى ثم أولى بأهل الحق أن يتضامنوا ويتحدوا، لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل.(29/336)
إن العقلاء من الناس يختلفون في وجهات نظرهم، ولكنهم لا يتباغضون ولا يتنابذون ... بل يعيدون التشاور فيما بينهم، حتى يصلوا إلى الحق الذي ينشدونه.
إننا نتطلع إلى تضامن بين المسلمين، يقوم على تعاليم الإسلام، وتحرسه تشريعاته الحكيمة، وتحميه من الانحراف آدابه القويمة، وتوجهه إلى البر والتقوى آدابه الكريمة ...
وهذا إنما يتأتى، متى صلحت النيات، وصدقت العزائم، وطهرت النفوس من الغل والحسد والأنانية والميل مع الهوى ...
وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير القرطبي جـ1ص37.
[2] من مقال لفضيلة الأستاذ لشيخ محمد أبي زهرة ـ رحمه الله ـ نشره بمجلة (المسلمون) سنة 1371هـ ص364.
[3] تفسير ابن كثير جـ 2ص283 طبعة عيسى الحلبي.
[4] تفسير ابن كثير جـ2ص316.
[5] تفسير ابن كثير جـ4ص211.
[6] تفسير القرطبي جـ16ص317.
[7] حاشية الجمل على الجلالين جـ4ص179.
[8] السلامى ـ بضم السين وتخفيف اللام ـ: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن.
[9] رياض الصالحين: باب الإصلاح بين الناس ص128-129.
[10] من كتاب رياض الصالحين ص120 للإمام النووي، باب تعظيم حرمات المسلمين.
[11] تربها عليه: تقوم بها وتسعى في صلاحها.
[12] رياض الصالحين: ص176، باب زيارة أهل الخير.
[13] رياض الصالحين: ص312، باب استحباب طيب الكلام.
[14] التجسس: تتبع عورات الناس وعيوبهم.(29/337)
[15] النجش: الزيادة في السلعة للخديعة لغيره.
[16] رياض الصالحين: ص602، باب النهي عن التجسس، للإمام النووي.
[17] السيرة النبوية لابن هشام جـ1ص504، طبعة مصطفى الحلبي ـ بتصرف وتلخيص ـ.
[18] مختصر سنن أبي داود جـ3ص430، تحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ.
[19] رياض الصالحين: ص610، باب تحريم الهجران بين المسلمين.
[20] أي: جعلت سلامتها من الفتن في أولها.
[21] أي أن كل فتنة تكون ما بعدها أشد منها.
[22] رياض الصالحين: ص310، باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله.(29/338)
الفتح العُمَرِي لِلقدسِ نموذج للدّعوَة بالعمل وَالقدوَةِ
د. شفيق جاسر أحمد محمود
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
تمهيد:
وضع الإسلام معايير خاصة لسلوك المسلمين، تجعل له طابعاً متميزاً، وهذه المعايير مستوحاة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ومن التطبيق العملي لهذه الأخلاق وهذا السلوك، كما قام بها ومارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه والسلف الصالح جميعاً.
فلا إيمان بالقلب إلا إذا صدقه العمل وظهر على الجوارح بالعبادات والأخلاق والمعاملات. وقد كان التزام سلفنا الصالح بهذا الخلق سبباً لنيلهم خيري الدنيا والآخرة، ومثاراً لإعجاب أعدائهم بهم، وبعقيدتهم ودينهم الجديد. فدانت لهم الأمم، وأعجبه بهم الشعوب، ودخلت في دينهم زرافات ووحدانا طائعة مسرورة. وحتى الشعوب التي بقيت على دينها، فإنها رأت في الخضوع لسلطان المسلمين خلاصاً من ظلم مستعبديهم ولو كانوا من بني جلدتهم، ورأت في الوجود الإسلامي أمناً واطمئناناً على النفس والعرض والمال والولد والمعتقد والمقدسات.
لهذا فقد كان سلوك المسلمين أهم وسائل إظهار محاسن دينهم وكان لذلك أثره على الفرد والمجتمع، كما كان تطبيقهم العملي لتعاليم ذلك الدين، أهم وسائل الدعوة لهذا الدين، فالمساواة، والعدل، والتواضع، والإعراض عن الإغراق في متع الدنيا، والرحمة ورعاية أهل ذمة الله ورسوله، كل تلك الصفات المثالية طبقها المسلمون وخصوصاً في عصر النبوة والخلفاء الراشدين كما طبقها من جاء بعدهم من الخلفاء المتقين أمثال عمر بن عبد العزيز وغيره.(29/339)
وكنموذج لهذه الأخلاق الإسلامية، وتطبيق لأهمية القدوة والعمل بالأخلاق الإسلامية في الدعوة الإسلامية، أورد فيما يلي من خلال هذا البحث المتعلق بفتح القدس، وصفاً لسلوك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمسلمون عامة، مما كان له أطيب الأثر في نفوس النصارى. ودفعهم إلى المطالبة بأن يكون الخليفة نفسه المتولي لاستلام مدينتهم. وزاد في ثقتهم في عدله وعدل المسلمين، ما رأوه وجربوه من أخلاقه وأخلاق أصحابه، فأعجبوا بهذا الدين الجديد الذي استطاع تحويل هؤلاء العرب إلى الدين بعد القسوة، والقناعة بعد الطمع، والوحدة بعد الفرقة، وحفظ العهد ورعاية الذمة بعد الغزو والنهب. فدفع ذلك معظم أهل الشام ومنهم أهل القدس إلى الإقبال على الدخول في الإسلام خلال سنوات ليست بالطويلة.
أهمية القدس لدى المسلمين:
للقدس مكانة خاصة لدى المسلمين، لا تقل عن مكانتها لدى أصحاب الديانات السماوية الأخرى، فهي أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين اللذين تشد إليهما الرحال، وإليها أسرى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنها عرج به إلى السماء، وفيها صلى بالملائكة.
وقد نص القرآن الكريم على أنها مباركة، باركها رب العالمين هي وما حولها وذلك في الآية الأولى من سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . هذا بالإضافة إلى ما ذكره المفسرون في تفسير بعض آيات القرآن الكريم وما حوته من إشارات إلى مكانة القدس في الإسلام.(29/340)
كما أشار إليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما حض على زيارتها في الحديث الصحيح "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" [1] بالإضافة إلى العديد من الأحاديث التي أوردتها كتب الحديث، وكتب الفضائل المتعلقة بأهمية القدس وفضلها وفضل الصلاة في مسجدها، والإهلال منها بحجة أو عمرة، والوفاة فيها.
كما أنه ليس من المستغرب أن نعلم بأن معظم سكانها قبل الفتح كانوا من أصل عربي، شأنهم شأن سكان فلسطين، حيث كان جل سكانها من لخم وجذام الذين تنصروا [2] . ولو رجعنا إلى التاريخ أكثر قليلاً لوجدنا أصل سكانها من اليبوسيين الكنعانيين الذين هاجروا لبلاد الشام من السواحل الشرقية للجزيرة العربية.
الروايات المختلفة في كيفية وتاريخ فتحها:
لهذا كله أهتم المؤرخون المسلمون بأخبار فتحها، والسنة التي تم فيها الفتح، كما أفاضت كتب التاريخ في ذكر أخبار محاضرة المسلمين لها، وحضور الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتسلمها ومصالحة أهلها وإعطائهم عهد الأمان الذي عرف بالعهدة العمرية، بالإضافة إلى بناء مسجده بساحة المسجد الأقصى.
ومن دراسة الروايات المختلفة يتبين لنا أن الروايات الشامية تؤكد أن هدف قدوم الخليفة عمر بن الخطاب من المدينة إلى الشام، كان تسلم مدينة القدس بناء على طلب أبي عبيدة، القائد العام للجيوش الإسلامية المحاصرة لها، وتلبية لرغبة بطريركها. مما يؤكد أهمية القدس لدى المسلمين، وهذا لا يمنع أن يكون الاجتماع بالمسلمين وتنظيم إدارة بلاد الشام أحد أهداف الخليفة عمر أيضاً من مسيره إلى الشام. فسار بعد تسلم القدس إلى الجابية حيث كانت غنائم اليرموك وغيرها موجودة هناك، وقد أيد الشاميين في وجهة النظر هذه بعض الرواة الحجازيين. وإنني أميل إلى ترجيحها، فأهل الشام قد يكونون أدرى بفتوح بلادهم.(29/341)
أما الروايات التي ذكرت بأن حضور الخليفة إنما كان بقصد الاجتماع بالقادة المسلمين في الجابية، ثم اتفق أن طلبت القدس الاستسلام في ذلك الوقت فذهب إليها الخليفة وتسلمها، فهي على الأغلب روايات كوفية، بعيدة عن مجريات الأحداث، إن لم نقل إن الغرض منها قد يكون إظهار أن القدس ليس لها فضل كبير على المدن الأخرى، وذلك نكاية بالأمويين الذين كانوا يظهرون اهتماماً خاصاً بالقدس، وهذا ينطبق على الروايات التي أفادت بأن خالد بن ثابت الفهري، أو عمرو بن العاص هما اللذان حاصرا القدس واضطرا أهلها لطلب الصلح، وكذلك الرواية التي ذكرت بأن العوام هم الذين صالحوا عمر بن الخطاب وليس البطريرك صفرونيوس.
أما عن السَنَةِ التي فتحت فيها القدس، فقد ذكر الطبري عن سيف أنها كانت سنة 15هـ[3] . كما ذكر ابن سعد، وخليفة بن خياط، واليعقوبي، وابن عساكر، والواقدي، والبلاذري، والطبري في رواية أخرى عن سيف أن الفتح كان سنة 16هـ[4] . كما ذكر ياقوت الحموي، والبلاذري وابن اسحق، والطبري في رواية سيف عن هشام بن عروة بأن الفتح كان سنة 17 [5] . والأغلب أن عام 17، هو الأصح.
أحداث الفتح والقدوة في سلوك الخليفة وأصحابه:(29/342)
لقد تخللت أحداث الفتح مجموعة من المواقف، ونماذج من السلوك صدرت عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أصحابه، كانت كما سبق أن ذكرت أكبر برهان على أثر الإسلام على معتنقيه من حيث إحداث التغيير الأساسي في الخلق والسلوك وتوجيههما نحو المثالية والكمال الذي طمحت وتطمح إلى بلوغه أو بلوغ شيء منه جميع الأمم والمصلحين. فكان أن أقبلت الشعوب على الدخول في ذلك الدين، أو انضوت تحت حكم المسلمين واثقة من عدالتهم ووفائهم بعهودهم، ورأى قادة الروم والفرس أن أمة تعتنق مثل هذا الدين لا يمكن أن تغلب أو تقاوم، فانهارت مقاومتهم وعمهم الرعب وأزيلت أكبر أمبراطوريتين في ذلك العهد، رغم فارق العدد والعدة والغنى والخبرة بين المسلمين وبين أعدائهم.
ونلمس في أحداث فتح مدينة القدس معالم من هذا السلوك الإسلامي والمواقف الإنسانية منها:
ثقة القادة المسلمين بقيادتهم العامة وطلبهم الدائم لتوجيهاتها، فنرى أبا عبيدة بعد انتصاره في معركة اليرموك وفتح مدينة دمشق، يرسل رسوله، عرفجة بن ناصع النخعي، يطلب التوجيه من الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة، فيأمر الخليفة قائده المظفر وصديقه الحميم بأن يتوجه بالمسلمين نحو القدس. وعند ذلك يوجه القائد أبو عبيدة جيوشه نحو القدس، على هيئة كتائب يقود كل منها أحد القادة، أمثال خالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وتضم كل منها خمسة آلاف جندي ويفصل بينها وبين الكتيبة الأخرى مسيرة يوم واحد. بالإضافة لجيش عمرو بن العاص الذي كان قد سبقهم إليها، وإلى ضعفة الناس والنساء الذين سار بهم أبو عبيدة [6] على مهل رفقاً بهم.(29/343)
وكدأب المسلمين في فتوحاتهم، وجه أبو عبيدة رسالة لأهل القدس خيرهم فيها بين الدخول في الإسلام، أو دفع [7] الجزية، أو القتال. فكان أن رفض بطريركها صفرونيوس ـ الذي تولى قيادتها بعد فرار بطريكها إلى مصر على إثر معركة أجنادين - رفض طلب أبي عبيدة، وتحصن بالمدينة آملا في وصول إمدادات ونجدات رومية إليه، خصوصاً وهو يعلم أهمية القدس لدى الروم النصارى، وظناً منه أن المسلمين لن يستطيعوا تحمل برد القدس الشديد، مما سيضطرهم لفك الحصار عندما يشتد البرد.
وهنا تبدو مرة أخرى مقدرة المسلمين على تخطي الشدائد، فتحملوا بتجهيزاتهم البسيطة، برد القدس الشديد وأمطارها الغزيرة، ولاقوا من ذلك عنتاً كبيراً ولكن لم يفت في عزيمتهم ولم يفكروا في فك الحصار.
وعند حلول فصل الربيع، رأي صفرونيوس أن ما توقعه لم يحدث، فلا الروم أنجدوه، ولا البرد أجبر المسلمين على فك الحصار. فلم يجد بداً من عرض التسليم على أبي عبيدة، ولكنه اشترط أن يحضر الخليفة بنفسه من المدينة المنورة [8] ليتسلم القدس ويعطي أهلها عهداً، وذلك لما كان يسمعه عن الخليفة عمر بن الخطاب من عدالة، ورفق، ووفاء بالعهد.
ورغم أن بعض قادة أبي عبيدة قد أشاروا عليه بمناجزة أهل القدس حتى يجبروهم على الاستسلام، إلا أن ما رآه أبو عبيدة من شدة ما قاساه المسلمون من البرد، وما قاساه أهل القدس من الحصار الذي طال أمده، دفعه لأن يكتب للخليفة، يخبره بأحوال المسلمين والنصارى، وبما عرضوه عليه من تسليم المدينة [9] للخليفة شخصياً، وأشار عليه بالحضور لأن في ذلك حقناً لدماء المسلمين.(29/344)
أرسل أبو عبيدة رسالته مع رسول من المسلمين يرافقه وفد من أهل القدس أرسلهم صفرونيوس. وذكر أن أشد ما أثار دهشة وفد النصارى أن رسول أبي عبيدة أخذ يسأل عن مكان الخليفة حتى وجده مستلقيا من الحر، فقدم إليه وفد أهل القدس رسالة أبي عبيدة، وجلس الرسول بجانبه ببساطة العربي وأخوة الإسلام يصف له أحوال المسلمين ويبلغه سلامهم، في حين وقف وفد أهل القدس وهو لا يَكاد يصدق، أن حاكم المسلمين الذين دَوَّخوا دولتي الفرس والروم، ليس له مقر معروف، ولا حرس ولا حجاب، وإنه في مثل هذا الحال من البساطة في المظهر والمعاملة.
وهنا يلجأ عمر بن الخطاب لاستشارة الصحابة كدأبه في مثل هذه الأحوال، فيشير عليه بعضهم بالخروج ويشير بعض آخر بعدم الخروج. ولكنه يفضل الخروج رغم مشاق السفر، ويستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويصطحب خادمه وبعض أصحابه منهم عبادة بن الصامت، والزبير بن العوام، والعباس بن عبد المطلب [10] .
وتبدو البساطة واضحة في تجهيزاته للخروج، فيركب بعيره الأحمر، ويضع عليه غرارتين في أحدهما سويق، وفي الآخر تمر، ويضع بين يديه قربة ماء ويخلفه جفنة زاد. كل ذلك أمام وفد أهل القدس ودهشتهم.
ومن تواضعه أنه عندما وصل إلى مشارف بلاد الشام، استقبله المسلمون بالرايات والسيوف والخيول وعلى رأسهم أبو عبيدة. وأقبل أبو عبيدة على الخليفة عندما رآه مسلما عليه ومحاولاً أن يقبل يده تعظيماً له، ثم تعانقا، وقيل إن المسلمين قدّموا لعمر برذوناً وثياباً بيضاء ليكون مظهره مهيباً، في قلوب الروم، ولكنه رفض الثياب وركب البرذون، فهملج به البرذون، فنزل عنه مسرعاً وركب بعيره وقال: "لقد غيّرني هذا حتى كدت أتغير وأنس نفسي " [11] .(29/345)
وروي أن عمر بن الخطاب وهو في طريقه من المدينة إلى القدس، عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع جرموقيه وأمسكها بيديه وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: "لقد صنعت اليوم صنعا عظيماً عند أهل الأرض "فما كان من عمر إلا أن صك أبا عبيدة في صدره قائلاً: "لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام" [12] .
وزاد من دهشة النصارى أن عمر بن الخطاب عندما اقترب من القدس كان يركب ركوبة غلامه، وكان غلامه يركب جمله الأحر [13] ، فعندما رآه أهل القدس يركب حماراً صغيراً، وقيل كان ماشياً والخادم يركب جملاً أحمر، أكبروه وسجدوا له، فقال: "لا تسجدوا للبشر واسجدوا لله ". فتعجب القسيسون والرهبان من ذلك وقالوا: "ما رأينا أحداً قط أشبه في وصف الحواريين من هذا الرجل " [14] . وقال صفرونيوس باكياً "إن دولتكم باقية على الدهر، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة" [15] .
كما تجلى حرصه على أموال النصارى في تصرفه- لدى وصوله القدس- عندما علم بأن المسلمين قد استولوا على كرم من العنب يقع قرب المدينة، وكان تحت يد الروم وقد غلبهم المسلمون عليه، وكان الكرم لرجل من النصارى، فأخذ المسلمون يأكلون من عنب ذلك الكرم، فأسرع النصراني إلى عمر بن الخطاب شاكياً، فدعا عمر ببرذون له فركبه عرياناً من العجلة، ثم خرج يركض به ليردّ المسلمين عن الكرم، فلقي في طريقه أبا هريرة يحمل فوق رأسه عنباً، فقال له الخليفة عمر: "وأنت أيضا يا أبا هريرة؟ ". فقال أبو هريرة: "يا أمير المؤمنين، أصابتنا مخمصة شديدة، فكان أحق من أكلنا من ماله من قاتلنا". وعند ذلك استدعى عمر رضي الله عنه صاحب الكرم، وطلب منه أن يقدر ثمن محصوله، لأن الناس كانوا قد أكلوه، فقدره الذمي، ودفع له عمر ثمنه، فما كان من الذمي إلا أن أسلم [16] .(29/346)
وصف المصادر النصرانية لدخول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس:
وأذكر هنا ما أورده مؤلفا كتاب (تاريخ القدس ودليلها) وهما نصرانيان، نقلاه بدورهما عن كتاب للآباء الفرنسيسكان وهم من أكثر الفئات تعصباً للنصارى، فقد ذكرا بأن عمر بن الخطاب عندما قدم إلى القدس "استطلع أبا عبيدة على ما كان من أمر القتال، فقص عليه أبو عبيدة تفصيلاً لما جرى، وما أصاب المسلمين وأهل القدس من الضيق والشدة، فبكى عمر، وأمر فوراً بأن يبلغوا البطريرك قدومه، ففعل أبو عبيده ما أمره به الخليفة. وعند ذلك خرج صفرونيوس ومعه الرهبان والصلبان ووجوه النصارى، فلما انتهوا إليه، خف للقائهم، وقد حياهم بالسلام، واقتبلهم بمزيد من الاحتفاء والإكرام. وبعد أن تجاذب والبطريق أطراف الحديث، في شأن المعاهدة والتسليم، أخذ قرطاساً وكتب لهم وثيقة أمانهم كما طلبوا. وقد رفض عمر عند دخوله المدينة أن يصلي في كنيسة القيامة وصلى على مقربة منها. وعندما فرغ من صلاته قال للبطريرك: أيها الشيخ لو أنني أقمت الصلاة في كنيسة القيامة، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامة الصلاة فيها، وأني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها، وأنتم بها أحق وأولى " [17] .
وصف المصادر الإسلامية لدخول المسلمين مدينة القدس:(29/347)
أما المصادر الإسلامية فتذكر أن الخليفة كتب للبطريرك صفرونيوس عندما حضر لاستقباله على جبل الزيتون كتاباً، أمنهم فيه على دمائهم وأموالهم وكنائسهم، إلا أن يحدثوا حدثاً عاماً، شريطة أن يدفعوا الجزية [18] . وقد ذكرت المراجع الإسلامية والنصرانية، نصوصاً مختلفة لهذا العهد الذي عرف بالعهدة العمرية لا مجال للتفصيل فيها. ثم دخل الخليفة يرافقه قادة المسلمين وأربعة آلاف جندي منهم، لا يحملون إلا السيوف في أغمادها خوفاً من الغدر، فزار كنيسة القيامة وصلى على مقربة منها، ثم طلب من صفرونيوس أن يدله على مسجد داود عليه السلام، الذي أسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه حيث صلى فيه وعرج به منه إلى السماء. فطاف به صفرونيوس على عدة أماكن، وعمر ينظر إليها ثم ينكرها، لمخالفتها للوصف الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم سرى به، فلما وصل به صفرونيوس إلى ساحة المسجد الأقصى، وكانت مليئة بالزبل، نظر عمر يميناً وشمالاً ثم كبرّ قائلا: "هذا والله مسجد داود عليه السلام الذي وصفه لنا رسول الله"فأزال المسلمون الزبل عن المكان، فصلى فيه وقيل طلب من المسلمين ألا يصلوا فيه حتى تصيبه ثلاث مطرات [19] .
المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب في ساحة المسجد الأقصى:(29/348)
قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: "يا أبا إسحق، أتعرف موضِع الصخرة؟ ". فقال كعب: "اذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم، كذا وكذا ذراعاً، ثم احفر فإنك تجدها ". وعندما حفر عمر ومن معه ظهرت الصخرة، وقيل إن عمر رضي الله عنه عاد فسأل كعباً: "أين ترى أن نجعل المسجد؟ - أو قال القبلة-"قال كعب: "اجعله خلف الصخرة، فتجتمع القبلتان، قبلة موسى عليه السلام، وقبلة محمد صلى الله عليه وسلم". فقال له عمر - بعد أن صكه بيده في صدره -: "لقد ضاهيت اليهودية يا أبا إسحق! خير المساجد مقدمها. فنجعل قبلته صدره كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مساجدنا صدورها. اذهب، إليك عني، فإنا لم نؤمر بالصخرة، وإنما أمرنا بالكعبة. وما الصخرة إلا قبلة منسوخة" [20] .
مكان المسجد:
قال الواقدي: لقد خط عمر مسجده إلى الجنوب الغربي من الصخرة المشرفة [21] . وذكر البكري وابن حبيش والمقريزي في الخطط وجمال الدين في مثير الغرام ونقل عنه السيوطي أن عمر بنى مسجده أمام الصخرة المشرفة [22] . وذكر مجير الدين أن بداخل المسجد الأقصى في صدر صدره من جهة الشرق مجمع معقود بالحجر وأشيد به محراب، ويقال لهذا المجمع جامع عمر، لأنه من بقية بناء عمر عند الفتح [23] . وذكر كروزويل بأن المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب كان مكان المسجد الأقصى اليوم، ونقل ذلك عن كلير منت غانو [24] .
وصف المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب:
لم يشر البلاذري (ت 868 م) ، والطبري (ت 915 م) ، واليعقوبي (ت 874 م) ، وابن الفقيه (ت 03 9 م) . إلى المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب عندما تعرضا لفتح القدس، ووصفا الحرم القدسي في أيامه الأولى، وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب.(29/349)
وقد وصفه الواقدي فقال: " وخط عمر بن الخطاب مسجده إلى الجنوب الغربي من الصخرة وصلى وأصحابه به صلاة الجمعة. وكان البناء من الخشب، ويتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، وغادر القدس بعد أن أقام بها عشرة أيام [25] .
وأقدم وصف لهذا المسجد أورده أحد السائحين الفرنجة إلى الشرق وهو الأسقف اركولف، اسقف غاليا (فرنسا اليوم) ، حيث زار القدس بقصد الحج عام 670 م أي بعد الفتح الإسلامي بحوالي اثنين وعشرين عاماً فقط. فقال إن عمر بن الخطاب بنى بساحة الهيكل مسجداً مربع الشكل، يتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، ويقع إلى جوار الحائط من الشرق، وهو مبنى من بقايا أعمدة وجذوع أشجار، وغير مسقوف. كما ذكر لي سترانج بأن المؤرخ الرومي ثيوفانوس (751-818 م) قد وصف المسجد الذي بناه عمر فقال: "إن الخليفة عمر بن الخطاب بدأ يبني مسجده في منطقة الهيكل سنة 643م (22هـ) [26] ، لهذا ظل الغربيون والنصارى عامة يطلقون اسم (مسجد عمر) على المسجد الأقصى، مع أن (مسجد عمر) عند المسلمين هو المسجد الصغير المقام أمام كنيسة القيامة على المكان الذي صلى فيه عمر بن الخطاب عندما فتح القدس.
خاتمة:
وبعد فهذه عجالة سريعة، وصورة خاطفة ومشهد قصير في مدته ضيق في مساحته، ولكنه كملايين المشاهد الخالدة مليء بالمفاخر التي حققها سلفنا الصالح، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. فكان أن فتحت عليهم المشارق والمغارب، ودانت أمم الجبابرة، وعم على أيديهم نور الإسلام أنحاء المعمورة. فكانوا قدوة للعالمين في تمسكهم بعقيدتهم، والتزامهِم بتعاليم دينهم، وفي وحدتهم وتناصحهم وجهادهم، بعد أن كانوا في جاهليتهم مضرباً للمثل في الفرقة، والفردية الأنانية، والذل، وما ذلك إلا بإرادة الله وفضل الإسلام. والله الموفق.
المصادر والمراجع
1- ابن البطريق، أوثيشيوس الاسكندري (المتوفى سنة 328هـ) : التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق. بيروت 1904م.(29/350)
2- ابن حنبل، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن محمد ... بن هلال (164-241هـ) : المسند، تعليق أحمد محمد شاكر. القاهرة 1946م.
3- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، أبو عبد الله: الطبقات الكبرى. بيروت 1957م
4- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله ... الدمشقي الشافعي، أبو القاسم (499ـ 571هـ) : تاريخ دمشق وأخبارها (التاريخ الكبير) . دمشق 1329هـ.
5- الأزدي، محمد بن عبد الله ... البصري، أبو إسماعيل البصري: فتوح الشام. كلكتا 1854م.
6- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البغدادي (القرن الثالث الهجري) : فتوح البلدان. نشر صلاح المنجد، القاهرة 1956، أنساب الأشراف، القاهرة.
7-. GRESWELL (K.A.C) : EARLY MUSLEM ARCHITECTURE YMMAYYADS 622-750
LSTED.OXFOD 1940
8- خليفة بن خياط، أبو عمر بن خياط بن أبي هبيرة ... الليثي، العصفري، الملقب بشهاب (القرن الثالث الهجري) تاريخ خليفة بن خياط. تحقيق أكرم ضياء العمري. بغداد 1967م.
9- خليل طوطح، وبولس شماده: تاريخ القدس ودليلها. القدس، بدون تاريخ.
10- STRANGE (GUY LE) : PALESTINE UNDER THE MUSLIMS: LONDON 1980.
11- الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير (224- 310هـ) : تاريخ الرسل والملوك. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1960-1969م.
12- مجير الدين العليمي، عبد الرحمن بن محمد ... العليمي المقدسي (810-927هـ) : الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل. عمان 1977م.
13- مسلم، الإمام المسلم أبو الحسن بن الحجاج بن مسلم القشيري (206-261هـ) : الجامع الصحيح. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. القاهرة 1955م-
14ـ الواقدي، أبو محمد عبد الله بن عمر 130-207هـ: فتوح الشام، عمان 1975م.
15- ياقوت، بن عبد الله الرومي الحموي (575-626هـ) : معجم البلدان. بيروت 1955م.(29/351)
16- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، إسحق بن جعفر بن وهب بن واضح، العباسي المعروف بابن واضح، وابن اليعقوبي (المتوفى 284هـ) : تاريخ ابن واضح. النجف 1358هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن حنبل: المسند، 2:234 ,238، مسلم: الصحيح 2:415 ,513.
[2] البلاذري: 259، الواقدي: 1:170.
[3] الطبري: جـ1:2405-2406.
[4] ابن سعد: 3:203، اليعقوبي: 2:167، ابن عساكر: 1:553، الطبري: 1:2408، البلاذري: أنساب
الأشراف ق2ص495 عن الواقدي.
[5] ياقوت: 5:598-599، البلاذري: فتوح: 138-139، الطبري 1:2360.
[6] الواقدي: 1:229.
[7] مجير الدين: 1:247.
[8] مجير الدين: 1:249.
[9] مجير الدين: 1:250.
[10] الواقدي: 1:231، روى الطبري عن سيف أن عمر استخلف علي بن أبي طالب على المدينة، انظر ابن كثير: البداية والنهاية: 7/61.
[11] مجير الدين: 1:250-252، انظر ابن كثير: البداية والنهاية 7/61، والطبري: 1:2408.
[12] مجير الدين: 1:253.
[13] ابن عساكر: 7:226.
[14] ابن عساكر: 7:226.
[15] ابن عساكر: 7:226.
[16] مجير الدين: 1:253.
[17] خليل طوطح ورفيقه: 9-23، انظر الأباء الفرنسيسكان: السير السليم من يافا إلى أورشليم القدس 1890م.
[18] اليعقوبي: 2:46.
[19] مجير الدين: 1:255.
[20] الواقدي: 1:242، الطبري: 1:2409، عن رجا بن حيوة عمن شهد الفتح.
[21] الواقدي: 1:242.
[22] ابن البطريق: نظم الجواهر 2:170.
[23] مجير الدين: 1:367.
[24]
GREWELL.L.P.11
[25] الواقدي: 1:242.
[26]
LE STRANGE P.91(29/352)
الإسْلاَمُ والمسلِمُونَ في إنجلتِرَا
مَاضيهمْ وَحَاضرهم وَمسْتقبلهمْ (2)
للدكتور محمد إبراهيم الجيوشي
أستاذ بالدراسَات العليَا
مشاكل المسلمين: بعد أن عرفنا حال المسلمين في إنجلترا يبلغون زهاء المليون ونصف، وأنهم اتخذوها وطنا لهم، فإننا نتساءل:
كيف يباشرون عباداتهم اليومية في تلك البلاد وكيف يحصلون على طعام حلال لا شبهة فيه؟ وكيف تتعرف الأجيال الناشئة في وسط هذا المجتمع الغريب عن الإسلام على مبادئ الدين وسلوكه وأخلاقه ومنهج حياته؟
في الحقيقة إن كل سؤال من هذه الأسئلة يمثل مشكلة تواجه كل مسلم يستقر في هذه البلاد، ويحاول أن يجد لها حلا، وبعض هذه المشاكل قد وجدت لها حلول كاملة، وبعضها الآخر اهتدت إلى حلول جزئية تحتاج إلى متابعة.
ا- فبالنسبة لمشكلة الطعام الحلال: لقد حلت هذه المشكلة، بواسطة المحلات والمطاعم الإسلامية المنتشرة في كل مدينة وحي وقرية يسكنها المسلمون، وقد يدرك ذلك إخواننا الذين يترددون على لندن من وقت لآخر.(29/353)
2- وأما بالنسبة لأماكن العبادة: فقد واجهها المسلمون باتخاذ أماكن للعبادة مؤقتة أو دائمة، وسبيلهم إلى ذلك يبدأ بتجمع السكان المسلمين في كل حي، ثم يؤلفون جمعية من أنفسهم تتخذ لها مقرا مؤقتا في الحي، وغالبا ما تبدأ باستئجار أحد المنازل تجتمع فيه لتدارس أمورها، ثم تخصص جانبا منه للصلاة وجانبا للاجتماعات، وجانبا لتعليم الأطفال إن أمكن، وينمو هذا الاتجاه بسرعة أو ببطء حسب نشاط القائمين على الجمعية، وغالبا ما ينتهي بشراء مكان خاص يتخذ مسجدا، وتقوم من حوله أوجه النشاط الأخرى، وعن هذه الطريقة أصبحت لا تجد حيّا في مدينه لندن أو سواها من المدن التي يقطنها المسلمون إلا وبه مسجد يصلي فيه المسلمون، ويباشرون أنشطتهم الدينية الأخرى، وترتب على ذلك أن أقيمت مساجد جديدة على الطراز الإسلامي كما هو الحال في المركز الإسلامي ومسجد لندن المركزي، وهو أكبر المؤسسات الإسلامية هناك، وسنعود للحديث عنه، ومسجد ويمبلدن، مسجد شرق لندن، ومسجد نور الإسلام بكارديف، ومسجد ساوث شيلد، ومساجد برينجهام ومنشستر، وليفربول وشيفيلد وسواها كثير.
وأحيانا يشتري المسلمون كنيسة أو معبدا يهوديا ثم يحولونه إلى مسجد كما هو الحال بالنسبة لبرسيتول ونيوكاسل، وأماكن متعددة في لندن، ومن ألطف ما يذكر في هذه المناسبة أن عددا من التجار السوريين يقيمون في مدينة منشستر كانوا أول من اشترى كنيسة وحولوها إلى مسجد وأطلقوا عليه اسم الجامع الأزهر تيمنا بالأزهر ودوره في نشر الثقافة الإسلامية.(29/354)
وأحيانا يشتري المسلمون بناية ويحولونها إلى مسجد وهذا هو الغالب في الأماكن التي تتخذ مساجد في إنجلترا الآن لأن تكاليفه أقل من إقامة مبنى جديد، وحسبك أن تعلم أنه يوجد في لندن وحدها الآن قرابة مائتي مكان للصلاة منتشرة هنا وهناك، وبهذه الوسائل حلت هذه المشكلة. وقد أصبح من المألوف الآن أن ترى في مدن إنجلترا المختلفة مآذن المساجد مرتفعة هنا وهناك، وليس غريبا أن أصبح مسجد لندن المركزي أحد المعالم الرئيسية للمدينة، وقد تكلف بناؤه الجديد أكثر من خمسة ملايين جنيه استرليني، ويتألف البناء من المسجد الذي يتسع من داخله لأكثر من ألفي مصلّ. يرتفع العدد إلى سبعة آلاف حينما يستعمل الطابق السفلي والرحبات المحيطة بالمسجد من الغرب والشمال والشرق، ويلمس الزائر للندن في الصيف هذه الأعداد الضخمة فعلا، تحضر صلاة الجمعة في المسجد الذي يقدم صورة صادقة للأخوة الإسلامية الخالصة تلتقي في رحاب بيت من بيوت الله.
ويضم المبنى أيضا مكتبة إسلامية ضخمة صمّمت لتسع خمسمائة وسبعين ألف كتاب عن الإسلام باللغات المختلفة، وكان الأمل معقودا أن تتخذ هذه المكتبة مركز انطلاق للدراسَات الإسلامية في قلب أوربا يقوم على توجيهها علماء مسلمون، ولعل ذلك يتحقق قريبا إن شاء الله تعالى.
ويضم المبنى أيضا إدارة المركز الإسلامي وصالات الاجتماعات التي تعقد فيها الندوات والمؤتمرات، ويستقبل فيها وفود الزوار من الراغبين في التعرف على الإسلام، وعادة ما يكون هؤلاء من طلاب المدارس العليا والجامعات حيث يستمعون إلى محاضرة عن الإسلام يعقبها نقاش حول بعض القضايا وموقف الإسلام منها، وأحيانا يسبق ذلك أو يلحقه عرض أحد الأفلام الذي يقدم صورة إسلامية حضَارية أو تاريخية أو عبادية.(29/355)
ومن معرفة الفضل لأهله أن نذكر هنا أن المغفور له جلالة الملك فيصل قد أسهم بالنصيب الأكبر في تكاليف إقامة هذا البناء، وأن المغفور له جلالة الملك خالد قد وقف على المسجد والمركز مبلغ مليون ومائتي ألف جنيه إسترليني يستغل في بعض المشاريع النافعة وينفق من ريعه على احتياجات المسجد ونشاطات المركز التي تزيد سنويا عن مائتي ألف جنيه إسترليني.
ومن طريف ما يذكر هنا أن أقدم مسجد أقيم في لندن كان في حديقة أحد القصور المطلة على نهر التيمس، أقامته سيدة إنجليزية تدعى ليدلى استانلى هوب STANLY HOP LADY منذ حوالي ثمانين عاما، كانت معنية بالبحث في تاريخ طائفة الدروز، ورحلت إلى دمشق، وأقامت في ضيافة إحدى الأسر السنية هناك ثم استضافت فيما بعد رب االأسرة في لندن، وأقامت له مسجدا في حديقة القصر حتى يؤدي صلواته فيه أثناء إقامته بلندن، وقد حافظ أحفاد هذه السيدة على المسجد وظلوا يفتحونه لصلاة العيدين في كل عام، ومنذ اثني عشر عاما عرض القصر للبيع، وجاء مالكوه إلى المركز الإسلامي يعلنون عن رغبتهم في أن يشتريه أحد المسلمين حتى يحافظ على المسجد، إلا أننا للأسف لم نوفق في ذلك الوقت إلى من يرغب في شرائه من المسلمين. ولست أدرى ماذا آل إليه أمره الآن.(29/356)
جـ - أما كيف تربى الأجيال المسلمة الناشئة: فهذه هي المشكلة التي يتوقف على النجاح في علاجها مستقبل الإسلام في هذه البلاد وقد تجسم الإحساس بهذه المشكلة بعد أن نشأت أجيال ولدت في إنجلترَا وشعر الآباء بالحاجة الملحة في تنشئة أبنائهم حسب تعاليم دينهم، ولم يشعر الجيل الأول القادم إلى تلك البلاد بهذه المشكلة، لأنه قدم إليها بعد ما استوى عوده، ونشأ في بلاده على الأخلاق الإسلامية، والسلوك الإسلامي ومرن على القيام بواجباته الدينية، فلم يكن من السهل أن تجرفه التيارات والاتجاهَات المخالفة لما ألفه في بلاده وتربى عليه، بل إن عددا منهم كان يبنى مسجدا صغيرا في حديقة منزله مماثلا للمساجد في بلده التي عاش فيها ونشأ وكان إذا اضطر لبيع المنزل يشترط على المشترى أن يحافظ على المسجد ويبقيه مفتوحا للمسلمين في الصلوات الخمس، رأيت هذا المثل في مدينتين ساحليتين من ضواحي كارديف تسمي إحداهما نيوبورت يعني الميناء الجديد، وتسمي الثانية بارى أيلند يعني جزيرة بارى، لذلك لم يكن هناك خوف على هؤلاء الذين قدموا ولهم من الحصانة الدينية ما يحميهم من المغريات.(29/357)
فلما نشأت أجيال جديدة ليست وثيقة الصلة ببلادهم الأولى، ولا يستطيعون أن يتحدثوا لغة الآباء إلا بصعوبة بالغة بدت في الأفق دلائل الخطر التي تهدد الأجيال الناشئة بالضياع، فتحرك الآباء والمهتمون بأمر الدعوة الإسلامية هناك، وأخذوا في البحث عن علاج لهذه المشكلة، قبل أن يستفحل خطرها، وتستعصي على الحل. وسارت الحلول في اتجاهات متعددة، تمثلت في افتتاح فصول في آخر الأسبوع في أماكن تجمعات المسلمين يتعلم فيها أبناؤهم الضروري من أمور دينهم وتسمي هذه الفصول مدارس آخر الأسبوع week and schools واستطعنا أن نرتفع بعدد تلاميذ هذه الفصول في لندن وحدها في فترة ما إلى ألفي تلميذ، وحاولت بعض الجمعيات الإسلامية أن تهيئ فترة يومية لأبناء المسلمين في المساجد والجمعيات الإسلامية بعد انتهَاء اليوم الدراسي، وقام آخرون بالاتصال بمديري المدارس الحكوميَة التي يوجد بها تلاميذ مسلمون، وخصصت لهم أوقات محددة حوالي عشرين دقيقة في الصباح قبل بداية اليوم الدراسي مرتين أو أكثر أسبوعيا يسمح فيها لأحد المدرسين المسلمين بالتحدث إلى التلاميذ المسلمين بالمدرسة عن الإسلام، وهو جهد قليل الجدوى على الرغم من الإخلاص البادي في القائمين عليه ومماَ لاشك فيه أن هذه المحاولات تعكس اهتمام الآباء بمصير الأبناء إلا أنها ليست كافية لمواجهة المشكلة والتغلب عليها، وذلك لأن الأوقات المخصصة للدراسة ليست مناسبة لأنها إما أن تكون بعد أن يقضى التلميذ يوما مرهقا في المدرسة يحتاج بعده إلى الراحة والاستجمام. أو أنها في يوم الراحة الأسبوعية وهو ضروري من الناحية التربوية لاستمرار نشاط التلميذ في الإقبال على دروسه بدون ملل أو سأم، أو أنها في أوقات مبكرة قبل بداية اليوم الدراسي مما يجعلها ثقيلة على الأطفال غير محببة إليهم وآثارها النفسية في هذه الحالات معروفة للجميع هذا بالنسبة للوقت أما بالنسبة للأمكنة فإن كثيرا من القائمين على هذه الفصول(29/358)
لم تساعدهم إمكاناتهم المادية والتربوية على تهيئة الاستعداد الكافي الذي يناسب مستويات هذه البلاد وطبيعتها وتبدو الآثار الضارة لهذا التفاوت في الاستعدادات حينما يقارن الطفل بين ما يجده في مدرسته التي يشارك فيها الآخرين من أبناء الشعب الإنجليزي، وبين هذه الفصول التي يتلقى فيها تعليمات باسم الإسلام مما يجعله يحس بالفرق بين ما ينتسب للإسلام وما ينتسب إلى سواه، وهذا يسبب خَطرا نفسيا يتعرض له أطفال المسلمين في تلك البلاد.
وبالنسبة للمدرس والكتاب فلم يكن هناك مدرس متخصص أو منهج متكامل، وقد دعانا ذلك إلى الاستعانة بعدد من طلاب الدراسات العليا بين المسلمين ليقوموا بعملية التعليم، وأما موضوع الكتاب فقد أمكن التغلب على النقص في المنهج بإعداد سلسلة من الكتب المدرسية باللغة الإنجليزية تقدم المعلومات الضرورية للناشئة المسلمين من سن الخامسة حتى الخامسة عشرة.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن المشكلة لا تزال قائمة تحتاج إلى حلّ عاجل، ومن استعراض هذه النماذج التي أشرنا إليها نرى أن مدارس آخر الأسبوع أكثرها فائدة، وقد أشرف المركز الإسلامي في لندن على إدارة أعداد منها في لندن وضواحيها وقدم المساعدات المالية والثقافية للقائمين عليها في الأماكن المختلفة، ولكن ذلك كله لا يقدم حلا جذريا لهذه المشكلة.(29/359)
لكل هذه الظروف وانطلاقا من الإحساس بالخطر المقبل، ومحاولة تأمين مستقبل النشء المسلم في تلك البلاد إلى جانب ما لاحظناه من أن عددا من أسر المسلمين في الشرق العربي والإسلامي يبعثون بأبنائهم إلى المدارس الإنجليزية الخاصة ويقدمون في سبيل ذلك نفقات باهظَة ليتلقى أبناؤهم تربية تختلف في أهدافها ومناهجها وقيمها عن أهداف الإسلام وقيمه ومناهجه فإذا ما أكملوا دراستهم وعادوا إلى بلادهم شعروا أنهم غرباء بين أَهليهم وذويهم وعاشوا في صراع معلن أو خفي والخاسر في كل الحالات هو العالم الإسلامي لهذا رأينا أن نتقدم بمشروع إنشاء مدرسة إسلامية كاملة تحقق للنشء المسلم ما نريد، وتحميه من الضياع وتكون نموذجا يحتذى لمن يريد أن يشارك في هذا المجال ويتلخص المشروع فيما يلي:
1- تتكون المدرسة من مراحل التعليم المختلفة من الروضة إلى نهاية المرحلة الثانوية.
2- تزود المدرسة بكل ما تستلزمه التربية الحديثة من استعدادات من ملاعب وصالات اجتماعات ودور للعرض وحمامات للسباحة إلى جانب المسجد الذي ترتبط المدرسة به ارتباطا وثيقا، ويراعى في مواعيد الدراسة عدم تعارضها مع أوقات الصلاة.
3- يدرس الطلاب المناهج الإنجليزية كاملة، مضافا إليها دراسة الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وحضارة وأخلاقا وسلوكا، ودراسة اللغة العربية وآدابها دراسة تمَكن الطلاب من إتقانها فهما ونطقا وكتابة.
4- إعطاء عناية خاصة للقرآن الكريم والسنة النبوية وتقديم جوائز لم يثبت تقدما في حفظ الكتاب والإلمام بالسنة.(29/360)
5- إعداد مساكن خاصة بالطلاب، ومعلوم أن هذا الاقتراح لو أخذ في تطبيقه فسيكون هناك مدارس خاصة بالبنات على نفس المستوى ونتيجة هذا الاقتراح حينما يطبق أن المتخرج من هذه المدارس سيكون من الممكن بالنسبة له الالتحاق بأي جامعة في أي بلد إسلامي أو عربي بدون إحساس بوجود أي فرق بينه وبين الطلاب الآخرين لأن ما درسه من العلوم الإسلامية والعربية سيهيئ له ذلك على أحسن وجه، فإذا التحق بجامعة في بلد أوربي لا يخشى عليه من الاندفاع وراء الدعوات البراقة لأنه قد تلقى من الدراسات الإسلامية والعربية ما زوده بزاد كاف للصمود في وجه الإغراءات السلوكية والفكرية التي تعج بها الحياة في تلك البلاد.
وقد قدم نص المشروع كاملا إلى مجلس أعضاء المركز الإسلامي بلندن منذ أكثر من اثني عشر عاما، ولكنه لازال ينتظر من يوفقه الله فيضعه موضع التنفيذ، ومن الممكن الحصول على نسخ منه لمن يريد ويا حبذا لو تبنت الجامعة الإسلامية تحقيقه، فسيكون ذلك بلا شك حسنة تضاف إلى حسناتها المتعددة.
وإني على يقين أن هذا المشروع لو رأى النور بصورة شاملة فلن يكون هناك خطرا على ناشئة الإسلام في تلك البلاد.
هذه هي المشكلات الرئيسية التي تواجه المسلم هناك وقد بقيت بعض المشكلات السهلة الحل مثل عقود الزواج حسب الشريعة الإسلامية، وقد نظم ذلك منذ البداية وأصبح واحدا من المهام الرئيسية التي يباشرها المركز الإسلامي في لندن والمراكز المماثلة في المدن الأخرى وإيجاد مقابر خاصة بالمسلمين وإجراء مراسم الدفن والغسل حسب الشريعة الإسلامية.
مهمة المؤسسات الإسلامية:(29/361)
أ- تهتم المؤسسات الإسلامية في تلك البلاد بالدرجة الأولى بالحفاظ على أبناء المسلمين وحمايتهم من الذوبان في المجتمع الأوربي، وذلك عن طريق التعليم واللقاءات والندوات والاهتمام بالمناسبات الإسلامية والإعداد الخاص لها مثل شهر رمضان والاحتفال بالعيدين الفطر والأضحى والأيام الهامة في تاريخ المسلمين، والهدف من ذلك هو ربط الناشئة بتاريخهم، ومن الوسائل التي تعكس هذا الاهتمام طبع مواقيت الصلاَة على مدى العام وإعداد إمساكية شهر رمضان، وإعداد تقاويم إسلامية يبين فيها التاريخ الهجري مع التاريخ الإفرنجي.(29/362)
ب- إعداد ونشر المطبوعات الإسلامية التي يحتاج إليها المسلمون والراغبون في التعرف على الإسلام من غير المسلمين، وقد كنا منذ حوالي خمسة عشر عاما نعاني نقصا كبيرا في تقديم مطبوعات إسلامية باللغة الإنجليزية تمثله الصورة التالية: كنا نملك في مكتبة المركز عددا محدودا من ترجمة معاني القرآن الكريم يطالع فيها من يتردد على المكتبة، فإذا جاء راغب في الازدياد من المعرفة بالإسلام لم نجد ما نقدمه له إلا الكتب العربية وهو لا يعرف العربية، وحدث ذات يوم أن كنت في أحد الشوارع التي تقام فيها الأسواق أيام السبت من كل أسبوع، فوجدت قسيسا يدعو الناس إليه ويوزع عليهم نسخا من الإنجيل مطبوعة طبعا أنيقا باللغة الإنجليزية، وأغراني المنظر أنا وصاحبي فتقدمنا منه، فدفع بنسخة إلى كل منا، ولما تفرس وجوهنا أدرك أننا لسنا من أهل البلاد فسألنا عن لغتنا الأصيلة وما كاد يعرف أنها العربية حتى مد يده إلى أحد الرفوف فاستخرج نسختين من الإنجيل باللغة العربية، ونسختين من اسطوانات عليها تراتيل باللغة العربية أيضا وأخذني العجب من استعداد هؤلاء الناس ونشاطهم، وأخذت أقارن في نفسي بين اهتمام هؤلاء بالترويج لباطلهم، وبين تهاوننا في إيضاح الحق الذي بين أيدينا، وعدم قيامنا بها يجب علينا نحو الدعوة إلى عقيدتنا أو اتخاذ الاستعداد الضروري لتقديم بيان لمن يسأل أو يريد أن يعرف.(29/363)
والدليل على هذا الفرق تلك الصورة التي عرضتها من الواقع الذي لمسته، وفيها تقدم الكنيسة نسخ الإنجيل إلى من تلقاه عرضا باللغة العربية في قلب لندن، ويعجز المركز الإسلامي هناك أن يقدم ترجمة لمعان القرآن الكريم لمن يريدها. وكلما زار المركز أحد الفضلاء من المسلمين قصصت عليه هذه القصة، ولكن الله تداركنا برحمته، فلم نلبث إلا قليلا حتى أخذت تتوارد على المركز مئات النسخ من ترجمة معاني القرآن الكريم، وكان السيد حسن الشربتلي صاحب النصيب الأوفر في ذلك العمل جزاه الله خيرا، وقد غادرت المركز منذ قرابة أربع سنوات، وبه آلاف النسخ والحمد لله غير ما كنا نبعث به لكل طالب فردا أو مؤسسة أو هيئة، ويندر أن تجد مدرسة أو جامعة أو مركزا من مراكز الثقافة أو سجنا إلا وتجد في مكتبة كل منها عددا من نسخ ترجمة معاني القرآن الكريم والكتب الإسلامية الأخرى.
وأصبح من الممكن لأي راغب في التعرف على الإسلام أن يجد من المطبوعات الإسلامية باللغة الإنجليزية ما يقدم له صورة وافية عن مبادئ الإسلام وعقائده وعباداته.
جـ - استقبال وفود الطلاب أو المؤسسات الراغبة في التعرف على الإسلام من شباب المعاهد والجامعات وأعضاء الهيئات والجمعيات ويقدم لهم برنامج يبدأَ بعرض فيلم عن الإسلام يتناول موقفا تاريخيا أو صورة حضارية أو يقدم عرضا لبعض العبادات في الإسلام كالحج مثلا، ثم يعقب ذلك حديث عن الإسلام، تدور بعده مناقشة حول النقاط التي يرغب الحاضرون في مزيد من الاستيضاح عنها سواء حول ما شاهدوه أو سمعوه أو كان من القضايا التي يريدون أن يعرفوا موقف الإسلام منها وبخاصة ما يتعلق بالزواج أو الطلاق أو حقوق المرأة في الإسلام أو نظرة الإسلام إلى أهل الديانات الأخرى وكيفية تعامله معهم.(29/364)
وقد تبين من واقع التجربة أن عرض فيلم لبعض المشاهد الإسلامية يعتبر وسيلة ناجحة في جذب انتباه أبناء تلك البلاد. وقد لوحظ أن كثيرين ممن يحضرون في هذه الوفود يبعثون بعد عودتهم مباشرة في طلب مطبوعات إسلامية يستعينون بها في إعداد بحوت عن الإسلام في معاهدهم، وبخاصة هؤلاء الذين ينتسبون إلى المدارس العليا التي تسمى high schools.
د- وأحيانا توجه هذه المؤسسات الدعوة إلى أحد العلماء المسلمين للتحدث إلى طلابهم عن الإسلام بالصورة التي قدمنا تفصيلا لها، وقد يستبد العجب بالكثير منا حينما يعلم أن الكنائس أيضا كثيرا ما توجه الدعوات إلى المتخصصين للحديث عن الإسلام في صالات اجتماعاتها إلى جمهور المترددين على الكنيسة، لأنهم يرون في ذلك وسيلة إلى جذب أكبر عدد ممكن للتردد على الكنيسة.
هـ- استقبال الراغبين في التعرف إلى الإسلام واعتناقه، وتنظيم لقاءات متعددة بهم يتم خلالها عرض شامل لمبادئ الإسلام، ثم يزودن بعدد من الكتب الإسلامية لدراستها، ومناقشتهم في محتوياتها في اللقاءات التالية، وعادة ما ينتهي كل ذلك بدخول هؤلاء في الإسلام وحصولهم على وثيقة من المركز بدخولهم في الإسلام.
وقد لوحظ أن أعداد هؤلاء الراغبين في اعتناق الإسلام في تزايد مستمر في السنوات الأخيرة، وأن أغلبهم من الشباب من الجنسين، ويتضح من المناقشات التي تدور مع هؤلاء ضعف ارتباطهم بالدين المسيحي وعدم اقتناعهم بما تسير عليه الكنيسة من طقوس لا تمس القلوب. وإنما تهتم بالشكليات فقط، ولقد حاولت الكنيسة إغراءهم بالتردد عليها حتى إنها لجأت إلى بعض الأساليب التي تنفر منها الأديان، وسهلت التقاء الفتى بالفتاة، ولا عليها بعد ذلك أن تكون الكنيسة موئلا للعشاق والمراهقين.(29/365)
والحقيقة أن انصراف الشباب عن الكنيسة قد دفع الكثيرين من علماء اللاهوت إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى موقف الشباب، واضطروا إلى إعادة النظر في المسيحية ككل، ومن الغريب أنهم وصلوا بعض ما قرره الإسلام منذ البداية بالنسبة للعقيدة المسيحية من أنها غير مقنعة حتى انتهوا إلى إعلان أن فكرة ألوهية المسيح فكرة خرافية، ودعوا إلى تطوير العقيدة المسيحية لتتمشى مع الواقع وتقبلها العقول، وقد وصلوا إلى هذه النتيجة من خلال بحوث عكفوا عليها وسجلوها ونشروها في كتاب طبع عام 1976 م بعنوان The Myth of God In Carnate وترجمته خرافة الإله المتجسد، ولاشك أن مثل هذه الاتجاهات والبحوث تعكس الأزمة التي تمر ّ بها الكنيسة، وهذا يتطلب منا أن نتقدم بذكاء لنقدم البديل الذي يقنع العقل، ويملأ القلب، ويلبي هواتف الروح، ويقدم المنهج العملي الذي يحقق التوازن النفسي بالمواءمة بين حاجات الجسد، ورغائب الروح عملا بقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"، حينئذ تجد الحياة طريقها السويّ، وتخلو من المادية القاسية الجافة التي تميت نوازع الخير في الإنسان، وتفيض منابع الحب فيه وتقضي على الرهبنة السلبية التي تعتبر هروباً من الحياة لا يتفق مع المقصود من حكمة خلقها. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} .
والحق الذي لا مرية فيه أن الطريق مهيأ أمام الإسلام، ولكن العقبة الحقيقية تكمن في المسلمين أنفسهم، ويوم أن يغيروا من أوضاعهم سيتغير كل شيء، كما يقول الحق سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .(29/366)
و وتقوم المؤسسات الإسلامية في إنجلترا بدور اجتماعي فعال، نابع من منطق الأخوة الإسلامية، فهناك العَديد من الأسر المسلمة التي تتلقى معونات مادية تساعدها على التغلب على مشاق الحياة، وتحفظ لها ماء وجهها، وهناك كذلك الكثير من الطلاب الذين انقطعت بهم السبل يجدون من المؤسسات الإسلامية وبخاصة من المركز الإسلامي عونا صادقا يتحمل عنهم نفقات دراساتهم عند الأزمات التي يمرون بها، وتستغل حصيلة الزكاة في القيام بهذه الالتزامات إلى جانب ما يقدمه القادرون من أهل الخير واليسار للإنفاق منه في هذه الحالات.
نظرة إلى المستقبل: تقوم حركة نشيطة الآن في أنحاء إنجلترا تهدف إلى بناء مساجد ومراكز إسلامية، وهي حركة يسودها في الغالب الإخلاص، ولكنها ينقصها التخطيط وحسن القيادة، وقد يترتب على انعدام التخطيط وحسن القيادة أن تضيع أموال لمسلمين وتنفق في غير الهدف الذي جمعت من أجله، إذ كثيرا ما أدى التنافس الشخصي أو التعصب لبلد أو إقليم أو جماعة إلى تعطيل أعمال هامة كان من الممكن أن يستفيد منها المجموع، ولم يخل الجو الإسلامي هناك من انتهازيين يريدون ركوب موجة التدين، والتظاهر بالغيرة الإسلامية لتحقيق نفع مادي لأنفسهم، ولهذا تجد أعدادا ضخمة من الرسائل والطلبات تقدم إلى الحكومات والمؤسسات الإسلامية في العالم العربي تطلب مساعدات مادية لإقامة بعض المشروعات الإسلامية، وقد تكون الحقائق الواقعة لهذه المشروعات أقل بمراحل مما هو مسطر في الكتابات أو تكون مجرد فكرة فقط يبغى صاحبها من ورائها أن يجد وسيلة للسفر والوجاهة عند بعض المسئولين، وضمانا لأن توجه المساعدات التوجيه الصحيح أضع الاقتراحات التالية.(29/367)
أ- أن تنشأ لجنة تسمى لجنة المساجد والمؤسسات الإسلامية يمثل فيها أعضاء من سفارات الدول التي تقدم المساعدات المالية للأغراض الإسلامية وعضو من المركز الإسلامي بلندن ويحال إلى هذه اللجنة كل الطلبات التي تأتي من الجمعيات لطلب المساعدة لتدرسها وترى مدى جديتها وأهميتها، وتحول في الوقت نفسه الدول والمؤسسات المبالغ التي ترصدها للعمل الإسلامي في ذلك البلد مثلا إلى نفس اللجنة، وتعطى صلاحيات توزيع ما تراه مناسبا على أصحاب هذه الطلبات حسبما يبدو من الدراسة التي تجريها حول المشروع ومدى أهميته للمسلمين والاطمئنان إلى استقامة القائمين عليه وجديتهم. وأعتقد أننا نستطع بهذه الطريقة أن نؤدي خدمة جليلة للمسلمين في تلك البلاد ونوجه أموال المسلمين إلى الوجهة النافعة.
ب- أن تعد لجنة أخرى من المهتمين بأمر التعليم والثقافة الإسلامية، وتضع خطة منظمة لإقامة مدارس إسلامية على غرار الاقتراح السابق تعد له ميزانية خاصة، وتتولى اختيار الأساتذة الصالحين للتدريس بهذه المدارس، وهذا اللون من المدارس موجود في بلادنا للجاليات غير الإسلامية التي تعيش في العالم الإسلامي فلماذا لا نقيم لأبناء المسلمين مدارس مماثلة.
وعن هذا الطريق نكون قد خطونا الخطوة الأولى في تأمين مستقبل الأجيال القادمة تزويدهم بثقافة إسلامية كافية إلى جانب ما يتلقونه من معارف العصر وعلومه، والواقع أن هذا هو العمل الباقي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".
جـ - إقامة دار نشر متخصصة تقوم بطبع الكتب الإسلامية وإصدار صحف ومجلات إسلامية للكبار والصغار على السواء من رجال ونساء، وتتعقب ما ينشر عن الإسلام والعالم الإسلامي فتقر الصحيح وترد على غير الصحيح.(29/368)
د- إقامة مصرف إسلامي وشركات بناء إسلامية يقوم المصرف بالأعمال التجارية والاستثمارية حسب شريعة الإسلام، ويحمي التجار المسلمين من المضاربات غير المأمونة، ومن التعامل بالربا مع البنوك الأجنبية.
وقد دفعني إلى تقديم هذا الاقتراح حوار دار بيني وبين أحد التجار المسلمين في لندن، قال لي فيه: إنه يكون أحيانا أمام بعض الصفقات التجارية، ويحتاج إلى التقدم لشرائها، ولكنه ليس في يده مال سائل في ذلك الوقت، فهل يلجأ إلى البنك يقترض منه بالفائدة ليتم صفقته؟
فقلت له: إن الفائدة ربا، والربا حرام.
فعلق قائلا: وماذا نصنع، وسيؤول الأمر أن نترك المجال للتجار غير المسلمين، إذا أخذنا بما تشير به.
فقلت له: إن ذلك لا يبرر أن يتعامل بالفائدة.
فتساءل: وما الحل إذن؟
فأجبت: إن علينا أن ننشئ شركات استثمار وبنوك إسلامية تقدم العون للتجار المسلمين في هذه الحالات، وتدخل شريكا معهم حسبما هو معروف في المضاربة في الفقه الإسلامي، وأعتقد أن الأوان قد آن لتحقيق ذلك، فإن المال بيد المسلمين كثير، وسبل الكَسب الحلال ميسر للجميع.(29/369)
أما شركة البناء الإسلامية فاقتراحها نابع من الظروف التي يعيش في ظلالها المسلمون في إنجلترا، فقد يرغب أحدهم في شراء مسكن له ولأولاده، ولكنه ليس لديه من الثمن إلا بعضه، فيتقدم إلى شركة البناء التي تدرس الموضوع من جانبها، وتعرف مستوى دخل الشخص وقيمة البيت، فإن اقتنعت قبلت أن تدفع باقي الثمن، وتمكن الشخص من استغلاله نظير مبلغ يدفع شهريا لمدى عشرين عاما مثلا يؤول المسكن بعده إلى المشتري، فإذا ذهبت تحسب المبلغ الذي استردته الشركة وجدته قد زاد أضعافا مضاعفة على المبلغ الذي دفعته، وقد نصحنا المسلمين أن لا يتعاملوا بهذه الطريقة، ونرى أن البديل لذلك أن تنشأ شركات مباني إسلامية يتوفر لديها رأس المال، وتكون على استعداد لأن تحل محل شركات البناء الأجنبية، ولكن من منطلق إسلامي، يهيئ لها ربحا حلالا، ويريح المسلم من التعامل بالربا، وكيفية ذلك أن يتقدم الراغب في الشراء إلى الشركة فتجرى الدراسات اللازمة للاطمئنان إلى سلامة الإجراءات. فإذا اقتنعت قبلت أن تدخل مع المشترى بصفة شريك حسب المبلغ الذي تقدمه، ويتم البيع على هذه الصفة، ثم تمكن الشركة المشتري من استغلال المسكن نظير مبلغ يدفع شهريا، تحتسب نسبة منه إيجار نصيب الشركة، ويعتبر القدر الباقي سدادا من ثمن نصيب الشركة، فإذا استوفي الأجل الذي اتفق عليه آل المنزل كله إلى ملك المشتري، وبذلك تربح الشركة ربحا حلالا، وينجو المسلم من استغلال الشركات الأجنبية له استغلالا ربويا، ويتحقق بذلك التعاون بين أفراد المجتمع المسلم وهيآته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.(29/370)
والذي لا ريب فيه أننا لو أخذنا في الاعتبار هذه الخطوات جميعها لأمنّا مستقبلا زاهرا للإسلام والمسلمين في الغرب، وصدق الله العظيم: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.(29/371)
المشارق في المغارب
الدكتور عبد الله بن أحمد قادري
رئيس شعبة الفقه بالدراسات العليا
التبشير بالإنجيل وسنة المعوقين:
في هذا اليوم نشرت جريدة "كومباس" الصادرة في جاكرتا عدد "36"في 2 أغسطس "السنة16"نشرة مقتضبة عن نتائج المؤتمر الدولي لمجلس الكنائس البروتستانتية تتضمن أربع مسائل:
الأولى: التضامن مع الشعب الإندونيسي: (أغلبية الشعب مسلمة) والمؤتمر مسيحي دولي، وحقد المسيحيين وسعيهم الحثيث في القضاء على الإسلام والمسلمين معروفان. فما معنى التضامن مع الشعب الإندونيسي وهل المقصود- هنا- الشعب الذي يخططون له ليكون في المستقبل مسيحيا أو أغلبية مسيحية؟. هذا ما يبدو.
الثانية: التبشير بالإنجيل: (والتبشير حاصل ولكن الظاهر أن المقصود مضاعفة الجهد في ذلك حسب الخطط المرسومة) .
الثالثة: تجديد الكنائس وتعميرها وتوحيدها.
الرابعة: مسائل عامة: ومنه إقرار البانتشاسيلا (الشعار الذي تضمن المبادئ الخمسة) وسيأتي قريبا إن شاء الله شرح هذا الشعار من منشورات الحكومة الإندونيسية التي توزع في طائرتها وما تيسر من التعليق عليه لبيان هدفه وموقف العلماء هناك منه وفهمهم له. ومن الأمور التي أقرها المؤتمرون أن السنة المقبلة 1981 هي سنة المعوقين.
ويرى القارئ من هذه الأمور المقتضبة جدا أن التبشير بالإنجيل مقترن بمغريات من المادة: تعمير الكنائس وتجديدها وسنة المعوقين والمعوقون كثيرون في كل شعب من شعوب العالم، والمعوق يضيق من بقائه في الأرض عندما يكون فقيرا وأسرته فقيرة ويضيق منه أسرته ومجتمعه ويتمنى لو نزل به الموت وتتمنى أسرته ذلك.(29/372)
والصابرون على البلاء هم المؤمنون حقا وأين هم هؤلاء المؤمنون حقا؟. لذلك يشعر المعوق: الأعمى المشلول، المقعد ... بأن الذي يهتم به وينفق عليه ويكسوه ويعلمه ويؤنسه يشعر بأن له عليه فضلا كبيرا وأنه يجب أن يكافئه، والنصراني يبنى الملاجئ لهؤلاء المعوقين والمستشفيات والمدارس وما الذي يمكن أن يقدمه هذا المعوق من مكافأة لهذا المتفضل عليه المحسن الكريم، وما الذي يريد المحسن من هذا المعوق من مكافأة؟!.
إن المكافأة التي يريدها هذا النصراني هي أن يتنازل هذا المعوق (المسلم) عن إسلامه أولا، وأن يكون بعد ذلك نصرانيا. وهذا المعوق الذي كشرت الدنيا في وجهه ونال هذه العناية من هذا النصراني جاهل بدينه لا يعرف قيمة عقيدته ويسهل عليه أن يلبي رغبة من أحسن إليه فيتنازل عن عقيدته في سبيل أنه ينال عاطفة كانت مفقودة.
ثم سيرى أن الشهوات في الدين الجديد مباحة له، لا قيد ولا عيب.
نعم: الإنجيل وسنة المعوقين، وهذا يعني أن الدعوة إلى النصرانية يرافقها خدمات اجتماعية مغرية فأين هذا الذي يصدر من أعداء الدين مما يقدمه دعاة الإسلام والمؤسسات الإسلامية: أين مدارسهم؟. أين مستشفياتهم؟. أين ملاجئهم؟. أين مساجدهم؟. أين مؤسساتهم الثقافية؟. أين. أين. أين؟؟؟. قد يجيب مجيب ذاكرا بعض المراكز الإسلامية القليلة أو بعض المساجد أو بعض المساعدات الخفيفة.
ولكن الذي يجب أن يعلم أن ذلك شيء لا يذكر بجانب ما يبذله أعداء الحق وأنصار الباطل. فليتق الله المسلم الذي عنده ما يقدر على الإسهام به في أبواب الخير التي تحصن المسلمين من دعوات أعداء الله الهدامة وليقدم في سبيل الله ما استطاع بما منحه الله ليبتليه فيه ويجازيه عليه.
لعل جنّيا أدخل السحور: (22/9/1400 هـ) :(29/373)
نام عبيد الله الأربعة كلهم، ولعلي كنت آخرهم نوما في هذه الليلة وكان من عادة الأخ عبد الله باهرمز أن يطلب من مديري الفندق أن يبعثوا لنا بطعام السحور في الساعة الثالثة صباحا وما فاتنا السحور طيلة أيام رمضان إلا هذه الليلة. قام الشيخ عبد القوي قبل أذان الفجر بثلاث دقائق تقريبا فأيقظني قائلا: ذهب الوقت. فقمت مسرعا إلى الماء فشربت. وشرب هو. وقلت له: اتصل بصاحبنا فاتصل هاتفيا ونادى المؤذن بالصلاة. فقال عبد الله: السحور موجود عندنا هنا في الحجرة لا أدري من أدخله ومن فتح الباب!! ثم أخذ عبد الله وعبد البر كل منهما ينسب إلى الآخر فتح الباب للفرّاش الذي أدخل السحور. فقال عبد الله: أنت فتحت الباب له ثم نمت ولم توقظنا. فقال عبد البر: بل أنت أنا ما قمت من نومي- وكان الباب مقفلا- فقلت: لعل جنيا غير مسلم أدخل السحور وأراد الإضرار بنا فلم يوقظنا من النوم. وقد فات السحور فلا داعي للنزاع. ثم قلت للأخ عبد الله: الاحتمال القوي أنك أنت كنت مستغرقا في النوم وفتحت الباب ورجعت لتنام (شوية) حسب اصطلاح الشيخ عبد القوي فلم تفق إلا بإيقاظنا أما عبد البر فإن نومه ثقيل يستبعد قيامه قبلك والله أعلم بالصواب. قال عبد الله: كأن الله أراد لكم أن يكون آخر ما تذوقون في إندونيسيا الشاهي السعودي والقهوة السعودية. قلت والماء الإندونيسي.
إلى هونغ كونغ:
وفي الساعد السابعة إلا ربعا ذهبنا إلى مطار جاكرتا، وبعد الفراغ من الجمارك والجوازات ودعنا الأخ عبد الله فدخلنا إلى قاعة الانتظار ثم صعدنا إلى الطائرة التي أقلعت في الساعة الثامنة والدقيقة الخمسين، وجالت بنا فوق جاكرتا. ذات المنازل القصيرة المسنمة، وترى العمارات الكبيرة متناثرة هنا وهناك.
ملحوظات(29/374)
وحيث أن هذه النظرة من نافذة الطائرة إلى مدينة جاكرتا عاصمة الشعب الإندونيسي هي النظرة الأخيرة في هذه الرحلة فانه لابد من إبداء بعض الملحوظات لهذا الشعب المسلم.
الملحوظة الأولى: البانتشاسيلا:
1- إن هذا الشعب هو أكثر الشعوب الإسلامية عددا، ومنظمات هذا الشعب الإسلامية- على قلة إمكاناتها- تكافح وتناضل ومن أجل نشر مبادئ الإسلام وتثبيت قواعده لالتفاف هذا الشعب حوله والولاء لله ورسوله وللمؤمنين، الولاء الذي يجب أن يتميز به المسلم عن غيره وإلا لما كان هنالك فرق بينه وبين غيره ممن تعدد ولاءاتهم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وهذا الولاء يجمع المسلمين في كل أقطار الأرض فالمؤمن في الفلبين ولي المؤمن في أمريكا والمؤمن في مكة ولي المؤمن في باريس ولندن والشعوب الإسلامية بعضها ولي بعض لا فرق بين شرقي وغربي ولا بين عربي وعجمي. وعندما كان هذا الولاء محققا في الإسلام كانوا كلهم أعداء لأعداء الله يدعونهم إلى الله ويجاهدون من كفر بالله حتى كان الابن يقتتل هو وأبوه في معركة واحدة وكذلك الأخ وأخوه والقريب مع قريبه مهما كانت القرابة حتى جعل الله كل علاقات الإنسان من مال وقرابة وغيرهما في كفة، وجعل تعالى طاعته والجهاد في سبيله ومحبته في كفة من رجح الكفة الأولى على الثانية كان فاسقا بعيدا عن هدى الله مستحقا لوعيده في الدنيا والآخرة، ومن رجحت كفة الله(29/375)
على علائقه كلها كان وليا لله مهتديا مستحقا نصره ورضوانه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
وعندما كان الولاء محققا في المجتمع الإسلامي حقق الله لهم العزة والنصر والغلبة على أعدائهم على الرغم من كثرتهم وكثرة عددهم وعندما ضاع هذا الولاء وحلت محله ولاءات أخرى لشعارات جاهلية باسم الأرض، أو باسم الجنس أو باسم أي مبدأ آخر تفرقت كلمة المسلمين فصارت كل طائفة توالي هذه الأرض أو هذا الجنس أو هذا المبدأ أذلهم الله وأذهب شوكتهم وأنزل الرعب في قلوبهم بدلا من إنزاله في قلوب أعدائهم.(29/376)
وقد أدرك أعداء الله الكافرون أن ولاء المسلمين بعضهم لبعض إذا تحقق أخضع الله به لههم راية الكفر ورفع لهم راية الإسلام، وإذا تشتت هذا الولاء دب فيهم الضعف والوهن وكانوا أذنابا لغيرهم من أمم الكفر فوضعوا خطتهم لإيجاد شعارات كثيرة تتعدد لها ولاءات الشعوب كما وضعوا شعارات كثيرة في داخل الشعوب تتعدد لها ولاءات الأحزاب وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح عندما جعلوا العرب وهم حملة رسالة وأهل الولاء الأصيل لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين يتركون الدعوة إلى الولاء لكلمة التوحيد وينادون بالولاء للجنس أو القوم ورفعت راية القومية العربية بدلا من الجامعة الإسلامية وهكذا أصبح لكل شعب من شعوب المسلمين راية قومية يدعون لها ويلتفون في الظاهر حولها هذا تركي وهذا هندي، وهذا إفريقي وهذا إندونيسي حتى أصبح بعض المنتسبين للإسلام لو رأى كتاب الله يداس بالأقدام أو كلمة لا إله إلا الله يستهان بها لم يتحرك قلبه ولم يتغير وجهه غضبا لذلك ولكنه لو رأى علم بلاده وقد رسم فيه حيوان أو غيره ينزل من مكانه ضاق بذلك ذرعا وغضب وعمل كل ما يقدر عليه للانتقام من فاعل ذلك بعلم بلاده.
والحكام الذين لا يريدون الإسلام أو يخافون من انتشاره وسيطرة أحكامه على نفوس شعوبهم يحاولون إيجاد كل الوسائل لإيجاد شعارات ومبادئ وطقوس يحلونها محل لا إله إلا الله محمد رسول الله ويدعون طوائف شعوبهم على اختلاف أديانهم لموالاة بعضهم بعضا على أساس تلك الشعارات أو المبادئ ويوهمونهم أن في ذاك عزتهم وقوتهم وأن ولاءات الدين تغرق الشعوب وتضعفها. وهذا المعنى هو الذي يظهر المراد بأول مبدأ من المبادئ الخمسة التي تضمنها شعار: "البانتشاسيلا"على الرغم من التحفظ الذي يبدو في أسلوب الشارح باللغة العربية.(29/377)
المبدأ الأول: الربانية المتفردة، قال المعلق: "ولقد وضع الشعب- مبدأ الإيمان بالربانية المتفردة- في المقام الأول من فلسفة حياته ويعتنق الشعب طائفة من الأديان، فهناك من يدينون بالإسلام، وهناك من يدينون بالنصرانية، ومن يدينون بالهندوكية، أو البوذية أو غير ذلك من المعتقدات.
المبدأ الثاني: الإنسانية العادية المهذبة، والمقصود بها ولاء الإنسان لأخيه الإنسان بصرف النظر عن الدين والعقيدة والخلق- وهي دعوى نظرية يصعب تطبيقها على الرغم من اصطدامها بأصل من أصول الإسلام وهو موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه- وأول ما تصطدم به هو:
المبدأ الثالث: الذي هو الوحدة القومية الإندونيسية، فالوحدة ليست إنسانية وإنما هي إندونيسية وكل قوم يدعون وحدة منسوبة إلى أرضهم أو جنسهم كالوحدة القومية العربية، ثم الوحدة المدعاة بين شعبين، ثم الوحدة المدعاة لشعب بعينه.
المبدأ الرابع: سلطة الشعب الموجهة بالحكمة والحصافة في الشورى النيابية، وهذا المبدأ يصطدم اصطداما مباشرا مع مبدأ الطاعة المطلقة لله وحده ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالسلطة في الدين الإسلامي لله وحده وإن كان أولوا الأمر يجتهدون في تطبيق النصوص الإسلامية إذا لم يرد بصفة معينة، كما أنهم يجتهدون في قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(29/378)
المبدأ الخامس: العدالة الاجتماعية لكافة الشعب الإندونيسي، وهذا المبدأ مبنى على المبادئ الأولى التي منها المبدأ الرابع الذي يجعل السلطة للشعب- والمقصود أفراد من الشعب يغلبهم الهوى والجهل فيظلمون الشعب ويسمون ظلمهم عدالة.
وبعد أن أشار إلى هذه المبادئ صرح بأنها هي الأساس والمنطلق في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم ومختلف النشاطات الاجتماعية الأخرى. فالشعار بهذا المفهوم هو مصدر النشاط الإندونيسي، وكأنه يقول إذا كان المسلم مأمورا أن يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاشَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} فإن الإندونيسي مسلما وغير مسلم يجب أن يقول إن نشاطي كله (لبنتشاسيلا) .
وقد رحب بهذا الشعار غير المسلمين، كما نص أن المؤتمرين النصارى أيدوا البنتشاسيلا في مؤتمرهم.
أما المسلمون فمنهم الجاهل الذي لا يفرق بين الجمرة والتمرة إلا بعد الندم ولات ساعة مندم ... ومنهم الذي ضعف إيمانه فيحاول التوفيق بين هذه المبادئ وبين الإسلام بطرق معوجة وتحريف الكلم عن مواضعه، ومنهم من ينكر ويبصر ولو أحاطت به الأخطار ويقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . كما قال إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة الواضحة أن هذا الشعار قصد به صرف المسلمين عن ولاء الله ورسوله والمؤمنين. أن رئيس الجمهورية (سوهارتو) يصرح في كل مناسبة أن إندونيسيا لا دينية ومن ذلك تصريحه في مؤتمر الإعلام الإسلامي الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في جاكرتا.
فقد قال: إننا نرحب بكم في إندونيسيا وإن كانت دولتنا لا دينية والشعار يمثل ذلك ويدل عليه.(29/379)
وهذا يوجب على علماء الإسلام أن تكون تربيتهم لأبناء المسلمين مبنية على أصل العبودية المطلقة لله تعالى الذي له وحدة الألوهية المطلقة وأن يؤصلوا في نفوسهم معنى المولاة والمعاداة في الله التي اهتم بها علماء السلف وألفوا فيها المؤلفات لعلمهم بما يترتب على ذلك من ترابط المسلمين وقوتهم.
الملحوظة الثانية:
إن الجمعيات والمنظمات الإسلامية تبذل جهودا قوية لتحصين أبناء المسلمين من الكفر بأنواعه: النصراني والشيوعي والخرافي على الرغم من قلة الإمكانيات المادية، والذي يؤخذ على كثير من علماء هذه الجمعيات السكوت عن كثير من المنكرات التي حرمها الإسلام، إذ يكتفي الكثير منهم بالمواعظ العامة ولا يمسون الجوانب السلوكية كالسفور بالنسبة للمرأة، والاختلاط - اختلاط الرجال والنساء –يوجد هذا الاختلاط في المدارس والجامعات والمجامع العامة مع وجود الإغراء ووسائل الفتنة وغير ذلك فيما لا يجوز السكوت عليه، كما أن بعض المؤسسات على الرغم من قيامها على أساس الإسلام ـ يوجد هذا الاختلاط فيها وكذلك اللباس غير ساتر. وهذا ما رأيته في كثير من المقاطعات التي زرتها ووجدنا بعض الشباب المتحمس يشكون سكوت كبار علمائهم عن هذه الأمور وينتقدونهم.
الملحوظة الثالثة:
أن وجود ثقة المسلمين في إندونيسيا ـ وربما في غيرها من الشعوب الإسلامية- في البلدان العربية جعلهم ينظرون، إلى العرب الذين يزورونهم نظر احترام ومحبة، وقد يدعوهم ذلك إلى الاقتداء بهم وكثير من العرب الذين يزورون تلك البلدان لا يلتزمون بأوامر الإسلام ولا يجتنبون نواهيه وقد يظن الجهال في الشعوب الإسلامية أن تصرفات هؤلاء العصاة من الإسلام.(29/380)
ومما ذكره بعض الشباب منكرا له أن بعض كبار الموظفين من بعض البلدان العربية المهمة كان يصحب معه قرينته التي ما كان لباسها يختلف عن لباس المرأة النصرانية أو غير الملتزمة بالدين والخلق وكان هؤلاء الشباب مستائين جدا من هذا التصرف الذي كانوا يودون أن يحصل عكسه وهو الالتزام بالإسلام، وآدابه ليكون ذلك حافزا للفتيات الإندونيسيات على الاقتداء به.
بما يدل على ثقة المسلمين بالشعوب العربية أن الطلبة الذين يجيدون اللغة العربية يتجمعون أمام الجدران التي تعلق عليها الصحف العربية لقرائها بشغف مع أن تلك الصحف يصدر أكثرها من دول عربية معادية للإسلام وصحفها تحمل أفكار زعمائها.
لهذا كله فإنه ينبغي أن تهتم الدول التي تدين بالإسلام ببعث الكتب الإسلامية والجرائد والمجلات الإسلامية لتملأ الفراغ الذي جعل لصحف أعدا الإسلام رواجا هناك.
ويجب كذلك أن يتقي الله زوار تلك البلدان من الشعوب العربية ولاسيما الشعوب التي ينظر إليها المسلمون في العالم أنها قدوة فيلتزموا بالإسلام ولا يكونوا دعاة شر وفساد بأعمالهم السيئة.
الملحوظة الرابعة:
ينبغي للجامعات الإسلامية والمؤسسات الإسلامية من الشعوب العربية أن تقوي صلاتها بالجامعات والمؤسسات الإسلامية في إندونيسيا بتبادل الزيارات والإكثار من المنح الدراسية الشاملة بمعنى أن يكون الطلاب من جميع مناطق الجزر الإندونيسية لا من منطقة دون أخرى، وإن كان لا يمنع ذلك أن تكون الكثرة من بعض المناطق لاعتبارات راجحة.
وكذلك ينبغي أن تخصص إعانات مالية لمساعدة تلك الجامعات ومؤسسات وكتب علمية مفيدة وغير ذلك مما يرفع معنويات المسلمين هناك الذين يواجهون تيارات مدعومة من دول ومؤسسات ضد مبادئ الإسلام.
الملحوظة الخامسة:(29/381)
ينبغي أن تختار كتب ورسائل إسلامية مفيدة وتترجم وتطبع في داخل إندونيسيا لتوزع على الجمعيات والمؤسسات الإسلامية هناك بدون مقابل أو تباع في الأسواق بأثمان مستطاعة.
وأقترح الكتب التالية: ويمكن اقتراح غيرها:
(1) كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) السياسة الشرعية له.
(3) الحسبة في الإسلام له.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم له.
(5) كتاب الصلاة لابن القيم.
(6) مفتاح دار السعادة له.
(7) زاد المعاد له.
(8) تحفة الودود في أحكام المولود له.
(9) جامع العلوم والحكم لابن رجب.
(10) الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب (وقد ترجم كتاب التوحيد الشيخ عارفين أحد علماء سورابايا ويمكن النظر في هذه الترجمة فإذا كانت صحيحة طبعت وهو كتاب مطبوع أخدنا منه نسخة للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) .
(11) مبادئ الإسلام للأستاذ المودودي.
(12) تذكرة دعاة الإسلام له.
(13) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للأستاذ أبى الحسن الندوي.
(14) رسالة التعاليم للأستاذ البنا.
(15) رسالة إلى أي شيء ندعو الناس له.
(16) خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب.
(17) معالم في الطريق له.
(18) منهاج التربية الإسلامية (بقسميه) لمحمد قطب.
(19) كتاب التوحيد بجزئيه له.
(20) كتب توحيد الخالق بأجزائه الستة للزنداني:
وبتوحيد الخالق سبحانه- استودعك الله يا إندونيسيا، راجيا أن تهيمن كلمة الله على كل جزء من أجزائك ويحملها كل قلب من قلوب أبنائك مجاهدا في سبيلها مواليا من ولاها معاديا من عاداها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
عروس تهديها عرائس:(29/382)
وأخذت الطائرة تنهب الجو نهبا، فوق المحيط الهادي، الذي كانت قوافل السحاب تتناثر بيننا وبينه، فظهر بها كبساط أزرق مائل إلى الخضرة، وشبه أبيض، وكنا نشاهد قوافل الأمواج الهائجة صفوفا يتبع بعضها بعضا، كما كانت السحب الخفيفة الحمل طائرة فوق الطائرة سائرة إلى حيث أمرها الله، وبدا القمر على يسارنا على شكل نصف دائرة، والسحب العالية تحجبه عنا تارة وتكشف نفسها عن وجهه تارة أخرى.
حقا لقد كانت مناظر عجيبة، ولقد شبهت طائرتنا، وهى تسير في هذا الجو بالعروس التي تهديها عرائس، وهى جميلة، وكل واحدة منهن أجمل وزاد جمالها على جمالهن بسبب وقوعها في وسطهن مثل البدر الذي أحاطت به هالته.
وكنت لا أدرى إلى أين ألتفت لأتمتع بتلك المناظر التي قد لا تحصل لمسافر- هكذا مجتمعة- شمس ساطعة، وسحب جميلة متفرقة، على بحر أمواجه هائجة ترى من بعد كصفوف المصلين ذوو اللباس الأبيض، وقمر يداعبه السحاب فيحجبه تارة ويكشف عنه أخرى، الله أكبر ما أعظم خالق هذا الكون الجميل المنسق الذي يتعاون تناسقه على جماله، ولو أن بني البشر تعاونوا فيما بينهم على حياة سعيدة في هذه الدنيا، فآثر بعضهم بعضا، وكف بعضهم ظلمه عن بعض وبذل كل واحد وسعه في إيجاد الأمن والاستقرار واجتهد أولياء الله في نشر دينه وإعلاء كلمته فأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم لاكتمل الجمال جمال الحياة البشرية وجمال الكون العظيم: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} .(29/383)
وبدأت تظهر بعض الجزر المستديرة التي تشبه قصعات الطعام الموضوعة على طاولة مكسوة بالجوخ الأخضر، وصغارها تبدو كعيون البقر، والمحيط الهادي يحتضنها من جميع جوانبها ولم يغمرها يا الله ما الذي يمنعه عنها غير خالقها وخالقه.
وظهرت جزر مكسوة بالغابات: جبالها وسهولها، وهي تفاخر البحر المحيط بها بملابسها الموشاة بالزهور المختلفة، وكأنها تقول له: إذا كنت تجود للناس بأسماكك ولآلئك بعد أن يقتحموا الصعاب ويتجشموا الأخطار ومنهم من لا ينجو من قسوتك وعنفوانك على الرغم من اتعاب أنفسهم في اتخاذ وسائل الوصول إليك، فإني أمد يدي بالخير لكل الناس قويهم وضعيفهم بثمر النارجيل، والموز والبرتقال والباباي والتفاح والأناناس بدون مشقة ولا خطر. ثم جاء قوس قزح ليشارك بألوانه الجميلة فأضاف إلى الجمال ... جمالا ...
الحمد لله:
وفي هذا الجو الممتع المريح الذي يربط المخلوق بالخالق ذكرنا المضيفون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ". فقد كنا فعلا - ولكن القليل منا- نتمتع بالفطرة ونشعر بالغبطة والسرور، ولكن المضيفين بدأوا يغلقون النوافذ من أجل عرض فيلم الرحلة (وأفلام الرحلات كلها ثقيلة علينا) الثقيل ولعل القارئ يدرك من عاطفتي مع الكون ورغبتي في صحبته باستمرار أن غلق النافذة بالنسبة لي يعتبر سجنا.
وأخذت أقرأ بعض الجرائد السعودية التي حصلت عليها من مكتب الأخ الشيخ عبد العزيز العمار في جاكرتا، وكان الفيلم قذرا في ميزان ذوي العقول ولاسيما عند المسلم، ولذلك قال الشيخ عبد القوي: يعملون هذا وهم في الجو ما يخافون من ربهم، قلت: إن الله يمهلهم ولا يهملهم وهو من ورائهم محيط.(29/384)
وبعد أن قرأت بعض أخبار الجرائد ومقالاتها أخذتني غفوة سمعت على أثرها الشيخ عبد القوي وهو يقول: الحمد لله، فنظرت إلى الفيلم فوجدت أنه انتهى. فقلت مثل هذا الشيخ: الحمد لله، وفتحت النافدة ورجعت إلى كتاب الله المنظور.
وعلى الرغم من بعد المسافة بيننا وبين البحر فإن أثر هياجه كان واضحا في بياض الماء الذي كان كل صف منه يتبع الآخر على أثر ارتطام أمواجه بعضها ببعض.
{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} :(29/385)
رأيت باخرة كبيرة، وهي تمخر عباب المحيط، وقد امتد وراءها انخفاض واضح كأنه واد بين جبلين ـ وهو الأثر الذي حدث من شقها طريقها في البحر- فأحسست بطارق ينبهني إلى آيات الله القرآنية الواردة في تسخير الله تعالى لهذا الإنسان السماء والبحر وغيرها، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . وقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} . إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
إن حكمة الله في هذا التسخير لهذه النعم لهذا الإنسان هي أن تعم رحمته خلقه وأن يشكر هذا االإنسان الخالق المنعم: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .(29/386)
ولكن هذا الإنسان- إلا من شاء الله- كلما زاده الله من نعمه زاد طغيانه وتمرده. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
ويرى العاقل هذا الظلم وهذا الكفران في هذا الإنسان في السفر في الجو وفي البحر وفي البر، وفي الحضر في كل مكان. قد غفل ـ أو مات قلبه ـ عن التفكير في نعم الله التي يجب أن تطرق قلبه في كل وقت ليعود إلى المنعم فيعبده ويشكره.
وعدد البواخر التي شاهدتها في المحيط في هذه المرحلة أكثر من عشر كانت الأولى أكبرها.
مظاهرة عارمة:
وكان منظر السحاب في هذا اليوم – يأخذ بالألباب- وقد شبهته بعدة تشبيهات حسب الحالة التي رأيته عليها.
فشبهته مرة بصفوف المصلين الذين اجتمعت حشودهم في مصلى العيد في الصحراء ـ كما هي السنة ـ كل إنسان بجنب صاحبه، وكل صف وراء أخيه وهكذا كان السحاب: كل سحابة بجانب أختها وكل صف من السحاب وراء الصف الذي قبله.
ورأيته تارة على هيئة مخيم الحجيج في منى وقد ربطت كل خيمة في وتد أختها وبين كل جملة من الخيام وأخرى ممر.
ثم بدا لي- تارة أخرى- كأنه مدينة واسعة، ذات قصور عالية، متناسقة خططت شوارعها بحكمة وإتقان، إلا أنه لا يوجد في تلك الشوارع الزرقاء إلا تتابع الأمواج الهادرة، ومساحة هذه المدينة لا تقاربها مساحة أي مدينة من مدن العالم البشرية.(29/387)
وآخر قافلة رأيتها كانت تشبه أسرابا من الطائرات الحربية تحلق فوق هذه الأجواء الواسعة إلا أنها لا تلقي قنابل النابالم المحرقة، ولا تقذف الصواريخ المدمرة وإنما كانت - في ذهني- تقذف بالحق على الباطل فيدمغه. وكأنها في مظاهرات عارمة ضد الملحدين، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وشاهدت جزيرة صغيرة من اليابس تحيط ببحيرة صغيرة من الماء وأمواج المحيط الهادي تتلاطم حولها، وهما على هيئة قذيفة صاروخية هكذا.
جزيرة صغيرة
بحيرة صغيرة
المحيط الهادي
ورأيت خضرة على اليابسة تشبه العشب لم أتبين ما هي لبعدها. والظاهر أن البحر يغمر هذه الجزيرة عندما يشتد هياجه، فتغدو كلها من قاعه، ويولي عنها عند جزره وهدوئه - النسبي- فتنكشف مرتفعاتها ويبقى البحر الصغير - البحيرة- في وسطها.
في مطار هونغ كونغ:
ثم أخذت الطائرة في الهبوط رويدا رويدا فرأينا الجبال القريبة من هونغ كونغ في وسط البحر ورأينا القوارب الصغيرة وهي تتحرك في البحر في كل اتجاه مثل الأسماك. وهبطت الطائرة في مطار هونغ كونغ في الساعة الواحدة إلا عشر دقائق بتوقيت جاكرتا الثانية إلا ربعا بتوقيت هونغ كونغ فكانت مدة الطيران أربع ساعات كاملة.
دّبر نفسك:(29/388)
ودخلنا قاعة الجوازات فكان إمامنا في الصلاة هو شيخنا في اللغة وقف الشيخ عبد القوي أمام الموظفة فرطنت باللغة الإنجليزية - بلهجتهما الصينية السريعة التي يختلط على السامع مخارج حروفها- فلم يفهمها، فختمت له ومشى، فقلت له: لا تبتعد عنا لأنا لا نستطيع التفاهم معها- أصلا- فقال: دبر نفسك، وبدأت ترطن لي فناديته فجاء فتكلمت بكلام لم يفهمه فأشارت إليه أن يعود إلى مكانه وقالت لي: نو إنجلش فهززت لها رأسي فختمت جوازي وجواز الابن عبد البر ونذرت صوما، وقلت عندئذ للشيخ عبد القوي: لقد كادت الرؤوس تتساوى- أي في اللغة.
أخافتهم الغترة عند الدخول:
ذهبنا إلى قاعة الجمرك فتسلمنا عفشنا وأخذ الموظفون يفتشون كل شيء بدقة، وكان الموظف- على الرغم من التفتيش الدقيق- يسأل أعندكم سلاح. والشيخ يقول له: نو. قلت له: لا تجبه يكفيه ما يفعل.
وبعد أن فرغ من تفتيش الحقائب وكدنا نفارقه نظر إلى عبد البر فرأى رأسه مغطى بالغترة- أما الشيخان فكانا مكشوفي الرأس- فأخذ الموظف يمر بيديه على رأس عبد البر متحسسا، وكأنه ظن أن تحت هذا الغطاء مفرقعات أو غيرها من الأسلحة، فاقتر بت أنا من الموظف وأشرت له إلى رأسي - أي فتش رأسي أيضا، فابتسم وفهم أننا نستغرب تفتيش الرأس.
الفندق قبل السيارة:(29/389)
خرجنا من قاعة المطار فلم نجد أحدا ينتظرنا وكنا قد اتصلنا من جاكرتا بمنزل الأخ مظهر السيد (باكستاني مقيم في هونغ كونغ يشتغل بالتجارة) الذي كنت قد التقيت به في المرة الأولى عندما كنا في طريقنا من اليابان بعد زيارة أمريكا. ووقفنا ننتظر سيارة أجرة وكنا كلما أشرنا لسائق تجاوزنا إلى غيرنا من الواقفين، فاستغربنا ذلك. وبعد وقوف طويل كان يأتينا بعض الشباب يسألنا ماذا تريدون؟. فنقول: نريد استئجار سيارة فيتركنا ويذهب يوقف سيارة لغيرنا ويضع له أثاثه في صندوق السيارة بنفسه ويفتح له الباب وإذا ركب أغلقه وودعه. فأخذنا نتساءل: ما سبب صدود الناس عنا أهو لباسنا العربي!؟.
ثم قلت لشيخنا القارئ - شيخ اللغة الإنجليزية- انظر إلى هذه اللافتات التي يقف الناس تحتها فتأتيهم السيارة بسهولة ويجدون من يحتفي بهم دوننا، فنظر فوجد أسماء فنادق. من أختار أحدها وقف تحت لافتته فجاءته السيارة التابعة لذلك الفندق فتوصله إليه، فقلت: إذن يجب أن نختار الفندق قبل السيارة، فأختر لنا ما تشاء فاختار فندق "أمباسدور" وعندها يسر الله عسرنا، وكان من فنادق الدرجة الأولى.
جوهرة في مزبلة:(29/390)
ونزلنا في هذا الفندق، واتصلنا بالأخ مظهر السيد الذي وعدنا بالمجيء إلينا، فاسترحنا، وجاءنا في الساعة السادسة ونزلنا إلى السوق لشراء بعض المأكولات للإفطار وذهبنا إلى مسجد كولون الذي هدم ليبنى من جديد، وهو في دور التأسيس، وقد شاركت فيه رابطة العالم الإسلامي في إعانته وشارك غيرها من الكويت وبعض تجار المسلمين في هونغ كونغ ولا زالوا يجمعون له المساعدات لأنه سيبنى من طابقين وكان قد بني قبل ثمان عشرة سنة بنته بريطانيا للمسلمين الذين شاركوا في فتح البلدان لها مع جيشها وهم من الهند والباكستان، وكنت زرت هذا المسجد قبل ثلاث سنوات وكان إمامه شيخا باكستانيا كبير السن ذكر لنا حاجته إلى بناء جديد وضمنت التقرير الذي قدمته للجامعة الإسلامية هذا الطلب وبعثت بصورة منه إلى فضيلة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ولعله على أثر ذلك قدمت المساعدة من الرابطة.
وقد منحت الحكومة في هونغ كونغ المسلمين قطعة أرض بجوار المسجد مباشرة إعارة يؤدون فيها صلاتهم حتى يتم بناء المسجد وقد بنوا على هذه القطعة مسجدا مؤقتا من الخشب وغطوه بغطاء من البلاستيك ليقيهم من حر الشمس والمطر.(29/391)
وعندما وصلنا إلى هذا المسجد وجدنا المسلمين مجتمعين وقد وضعوا سفر الإفطار على بسط المسجد وضعوا القصعات على تلك البسط ووضعوا أمام كل واحد من المصلين الذين لا يقلون عن ثلثمائة مصل حبات تمر وشيئا من الفاكهة- برتقال أو تفاح- وخبزا محشو بخضرة ولحم (سمبوسة) وقعب نحاس ملي بشربة أرز وعدس ولحم ورحبوا بنا وفرحوا عندما رأونا ونحن فرحنا أيضا بهذا الجمع الغفير من المسلمين يفطرون كلهم في مكان يصلون بعد الإفطار وراء إمام واحد والبيئة التي تحيط بهذا المسجد كلها بيئة كفر ترى فيها النساء العاريات والأخلاق الفاسدة والغفلة عن الله وعن اليوم الآخر فكان وجود هذا المسجد في هذا المكان بهذه الأوصاف مثل الجوهرة المرمية في مزبلة ولعل هذه الجوهرة تحول تلك المزبلة كلها إلى جواهر في يوم من الأيام وما ذلك على الله بعزيز.
فقد كانت الأرض كلها مزبلة عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله في مكة المكرمة.
راحت تتعجب فدخلت تلعب:(29/392)
هذا مثل يمني حفظته وأنا صغير، ومعناه- في الأصل- خرافي فهناك مرض يسمى بمرض الزار، إذا مرض شخص أي مرض أقعده في منزله جاء بعض المرتزقين وأوهموه بأن شيطان الزار قد أصابه بهذا المرض ولابد من ذبح بعض الخرفان ودعوة الناس للأكل منها لا سيما هيئة شيطان الزار الذين هم رئيس الهيئة- رجل أو امرأة- وضاربوا الدفوف وصاحب المزمار والمصفقون ويحضر المريض- أو تحضر الهيئة عنده إن كان لا يستطيع هو الحضور- فيأخذ ضاربوا الدفوف في ضرب دفوفهم، ويأخذ صاحب المزمار في زمره، ويصفق المصفقون، ويبدأ المريض يهز رأسه شيئا فشيئا، وبعد أن يسخن جسمه تشتد حركته فيرقص ويغيب عقله ويقال إنه عندئذ يحضر شيطان الزار ثم يتقدم شيطان الإنس رئيس هيئة الزار ويغمز بعض أجزاء جسمه ويتحدث مع المريض والمريض يأتي بألفاظ غريبة وكأنه يتحدث على لسان شيطان الزار، ويخبر عن الأسباب التي جعلته يدخل الضرر على المريض ويشترط شروطا لابتعاده عنه يضمن له رئيس هيئة الزار تحقيقها ثم يصحو المريض، وقد يشفيه الله ابتلاء وقد ينتقل إلى الدار الآخرة مشركا بالله معتقدا أن الجن تنفع وتضر، وتمرض وتشفي. هذه نبذه مختصرة لوصف مرض الزار وليس هذا هو المقصود، والظاهر أن القارئ قد ضاق صدره لإدخال هذا المرض ووضعه في هذا المكان من هذه الرحلة وتعب في ربط هذا الكلام بالعنوان، فليصبر على ذلك وإليك بيان المراد.(29/393)
تستأذن بعض النساء من أولياء أمورهن لحضور حفلة الزار لتتفرج وهي ليست مريضة، وعندما تقف في الصف تنظر إلى المريض وهو يرقص فترتعش هي وتدخل تفعل مثل ما يفعل المريض (فقيل راحت تتعجب فدخلت تلعب) فصار ذلك مثلا يضرب لمن قلد شخصا أو حاكاه في أمر ما كان ينبغي له أن يحاكيه أو يقلده لاستغنائه عن ذلك. وقد انطبق هذا المثل على الشيخ عبد القوي - والمثل يحكى كما هو ولا يغير- فقد اجتمع حولنا بعض الباكستانيين والهنود الذين يتحدثون باللغة العربية المفهومة ولم يكونوا يظنون أن الشيخ يتحدث اللغة الأردية فتبادلنا الحديث معهم قليلا ثم لم يقدر الشيخ أن يستمر في التحدث معهم باللغة العربية فانطلق يتكلم باللغة الأردية ولا سيما عندما كان بعض المتحدثين باللغة العربية يترجمون لبعض أصدقائهم باللغة الأردية فأوقفت الشيخ عن التحدث بلغته. وقلت له: أعطهم فرصة ليتمرنوا على اللغة العربية وذكرت عندئذ في نفسي هذا المثل وسجلته في مذكرتي: (راحت تتعجب فدخلت تلعب) .
الجو مهيأ للدعوة الإسلامية في الصين الشيوعية:
التقينا بشاب عربي مسلم جاء لتوه من الصين الشيوعية، فاشتقنا لنسمع منه عن المسلمين في الصين، وكان هذا الشاب قد تلقى بعض العلوم التجريبية في الصين، فسألناه أن يحدثنا عن أحوال المسلمين في الصين، فأعطانا خلاصة للحالة التي كانوا عليها في عهد ماوتسي تونغ، فقال: لقد كانوا في عهده مضطهدين مطاردين غير مسموح لهم بدخول المساجد والصلاة فيها بل هدمت كثير من مساجدهم وقتل الكثير منهم.
أما الآن فقد حصل شيء من التسامح من الحكومة الجديدة، وسمحوا للمسلمين أن يقيموا شعائر دينهم في مساجدهم، بل إن الحكومة رمّمت لهم بعض المساجد المتهدمة كما سمحت لهم بتداول المصحف الشريف وكتبهم الدينية بل سمحت الحكومة ببناء الكنائس والمساجد وقد شرع المسيحيون في بناء عشرين كنيسة في بيكين.(29/394)
ولو أن المسلمين في الدول العربية وغيرها أمدوا إخوانهم المسلمين الآن في الصين بالمصاحف المطبوعة والمسجلة والكتب الإسلامية والعربية وساعدوهم في بناء المساجد لكان ذلك خيرا من التأخر لأن المسلمين في الصين سيصابون بخيبة أمل إذا أبطأ إخوانهم عن مساعدتهم وهم يرون المسيحيين تنهال منهم الإعانات والمساعدات على بني دينهم.
وقال الأخ المذكور: إن الجو الآن مهيّأ للدعوة الإسلامية في الصين ولكنه يحتاج إلى خطة مدروسة وأسلوب مناسب لحالة الانفتاح الاقتصادي في الصين، ولو وجد دعاة مسلمون على هيئة تجار فإنهم يقدرون على الاتصال بالمسلمين ومساعدتهم وتفقيههم في دينهم.
وقال إن المصاحف والكتب يمكن بعثها إلى بعض تجار المسلمين الصينيين في هونغ كونغ وهم يبعثونها إلى أقربائهم في الصين ويمكن بعثها إلى جامع بيكين مباشرة.
زرع المسلمون وحصد غيرهم: (23/9/ 1400هـ)
جاء إلينا الأخ يوسف كريم، وهو صيني مولود في هونغ كونغ. وشاب نشيط متحمس لدينه الإسلامي، جاء إلينا في الساعة العاشرة صباحا وكانت معه شابة مسلمة مشهورة- أيضا- بالنشاط الإسلامي ولها كتابات في المجلات والجرائد عن الإسلام، وبدأنا نتشاور في كيفية اللقاء بالمنظمات الإسلامية وأعضائها في لقاء واحد يتم في مسجد كولون بعد عصر غد الثلاثاء، وطلبوا مني عنوانا لموضوع محاضرة تلقى في هذا الاجتماع فاخترت لهم هذا العنوان: (أثر الإيمان في حياة الإنسان) .
وطلبت منا الأخت ربيعة أن نتصل بالسيدة سعاد الفاتح السودانية التي كانت تعمل عميدة لكلية البنات في الرياض لما بلغها عنها من تحمس للإسلام وثقافة إسلامية طيبة، قالت: إن وجودها هنا سيساعدنا كثيرا على اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مبادئ دينها.(29/395)
وقالت المناسبة لدعوتها هي أننا نريد أن ننظم ندوة عن المرأة في الإسلام بمناسبة الاحتفال بالهجرة، وتقوم ربيعة بعمل سكرتيرة لجنة الاحتفال هذا الذي تشترك فيه جميع المنظمات الإسلامية.
وقال الأخ يوسف كريم: إننا نعاني عدم وجود من يقوم بتدريس اللغة العربية لأبناء المسلمين، والشيخ صلاح السوداني لا يكفي وحده وعندنا الكلية الإسلامية لو أن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة منحتها مدرسين لأفادوا فيها، فسألت عن هذه الكلية وعن نشأتها وطلابها وأساتذتها ومناهجها، فأخبرت أن الذي أسسها رجل مسلم صيني اسمه قاسم تويت وهو رئيس الجمعية الإسلامية الصينية في هونغ كونغ وقد التقينا به فيما بعد وأنه أسس هذه المدرسة، في الأصل - لأبناء المسلمين ولكن لجهل المسلمين وعدم وجود مدرسين متفقهين في الدين منهم يضعون المنهج الإسلامي ويدرسون مواده. تسلمت المدرسة السلطات الحكومية- لا قهرا ولكن خداعا من جانبها وعجزا من جانب المسلمين- ووضعت مناهجها مثل مناهج بقية مدارسها وأساتذتها من رجال الحكومة نصارى أو صينيين وأكثر طلابها من غير المسلمين، ونسبة المسلمين فيها 10% فقط.
قلت: لقد زرع المسلمون وحصد غيرهم، ويجب أن تبذلوا جهدكم في تعديل المناهج وإيجاد المدرسين المسلمين ليقوموا بتدريس الطلاب الدين الإسلامي وتكثروا من أبنائكم في المدرسة حتى تؤثروا أنتم في غيركم بالمنهج والكتاب والمدرس لا غيركم يؤثر فيكم كما هو الشأن الآن.
قال الأخ يوسف: نحن لا نقدر على ذلك بدون مساعدة منكم فانقلوا رغبتنا إلى المسئولين في المملكة العربية السعودية في أن يساعدونا بمدرسين لأبنائنا وكتب إسلامية ووضع مناهج.(29/396)
وقال الأخ يوسف: أدخلت الآن في مناهج المدرسة هذه مادة التاريخ الإسلامي ويدرسها الأستاذ صلاح شيخ ومن تدريسه لها يستطيع أن يعطى الطلبة فكرة عن مبادئ الدين الإسلامي وهى مادة يدرسها المسلمون وغير المسلمين. وقال: توجد في هونغ كونغ ثلاث جامعات: جامعة هونغ كونغ الأم، وجامعة صينية يشرك فيها الصينيون والأوربيون، وجامعة أمريكية تبشيرية كاثوليكية ولم يعترف بشهاداتها إلى الآن، ويستفيد الأوربيون من الجامعة الصينية بل يكادون يسيطرون عليها.
وكثير من الشباب الإسلامي تكون صلتهم بالمنظمات الإسلامية ونشاطاتها الإسلامية جيدة ولكنهم عندما يدخلون في هذه الجامعات ينعزلون عن إخوانهم وقد لا نراهم إلا بعد تخرجهم وذلك بسبب الواجبات الملقاة عليهم في الدراسة وخشية فشلهم فيها وهم هنا لابد أن يتعبوا أنفسهم ليحصلوا على وسيلة جلب رزقهم.
وقال: إن المنظمات هنا لها كامل الحرية في نشاطاتها لا فرق بين المنظمات اليهودية والنصرانية والصينية، وكذلك المنظمات الإسلامية فتستطيع أي منظمة أن تقوم بأي عمل دون أن تصطدم بالمنظمات الأخرى، واليهود هم الذين يسيطرون على الاقتصاد العام ورئيس الجهاز التعليمي يهودي. والبوذيون أغنياء بالأراضي والعمارات.(29/397)
رسائل لم يحملها البريد
الشيخ عبد الرءوف اللبدي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
أختي العزيزة (هل) :
هذه هي الرسالة الحادية عشرة أبعث بها إليك لأحدثك فيها عن الصيغة الثانية من هذه الصيغ التي تدخل فيها أختك همزة الاستفهام على (لا) النافية للفعل المضارع، وهذه الصيغة هي {أَفَلا تَتَّقُونَ} وقد وردت في اثنتي عشرة آية من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} . الآية (65) من سورة الأعراف.
الآية الثانية قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . الآية (31) من سورة يونس.
الآية الثالثة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} . الآية (23) من سورة المؤمنون.
الآية الرابعة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ َأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} . الآيتان: (31-32) من سورة المؤمنون.
الآية الخامسة في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (87) . الآيتان: (86-87) من سورة المؤمنون.(29/398)
الآية السادسة في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} (11) . الآيتان: (10-11) من سورة الشعراء.
الآية السابعة في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (106) . الآيتان: (105-106) من سورة الشعراء.
الآية الثامنة في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} (124) . الآيتان: (123-124) من سورة الشعراء.
الآية التاسعة في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (142) . الآيتان (141-142) من سورة الشعراء.
الآية العاشرة في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} (161) . الآيتان: (160-161) من سورة الشعراء.
الآية الحادية عشرة في قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} (771) . الآيتان: (76 ا-177) من سورة الشعراء.
الآية الثانية عشرة في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذ قال لقومه ألا تتقون} (124) 0 الآيتان: (123-124) من سورة الصافات.
هذه الصيغة: "أفلا تتقون "جاءت في الآيات المتقدمة على لسان رسل يخاطبون بها أقواما كافرين.
وقد سمي معظم هذه الآيات أسماء الرسل الذين قالوا هذه الصيغة وأسماء الأقوام الذين خوطبوا بها، ولم ترد هذه التسمية في ثلاث آيات، ولكن سياق المعنى في الآية الثانية والآية الخامسة يدل على أن القائل لهذه الصيغة هو محمد صلى الله عليه وسلم خاطب بها المشركين من قريش.(29/399)
أما الآية الرابعة فليس فيها ولا فيما اكتنفها من الآيات ما يدل على اسم الرسول القائل لها ولا اسم القوم الذين خوطبوا بها.
وهمزة الاستفهام في هذه الصيغة تفيد الإنكار والتوبيخ:
لقد أنكر هؤلاء الرسل على أولئك الكافرين الذين خوطبوا بهذه الصيغة، أنكروا عليهم تركهم تقوى الله تعالى والخشية من عقابه، ووبخوهم على ذلك.
وقبل أن أنتقل بك إلى الصيغة التالية أحب أن أنبهك على أشياء:
لعلك تسألين وتقولين إن هذه الصيغة التي جاءت في الآية السادسة على لسان موسى يخاطب بها قوم فرعون جاءت بياء الغيبة (ألا يتقون) ولم تجئ بتاء الخطاب (ألا تتقون) ، ثم إنه لم يُذكر قبلها (قال) أو (قل) كحالة هذه الصيغة في آياتها الأخر، فكيف يصح أن تقولي قالها موسى يخاطب بها قوم فرعون؟!.
لقد أجاب الطبري في تفسيره عما تسألين، فقد جاء فيه عند تفسيره لهذه الآية: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} ... ومعنى الكلام قوم فرعون فقل لهم ألا يتقون، وترك إظهار (فقل لهم) لدلالة الكلام عليه، وإنما قيل (ألا يتقون) بالياء، ولم يقل (ألا تتقون) بالتاء لأن التنزيل كان قبل الخطاب ... إهـ.
والشيء الثاني أن هذه الصيغة جاء ت في خمس آيات من آياتها الاثنتي عشرة بصورة (أفلا تتقون) بالفاء فاصلة بين همزة الاستفهام و (لا) النافية، وهذه الصورة لا نزاع في أن الهمزة فيها للاستفهام، والفاء عاطفة، و (لا) نافية للفعل المضارع.
أما الصورة الأخرى التي جاءت عليها هذه الصيغة وهي (ألا تتقون، ألا يتقون)
بدون فاء فاصلة بين الهمزة و (لا) فقد وقع فيها النزاع والخلاف:(29/400)
جاء في البحر المحيط لأبي حيان في تفسيره لهذه الآية: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} جاء فيه: "والظاهر أن (ألا) للعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري: إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار"إهـ.
وجاء في الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين عند تفسير هذه الآية: "وفي السمين أن (ألا) للعرض، وقال الزمخشري: إنها لا النافية دخلت عليها همزة الإنكار، وقيل هي للتنبيه "إهـ.
وعبارة الزمخشري في تفسيره لهذه الصيغة في هذه الآية: "ويحتمل أن يكون (لا يتقون) حالا من الضمير في الظالمين أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال، وأما من قرأ (ألا تتقون) على الخطاب فعلى طريقة الالتفات إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم "إهـ.
وتفيد عبارة الزمخشري هذه أن الهمزة هنا تفيد الإنكار على كلتا القراءتين: القراءة بياء الغيبة والقراءة بتاء الخطاب.
والرأي - فيما يبدو لي- مع الزمخشري، لأن هذه الصيغة جاءت اثنتي عشرة مرة، خمس منها بالفاء، وهذه لا نزاع في أن الهمزة فيها للاستفهام و (لا) نافية، وفاء العطف الفاصلة بين الهمزة ولا النافية هي التي تقضي بذلك.
وسبع منها بدون فاء، وهذه تحتمل أن تكون (ألا) فيها مكونة من همزة الاستفهام ولا النافية وتحتمل أن تكون (ألا) كلمة واحدة تفيد العرض.
ولما كان القائل لهذه الصيغة في آياتها جميعاً واحداً وهم الرسل، وكان المخاطب بها واحداً وهم الكفار، وكانت الحال البلاغية التي تقتضي أسلوبا معينا من القول واحدة وهي كفر المخاطبين وتكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث، لما كان الأمر كذلك كان الصواب أن تحمل هذه الصيغة في آياتها جميعا على معنى واحد هو الاستفهام الذي يفيد التوبيخ والتقريع والإنكار.(29/401)
ثم إننا إذا نظرنا إلى هذه الصيغة التي وقع فيها الخلاف في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} . وجدنا أن هذه الصيغة قد سبقت بما لم تسبق به في الآيات الأخر، فقوله تعالى {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} يدل على عظم ما نودي موسى من أجله، وهذا الأمر {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يوحي بالقوة والشدة والإسراع، ثم إن وصف القوم بالظالمين وأنهم قوم فرعون يدل على سخط عليهم وغضب. فمن ذا الذي يتوقع بعد هذا كله أن يكون ما حمله موسى إلى قوم فرعون غير ما يدل على الإنكار والتقريع والتوبيخ. إن العرض وحتى لو ضمن معنى التحضيض يأباه كل الإباء سياق الكلام المتقدم الموحي بالسخط عليهم والغضب، وأخذهم بالشدة والغلظة والعنف.
الشيء الثالث: أصل (تتقون) فيما يتخيله علماء الصرف (تَوْتَقِيُونْ) ، على وزن تفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء التي هي لام الكلمة وواو الجماعة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضممت القاف التي قبلها لمناسبة واو الجماعة، ثم إن الواو التي هي فاء الكلمة أبدلت تاء لوقوعها قبل تاء الافتعال ثم أدغمت في تاء الافتعال، فصارت الكلمة تتَّقون على وزن تفتعون؛ والفعل المجرد لهذا الفعل المزيد هو: وقى يقي.
أختي العزيزة: (هل) :
أنتقل بك الآن إلى الصيغة الثالثة من هذه الصيغ التي تدخل فيها أختك همزة الاستفهام على (لا) النافية للفعل المضارع، وهذه الصيغة هي (أفلا تتذكرون) ، وقد وردت هذه الصيغة في تسع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} . الآية (80) من الأنعام.(29/402)
تتضمن هذه الآية الكريمة أن قوم إبراهيم عليه السلام جاءوه يجادلونه في توحيده الله سبحانه وتعالى وفي نبذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، ويخوّفونه أن تمسّه هذه الأصنام بسوء.
فأجابهم إبراهيم عليه السلام منكرا عليهم هدا الحجاج والجدال قائلا: أتحاجوني في توحيدي الله تعالى وإخلاصي العمل له دون سواه وقد هداني إلى أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له؟!!.
أما أصنامكم هذه التي تعبدونها من دون الله وتخوفونني أذاها فلا أخافها، إنها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها الأذى، فمن أين لها القدرة على الإيذاء؟!!.
إنها لا تضر ولا تنفع إلا أن يشاء ربي بي شيئا فإنه ينالني، فهو القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، قد وسع علمه كل شيء فلا تخفى عليه خافية.
ثم ختم محاجّته بقوله (أفلا تتذكرون) وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر عليهم ويوبخهم ألا يتعظوا ويتدبروا هذا الأمر الذي وقع فيه الحجاج والجدال، وكأنه يقول لهم: أفلا تتعظون أيها الأغبياء الجاهلون وتعقلون فتدركوا أن هذه الأصنام لا تفقه ولا تعقل ولا تملك نفعا ولا ضرا ولا تستحق العبادة، وأن الله العالم بكل شيء والقادر على كل شيء والخالق الرازق الذي بيده ملكوت كل شيء هو وحده الذي يستحق العبادة.
الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . الآية (3) من سورة يونس.(29/403)
تتضمن هذه الآية الكريمة أن ربكم أيها الناس هو الله المعبود بحق، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش مدبرا أمر ملكه على أكمل وجه، لا يشاركه أحد في التدبير، ولا يصيب تدبيره خلل واضطراب، ولا يشفع عنده يوم القيامة إلا من يأذن له. ذلكم أيها الناس هو الله الذي خلق هذا الخلق العظيم ودبّر أمور هذا العالم أكمل التدبير، ذلكم هو ربكم الحق الذي ينبغي أن تخلصوا له العبادة وأن تفردوه بالربوبية وأن تتقربوا إليه بالطاعات، وليس هناك من شيء يستحق أن يُعبد من دون الله ولا أن يُتخذ شريكا له.
وفي ختام هذه الآية قال تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على المشركين ويوبخهم أن لا يفكروا في خلقه العظيم خلق السماوات والأرض، وفي تدبيره المحكم لأمور خلقه فيدركوا ما هم فيه من خطأ فاحش وضلال بعيد وإشراك بالله بغير حق، ومن عبادة من لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على شيء، فيدركوا ذلك وينيبوا إلى الله جلت قدرته وعظم تدبيره ويوحدوه ويفردوه بالعبادة.
الآية الثالثة قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . الآية (24) من سورة هود.
تتضمن هذه الآية الكريمة شبه الكافر والمؤمن:
فالكافر الذي عمي قلبه فلم ير الحق والهدى والإيمان، وصمّت أذنه عن سماع الفهم والتدبر لآيات القرآن، يشبه الإنسان الأعمى الأصم الذي لا يبصر بعينه الطريق الذي يوصله إلى غايته، ولا يسمع بأذنه كلاما ينتفع به في حياته، ووجه الشبه إخفاق كل منهما في الوصول إلى ما فيه النفع والخير والفلاح.(29/404)
والمؤمن الذي أراه الله الحق والإيمان، وفهم وتدبر بسمعه آيات القرآن، يشبه الإنسان البصير السميع الذي يرى بعينه طريقَه الذي يوصله إلى غايته، ويسمع بأذنه كلاما ينتفع به في حياته، ووجه الشبه فوز كل منهما بما فيه النفع والخير والفلاح.
والتشبيه في الموضعين من تشبيه المعقول بالمحسوس، وهذا هو الغالب على تشبيهات القرآن الكريم، لأن المشبه به المحسوس أوضح تصويراً للمشبه وأدق، وأشد تأثيرا في النفوس وأعمق.
ومن هذين التشبيهين يتبين أن الكافر والمؤمن ليسا سواء عند الله تعالى فشتان ما بين الضلال والهدى، وشتان ما بين الكفر والإيمان.
وفي ختام هذه الآية قال تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على الكافرين ويوبخهم أن لا يتدبروا ويفكروا في حال كل من الكفر والإيمان وما بينهما من اختلاف وتباين، في أيهما الخير والفلاح، وفي أيهما الشر وسوء المنقلب، فيرتدعوا عما هم فيه من الضلال إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان.
الآية الرابعة في قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (30) . الآيتان: (29-30) من سورة هود.
تتضمن هاتان الآيتان الكريمتان أن نوحا عليه السلام قال لقومه: يا قوم أنا أدعوكم إلى عبادة الله وحده لا تشركون به شيئا، ولا تظنوا أني أطمع من وراء ذلك في مال تعطونني إياه أجرا على ذلك، إنما أجري على الله تعالى، فهو الذي يثيبني وعنده حسن الجزاء.(29/405)
أما هؤلاء الذين تزعمون أنهم أراذلكم وتطلبون مني أن أطردهم وأعرض عنهم فما أنا بطاردهم، وكيف أطردهم وقد آمنوا بالله لا يشركون به شيئا، ثم إنهم ملاقو ربهم، وأي شرف أعظم من هذا اللقاء؟!!.
ولكني أراكم قوما تجهلون أن لهم فضلا عليكم وزلفى عند الله بهذا الإيمان، وأن أموالكم وأحسابكم ليست بالتي تقربكم عند الله شيئا.
ومن يمنعني يا قوم من عقاب الله إن طردتهم وهم المؤمنون به الملاقون له المقربون عنده؟ !!.
وفي ختام هذه الآية قال لهم {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهو استفهام إنكار وعتاب:
ينكر نوح عليه السلام على قومه ويعتب أن لا يتدبروا أمرهم وأمر المؤمنين من قومهم فيدركوا أن الإيمان بالله وباليوم الآخر ونبذ الآلهة التي تعبد من دون الله هو الفوز والفلاح والعلو والشرف، وأن الإشراك بالله وإنكار البعث والحساب هو الخسران المبين.(29/406)
الآية الخامسة في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (17) . الآيات: (3-17) من سورة النحل.(29/407)
تبين هذه الآيات الكريمة خلائق عظيمة خلقها الله تعالى لعباده، ونعما جليلة أنعم بها سبحانه وتعالى عليهم، وفي ختام هذه الآيات جاءت الآية الكريمة: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة التباين بين من يخلق وينشئ ويبدع ابتداء وهو الله جل وعلا وبين من لا يخلق شيئا ألبتة ولا يستطيع أن يخلق وهي الأصنام ممن يعبد من دون الله.
وفي ختام هذه الآية جاء قوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على الناس الذين لا يفردونه بالعبادة ويوبخهم على غفلتهم وجهلهم وسوء نظرهم وعدم تنبههم لأمر واضح جلي يدرك بأقل تفكر، ويعرف بأدنى تذكر، وهو أن من يخلق هذه الخلائق العظيمة وينعم بهذه النعم الجليلة هو المستحق لأن يفرد بالعبادة، وأن من لا يخلق شيئا ولا يستطيع أن يخلق هو شيء لا يستحق عبادة ما أبدا.
الآية السادسة في قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (85) 0 الآيات: (81-85) من سورة المؤمنون.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن المشركين من كفار مكة قالوا مثل ما قال أسلافهم الأقدمون الذين كذبوا من أرسله الله تعالى إليهم، قالوا لهم أإذا متنا وبليت أجسامنا وصارت ترابا وعظاما، أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كما كنا من قبل الممات؟! إنّ هذا لن يكون.(29/408)
وتتضمن أيضا أن المشركين من كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنت يا محمد تعدنا أننا سنبعث بعد الممات، وهذا وعد قد وعده آباؤنا من قبل أناس قالوا عن أنفسهم إنهم رسل لله، فما هذا الوعد إلا أكاذيب سطرها الأولون في الكتب.
وتتضمن أيضا أن الله سبحانه وتعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقومك المكذبين بالبعث: "لمن مُلْك هذه الأرض ومن فيها من الخلائق إن كنتم تعلمون ذلك؟ ".
ثم أعلمه الله سبحانه وتعالى أن قومه سيقولون في جواب هذا السؤال مقرّين: إنها ملك لله وحده، ثم أخبره سبحانه وتعالى أن يقول لهم بعد أن يجيبوا هذا الجواب: (أفلا تذكرون) وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر عليهم أن لا يتدبروا ويعقلوا أن من قدر على خلق هذه الأرض ومن فيها بدءاً وإبداعاً قادر على إعادتهم إلى الحياة مرة ثانية خلقا سويّا كما بدأهم أول مرة.
الآية السابعة قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} . الآية (4) من سورة السجدة.
تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، فهو المتفرد بهذا الخلق العجيب العظيم، فليس لكم أيها الناس من ناصر ينصركم منه إن أراد بكم ضرا، وليس لكم من شفيع يشفع لكم عنده إن عاقبكم على مخالفتكم أمره.
وفي ختام هذه الآية الكريمة قال تعالى: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على الكافرين ويوبخهم أن لا يفكروا في قدرته العظيمة المبدعة وفي تفرده بتدبير أمور خلقه لا شريك له، فيدركوا أنه وحده المستحق للعبادة، وأن من دونه لا يستحقون شيئا.(29/409)
الآية الثامنة في قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (155) . الآيات: (149-155) من سورة الصافات.
مما تضمنته هذه الآيات الكريمة أن مشركي قريش كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، وقد وبخهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يرضون الإناث لأنفسهم فكيف يرضون ذلك لله رب العالمين.
ومما تضمنته أيضا تبيان كذبهم بأنهم لم يحضروا ولم يروا خلق الله تعالى للملائكة حين خلقهم فمن أين عرفوا أنه جل وعلا قد خلقهم إناثا، وكيف يحكمون بهذا الحكم دونما حجة ولا برهان.
وفي ختام هذه الآيات قال تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهو استفهام توبيخ وإنكار:
يوبخ الله سبحانه وتعالى مشركي قريش وينكر عليهم أن لا يتدبروا ما يقولون، وأن لا يفكروا فيما يحكمون، فيعرفوا ما في قولهم من خطأ وجهل وما في حكمهم من إفك وبهتان، فيرجعوا عن الضلال ويثوبوا إلى الرشد.
الآية التاسعة قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .. الآية (23) من سورة الجاثية.(29/410)
تتضمن هذه الآية الكريمة أن من اتخذ معبوده ما تهواه نفسه، وأضله الله على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية، وختم على سمعه فلا يسمع آيات الله ويتدبرها ويدرك ما فيها من نور وهداية، وختم على قلبه فلا يفقه به حقا، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر آيات الله المنبثة في جنبات الأرض وآفاق السماء الدالة على قدرته ووحدانيته فيعلم أنه لا إله إلا هو، إن من كان على هذه الصفة لن يستطيع أن يهديه أحد من بعد الله تعالى.
وفي ختام هذه الآية جاء قوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهو استفهام توبيخ وإنكار:
يوبخ الله سبحانه وتعالى أولئك المشركين وينكر عليهم أن لا يتدبروا أن معبوداتهم من دون الله لا تنفعهم إن أراد الله بهم ضرا، وأنها لا تغني عنهم من الله شيئا، وأنه وحده الهادي إلى الصراط المستقيم، وأنهم لن يجدوا لأنفسهم من دونه وليّاً مرشدا.
أختي العزيزة (هل) :
في ختام هذه الرسالة أحب أن أنبهك على أن هذه الصيغة قرئت في بعض آياتها بتاءين (أفلا تتذكرون) وفي معظم آياتها بتاء واحدة (أفلا تذكرون) ، وما جاء بتاءين فعلى الأصل، والتاء الأولى هي تاء المضارعة، والتاء الثانية هي تاء تفعّل الزائدة في الفعل الماضي، وحين يجتمع تاءان في أول مضارع تفعّل يجوز أن لا تخففيهما فتبقيان على حالهما، ويجوز أن تخففيهما فتحذفي إحدى التاءين، وقد اختلفوا أيهما المحذوفة. فرأى سيبويه: أن المحذوفة هي الثانية لأن الثقل منها نشأ، ولأن حروف المضارعة زيدت على تاء تفعل لتكون علامة دالة على معنى المضارعة فهي أولى بالبقاء. وقال الكوفيون: المحذوفة هي الأولى، وجوز بعضهم الأمرين.
ومهما يكن من أمر فقراءة التاءين جاءت على الأصل، وقراء التاء الواحدة جاءت على التخفيف.
أختي العزيزة:
أستودعك الله تعالى، وأسأله جل وعلا أن يعين على رسالة قادمة يكون فيها الخير والرشاد.(29/411)
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ...
أختك
همزة الاستفهام
مراجع ما جاء في هذه الرسالة
(أ) المراجع على وجه الإجمال:
ا- تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري- الطبعة الثالثة- الناشر: الحلبي بمصر.
2- تفسير البحر المحيط لأبى حيان الأندلسي. الناشر. مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
3- تفسير أبي السعود. الناشر: دار المصحف- مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد القاهرة.
4- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين. الناشر: الحلبي بمصر.
5- تفسير ابن كثير. الناشر: الحلبي بمصر.
6- تفسير الكشاف للزمخشري. الناشر: الحلبي بمصر.
7- تفسير القرطبي (نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية) . الناشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
8- شرح شافية ابن الحاجب للرضى- تحقيق محمد نور حسن وزميليه. الناشر: محمود توفيق، مطبعة حجازي بالقاهرة.
(ب) المراجع على وجه التفصيل:
1- مراجع صيغة 0 (ألا تتقون) في آياتها الإثنتي عشرة.
- الآية الأولى (65) الأعراف: تفسير أبي السعود (ج3 ص231) . تفسير البحر المحيط: (ج4 ص323) . تفسير الطبري: (ج5 ص215) .
- الآية الثانية: (31) يونس أبو السعود. (ج4 ص14) . البحر المحيط: (ج5ص154) . الطبري: (ج11 ص114) . القرطبي: (ج 8 ص335) .
- الآية الثالثة: (23) المؤمنون. أبو السعود: (ج5 ص130) ، البحر المحيط (ج6 ص 402) . الطبري: (ج18 ص16) .
الآية الرابعة: (32) المؤمنون: الطبري: (ج18 ص19) .
الآية الخامسة: (87) المؤمنون: الطبري: (ج18 ص47) . البحر المحيط: (ج6 ص418) . القرطبي: (ج12 ص145) . حاشية الجمل: (ج3 ص200) .
الآية السادسة: (11) الشعراء: الطبري: (ج19 ص64) القرطبي: (ج13 ص91) . البحر المحيط: (ج7 ص7) 0 الزمخشري: (ج3 ص106) أبو السعود: (ج6 ص236) حاشية الجمل: (ج3 ص273) .(29/412)
الآية السابعة: (106) الشعراء. البحر المحيط: (ج7 ص30) . الطبري: (ج19 ص90) . أبو السعود: (ج6 ص254) القرطبي: (ج13 ص119) .
الآية الثامنة: (124) الشعراء. البحر المحيط: (ج7 ص33) . الطبري: (ج19 ص92) .
الآية التاسعة: (1،2) الشعراء: الطبري: (ج19 ص99) .
الآية العاشرة: (16) الشعراء: الطبري: (ج19 ص105) .
الآية الحادية عشره: (177) الشعراء: الطبري: (ج19 ص107) . القرطبي: (ج13ص135) .
الآية الثانية عشرة: (124) الصافات: الطبري (ج23 ص91) . أبو السعود: (ج 7ص 203) .
2- مراجع صيغة (أفلا تذكرون) في آياتها التسع:
الآية الأولى: (80) الأنعام: البحر المحيط: (ج4 ص170) . الطبري: (ج7 ص253) . أبو السعود: (ج3 ص155) . ابن كثير: (ج2 ص152) .
الآية الثانية: (3) يونس: البحر المحيط: (ج5 ص124) . الطبري: (ج11 ص83) . ابن كثير: (ج2 ص406) . الزمخشري: (ج2 ص225) .
الآية الثالثة: (34) هود: البحر المحيط: (ج5 ص213) . أبو السعود: (ج4 ص199) . الطبري: (ج12 ص25) . حاشية الجمل: (ج2 ص.39) .
الآية الرابعة: (30) هود: البحر المحيط: (ج5 ص218) . أبو السعود: (ج4 ص203) . الطبري: (ج12 ص30)
الآية الخامسة: (17) النحل: البحر المحيط: (ج5 ص481) . الطبري: (ج14ص92) . أبو السعود: (ج5 ص104) .
الآية السادسة: (85) المؤمنون: البحر المحيط: (ج6 ص418) . أبو السعود: (ج6 ص130) . الطبري: (ج18 ص47) . حاشية الجمل: (ج3 ص200) . القرطبي: (ج12 ص145) . ابن كثير: (ج3 ص253) . الزمخشري: (ج3 ص40) .
الآية السابعة: (4) السجدة: أبو السعود: (ج7 ص85) . الطبري: (ج21 ص91) . القرطبي: (ج14 ص86) . ابن كثير: (ج3 ص456) .
الآية الثامنة: (155) الصافات: البحر المحيط: (ج7 ص377) . أبو السعود: (ج7 ص208) . الطبري: (ج23 ص106) . القرطبي: (ج15 ص134) .
الآية التاسعة: (23) الجاثية: الطبري: (ج25 ص151) . القرطبي: (ج16 ص169) .(29/413)
3- مرجع ما ورد من صرف في صيغة (أفلا تتذكرون) :
شرح شافية ابن الحاجب للرضيّ: تحقيق محمد نور حسن وزميليه: (ج3 ص290) .(29/414)
حديث مع البلبل
محمد بن عبد الله زربان الغامدي
وكيل عمادة شئون الطلاب
أيا بلبل الروض أين النغم
يفيض على القلب طيب النسم
وأين الأغاريد تلك التي
عهدنا ترددها من قدم
فقد غاب صوتك عنى فهل
عناؤك مازال أم بي صمم
فقال وفي مقلتيه الدموع
لقد زال عهد الرضا وانصرم
وجاء زمان يحار اللبيب
من العيش فيه ويخشى النقم
لقد كنت أشدوا وما في الحمى
سواى يشاركني في النغم
تنقلت من فوق غصن لغصن
وغنيت من كل لحن لهم
وصوتي يردد في العالمين
وتصغى له عربها والعجم
أمنت فنمت لرجع الصدى
وأدركني الليل يهدي الظلم
فقلت: أيا ليل هل تنقضي
فزاد بظلمته وادلهم
أما آن ياليل أن تنجلي
ليطلع فجر يضيء الأكم
أفقت إذا الأرض غير التي
عهدت فلم يبق فيها علم
سوى طلل يندب السابقين
ويحكى نهاية من قد ظلم
فأين صقور الحمى هاجرت
ولم يبق من بعد إلا الرخم
وبوم يعشش بين الخراب
وغربان تبحث بين الرمم
أمن بعد أن قادت العالمين
تقاد لأعدائها كالنعم
تقول فمن يستمع قولها؟!
وترمي المواثيق لا تحترم
إذا ما دعوا للهدى أدبروا
وأما الهوى فأجابوا نعم
أما قرأوا سيرة السابقين
ومن قد مضى قبلهم من أمم
وكيف انتهى منهم الظالمون
وحل بهم من عظيم النقم
وآي الكتاب وهدى الرسول
وفيها الهداية والمعتصم
طريق النجاة لمن رامها
وتنذر بالويل من قد ظلم(29/415)
وبعد اجتماع نرى فرقة
يذوب لها القلب مما ألم
وأمتنا جسد واحد
فإن يشك عضو تداعى الألم
وصرح تماسك بنيانه
وشد على بعضه فاحتكم
ولكنه اليوم جسم جريح
ففي كل واد جرى منه دم
واهمل بنيانه فاعتدت
عليه أيادي الردى فانهدم
وبعد السيادة العوبه
واضحوكة تعتلى كل فم
ترى كل شيء غلا سعره
وفيه التنافس إلا القيم
نصحت وأدركت من نصحهم
يرون النصوح لهم متهم
وقلت لغيري ألا تنصحون
فأين الشهامة أين الشيم؟
ترامى لسمعي صوت حزين
وأوقف سيري وشد القدم
وقال وفي عينه دمعة
لقد بح صوتي وجف القلم
أيا بلبل الروض لا تيأسن
وتبقى صريع الأسى والألم
فقد لاح في الأفق فجر يضيء
يشع بأنواره في القمم
فأصغى إلى: أحقا نقول؟
وقد كظم الحزن ثم ابتسم
فقلت له خفف الروع قد
دنا جرحنا للشفاء والتأم
أما تبصر الجمع قد ضمهم
لقاء بطيبة أرض الحرم
وفي مهبط الوحي حين التقوا
على الخير والكل منهم عزم
آيا قادة العلم في أمة
تحيط بها حالكات الظلم
تداعى عليها الأعادي فكم
عدو ينادي عدوا هلم
فذا طامع حاسد غيره
وهذا حقود دعا نقتسم
وهذا الغثاء وقد ساقهم
إلى الغي سيل الهوى كالغنم
وألقى بهم في بحور الضلال م
تقاذفه اليم يم ليم
وسارت بهم في عميق البحار
فعاث بهم موجها والتطم
فخافوا وكل بكى نفسه
وعضوا جميعا أكف الندم
ألاّ فاذكروا اليوم تفريطكم
وما كان من زلة للقدم(29/416)
أيا قادة العلم حُمِّلتم
أمانة علم، فأعلوا الهمم
ففي جمعكم أمل يرتجى
لأفئدة باللظى تضطرم
تطلع فيكم إلا حققوا
مناها فكم مسها من سقم
وأدوا الأمانة في همة
تكونوا منارا لمن بعدكم
فما قام حق وأربابه
يرون المقيم له متهم
إذا باطل قام في غفلة
من الحق ثم انتشى وانتقم
أفاق له الحق في عزة
فعاد لأدراجه وانهزم
فتحيا البلابل في روضها
وتهتف فيه بشكر النعم
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .الأنفال (46)(29/417)
من تراثنا الشعري المعاصر
المؤاخاة بين المهَاجرين والأنصَارِ
للشاعر أحمد محرم
الأسرة اجتمعت في الدّار واحدة
حيّيت من أسرة، بوركت من دار
مشى بها من رسول الله خير أب
يدعو البنين فلبَّوا غير أغمار [1]
تأكد العهد مما ضمَّ ألفتهم
واستحصد الحبل من شد وإمرار [2]
كلَّ له من سراة المسلمين أخ
يحمي الذمار، ويرعى حرمة الجار
يطوف منه بحقِ ليس يمنعه
وليس يعطيه إن أعطى بمقدار
يجود بالدم، والآجال ذاهلة
ويبذل المال في يسر وإعسار
هم الجماعة، إلا أنهم برزوا
في صورة الفرد، فانظر قدرة الباري
صاح النبي بهم، كونوا سواسية [3]
يا عصبة الله من صحب وأنصار
هذا هو الدّين، لا ما هاج من فتنٍ
بين القبائل دين الجهل والعار
ردوا الحياة فما أشهى مواردهَا
دنيا صفت بعد أقذاء وأكدار
الجاهليَّة سمُّ ناقعٌ وأذىً
تشقَى النّفوس بداءٍ منه ضرّار
تأهبوا، إنَّ ديناً قام قائمه
يومي إليكم بآمالٍ وأوطار [4]
أما ترون رياح الشّرك عاصفةً
تطغى على أممٍ شتًّى وأقطار؟
لن أترك النَّاس فوضى في عقائدهم
ولن أسالم منهم كل جبَّار
أكلّما ملك الأقوام مالكُهم
رمى الضّعاف بأنيابٍ وأظفار؟
الشّرُّ غطَّى أديم الأرض فارتكست
أقطارها بين آثامٍ وأوزار [5]
أخفى محاسنها الكبرى، فكيف بكم
إذا تكشّف عن وجهٍ لها عار؟
لأنزلنَّ ذوي الطغيان منزلةً
تستفرغُ الكبر من هامٍ وأبصار
ظنُّوا الضّعاف عبيداً، بئس ما زعموا
هل يخلقُ الله قوماً غير أحرار؟
ما غرَّهم إذ أطاعوا أمر جاهلهم
بواحدٍ غالب السُّلطان قهَّار؟(29/418)
يرمي العروش إذا استعصت ويبعثها
مبثوثةً في جناحي عاصفٍٍٍ ذار [6]
بعثت الحق يهدي الجامحين كما
يهدي الحيارى شعاع الكوكب الساري
أدعو إلى الله بالآيات واضحة
وتنهى الغويّ وتنهى كلّ كفار
فمن أبى فدعائي كلُّ ذي شطب
ماضي الرسالة في الهامات بتار [7]
الله أكبر. هل في الحق معتبة
لمستخفّ بعهد الله غدّار؟
ألم يكن أخذ الميثاق من قدمِ
فما المقام على كفر وإنكار؟
إن الألى اتخذوا الأصنام آلهة
على شفا جرف من أمرهم هار
يستكبرون على من لا شريك له
ويسجدون على هون لأحجار
راحوا يجلونها من سوء ما اعتقدوا
والله أولى بإجلال وإكبار
لكل قوم إله يؤمنون به
ما يبتغي الله من إيمان فجار؟
سبحانه من إله شأنه جلل
يهدى النّفوس بآيات وآثار
لأكشفنّ عن الأبصار إذ عميت
ما أسدل الجهل من حجب وأستار
ما للسراحين بد من مصارعها
إذا انتضت سطوات الضيغم الضاري [8]
ضموا القوى، إنها دنيا الجهاد بدت
أشراطها، وترآى زندها الوارى
لابدّ من غارة للحقّ باسلة
وجحفل من جنود الله جرّار
خير الذخائر أبقاها، ولن تجدوا
كالعهد يرعاه أخيار لأخيار
لا تنقضوا العهد، إن الله منزله
على لسان رسول منه مختار
قالوا: عليك صلاة لله إنّ بنا
ما الله يعلم من عزم وإصرار
آخيت بين رجال يصدقون إذا
زلّت قوى كل خداع وختار [9]
جنود ربك، إن قلْت: اعصفوا عصفوا
يرمون في الحرب إعصاراً باعصار [10]
من كلّ منغمس في النفس مرتجس
وكلّ منبجس بالبأس فوّار [11](29/419)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] غير أغمار: غير حاقدين.
[2] استحصد: قوى والإمرار الفتل.
[3] سواء.
[4] الأوطار والحاجات ويومي يشير.
[5] أديم الأرض وجهها ارتكس الرجل والشيء انتكس.
[6] من ذرت الريح إذا هاجت التراب.
[7] الشطب الطرائق في السيف والبتار القاطع.
[8] السراحين الذئاب والضيغم الضاري الأسد المفترس.
[9] الختار الغدار.
[10] الإعصار الريح العاتية تثير السحاب، أو التي يكون فيها برق ورعد.
[11] ارتجست السماء رعدت، والسحاب صوت، وانبجس الماء ونحوه تفجر، والنقع الغبار يثور من حدة المعركة.(29/420)
الرَّأيُ العَامُ في المجُتمع الإسلامِيِّ
لِلدكتور إبراهيم زيد الكيلاَني
كلية الشريعة ـ الجامعة الأردنية
الرأي العام في المجتمع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين وبه أستعين والصلاة والسلام على نبيه الكريم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فقد رأيت أن أكتب في الرأي العام في المجتمع الإسلامي من خلال النقاط التالية:
1- تعريف الرأي العام.
2- تكوين الرأي العام والمؤثرات فيه.
3- وظيفة الرأي العام.
الرأي العام:
تعريفه: وردت تعاريف متعددة للرأي العام منها: "أنه ميول الناس نحو قضية ما، إذا كان هؤلاء الناس من فئة اجتماعية واحدة " [1]
ومنها: "أنه الحكم الذي تصل إليه الجماعة في قضية ما ذات اعتبار ما ".
ومن هذين التعريفين يتبين أن الرأي العام هو نتيجة أمور عديدة منها:
ا- أن تكون هناك قضية مطروحة.
2- أن تكون مناقشات وافية حول القضية المطروحة.
3- أن يكون (الحكم) الذي تصل إليه الجماعة أو "الرأي "متفقا مع [2] :
أ- عقيدة الأمة.
ب- ملبياً لحاجاتها محققاً لمصلحتها.
ومن الجدير بالذكر أن الرأي العام الذي ينشده الإسلام في المجتمع الإسلامي هو الرأي العام الصالح المتفق مع عقيدة الأمة وقيمها.
ومن الأهمية بمكان أن نقول إن هذا الرأي العام هو ثمرة ارتباط أفراد المجتمع الإسلامي برباط ثقافي موحد مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن شأن أفراده أن يرجعوا إلى حكم الله فيما يعرض لهم من حوادث، وأن ينطلقوا من القيم الإسلامية مهتدين بهديها ليكون الرأي العام فيها وليد عقيدتهم، راجعاً إلى هدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تكوين الرأي العام:(29/421)
يتكون الرأي العام في المجتمع الإسلامي نتيجة للإطار الثقافي الذي وضع القرآن الكريم حدوده، وبينته السنة المشرفة، والمبادئ الإسلامية التالية من شأنها أن تبين معالمه:
1- من مبادئ الإسلام أن يرجع المسلم في أموره كلها إلى حكم الله قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} . (الأحزاب: 36) .
2- من مبادئ الإسلام ألا يتسرع المسلم بالحكم على شيء قبل معرفة حكم الله فيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . (الحجرات: 1) .
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي لا تتسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ـ رضى الله عنه- حيث قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟ ". قال: بكتاب الله تعالى، قال (صلى الله عليه وسلم) : فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: فإن لم تجد؟ قال - رضي الله عنه-: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما يرضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة ـ قال ابن كثير: فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله [3] .(29/422)
3- حدد الإسلام المصدر الوحيد لتلقي الثقافة وهو الكتاب والسنة، ولا يجوز للمسلم أن يشوه فكره بثقافة مغايرة، وعلى أولي الأمر في المجتمع الإسلامي أن يحموا أفراد المجتمع من منابع الفكر الغريب المنحرف، حتى لا تقع الأمة في مدارس فكرية مختلفة، فيحصل الانقسام، والفرقة، والتفكك، ومن المناسب هنا أن نذكر غضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واستنكاره عندما رأى صحيفة من التوراة بيد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وبين أن موسى عليه السلام لو كان حياً لما وسعه إلا أن يتبع رسالة خاتم الرسل ومكمل الرسالات السابقة برسالته محمد (صلى الله عليه وسلم) .
المؤثرات في تكوين الرأي العام في المجتمع الإسلامي:
في ظل هذه المبادئ والأسس التي رسمها الإسلام للمجتمع، نجد أن الإسلام دعا إلى قيام المؤسسات التوجيهية التي تربى أفراد الأمة تربية إيمانية صالحة على عقائد الإسلام وقيمه واتجاهاته ليكون الرأي العام في المجتمع الإسلامي الثمرة المباركة لهذه المؤسَسات وهي:
(1) المسجد:
كانت إقامة المسجد العمل الأول الذي بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة.
رسالة المسجد في الإسلام:
وليس المسجد في الإسلام مكاناً للعبادة فحسب، إنه مدرسة توجيه وإرشاد يلتقي فيه أفراد الحي كل يوم خمس مرات فيستمعون كتاباً واحداً هو القرآن الكريم ويتلقون توجيهاً واحداً من هدايته، ويستشعرون رابطة الوحدة والأخوة التي تجمعهم وهم صفوف مستوية متراصة تقتدي بإمام واحد.
(2) العلماء:
وفي المسجد تلقى دروس العلم، ويلتقي أبناء الحي يتلقون ثقافة واحدة من هدي الكتاب والسنة وشروح العلماء.
وفي المسجد يلتقي أبناء الحي وتدور بينهم المناقشات حول قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية التي من شأنها أن توحد رأيهم وتجمعهم على طريق سواء.(29/423)
وللعلماء والعاملين الذين يتصفون بغزارة العلم، والزهد، والصدق والإخلاص والجرأة في قول الحق دور كبير في تكوين الرأي العام وتوجيهه نحو الخير.
فالعالم العاقل حتى يكون قدوة حسنه بعلمه ونزاهته وزهده وجرأته وصدقه وإخلاصه جدير به أن يؤثر بالجماهير ويقودها، ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بالأمثلة العديدة لهذه القيادة التي قاد بها العلماء الرأي العام لمواجهة بدع المعتزلة في خلق القرآن وتأثير الفلسفة اليونانية في الفكر الإسلامي وضرب هذا الاتجاه الفلسفي ضربة قاصمة بعلمه وصبره وجهاده وثقة الناس به العالم أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- والشيخ العز بن عبد السلام- رضي الله عنه- قاد الرأي العام في المجتمع الإسلامي لمواجهة الحاكم الذي تعاون مع الصليبين ضد المسلمين، ولمواجهة الانحراف في المجتمع والفساد الذي كان وراءه بعض الأفراد.
والإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- وتلميذه ابن القيم قاد الرأي العام وأذكى شعلته لمواجهة التتار من جهة. ولمحاربة البدع والأفكار الدخيلة في المجتمع من جهة أخرى، وكان جهاده في ميدان الفكر كجهاده في ميدان المعركة يعطي الصورة الكريمة للعالم المسلم القادر على قيادة الجماهير بعلمه وموقفه، بقلمه وجهاده، حتى لا ينفصل العلم عن الموقف، ولأن الناس لا ينظرون إلى العلماء بألقابهم ووظائفهِم ورتبهم فحسب، وإنما ينظرون إليهم بسيرتهم وحسن اقتدائهم برسول الله (صلى الله عليه وسلم) جهاداً ودعوة.
(3) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
والعلماء في المجتمع الإسلامي هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللقيام بهذه الفريضة آثارها الكبيرة في إيجاد الرأي العام الصالح في المجتمع الإسلامي، ولهذا كانت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم مبينة هذه الفريضة داعية الأمة إلى القيام بها. ومنها:(29/424)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . (آل عمران: 104) .
ومن صفات المؤمنين الصالحين أنهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} . (التوبة: 71) .
-وهناك مؤثرات أخرى في تكوين الرأي العام، عمل الإسلام على توجيهها وربطها بقواعده ومبادئه وهي:
(أ) البيت: وقد أشار القرآن الكريم إلى الذرية الصالحة التي تتبع الوالدين على طريق الإيمان {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} . (الطور: 21) ، وأشار إلى خطر انفصال الولد عن أبيه والأسرة عن بعضها إذا انحلت عرى الإيمان فقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} . (المجادلة: 22) .
وفي الحديث الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه [4] "وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
(ب) المدرسة: وهى بيوت العلم التي حرص الإسلام على أدائها لرسالتها مهتدية بقواعد الإسلام ومبادئه في المنهج، والكتاب، والعلم، وحذر أشد التحذير من انحرافها عن الكتاب والسنة، ووجه لأن تكون العلوم المختلفة خادمة العقيدة والإيمان بالله ووحدانيته، حتى لا يتناقض ما يقرأه الطالب في درس التربية الإسلامية عما يقرأه في المباحث الأخرى، ولتكون الثقافة الواحدة التي يتربى عليها أفراد المجتمع في المدارس ثقافة واحدة، توحد الفكر ولا تمزقه، وتساعد على إيجاد رأي عام واحد صالح يخدم أهداف الإسلام ويرعى مبادئه.(29/425)
لقد أثمرت الثقافة الإسلامية الواحدة التي تلقتها الأمة في المسجد والمدرسة وحدة في الاتجاه العام والرأي العام جعل أبناءها في العصور السالفة على اختلاف تخصصاتهم العلمية في الحديث، والتفسير، والفقه واللغة، والفلك والكيمياء والفيزياء والطب والهندسة أبناء ثقافة واحدة، تسلك طريقهم، وتوحد خطاهم في المجتمع، وتصنع وحدتهم وتقيم أواصر التعاون فيما بينهم. وحين وقع الانفصال بين الجامع والجامعة، وبين المدرسة والمسجد، وبين مصادر التوجيه، والدين، وأخذت تتسرب للأمة الثقافات المتعددة نتيجة الغزو الفكري الأجنبي، وسيطرة المستشرقين وتلاميذهم على معظم الجامعات في البلاد الإسلامية ... وانتقل هذا التأثير المنحرف إلى المناهج والكتب المدرسية في مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية في بلاد المسلمين، حين حصل هذا وقع الانفصال بين ثقافة الأمة وشخصيتها الحضارية المستمدة من دينها وتاريخها وأصولها. وأصبح الرأي العام يتأثر تأثراً كبيراً بقيم جديدة وثقافات غريبة أوجدتها مراكز التوجيه المنحرفة. وأصبحت مهمة العلماء صعبة شاقة، ورسالتهم كبيرة ضخمة لإيجاد التغيير في المجتمع، والعودة إلى قيادة الأمة والرأي العام فيها من جديد.
بالإضافة إلى المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي شغلت الناس بالمادة عن الله وعبادته.
4- من مبادئ الإسلام أن يرجع المسلم إلى العلماء المشهود لهم بالصدق والنزاهة للتعرف على أحكام الله، ومتابعتهم قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . (النساء:83) .(29/426)
5- من مبادئ الإسلام أن الذي يصيب مسلما بسوء يصيب المجتمع كله، ومن هنا حرم الإسلام الإشاعات الباطلة ونزلت الآيات في حديث الإفك تربية للأمة وتطويراً للرأي العام فيها وصيانة له من الانحراف والجرأة على الباطل بدون بينة [5] .
6- من مبادئ الإسلام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيات كثيرة تدل على وجوبها.
وسائل الإعلام والتوجيه المختلفة:
لوسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة أثرها في إيجاد الرأي العام، فالرأي العام هو أساس الإعلام ... فهدف الإعلام الأول إيجاد الرأي العام أو توجيهه نحو قضية ما أو وجهة نظر مطلوبة وتأثير الإعلام في الرأي العام راجع إلى اتصاله المباشر بالجماهير على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية.
ورجل الإعلام الناجح هو الذي يعرف نفسية الجماهير ورغباتهم ويحاول توجيهها لمصالح فكرته ومؤسسته.
ودخول وسائل الإعلام كل بيت بغير استئذان، وعرضها للفكرة بوسائل الإقناع المختلفة في أوقات النهار المختلفة يجعل لها التأثير البالغ على عقول الجماهير وإيجاد الرأي. العام في الأمة.
ومن هنا كانت خطورة أجهزة الإعلام وأهميتها البالغة إيجاباً أو سلباً، ومن هنا كان على العلماء في البلاد الإسلامية واجب كبير في توجيه هذه الأجهزة "السيطرة عليها حتى تكون معبرة عن عقيدة الأمة وحضارتها، داعية إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا يقتضي أن تكون لهذه الأجهزة رسالة وفلسفة واضحة تلتقي مع رسالة أجهزة التوجيه الأخرى في المجتمع وهي: المسجد والمدرسة والصحافة والكتاب، حتى لا تتناقض هذه الأجهزة ولا يهدم جهاز ما يبنيه الآخر، ولا تحدث الصراع والتمزق في نفوس أبناء الأمة. كما يقتضي حسن اختيار العاملين في هذه الأجهزة كفاءة وديناً وخلقاً ليكون رجال الإعلام القدوة الحسنة لما يدعون إليه الناس بسيرتهم وخلقهم، ولتكون دعوتهم مؤثرة فاعلة في الجماهير.(29/427)
إن انفصال رجل الإعلام عن قيم الإسلام وأخلاقه بسيرته وسلوكه جريمة كبرى في أي بلد إسلامي تجعل من اللص (محافظاً على بيت المال) . (والمجرم) مسؤولاً عن حفظ الأمن.!!
كما تقيم الهوة السحيقة بين أجهزة الإعلام وثقة الناس بها. ومن هنا كان من أعظم الواجبات التي يجاهد لتحقيقها العلماء إنقاذ أجهزة الإعلام من التوجيه الفاسد المنحرف في البلاد الإسلامية. والقيام بمسؤولياتهم في توجيه الأمة من خلالها بلغة العصر وأسلوبه وكفاءته.
(3) وظيفة الرأي العام:
للرأي العام في المجتمع الإسلامي وظائفه عديدة من أهمها:
1- رعاية تطبيق الأحكام الشرعية.
2- حراسة المبادئ الإسلامية وصيانتها ومساندة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا المجال.
3- حسن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها في الكتاب والسنة عن طريق إعطاء الثقة بأهل الحل والعقد من العلماء والعاملين.
4- رفع الروح المعنوية للأمة وتقوية أواصرها وتعاونها.
5- استثارة مشاعر الأمة للقيام بواجب معين.
1- رعاية تطبيق الأحكام الشرعية:
الأمة الإسلامية مخاطبة جميعها بتطبيق الأحكام الشرعية، والخطاب في القرآن في هذا المجال يتناول أَفراد الأمة جميعاً. فقوله تعالى في سورة النور مثلاً: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . موجه لكل فرد في الأمة. ونظراً لأن الأفراد لا يستطيعون القيام بهذه المسؤولية متجمعين فلابد أن يختاروا من يقوم عنهم بهذه المهمة وهو الحاكم أو الإمام فالحاكم في الدولة الإسلامية وكيل الأمة في إقامة أحكام الله المطلوبة منهم جميعاً.
ومن هنا كان للرأي العام سلطانه في دعوة الحكومة لتطبيق أحكام الله تعالى والتقيد بها وعدم الخروج عنها إلى قوانين وضعية أو مشاريع مستوردة.(29/428)
يقول الإمام النسفي في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين، وهي على الكل إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم [6] .
2- حراسة المبادئ الإسلامية وصيانة قيمتها في المجتمع:
ومن هذا المبدأ كانت مسؤولية الأمة عامة عن حراسة مبادئ الشريعة وقيمتها، وكان الرأي العام في المجتمع الإسلامي ذا سلطان قوي في حراسة هذه المبادئ ورعاية هذه القيم وصيانتها.
وقد وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية ودعاها مجتمعة متعاونة لترفع صوتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومساندة العلماء الذين يقومون بهذه المسؤولية. والأمر بالمعروف يعني الأمر بما قرره الكتاب والسنة من مبادئ وقيم وأحكام للمجتمع، والنهي عن المنكر يعني النهى عما نهى عنه الكتاب والسنة من معاصي تعتبر خروجاً عن المبادئ الإسلامية وقيمها.
ومن المناسب إيراد النصوص التالية من الكتاب والسنة التي تصور حرص الإسلام على مساندة تعاليمه وأحكامه بسلطان الرأي العام المسلم:
(1) قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . (آل عمران:104) .
(2) عن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" [7] .(29/429)
فالرأي العام مدعو هنا للتوجيه وإصلاح الخطأ وإنقاذ نفسه مع إنقاذ المرتكبين للخطأ، إن الحديث الشريف يحذر الجماعة من شعور (اللامبالاة) وعدم الاهتمام بقضايا الجماعة العامة بحجة أن الذين يرتكبون الفساد قوم غيرهم.
(3) والمسلم.. مدعو للجهاد والتضحية في سبيل نصرة أحكام الشريعة إذا انتهك حرمتها حاكم ظالم. عن جابر- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله" [8] .
إن الجمع بين حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- الذي أبلى بلاء حسناً في قتال المشركين والتنكيل بهم حتى قضى شهيداً في غزوة أحد، وبين من جهر بكلمة الحق في وجه إمام ظالم، يصلنا بطبيعة المعركة التي خاضها حمزة- رضي الله عنه- في وجه الجاهلية وظلمها، ويخوضها إخوان حمزة في طريق العمل لاستئناف الدولة الإسلامية، أو في مواجهة محاولات الظالمين لإبعاد أحكام الشريعة عن التطبيق بالتدريج وبالوسائل المختلفة. إن ظهور أمثال هؤلاء الرجال في ساحات المجتمع الإسلامي ومواجهة أعداء الشريعة من شأنه إلهاب مشاعر الجماهير المسلمة وإضاءة الطريق أمام الرأي العام ليقول كلمته ويتحمل مسؤوليته.
(4) إن دعوة الرأي العام في المجتمع المسلم ليقف في وجه الانحراف والفساد ومحاولات الخداع والتمويه تظهر صريحة في حديث النبي الكريم: عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدمم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " [9] .(29/430)
(5) ويحذر الإسلام أفراد المجتمع المسلم من الجبن في نصرة الحق والوقوع في ذلة الجبن والخور أمام رأي الأكثرية الفاسدة.
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُحقِّرَن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالا، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول خشية الناس: فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى" [10]
(6) ويحذر الله الجماعة المسلمة أن يفلت من يدها زمام الأمر فتغلب المعاصي وتنتشر الفاحشة فيستحقوا عذاب الله. وقد سألت عائشة- رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" [11] .
وعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه، ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا" [12] .
وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... } (المائدة: 160) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب عن عنده" [13] .
الرأي العام ودوره في مقاطعة مجالس المنكرات:
ومن خير ما تتجلى به حراسة الرأي العام في المجتمع الإسلامي لمبادئ الشريعة وقيمها الحكم الشرعي الذي يأمر الجماعة المسلمة وكل فرد مسلم بمقاطعة مجالس المنكرات، والأماكن التي يعصى فيها الله، والمحافل التي يستهزأ فيها بدين الله، قال تعالى:(29/431)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} . (النساء: 140) إن المسلم مدعو إذا لم يستطع أن يغير المنكر بيده ولسانه، أن يغيره بقلبه والتغيير بالقلب ليس حركة انفعالية نفسية ولا تظهر أثراً إيجابياً في إزالة المنكر، بل هي حركة انفعالية نفسية عملية تساعد على التغيير بالانسحاب من مجلس يعصى فيه الله، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث له: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
إن كلمة: "فبلسانه"و "فبقلبه"متعلقتان بالفعل فليغيره، والتقدير: فليغيره بيده، أو فليغيره بلسانه أو فليغيره بقلبه ... ولا يكون بالقلب تغيير إلا بحركة هي أضعف الحركات وأقلها بعد اليد واللسان هي حركة الانسحاب من مجالس المنكرات ومقاطعتها
الرأي العام ودوره في مقاطعة من عصى:
والرأي العام في الإسلام حين يخاصم ويقاطع هدفه الإصلاح والعلاج، لا التشهير والهدم، وهذا ما يميزه عن المجتمعات المادية، فالثلاثة الذين خلفوا عن الجهاد بغير عذر وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بمقاطعتهم واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح الرأي العام هذا وسيلة صالحة لإبرار أثر التخلف عن الجهاد على الأمة، وقيام الأمة جميعها بواجب المقاطعة، حتى أقارب المقاطع وزوجه يقاطعونه.
حتى إذا حققت المقاطعة ثمرتها التربوية للمتخلفين خاصة، وللأمة عامة نزل الحكم من السماء بإنهاء المقاطعة والتوبة على الذين تخلفوا وتابوا وأنابوا.(29/432)
قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . (التوبة:117-118) [14] .
إن سلاح المقاطعة يمثل قمة التربية الإيمانية للشخصية المسلمة حين تحب في الله، وتبغض في الله، وتصل في الله، وتقطع في الله، وتحارب في الله وتسالم في الله.
وإن العقيدة التي توحد رأي أبنائها في إصدار حكم على شخص بمقاطعته لأنه تخلف عن الجهاد، أو جاهر بمعصية لتمثل لنا أسلوباً من أساليب الدعوة الإسلامية في تربية الجماعة وإصلاحها، والدارس للتاريخ الإسلامي يجد تطبيقاً كريماً لهذه المبادئ في محيط الأسرة، أو محيط الجماعة حين يخرج أحدهم عن الجادة، ويجاهر بمعصية الله فيهجر في الله، وتعطى الأمة برأيها فيه بالمقاطعة العلنية.
وقد ظهر هذا الأسلوب في مرحلة الدعوة الأولى في مكة قبل الهجرة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يهجر المجالس التي لا توقر فيها آيات الله وشرائعه فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . (الأنعام: 68) .(29/433)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمناً كان أو كافراًً ... وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة فأعرض عنه وقال: "ولا نصف كلمة" [15] وروى عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" [16] .
3- حسن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وإعطاء الرأي في قضايا الأمة المهمة:
المقصود بهذا العنوان إظهار الأهمية التي يعطيها الإسلام للرأي العام من خلال بيان الرابطة بين جمهور الأمة وأهل الحل والعقد فيها، وبيان صلاحيات أهل الحل والعقد، ودورهم في بيان أحكام الشريعة باعتبارهم ممثلين شرعيين لجمهور الأمة، ومعبرين عن رأيها العام في أمور الشريعة، وهذا يقتضي التعريف بأهل الحل والعقد وأهم أعمالهم.
أهل الحل والعقد كما يسميهم جمهور العلماء، أو أهل الاختيار كما يسميهم الماوردي وغيره [17] أو أهل الاجتهاد كما يسميهم البغدادي [18] هم جماعة معينة من فضلاء الأمة يوكل إليهم النظر في مصالحها الدينية والدنيوية ومنها اختيار رئيس الدولة، فهم المسؤولون عن تصفح أحوال الذين يمكن صلوحهم لتولي هذا المنصب الخطير، والاجتهاد في ذلك، وهذه الجماعة لا تقوم باختيار الإمام إلا نيابة عن الأمة جميعاً، فهم بمباشرتهم هذا الاختيار لا يمثلون أنفسهم، بل يمثلون الأمة كلها، ولهذا فإنه عند مبايعة أهل الحل والعقد للإمام تجب مبايعته والانقياد له على سائر أفراد الأمة [19] .(29/434)
وقد بين العلماء أن أهل الحل والعقد هم: "العلماء والرؤساء، ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم " [20] ويرى الشيخ محمد رشيد رضا أن أهل الحل والعقد هم المقصودون بأولي الأمر في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . (النساء: 83) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} . (النساء: 59) . وليس المراد بأولي الأمر في الآيتين الأمراء والسلاطين كما يرى بعض العلماء بدليل أن الآية الأولى نزلت في أولي الأمر الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك أمراء ولا سلاطين، قال: "وما كان هناك إلا أهل الرأي من كبار الصحابة- عليهم الرضوان- الذين يعرفون وجوه المصلحة مع فهم القرآن ... "وهكذا يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها، ومصالحها الاجتماعية، وقدرة على الاستنباط، يرد إليهم أمر الأمن والخوف وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية وهؤلاء الذين يسمون في عرف الإسلام أهل الشورى وأهل الحل والعقد ... [21] .
فيفهم من هذا القول ومما ذكره الفقهاء أن أهل الحل والعقد هم المتبوعون في الأمة الحائزون على ثقتها ورضاها لما عرفوا به من التقوى والعدالة [22] .(29/435)
أما علاقة أهل العقد والحل في الأمة فهي علاقة النائب والوكيل [23] أما كيف ينالون هذه المنزلة فإن الأمة هي التي ترفعهم إلى هذه المنزلة باختيارها لهم صراحة أو ضمنا، وأن السوابق التاريخية تبين لنا وكالة أهل الحل والعقد عن الأمة في عصر الإسلام الأول- عصر الخلفاء الراشدين- كانت وكالة ضمنية لأنهم كانوا معروفين بتقواهم وإخلاصهم وكفاءتهم وعلمهم شهد لهم القرآن الكريم والنبي صلوات الله وسلامه عليه بالثناء العام والخاص عليهم، فما كان هناك من حاجة لقيام الأمة بانتخابهم وتوكيلهم عنها صراحة.
ومن المقاييس المهمة في معرفة نبل هذا العالم أو ذاك لثقة الجماهير رجوعُها إليه في الفتوى، وحضورها دروسه، وترددها على مجالسه، وأخذها برأيه، في أمور حياتهم المختلفة.
ومع ذلك فإننا إذا أخذنا في الوقت الحاضر بنظام الانتخاب المباشر لأهل الحل والعقد ضمن شروط يقرها الإسلام، منها أنه يجب أن تتوافر فيمن يرشح نفسه للانتخاب:
(أ) العدالة الجامعة لشروطها.
(ب) العلم.
(ج) الرأي والحكمة والخبرة [24] .
وإن مثل هذا الانتخاب على هذا النحو المذكور جدير بأن يترجم إرادة الأمة صراحة وتوكيلها لهؤلاء، وهو المناسب لعصرنا لأن إجازة التوكيل الضمني في هذا الزمن قد يفتح باب شر خطير ويؤذن بالفوضى التي تضعها المزاعم الكاذبة والدعاوى الفارغة [25] .
الفرق بين سيادة الرأي العام في الإسلام والنظم الديمقراطية:
(أ) ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن الأمة حين تبدي رأيها عن طريق ممثليها في قضية من القضايا فلرأيها السيادة ولحكمها النفاذ في النظم الديمقراطية الغربية، أما في الإسلام فإن أهل الحل والعقد لا ينفذ رأيهم إلا في الأمور التي لم ينص عليها الشرع ... فإذا جَاء الله بحكم فليس لجماعة من الأمة أن تعارضه وليسر للأمة بمجموعها إن تبطله.(29/436)
ومن هنا كانت المسائل الفقهية الخاضعة لرأي الجماعة مقيدة بأمرين:
أ- ألا يكون قد نزل فيها نص صريح.
2- أن يرجع أهل الحل والعقد في بيان الرأي فيها إلى أصول الشريعة ومقاصدها العامة.
(ب) أن القانون أو الحكم حين تصدره الدولة نابعاً من عقيدة الأمة ودستورها، تجد اقتناع الرأي العام به قوياً صادقاً، وتنفيذه سهلاً ميسوراً، بينما نجد حرمان القوانين الوضعية من هذه الميزة. وخير مثال يوضح هذه الفكرة المقارنة بين تحريم الخمر في الإسلام الذي تهيأ الرأي العام لقبوله وبين تحريمه في أمريكا ... فنجح في المجتمع الإسلامي ولم ينجح هناك.
4- رفع الروح المعنوية للأمة وتقوية أواصرها وتعاونها:
من أهم وظائف الرأي العام في المجتمع الإسلامي رفع الروح المعنوية عند الجماهير التي تكونه، لأن وحدة الجماعة المسلمة على رأي واحد من شأنه أن يبرز قوة هذه الجماعة وتعاونها، ويعطيها الزاد والقوة على تحقيق أهدافها مهما بلغت التكاليف.
لقد وضع القرآن الكريم القاعدة المباركة لوحدة الجماعة المسلمة على الهدف الكريم بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . (المائدة: 2) . وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . (الصف: 2) . وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" [26] .(29/437)
وتظهر أثر هذه التربية الإيمانية للجماعة المسلمة في وحدتها وتآلفها، في وقوفها في وجه المحن والشدائد صفاً واحداً، ومن أبرز الأمثلة على ذلك في تاريخ الإسلام خروج المسلمين، في اليوم التالي لغزوة أحد، للثأر من عدوهم، ومسح آثار مصيبتهم، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:172) .
لقد حرص الإسلام على دعم أهدافه بسلطة الرأي العام، وإيجاد روح التعاون بين أبناء الأمة الإسلامية، والتقارب بين فئات الشعب، لتتوحد اتجاهاتها، وتسيطر على مبدأ أساسي في حياة الأمة، وهو الاتفاق على الأهداف، وهذا الاتفاق يؤدي حتما إلى نجاح الأمة في بلوغ غايتها وتحقيق أمانيها.
إن الأذان الذي يتردد كل يوم خمس مرات، عالياً مدوياً معبراً عن أهداف الإسلام الكبيرة، وإن الصلوات التي تقام كل يوم خمس مرات جامعة للأمة موحدة لرأيهَا، وإن الجُمَع، والجماعات، وفريضة الحج التي من شأنها أن يظهر وحدة الأمة على أهدافها، وإن القرآن الذي يتلى في كل صلاة جامعا للأمة على أهدافه وغاياته، إن هذا كله جدير بأن يحقّق في المجتمع الإسلامي وحدة الأهداف ووحدة الرأي العام على هذه الأهداف، ويرفع معنويات الأمة لأداء دورها الكبير ورسالتها العظيمة في الحياة، ولنتأمل في روحِ العزة التي يصنعها الإسلام بالإيمان والعمل الصالح {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} .(29/438)
وإلى رفع هذه الروح المعنوية في ضمير الأمة بالتقائها على أهدافها ووحدة رأيها يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار".
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" [27] .
إن البنيان الذي يشد بعضه بعضا يصور لنا الروح المعنوية العالية التي يعطيها وحدة الرأي العام لأفراد الأمة كما يصور لنا معاني التعاون على أهداف الإسلام الكريمة في الحياة، وأن الجماعة التي تباركها يد الله وترعاها وتنصرها جديرة بأن تتغلب على أسباب الضعف وتحقق أسباب قوتها ونموها وازدهارها.
استثارة مشاعر الأمة للقيام بواجب معين:
في كل مسجد جامع منبر وظيفته مخاطبة الرأي العام كل أسبوع يدعوه إلى واجب أو يحذره من أمر، أو يبصره بقضية لها أهميتها في حياته.
لقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة كيف تكون يدا واحدة في مواجهة الأحداث، يأخذ قويها بيد ضعيفها، وغنيها بيد فقيرها، وأنه من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
والدارسون لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء الراشدين والتابعين هم بإحسان، نجد أن النبي الكريم كان يدعو المسلمين إلى المسجد عند كل حدث مهم يخبرهم به، أو واجب يدعوهم إليه، حين يوجه الحملات للجهاد، فيدعو إلى البذل والنفقة، كما يدعو إلى المشاركة بالجهاد.
وحين يرى طائفة من المسلمين تعاني ضائقة مالية فيدعو المسلمين إلى مساعدتهم وكذلك كان الصحابة- رضوان الله عليهم- فأبو بكر- رضي الله عنه- يوجه الجيوش لفتوح الشام والعراق، وكلما دعا الداعي لإمداد جيش وجه النداء للأمة وندبها إلى الخروج مع هذا القائد أو تلك الحملة.(29/439)
وفي تهيئة الأمة لقبول حكم معين كان الخليفة يوم الجمعة يعلن في الناس ويمهد لقراره ويقنع الجماهير به، ففي مسألة تحديد المهور استشار عمر الناس في المسجد فردت عليه امرأة رأيه بالآية الكريمة: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} . فأعلن رجوعه عن رأيه وقال: "اللهم، غفرا كل الناس أفقه من عمر، أخطأ عمر وأصابت امرأة" [28] .
وفي الصورة المقابلة نجد خطبة الجمعة التي من شأنها أن تعالج قضايا الأمة يعرضها أولو الأمر من العلماء والحكام لتقوم بتهيئة الرأي العام لقبول القرار الذي ستتخذه الدولة أو رفضه بمناقشته وبيان مدى تحقيقه لأهداف الشريعة ومقاصدها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
E.S.Bo gardus. The Making of public opinio - P. 5
والإعلام والدعاية نظريات وتجارب. د: محمد عبد القادر حاتم (ص123) .
[2] المرجع السابق.
[3] تفسير ابن كثير: (4/206) . ط دار الفكر.
[4] متفق عليه.
[5] نزلت (18) آية في سورة النور في هذا الموضوع.
[6] تفسير النسفي: (3/323) .
[7] رواه البخاري والترمذي: الترغيب والترهيب (4/4-5) .
[8] رواه الترمذي والحاكم: وقال صحيح الإسناد/ الترغيب (4/ص4) .
[9] رواه مسلم: الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (4/5) .
[10] رواه ابن ماجه: ورواته ثقات ـ المرجع السابق (6) .
[11] رواه البخاري: عن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ المرجع السابق (6) .
[12] رواه أبو داود: المرجع السابق: (8) .
[13] رواه أبو داود والترمذي.
[14] انظر قصتهم في صحيح البخاري كتاب المغازي زفي الطبري (11/58) .
[15] تفسير القرطبي: (7/13) .(29/440)
[16] المرجع السابق، وانظر تفسير المنار (ج7/506) والتحرري والتنوير (ج7/288) للشيخ محمد بن عاشور.
[17] الأحكام السلطانية للماوردي (ص6) والأحكام السلطانية أبي يعلى.
[18] رسالة الدولة في الفقه الإسلامي. د: محمد رأفت عثمان (256-257) ط دار الكتاب الجامعي-القاهرة.
[19] رسالة الدولة في الفقه الإسلامي. د: محمد رأفت عثمان (256-257) ط دار الكتاب الجامعي-القاهرة
[20] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي (7/3990) .
[21] تفسير المنار: للشيخ السيد محمد رشيد رضا (7/11) .
[22] أصول الدعوة للدكتور: عبد الكريم زيدان (199) وتفسير المنار (5/181) .
[23] المرجع السابق. (/199)
[24] الأحكام السلطانية للماوردي (6) ، وأصول الدعوة لعبد الكريم زيدان (200) .
[25] المرجع السابق (201) .
[26] رواه البخاري.
[27] رواه البخاري ومسلم والترمذي.
[28] حقوق النساء في الإسلام للشيخ محمد رضا (ص13) .(29/441)
آيةُ العَدَدِ
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قوله تعالى: {يا أيُّهاَ الّذِينَ آمَنُواْ اْتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأنتُم مَّسلِموُنَ. واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وآله وصحابته أجمعين.
وبعد فهذه آية العدد نقدم شرحها لأبنائنا طلبة العلم على طريقتنا في التفسير التحليلي فنبدأ بذكر مناسبة الآية لما قبلها من الآيات، ثم نذكر الغرض الذي سيقت له الآية ثم نشرح مفرداتها، ثم نذكر معنى الآية المراد فهمه منها ثم نختم الشرح للآية بذكر ما فيها من هداية قرآنية راجين أن يهتدي بها الطالب إلى ما يزكي نفسه، ويكمل أخلاقه ومعارفه، وبسم الله نبدأ، ومنه نستمد العون والتوفيق فنقول:
مناسبة الآية لما قبلها:(29/442)
لقد جاء في السياق قبل هذه الآية قول الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} . وهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمِنين بأنهم إن أطاعوا بعض أفراد اليهود أو النصارى بأن سمعوا منهم واستجابوا لما يقولون لهم أدَّى بِهِمْ ذلكَ إلى الردَّة والعياذ بالله تعالى، وهو إخبار بمعنى الإنشاء؛ إذ مراد الله تعالى من هذا الخبر نهيه عزّ وجل المؤمنين عن طاعة أهل الكتاب لما قد تُفْضي بهم تلك الطاعة إلى الكفر والعياذ بالله. ومن هنا ناسب أن يأمرهم بما يكون عصمة لهم من الوقوع في الردَّةِ والكفر بعد الإيمان والإسلام فقال عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . فهذا وجه المناسبة بين الآيتين وهو ظاهر والحمد لله.
الغرض الذي سيقت له الآية:
إنّ الغرض الذي سيقت له هذه الآية هو الأمر بتقوى الله عز وجل وذلك بفعل مأمور الله عز وجل وهو الإيمان والعمل الصالح، وترك منهيه تعالى وهو الشرك والمعاصي بترك واجب أو فعل منهيّ وبذل الجهد في تحقيق هذه التقوى، والصبر عليها مع الاعتصام بدين الله وعدم التفرّق فيه، حتى الموت على الإسلام.
مباحث الألفاظ:
من مباحث ألفاظ هذه الآية ما يلي:
التقاة: اتّقى يتقي اتّقَاءً وتُقَاةً، وهى بمعنى التقوى التي هي الاسم من اتقى.
حق تقاته: هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، إذ الأصل اتقوا الله التقاة الحقة.
ولا تفرقوا: تفرّقوا أصلها: تتفرقوا فحذفت إحدى التائين تخفيفا.
إلا وأنتم مسلمون: الجملة حالية، والاستثناء فيها مفرّغ من أعم الأحوال إذ(29/443)
المعنى: ولا تموتن على أيِّ حال من الأحوال إلاّ على حال أنتم مسلمون.
شرح الكلمات:
آمنوا: اذعنت قلوبهم للتصديق بوجود الله تعالى ربّاً لكُلِّ شيء وإلهاً لكل العالمين. موصوفاً بكل كمال، منزّها عن كل نقصان، وللتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً للعالمين، وبكل ما جاء به من الدين، وأخبر عنه من أمور القدر والغيب، وللتصديق بالبعث والجزاء في الدار الآخرة بالنعيم المقيم، أو العذاب المهين.
اتقوا: أمر بالتقوى، والتقوى الاسم من فعل، اتّقَى، ومعناه: اتخذوا الإيمان والاعتصام بالطاعة وقاية تقيكم وتحفظكم مما تخافون من العذاب المترتب على الكفر والمعاصي.
الله: اسم الجلالة الأعظم: وهو عَلَمٌ على ذاتِ الربّ المعبود بحق، واشتقاقه من اله ياله إلهة وتألّهاً. إذا عبد فأذعن وأطاع حبًّا وتعظيماًَ. فمعنى الله: المعبود الذي تتحير الأفكار في حقائق صفاته، وتطمئن القلوب إلى ذكره، وتفرح النفوس بمعرفته، وتولع الخليقة بدعائه والتضرع إليه، ولا تفزع عند الشدائد إلا إليه سبحانه لايدرك كنه ذاته، ولا تعلم حقائق صفاته.
حق: يقال حَقّ الشيء يحق إذا ثبت ووجب.
التقاة: مصدر بمعنى التقوى، ومعنى المتضايفين {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} : اتقوا الله التقاة الحقة الواجبة لله تعالى الثابتة له بما له من قوة لاتحد، وقدرة لا تعجز، وسلطان لا يقهر.
ولا تموتن: الواو [1] عاطفة للجملة على سابقتها وهى: اتقوا الله حق تقاته. ولا: أداة نهى وجزم وتموتن: مضارع مات يموت؛ إذا فارقته الحياة، وهو مسند إلى واو الجماعة دخل عليه الجازم فحذف نون الرفع، فصار ولا تموتوا، فأكد بنون التوكيد فالتقى ساكنان فحذفت الواو لوجود ما يدل عليها وهى الضمة فصارت الكلمة ولا تموتن.(29/444)
إلا وأنتم مسلمون: إلا أداة استثناء وهو هنا مفرغ من أعم الأحوال، والواو للحال وجملة "أنتم مسلمون "خبريّة مؤلفة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال. ومعنى الجملة: لا تموتن أيها المؤمنون على أي حال من الأحوال إلا على الحال التي أنتم فيْها مسلمون، والجملة متضمنة النهي عن الرّدّة بعد الإسلام، فلا يحل للمؤمن أنْ يكفر بعد إسلامه. كما يريد ذلك كفار أهل الكتاب.
واعتصموا: الاعتصام: التمسك بالشيْء بشدة حتى لا يسقط منه، مأخوذ من معصم اليد، إذ قوة التمسك بالشيء تابعة لقوة معصم الإنسان وساعده.
حبل الله: الحبل لغةً السبب، وما يتوصّل به إلى الشيء أو ما يتمسّك به طلبا للنجاة والمراد به هنا: القرآن الكريم، والدّين، وجماعة المسلمين، إذ التمسّك بهذه يُنجي من السقوط والهبوط في الدنيا والآخرة.
جميعا: حال من ضمير واعتصموا، والمعنى تمسّكوا بكتاب الله ودينه وجماعة المسلمين حال كونكم مجتمعين لا يتخلف منكم أحد أبداً.
ولا تفرقوا: الواو عاطفة، ولا ناهية جازمة. وتفرقوا مضارع مجزوم بحذف النون، والواو فاعل. والتفرق لا يكون إلا بعد الاجتماع، وعليه فالجملة مؤكدة لسابقتها؛ إذ الأولى فيها أمر الله تعالى للمؤمنين بالتمسك بدينهم، وفي هذه نهيه تعالى عباده المؤمنين عن التفرق المفضي بعدم التمسك المأمور به.
معنى الآية الكريمة:(29/445)
ينادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بوصف الإيمان: يا أيها الذين آمنوا؛ إذ بالإيمان حياتهم فهم بإيمانهم أحياء غير أموات يقدرون على فهم الخطاب، وعلى القول والعَمل، يناديهم ليأمرهم بما فيه سلامتهم من كل مرهوب، وظفرهم بكل مرغوب محبوب من سعادة الدارين ألا وهو تقوى الله الحقة الواجبة له على عباده، والمتمثلة في امتلاء القلب بخشيته ومحبّته، وانقياد الجوارح كل الجوارح لطاعته، حتى يطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا يُنْسى ويشكر فلا يكفر. ولينهاهم عن الكفر بعد الإيمان، والردة بعد الإسلام {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فليثبتوا على إيمانهم، وليستمرّوا على إسلامهم لربهم مطيعة قلوبهم وجوارحهم لا يفارقون الطاعة حتى تفارقهم الحياة، ابقاء على نور قلوبهم، وزكاة أنفسهم، وطهارة أرواحهم؛ ليكونوا أهلاً لمواكبة الرفيق الأعلى والنزول في منازل الأبرار، والفوز بالنعيم المقيم في جوار الربّ الرحيم.
وناداهم ليأمرهم بالاعتصام بكتابه ودينه، وعهده الذي أخذه عليهم لمّا شهدوا له بالوحدانيّة، ولنبيّه بالرسالة، والاعتصام بكتابه يعنى العمل بما فيه فيعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويُحلّون حلاله ويحرمون حرامه، ويلتزمون بآدابه، ويتحلون بأخلاقه. والاعتصام بدينه يعنى التمسك بعقائده، وأداء فرائضه، وإقامة حدوده، والتأدب بآدابه، والتجمّل بأخلاقه، مع ملازمة أهله القائمين به والداعين إليه. والاعتصام بعهده يعني الوفاء لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وذلك في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وفاءً دائماً، لا يُخلُّون به حتى تفارق الحياة أبدانهم، وتباينهم أرواحهم، وناداهم أيضاً لينهاهم عن التفرق بعد التجمع، وعن الاختلاف بعد الائتلاف؛ لما في تفرقهم من فشلهم وذهاب ريحهم، ولما في اختلافهم من سوء أحوالهم وفساد بالهم، والقعود بهم عن مواكبة الصالحين في الدارين.
هداية الآية:(29/446)
إن من بين الهدايات القرآنية التي تضمّنتها هذه الآية الكريمة الهدايات التالية:
ا- تقوى الله عز وجل، وذلك لأن الله تعالى بيده ملكوت السموات والأرض يحيي ويميت ويعطى ويمنع ويضر وينفع، يُغنى ويفقر، يُعزّ ويذل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قدرته لا تُحدّ، وسلطانه لا يقهر، فهو لذلك يجب أن يتقى، ولكن لا بالحصون والأسوار العالية، ولا بالقوات الضاربة، من رجال وسلاح، على اختلافه وتطوره حتى لو كان سلاح الذرّة والهدروجين، وإنما يُتّقى الله جل جلاله وعزّ سلطانه، وهو الذي ذلّت له رقاب الجبابرة، وانحنت أمام جبر وته هامات القياصرة والأكاسرة، يتقى بشيء واحد ألا وهو العبودية الحقة المتمثلة في إسلام القلوب والجوارح له، فالقلوب تؤلّهه رهبةً ورغبةً، ومحبّةً وتعظيماً. والجوارح انقياداً لأمره، ولنهيه تركاً. بهذا فقط يتقى الله ذو الجبروت والملك والملكوت، فمن طلب النجاة من العار والنار، وأحب الفوز بالجنة دار الأبرار فليتّق الله الواحد القهار، فإن ذلك له، ومردّه إليه، وتقواه عز وجل هي مفتاح بابه، وسلم الوصول والارتقاء إليه، وهاهي آيات كتابه تنبئ عما قلناه، وتترجم للقارئ معناه، قال تعالى في كتابه الكريم:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب} ] الطلاق: 2، 3 [.(29/447)
إن مما تهدي إليه هذه الآية: الموت على الإسلام، والموت على الإسلام هو الغاية التي ما وراءها غاية، والأمل الذي دونه كل أمل ولنشهد هذه الحقيقة من خلال القصة التالية: جلس على عرش مصر نبي الله ورسوله الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- ورفع أبويه فوق عرشه فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وجلس إخوته الأحد عشر أخاً بين يديه وقد تم له الملك بحذافيره، وجاءته الدنيا طائعة، وحفل الكون به من حوله. هنا ابتهل يوسف إلى ربّه قائلا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .
إن هذه القصة تقول: إن المال والملك والسلطان واجتماع الشمل بالأهل والإخوان ليس بالغاية المطلوبة ولا بالأمل المرجو عند الأبرار الأطهار الأخيار، وإنما الغاية المرغوبة والأمل المنشود: الوفاة على الإسلام، واللّحاق بمواكب الصالحين.
وإن قيل: وهل الإنسان يملك أن يموت على الإسلام، أو على غيره من الأديان؟.
قيل له: نعم؛ إذ عدم الردة عن الإسلام هي الموت عن الإسلام، ومن شبّ على شيء شاب عليه، ومن لازم شيئا في حياته وآثره على غيره مات علَيه، يضاف إلى هذا أن التكليف بملازمة الإسلام وعدم الارتداد عنه ليس تكليفا بما لا يطاق، لاسيما وأن الإسلام دين الفطرة فلا يوجد في النفس البشرية من نوازع تدافع الإسلام وتأباه، والردة المحذر منها قد تأتي من خارج النفس لا من داخلها، تأتى من طريق الاستجابة للشيطان وإخوان الشيطان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .
هذه هداية وثالثة:
3- الاعتصام بحبل الله تعالى:(29/448)
إن مما تهدي إليه هذه الآية من أسباب الكمال والسعادة الأمر بالاعتصام بحبل الله تعالى الذي هو كتابه الكريم، ودينه القويم، وجماعة عباده الصالحين.
2- الموت على الإسلام:
إن مما تهدي إليه هذه الآية: الموت على الإسلام، والموت على الإسلام هو الغاية التي ما وراءها غاية، والأمل الذي دونه كل أمل ولنشهد هذه الحقيقة من خلال القصة التالية: جلس على عرش مصر نبي الله ورسوله الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- ورفع أبويه فوق عرشه فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وجلس إخوته الأحد عشر أخاً بين يديه وقد تم له الملك بحذافيره، وجاءته الدنيا طائعة، وحفل الكون به من حوله. هنا ابتهل يوسف إلى ربّه قائلا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .
إن هذه القصة تقول: إن المال والملك والسلطان واجتماع الشمل بالأهل والإخوان ليس بالغاية المطلوبة ولا بالأمل المرجو عند الأبرار الأطهار الأخيار، وإنما الغاية المرغوبة والأمل المنشود: الوفاة على الإسلام، واللّحاق بمواكب الصالحين.
وإن قيل: وهل الإنسان يملك أن يموت على الإسلام، أو على غيره من الأديان؟.(29/449)
قيل له: نعم؛ إذ عدم الردة عن الإسلام هي الموت عن الإسلام، ومن شبّ على شيء شاب عليه، ومن لازم شيئا في حياته وآثره على غيره مات علَيه، يضاف إلى هذا أن التكليف بملازمة الإسلام وعدم الارتداد عنه ليس تكليفا بما لا يطاق، لاسيما وأن الإسلام دين الفطرة فلا يوجد في النفس البشرية من نوازع تدافع الإسلام وتأباه، والردة المحذر منها قد تأتي من خارج النفس لا من داخلها، تأتى من طريق الاستجابة للشيطان وإخوان الشيطان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .
هذه هداية وثالثة:
والاعتصام بكتاب الله تعالى يكون باعتقاد الحق الذي جاء به من التوحيد والنبوة، والبعث والجزاء، وتحليل حلاله وتحريم حرامه من المقول والمفعول: كالصدق وقول الحق والمعروف، والمطاعم والمشارب والمناكح والمكاسب، كما يكون بإقامة حدوده والتزام آدابه ومحاسن أخلاقه بعد دراسته وفهمه وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
والاعتصام بدينه يكون بإقامة فرائضه والمحافظة على سنته، وتطبيق شرائعه والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه بعد معرفة أحكامه وحفظ قواعده، كما يكون بالدعوة إليه، والموالاة فيه، والمعاداة عليه.
والاعتصام بجماعة عباده الصالحين يكون بموالاتهم، وتحريم معاداتهم، وبحبِّهم، والحب لهم وصدقهم وتصديقهم، والصلاة معهم وعليهم، والجهاد مع إمامهم وحرمة الخروج عليه وعليهم ما أقيمت الصلاة فيهم.
هذه هداية ورابعة:
4- حرمة الفرقة والاختلاف:(29/450)
إن هداية هذه الآية تقول: إن الفرقة والاختلاف محرمان ممقوتان، وكونهما بعد الاجتماع والائتلاف اشدّ حرمة وأكبر مقتاً، إن من هداية هذه الآية تحريم الفرقة والاختلاف في الكتاب والدين والجماعة، أما الاختلاف في الكتاب فإنه لا يكون في ألفاظه وكلماته؛ إذ قد تولى الله منزّله سبحانه وتعالى حفظه من الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، حيث جمع أمة الإسلام عليه منذ نزوله فلم تختلف فيه ولن تختلف بإذن الله تعالى فيه. وإنما الاختلاف في الكتاب يكون في معانيه وما يدل عليه، والعصمة من ذلك في الأخذ بالسنة والتمسك بها؛ إذ هي الشارحة لألفاظه ومعانيه، والمبيّنة لمجمله، والمخصّصة لعمومه، والمقيدة لمطلقه. وذلك بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحكامه وأقضيته، وسياساته، وفي سيرة أصحابه من بعده حصن حصين، وسياج منيع من الفرقة والاختلاف في كتاب الله أيضا. ولهذا فالأمة المرحومة وهى أهل السنة والجماعة لم تختلف في كتاب الله، وإنما اختلف فيه من رد سنة رسول الله التي وردت من غير طريق من فتن بهم، وكفر أصحاب رسول الله، وغض من شرفهم وأهدر كرامتهم، ولعنهم وأبغضهم. والعياذ بالله تعالى من ضلال الطوائف والفرق المنتسبة إلى الإسلام باطلا وزوراً. وكذباً وميناً.
وأما الاختلاف في الدين فإنه ذو خطورة كبيرة على أمة الإسلام، ولذا كان من هداية هذه الآية التصريح بتحريمه والتحْذير من آثاره المدمرة، وفي الكتاب الكريم الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، والتوصية بذلك قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
ولكي تُتجنب الفرقة في الدين يلزم اتباعُ ما يأتي:
(1) اعتقاد أن الدين هو ما شرع الله ورسوله، ورفض كل تشريع يخالفهما، أولا ينبع منهما.(29/451)
(2) تقديم الكتاب في الاستدلال ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ولا يجوز العمل بقياس لا يشهد له كتاب ولا سنة ولا إجماع بصحة ولا اعتبار.
(3) اعتبار المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي مذاهب حق، وذلك لاتفاقها في أصول الدين وشرائعه، وعدم تعمد أصحابها الخروج عن الكتاب والسنة بأيّ حال من الأحوال. وعدم وجود خروج فيها عن الكتاب والسنة وإن قل.
(4) اعتبار هذه المذاهب الأربعة مَذْهَباً واحداً موسّعاً يستعان بها على فهم الكتاب والسنة والعمل بهما، ولذا على هيئة الإفتاء في البلد الإسلاميّ أن تنظر فيها مجتمعة ثم تصدر فتواها نابعة عنها مؤثرة في ذلك الدليل من الكتاب والسنة وشواهد الإجماع والقياس الصحيح.
(5) تأليف كتب فقهية على غرار"بداية المجتهد"و"منهاج المسلم" تعرض للمذاهب الأربعة وتؤيد ما يؤيّده الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وتنشر تلك الكتب الفقهيّة الجامعة الموحدة وتعممها على سائر المسلمين.
(6) ترويض الأفكار الخاصة والعامة على انتهاج هذا المنهج الذي يجمع أمة الإسلام ولا يفرقها، ويوحدها ولا يخالف بينها، عملا بقول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وأخذاً بهداية هذه الآية في الاعتصام بالدين وعدم التفرق فيه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} .
وترويض الأفكار يكون بإلقاء الدروس والمحاضرات في المعاهد والمساجد في كل ديار المسلمين بأن الله تعالى لم يتعبدنا إلا بما شرع لنا في كتابه وعلى لسان رسوله، وأن التعصب لما في مذهب معين ولو خالف الحق لا يجوز أبداً لما يلزم عنه من ردّ الكتاب والسنة وردهما ردة أوشبهها، والعياذ بالله تعالى. وأن العلماء مجمعون على أن لا معصوم في هذه الأمة إلا رسولها محمد صلى الله عليه وسلم.(29/452)
وبذلك يتقارب أهل الحق من هذه الأمة، وتتم وحدتهم، وتنتهي الفرقة بينهم ويسيرون صفاً واحداً يحيون ميّت الإسلام ويجددون بناء ما انهدم منه بعامل الفرقة والخلاف قرونا طويلة.
وأما الاختلاف في الجماعة فإنه وإن كان أقل خطراً من الاختلاف في الدين فإنه معوق لأمة الإسلام عن النهوض والتقدم، ومعرّض لها أيضا لأوخم العواقب، وأسوأ الأحوال، ودليل ذَلك أنها ما وقعت في براثن الاستعمار الغربي ردحا من الزمن غير قليل يسومها الخسف ويصب عليها سياط العذاب والإهانة إلا بعد أن تفرقت جماعتها، وقاتل بعضها بعضاً، وإنها- والله- اليوم لعرضة لمحنة قاسية أشد من محنة الاستعمار السابقة وذلك لما تعيش عليه من الفرقة والاختلاف في كل شيء فلذا وجب على المصلحين أن يسارعوا إلى تلافي الموقف بجمع الأمة المحمدية تحت لواء واحد وهولا إله إلا الله محمد رسول الله فلا يعبد في ديارها إلا الله، ولا يتابع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحسب أن ما تقدم في الأرقام الستة السابقة كاف في بيان الطريق الذي يتم به وحدة المسلمين وجمعهم على منهج الله ليكملوا ويسعدوا عليه دنيا وأخرى ... والله المستعان، وعليه وحده التكلان. وسلام
--------------------------------------------------------------------------------
[1] إن قيل: لم شرح هذه الجزئيات، والتعرض للإعراب؟ قلنا: إن المجلة مجلة طلبة العلم وهم ينتفعون بمثل هذا التحليل اللفظي والمعنوي.(29/453)
دَورُ الإعلاَمِ في التضَامُنِ الإسلاَمِي
الدكتور إبراهيم إمام
أستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم للأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن التضامن الإسلامي هو المبادرة النابعة من أصول العقيدة الإسلامية، لإرساء قواعد الحياة على أسس متينة في عالم تتنازعه المطامع، وتشن فيه المبادئ الملحدة حرباً شرسة ضد التراث الحضاري الإسلامي بقيمه النبيلة، ولقد كان التضامن هو السر فيما حققت الأمة الإسلامية من مجد وسؤدد، يوم كانت متمسكة بدينها حق التمسك، آخذة بتعاليمه حق الأَخذ.
وتكمن إحدى معجزات الإسلام الكبرى في قوة التضامن، عندما وحد بين قلوب القبائل المتنافرة، ثم بين الأقطار والشعوب المتباينة، وأصبح التضامن من أهم سمات الحياة الإسلامية وليست رابطة الأرض أو مكان الإقامة أو الولادة كما هو الحال في الفكر الغربي، لأن مفهوم الأمة في الإسلام يقوم على الاشتراك في وجهة عامة، فقد أشار القرآن الكريم إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة، فلم يفرق بين شعب وشعب، ولم يخص بلداً أو قبيلة أو فئة بالأمر بالوحدة، بل كان خطابه عاماً شاملاً يضم كل من آمن بالرسالة المحمدية وتبع هديها وطريقها. قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [1] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [2] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [3] وقال عز من قائل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [4](29/454)
ويشير القرآن الكريم إلى إعجاز الوحدة الإسلامية وعظمة ما تعنيه في مدلولها فيقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [5] .
فالأمر الإلهي بالتضامن فرض جوهري في صلب العقيدة الإسلامية، والأخوة هي إحدى النعم الكبرى التي منّ الله بها على عباده المسلمين، وقد برأ الله تعالى رسوله الكريم من العاملين على تفرقة كلمة المسلمين وهدم وحدتهم، فيقول جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} .
ويؤكد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهمية الأخوة الإسلامية والتضامن بين المسلمين، ولا يدع فرصة مواتية إلا وعبر عن أهميتها فيقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وقال أيضا: "من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها فليس مني ولست منه".
لقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يحث على الإخاء الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات فأوصى بالمودة بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الإخوان والجيران، وهكذا تلتئم خلايا المجتمع التئاماً متدرجاً حتى يتم بناء الأمة الإسلامية بأسرها على أسس من المحبة والود والإخاء والتضامن.
الإِعلام سلاح في يد الأعداء
فالتضامن الإسلامي فرض من فروض الإسلام على الأمة أن تنهض به، وهو ليس مجرد عمل سياسي أو شعاراً مؤقتا وإنما هو جزء لا يتجزأ من جوهر الدعوة الإسلامية، ولا يستقيم للمسلمين عمل ولا حال إلا إذا تحققت أركان التضامن بينهم.(29/455)
ومن واجب الدولة الإسلامية أن تحقق التضامن، وأن تسعى إلى تثبيت أصوله وحمايته من التصدع، ولا ينبغي أن يسعى إقليم أو قومية أو دولة لتحقيق مصالحها على حساب الوحدة الإسلامية، إذ أن هذه الآفة هي التي حركت مطامع الدول الأجنبية في المسلمين وشجعتها على الانفراد بكل قطر على حدة.
ولقد دبر أعداء المسلمين شتى الخطط التآمرية على الأقطار الإسلامية ولجأوا إلى مختلف الطرق والأساليب من أجل إضعاف التضامن، ووضع العقبات والعوائق للحيلولة دون اتصال المسلمين ببعضهم لتحقيق تضامنهم. وقد كان الإعلام من أهم الأسلحة المستخدمة لبث روح الفرقة والانقسام بين المسلمين، إذ أن أعداء الإسلام يعلمون تماماً أنهم ما كانوا ليحققوا ما حققوه لو أن الصف الإسلامي كان موحداً ومتماسكاً وقوياً.
الإِعلام الطباعي
لقد كانت المطبعة هي السلاح الأولى الذي جلبه الصليبيون والمبشرون إلى العالم العربي لشن حملاتهم التبشيرية عن طريق الكتاب والصحيفة، ففي أحد الأديرة المارونية في لبنان وفي دير قزحيا طبع كتاب المزامير سنة 1610 بالحرف السرياني، ثم أنشأ الشماس عبد الله زاخر أول مطبعة عربية سنة 1731 بقرية الشوير اللبنانية، وتخصصت هذه المطبعة في نشر كتب التبشير المسيحي.
وفي سنة 1834 أنشأ المبشرون الأمريكيون من أمثال كورنيليوس فان دايك، ووليم ورتبات وغيرهما مطبعة في بيروت لطبع الإنجيل، وتزويد الجمعيات التبشيرية بالكتب الدينية، ومن المعروف أن هذه الجمعيات كانت تضم الكثير من القسس والأطباء والعلماء الذين نذروا أنفسهم للتبشير بين المسلمين في العالم العربي.(29/456)
وأنشأ المبشرون مدارس دينية ومدرسة عليا هي الكلية السورية الإنجيلية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن الغريب أن هذه المعاهد قد اتخذت من بيروت والقاهرة ولا هو وأنقرة، وهى من أركان العالم الإسلامي، مراكز للتبشير في جميع أجزاء العالم الإسلامي، وبث الفرقة بين أقطاره المختلفة، وكان الإعلام الطباعي يغذي هذه الحركات التبشيرية بالكتب والصحف والمجلات والأطالس.
وخاف اليسوعيون الكاثوليك أن يتفوق الأمريكيون البروتستانت عليهم في مضمار الإعلام التبشيري المسيحي والدعوة الصليبية بفضل مطبعتهم، فقرروا في سنة 1848 إنشاء مطبعة يواجهون بها منافسيهم، فاستوردوا من فرنسا مطبعة كبيرة طبعوا عليها الكتب الدينية والأدبية والعلمية، وفي الربع الأخير من القرن الماضي أصبحت طابعات هذه المطبعة الكاثوليكية تدار بالبخار لأول مرة في لبنان.
لقد كانت خطة الأمريكين البروتسانت والفرنسيين الكاثوليك هي تعليم اللبنانيين والسوريين طرق التبشير وفنون الكتابة وأساليب الإعلام وأصول التحرير الصحفي، وتقنيات الطباعة لكي يصيروا دعاة لهم في جميع أنحاء العالم العربي، ثم في جميع أركان العالم الإسلامي، لبث الفرقة والانقسام بين أبنائه، والحيلولة دون تضامن العالم الإسلامي بأي شكل من الأشكال.
وبالفعل نجد أن ناصيف اليازجي وبطرس البستاني في لبنان وبلاد الشام، ثم يعقوب صروف الذي أنشأ مجلة المقتطف، وشاهين مكاريوس وفارس نمر اللذان اشتركا في تأسيس المقطم مع خليل ثابت، بالإضافة إلى شبلى شميل وأنطون فرح، ثم سلامة موسى ولويس عوض، وهم جميعا من أنصار الاتجاهات المادية والاشتراكية، فضلا عن التروج للمذهب الدارويني في النشوء والتطور، والهجوم على كل ما يتصل بالإسلام.(29/457)
ولا يفوتنا ذكر ما لقيته الصوفية المنحرفة، من تشجيع فقد أنشأ الإيطالي (بلفنطى) مطبعته الحجرية التي طبعت بعض الدواوين الصوفية إلى جانب الكتب المسيحية، فالتبشير المسيحي يهتم بالتصوف الذي يحث على التواكل والتكاسل، ويشجع انتشار روح الفرقة بين المسلمين، ويعبر المستشرقون في كتاباتهم عن الإعجاب الشديد بالفلسفات الشرقية الغنوصية، وبالشطحات الصوفية مثل الفتوحات المكية لابن عربي وقصائد الحلاج وكتابات السهروردي وغيرها من الأفكار المدسوسة على الإسلام بما فيها من جبرية ووحدة الوجود ومذهب الحلول المنحرف الكافر.
الإعلام الصهيوني
ولقد تسابق اليهود والمسيحيون في إرساء قواعد الإعلام عن طريق إنشاء المطابع في فلسطين، ففي سنة 1830 أنشأ نسيم باق مطبعته في القدس لطبع كتب الديانة اليهودية، وكانت حروف تلك المطبعة عبرية، وفي سنة 1848 أسس جماعة من الإنجليز مطبعة بالقدس أسموها مطبعة لندن لانتشار الإنجيل، كما أنشأ الأرمن في السنة نفسها مطبعة وضعوها بديرهم المجاور لجبل صهيون، ولم يكتف اليهود بمطبعة نسيم باق بل ثنوها بمطبعة أسسها داويد ساسون سنة 1850.
وهكذا أخذت المطابع اليهودية ترتبط بالحركة الصهيونية، وكانت الدعاية توجه إلى يهود العالم، ثم إلى العالم المسيحي توطئة للأحداث المؤسفة التي فرقت شمل العالم العربي، وعملت على تمزيق الصف الإسلامي أيضا، وليست مجرد صدفة أن معظم قادة اليهود من رجال الإعلام والصحافة بدءاً من تيودور هرتزل الذي ترأس مؤتمر بازل في سويسرة سنة 1897 حتى رجال الصحافة والسينما والتلفزيون الذين يهيمنون على وكالات الأنباء والصحف وغيرها من دور النشر والإذاعة والسينما.
ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على اهتمام اليهود بالإعلام والصحافة بوجه خاص، فهم يملكون:
1- 244 صحيفة في الولايات المتحدة الأمريكية، منها 151 دورية.
2- 30 دورية في كندا.(29/458)
3-118 صحيفة في أمريكا اللاتينية.
4- 348 صحيفة في أوروبا بجميع اللغات الأوروبية.
5-3 صحف في الهند.
6- خمس دوريات في تركيا.
7- 42 دورية في أفريقيا.
وتعلن إسرائيل رسميا أن الصهيونية تسيطر على 889 صحيفة في الدول الغربية.
ٍوقد استطاع الصهيوني روبرت مردوخ أن يشتري أعظم صحف بريطانيا وأقواها نفوذا وهي صحيفة التايمز التي كان يملكها اللورد طومسون.
وقد عرضت مجلة نيوزويك الأمريكية المشهورة للبيع فاشترى أكثر أسهمها أحد اليهود بمبلغِ 800 ألف دولار، وأصبحت هذه المجلة التي لها شهرتها وانتشارها وتأثيرها سلاحاً دعائياً جديداً في يد الصهيونية، وكم قامت هذه المجلة وغيرها بتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وبذر روح الفرقة والانقسام بينهم!.
الإذاعات التنصيرية
وهكذا استطاع اليهود والصليبيون السيطرة على وسائل الإعلام في العالم وسخروها لخدمة أهدافهم الشيطانية ولم يستطع الإعلام الإسلامي حتى الآن أن يتغلب على هذه القوى الشريرة، لذا استطاع الإعلام الصهيوني أن يحجب الاهتمام بالقضايا التي تهم عالمنا الإسلامي حتى تموت في ضمير المسلمين، وفي نفس الوقت يركز على قضايا جانبية أو ظواهر فيها الخطر المحدق بمجتمعاتنا الإسلامية يمهد لها ويعمل على نشرها وبث الزخارف المضللة حولها كالأفكار والمذاهب الهدامة والإباحية إلى غير ذلك.
وقد سخروا لهذا أحدث أنواع الأساليب والوسائل الإعلامية من مجلات ونشرات وجرائد ونشرات متخصصة حتى للأطفال والنساء بصورة جذابة وبمختلف اللغات ينفقون عليها حتى تظهر بصورة مغرية جذابة منها ما يوزع مجانا ومنها ما يوزع بثمن ضئيل.(29/459)
كما أن هناك معاهد متخصصة في هذا المجال في أمريكا وغيرها، وقد سخرت مطابع ودور نشر لهذه الأغراض علاوة على طباعة الإنجيل ونشره وتوزيعه وترجمته إلى لغات عديدة. هذا في مجال الكلمة المطبوعة أما في الكلمة المسموعة فقد بلغت شأواً بعيدا في هذا المضمار حيت أنشئت برامج إذاعية تنصيرية بل أنشئت محطات خاصة للتنصير في مناطق عديدة منها:
1- إذاعة ساعة الإصلاح بالخرطوم في السودان.
2- إذاعة نور على نور في مرسيليا.
3- صوت كلمة الحياة في مالاكا بأسبانيا.
4- نداء الرجاء في شتوتجارت بألمانيا الغربية.
5- إذاعة المحبة والوفاء في بيروت.
6- إذاعة مونت كارلو بمونت كارلو.
7- المدرسة الإذاعية الإنجيلية مرسيليا.
8- المركز المعمداني في بيروت.
9- دار الهداية بسويسرا.
10- الإذاعة التنصيرية في ليبيريا.
11- الإذاعة التنصيرية في سيشيل.
هذا وقد عقدت المؤتمرات واللقاءات في هذا المضمار حيث عقد في هوس بنيجيريا اجتماع ضم حوالي أربعين من زعماء الكنائس الأفريقية اللوثرية ومديري المحطات الإذاعية ورجال الإعلام لبحث تضافر الجهود وتطوير أسلوب الإذاعات التنصيرية في غرب أفريقيا، كما عقد اجتماع في تنزانيا في مارس 1981 خاص بشرق أفريقيا.
وفي أكتوبر عام 1980 عقد مؤتمر كبير في سوزايلند ضم مجموعة من العامين في مجال البث الإذاعي يمثلون 12 دولة من إفريقيا حضر معهم مجموعة من المراقبين في أوروبا.
ومن المعروف أن للطائفة المعمدانية فقط حوالي 111 محطة إذاعية تنصيرية منتشرة في ثمانية وثمانين بلداً. كما تم تخصيص عشرين مليون دولار ابتداء من عام 1980 لتقوية إذاعة آسيا التنصيرية لمنطقة جنوب شرق آسيا خاصة وقارة آسيا عامة وهذه الإذاعة متمركزة في الفلبين وتبث برامج بلغات كثيرة بلغت 28 لغة آسيوية.(29/460)
أضف إلى ذلك محاولة تجنيد رجال التنصير في المؤسسات الإعلامية في الدول الإسلامية ليضمنوا السيطرة بشكل أو بآخر على هذه الأجهزة، بل تعدى الأمر إلى إنتاج برَامج خاصة بالتنصير بأساليب خادعة لتفوت على رجال الرقابة في المؤسسات الإعلامية الإسلامية المسموعة والمرئية.
الفيلم وقضايا المسلمين
وعلى حين تغطى أفلام الترفيه والضياع أسواق العالم الإسلامي في السينما والتلفزيون، فإن القضايا الإسلامية الخطيرة، ومشاكل المسلمين العديدة، لا تجد مجالاً في تلك الأسواق. فمثلاً قضية فلسطين وهي أكبر تحد واجهه المسلمون منذ ضياع الأندلس، تقف إمكانات المسلمين عاجزة عن إنتاج فيلم واحد يشرح قضيتها، ويبصر الناس بمأساتها، في حين أن اليهود قد عرضوا في عامي 1974 و1975 أكثر من 300 فيلم في المهرجان اليهودي الدولي للسينما والتلفزيون.
وقد بذل مجلس الجامعة العربية جهوداً كبيرة للحصول على أفلام يوزعها على مراكزه في الخارج، وفي سنة 1964 اعتمد المجلس مبلغ نصف مليون دولار لإنتاج فيلم عن فلسطين بالتعاون مع منتج معترف به دوليا، غير أن الفيلم لم يظهر إلى الوجود نظرا للعجز في الإمكانات، ولعل الحقيقة تكمن في العقبات التي يضعها أعداء الإعلام الإسلامي في سبيل إنجاز أي إنتاج يكون له تأثير على الرأي العام.
ومع ذلك فعندما احتج سفراء الدول العربية والإسلامية على عرض فيلم "الخروج "الذي يقدم دعاية سافرة عن إسرائيل واليهود، قامت قيامة الصحف الغربية، وأخذت تكيل السباب والشتائم للعرب والمسلمين.
مسؤولية الإعلام عن بث روح التضامن
والحق إن من أهم وظائف الإعلام تنوير العقول وتهذيب النفوس في ضوء تعاليم الإسلام، فمن واجب الإعلام الإسلامي الدعوة لوحدانية الله، وتحريره الإنسان من عبودية العباد وإنقاذه من سيطرة الأهواء والشهوات والغرائز.(29/461)
فالإعلام مرفق هام من مرافق الدولة الإسلامية ولا ينبغي العبث به أو استخدامه لإثارة الشهوات، وتحريك الرغبات الدنيا بين الشباب والناشئة، بل أن المفروض أن ترقى اهتمامات الناس، وأن يسمو الإعلام بعقولهم وعواطفهم.
ولعل الهدف الأسمى للإعلام هو توحيد الأمة فكراً وسلوكاً وولاء وإيجاد التعارف والتآلف بين أبنائها، والإصرار على معاني الأخوة والتراحم والتواد بين أفرادها، بل يجب على السلطان أن يضرب بيد قوية على كل من تسول له نفسه العبث بوحدة الأمة، أو تعريض وحدتها للخطر، وهذه جريمة من جرائم الخيانة العظمي.
ولاشك أن أهم ما ينبغي أن نسارع إليه هو وقف حملات التشهير والسب والشتم والمهاترات بين أقطار العالم الإسلامي، كما يجب مواجهة الحملات الإعلامية المعادية، والتفرغ للدفاع عن الأمة ومقدساتها وتنشيط الروح الجهادية عند المسلمين.
وبدلاً من إذاعة برامج لتعليم اللغة الإنجليزية بالراديو أو نشر اللغة الفرنسية أو غيرها من اللغات الأجنبية، ينبغي أن تتوفر إذاعاتنا الإسلامية على محو الأمية بأشكالها المختلفة، ونشر التعاليم الإسلامية، ومحاولة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
وبدلاً من الدعاية للحضارة الغربية، والتحدث عنها بإكبار وتقدير، وتقديم نماذج للشباب يقتدون بها، يجب على الإعلام في الدولة الإسلامية أن يتخذ مثله العليا من أبطال الإسلام وعلمائه، مع تعرية الحضارَة الغربية والثقافةَ الشيوعية والدعاية الصهيونية والمذاهب المنحرفة، وتسليط الأضواء على المعطيات الحضارية للإسلام.(29/462)
إن الطالب في كثير من الجامعات التي تنتشر في العواصم الإسلامية يعرف عن فرنسا، وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا أضعاف أضعاف ما يعرف عن إندونيسيا والباكستان ونيجيريا والعراق، ويعرف عن فولتير وشكسبير وروسوولويسر التاسع ودانتى أكثر بكثير مما يعرف عن عبد الرحيم الغافقي ومحمد الفاتح وحسان بن ثابت والمتنبي والجاحظ وابن قتيبة.
ولعل من أهم أسباب تقوية روح التضايق الإسلامي العمل على تعميم وسائل الإعلام، بنشر بعض الصحف اليومية لكي يتداولها الناس في جميع العواصم الإسلامية باللغة العربية وبعض اللغات الإسلامية الحية، على أن تتبنى هذه الصحف القضايا الإسلامية وتطالب بحقوق المسلمين المستضعفين وتعرف الناس بالأقليات الإسلامية وما تتعرض له من مشكلات، ولاشك أن إطلاق القمر الصناعي العربي بعد تسعة أشهر ـ بإذن الله - سوف يتيح فرصاً سانحة عظيمة لنشر الدعوة الإسلامية وربط أواصر العالم الإسلامي والعمل على تضامنه ووحدته.
الإعلام وأصالة التضامن الإِسلامي:
والتضامن الإسلامي ليس دعوة مستحدثة، ولا فكرة جديدة، ولا هو عمل سياسي لغايات مؤقتة، وعلى الإعلام أن يرسخ في أذهان المسلمين أن التضامن هو جوهر الدعوة الإسلامية، وبغيره لا يمكن أن يستقيم للمسلمين حال، ولا أن ينتظم عمل، ولا أن يحقق الإسلام ذاته في ديار المسلمين.
إن وحدة المسلمين واتفاق كلمتهم قد جعلت من العرب قوة ناجزت أعظم قوتين في العالم هما دولة الفرس ودولة الروم، كما سارت مواكب المجد الإسلامي- بفضل الوحدة- مشرقة ومغربة توسع ديار الإسلام، رافعة رايته خفاقة، وحاملة رسالته مضيئة منيرة مشعة في الخافقين.
والمسلمون لا يجهلون أن سقوط الأندلس يرجع إلى تمزق الصف العربي والإسلامي وكثرة دويلات المسلمين، وتسلل العناصر المتآمرة إلى صفوف تلك الدويلات، والركون إلى الترف والتعرض للأفكار المنحرفة والعقائد الشاذة.(29/463)
على أن الحاجة إلى تنظيم الدعوة للتضامن قد أصبحت ملحة للغاية، ولابد أن تقوم على أسس مدروسة وخطط علمية، وهنا يقوم الإعلام بدور هام في تعميق الإحساس بالحاجة إلى التضامن، وتصوير الإطار الذي تدور فيه كل الوسائل والعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية المؤدية إلى وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها بما هو يعود على دينهم ودنياهم بالخير والنفع والبركة.
الإِعلام وتحقيق التضامن الإِسلامي:
ولا تخلو الساحة الإسلامية من الجهود الطيبة لإذكاء روح التضامن، مثال ذلك إنشاء رابطة العالم الإسلامي التي تعتبر بحق من أروع مظاهر التضامن الإسلامي، وهى التي تبذل جهوداً طيبة في حقل الإعلام لتجسيد دعوة التضامن وإبرازهاَ إلى حيز الوجود على أسس عملية وعلمية في آن واحد.
لقد ظهرت رابطة العالم الإسلامي بنتيجة القرار الذي اتخذه "المؤتمر الإسلامي"الذي انعقد في مكة المكرمة عام 1381هـ، وقد عبرت المقررات التي اتخذها المؤتمر عن مدى الإحساس بضرورة تقوية الروابط بين المسلمين، وتحقيق التقارب والتعاون فيما بينهم، فجاء في مقدمة تلك القرارات:
"يؤكد المؤتمر الإسلامي إيمانه برابطة الأخوة بين المسلمين، ويعتبرها الرابطة الحقيقية بين سائر الشعوب الإسلامية، كما يعلن المؤتمر أن أخوة الإسلام فريضة الله على كل مسلم تربطه بأخيه المسلم مهما كان جنسه ووطنه، وأن هذه الأخوة ظلت دائماً ركيزة القوة وخصيصة المجتمع الإسلامي في كل عهود العزة والمنعة في تاريخ المسلمين، وأن كل عصبية دون الإسلام تقع تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من دعا إلى عصبية" وكل دعوى باسم القومية أو غيرها تفرق بين المسلمين وتتخذ بطانة من دونهم هي من دعاوى الجاهلية الباطلة التي أنكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام والمسلمين ".(29/464)
"ويجد المؤتمر من واجبه أن يهيب بالعرب خاصة أن يذكروا أن اجتماع شملهم إنما كان في حجر الإسلام أول مرة، وأنه لم يجتمع لهم شمل إلا في ظل أحكامه وسلطانه، وأنهم حملوا رسالةَ الإسلام إلى الدنيا فدانت لدعوتهم شعوب آثرت أخوة الإسلام على قومياتها، وأصبح ولاؤهَا منذ أسلمت للإسلام وأمة الإسلام، فجدير بالعرب حَملة الرسالة الأولى أن يكونوا القدوة في الحفاظ على أخوة الإسلام، وأن يعتبروا كل توهين لها عدواناً على تاريخهم وانتقاصاً من قوتهم، وانحرافاً عن طَريق وحدتهم ".
والذي يهمنا في هذا الصدد هو دور الإعلام في تحقيق التضامن الإسلامي عن طريق التعاون الثقافي بين الدول الإسلامية، وتعريف كل من الشعوب الإسلامية بالمعطيات الثقافية التي أنتجتها شعوب إسلامية أخرى، وبأوضاع كل دولة إسلامية وحياتها ومشكلاتها وإنجازاتها.
ومن الممكن إنشاء مؤسسة ثقافية إسْلامية كبرى ذات نشاط إسلامي شامل تمارس عملها في جميع أنحاء العالم سواء بنشر المؤلفات أو ترجمتها أو بإصدار الكتب والصحف الإسلامية التي تنطق باسم المسلمين جميعاً وتكون ذات شكل إعلامي حديث عصري متطور، بالإضافة إلى تبادل الخدمات والبرامج والأشخاص بين المؤسسات الإعلامية الإسلامية.
وإن الدور الذي يلعبه التعاون الثقافي والإعلامي بين الدول الإسلامية كفيل بتنظيم الرأي العام الإسلامي وتوجيهه وفق مقتضيات مبادئ التضامن الإسلامي بأشمل معانيه وكافة تفاصيله، كما يمكنه قيادة تطوير المجتمع الإسلامي نفسه على ضوء الشريعة الإسلامية، وتحقيق التجانس والتقارب بين فئاته بصورة تجعل كل شعب إسلامي قادرا على الاستفادة من التجارب المفيدة للشعوب الإسلامية الشقيقة الأخرى.
أساليب الإعلام والدعوة الإسلامية:(29/465)
ويتمثل الدور الذي يقوم به الإعلام في تحقيق التضامن الإسلامي في عدة أمور أهمها تبليغ دعوة الإسلام وشرح مبادئها وتعاليمها ودحض الافتراءات والشبهات عنها، ومجاهدة المؤامرات الماكرة الخطيرة التي يريد بها أعداء الإسلام من الصهاينة والشيوعين والصليبين فتنة المسلمين عن دينهم وتمزيق وحدتهم وأخوتهم.
ومن أهم وسائل الدعوة اجتماع علماء المسلمين المرموقين وكبار دعاة الإسلام لتبادل الرأي وتنسيق الجهود والنظر في تقوية وسائل الدعوة وتجديدها باستمرار، وتبادل الخبرات والتجارب في ميدان الدعوة والإعلام الإسلامي.
ولما كان الحج من أهم المواسم الدينية والإعلامية في وقت معاً، كأن من الضروري انتقاء صفوة من أقوى الدعاة بمختلف اللغات لإذكاء مشاعر الأخوة والتضامن، مع عقد ندوات كبيرة لقادة الرأي والتوجيه، لاتخاذ القرَارات والتوصيات في المشكلات والقضايا الإسلامية، هذا بالإضافة إلى تحقيق التعارف والمودة بين الحجيج.
كما ينبغي دعم أجهزة الإذاعة الإسلامية بالرجال والبرامج وبعدة لغات حتى تبلغ الدعوة آذان أكبر عدد ممكن من الناس، وهنا ينبغي الاستفادة من القمر الصناعي العربي لتحقيق وصول الدعوة الإسلامية إلى جميع أركان المعمورة، لأن الإسلام دين عالمي شامل وعام. وينبغي ألا تكتفي الإذاعات الإسلامية بتلاوة القرآن الكريم بتقديم بعض المواعظ، إذ أن العبرة تكمن في تقديم البرامج العامة أدبية وعلمية وسياسية من منطلقات إسلامية، وعلى هدى تعاليم الإسلام ومبادئه، أما أن تترك البرامج سادرة في غيها ومتردية في شكلها ومضمونها، فذلك مما يتنافى مع طبيعة الإعلام الإسلامي.
الإعلام قوة حضارية إسلامية:(29/466)
لقد سارت خطوات التضامن الإسلامي سريعة إلى الأمام بفضل النظرة الشاملة لعوامل الإخاء والتعاون. ولعل أهم معالم هذه النظرة الشاملة تبدو فيما قرره مؤتمر وزراء خارجية ثلاث وعشرين دولة إسلامية الذي انعقد في كراتشي سنة 1970م وبحث موضوع إنشاء مصرف إسلامي دولي تساهم فيه جميع الدول الإسلامية ويستفاد منه في مشروعاتها الإنمائية، كما درس موضوع إنشاء وكالة أنباء إسلامية دوليَة تكون هي المصدر الرسمي لأنباء الوطن الإسلامي في العالم كله، كما بحث موضوع دعم المراكز الثقافية الإسلامية في العالم أجمع، وإنشاء مراكز إسلامية جديدة، كما درس موضوع تعميم الثقافة الإسلامية وترسيخ قواعدها وجعلها ثقافة عصرية حضارية تقيس على أسس ثابتة من القيم الإسلامية، كما كان موضوع الحق الإسلامي في فلسطين على رأس الموضوعات.
وهكذا يتضح لنا الفهم الحقيقي للإعلام على أنه قوة حضارية تتفاعل مع سائر القوى السياسية والاقتصادية والثقافية الأخرى، فجاء الاهتمام بإنشاء وكالة الأنباء الإسلامية حتى نتخلص من الاعتماد على الوكالات الأوروبية والأمريكية الدولية في استقاء أخبار العالم الإسلامي بوجه خاصِ والعالم الدولي بوجه عام، فالاستقلال الاقتصادي بإنشاء المصارف الإسلامية يسير جنباً إلى جنب مع الاستقلال الإعلامي بتقوية وكالة الأنباء الإسلامية التي أَقيمت في جدة، ثم تعزيز المراكز الثقافية الإسلامية في العالم كله للحفاظ على ذاتية الحضارة الإسلامية وتفردها باعتبار أن الأمة الإسلامية هي أمة متفردة في العالم كله.(29/467)
لذلك يسعى الإعلام إلى تعزيز روح التضامن بين البلاد الإسلامية وتهيئة الجو لروح الوحدة، مع الاهتمام بإشاعة روح التعاون والمساواة التامة بين الدول الإسلامية في الحقوق والواجبات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام سيادة كل دولة ووحدتها، وحل المنازعات بالطرق السلمية الإسلامية عن طريق التفاوض والمناقشات الودية الأخوية، وتعزيز المبادئ الإسلامية والعمل بمقتضاها، مع احترام حقوق الإنسان وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة.
وينبغي على الإعلام الإسلامي أن يعمل على نشر اللغة العربية الفصحى بين الشعوب المسلمة وجعلها لغة التفاهم بين الجميع، على أن تخصص الصحف والإذاعات برامج مدروسة لتعليم اللغة العربية وتداولها بين المسلمين.
الإعلام وإشاعة روح التضامن:
أهم ما يسعى إليه الإعلام في الأمة الإسلامية العمل الإيجابي على بث روح التضامن والوحدة بين أجزائها. يقول عليه الصلاة والسلام: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمي". وأقدس واجبات الإعلام، ومسؤوليته العظمى تكمن في السهر على إشاعة روح الترابط والتماسك للمحافظة على كيان الأمة وحمايتها من الأخطار.
يقول عز من قائل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض} [6] .(29/468)
وكما تنضم خلايا الجسم لتكوين الجسد الحي، فإن الأفراد ينضمون بعضهم إلى بعض ليكونوا الأمة. والسر في هذا الانضمام هو تولد روح التضامن والتكامل التي تؤدي إلى الترابط والتماسك، فالمجتمع الإسلامي ينشأ من حمل فرد مثلا أعلى إلى آخر وهذا هو التبليغ.
والرابطة التي تربط الأمة هي العقيدة الواحدة والهدف الواحد، والمثل الأعلى الواحد، والكتاب الواحد والسنة الواحدة، والثقافة الواحدة والقيم الواحدة والشريعة الواحدة.
والتبليغ وهو الإعلام واجب مقدس لإشاعة روح الترابط والتضامن في الأمة الإسلامية، وكتمان هذا البلاغ من كبائر الذنوب.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [7] ولا يكون البلاغ إكراها {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} [8] وإنما يكون إقناعاً وترغيباً، وأما من يعرضون عن البلاغ المبين فهم الذين لا يعلمون أو الذين لم يبذل الجهد الكافي لإقناعهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [9] .
مسؤولية الإعلام الإسلامي ومستقبله:
ومما يؤسف له أن الإعلام في البلاد الإسلامية كان مسرحاً للقوى الاستعمارية والمؤامرات الصهيونية والأفكار الشيوعية التي اصطنعت أقلاماً ووجوها تنشر المبادئ الهدامة والقيم غير الإسلامية. وحسبنا في هذا الصدد كلمات صدرت عن المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة الذي عقد في صفر سنة 1396هـ. بالمدينة المنورة، فقد ورد في قرارات المؤتمر.(29/469)
"ويندد المؤتمر بالهوة السحيقة التي تردى إليها إعلامنا ولا يزال يتردى، فبدلاً من أن يكون منارة إشعاع، ومنبر دعوة إلى الخير، صار صوت إفساد وسوط عذاب وسكت القادة فأقروا بسكوتهم، أو جاوزوا ذلك فشجعوا وحموا، وخفت صوت الدعاة وسط ضجيج الإعلام الفاسد ولم يعد الأمر يحتمل السكوت".
ونأمل أن ينهض الإعلام بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه وأن تعود الصحافة الإسلامية إلى سابق مجدهَا، فقد لمعت والحمد لله صحف فذة من أمثال المنار للشيخ محمد رشيد رضا ووادي ميزاب للعلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس، وقد قامت الصحافة بدور خطير في قيادة الرأي العام الجزائري لمقاومة الاستعمار بفضل صحيفة البيان وصحيفة الشريعة.
وقد أصدر الحزب الإسلامي في أفغانستان مجلة إسلامية اسمها "الموقف"وأصدرت جمعية أفغانستان الإسلامية مجلة "صوت الجهاد" لتنطق بلسان المجاهدين هناك، وهاتان المجلتان صدرتا بعد الاحتلال الشيوعي الغاشم لأفغانستان المسلمة، وهذا دليل على قوة الصحوة الإسلامية، وقدرة الإعلام على المشاركة في الجهاد.
وإن واجب الإعلام أن يبين للأمة سبل التضامن، ويقيننا أن الركب واصل- بإذن الله تعالى- إلى هدفه المنشود، لجمع ما تشتت من شمل الأمة، ولإعادة بناء ما تهدم من بنيانها، ولفتح صفحات جديدة في تاريخ العالم، مؤكداً أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام لن تموت ما وفت للرسالة، وما قامت بالدعوة، وما عملت بالأمر الإلهي بالوحدة والتضامن والتآلف والتعاضد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأنبياء: 92.
[2] آل عمران: 110.
[3] الحجرات: 10.
[4] آل عمران:103.
[5] الأنفال: 62.(29/470)
[6] الشورى: 52-53.
[7] البقرة: 159.
[8] البقرة: 256.
[9] الأنبياء: 24.(29/471)
مِنَ الفَتَاوى الشرعيَّة
حُكْمُ الصَّلاةِ عَلى النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم
والإشارة إليهَا بالحُروفِ
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
سألتنا الأخت: (س: ر: ج) من الكويت عن حكم الإشارة إلى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرف أو بعدة حروف ... وقد تلقينا من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز ما يفي الغرض من مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الإشارة إليها ببعض الحروف.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه أما بعد:-
فقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بالهدى والرحمة ودين الحق، وسعادة الدنيا والآخرة لمن آمن به وأحبه واتبع سبيله صلى الله عليه وسلم، ولقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء وأحسنه وأكمله.
وطاعته صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره واجتناب نهيه من أهم فرائض الإسلام وهي المقصود من رسالته. والشهادة له بالرسالة تقتضي محبته واتباعه والصلاة عليه في كل مناسبة وعند ذكره لأن في ذلك أداء لبعض حقه صلى الله عليه وسلم وشكراً لله على نعمته علينا بإرساله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فوائد كثيرة منها امتثال أمر الله سبحانه وتعالى والموافقة له في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والموافقة لملائكته أيضاً في ذلك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .(29/472)
ومنها أيضاً مضاعفة أجر المصلي عليه ورجاء إجابة دعائه وسبب لحصول البركة ودوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها وسبب هداية العبد وحياة قلبه فكلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولاشك في شيء مما جاء به.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه رغب في الصلاة عليه بأحاديث كثيرة ثبتت عنه منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا " وعنه رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " وقال صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي".
وبما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار بعد الأذان وعند دخول المسجد والخروج منه وعند ذكره وفي مواضع أخرى فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك لما تقدم من الأدلة. والمشروع أن تكتب كاملة تحقيقا لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكر القارئ عند مروره عليها ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} مع أنه لا يتم بها المقصود وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة (صلى الله عليه وسلم) كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علما بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.(29/473)
فقد قال ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده قال ما نصه:
التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته ومن أغفل ذلك فقد حرم حظاً عظيماً. وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية. ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى وما ضاهى ذلك إلى أن قال: "ثم ليتجنب في إثباتها نقصين أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة رامزاً إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب وسلم وروى عن حمة الكناني - رحمه الله تعالى- أنه كان يقول كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه ولا اكتب (وسلم) فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي مالك لا تتم الصلاة علي؟. قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا وكتبت (وسلم) إلى أن قال ابن الصلاح: قلت ويكره أيضاً الاقتصار على قوله (عليه السلام) والله أعلم". انتهى المقصود من كلامه- رحمه الله تعالى ملخصا.
وقال العلامة السخاوي- رحمه الله تعالى- في كتابه فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي ما نصه: واجتنب أيها الكاتب (الرمز لها) أي الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطك بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك فتكون منقوصة صورة كما يفعله (الكسائي) والجهلة من أبناء العجم غالبا وعوام الطلبة فيكتبون بدلا من صلى الله عليه وسلم (ص) أو (صم) أو (صلعم) فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتاب خلاف الأولى.(29/474)
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى- في كتابه تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} إلى أن قال: ويكره الرمز إليها في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب (صلعم) بل يكتبها بكمالها. انتهى المقصود من كلامه- رحمه الله تعالى مخلصا.
هذا وصيتي لكل مسلم وقارئ وكاتب أن يلتمس الأفضل ويبحث عما فيه زيادة أجره وثوابه ويبتعد عما يبطله أوينقصه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
السفر إلى بلاد الكفرة
تقوم بعض المؤسسات بالنشر في الصحف داعية أبناء المسلمين لقضاء العطلة الصيفية في البلاد الغربية لتعلم اللغة الإنكليزية.
وللإجابة على ذلك ننشر توضيح فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد ...
فقد أنعم الله على هذه الأمة بنعم كثيرة وخصها بمزايا فريدة وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده شريعة ومنهج حياة وأتم به على عباده النعمة وأكمل به الدين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} . ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى فامتلأت قلوبهم حقدا وغيظا وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وودوا لو يسلمون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} .(29/475)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . وقال عز وجل: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} . وقال جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة. والمقصود أنهم لا يألون جهدا ولا يتركون سبيلا للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم في النيل من المسلمين إلا سلكوه ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة فمن ذلك ما ظهر في هذه الأيام من قيام بعض مؤسسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية ووضعت لذلك برنامجا شاملا لجميع وقت المسافر. وهذا البرنامج يشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
(ا) اختيار عائلة إنجليزية كافرة لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
(ب) حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
(ج) زيارة أماكن الرقص والترفيه.
(د) ممارسة رقصة الديسكو مع فتيات إنجليزيات ومسابقات في الرقص.
(هـ) جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الإنجليزية ما يأتي (أندية ليلية، مراقص ديسكو، حفلات موسيقى الجاز والروك، الموسيقَى الحديثة، مسارح ودور سينما وحانات إنجليزية تقليدية) .
وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة منها ما يلي:
1- العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.(29/476)
2- إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد وجعلها في متناول اليد.
3- تشكيك المسلم في عقيدته.
4- تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الغرب.
5- تخلقه بالكثير من تقاليد الغرب وعاداته السيئة.
6- التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
7- تجنيد الشباب المسلم ليكونوا دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته.(29/477)
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعانا في الكيد وإبعادا للشبهة وتضليلا للمسلمين عما يرومونه من أغراض في بلاد الإسلام. لذلك فإني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها وادعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها فإنها سم زعاف ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم وبث الفتن بينهم كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} الآية كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم وعدم الاستجابة لطلبهم السفر إلى الخارج لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة بحمد الله والاستغناء بها عن غيرها فيتحقق بذلك المطلوب وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية. هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين وأبنائهم من كل سوء ومكروه وأن يجنبهم مكائد الأعداء ومكرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه القضاء على هذه الدعايات الضارة والنشرات الخطيرة وأن يوفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(29/478)
مختارات من الصحف
آراء ومواقف جَلالة الملك لخدمَة الإسلام
بمناسَبَة اختياره لجائِزة الملك فيصَل
استقبلت الأوساط العالمية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي ... نبأ اختيار جلالة الملك فهد من قبل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام ... بارتياح كبير ... لتجاوبه مع طبيعة قناعاتها بعظمة الدور الذي يضطلع به جَلالته على الساحتين لخدمة العقيدة الإسلامية ونشرها في مختلف ربوع الأرض، ورعاية شئون المسلمين، وخدمة مصالحهم في كل مكان من هذا العالم ...
حيثيات القرار:
أولا: أجمعت اللجنة على اختيار جلالته فائزا وحيدا بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لهذا العام وذلك لما عرف به جلالته شرقا وغربا قبل توليه رئاسة الدولة وبعدها من عزيمة ثابتة وجهد صادق وعمل في خدمة الإسلام والمسلمين في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... وغيرها وعلى الأخَص فيما يأتي:
(1) جهود جلالته الخيرة في جمع الشمل ورأب الصدع للأمة العربية والإسلامية ... ومسعى المملكة العربية السعودية بقيادته لتحقيق التضامن الإسلامي. وما بذله ويبذله من جهود جادة ومستمرة من أجل إنهاء مشكلة لبنان وتخفيف آلامه، ودعم القضية الفلسطينية ...
(2) إسهامات جلالته الخاصة والرسمية باسم المملكة في كل ما يضمد جراح المسلمين من آثار المحن والكوارث ومد يد العون لجميع الأقليات الإسلامية في بلاد العالم والوقوف بجانبها ...
(3) تركيز الدعوة إلى الله ونشرها وحمايتها ومساندتها بما يرسل من دعاة يتحملون أعباء هذه الأمانة في مختلف البلاد الإسلامية وغيرها ...
(4) العمل المستمر في سبيل نهضة البلاد وعمله المتميز المتواصل في سبيل خدمة الحرمين الشريفين ورعاية وفود الرحمن وتيسير أداء مناسك الحج والعمرة إليها ...(29/479)
من هذه الحيثيات نخرج بأن اختيار جلالته جاء إقراراً لواقع قائم بالفعل فلا أحد يطاوله بل ولا أحد يمكن أن يقترب من درجته في الوقت الراهن فيما أدى للإسلام من خدمات وفيما أسبغ على الأمة الإسلامية من رعاية وعناية. فجلالته على مسرح الأحداث العربية والإسلامية ... بل وكذلك الدولية يصول ويجول يهدى من عقيدته الراسخة ويهدي من تعاليم الإسلام القوية ... فهو في كل سلوكه إنما يتصرف تصرف المؤمن الذي يخشى الله ويتقيه فخشية الله تنسحب على منهاج حياته كإنسان وكمسئول ...
الإسلام في سلوك الفهد:
فمنذ أن كان جلالته وليا للعهد كانت اهتمامات جلالته إسلامية بحتة ... ففي لقاء مع أعضاء ندوة دور المساجد في المجتمع المعاصر والتي عقدت في الرياض في 8/3/1398 هـ أكد جلالته أن هدف المملكة نصرة الإسلام والمسلمين ونصرة العقيدة وقال جلالته: أن العالم في جميع قاراته يحمل العرب مسئولَية كبيرة تجاه نشر العقيدة. وقال: إن دفع التضامن الإسلامي والاستمرارية في الدفاع عن العقيدة الإسلامية هي مسئولية الجميع أمام الله وأمام الأجيال. وأكد جلالته أن المملكة تبذل محاولة أكيدة مع الدول الصديقة في جميع القارات لفتح مدارس إسلامية من أجل تثقيف بنين وبنات المسلمين للمحافظة على عقيدتهم ولغتهم ... وبهذه المناسبة نذكر أن جلالته عندما كان وليا للعهد تبرع بمبلغ 29686 دولار لمشروع شراء مركز إسلامي وبناء مسجد فيه بولاية إنديانا بأمريكا (في 24/8/1399هـ) .
وكذلك أقام جلالة الملك فهد وعلى نفقته الخاصة أيضا مشروع مسجد ومدرسة ومستوصف وصالة للألعاب الرياضية ومكتبة تضم آلاف الكتب وذلك بمدينة طنجة بالمغرب (في21/5/1403هـ) .
هذان النموذجان لاهتمام جلالة الفهد بالدعوة الإسلامية وهو ولي للعهد ثم وهو ملك إنما هما مثالان فقط ...(29/480)
وسنأخذ خطاب جلالته عندما كان وليا للعهد وذلك في 7/12/1398هـ الذي وجهه جلالته للحجاج كنموذج لمفهوم الإسلام عند جلالة الفهد قال جلالته: "أيها الأخوة في الله يسعدني وقد التقى جمعكم الكريم هذا في أقدس البقاع وأطهرها
أملا في الرحمة ورجاء في المغفرة وتطلعا إلى خير العواقب وإني أرحب باسم جلالة الملك خالد وباسمي واسم إخوانكم شعب وحكومة المملكة العربية السعودية وأتمنى لكم حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ...
أيها الأخوة في الله إن المملكة العربية السعودية قادرة بعون الله وتوفيقه على تحمل مسئولياتها التاريخية تجاه الأمة الإسلامية والعربية تجاه الإنسانية بأسرها وسعيدة بما شرفها الله من خدمة لضيوف بيته العتيق ... ونحن ننطلق في هذا من منطلقين هما:
أولاً: تعزيز الدعوة إلى الله ونشرها والعمل على جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم ودعم قدراتهم حتى نتمكن معا من استرداد الحق التاريخي لهذه الأمة الرائدة ونجعلها من جديد في مصاف الأمم القوية القادرة على أن تؤكد وجودها وتحقق أدوارا هامة وتساهم في صناعة وبناء المجتمع البشرى إن شاء الله..
ثانياً: تكريس الأمن والاستقرار في الداخل ليكونا أساسا في التعامل مع الغير ومنطلقا إلى خدمة الأمم الأخرى والعيش ضمن إطار الأسرة الدولية على أرفع درجات ...
أيها الأخوة في الله إن الأمة الإسلامية العظيمة يجب أن تقوم بدورها الصحيح الطبيعي في إنقاذ البشرية من الضلال وقيادتها من الظلام إلى النور ...(29/481)
وعلينا أن ندرك تماما بأن لا عزة لنا بدون الإسلام. والخطاب يسير على هذا المنوال من وضع دستور أخلاقي يجدد منهج العمل في المملة العربية السعودية ونظرتها نحو الإسلام ونحو الدعوة الإسلامية ونحو الإنسان المسلم القوي القادر الذي يحيا بين حضارة تقوم على أعظم رسالة عالمية هي الإسلام ولو كان الأمر فيه متسعاً لأتينا على باقي هذا الحديث الذي يصدر من قلب مؤمن بالله محب لجميع المؤمنين والمسلمين.
وقد أكد الفهد على قوة المسلم وذلك في حديث نشرته جريدة البلاد بتاريخ 23/1/1399هـ وكان وليا للعهد. قال جلالته:
"إذا كان هناك خيار بين الحرب والسلم فنحن نختار السلام القائم على العدل والحق. أما إذا فرضت علينا الحرب فإننا لن نتخاذل ونبذل كل قوانا ومجهوداتنا فيها".
وقال: جلالته أننا نؤمن دوما أن النجاح في السلام أو في الحرب مرهون بقوتنا كأمة وبوحدتنا وتضامنا ...
وأشار جلالته أن القوة الحقيقية هي قوة الإنسان وقال: إن طريقنا الوحيد لحل مشكلاتنا هو تحقيق القوة في الفرد العربي والمجتمع والقوة بتوحيد الجهود المبعثرة ...
وفي حديث لمجلة نيوزويك الأمريكية ونشر في صحيفة الرياض بتاريخ 11/2/1399هـ:
كرر جلالته القول: "بأننا دعاة وحدة الكلمة وجمع الشمل على الصعيدين الإسلامي والعربي ... ونحن دعاة السلام العادل الشامل الذي يرضي أصحاب الحق بالدرجة الأولى". وقال جلالته: "نحن دعاة الرخاء وتوازن الاقتصاد العالمي على أن نكون جميعا شركاء في مسئولية إتاحة الرخاء والتوازن العالمي".
وفي كلمة ألقاها جلالة الفهد أمام أعضاء المؤتمر الجغرافي الإسلامي الذي عقد اجتماعاته في الرياض في 22/ 2/ 1399هـ عندما كان وليا للعهد طالبَ بتصحيح العقيدة الإسلامية ... والعناية بها والتجمع على أساسها إذا ما أرادوا اليوم أن ينهضوا وأكد جلالته عَلى أهمية العقيدة الإسلامية في جمع شمل المسلمين وتوحيد كلماتهم.(29/482)
وحرصا من جلالته على سلامة القرآن الكريم فقد أصدر جلالته تعليماته وتوجيهاته إلى الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية في 26/ 1/ 1400هـ بتعميم قرار مجلس هيئة كبار العلماء القاضي بتحريم كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية أو غيرها من حروف اللغات الأخرى - على السفارات في الخارج لتقوم بإبلاغه لجميع الجهات والهيئات والجمعيات العاملة في مجال العمل الإسلامي لتكون على علم ودراية لما تقرر ...
وفي30/2/1400هـ نشرت هذه الصحيفة هذا الخبر:
"أصدر صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز توجيهاته بضرورة العناية بمنطقة المشاعر حتى يمكن للمسلمين قضاء مناسكهم بسهولة ويسر بحيث تعبر هذه العناية عن تلبية احتياجات المسلمين ومتطلباتهم.
وقد تضمنت هذه التوجيهات توسعة منطقة الجمرات بمنى بزيادة عرض الشوارع الفردية لها إلى 35 مترا خصوصا شارعي جلالة الملك فيصل وسوق العرب وذلك لضمان انسياب أفواج ضيوف الرحمن بسهولة ويسر ...
كما أصدر سموه توجيهاته بدراسة إنشاء 6 أنفاق في منطقة المشاعر لتسهيل المواصلات مما يقضي على الاختناقات وتبلغ التكاليف الإجمالية لتنفيذ هذه المشروعات 200 مليون ريال ...
وفي أول خطاب ملكي وجهه جلالة الملك فهد والذي حدد فيه ابعاد المرحلة القادمة قال جلالته (في 24 شعبان 1402هـ) مركزا على ضرورة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله إذ لا تقدم إذا ما انفصلت الأمة عن تراثها الديني والحضاري وقال: "إن الإنجاز الأساسي قبل كل شيء هو العقل فصناعة الإنسان هي الأساس فالمال يذهب والرجال وحدهم الذين يصنعون المال إننا نريد قاعدة شعبية متعلمة وهذا هو السر في التركيز على بناء المدارس والجامعات ومعاهد التدريب ...
وأكد جلالته على التضامن العربي والإسلامي لتحقيق رفعة الأمة الإسلامية وتمكينها من أن تبدأ وضعها الطبيعي في العالم ولتمكينهَا من التصدي للأطماع والأخطار ...(29/483)
وأكد جلالته على التوجيه الإنساني من مفهوم تردي الحضارة المادية واستبعادها عن العامل الروحي الذي يحدث التوازن والذي يحول بينها وبين النزعات الشريرة والعدوانية ... ويتأتى ذلك بتكثيف الدعوة الإسلامية.
وفي خطاب جلالة الملك فهد أمام رؤساء بعثات الحج والشخصيات الإسلامية وضيوف الرحمن في 15 ذي الحجة 1402هـ قال جلالته:
"إننا لا نكتفي إن شاء الله بما تحقق من إنجازات وسوف نواصل العمل على تطوير مناطق الحج في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة وعلى تطوير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة".
وقال جلالته: "إننا مهما بذلنا من جهد فهو أقل من طموحنا ولا يزال أمامنا الكثير مما نريد عمله بعون الله وتوفيقه حتى نخفف مما يلاقيه الحاج من مصاعب ونحن نعلم مهما بذلنا من الجهود أن المشقة جزء من أداء المناسك وقد قال تعالى في محكم كتابه: {ما كنتم ببالغيه إلا بشق الأنفس} ولاشك أن هذه إرادة الله سبحانه وتعالى ليجزل لعباده في الأجر والثواب والمغفرة في هذا النسك العظيم ...
واستطرد جلالته يقول:
"إنني أعلنها صريحة أمامكم إنه ليس لدينا التزامات أو ارتباطات مع أية دولة أجنبية على حساب عقيدتنا أو على حساب وطننا ومواطنينا أو على حساب دولة شقيقة عربية كانت أم إسلامية.
وفي الحفل الأول لجائزة الدولة التقديرية في الأدب في 28 محرم 1404 دعا جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى الأمة العربية إلى التمسك بالعقيدة الإسلامية وأكد جلالته أنه لن يكون للأمة العربية أي وزن وقيمة إلا إذا عادت إلى القاعدة الصحيحة. وهي القاعدة الإسلامية وهكذا نرى جلالته في كل مناسبة يدعو فيها إلى التمسك بأهداب الإسلام والقيم الإسلامية والعودة إلى الأصالة ...
الاهتمام بفلسطين من منطلق إسلامي:(29/484)
تقع فلسطين عامة والقدس خاصة في قلب اهتمامات جلالة الملك فهد وهذا الاهتمام يأتي أساسا من منطلق إسلامي لما للقدس من موقع هام في المقدسات الإسلامية.
وقد امتد اهتمام جلالة الملك بفلسطين والقضية الفلسطينية منذ أن كان وليا للعهد.
فجلالته في خطابه في بون بألمانيا الغربية أمام المستشار هيلموت شميث مستشار ألمانيا الغربية طالب الدول الأوربية بالمساهمة في حل القضية الفلسطينية وقال:
"لاشك أن دول أوروبا تستطيع أن تلعب دورا رئيسيا وبناء في حل هذه القضية حلا عادلا وسريعا يعيد الحق إلى نصابه والأرض إلى أصحابها ويمكن الشعب الفلسطيني من الوصول إلى حقوقه. والقدس يا صاحب الدولة لابد أن تعود إلى وضعها الطبيعي تقام فيها شعائر الأديان كما كان في الماضي ويتم فيها الوصول إلى المثل العليا التي تنادي بها تلك الأديان ونادى بها كل الأنبياء".
وفي تصريح لجلالته أدلى به لمندوب وكالة الأنباء السعودية حول نتائج مؤتمر القمة العربي التاسع الذي أنهى أعماله ببغداد ونشرته صحيفة المدينة في 7/12/1398هـ قال جلالته: "إن المملكة لا تقبل المساس بأي قضية إسلامية في أي مكان ومن باب أولى القدس الشريف ".
وفي حديث نشرته صحيفة البلاد في 23/ 1/ 1399هـ أكد جلالة الملك أن سياسة المملكة كانت ولا تزال محددة وثابتة بالنسبة للقضية الفلسطينية لا تردد فيها ولا تعديل وهي من حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعودة الأراضي المحتلة سنة 1967م بما فيها القدس إلى العرب وأن الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هي منظمة التحرير الفلسطينية.(29/485)
وفي حديث لجلالة الفهد في باريس أمام الصحفيين أكد جلالته أن المملكة العربية السعودية لها موقف عربي وإسلامي ثابت تجاه القدس العربية ... وقال جلالته أن هذا الموقف يتطلب بالضرورة استعادة القدس إلى الأمة العربية سواء تم ذلك من خلال السلام أو عن طريق الحرب (في 18/6/1399هـ) .
وفي روما أدلى جلالته بتصريح للصحفيين في 21/6/1399هـ أكد فيه أن حل مشكلة القدس ضرورة لحل مشكلة الشرق الأوسط وأكد جلالته على عدالة القضية العربية المؤيدة من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
وعند وصول جلالته إلى الرياض في 23/6/ 1399هـ بعد جولة في عدد من الدول الأوربية صرح جلالته بقوله: "القدس بالنسبة لنا حياة أو موت ولا خلافات إلا في خيال مختلقيها فقط.
وفي حديث صحفي لجلالته لصحيفة (لوموند الفرنسية) أكد جلالته أن التزام المملكة العربية السعودية تجاه حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره وضمان استقلاله يتساوى مع التزامها بالدفاع والمحافظة على سيادتها. وقال جلالته: "إن حقوق الشعب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من تراثنا العربي والوطني والإسلامي والأخلاقي وأنه لا يمكن أن يتخلى إنسان عن كل هذه القيم ".
وقال جلالته في حديث لمجلة الحوادث اللبنانية:
"يمكنكم أن تنقلوا على لساني أنه لا سلام بلا القدس العربية وبلا حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ".
وأضاف جلالته يقول: "لابد أن يمارس الفلسطينيون حقهم في تأسيس دولة لهم مثل أي شعب مستقل أخر".
وفي تصريح لوكالة الأنباء السعودية نشرته (عكاظ) في 3/ 10/ 1400هـ أكد جلالته أنه لابد أن نقف جميعا وقفة واحدة في معركة واحدة مع إسرائيل مهما طال زمنها وارتفع ثمنها وأن نضع فيها كل الإيمان والتصميم والطاقات والإمكانات وكل غال ورخيص.(29/486)
وقال جلالته حول إقدام إسرائيل على إعلان كل القدس عاصمة لها أنه عندما بدأت الحركة الصهيونية مدعمة بعصاباتها الإرهابية التي كان مناحم بيجن يتزعم واحدة منها باغتصاب أجزاء من فلسطين عام 1948م أعلنت بعض الأوساط العربية حينذاك الجهاد المقدس ضد تلك الغزوة الصهيونية.. واليوم تعلن إسرائيل كل القدس عاصمة موحدة وأبدية لها متحدية مشاعر العرب والمسلمين ... فهل يلومنا العالم بعد اليوم إذا ما أخذنا الأمور بأيدينا وتصدينا للدفاع عن مقدساتنا ضد هذه الحملة الصهيونية الدينية والعسكرية.
هذا وقد قوبلت دعوة الفهد إلى الجهاد المقدس بالتأييد من العالم العربي والإسلامي كله.
وفي 5/1/1401هـ أكد جلالة الفهد عن أهمية الجهاد المقدس وقال جلالته: "إن الدعوة إلى الجهاد المقدس لم تكن فقط دعوة المسلم إلى حمل البندقية والسيف والتوجه إلى القدس ولكنها دعوة عامة للمسلمين عموما ومن الممكن تنظيمها في مؤتمر القمة أو المؤتمر الإسلامي حتى تكون الدعوة للجهاد دعوة كاملة.
وفي حديث جلالته لضيوف الرحمن في 7/12/1402هـ قال: "لقد شهد العالم الإسلامي في العام الهجري الحالي قضايا ومشاكل بعضها جديد وبعضها قديم متجدد وتعرض لحروب وصراعات دامية وهذه الحروب والصراعات وغيرها استنزفت بلايين الآلاف من المسلمين وإن أكثر هذه الأحداث مأساة وإثارة للأحزان والآلام المذبحة التي تعرض لها إخواننا الفلسطينيون واللبنانيون في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت مؤخرا ومما يزيد من عمق الأحزان أن الضحايا كانوا من المدنيين العزل من السلاح.(29/487)
وبهذه المذبحة المروعة تضيف إسرائيل حلقة سوداء إلى عدوانها الشامل الإجرامي الذي قامت به هذا العام على المقاومة الفلسطينية والشعب اللبناني ... وإني إذ أحيي بطولة الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني المجاهدين الصامدين في معركة بيروت الخالدة لآمل من قادة وشعوب الأمة الإسلامية تقديم الدعم الكامل والفعلي للمقاومة الفلسطينية ماليا وعسكريا وهي تدخل مرحلَة جديدة من الكفاح ".
واستطرد جلالته يقول:
إننا نجتمع اليوم في هذه الرحاب الطاهرة بعد أن جمع الله كلمة أمتنا العربية في فاس ووحد صفوفها وهداها إلى هذه القرارات التاريخية ولله الحمد على جمع صفوفها وتنسيق جهودها والعودة إلى التضامن والتعاون حيث أثبت قدرتها التحدث بلغة واحدة فيها من وضوح الرؤية والتحسب لابعاد المصير ما يدعونا إلى التفاؤل بمستقبل مشرق لقضايانا إن شاء الله خصوصا إذا وضعت أمتنا الإسلامية ثقلها كما تفعل دائما مع أشقائها العرب وخصوصا إذا تحملت الدول المحبة للسلام في العالم مسئولياتها تجاه الضغط على إسرائيل وحملها على قبول السلام العادل المنصف الذي يعطى الأخوة الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم وحقهم في إنشاء دولتهم المستقلة بما في ذلك عاصمتها القدس الشريف وإعادة الأرض العربية إلى أهلها وضمان حق الجميع في العيش بسلام ".
جلالة الملك وباكستان:
وباكستان من الدول المسلمة تلقى التأييد من جلالة الفهد الذي يؤمن بعزة الإسلام ومنعته والذي يرى في قوة البلاد الإسلامية قوة للإسلام نفسه.
وفي زيارة قام بها جلالة الفهد "سمو الأمير فهد في 2/2/1401هـ "لباكستان صرح جلالته بأن العالم الإسلامي يواجه تحديات خطيرة. وقال إن المملكة العربية السعودية قوة مساندة لباكستان المسلم. ودعا جلالته الأمة الإسلامية إلى تحكيم الشريعة في حياتها.
وقال جلالته:(29/488)
"لابد لنا ونحن في مطلع القرن الخامس الهجري من وقفة لإلقاء نظرة كاملة بعيدة على أوضاع المسلمين في كل مكان وعلى حقوقنا وواجباتنا وأن نعد أنفسنا لمواجهة التحديات الخطيرة التي نواجهها وأن نعمل جاهدين ومؤملين بأن يشهد هذا القرن عزة المسلمين وإحقاق حقوقهم التي أهدرت في القرن الماضي وأن نشهد سلاما قائما على العدل في العالم ".
"ودعا جلالته كل المسلمين إلى تحكيم كتاب الله في كل شئونهم وألاّ يستسلموا لأسباب الفرقة".
وقال جلالته: "باكستان القوية بقوة إيمانها وعقيدة شعبها هو صمام أمان للسلام ".
وقال جلالته أيضا: "المملكة العربية السعودية والباكستان متضامنتان تحت راية الإسلام".
أفغانستان البلد المسلم:
قال جلالة الفهد أثناء استقباله لأعضاء المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في 4 ديسمبر 1983م: "إن الأمة الإسلامية تواجه الآن الكثير من المخاطر والتحديات ولابد من أن تصمد أمام كل هذه المصاعب وأن تثبت إنها أمة قوية بالحق وراسخة برسوخ العقيدة المتمكنة في نفوس أبنائها" ... وأردف يقول جلالته: "بأن الأمة الإسلامية تستطيع أن تكرس كل عوامل الأمن والاستقرار والطمأنينة في العالم إذا تمسكت بشريعة الله وحافظت عليها وسعت إلى تبنيها في حياتها ومعاشها ولم تنجرف وراء المادة وتفقد خصائصها المتميزة.
من هذا المنطلق يقف جلالته بكل حزم وصلابة ضد الغزو السوفيتي الشيوعي لأفغانستان الدولة المسلمة وعداء جلالته للشيوعية القديم ... ويبرز هذا العداء في حديث جلالته عندما كان وليا للعهد في 8/3/1398هـ أمام أعضاء ندوة دور المسجد في المجتمع.(29/489)
فقد أكد جلالته أن هدف المملكة هو نصرة الإسلام ونصرة العقيدة. وأشار جلالته إلى المبادئ والعقائد الهدامة التي تحاول النيل من العقيدة فأكد ضرورة التصدي لها وإظهار العقيدة الإسلامية على حقيقتها وفي إطارها الصحيح وقال أن عقيدتنا لم تمنع شيئا إلا وفيه خير للبشرية ولم تمدح شيئا إلا لصالح البشرية جمعاء.
وأضاف جلالته أن العقيدة الإسلامية استمرت شامخة رغم محاولات التصدي المتكررة التي تعرضت لها من المستعمرين في كافة البلدان التي غزوها.
وفي حديث لجلالته لمجلة نيوزويك الأمريكية في 18/2/1399هـ قال جلالته: "إن المملكة لا تغير مبادئها في تطبيق الشريعة السمحاء ومحاربة الإلحاد ... نحن دعاة سلام ولكن نسعى للسلام المبني على العدل.
وفي 2/2/1401هـ توجه جلالته أثناء زيارته لباكستان إلى مدينة بيشاور ولاهور للالتقاء بالمجاهدين الأفغان وصرح جلالته: "إن على الاتحاد السوفيتي أن يرحل عن أفغانستان وأن ينسحب من الأراضي الأفغانية حتى يتمكن الشعب الأفغاني من أن يحكم نفسه بنفسه".
وقال الفهد أمام اللاجئين الأفغان في 3/2/1401هـ: "إن الأزمة الأفغانية جرح عميق في العالم الإسلامي".
وردا على سؤال عن المساعدات التي تقدم للاجئين الأفغان قال جلالته: "هذا واجب إسلامي ونأمل أن تنتهي هذه المشكلة ويترك الشعب الأفغاني في تقرير ما يريده بنفسه وفي نفس الوقت نأمل من جميع الدولة أن تساعد الشعب الأفغاني سواء في الداخل أو في الخارج بالمساعدات الاستثنائية مثل المواد الغذائية والطبية وما يحتاجه الإنسان واعتقد أن هذا شيء مجاز في أي ظروف كانت ومن المعروف أن الشعب الأفغاني يحتاج إلى مثل هذه الأمور وبالأخص اللاجئين الأفغاني إلى الباكستان حيث لمست حاجتهم إلى مثل هذه الأمور".(29/490)
وفي البيان السعودي الباكستاني المشترك الذي أذيع في إسلام آباد والرياض عقب انتهاء زيارة جلالة الفهد لباكستان جاء تأكيد حق تقرير المصير للشعب الأفغاني ومساندة نضاله العادل ودعا البيان القوى العظمي إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء.
وفي كلمة جلالته إلى حجيج بيت الله في 7/12/1402هـ قال جلالته عن أفغانستان:
"وفي ناحية أخرى من العالم الإسلامي يحارب أخوة لكم في أفغانستان من أجل دينهم والمحافظة على استقلالهم وإن حركَة المقاومة الأفغانية تستحق من العالم الإسلامي وكل الشعوب المحبة للسلام التأييد الكافي لتحقيق أهدافها في الحرية والسيادة.
كما أننا نتطلع أن يأخذ قادة الاتحاد السوفيتي بعين الاعتبار مشاعر العالم الإسلامي تجاه هذه القضية وتأثير ذلك على علاقته ببلادهم وفما مقدمة هذه الاعتبارَات حق أفغانستان في تقرير المصير والمحافظة على استقلاله.
الدعوة إلى سوق إسلامية مشتركة:
كان جلالة الفهد من أول الداعين لإقامة سوق إسلامية مشتركة وفي ذلك قال جلالته:
"إذا ما نظرنا إلى اقتصاديات الشعوب الإسلامية نجد أن كثيرا من البلاد الإسلامية تعاني من زيادة السكان والبطالة والتضخم.
وهذا الوضع يدعونا إلى النظر بجدية إلى إقامة سوق إسلامية مشتركة ومنح الأفضلية والأولوية في التجارة وتشغيل العمال والاستثمارات بين الدول الإسلامية وسيكون لذلك إن شاء الله أثر مهم في تخفيف المشاكل الاقتصادية في الدول الإسلامية وزيادة المنافع بين المسلمين وتقوية الروابط الإنسانية والسياسية بينهم وتقليل الاعتماد على الآخرين ".(29/491)
من هذا المنطلق دعت المملكة في مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي الرابع عشر الذي انعقد في دكا في أوائل ربيع أول سنة 1404هـ إلى أن يولى الجانب الاقتصادي اهتماما بالغا أصبح حقيقة بارزة وملموسة وذلك بمساعدة الدول الإسلامية عن مجابهة الصعوبات التي تعترضها لإنجاز مشاريع تنتجها وقد استعرض مندوب السعودية في المؤتمر ما تم من إنجازات في هذا المجال من خلال المجهودات التي بذلت عبر منظمة المؤتمر الإسلامي واللجان والمؤسسات المختلفة التي كرستها لهذه الأغراض مثل البنك الإسلامي للتنمية وصندوق التضامن الإسلامي وأكد أن المملكة قد أدت واجبها ووفت بجميع التزاماتها وبما وعدت بتقديمه وهو مبلغ 1000 مليون دولار الذي أعلنه جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى أثناء انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي في مكة المكرمة والذي خصص لدعم برنامج التنمية.
وقال رئيس وفد المملكة في المؤتمر إن مجموع القروض الإنمائية الميسرة التي اعتمدها الصندوق السعودي للتنمية للدول الإسلامية منذ إعلان مكة المكرمة حوالي 5232 مليون ريال سعودي خصصت للمساهمة في تمويل 73 مشروعا في 25 دولة من دول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي بالإضافة إلى ما تقدمه المملكة بصورة مباشرة للدول الإسلامية من مساعدات غير مستردة وقروض نقدية ميسرة. مؤكدا أن المملكة العربية السعودية بقيادة جلالة الفهد لم ولن تتوقف عن بذل كل جهد وسلوك كل سبيل يؤدى إلى تدعيم هذا التعاون وتقويته وترسيخه إلى الغاية التي يرنو إليها كل مسلم.
الإسلام والسلام:(29/492)
وحول سؤال عن ما إذا كان في نية جائزة الملك فيصل التوسع وإيجاد جوائز جديدة في ميادين جديدة واستحداث جائزة للسلام في ظل ظروف الحرب التي تضم أجزاء كثيرة من العالم قال سمو الأمير خالد الفيصل: إن كل الجوائز العالمية المنبثقة عن جائزة الملك فيصل هي جوائز للسلام. فخدمة الإسلام جزء من السلام فالإسلام يدعو إلى السلام والمحبة والإخاء والتعايش السلمي بين أبنَاء البشر.
فالجائزة التي نالها بحق جلالة الفهد وهي جائزة خدمة الإسلام إنما هي أيضا جائزة للسلام. وجلالة الفهد بذل في سبيل السلام ما لم يبذله أحد قط. فهو في خدمة الإسلام كان يسعى إلى السلام والتضامن والوفاق بين الشعوب الإسلامية.
أليس هو الذي سعى للوفاق والسلام بين سوريا والأردن.
أليس هو الذي سعى إلى السلام والوفاق بين سوريا والعراق.
أليس هو الذي سعى إلى السلام وحقن الدماء وإنهاء الحرب العراقية- الإيرانية والتي قال عنها أنها لا تخدم هدفا وليس فيه منتصر ومنهزم وأنها دماء تسيل بغير طائل وكان أجدر بها أن تسيل من أجل استعادة الحقوق المسلوبة في فلسطين.
أليس هو الذي حقن دماء الطوائف اللبنانية المتشاحنة في لبنان وأن السلام الذي ينعم به اللبنانيون الآن في هذه الهدنة إنما هو من صنع يديه الكريمتين.
أليس هو الذي حقن دماء الفلسطينين الذين اقتتلوا فيما بينهم من غير طائل ولا هدف.
إن جلالة الملك بحق صانع السلام في هذا العصر ولذلك استحق جائزة خدمة الإسلام. لكل هذا فإن الجائزة ... اعتراف بالجهود الكبيرة التي صنعت الاستقرار والسلام ... بدافع من أخلاقيات القرار السعودي الذي يعمل على تكريسه جلالة الملك فهد.
وهى في نفس الوقت تعبير مخلص من مؤسسة علمية كبيرة ... في عالمنا الإسلامي عما تكنه الشعوب الإسلامية لشخص جلالة الملك فهد من عرفان ومن إعزاز لخدمة قضاياها ورعاية شئونها ...
جريدة عكاظ(29/493)
أحدَاث العَالمِ الإسلاميِّ
إعداد الشيخ محمد محمود سالم
جَائِزة الملك فيصَل العَالميَّة
صَاحِبُ الجلالة المعظم فهد بن عبد العزيز ينالُ الجائِزة في مَجال خدمَةِ الإسلام
أعلن يوم الأربعاء الموافق الثالث من ربيع الأول 1404هـ أسماء الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية. وقد اهتمت الأوساط العلمية والثقافية في العالم العربي والإسلامي والمحيط الدولي بخبر الإعلان عن أسماء الفائزين بهذه الجائزة ذلك لما جاء فيهم من شخصيات لها تأثيرها الفعال في مجريات الأحداث السياسية والأدبية والثقافية والعلمية.
فقد حصل جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المعظم حفظه الله على جائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام- فقد قدرت لجنة الاختيار ما قام به جلالته من جهود وعمل دءوب في خدمة الإسلام والمسلمين في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفاز الشيخ مصطفى الزرقا بجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية لما قام به من دراسات علمية دينية قامت على إبراز سمو الشريعة الإسلامية بمقارنة الفقه الإسلامي بالقانون وقد قدم هذه الدراسة في موسوعة فقهية رائعَة، وفضيلته عضو بارز في المجمع الفقهي منذ إنشائه 1398هـ وقدم للمجمع عدة دراسات فقهية في مواضيع معاصرة.
وفاز الأستاذ محمود محمد شاكر بجائزة الملك فيصل في مجال الأدب العربي على كتابه الممتع "المتنبي"والأستاذ شاكر من أعلام الحركة الفكرية والأدبية في العالم العربي وقام بجهد بارز مشكور في مجال خدمة التراث العربي والإسلامي. بما حققه من كتب الأدب واللغة والشعر.(29/494)
ومنحت جائزة الطب مناصفة بين كل من الأستاذ جون س فوردتران رئيس قسم الأمراض الباطنية بكلية الطب بجامعة بيلر في دالاس تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية. ونُصِّفَتْ جائزة الطب بينه وبين المجموعة المكونة من الدكتور وليام جريتوف مدير مركز أمراض الإسهال العالمي في بنجلاديش، والدكتور مايكل فيلد الأستاذ بقسم المعاقين ووظائف الأعضاء بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
ومنحت جائزة الملك فيصل العالمية في مجالي العلوم مناصفة بين اثنين من علماء الفيزياء أحدهما العالم الألماني جيرد بيننج. وثانيهما العالم السويسري هايزخ روهرر.
هذا وإن إجماع لجنة الاختيار على اختيار صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز للجائزة في مجال خدمة الإسلام لهو اعتراف من الأمة الإسلامية بالخدمات والأعمال الجليلة التي يوالي جلالته تقديمهَا للإسلام ومد يد العون للمسلمين في جميع أنحاء الأرض ووقوفه بجانبهم ونصرة قضاياهم.
والفوز بهذه الجائزة لا ترجع قيمته إلى الجانب المادي بل إلى الجانب المعنوي الذي يقدم برهان وفاء من الأمة الإسلامية للعاملين بإخلاص وصدق في سبيل إعزازها وتوحيدها تحت راية الإسلام.
قرارات وتوصِيات
مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية
أنهى وزراء خارجية الدول الإسلامية مؤتمرهم الرابع عشر في يوم الأحد 7 ربيع الأول 1404هـ في دكا عاصمة بنجلاديش واتخذ الكثير من القرارات والتوصيات التي تناولت أهم القضايا التي تشغل أذهان المسلمين في العالم الإسلامي.
فقد ندد المؤتمر بالتدخل العسكري السوفيتي المستمر في أفغانستان وناشد الدول الأعضاء مراعاة سيادة أفغانستان وهويتها الإسلامية.(29/495)
وأثنى المؤتمر على الأعمال التي تقوم بها لجنة التضامن الإسلامي مع شعوب الساحل الإفريقي وما تقوم به اللجنة المنبثقة عنها وأقرت برنامجها وتوصياتها. وحث المؤتمر الدول الإسلامية إلى الاستجابة إلى النداءات التي توجهها اللجنة للحصول على مساعدات والعمل على تنفيذ البرامج التي وضعتها بلدان الساحل المتضررة من الجفاف.
وناشد المؤتمر الدول الأعضاء جعل فلسطين وجغرافيتها مادة إجبارية في المناهج الإسلامية.
"وأدان المؤتمر المشروع الإسرائيلي لشق قناة تربط البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر مؤكداً أن هذا المشروع يشكل عدواناً على الحقوق المشروعة والموارد الطبيعية والمصالح الحيوية للشعب الفلسطيني والأردن فضلا عن كونه يهدد السلام والأمن.
فيما يتعلق بمسلمي الفلبين دعا المؤتمر حكومة الفلبين إلى تطبيق اتفاقية طرابلس والبدء في إجراء مفاوضات مع جبهة مورو، وطلب من جبهة مورو ومن قادتها اتخاذ موقف موحد قبل البدء في المفاوضات.
دعا المؤتمر الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلى مواصلة تنفيذ خطة الإعلام التي وافق عليها المؤتمر الإسلامي الحادي عشر وحثّ الدول الأعضاء على تقديم مساهمة طواعية لتنفيذ هذه الخطة.
وفي مجال الاتصالات أوصى المؤتمر الدول الأعضاء بخفض تعريفة استخدام قنوات الأقمار الصناعية إلى مستوى يناسب موارد وكالات الأنباء لتيسير وسائل الاتصال الحديثة أمام وكالة الأنباء الإسلامية الدولية.
وأحاط المؤتمر الوزراء بالتوصية المقدمة للجنة الدائمة للشئون الإعلامية والثقافية بخصوص عقد اجتماع لوزراء الإعلام بهدف بحث مشكلات وكالات الأنباء عن كثب ... واتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز وضع وكالة الأنباء الإسلامية الدولية.
وفيما يتعلق بمنظمة إذاعات الدول الإسلامية أعرب المؤتمر عن تقديره للمملكة والكويت والدول الأخرى التي قدمت إسهامات طَواعية لدعم نشاطات المنظمة وبرامجها.(29/496)
الكيَان الصهيُوني:
يُهدِّد أمن العَالم الإسلامي ويُهَدِّد سَلام العَالم
أكد مندوب المملكة سمير الشهابي في كلمة ألقاها مساء الجمعة 5 ربيع الأول 1404هـ "10 ديسمبر 1984م"أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تناقش الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. أكد أن الصهيونية العالمية والكيان الصهيوني يتحملان مسئولية الجرائم ضد الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة ودول وشعوب الشرق الأوسط. وندد مندوب المملكة بالجرائم التي يرتكبها هذا الكيان في الضفة الغربية وغزة وبالمجازر التي تقوم بها في لبنان ضد كل العرب من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين ودعا الذين يقدمون العون للكيان الصهيوني وخاصة الولايات المتحدة إلى وقف هذا الدعم الذي سيؤدى إلى استمرار هذا العدوان على الدول العربية.
وأضاف إن هذا الكيان الإسرائيلي يهدد أمن المنطقة وهو ما أكدته قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتشهد به أعمَال إسرائيل العدوانية المستمرة ... وإن أمن المنطقة يرتكز على السلام العالمي الذي برهن العرب على أنهم دعاته. على شرط أن يكون سلاما قائما على الحق والعدل. ولكن الصهيونية لا تكف عن استخدام كل صور الإرهاب. وليس السلام من مخططات اليهود والصهيونية العالمية ومن الحق أن نقول.. إن هذَا العدو الشرس تسانده كل قوى الشر والعدوان من الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي بكل اتجاهاته ومسمياته التي تجمعها الصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين. والشيوعية والإلحاد ... ولا علاج لهذه المأساة إلا بوحدة إسلامية شاملة تصد هذه الأطماع وترح هذا العدوان. فمتى يتوحد المسلمون..؟ وكيف..؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام ...
القاديَانيّة الكافرة:
تسعَى لهَدم الشريعَةِ الإسلاميَّةِ(29/497)
بعث معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رسالة هامة عاجلة إلى المسلمين عامتهم وخاصتهم يحذرهم من فتنة الجماعة المسماة "بجماعة الأحمدية: القاديانية ".
وجاء في هذه الرسالة: لا يخفي عليكم أن جماعة الأحمدية "القاديانية" طائفة كافرة تتعاون مع الدول الاستعمارية، وتسعى إلى هدم الشريعة الإسلامية. وتتستر باسم الإسلام لتضليل المسلمين وتمزيق وحدتهم.
وأضاف معاليه: قد صدر بشأنها قرارات عديدة تؤكد على خروج هذه الطائفة من الإسلام واعتبارها فئة غير إسلامية، ومنها القرار الصادر من حكومة باكستان 1394هـ والمؤكد بآخر عام 1400هـ وكذا بشأنها قرارات اتخذها مؤتمر المنظمات الإسلامية العالمية الذي انعقد بمكة عام 1394هـ ومجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
ندَاءُ الملك فهْد إلى الإخوَة المقاتلينَ في لبنان
نقلت وكالة الأنباء السعودية في نهاية الأسبوع الثاني من شهر صفر نداء صاحب الجلالة الملك المفدى فهد بن عبد العزيز حفظه الله إلى الإخوة العرب المتقاتلين على أرض لبنان.
ويسرنا أن نسجل هذا النداء الصادر من قلب رجل مؤمن يشعر بالمسئولية تجاه إخوانه العرب والمسلمين في كل مكان:
بسم الله الرحمن الرحيم: إخواني أبناء الشعب العربي على أرض لبنان:(29/498)
أخاطبكم اليوم مجددا باسم جميع ما يصل بيننا في المملكة العربية السعودية وبين كل فرد منكم على أرض لبنان. وفي كل موقع نضال فلسطيني من روابط العقيدة والدم والعرق واللغة والتاريخ. أخاطبكم من أعماق قلب عربي أدمته المأساة التي حلت بأبناء الأمة العربية في أكثر من بقعة على صعيد المنطقة. ولعل أكثرها خطورة وأشدها ألما ما يحدث الآن في مدينة طرابلس. وحول المخيمات الفلسطينية شمال لبنان. رغم قرار وقف القتال، وما يتكرر كل يوم في مختلف الجبهات اللبنانية من قتال عنيف ودمار ساحق مخيف رغم الاتفاق اللبناني الشامل على وقف إطلاق النار ...
أيها الإخوة: إن على لسان كل عربي يعيش اليوم في هذا العالم سؤالا يتردد حتما كل صباح ومساء. سؤال حائر يتكرر: لماذا يراق الدم العربي بيد يجري في عروقها الدم نفسه؟. لماذا يحرق العربي أرضه، ويشتت أهله، وينسف داره؟.
ماذا نقول للعالم الغربي الذي يراقب صراع الأشقاء الدامي ثمانية أعوام في لبنان..؟ وكيف نقنع دول هذا العالم بعدالة قضيتنا وكيف نطالبه بالوقوف معنا لاسترداد أرضنا وحقوقنا وأوطاننا إذا نحن لم نستطع أن نعدل بين أنفسنا لنصرة قضايانا..؟.
أيها الإخوة في لبنان: وعلى أرض القتال: لقد رأينا منذ أيام شعاعا من الأمل يضيء الدروب أمامكم إثر وقف القتال والتقاء قادتكم لأول مرة منذ بدء المأساة على كلمة سواء بينكم عليها تجتمعون، ومنها تنطلقون للبحث عن أفضل الوسائل للعيش في ظل رفاه وطني شامل. وأخشى ما أخشاه أن يضيع من أعيننا هذا الشعاع قبل رؤية الطريق السوي لمسيرة العودة والمحبة والصفاء على طريق الوحدة المتكاملة.(29/499)
أيها الإخوة الأشقاء: أليس من الأجدر بنا أن ندخر شبابنا ونحتفظ بسلاحنا وقدراتنا، وقدراتنا لمواجهة أعدّاء الأمة العربية والإسلامية في معركة المصير بدلاً من أن يستدرجنا العدو الجاثم على صدورنا لاستنفاد طاقاتنا البشرية والآلية كي ينقض علينا بعد ذلك حيث لا خيل لدينا ولا رجل..؟.
إني أصارحكم اليوم بكل صدق ووفاء بأني لا أكاد أجد أي سبب أو دافع يبرر ما يجري الآن على أرض لبنان مهما كانت الأسباب والدوافع، بل لا أكاد أعتقد بوجود عامل خارجي يبيح للأخ سفك دم أخيه، ولنفترض جدلا بوجود عامل أو آخر فأين رجاحة العقل..؟ وأين الحكمة في وزن الأمور وضبط المشاعر، وكبح جماح النفس برفض تلك العوامل والدوافع مهما كانت أنواعها ومصادرها فمن البطولة الإيثار في ساحات القتال، ومن أرقى مراتب القيادة إنكار الذات ...
أيها الإخوة: هل نسينا العدو المتربص من حولنا؟ أم تناسينا نضالنا من أجل تحرير القدس وتطهير كل شبر من أرضنا في كل موقع دنسه العدو بأقدامه؟.
لنا حقوق مشروعة يعرفها العالم بأسره فإن نحن أضعناها في خضم صراعاتنا وخلافاتنا فكيف نطالب بها؟ ومن نطالب؟.
أيها الإخوة: لا أخاطبكم اليوم من موقع مسئوليتي كخادم للحرمين الشريفين فحسب ولكني أخاطبكم بوصفي الأخ العربي الشقيق لكل فرد منكم أشارككم الأفراح والأتراح وأشاطركم الآلام والآمال وأتطلع وإياكم إلى يوم النصر على خطى وحدة المصير. كما أوجه ندائي المخلص بعد ذلك لجميع زعماء وقادة الأمة العربية أن يبادروا لعمل فوري موحد لوقف هذه المأساة الدامية التي كلما أوقفنا نزيف شريان منها انفجر فيها شريان جديد وعلينا أن نواصل جهادنا ونكثف جهودنا في غير ما يأس أو تهاون حتى يحقق الله آمالنا، ويسدد خطانا على طريق الخير لكل شعوبنا والله وحده القادر على تأليف القلوب. ومنه النصر وإليه المصير.(29/500)
أخبار الجامعة
تعيينَاتٌ في المنَاصِب العُليَا في الجامِعَة
الأمين العام للجامعة
صدر قرار مجلس الوزراء رقم (231) في 9/ 9/1403هـ بتعيين فضيلة الدكتور محمد حمود الوائلي أمينا عاما للجامعة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات. وبلغ هذا القرار بخطاب معالي وزير التعليم العالي رق39/ 5/ 5/ 8034 في 22/10/1403هـ ومعه خطاب رئيس ديوان مجلس الوزراء رقم 7/عَ/2449 في 18/10/1403هـ المبلغ لقرار مجلس الوزراء.
وكان فضيلته يشغل منصب رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة بعد أن شغل منصب عميد كلية الشريعة لعدة سنوات ...
نائب رئيس الجامعة
كما صدر قرار مجلس الوزراء رقم (8) في 25/ 1/ 1404هـ بتعيين فضيلة الشيخ صالح العبد الله المحيسن نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية وذلك لمدة ثلاث سنوات.
وفضيلته أحد الكفاءات العلمية والإدارية الممتازة. وقد شغل منصب عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة لعدة سنوات. وقد اشترك في إعداد النظام الأساسي واللائحة التنفيذية والمناهج الدراسية في الجامعة.
ضيوف ووفود في زيارة الجامعة
زار الجامعة الإسلامية خلال الأشهر الثلاثة الماضية المحرم وصفر وربيع الأول 1404هـ الشخصيات والوفود التالية:
وفد تونس يتكون من 25 عضوا تلبية للدعوة الموجهة إليه من الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المملكة، وقد اجتمع الوفد مع فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي الأمن العام للجامعة وفضيلة الشيخ عوض الشهري عميد شؤون الطلاب ... كما قام الوفد بزيارة المكتبة المركزية واطلع على قسم المخطوطات بها.
سماحة الشيخ الحبيب بلخوجة مفتي تونس بعد أن شارك في لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية وقد اجتمع سماحته مع معالي الدكتور عبد الله العبيد رئيس الجامعة ومع فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي أمين عام الجامعة.(30/1)
وفد من ماليزيا يمثل معهد السلطان زين العابدين للدراسات العربية والإسلامية ... وقد التقى الوفد بمعالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة ومعَ فضيلة الشيخ محمد بن ناصر السحيباني عميد القبول والتسجيل ومع الشيخ مصطفي القناص مدير شعبة اللغة العربية لغير الناطقين بها. وبحث الوفد مع المسئولين في الجامعة مدى إمكان حصول بعض طلاب المعهد على منح دراسية ومعادلة شهادة المعهد لدى الجامعة.
سعادة الأستاذ ناصر الدغيشم الملحق التعليمي بسفارة الكويت بجدة والتقى مع فضيلة الأمين العام وعميد القبول والتسجيل وعميد شؤون الطلاب.
الشيخ أيوب شريف إمام مسجد بليبريا. والشيخ كوكوتمارا عضو الجمعية الإسلامية بغينيا. ووفد من مسلمي تركستان والتقوا بكبار المسئولين بالجامعة وزودوا بكتب دينية مما يقوم مركز شؤون الدعوة بتوزيعه على ضيوف الجامعة.
كما استقبلت الجامعة وفد الأدباء العرب الذين شاركوا في حفل جائزة الدولة التقديرية للأدب وأقامت الجامعة حفلا ترحيببا بهذه المناسبة.
رسائل الماجستير والدكتوراه من قسم الدراسات العليا بالجامعة
في مساء يوم الخميس 7/ 1/1404هـ نوقشت رسالة الماجستير المقدمة من الطالب: إبراهيم أحمد سليمان. عماني الجنسية. وموضوعها: "الأهلية عند الأصوليين وعوارضها المكتسبة". وتكونت لجنة المناقشة من الدكتور عبد العظيم فياض، والدكتور يوسف عبد المقصود، والدكتور جلال بن عبد الرحمن.
وفي مساء يوم الخميس 14/1/1404هـ نوقشت رسالة الماجستير المقدمة من الطالب: سليمان بن صالح الحزي. سعودي الجنسية. وموضوعها: "التشريعات الاجتماعية في سورة النور". وتكونت لجنة المناقشة من الشيخ عبد القادر شيبة الحمد والشيخ أبو بكر الجزائري والدكتور أحمد إبراهيم مهنا.(30/2)
وفي مساء يوم الخميس 21/1/1404هـ نوقشت رسالة الماجستير المقدمة من الطالب: حمود بن أحمد بن فرج الرحيلي. سعودي الجنسية. وموضوعها: "منهج القرآن في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ". وتكونت لجنة المناقشة من الدكتور عبد المنعم حسنين والدكتور محمد إبراهيم الجيوشي والدكتور جمعه على الخولي.
وفي مساء يوم الخميس 27/1/1404هـ نوقشت رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب: علي الشيخ أحمد أبو بكر. صومالي الجنسية. وموضوعها: "الدعوة الإسلامية المعاصرة في القرن الإفريقي ". وتكونت لجنة المناقشة من الدكتور عبد المنعم حسَنين والدكتور محمد إبراهيم الجيوشي. والدكتور سيد نعمان عبد الرازق.
وفي مساء يوم الخميس 18/3/1404هـ نوقشت رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب: محمد يوسف عيد. صومالي الجنسية. وموضوعها: "المنافقون في القرآن الكريم ". وتكونت لجنة المناقشة من الدكتور أحمد إبراهيم مهنا والدكتور محمد سيد طنطاوي والدكتور محمد أحمد القاسم.
نشاط الموسم الثقافي بالجامعة
1- نظمت عمادة شؤون الطلاب ندوة مفتوحة يوم الأربعاء 27/1/1404هـ في بداية الموسم الثقافي شارك فيها: فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد رئيس المجلس العلمي وفضيلة الشيخ عبد الله محمد الغنيمان رئيس قسم الدراسات العليا. وفضيلة الشيخ على عبد الرحمن الحذيفي وكيل كلية القرآن الكريم بالجامعة، وحضر الندوة كثير من طلاب الجامعة ومنسوبيها، وأجاب أصحاب الفضيلة على ما قدمه الطلاب من أسئلة واستفسارات.
2- وألقى فضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري الأستاذ المشارك بقسم الدراسات العليا بالجامعة محاضرة موضوعها: "علة الحياة وسر الوجود". وذلك عقب صلاة المغرب من يوم الأربعاء 5/2/1404هـ بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة.(30/3)
3- وفي يوم الأربعاء 12/2/1404هـ ألقى فضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المحاضر بكلية الحديث محاضرة وموضوعها: "أحلام تقع أم هي أضغاث ". بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة.
4- كما ألقى فضيلة الدكتور مرزوق بن هياس الزهراني عميد كلية الحديث الشريف محاضرة موضوعها: "كيف تدعو إلى الله عز وجل ". وذلك عقب صلاة المغرب يوم الأربعاء 19/2/1404هـ في إطار الموسم الثقافي الذي تنظمه عمادة شئون الطلاب.
5- وفي مساء يوم الأربعاء 26/2/1404هـ ألقى فضيلة الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف بالجامعة محاضرة وموضوعها: "دراسة الأديان في ضوء القرآن ".
6- وفي مساء يوم الأربعاء3 /3/1404هـ ألقى فضيلة الدكتور صالح بن سعد السحيمي محاضرة وموضوعها: "منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين ".
7- وفي مساء 10/3/1404هـ ألقى فضيلة الدكتور عبد الله بن أحمد قادري رئيس قسم شعبة الفقه بالدراسات العليا محاضرة وموضوعها: "منطلقات إسلامية للكفاءة الإدارية". وذلك بقاعة المحاضرات في إطار الموسم الثقافي.
رؤساء الشعب في الدراسات العليا
أصدر معالي رئيس الجامعة قرارا بتعيين رؤساء للشعب في قسم الدراسات العليا على النحو التالي:
فضيلة الدكتور: عبد الله بن أحمد قادري رئيسا لشعبة الفقه.
فضيلة الدكتور: محمد أمان على الجامي رئيسا لشعبة العقيدة.
فضيلة الدكتور: جلال الدين عبد الرحمن رئيسا لشعبة أصول الدين.
فضيلة الدكتور: محمد عبد الله قناوى رئيسا لشعبة اللغويات.(30/4)
القسم الإنجليزي (English Section)
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} .
i.e."And whose word is truer than Allah "s"? (IV,87)
Ninthly and lastly: Legislation in Islam has been entrusted to highly qualified Scholars "Mujtahideen" who are well conversant with disciplines pertaining to the holy Quran and the Sunnah, and are thus capable to adopt the appropriate religious viewpoints, and deduce the suitable rulings according to the ever-recur-ring events in the lives of Muslims.
These have been some of the great characteristics of Islamic legislation. I have endeavoured to highlight them so that it will be easy for the reader to get some glimpses of the excellence and grandeur underlying the Message of Allah, namely, the Faith of Islam. I sincerely hope that this modest effort will help enlighten the hearts and minds of those who aspire, truly, to reach the truth.
May Allah, the Creator of the Universe, guide us all along the path of righteousness and piety
N.B. The reader may kindly refer to the Arabic Text for further details
grieves him that you should perish, Ardently anxious is he over you, to the believers is he most kind and merciful (IX 128)
The prophet P.B.U.H. says: "whosoever treats others mercilessly, will be treated likewise". He forbade the killing of female infidels, the aged, children, worshipping monks unless they share in the warfare(30/5)
Fourthly: Another characteristic of Islamic legislation is its practicability with ease so as to relieve Muslims from embarrassment. This is quite manifest in many verses and traditions. Allah the Almighty says,
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
V"i.e. Allah intends every facility for you;He does not want to put you to difficulties". (II, 185)
The Prophet, P.B.U.H., says "make things easy and do not mak them difficult"
Fifthly: Wisdom which is defined as placing things in their proper places [1] .
In fact, wisdom is considered the keynote of the vast body of Islamic legislation in many a place. This is obvious in ordinances bearing on inheritance, penalties, alms-giving, etc..
Sixthly: Immortality and constancy of Islamic Shari'a. It is everlasting till Doomsday, as it is not subject to modification or alteration. Meanwhile, its rulings are so flexible that they are applicable at all times and places. Islamic Shari'a, indeed, is like a tree, that is firm in roots and movable in branches
We had better refer, in this regard, to Ibn Al-Qaim who has dealt with this subject in detail in his book "l'ilam al Muwaqq'een"
Seventhly: Caring for worldly life as much as for the Here-after. No doubt, Islamic institutions are based on deep faith in Allah, His angels, His apostles, His
scriptures, the Last Day, Predestination, Resurrection, and accountability for one's deeds on the Day of judgement, be they good or evil, even if one manages to(30/6)
escape punishment in this temporal life. This belief, naturally, helps to curb a Muslim's evil propensities and develops his good, virtuous inclinations. That is why religious injunctions and prohibitions appeal to both heart and mind
In addressing the believers, the Quranic verses abound in such phrases as, "if you reason""if you are pious""if you remember", "that who believes in Allah, and the Last Day. etc ...
Eighthly: Infallibility and truthfulness. Being divinely revealed, Islamic Shari'a is characterized by infallibity. It is immune against interpolation and distortion. Allah, the Almighty, says:
"i.e. Say. O men!. I am sent unto you all" (VII,158)
Secondly: Another feature of Islamic legislation is: -
Justice which is exclusively incomparable to man-made laws. For, so long as we firmly believe in the divine origin of Islamic Shari'a, that is, it has been revealed by Allah the Almighty of whom perfect Justice is one of His sublime attributes, so, the rulings of this Shari'a must naturally be equitable and fair, particularly in two respects:(30/7)
I As regards juristic judgements and laws deduced by Muslim Scholars through reasoning and analogy on matters that were not explicitly dealt with either in the holy Quran or the Sunnah. as in the case of promulgating rules and regulations relating, for instance, to municipalities, traffic, labour, etc ... the legislator must all the time, be motivated by a keen sense of justice and impartiality taking the general weal of the people into consideration. Thus, all laws should be in harmony with the true spirit of Shari'a
II while putting the principles and tenets of Shari'a into practical application, the ruler should take the utmost care to be fair and just in settling the people's problems and disputes
Thirdly: Among other fine qualities Islamic Shari'a takes much pride in, is mercy. Numerous Quranic verses and prophetic traditions have laid much emphasis on this aspect of Shari'a describing the prophet, P.B.U.H. as being merciful and ordaining Muslims to treat each other with mercy, and compassion Allah, the Almighty, says:-
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم}
"i.e. Now hath come unto you an Apostle from amongst yourselves: it
responded, Oh yes! the prophet has even forbidden us to face Qibla while urinating or answering the call of nature [2] .(30/8)
Abu-Hudhaifa, too, may Allah be pleased with him, said, "The Prophet P.B U. H., has delivered a sermon in which he dealt, at length, with different subjects, known or unknown;even those pertaining to the Day of Resurrection.S [3]
As regards the state of affairs in the Muslim nation, it is noteworthy to refer to the golden epoch of Prophet hood and caliphate. The prophet’s Sunnah, i.e. his deeds and sayings, represent the second source of Muslim Shari' a. The Prophet, being the spiritual and temporal leader of the Muslims, attended to their affairs, decided on various issues, laid down the boundary-lines of the Muslims' rights and obligations, prescribed the appropriate penalties, took the lead in the battlefield, divided the spoils, led the Muslims in congregational prayers, corresponded with monarchs inviting them to join the fold of Islam. Besides, he regulated all matters relating to sale, lease, marriage, divorce, medication, burial procedures, inheritance, etc.
On the other hand, none of the righteous Caliphs has reportedly excused himself from dealing with any problem or issue under the pretext that it did not fall within his jurisdiction. If it was in compliance with the main tenets and teachings of Islam, the Caliph would undertake it;if it was otherwise, he would con demn it.
II The second evidence: that which is based on the faculty of reason and in ference. It is quite inconceivable that Allah the Almighty, the Creator of the en tire Universe, may abandon His creatures without catering for them in all their religious as well as mundane affairs.(30/9)
So, the Islamic legislation is an overall, all-embracing code bearing on the various aspects of the life of the individual and the society as well. It touches on all spheres of human knowledge, viz. economics. sociology, internal and foreign policies, the relationship between the Muslim State and its friends as well as its enemies, in time of war and peace, between the ruler and the subjects; between the employer and the employees;and finally between husband and wife, father and son. Allah the Almighty says.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}
"i.e. Nothing have We omitted from the Book," (VI, 38) .
He said in his treatise on "Method and wisdom of Islamic legislation. [4] "Legislation is the attitude of Shar'i which is the divine institution revealed by the Lord of the Universe upon the prophet Muhammad, P.B.U.H. so that the en tire mankind should abide by it, thus attaining felicity in this worldly life as well as the Here-after".
This divine Law which seeks man's happiness and well-being is characterized as stated before. by countless, unique excellences, being Allah's eternal revelation. It is perfect and integrated, free from all deficiencies and imperfections. Allah the Almighty says about the holy Quran, the first of the two essential sources of Islamic Law (Shari'a)
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
"i.e. Had it been from other than Allah they would surely have found therein much discrepency"(30/10)
And:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}
i.e. " (This is) a Book with verses basic or fundamental of established mean ing (XI,l)
From the above-quoted verses and the like, we learn the following facts:
First: The Islamic Shari'a, by its very comprehensive nature, encompasses all domains of life, laying down the principles and guidelines regulating man's life in all its aspects.
To substantiate this fact, we cite the following two evidences:
I The first evidence:
Quotations from the holy Quran and the prophet's traditions as well as examples derived from the living reality of the Muslim nation, especially during the splendid, flourishing era of prophethood, and the righteous Caliphs. Allah the Almighty says:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلالِيَعْبُدُون}
"i.e."and We have sent down to thee the Book explaining all things" (XVT,89)
Salman al Farisi, may Allah be pleased with him, was told that the prophet, P.B.U.H. had taught the Muslims everything including reading;to this, Salman
In the Name of Allah, most Gracious, most Merciful
GLIMPSES OF THE MERITS OF ISLAMIC LEGISLATION
By: Sheikh Muhammad Bin Nasser Al-Suhaibani
Translated by: Muhammad Kamal ALi El-Sayed
(Translation Dept.)
All praise be to Allah, and blessings and peace be upon His prophet Muhammad, his family and his companions.(30/11)
It is a well known fact that the great religion of Islam is still, most regrettably, exposed to the vilest forms of attack launched by its vicious enemies ill many ways varying in strength and weakness with a view to undermining its edifice. Muslims are subject to a long series of torture, murder, rape and expulsion from their homelands.
This malignant campaign against Islam aims, further, at discrediting and sowing seeds of suspicion into it in an attempt to veil its numerous excellences and merits. This is in keeping with Allah's words:
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .
"i.e. Nor will they cease fighting you until they turn you back from your faith if they can"
Attempting to repel these wicked attacks and refute the false allegations raised against the divine Message of Islam, I have written this article with the intention of presenting the salient characteristics of the Muslim Faith, revealing its unique distinction and grandeur.
To begin with, I should like to define Islamic Legislation, pointing out the various efforts exerted by Muslim scholars in this respect. It may be deemed appropriate to quote sheikh Muhammad AI-Shanqeety, may Allah's mercy be upon Him.
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرِّحِيمِ
{قُل لَّوْ كَانَ البَحْرٌ مِدَادًا لِّكَلماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَِّبي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}
IN THE NAME OF GOD, THE COMPASSIONATE, THE MERGIFUL
Say, "If the ocean were an
ink-well for the words of my(30/12)
Lord, the ocean would run out
before the words of my Lord run
out, even if twice as much ink
Were provided."
(Qur'an 18:109)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Vide “Method and wisdom of Islamic Legislation” by Sheikh Muhammad Al- Shanqeety
To sum up. the comprehensiveness and universality of the Message of Islam is quite manifest. as it is addressed to all humanity at large, for all times and all places. All creatures, be they human beings or Jinns, living on earth or other planets, are bound to adhere to it, for Allah the Almighty says:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}
"i. E. I have only created jinns and men, that they may serve Me" (11,56) .
And:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {
[2] Narrated by Muslim, Abi Daud & Tirmidhi.
[3] Narrated by AI-bukhari Vide Fathul- BARI V.XI P. 494
[4] Vide Muhammad AI-shanqeety;"the method and wisdom of Islamic Legislation"P. 23.(30/13)
الجَمَاعَة في ضوءِ الكتاب وَالسُّنَّةِ
للدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
عميد كلية الدعوة وأصول الدين – جامعة أم القرى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد ... فهذا بحث يتناول موضوعاً يهم المسلمين جميعاً إذ تتوقف على تحقيقه سعادتهم في الدنيا والآخرة. كما تتوقف عليه سعادة البشر جميعا لأن الإسلام دين عالمي وقد جاءت الأوامر الإلهية فيه بضرورة تكوين الجماعة الإسلامية التي تنتظم المؤمنين بهذا الدين من جميع البشر.
تمهيد:
الإسلام دين الجماعة لأن الله جلّ وعلا شرع هذا الدين ليجمع البشر جميعاً على منهج واحد للوصول إلى هدف واحد.
والجماعة من لوازم قيام هذا الدين لأنه لا يمكن تطبيقه تطبيقاً كاملاً إلاّ بوجود الجماعة، ولذلك جاءت بعض تشريعات الإسلام على اعتبار وجود الجماعة المؤمنة سواء في مجال العبادات أو المعاملات، كما جاءت التوجيهات الإسلامية في الحث على لزوم الجماعة والتحذيرات الشديدة من مفارقة الجماعة.
وسيتبين لنا من هذا العرض الموجز لبعض ما جاء في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من الاهتمام بالجماعة كيف أن الله جل وعلا بهذا الدينِ العظيم كان يريد قيام الجماعة الإسلامية القوية المتماسكة التي هي على مستوى البشر جميعاً، وحماها جل وعلا بتشريعات محكمة حتى أصبحت من القوة والرسوخ بحيث تندق دون الوصول إلى تفكيكها معاول المخربين والمفسدين في الأرض.
وقد كان عنوان البحث المقترح ضمن الخطة التي وضعها منظموا هذا المؤتمر (الوحدة الإسلامية في القرآن والسنّة) ولكن اللفظ الذي تكرر في الكتاب والسنّة كثيراً هو لفظ الجماعة ولذلك آثرت أن يكون عنوان هذا البحث (الجماعة في ضوء الكتاب والسنّة) .
الجماعة هي الأصل والفرقة أمر حادث:(30/14)
كان الناس في أصل وجودهم على هذه الأرض أمّة واحدة تنحدر من نسب واحد، وكانوا على الإسلام دين أبيهم آدم- عليه السلام- فاختلفوا على هذا الدين وتفرقّوا فبعث الله النبيين علَيهم السلام ليبينّوا للناس الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله تعالى مبشرين من اتبعه بالسعادة ومنذرين من حاد عنه بالشقاء، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه} . (البقرة: 213) .
قال ابن عباس- رضى الله عنهما: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهّم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين، قال: هي في قراءة عبد الله: "كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا" [1] .
فالله سبحانه أراد للبشر أن يكونوا أمّة واحدة كلهّم على الهدى ولكنهم اختلفوا فتفرقوا.
ولو تذكر الناس دائماً أن أباهم واحد وأمهم واحدة لكان ذلك دافعا لهم إلى الاجتماع والتآلف، ولذلك ذكّرهم الله تعالى بهذا حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . (الحجرات: 13) .
فالله جل وعلا قسمهم إلى شعوب وقبائل ليعرف بعضهم بعضا فيتواصلوا لما بينهم من الرحم لا ليفتخروا بأنسابهم ويختلفوا، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
عوامل تكوين الجماعة الإسلامية:(30/15)
لقد شرع الله جل وعلا أسباباً لتكوين الجماعة الإسلامية ثم لتقويتها فمن ذلك:
1- الإيمان بالإسلام عن وعي وبصيرة:
إن أولَ ما يشعر الإنسان بانتمائه لجماعة المسلمين هو دخوله في الإسلام عن وعي وفهم وبصيرة، ذلك أن مجرّد فهمه للهدف الذي يسعى إلى تحقيقه هو والمسلمون جميعاً وهو عمارة الأرض بطاعة الله تعالى وابتغاء مرضاته يجعله يشعر بالرابطة التي يجتمع المسلمون جميعاً
عليها لبلوغ هذا الهدف، وشعوره بهذه الرابطة هو أول عنصر من عناصر تكوين الجماعة الإسلامية.
فالمسلم حينما يرسخ الإيمان في قلبه يبحث فوراً عن المؤمنين الذين يشاركونه في السعي لبلوغ هذا الهدف، والذي أمره الله جل وعلا أن يصبر نفسه معهم على عبادة الله وابتغاء مرضاته، ثم هو يبحث دائماً عن تكاليف هذا الدين التي نظمت علاقاته مع إخوانه في الإيمان، التي تهدف في النهاية إلى إيجاد المجتمع المسلم.
2- الأمر بلزوم الجماعة:
علمنا أن الإيمان بهذا الدين يقتضي ضرورة الانتماء إلى جماعة المسلمين، ومع ذلك جاءت الأوامر الشرعية مؤكدة ضرورة لزوم هذه الجماعة، وذلك:
أولاً: لأن النفوس تغفل كثيراً عن فهم واجباتها، كما أنها تتكاسل أحيانا عن أداء الواجب.
وثانياً: لأن التفلت من الجماعة وعدم الاهتمام بأمور المسلمين له خطره العظيم على حياة هذه الأمة في الدنيا والآخرة.
ولذلك لما أمرنا الله جل وعلا بالالتزام بهذا الدين العظيم الذي هو حبل الله المتين كان أمره بأن نلتزم به جميعاً ونهانا عن التفرق حيث يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . (آل عمران:103) .(30/16)
قال أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية: يعنى بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدينه الذي أمركم به وعهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله، ثم استدل على ذلك بما أخرجه عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- من طريقين أنه قال في هذه الآية: حبل الله الجماعة.
وفي هذه الآية دليل على أن لزوم جماعة المسلمين من ضرورات هذا الدين، ومما يوضح ضرورة لزوم جماعة المسلمين مع التمسك بأصول الدين ما أخرجه الإمام مالك وأحمد من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال وإضاعة المال، وكثرة السؤال " [2] .
وهذا صريح في أن المسلمين لن يحوزوا رضا الله جل وعلا عنهم إذا رضوا بالتفرق والانقسام ولم ينصحوا لولاة أمورهم بما ينجيهم وإياهم من المسئولية أمام الله تعالى وإن كانوا قد عبدوا الله وحده ولم يشركوا به شيئاً لأن ذلك من تحقيق توحيده.
وقد جاء الأمر صريحاً من رسوله الله صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة كما جاء في حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال: خطبنا عمر بالجابية. فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أوصيكم بأصحابي ... إلى أن قال: عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة [3] . فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن". رواه الإمام أحمد والترمذي وعبد الرزاق الصنعاني [4] .(30/17)
ولزوم الجماعة من أسباب التحلي بالأمانة والبراءة من الخيانة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يُغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لكل مسلم، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعاءهم محيط من ورائهم ". (أخرجه الإمام الدارمى) [5] .
وقوله: "يغل" بضم الياء وكسر الغين من الأغلال وهو الخيانة، ويروى بفتح الياء وكسر الغين من الغل وهو الحقد- ذكره ابن الأثير في النهاية- ولعل قوله: من الأغلال بمعنى الخيانة أقرب إلى معنى الحديث لأن المعنى أن هذه الخصال الثلاث لا يتصور أن تقع الخيانة فيهن من مؤمن صادق في إيمانه إذ أن الخيانة في خصلة من هذه الخصال تتنافى مع الإيمان.
وقد شدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير على من فارق الجماعة فاعتبره مخالفاً لهدى الإسلام وطريقه القويم، فقد أخرج الإمام أحمد من حديث أبى هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة والجمعة إلى الجمعة التي قبلها كفارة والشهر إلى الشهر الذي قبله كفارة إلا من ثلاث" قال: فعرفنا أنه من أمر حدث: إلا من الشرك بالله ونكث الصفقة وترك السنّة قال: قلنا يا رسول الله هذا الشرك بالله قد عرفناه فما نكث الصفقة وترك السنة؟ قال: أما نكث الصفقة فان تعطى رجلاً بيعتك ثم تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة" [6]
3- الالتزام بالإخوة الإِيمانية:(30/18)
أمر الله جل وعلا المسلمين جميعاً بالتآخي وشرع التعامل بينهم على أساس الاخوة في الله فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . (الحجرات: 10) ، فجعل الله تعالى الأمر بالإصلاح بين المؤمنين مرتباً على ما بينهم من الأخوة في الله، ذلك لأن شعور المسلم بأنه يتعامل مع أخيه يزيل ما في نفسه من الأخلاق السيئة كالحسد واللاثرة وسوء الظن، كما أن شعوره بأنه أخوه يمنعه من الاعتداء عليه ويوجب عليه نصرته، وفي هذا المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"0أخرجه الإمام مسلم [7] .
وإذا وجدت الأخوة الإسلامية فإن المسلمين سيجتمعون على هدف واحد ومنهج واحد وهذه هي الجماعة التي أمر الله جل وعلا بلزومها.
ومن أبرز ما يقوى الأخوة الإسلامية التعارف بين المسلمين وقد جعل الله سبحانه التعارف حكمة لتقسيم الناس إلى شعوب وقبائل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . (الحجرات: 13) . يعنى ليتم التعارف بينكم فتترتب عليه الصلة والمحبة لا التفاخر بالنسب والتباغض.
وقد شرع الله جل وعلا للمسلمين ما يقرب بعضهم من بعض ويكون وسيلة للتعارف بينهم فمن ذلك:
(أ) تبادل التحية:(30/19)
فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام واعتبره دافعاً إلى المحبة التي هي شرط الإيمان حيث يقول: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟. أفشوا السلام بينكم ". أخرجه الإمام مسلم. [8]
والسلام ليس على من نعرف فقط بل هو أول السبل إلى التعارف ولذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟. قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفات ومن لم تعرف". أخرجه الإمام البخاري ومسلم [9] .
فالسلام على من نعرف لتوثيق المحبة والأخوة، والسلام على من لا نعرف لإيجاد التعارف الذي هو مدخل الاخوة الإسلامية.
ومن أجل أن تتوثق الصلة بين المؤمنين وتتقوى روابط الجماعة بينهم أمرنا الله عز وجل برد التحية بأحسن منها فقال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . (النساء: 86) ، لأن الذي بدأ بالتحية قد تقدم بالفضل فينبغي لمن يرد عليه أن يبادله الفضل بالمبالغة في التحية.
(ب) التزاور بين المؤمنين:
لقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبادل الزيارات لأن ذلك يقوى الصلة، ويثبت الأخوة فقد بين صلى الله عليه وسلم الجزاء الأعظم للمتزاورين في الله حيث يقول: "إذا عاد الرجل أخاه أو زاره قال الله له: طبت وطاب ممشاك وتبوأت منزلا في الجنة". أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد [10] .
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ". أخرجه الإمام مالك في الموطأ [11] .
ففي هذه الأحاديث وغيرها حث المسلمين على مبادلة الزيارات بينهم حتى تتقوى الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي.(30/20)
وربما يكون الإخوان المتحابون نما الله متفرقين في البلاد فيصيبهم الكسل وتقعد بهم العوائق الدنيوية عن السفر من أجل زيارة إخوانهم فقد جاءت التوجيهات النبوية تبشرهم بما أعده الله لمن تحمل مشقة السفر لا لغرض من أغراض الدنيا بل لزيارة أخ له في الإسلام حيث أخرج الإمام مسلم من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟. قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تريها؟. قال: لا غير أنى أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك: بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " [12] .
وفي هذا رفع للهمم المريضة المتقاعسة عن المزيد من توثيق عرف الروابط الاجتماعية بين المتعارفين بتوثيق المحبة المتبادلة التي يثبتها ويرسخها في النفوس كثرة الزيارات فإنها من العوامل المهمة لبناء صرح الأخوة الإسلامية وحمايتها من التصدع والانهيار.
4- عمارة المساجد بطاعة الله تعالى:
فالمسجد هو مركز اجتماع أهل الحى بواسطته يتعارفون، وبتجدد اللقاء يتآلفون، وهو وسيلة من وسائل جمع شمل الأمة وتوثق رابطة الأخوة الإسلامية ثم هو بالتالي من دعائم تكوين الجماعة الإسلامية التي هي ضرورة من ضرورات هذا الدين.
وبواسطة المسجد يعرف المسلمون أحوال جيرانهم، فيتعرفون على أخبارهم، فمن مرض منهم عادوه وقدموا له ما يحتاج من المساعدة، ومن غاب منهم تفقدوا أحوال أسرته وقاموا بما كان يقوم به إذا حضر، ومن عليه دين فاعسر أو نزلت به نائبة واسوه بأموالهم حتى يزول عنه عسره.(30/21)
وبهذا يصبح الجيران في الحي الواحد كأنهم أسرة واحدة وبغير المسجد لا يستطيع الجيران أن يتعارفوا ولا أن يتآلفوا وبالتالي تسود في المجتمع الانانية والفردية فلا يجد الفقير والمريض من يمد إليه يد المساعدة ولا يأمن الإنسان على أهله إذا غاب عنهم لأنه ليس بينه وبين جيرانه ألفة ومودة.
وعلى هذا النحو تسير المجتمعات البعيدة عن الإسلام لأنها لا تملك المبادئ السامية التي توجد الإخاء والتكامل الاجتماعي.
وقد يضم الحى الواحد طبقات متفاوتة في الغنى والجاه ... وبالتالي تتفاوت درجاتها في مظاهر الحياة من مسكن ومركب وملبس، وهذه المظاهر تزيد من الفجوة بين الطبقات لأن من يسكن في القصور الشاهقة ويركب في المراكب الفخمة قد يتكبر على من بجواره من أصحاب المساكن المتواضعة والمعيشة البسيطة، وهؤلاء في نفس الوقت لا يحاولون التعرف على الكبراء لأنهم يرون أنهم طبقة أعلى منهم وبالتالي تنفصم الروابط الاجتماعية وتحصل الفجوة بين أفراد هذه الطبقات حيث تضعف الأخوة الإسلامية وتتضاءل دوافع التكامل الاجتماعي وبالتالي يختل الأمن في المجتمع وتكثر حوادث الاعتداء وتبقى بعض طبقات المجتمع في حالة شديدة من البؤس والشقاء.
ولكن بوجود المسجد تزول هذه الفوارق لأن الجميع يصفون صفاً واحداً خلف إمام واحد وليس لأحد أفضلية على أحد، ففي صلاة الجماعة في المسجد فرصة كبيرة للكبراء كي يتذكروا بأنه ليس باستطاعتهم في كل وقت أن يتعالوا على الضعفاء، وبالتالي يتضاءل ما في نفوسهم من التكبر عن الاجتماع مع من هم دونهم منزلة في الحياة الدنيا، كما أن في ذلك فرصة للفقراء كى يسموا بأنفسهم ويعلموا بأن الفقر لا يحول بينهم وبين الوقوف جنباً إلى جنب مع الأغنياء.(30/22)
ولذلك كانت صلاة الجماعة في المسجد تفضل صلاة الرجل بسبع وعشرين درجة كما أخرج الإمام البخاري من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". وفي رواية أخرى للبخاري: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً"، وفي هذه الرواية دليل على أن صلاة الجماعة لا يعتبر لها هذا الثواب إلا إذا كانت في المسجد [13] .
ومسجد الحي هو بداية التعارف والتآلف لأن مداومة اللقاء في جو المسجد الروحى والصلاة جماعة فيه من أقوى الروابط التي تربط بين جماعة المسلمين إضافة إلى ما يقوم به إمام المسجد من تذكير الجماعة بواجبهم في التآلف والتآخي وإصلاح ذات البين.
وهذا التعارف والتآخي مرحلة لتعارف أكبر وتآلف أشمل حيث يجتمع المسلمون في القرية الواحدة أو أهل جزء من المدينة يوم الجمعة في مسجد واحد، ومهمة خطيب الجمعة في هذا المجال أن يكمل ما بدأه المسلمون من التآخي في أحياء مختلفة ومساجد متعددة وذلك بالتركيز على معاني الأخوة الإيمانية ولزوم الجماعة الإسلامية ... حتى يخرج المسلمون من المسجد وهم يشعرون بأن لهم أَخوة في الله كثيرون ويكفي أنهم يرون منهم يوم الجمعة هذا الحشد الكبير.
إن المسلم يوم الجمعة ليس بإمكانه أن يتعرف على من في المسجد من الأمة ولكن يكفي شعوره بأن جميع من صلوا معه أخوة له في الإيمان وأن يشعر بأن هؤلاء ليسوا إلا نموذجاً واحداً لمجموعات كبيرة من إخوته في الله في سائر بقاع المعمورة.
إن موضوع التذكير بواجبات الأخوة الإسلامية والتركيز على لزوم الجماعة من أهم الموضوعات التي يجب على خطيب الجمعة أن يهتم بها لأنها تجسم الحكمة التي من أجلها شرعت صلاة الجمعة والجماعة.(30/23)
ونظراً لما لصلاة الجمعة من الأهمية البالغة في الإسلام فقد جاء التغليظ الشديد في وعيد تاركها كما أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر- رضي الله عنهما- أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين".
وهل أعظم غفلة ممن حرم نفسه من استماع الموعظة الأسبوعية الوحيدة التي فرض عليه سماعها وأداء الصلاة جماعة مع العدد الكبير من إخوانه المسلمين.
ثم تتجلى رابطة الجماعة الإسلامية بشكل آخر حيث يخرج المسلمون في صلاة العيد مرتين في العام خارج البلد.
ثم هناك الاجتماع السنوي الكبير حينما يفد الحجاج إلى بيت الله الحرام فإن فيه مجالاً كبيراً لتعارف المسلمين وتآلفهم وكم من تعارف وإخاء كان مبدؤه اللقاء في الحج ثم ينمو ويبقى بعد ذلك بالاتصال المتكرر.
وليت المسلمين الذين يحجون هذا البيت الحرام يدركون هذا المعنى السامي فيخططون للاستفادة الكاملة من الحج في هذا المجال فإنه من حكم الحج وأسراره.
وبهذه الاجتماعات المتكررة التي أمر الله بها جل وعلا عن طريق العبادات التي شرعت لتزكية النفوس وجمع شمل المسلمين تتكون الجماعة الإسلامية على مستوى الحي فالقرية فالأمة من جميع أقطار الإسلام، وبملازمة هذه العبادات والإدراك السليم لحكمة تشريعها تنمو جامعة الإسلام وتقوى ثم تؤتى ثمارها المطلوبة في حماية الإسلام والمسلمين ونشر الإسلام في ربوع هذه الأرض.
أثر الجماعة في قوة الأمة(30/24)
حينما تكون الأمة مجتمعة على هدف واحد وتسير صفاً واحداً فإن دولتها تكون قوية مهيبة الجانب ولا يطمع الأعداء في اقتطاع جزء منها، وحينما تتفرق إلى دويلات وتتعدد أهدافها يسهل على الأعداء إضعاف قوتها والاستيلاء على ما يريدون منها، هذا على مستوى الأمة، وكذلك على مستوى الأفراد، فالجماعة وإن كان فيهم بعض الضعفاء لهم من القوة والهيبة ما ليس للأفراد وإن كانوا أقوياء، وفي هذا المعنى يقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً - وشبك بين أصابعه- أخرجه الشيخان [14] فالبناء مكون من مجموعة من المواد المتناثرة التي يسهل على اللصوص اختطاف شيء منها ولكن حينما تجتمع هذه المواد وتدخلها يد الفن والتعمير تصبح قصراً شاهقاً يصعب اقتطاع جزء منه ويصبح له كيان يدهش الناظر ويعجب المتأمل.
وحينما كانت الأمة الإسلامية دولة واحدة لم يكن الأعداء يقدمون على الاستيلاء على أراضيها بالرغم من ضعف دولة الإسلام آنذاك وحينما استطاع الأعداء أن يقضوا على الخلافة الإسلامية هان عليهم الاستيلاء على أجزاء كثيرة من بلاد الإسلام.
ولقد وقف الأعداء حائرين زمناً طويلاً أمام وحدة هذه الأمة فلم يستطيعوا أن يقتطعوا منها شيئاً لأن هيبة الدولة الإسلامية واجتماع الكلمة كانت تقف سدا منيعا أمام كل محاولاتهم بالرغم مما كان يعتري وحدة الأمة الإسلامية من التصدع والضعف، ولكن اجتماع الكلمة مهما كانت نسبته من القوة والتماسك خير من الفرقة والخلاف.
أثر لزوم الجماعة في النصر على الأعداء
إن الجماعة المؤمنة حينما تكون صفاً متماسكاً وتواجه أعدائها وهى كتلة واحدة جديرة أن تظفر بنصر الله جل وعلا وأن تحول بين أعدائها ومحاولة تفتيت شملها وأضعاف قوتها.(30/25)
ذلك أنه مهما قل عددها وقلت عدتها فإنها قوية بتماسكها واجتماع كلمتها أمام أعدائها الذين مهما بلغ عددهم وقويت عدتهم فإنهم ضعفاء بتفرق كلمتهم واختلاف مقاصدهم، إذ أنه لا يمكن لجماعة على وجه الأرض أن يتآلف أمرها وتجتمع كلمتها بالمستوى الذي تكون عليه الجماعة الإسلامية ولا بمستوى يقرب منه، ذلك أن الذي ألف بين الجماعة الإسلامية هو الله جل وعلا والذي يؤلف بين الجماعات الأخرى هم البشر أنفسهم، ولا يمكن بحال أن يوضع تشريع الله جل وعلا في المقارنة مع تشريع البشر، بل إن مجرد التفكير في ذلك يعتبر انحطاطاً في التفكير وانقلاباً في المفاهيم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل البشر وأقدرهم على جمع الكلمة ما كان باستطاعته لولا وحي الله الذي يتنزل عليه أن يؤلف بين قلوب البشر: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . (الأنفال: 63) .
أضف إلى ذلك أن الهدف الذي من أجله جمع الله المؤمنين وشرع لهم الجهاد وهو ابتغاء رضا الله جل وعلا والسعادة في الدار الآخرة يدفع المؤمنين إلى التضحية بالأموال والأنفس لأن هذه التضحية هي الطريق الصحيح لبلوغ هذا الهدف، وكلما بالغ المؤمن في بذل ماله ونفسه في سبيل الله كان أسرع إلى بلوغ هذا الهدف السامي.
أما الجماعات الأخرى فان مقاصدها قريبة وأهدافها مقصورة على الحياة الدنيا والسبيل الأمثل للوصول إلى هذه الأهداف هو استبقاء الحياة لأطول فترة ممكنة حتى يتمتع الإنسان بثمرات انتصاره وبالتالي يقع الفشل والتراجع أمام إقدام الجماعة الإسلامية على بذل الأموال والأنفس في سبيل الله.(30/26)
وبينما نجد الجماعات الدنيوية تتنافس على الوصول إلى هذه الأهداف التي تفرض عليها الإحجام والتردد وتفرق الكلمة فإننا نجد أن الجماعة الإسلامية تتنافس في الوصول إلى هدف يفرض عليها الاقدام والتضحية واجتماع الكلمة.
ومن هنا نعلم أن أعداء المؤمنين مهما كثروا وقويت عدتهم فهم ضعفاء لدناءة مقاصدهم وتفرق كلمتهم. وإن أظهروا الاجتماع على حرب المسلمين: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} . (الحشر: 14) . والمسلمون مهما قلوا وضعف استعدادهم فهم أقوياء باتحاد هدفهم وسمو مقصدهم واجتماع كلمتهم ما داموا مؤمنين حقا بالإسلام.
وفي هذه الآية الكريمة أقوى رادع للمؤمنين عن التفرق واختلاف الكلمة لأنهم حينما يتفرقون لا يظفرون بحب الله جل وعلا والمحروم من الخير من حرم من محبة الله سبحانه وتعالى.
ولقد أثبت الله جل وعلا محبته للمؤمنين الذين يقاتلون أعداءهم صفا متماسكا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . (الصف: 4) .
وحينما يتفرقون تكثر الفجوات التى ينفد منها الأعداء إلى جسم الأمة الإسلامية فيسهل عليهم القضاء عليها خصوصاً إذا بلغ المسلمون من ضعف الإيمان إلى الحد الذي يخذل فيه بعضهم بعضا ويتيحون الفرصة للأعداء كي يقضوا عليهم.
عوامل تفريق الجماعة
وبعد أن عرفنا عوامل تقوية الجماعة الإسلامية فإن هناك أسباباً تضعف الجماعة أو تفرق شملها فمن هذه الأسباب:
أ- الدعوة إلى العصبية:(30/27)
علمنا مما مضى أن سر اجتماع المسلمين جميعاً في جماعة واحدة على مختلف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم هو كونهم جميعاً ينشدون الوصول إلى هدف واحد هو طلب رضوان الله عز وجل، ومعلوم أن الوصول إلى تحقيق هذا الدف يفرض عليهم الاجتماع والتآخي والتآلف، فإذا ما أوجدوا لأنفسهم مقاصد مخالفة وأهدافا متضاربة فإنهم تبعا لذلك يختلفون ويتناحرون وتنحل جماعتهم وبالتالي تضعف قوتهم وتذهب ريحهم.
ولقد أدرك أعداء الإسلام فعالية هذا السلاح المدمر فحاولوا إشعال نار الفتنة بين المسلمين منذ بزوغ شمس هذا الدين وقيام الجماعة الإسلامية، وأول من حاول تفريق جماعة المسلمين هم اليهود وذلك عند تكوين أول جماعة إسلامية في المدينة المنورة حيث كانوا يذكرونهم بحروبهم الجاهلية وعصبيتهم الممقوتة فمن ذلك ما حدث من أحد كبار اليهود حيث أمر شاباً منهم أن يعمد إلى مجلس الأنصار فيذكرهم بيوم بعاث آخر أيام حروبهم في الجاهلية وأن ينشدهم ما قيل فيه من الأشعار، فثارت بينهم حمية الجاهلية وتواعدوا للقتال في الحرة خارج المدينة ولما خرجوا للقتال علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم مع بعض الصحابة فأدركهم قبل أن يقتتلوا فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف بين قلوبكم ". فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. وقد ذكر ابن إسحاق هذه الرواية مطولة [15] .(30/28)
وهكذا أدركهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفرقوا وكان لهم من إيمانهم القوى ما غطى على نزعة الجاهلية، ولكن المسلمين بعد عصر الصحابة- رضي الله عنهم- قد استجابوا إما قليلاً وإما كثيراً لنداء العصبية الجاهلية فقامت بينهم بسبب ذلك الحروب الطاحنة التي أضعفتهم على مدى العصور وكان آخر ذلك الدعوة للقوميات التي شتت شمل الأمة حتى استطاع الأعداء بسبب ذلك أن يقضوا على الخلافة الإسلامية وأن يقسموا بلاد الإسلام إلى دويلات صغيرة.
2- انتشار الأخلاق السيئة في المعاملات:
وذلك فيما يتعلق بأفراد المجتمع في تعاملهم فيما بينهم، فمن الأخلاق السيئة التي تدمر جماعة الأمة الكذب والغيبة والنميمة وسوء الظن، فالكذب خلق ذميم يدل انتشاره في المجتمع على انحطاطه وانهيار تحصيناته الواقية من الرذائل.
فالتحرز من الكذب يقي المجتمع من الأخبار المختلقة التي يقصد من وراء اختلاقها وترويجها إفساد الأمة وإضعاف معنوياتها وقد تؤدي إلى التناحر والشقاق بين الأمة الواحدة.
والتحرز من الكذب ينتج معاملات سليمة لا غش فيها ولا خداع ولا تزوير، والتعامل النزيه كما أنه يقي المجتمع من التفكك الذي يحدثه التباغض والأثرة فإنه يعطي الأمة سمعة جيدة تجعل الأمم الأخرى تحترمها وتحاول تقليدها.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الإيمان عن الكذابين كما أخرج الإمام مالك عن صفوان ابن مسلم قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا [16] .(30/29)
والإسلام كما حرم الكذب فقد حرم عيب المؤمنين في حال غيبتهم وإن لم يشتمل ذلك على الكذب لأن كلام المغتاب حينما يبلغ من وقع عليه يؤثر على ما بينهما من رابطة الأخوة فيبدأ التفكك من داخل المجتمع، وأشد من ذلك ضرراً وأبلغ أثراً في تقطيع أوصال الأمة نقل كلام المسلمين في إخوانهم على وجه الإفساد بينهم.
ولذلك كثرت في الكتاب والسنة التحذيرات المنفرة من الغيبة والنميمة قال تعالى:
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} . فاعتبر جل وعلا الغيبة قتلاً للأمة فالذي ينتهك أعراض المسلمين إنما يقطع جسم الأمة، فليتصور أمته وهي أشلاء ممزقة فإنه في تمزيقها سهم وافر.
كما جعل الله جل وعلا الغيبة والنميمة من أخلاق أعتى الكفار وأعنفهم حيث قال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .
أمَا سوء الظن فهو الشرارة الأولى في إحراق حبل الأخوة الإسلامية لأن الإنسان قد يسمع من أخيه كلاما فيه احتمال الخير والشر فإذا خلا الإنسان إلى تفكيره بعد ذلك وسوس إليه الشيطان فقلل في فكره جانب الخير وضخم جانب الشر حتى يوقع بين المؤمنين ثم قد يبنى على سوء الظن هذا تصرفات أخرى حيث ينظر إليها من زاوية الشر فتقع بعد ذلك القطيعة بين أفراد المجتمع، والمجتمع مكون من الأفراد فإذا كثر التقاطع بينهم أثر ذلك على تماسك الجماعة وقوتها، ولذلك حذرنا الله جل وعلا من سوء الظن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . (الحجرات: 12) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". أخرجه الإمام مسلم [17] .
مظاهر الانتماء للجماعة.
إن الانتماء إلى جماعة الإسلام له مظاهر تبين صدق هذا الانتماء ومقدار قوته من ضعفه ومدى فعاليته في المجتمع فمن ذاك:(30/30)
1- طاعة الإمام المسلم في الحدود التي أوجبها الله تعالى وذلك لأن المجتمع لا ينتظم أبداً بغير طاعة ولي الأمر ومن يوليهم نوابا عنه.
2- الالتزام بأنظمة المجتمع التي تنبثق من الإسلام أو التى يرى علماء الدين أنها توافق الإسلام ولا تتنافي مع تشريعاته الحكيمة، إذ أن التمرد على هذه الأنظمة أو استغلال غفلة الرقباء على تنفيذها يحدث خللا في المجتمع فيضعف الشعور بالمسئولية ويسود الرعاع من الناس الذين لا يحاولون فهم هذه الأنظمة ولا يراعون حرمتها، وبذلك تسود الفوضى ويعم الفساد في الأرض.
3- الاهتمام بأمور المسلمين فلا يكون المسلم ملتزماً بالجماعة حتى يهتم بأحوال إخوانه المسلمين في جميع بقاع الأرض ويشعر بمشاعرهم فيفرح لفرحتهم ويغتم إذا حل بهم مكروه ويشاركهم في مصائبهم فيبذل لهم من نفسه وماله ويكثر من الدعاء الخالص لهم حتى يزول كربهم وتصلح أحوالهم.
فالذين يعيشون حياتهم وليس لهم صلة بإخوانهم المسلمين في بقاع الأرض فلا يسألون عن أخبارهم ولا يهتمون بها إذا سمعوا عنها ولا يفرحون لانتصار المسلمين ولا يغتمون لهزيمتهم ولا يحاولون المشاركة في نجدتهم بما استطاعوا ... هؤلاء مقصرون في لزوم جماعة المسلمين وإن كانوا ملتزمين بالإسلام في بعض تشريعاته.
وبعد:
فهذه لمحات موجزة أردت فيها أن أسلط الأضواء على هذا الموضوع الهام من باب التذكير بالواجب علينا جميعاً من أجل أن نخرج من هذا الاجتماع وقد علمنا تكليفاً كلفنا به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نحو لزوم جماعة المسلمين ولم أرد أن يكون بحثاً علمياً وافياً نحو هذا الموضوع فليسر هذا المجال مما يسمح بمثل هذا البحث والله وحده المستعان فهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير (1/259) .(30/31)
[2] مسند أحمد (2/ 377) ، موطأ مالك، كتاب الكلام (ص990) .
[3] بحبوحة الجنة يعني وسطها، يقال تبحبح إذا تمكن وتوسط المنزل ـ النهاية.
[4] مسند أحمد (1/26) ، سنن الترمذى: كتاب الفتن باب رقم (7) ، المصنف رقم (20710) .
[5] سنن الدارمى (ص76) .
[6] مسند الإمام أحمد: (/506)
[7] صحيح مسلم، كتاب البر حديث رقم: (32) .
[8] صحيح مسلم، كتاب الإيمان حديث رقم: (93) .
[9] صحيح البخاري، كتاب الإيمان حديث رقم: (28) ، صحيح مسلم، كتاب الإيمان حديث رقم (63) .
[10] الأدب المفرد ص (96) رقم: (3510) .
[11] الموطأ، كتاب الشعر رقم: (16) .
[12] صحيح مسلم: كتاب البر رقم: (38) .
[13] صحيح البخاري: كتاب الصلاة حديث رقم: (645-647) .
[14] صحيح البخاري: كتاب الصلاة رقم: (481) ، صحيح مسلم: كتاب البر رقم: (65) .
[15] سيرة ابن هشام: (2/396) ، تفسير الطبري: (7/56) .
[16] الموطأ: كتاب الكلام رقم: (19) .
[17] صحيح مسلم: كتاب البر رقم: (28) .(30/32)
فقه السُّنّةِ:
صَلاة الجَمَاعَة
للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
الرخصة في إعادة الجماعة لمن صلاها منفردا:
1- حديث أبى ذر الغفاري:
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، أو قال: يؤخرون الصلاة عن وقتها. قلت: ما تأمرني؟. قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة" [1] .
وفي رواية مسلم: عن أبي العالية البراء قال: أخر زياد الصلاة، فأتاني عبد الله بن الصامت، فألقيت له كرسيا فجلس عليه، فذكرت له صنع زياد فعض على شفتيه، وضرب على فخذي، وقال: إني سألت أبا ذر كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك، وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة لوقتها فما أدركت معهم فصل، ولا تقل إني قد صليت فلا أصلى".
قال النووي: وفيه دليل على أن الإمام إذا أخر الصلاة عن أول وقتها، يستحب للمأموم أن يصليها في أول الوقت منفرداً، ثم يصليها مع الإمام. فيجمع فضيلتي أول الوقت والجماعة.
2- حديث ميمون الأودي:
قال: قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلينا، قال: فسمعت تكبيره مع الفجر، رجل أجش الصوت قال: فألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتا. ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده، فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟ قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: صل الصلاة لميقاتها، واجعل صلاتك معهم سبحة [2] . . سبحة: أي نافلة. أجش الصوت: أي غليظ الصوت بغنة0(30/33)
وقد روى مثل هذا الأسود، وعلقمة، عن ابن مسعود في سياق أطول من هذا وهو الآتي.
وعمرو بن ميمون الأودي أبو عبد الله، ويقال أبو يحي، مخضرم مشهور وثقه ابن معين، والنسائي.
وهذا الحديث لم أجد من أخرجه غير أبي داود.
3- حديث ابن مسعود:
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم ستدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فان أدركتموه فصلوا الصلاة لوقتها وصلوا معهم، اجعلوها سبحة".
رواه النسائي وابن ماجه [3] من حديث أبي بكر بن عياش عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود. ورواه مسلم [4] من حديث إبراهيم عن الأسود، وعلقمة قالا: أتينا عبد الله بن مسعود في داره في سياق أطول من الحديث المذكور أعلاه.
وأما قول المنذري: أخرج البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي عمرو، سعد ابن إياس الشيباني عن ابن مسعود فهو في سياق آخر.
4- حديث محجن:
قال: أنه كان في مجلس مع النبي صلي الله عليه وسلم فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما منعك أن تصلي مع الناس، ألست برجل مسلم؟ ". قال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذ جئت المسجد وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت".
رواه مالك في الموطأ، والنسائي، وأحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك [5] ، بطرق عن زيد بن أسلم، عن بسر بن محجن، عن أبيه.
قوله: بسر: بضم الموحدة، وسكون المهملة، كذا قال مالك في روايته عن زيد بن أسلم. وقال الثوري عن زيد بن أسلم عن بشر- بكسر الموحدة، وبالشين المعجمة. والصواب ما قاله مالك. نص على ذلك أبو نعيم، وابن عبد البر، وابن حبان، وغيرهم. وهكذا رواه أحمد في مسنده عنه أيضا.(30/34)
وبسر هذا تابعي مشهور، جزم بذلك البخاري والجمهور، وذكره البغوي وغيره في الصحابة. وأخرجوا من طريق ابن إسحاق، عن عمران بن أبي أنس، عن حنظلة بن علي، عن بسر بن محجن، قال: صليت الظهر في منزلي ثم خرجت بإبل لي لأضربها فمررت برسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يصلي في مسجده ... الخ. ذكره الحافظ في الإصابة [6] ، في القسم الرابع وهو خاص بمن ذكر في الصحابة علي سبيل الوهم والغلط. ولذا عقب بعد ذكر الإسناد بقوله: وقد سقط من الإسناد قوله عن أبيه.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح. وقال الذهبي: تفرد عن محجن ابنه. ولكن عرفت أن ابن محجن وهو بسر من التابعين الثقات. فلا يضر تفرده.
5- حديث يزيد بن الأسود:
قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟. فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو داود الطيالسي، وأحمد، وابن أبي شيبة، والحاكم [7] بطرق عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. قال الترمذي حسن صحيح.
ونسب الحافظ في التلخيص [8] ، لابن حبان والدارقطني أيضا، ونقل تصحيحه عن ابن السكن ثم قال: قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، وهو جابر، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. إلا أن الحافظ استبعد هذا الطعن. فقال: يعلى بن عطاء من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى، أخرجه ابن مندة في المعرفة من طريق بقية، عن إبراهيم بن ذي حماية، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر. انتهى.(30/35)
أقول: بقية وهو ابن الوليد والمعروف أنه مدلس، إلا أنه صرح بالسماع في رواية الدارقطني [9] عن إبراهيم.
ثم تواتر هذا الحديث عن يعلى بن عطاء. قال الحاكم [10] روي عنه شعبة، وهشام بن حسان، وغيلان بن جامع، وأبو خالد الدالاني، وأبو عوانة، وعبد الملك بن عمير، ومبارك ابن فضالة، وشريك بن عبد الله، وغيرهم، وقد احتج مسلم بيعلى بن عطاء، انتهى. ووافق علي ذلك الذهبي. ويبدو من هذا أن عبد الملك بن عمير روى مرة عن جابر مباشرة، ومرة عن يعلى بن عطاء عن جابر.
وعبد الملك هذا رمى بالاختلاط لكبر سنه لأنه عاش مائة وثلاث سنين. وأخرج له الشيخان من رواية القدماء عنه في الاحتجاج، ومن رواية بعض المتأخرين عنه في المتابعات.
6- حديث يزيد بن عامر:
قال: جئت والنبي صلي الله عليه وسلم في الصلاة فجلست، ولم أدخل معهم في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم فرأى يزيداً جالساً فقال: ألم تسلم يا يزيد. قالت: بلى يا رسول الله قد أسلمت. قال: فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم. قال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم. فقال: إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم، وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة، وهذه مكتوبة، رواه أبو داود [11] .
قال النووي في الخلاصة: إسناده ضعيف، نقل عنه الحافظ الزيلعي في نصب الراية [12] ، ولم يبين موضع الضعف. وبيّن ذلك الحافظ في التهذيب، فقال: فيه نوح بن صعصعة حجازي جعله الدارقطني مجهولا، لأنه لم يرو عنه سوى سعيد بن السائب الطائفي ولم يوثق. وقال في التقريب: هو مستور.
وقد ذهب البعض إلى أن يزيد بن الأسود، ويزيد بن عامر رجل واحد.
ومنهم من قال: قصة محجن شبيهة بقصة يزيد بن عامر ليتسنى له تضعيف قصة محجن، لأن في قصة يزيد: نوح بن صعصعة ضعيف.
7- حديث أبي أيوب الأنصاري:(30/36)
سأل رجل من بني أسد بن خزيمة أبا أيوب الأنصاري، فقال: يصلى أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلي معهم، فأجد في نفسي من ذلك شيئا. فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فذلك له سهم جمع. رواه أبو داود مرفوعا، ومالك موقوفا، والبيهقي بوجهين [13] ، قال المنذري: فيه رجل مجهول.
وهو الصواب فإني لم أجد من سمى هذا الرجل من بني أسد بن خزيمة. قوله: سهم جمع: أي يضعف له الأجر فيكون له سهمان منه قاله ابن وهب وقال غيره: جمع هنا أي الجيش كقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} . قال بن عبد البر: أي له أجر الغازي في سبيل الله. والأول أشبه بالصواب. وقد أوصى المنذر بن الزبير لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان سهم جمع، فسئل عن ذلك فقال: نصيب رجلين.
هذه الأحاديث تدل علي جواز إعادة الصلاة بالجماعة لمن صلاها في منزله منفردا. وهو أمر متفق لدى جمهور العلماء على سبيل الاختيار والإيثار لإدراك فضيلة الجماعة.
وقد خالفه في ذلك بعض من لا يعتد بقولهم. وكانت حجتهم حديث ابن عمر مرفوعا "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ".
رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، والدارقطني، وابن حبان، وبن أبي شيبة [14] . كلهم بطرق عن عمرو بن شعيب، عن سليمان بن يسار مولى ميمونة. وسياق الحديث: يقول سليمان، أتيت علي ابن عمر وهو بالبلاط، والقوم يصلون في المسجد، قلت ما يمنعك أن تصلي مع الناس، أو القوم؟. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ".
قال المنذري: وفي إسناده عمرو بن شعيب، وقد تقدم الكلام عليه، وهو محمول على صلاة الاختيار، دون ماله سبب، كالرجل يصلي ثم يدرك جماعة فيصلي معهم. وقد كان صلى ليدرك فضيلة الجماعة، جمعا بين الأحاديث.(30/37)
أقول: إن النقاد اتفقوا على أن عمرو بن شعيب إذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار مولى ميمونة، أو عروة، فهو ثقة عن هؤلاء. نص على ذلك إسحاق بن منصور، ويحي بن معين وغيرهما.
وقال ابن حبان: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة يحتج بخبره إذا روى عن غير أبيه [15] . وقد صحح النووي إسناد هذا الحديث وذكروا عدة تأويلات، منها:
(1) المنع من أداء الصلاة مرتين اختيارا من غير سبب.
(2) المنع لمن صلى الفرض مرتين بنية الفرض. وهو تأويل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فإنهما قالا: أن يصلى الرجل صلاة مكتوبة عليه، ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها علي جهة الفرض، وأما من صلى الثانية مع الجماعة علي أنها نافلة اقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة، والثانية نافلة فلا إعادة حينئذ. كذا نقل الشيخ عبيد الله المباركفوري [16] .
(3) يحمل حديث ابن عمر على من صلى بالجماعة في المرة الأولى، والأحاديث الأخرى على من صلى منفردا. والحمل على هذا واجب لما روى مالك في الموطأ [17] عن نافع عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال: إني أصلي في بيتي ثم أدرك الصلاة مع الإمام فأصلي معه؟. قال: نعم. قال: فأيهما أجعل صلاتي؟. قال ابن عمر: ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله.
قال البيهقي: فهذا يدل على أن ما رواه عنه سليمان محمول على ما إذا صليت في جماعة [18] ، وقال السيوطي: وإلى هذا التأويل أشار المصنف (أي النسائي) في الترجمة (وهي سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة) وبوب أبو داود بلفظ: إذا صلى جماعة، ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة؟
فكأن ابن عمر خص النهي الوارد في حديثه لمن صلى الأولى بالجماعة فلا يعيد، وأما من صلى الأولى منفردا فلا حرج في إعادتها بالجماعة.
مذاهب العلماء في الصلوات التي تجوز إعادتها:(30/38)
الأول: تجوز إعادة الصلوات الخمس:
وبه قال الشافعي وأحمد، واستدلوا في ذلك بعموم الأحاديث الواردة في الباب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام فليصل معه. فلم يستثن صلاة دون صلاة. وكذلك الصلوات التي لها سبب لا يدخل فيها الكراهة.
قال النووي في شرح مسلم [19] معلقا على حديث أبي ذر:"وفي هذا الحديث أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب كباقي الصلوات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بإعادة الصلاة، ولم يفرق بين صلاة، وصلاة. وهذا هو الصحيح في مذهبنا. ثم قال: ولنا وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر لأن الثانية نفل، ولا تنفل بعدهما، ووجه أنه لا يعيد المغرب لئلا تصير شفعا وهو ضعيف".
وقال في شرح المهذب [20] وفي وجه شاذ يعيد الظهر والعشاء فقط "ثم قال:"لما والمذهب استحباب الإعادة مطلقا. ومن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد، ونقل أنه ظاهر نصه في الجديد، والقديم، وصححه أيضا القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والماوردي، والمحاملي، وابن الصباغ، والبغوي، وخلائق كثيرون لا يحصون، ونقله الرافعي عن الجمهور: هذا هو المذهب الصحيح عند الشافعي وينبغي ذكر هذا الرأي عند الإطلاق. وأما أحمد فقد قال ابن قدامة عنه في المغني [21] : إن من صلى فرضه ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة استحب له إعادتها، أي صلاة كانت بشرط أن تقام وهو في المسجد، أو يدخل المسجد وهم يصلون وهذا قول الحسن والشافعي وأبي ثور.
وسئل الإمام أحمد عن إعادة المغرب: فقال: نعم إلا أنه يشفع. ونقل ابن قدامة عن الشافعي مثله ودليله في ذلك ما رواه صلة، عن حذيفة أنه لما أعاد المغرب قال: ذهبت أقوم في الثالثة فأجلسني. (وهذا يحتمل أنه أمره بالاقتصار على ركعتين لتكون شفعا، ويحتمل أنه أمره بالصلاة مثل صلاة الإمام) .(30/39)
ثم قال ابن قدامة:"إن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر، فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها لئلا يفارق إمامه قبل إتمام صلاته "انتهى.
أقول: هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف [22] وابن أبي شيبة [23] عن الثوري عن جابر، عن سعيد بن عبيد، عن صلة بن زفر العبسي.
وجابر هذا هو ابن يزيد بن الحارث الجعفي. وقال الحافظ: ضعيف، وصلة بن زفر من الثقات.
وروى ابن أبي شيبة أيضا عن علي أنه قال: يشفع بركعة يعني إذا أعاد المغرب [24] . وفيه: الحارث الأعور وهو كذاب.
وذكر بعض الآثار الأخرى من التابعين وأتباعهم.
الثاني: يكره المغرب فقط وهو قول الإمام مالك:
واستدل في ذلك بأثر ابن عمر، رواه عن نافع عنه قال: من صلى المغرب، أو الصبح، ثم أدركها مع الإمام فلا يعد لهما [25] ورواه [26] عن ابن جريح عن نافع. ثم قال مالك في الموطأ أيضا: "ولا أري بأسا أن يصلى مع الإمام من كان يصلي في بيته إلا صلاة المغرب فإنه إذا أعادها كانت شفعا" انتهى.
وقد علل محمد بن الحسن عدم إعادة المغرب بأن الإعادة نافلة، ولا تكون النافلة وترا.
قال ابن عبد البر: هذه العلة أحسن من تعليل مالك.
وكان أبو قلابة أيضا يكره إعادة المغرب. ذكره عبد الرزاق في المصنف. وأما ابن قدامة فنقل عن مالك إعادة المغرب إن صلى وحده، وعدم الإعادة إذا صلاها بالجماعة.
وهذا يخالف ما رواه الأئمة المالكية. ففي المدونة [27] " إذا دخل الرجل المسجد، وقد صلى وحده في بيته فليصل مع الناس إلا المغرب فإنه إن كان قد صلاها ثم دخل المسجد فأقام المؤذن صلاة المغرب فليخرج "ومثله في حاشية الدسوقي [28] وفي شرح الزرقاني على الموطأ [29] .
الثالث: لا يعيد من الصلوات إلا الظهر والعشاء:(30/40)
وهو رأي الإمام أبي حنيفة وصاحبيه. والضابط في ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار [30] "كل صلاة يجوز التطوع بعدها فلا بأس من إعادَتها على أنها نافلة له، غير المغرب، لأنها إن أعيدت كانت تطوعا، والتطوع لا يكون وترا، إنما يكون شفعا". ثم قال: واحتجوا في ذلك بما تواترت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. ثم قال: وهذه ناسخة (لأحاديث الباب) .
واستدل الشيخ ابن الهمام في شرح فتح القدير [31] بحديث رواه الدارقطني عن ابن عمر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في أهلك، ثم أدركت الصلاة فصلها إلا الفجر والمغرب ".
قال عبد الحق: تفرد برفعه سهل بن صالح الأنطاكي وكان ثقة. وإذا كان كذلك فلا يضر وقف من وقفه لأن زيادة الثقة مقبولة. وإذا ثبت هذا فلا يخفى وجه تعليل إخراجه الفجر، بما يلحق به العصر. انتهى كلامه.
ولم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني في مظانه، وكذلك لم أقف على من رفعه في الكتب، وقد سبق ذكره موقوفا على ابن عمر عند مالك.
ثم ظفرت بكلام الشيخ عبيد الله المباركفوري في المرعاة [32] أنه نسب الوهم إلى الملا علي القاري في المرقاة لأنه أيضا ممن نسب هذا الحديث إلى الدارقطني مرفوعا ونص المباركفوري: "لم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني لا مرفوعا، ولا موقوفا، والظاهر أنه من وهم القاري ".
وأما سهل بن صالح الأنطاكي هذا فهو أبو سعيد البزار قال فيه أبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ.
وأما صلاة المغرب: ففي الهداية "في ظاهر الرواية التنفل بالثلاث مكروه، وفي جعلها أربعا مخالفا لإمامه (قال الشيخ ابن همام) احتراز عما روي عن أبي يوسف أنه يدخل معه ويتمها أربعا ".(30/41)
وحديث يزيد بن الأسود متأخر عن أحاديث النهي عن الصلوات في الأوقات المكروهة بالتأكيد، لوقوعه في حجة الوداع، ثم فيه نص صريح بصلاة الصبح.
قال الخطابي: "وظاهر الحديث حجة على جماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه يقول:" إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام فليصل معه" ". ولم يستثن صلاة دون صلاة. ثم قال: فأما نهيه صلى الله عليه وسلم بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، فقد تأولوه على وجهين:
أحدهما: أن ذلك على معني إنشاء الصلاة ابتداء من غير مناسب، فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة، فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة.
والوجه الآخر: أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن الأسود متأخر لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. وفي قوله صلى الله عليه وسلم "أنها نافلة" دليل على صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. انتهى [33] .
وقال السندي معلقا على حديث جابر بن يزيد بن الأسود في حاشية النسائي [34] "هذا تصريح في عموم الحكم في أوقات الكراهة أيضا، ومانع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة لاتفاقهم علي أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر ". وقال: "ولا يمكن أن يتوهم نسخ هذا الحكم لكون ذلك في حجة الوداع ".
وقد زعم بعض العلماء أن في حديث يزيد بن الأسود اضطرابا لا يصلح أن يكون حجة في الباب وملخص قوله: أنه ورد في كتابي الآثار لمحمد وأبي يوسف، وفي كتابي البدائع والمبسوط وغيرهما أن تلك الحادثة كانت في صلاة الظهر.
ولكن الذي يبدو من دراسة هذه الأحاديث أن القصة التي وقعت في صلاة الظهر هي قصة بسر بن محجن الدئلي كما في بعض الروايات(30/42)
فقد روى الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار [35] بطريق ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظِي قال: ثنا سليمان بن بلال قال ثنا زيد بن أسلم، عن بسر بن محجن الدئلي عن أبيه قال: صليت في بيتي الظهر والعصر الخ
وروي أحمد في مسنده [36] بسياق آخر قال ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال حدثني عمران بن أبي أنس، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن رجل من بني الديل قال: صليت الظهر في بيتي، ثم خرجت بأباعر لي لأصدرها، إلي الراعي، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت فلم أصل معه، فلما أصدرت أباعري، ورجعت ذكر ذلك لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال لي: ما منعك يا فلان أن تصلي معنا حين مررت بنا قال: فقلت يارسول الله إني كنت قد صليت في بيتي قال: وإن"
قال الهيثمي في مجمع الزوائد، رواه أحمد ورجاله موثقون [37] .
وأما من اعتذر عن إعادة صلاة المغرب بحجة أنها تطوع، والتطوع لا يكون وترا. فيجاب أن صلاة الوتر من باب التطوع وهو نظير في الموضوع. والشارع لم يخصص شيئا من عموم قوله فتخصيص شيء بالقياس بدون حاجة لا يجوز والله تعالى أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: أي الصلاتين تكون مكتوبة؟.(30/43)
القول الأول: أن الأولى هي المكتوبة. وبه قال الجمهور من الفقهاء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وأظهر القولين عند الشافعي كما نص على ذلك الإمام النووي في روضة الطالبين [38] وشرح المهذب [39] وشرح مسلم [40] وذكر أقوال العلماء الشَافعية في هذه المسألة عند شرحه لحديث أبي ذر في صحيح مسلم [41] فبلغت أربعة وهي: أن الفرض هي الأولى للحديث ولأن الخطاب سقط بها، والثاني: أن الفرض أكملها، والثالث كلاهما فرض، والرابع الفرض أحدهما علي الإيهام، يحتسب الله تعالى بأيهما شاء وأما الحنفية فلا خلاف عندهم في فرضية الأولى ولذا وقع الخلاف في إعادة صلاتي العصر والفجر لأجل النهي عن التطوع بعدهما.
واستدل هؤلاء بالأحاديث التي مر ذكرها وهي حديث أبي ذر، وأبي مسعود، ويزيد ابن الأسود، ومحجن الدئلي وغيرها. لأنه وقع التصريح في هذه الأحاديث بأن الثانية تكون نافلة.
قال ابن قدامة: ولأن الأولى وقعت فريضة، وأسقطت الفرض، بدليل أنها لا تجب ثانيا، وإذا برئت الذمة بالأولى، استحال كون الثانية فريضة، وجعل الأولى نافلة. قال حماد، وقال إبراهيم: إذا نوى الرجل صلاة، وكتبتها الملائكة فمن يستطيع أن يحولها فما صلى بعدها فهو تطوع [42] .
القول الثاني: الثانية هي مكتوبة، إذا صلى الأولي فرادي. وهو قول الشافعي في القديم. واستدل له بحديث يزيد بن عامر الذي وقع فيه التصريح بأن الثانية مكتوبة.
يجاب عن هذا بان حديث يزيد بن عامر ضعيف وسبق بيان ذلك والشيخ الألباني صحح هذا الحديث في حاشية المشكاة [43] مع وجود رجل مستور فيه، وهو نوح بن صعصعة. وحديث يزيد بن الأسود أولى منه وأثبت.(30/44)
وحاول الشيخ الشوكاني الجمع بين الحديثين فقال في نيل الأوطار [44] : "وعلي فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن، بحمل حديث الباب على من صلى الصلاة الأولى في جماعة، وحمل هذا على من صلى منفردا كما هو الظاهر من سياق الحديثين".
إلا أنه جمع بعيد فإن من صلى الأولى منفردا بنية الفرض كيف تنقلب إلي النافلة وقد انتهى منها.
ثم يجب أن ينتهي هذا الخلاف فإن الحديث ضعيف والقول الراجح عند الشافعي هو أن الأولى هي المكتوبة.
الثالث: التفويض إلى الله سبحانه وتعالى في قبول ما شاء من الصلاتين. وهو المشهور من مذهب المالكية. واستدل هؤلاء بأثر ابن عمر- رضي الله عنه- رواه مالك في الموطأ [45] عن نافع، أن رجلا سأل عبد الله بن عمر: فقال: إني أصلي في بيتي ثم أدرك الصلاة مع الإمام أفأصلي معه؟. فقال عبد الله بن عمر: نعم، فقال الرجل: أيهما أجعل صلاتي؟. فقَال له ابن عمر: أو ذاك إليك؟. إنما ذلك إلى الله يجعل أيهما شاء.
وذكر الزرقاني: روى ابن أبي ذئب، عن نافع، أن ابن عمر قال: إن صلاته هي الأولى. وقوله هذا مخالف لرواية مالك. فكأن ابن عمر شك في أول الأمر، ثم بان له أن الأولى هي الفرض فرجع من شكه إلي اليقين، ولا يقال عكس هذا. فمن المحال أن يرجع إنسان من اليقين إلى الشك. إلا أن المذهب المختار عندهم هو هذا. قال ابن عبد البر: حسب النظر الفقهي الدنيوي الفريضة هي الصلاة الأولى، وأما باعتبار الأخرى فالأمر مفوض إلى الله تعالى- ولهذا لا يجوز لمن صلى في بيته ثم أتى المسجد، فأقيمت الصلاة أن يتقدمهم لأنه لا يدري أيتهما صلاته.
وهذا هو مذهب المدونة وعليه العلماء المالكية راجع التفاصيل في حاشية الدسوقي [46]
وبعد هذه الدراسة المستفيضة لا يشك أحد في أن الفرض هو الأولى وتقع الثانية نافلة. والله تعالى أعلم بالصواب.
الخامس: حضور النساء في الجماعة:(30/45)
لا خلاف بين العلماء بأن حضور النساء وشهودهن الجماعة ليس فرضا لما صح من الآثار بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن في حجرهن ولا يخرجن إلى المسجد.
واختلفوا في أي الأمرين يكون أفضل لهن أصلاتهن في بيوتهن، أم في المساجد في الجماعات؟.
القول الأول: أن الأفضل حضورهن في الجماعات في المساجد بناء على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة". وهو مذهب أهل الظاهر. قال الإمام ابن حزم: وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه النساء من غيرهن [47] .
وقد قال قبل هذا: فإن استأذن الحرائر، أو الإماء، بعولتهن أو ساداتهن في حضور الصلاة في المسجد ففرض عليهم الإذن لهن، ولا يخرجن إلا تفلات غير متطيبات ولا متزينات فإن تطيبن أو تزين لذلك، فلا صلاة لهن، ومنعهن حينئذ فرض [48] .
القول الثاني: إن صلاتهن في البيت أفضل وهو مذهب الجمهور من الفقهاء. وقد وردت في ذلك عدة أحاديث منها:
(1) إذا استأذن نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن. (رواه الجماعة إلا ابن ماجة عن ابن عمر) ، وفي لفظ عند أحمد وأبي داود:"لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلي المسجد وبيوتهن خير لهن " هذه الزيادة أخرجها أيضا ابن خزيمة في صحيحه.
(2) عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن". رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني في الكبير وفيه: ابن لهيعه وفيه كلام [49] .(30/46)
(3) عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إني أحب الصلاة معك". قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". قالت:"فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيتها وأظلمه فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل". رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري وثقه ابن حبان.
(4) حديث ابن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". رواه أبو داود، وسكت عليه المنذري، قال النووي إسناده علي شرط مسلم [50] . المخدع: البيت الصغير داخل البيت الكبير.
هذه هي بعض الأحاديث التي رويت في هذا الموضوع وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد الأحاديث الأخرى والآثار من الصحابة.
استدل جمهور الفقهاء بهذه الأحاديث بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد إلا أنه لم يكره أحد العلماء حضورهن الصلوات بالجماعات لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن للنساء في الحضور في صلاة الجماعة. وكانت النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحضرن الجماعة.
وقد استدل الإمام البخاري بحديث عائشة: اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشاء حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان ... كانوا حضورا في المسجد وبوب على هذا الحديث بقوله: باب خروج النساء إلي المسجد بالليل والغلس.(30/47)
وقال العلماء إنهن إذا طلبن الإذن من أزواجهن للخروج إلى المسجد فعلى الأزواج أن لا يمنعوهن، وقد شدد البعض فقال يجب عليهن إذنهن للخروج وهو مخالف للنص وإلا لا معنى للإذن إذا. إلا أنههم شرطوا أن لا يخرجن متطيبات فعلى الرجال أن يمنعوا النساء إذا خرجن متطيبات.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة". رواه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد [51] .
وقد أحدثت النساء في زمن عائشة- رضي الله عنها- ما أزعجته، فقالت:"لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل". رواه الشيخان. قال الحافظ ابن حجر: وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقا وفيه نظر. إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم إنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت:" لو رأى لمنع", فيقال عليه: لم ير، ولم يمنع، وإن كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. وقال: وأيضا فالأحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فان تعين المنع فليكن لمن أحدثت [52] .
قال الشوكاني: وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلي المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلي الفتنة من طيب أو حلى أو أي زينة واجب علي الرجال، وأنه لا يجب مع ما يدعو إلي ذلك ولا يجوز، ويحرم عليهن الخروج لقوله: "فلا تشهدن "وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد. [53]
وقوله: واجب علي كل الرجال فيه نظر لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". نهي تنزيه لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب فلا تتركه للأفضلية. قال به النووي [54] . والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------(30/48)
[1] رواه مسلم: (5/147مع النووي) وأبو داود (1/248مع المنذري) والترمذي (1/524مع التحفة) والنسائي (2/75) وابن ماجه (1/398) كلهم عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2] رواه أبو داود: (1/248) قال المنذري: حسن.
[3] النسائي: (2/75) وابن ماجه: (1/398) .
[4] مسلم: (5/15-16) .
[5] مالك: (1/405مع الزرقاني) والنسائي (2/112) وأحمد (4/34) والحاكم (1/244)
[6] الإصابة (1/181) .
[7] أبو داود (1/299) والترمذي (2/3) وأبو داود الطيالسي (1247) وأحمد (4/160) وابن أبي شيبة (2/274) والحاكم (1/244-245) .
[8] التلخيص: (2/29) .
[9] الدارقطني: (1/412) .
[10] المستدرك: (1/245) .
[11]
(1/300-301) .
[12]
(2/150) .
[13] أبو داود مع المنذري، الطبعة الباكستانية. (1/ 301) ومالك (1/408) والبيهقي (2/ 300) .
[14] أبو داود (1/301) والنسائي (2/114) ، وأحمد (2/ 19، 41) والدا رقطني (1/ 415) ، وابن حبان (موارد الظمآن 121) وابن أبي شيبة (2/276) .
[15] انظر تهذيب التهذيب (8/ 49) ونصب الراية (2/148) .
[16] انظر المرعاة: (2/ 140) .
[17] الموطأ: (1/406) .
[18] انظر التلخيص للحافظ (2/29) ، وزهر الربى للسيوطي (2/144مع سنن النسائي) .
[19] شرح النووي: (5/148) .
[20] شرح المهذب: (4/121) .
[21] المغني (2/92) .
[22] مصنف عبد الرزاق: (2/ 422) .
[23] ابن أبي شيبة: (2/276) .
[24] المصدر السابق.
[25] الموطأ: (1/408) .
[26] مصنف عبد الرزاق: (2/422) .
[27] المدونة: (1/ 87) .
[28] حاشية الدسوقي: (1/ 296) .
[29] شرخ الزرقاني: (1/408)
[30] شرح معاني الآثار: (1/ 364) .
[31] شرح فتح القدير: (1/337) .
[32] المرعاة: (2/120) .(30/49)
[33] معالم السنن مع مختصر المنذري: (1/300) من الطبعة الباكستانية.
[34] النسائي: (2/113) .
[35] شرح معاني الآثار: (1/363) .
[36] أحمد: (4/215) .
[37] مجمع الزوائد: (2/44) .
[38] روضة الطالبين: (1/344) .
[39] شرح المهذب: (4/123) .
[40] شرح مسلم: (4/16) .
[41] شرح مسلم: (5/148) .
[42] انظر المغني: (2/94) .
[43] المشكاة: (1/364) .
[44] نيل الأوطار: (3/ 114) .
[45] الموطأ: (1/406) .
[46] حاشية الدسوقي: (2/297-298) .
[47] المحلى: (4/277) .
[48] المحلى: (4/265) .
[49] انظر مجمع الزوائد: (2/32) .
[50] انظر شرح المهذب: (4/83) .
[51] مسلم: طبعة فؤاد (1/328) وأبو داود (4/402) والنسائي (8/154) وأحمد (2/304) .
[52] انظر فتح الباري: (2/350) .
[53] انظر نيل الأوطار: (3/162) .
[54] انظر شرح المهذب: (4/83) .(30/50)
مِن مَزَايَا التشرِيع الإسلامِي
محمد بن ناصر السّحِيباني
عميد القبول والتسجيل بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن هذا الدين لازال يتعرض للهجمات من قبل أعدائه من اليهود والشيوعيين والنصارى والمنافقين وغيرهم من المبطلين وتتفاوت هذه الهجمات من حرب ساخنة إلى حرب باردة. من تقتيل أتباع هذا الدين من المسلمين وطردهم وتشريدهم، ومن سخرية بالله سبحانه وبرسله عليهم أفضل الصلاة والسلام خاصة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إلى استنقاص الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها في معتقداتها وأحكامها.
وكل هذا يعتبر مصداقا لقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . (سورة البقرة: 217) .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتا، أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها 000 [1] .(30/51)
ومساهمة رمزية في صد بعض هذه الهجمات في مجال النقد الذي يوجهه الأعداء إلى الشريعة الإسلامية. وما يحاولونه من التطاول على أحكامها باستنقاصها وإخفاء مزاياها ومحاسنها، لإيقاع السذج والأغرار من المسلمين ... فقد رأيت من باب المساهمة الرمزية وجهد المقل أن أكتب هذه المقالة عن مزايا التشريع الإسلامي، ثم أتبعها إن شاء الله- بمقالة أخرى عن العقوبات الإسلامية والدفاع عنها، لأنها أكثر الأحكام الإسلامية تعرضا للنقد والاستنقاص. والله أسال أن يحسن مقاصدنا وغايتنا وأن يوفق الجهود، ويسدد الخطأ إنه سميع مجيب.
المقصود بالتشريع الإسلامي:
قبل أن نتحدث عن مزايا التشريع الإسلامي ينبغي أن نحدد ما هو المقصود بهذا التشريع، فنقول مستعينين بالله سبحانه.
لفظ الشريعة في أصل الاستعمال اللغوي الماء الذي يرده الشاربون، ثم نقل هذا اللفظ إلى معنى الطريقة المستقيمة، التي يفيد منها المتمسكون بها هداية وتوفيقا ... ويختص هذا اللفظ في عرف الفقهاء بالأوامر والنواهي والإرشادات التي وجهها الله تعالى إلى عباده ليكونوا مؤمنين عاملين صالحين، سواء أكانت متعلقة بالأفعال أم بالعقائد أم بالأخلاق ... إلخ [2] .
ويقول الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله- في تعريفها: والشريعة هي النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها، ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه وعلاقته بأخيه المسلم وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون والحياة [3] .(30/52)
ومن هذا نستطيع أن نقول إنه يقصد بالتشريع الإسلامي كل ما شرعه الله سبحانه في القرآن الكريم من أمر ونهي أو شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سنه الخلفاء الراشدون، وكذلك ما أجمع عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم، وما توصلوا إليه بالاجتهاد، يقول جل ذكره مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته تبع له في ذلك: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . (سورة الجاثية: 18) . ويقول جل ذكره: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} . (سورة النساء:59) ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} . (سورة آل عمران:31) . ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . (سورة الحشر: 7) .والآيات في هذا كثيرة جدا. وفي الحديث: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [4] . وفي الحديث الآخر. "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" [5] .
فالحاصل أن التشريع الإسلامي يقصد به كل ما شرعه الله من أصول الدين وفروعه في العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الحدود أو القصاص أو غير ذلك مما يحتاجه الناس في حياتهم (فتشمل الشريعة أحكام الله لكل من أعمالنا من حل وحرمة وندب وإباحة. وذلك ما نعرفه اليوم باسم الفقه) [6] .
ولعل أجمع كلمة تحدد المقصود من التشريع ما قاله سماحة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله- في رسالته منهج التشريع الإسلامي وحكمته حيث قال: "والتشريع هو وضع الشرع، والشرع هنا هو النظام الذي وضعه خالق السماوات والأرض على لسان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، ليسير عليه خلقه فيحقق لهم به سعادة الدارين على أكمل الوجوه وأحسنها" [7] .(30/53)
إن هذا التشريع الذي يحقق السعادة في الدارين لمن آمن به وعمل بمقتضاه يمتاز بمزايا عديدة وخصائص فريدة. ولعل أبرز خصائصه ومميزاته أنه من عند الله سبحانه، وما كان من عند الله فلابد أن يتصف بكل صفات الكمال ولابد أن يبرأ من كل صفات النقص، يقول جل ذكره في معرض حديثه عن القرآن الكريم الذي يعتبر أحد المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . (النساء:81) . ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} . (هود: 1) .
ويقول عز ذكره: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . (الإسراء: 9) . ومن هنا نستطيع أن نشير إلى بعض المميزات، فمنها:-
الأولى: شمول التشريع الإسلامي لجميع شئون الحياة وإحاطته بها:
لقد أنزل الله سبحانه هذه الشَريعة وجعلها منهاجاً لهذه الأمة وطريقاً تسلكها في جميع شئونها. فهذه الشريعة شاملة لجميع شئون الحياة ومرافقها، فانتظمتها جميعاً بأحكامها العادلة وتوجيهاتها الحكيمة.
وعندما ننظر في أحكام الشريعة وموقفها من شئون الناس وأحوالهم نجدها على ثلاث أضرب:-
الضرب الأول: من شئون الناس والحياة، أمرت به الشريعة ودعت إليه، وقد يكون هذا الأمر على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.
الضرب الثاني: من شئون الناس والحياة نهي عنه الشارع وحذر منه، وقد يكون، هذا النهي كذلك على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.
الضرب الثالث: ما سكت عنه الشارع، وهذا السكوت ليس عن غفلة ولا نسيان، وإنما بقصد التخفيف، ويوضح ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحدد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها". رواه الدارقطني.
ونحن نستدل لعموم الشريعة وشمولها جميع شئون الحياة بدليلين:(30/54)
الدليل الأول: النص من الكتاب والسنة وواقع الأمة الإسلامية خاصة في عصرها الزاهر عصر النبوة والخلافة الراشدة، فقد وردت عدة آيات وأحاديث تدل على أن الشريعة عامة في كل شيء يقول جل ذكره: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . (النحل: 89) وفي الآية الأخرى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} . (الأنعام: 38) . قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره للآية الأولى: قال ابن مسعود- رضي الله عنه- قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء، وقال مجاهد- رحمه الله - كل حلال وكل حرام وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم [8] .(30/55)
وقريبا من هذا القول ما ذكره الفخر الرازي- رحمه الله- عند تفسيره الآية الثانية [9] ، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . (المائدة: 50) ، فالأمر قد ورد فيها مطلقا من كل قيد، وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . (النور: 52) . وكذلك قوله جل ذكره: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} (يوسف: 111) . وقال سبحانه حكاية عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} . (الجن: 14) . ولو تتبعنا هذه الآيات الواردة بهذا الصدد والإشارة إلى دلالتها المباشرة وغير المباشرة على عموم الشريعة وشمولها لاحتجنا إلى صفحات كثيرة، وأما الأحاديث، فقد وردت عدة أحاديث بهذا المعنى. فقد ورد أن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- قيل له: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرآءة. فقال سلمان:"أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ... "الحديث [10] .
وعن حذيفة - رضي الله عنه- قال:"لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله ... "الحديث [11] .
وفي الحديث: "تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ".
وفي الحديث: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ومنها ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". متفق عليه.
وفي بعض الروايات: "وبعثت إلى الجن والإنس".(30/56)
قال ابن الجوزي في كتابه الوفاء: فإن قال قائل كيف قال: "وبعثت إلى الخلق كافة". ومعلوم أن موسى لما بعث إلى بني إسرائيل لو جاءه غيره من الأمم يسألونه تبليغ ما جاء به لم يجزله كتمه بل يجب عليه إظهار ذلك لهم.
ثم قد أهلك الخلق في زمن نوح، وما كان ذلك إلا لعموم رسالته فقد أجاب عن هذا ابن عقيل فقال:"إن شريعة نبينا جاءت ناسخة لكل شريعة قبلها، وقد كان يجتمع في العصر الواحد نبيان وثلاثة يدعو كل واحد إلى شريعة تخصه، ولا يدعو غيره من الأنبياء إليها ولا ينسخها".
بخلاف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه دعا الكل ونسخ وقال: "لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي". وما كان يمكن عيسى أن يقول هذا في حق موسى، وأما نوح فلم يكن في زمنه نبي يدعو إلى ملته [12] .
أما واقع الأمة الإسلامية فبالنسبة للعهد النبوي فتعتبر أفعاله عليه الصلاة والسلام من سنته، وقد كان عليه الصلاة والسلام يرعى جميع أحوال المسلمين، ويتولى جميع شئونهم الدينية والدنيوية فيفتي ويقضي في الحقوق والحدود، ويقود الجيوش ويقسم الغنائم ويؤم المسلمين في الجمع والجماعات، ويكاتب الملوك ويدعوهم إلى الإسلام، ويصالح الأعداء إذا رأى مصلحة المسلمين في ذلك، ويتفقد أحوال المسلمين في تعاملهم بالبيوع والإجارات وأنواع المزارعة وفي النكاح والطلاق والرجعة وفي الاستطباب وتجهيز الأموات وقسمة المواريث فلا يمكن أن يتم أمر في المدينة من أحوال الناس وشئونهم إلا وله عليه الصلاة والسلام حكمة في ذلك من إقرار أو إنكار، وبالنسبة لعهد الخلفاء الراشدين- رضى الله عنهم وعن الصحابة أجمعين- فكذلك، ما كان يبت في أمر من الأمور الدقيقة أو الجليلة إلا بالرجوع إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالاجتهاد وفق أصول الشرع وقواعده.(30/57)
وما نقل عن أحد من الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- أنه اعتذر عن أمر من الأمور بأنه غير داخل في اختصاصه، بل إنهم ينظرون إليه باعتباره حقا فيقرونه وينفذونه، أو باطلا فيفندونه ويقمعونه، كمحاربة المرتدين وجمع القرآن وتدوين الدواوين وقمع البدع ومحار بتها ... إلخ.
ومن يطالع تاريخ الخلفاء الراشدين وسيرتهم يجد الأمر في غاية الوضوح ...
وعلى كل حال فمسألة شمول الإسلام وإحاطته بجميع شئون المسلمين كما أمر الله كانت واضحة تماما في هذا العصر الزاهر الذي يعتبر امتداداً لعصر النبوة ولا زال الأمر كذلك في العصور الإسلامية التالية، مع شيء من الضعف الذي أصبح شديداً في القرون المتأخرة، حيث غلبت العادات القبلية والتقاليد الواردة من الأمم الأخرى على الأحكام الشرعية، نتيجة لعوامل متعددة لعل أهمها بعد كثير من المسلمين عن الإسلام، وضعف الإيمان في نفوس كثير منهم، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، حيث ابتعد الناس أفرادا وجماعات وحكومات عن الشريعة الإسلامية والالتزام بأحكامها وتوجيهاتها إلا من عصم الله، حتى صار العلماء والمفكرون من المسلمين يبذلون الجهود الكبيرة لإقناع الناس والمنفذين منهم خاصة بشمول الإسلام وعمومه وإحاطته بكل شيء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(30/58)
الدليل الثاني: وهو دليل العقل والاستنتاج حيث لا يتصور أن الله سبحانه يترك خلقه مهملين دون ما رعاية ترعاهم وعناية تحوطهم في كل ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، لأن هذا لو حصل لاعتبر تقصيرا وتفريطا لا يليق بالله سبحانه وحاشاه من ذلك، خاصة وأن هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع بنبيها وكتابها، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين وكتابنا القرآن هو خاتم الكتب الناسخ لها المهيمن عليها فهي شريعة لا تحد بزمان ولا مكان ولا بجنس فهي عامة لكل البشر صغيرهم والكبير ذكرهم وأنثاهم عرباً وعجماً في أي مكان كانوا وأي زمان وجدوا.
ونجد من الآيات ما يسند هذا الاستدلال كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . (المؤمنون: 115) . أي أننا لم نخلقكم عبثا بل لغاية وقصد وهذا يقتضي وجود الأحكام التي تنظم شئون الآدميين. وكذلك قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} . (القيامة: 37) . أي هملا دون ما عناية أو رعاية أي لا يمكن أن يكون ذلك لأنه عبث ينزه الله عنه.
فالتشريع الإسلامي يشمل أحوال الناس وينظمها في كل الأحوال ينظم أحوال الفرد والأسرة، وينظم شئون الدولة في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، يحدد السياسة الداخلية والخارجية وصلة الدولة بالأعداء والأصدقاء في حالة السلم والحرب، ويحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين العامل ورب العمل وبين الابن وأبويه والزوج وزوجه، إذن فنحن نخرج من هذا بأن عموم الرسالة وشمولها يقتضي ما يلي:-
أولاً: عمومها الزماني: فهي الشريعة الواجبة الاتباع من حين ما بعت محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة لا يجوز أن تزاحمها أو تنافسها شريعة أو مذهب أو نظام.(30/59)
ثانياً: عمومها المكاني: فهي شريعة الأرض دون منافس أو مزاحم فهي شريعة الأرض بسهولها وجبالها ووديانها وبحارها وأنهارها وأعماقها وأجوائها بل هي شريعة الكون بكل أجرامه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاً آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداًً} . (مريم: 93) .
ثالثاً: عمومها البشري: فهي الشريعة الواجبة الاتباع من كل البشر على اختلاف الأجناس والأعراق وحتى الجن، فهي شريعة كل إنسان كيفما وجد وأينما وجد، مكث في الأرض أو صعد في السماء أو نزل الأجرام الأخرى. "إن استطاع إلى ذلك سبيلا".
فهي شريعته التي لا يجوز له أن ينفك عنها أو يفلت منها أو يفر: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ والإنس} . (الذاريات: 56) . {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . (الأعراف: 158) .
رابعاً: عمومها وشمولها الموضوعي: فهي لكل شيء ولكل شأن من شئون الأحياء والأشياء، بل وحتى الأموات رعت مالهم من حقوق وحرمة بعد موتهم، وعنيت بالحيوانات رفقا وعناية وعطفا، وبالدولة والمجتمعات والكون والكائنات: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . (الأنعام: 38) .
يقول الدكتور: محمد سلام مدكور في كتابه مدخل الفقه الإسلامي.-
وقد تضافرت النصوص الإسلامية وعلم من الدين بالضرورة عموم رسالة الإسلام:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} . (سبأ: 28) . {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . (الفرقان:1) . {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . (الأعراف: 58) .(30/60)
لهذا قام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبيلغ هذه الرسالة إلى من استطاع تبليغك من الأمم متمثلين بالحكام كهرقل إمبراطور الروم وكسرى ملك الفرس والمقوقس حاكم مصر والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن والنجاشي ملك الحبشة، تاركا لخلفائه من بعده القيام بتبليغ الدعوة إلى بقية الأمم وقد اهتدى بعض تلك الأمم فآمن بدعوته إنصافاً للحق، كما أنصفه من اتبعه من قومه، وقد اعترف توماس في كتابه الدعوة إلى الإسلام، بأن الكتب التي أرسلها محمد بن عبد الله إلى حكام الأمم المختلفة، يدعوهم فيها إلى الإسلام، تدل بوضوح على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعا بقبول الإسلام [13] .
هذا وقد اعتبر العلماء أن من ينكر شيئا من ذلك- أي عموم الرسالة وشمولها- فهو كافر مرتد عن الإسلام، فمن ينكر عموم الرسالة أو يرى أن أحداً مهما كان يسعه الخروج منها فرداً أو جماعة أو دولة فهو كافر، أو زعم أنها خاصة بجنس من الأجناس أو عصر من العصور، وأنها لا تعنى بتنظيم شئون الناس في الاقتصاد والاجتماع والسياسة من اعتقد ذلك فهو مرتد عن الإسلام يستتاب فإن تاب وإلا قتل [14]
الثانية: العدالة:
إن وجوه العدالة في التشريع الإسلامي كثيرة متعددة، يدركها من يمعن النظر في أحكامه ويتدبرها بتجرد وإخلاص، فأحكامه الخاصة بالأسرة وتكوينها وتنظيمها وحقوق الأفراد وواجباتهم في الأسرة لا تماثلها أحكام مما تواضع عليه البشر واعتادوه، فالأب له حقوقه وعليه التزاماته، والأم كذلك، والأبناء المكلفون كذلك، ونجد هذه القاعدة الفريدة في التعامل بين الزوجين المتمثلة في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} . (البقرة: 299) .(30/61)
وأحكامه الخاصة بالميراث وتوزيعه على الورثة تعتبر كذلك من العدالة بمكان, فللأب نصيبه وللأم نصيبها، وللزوج نصيبه وللزوجة نصيبها، بحسب الحال من وجود أولاد أو عدم وجود أولاد، ووجود أخوة أو عدم وجود أخوة، وللأبناء نصيبهم والبنات وللأخوة والأخوات، والأعمام والعمات، وهكذا تتدرج الحقوق حتى تصل إلى أصحابها مهما بعدوا، وفي الأحكام الخاصة بمعاملة الأعداء، نجد العدالة في أرقى صورها وأعلى درجاتها يقول جل ذكره: {َلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . (المائدة: 8) . أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا في حقهم، ويقول سبحانه: {فاعدلوا فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . (الأنعام: 252) .
أما في مجال العقوبات فعندما نلاحظ أن القصاص هو العقوبة الرئيسية لأكثر الجرائم الشخصية التي تقع على الأشخاص مباشرة، فإن هذا يعتبر منتهى العدالة وغاية الإنصاف، وكذلك الحدود فإنها عقوبات عادلة إذا أدركنا فداحة الجرائم التي فرضت من أجلها، والله تعالى يقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . (الشورى:40) ويقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . (النحل: 126) .
وباختصار، فمادمنا نسلم ونعتقد بأن الأحكام الشرعية منزلة من عند الله سبحانه، الذي يعتبر العدل صفة من صفاته، فلابد أن تكون هذه الأحكام عادلة متقنة.(30/62)
وإذا كانت العدالة هي من أبرز خصائص الأحكام الشرعية الواردة بالنص في القرآن والسنة، فإن هناك أحكاماً اجتهادية، وهناك أيضا تطبيق الأحكام إن كانت نصية أو اجتهادية، فنجد بالنسبة لهذين الأمرين أن الإسلام حض المسلمين والعلماء منهم خاصة وولاة الأمر على تحري العدل في تطبيق الأحكام، أو عند استنباطها، فوضع قوالب عامة ومعايير دقيقة ومقاييس عادلة لاستنباط الأحكام، فالأحكام الاجتهادية ليست عشوائية في استنباطها ولا ارتجالية في وضعها، ولكنها محكومة بقواعد وأصول فلابد أن تكون منسجمة مع الأصول العامة للشريعة، والقواعد الأساسية، والغايات والأهداف الكبرى، ويمكن الرجوع إلى هذا الموضوع في كتب أصول الفقه.
وفي مجال التطبيق كذلك فقد حث الله سبحانه المسلمين عامة وولاة الأمر بصفة خاصة على العدل، وحث على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، بل إن الله سبحانه أمر به أمراً صريحاً، يقول جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . (النساء: 58) . أي ويأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، والأمر كما هو معروف عند علماء الأصول يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن ذلك، وفي الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} . (النحل:9) ويقول سبحانه فيما خاطب به رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} . (الشورى:15) .(30/63)
وإلى جانب الآيات فهناك الأحاديث الكثيرة والوقائع المشهورة التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عهد الخلفاء الراشدين، ففي الحديث المتفق عليه: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "- وعد منهم الإمام العادل- وفي الحديث الآخر: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوّ". رواه مسلم. وجاءه عليه الصلاة والسلام زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي ... " الحديث [15] .
ومكن عكاشة أن يقتص منه، وكذلك الأعرابي الذي تعلق في زمام ناقته فانتهره مرارا فلما لم ينتهر ضربه [16] . وغير ذلك من الحالات والوقائع المماثلة كثيرة وليس هذا مجالا سردها فليرجع إليها في كتب التاريخ والسير، لتجد الصفحات البيضاء من صفحات العدل، ومن هذا نخرج بنتيجة وهي أن العدالة صفة رئيسية من صفات التشريع الإسلامي، خاصة فيما ورد فيه نص صريح من القرآن، أو نص صحيح صريح من سنة، كما يجب أن تراعى العدالة في جانبين.(30/64)
أولاً: في الجانب التشريعي الاجتهادي: أي الأحكام الاجتهادية فيما لم يرد به النص كما في حالة سن الأنظمة اللازمة للناس، كأنظمة البلديات والمرور، وأنظمة العمال والموظفين والشركات وأصحاب المهن المختلفة، وغير ذلك مما يستجد من أمور الناس وشئون الحياة، فيجب على كل من يضعون هذه الأنظمة ويسنونها أن يراعوا جانب العدالة فيها، فلا يغلبوا مصلحة فئة على فئة أخرى، ولا جانباً على جانب، إلا بحق واضح تقتضيه مصلحة عامة راجحة، ويجب أن تكون هذه الأنظمة وأمثالها متمشية مع أصول الشريعة منسجمة مع قواعدها الكلية، غير متعارضة مع أحكامها الثابتة ولا متباينة مع الأهداف والغايات والمقاصد التي توخاها الشارع واعتبرها.
ثانياً: في الجانب التطبيقي: فيجب على الحاكم أن يتقي الله في حكمه، ويتحرى العدالة في تطبيق الأحكام التي أنزلها الله، فلاشك أنها عادلة، ولكن التطبيق قد يكون جائراً، فعليه أن يتقي الله فلا يحكم بأي حكم اجتهادي تبين له ظلمه وإجحافه، وعليه أن يعترض عليه ويبدي رأيه فيه.
الثالثة: الرحمة:
إن الرحمة تعتبر أمراً زائداً على العدالة، فالعدالة رحمة ولاشك، ولكن الرحمة عدالة وزيادة، أما العدل فإن فيه رحمة للكافة وللمجتمع بصفة عامة، ولكن قد لا يكون فيه رحمة للمحكوم عليه في ظاهر الأمر، مع أنه في الحقيقة رحمة، إذا نظرنا إلى المسألة نظرة ثاقبة تنفذ من الدنيا إلى الآخرة.
ويرى الأستاذ محمد أبو زهره - رحمه الله- خلاف ذلك، فهو يرى أن الرحمة والعدل مترادفان، فهو يقول: ولذلك كانت رحمة النبوة الأولى هي العدل، فالعدل في ذاته هو الرحمة الشاملة، ويقول: فالعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية [17] .(30/65)
ولكني أقول ليس الأمر كذلك، لأن الرحمة أوسع وأشمل، فهي كما قلت عدل وزيادة، وكل الأطراف ترضى بالرحمة، ولكن ليس كلها يرضى بالعدل، مع أن العدل يعتبر رحمة عامة ولكنه قد لا يكون كذلك في ظاهره ومما يدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير مع الأنصاري فإنه في أول الأمر قال: "إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك". فلما غضب الأنصاري واتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحيز لابن عمته. قال صلى الله عليه وسلم: "يا زبير إسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر". فإن الحكم الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبني على الرحمة، فقد أمر الزبير بأن يسقي أرضه شيئا يسيرا ثم يرسل الماء، ولم يعطى الزبير كامل حقه، فإنه قريبه ويدل عليه فلما تبين هذا الموقف من هذا المنافق، حكم بالعدل وأعطى كل ذي حق حقه، وقد أشار. إلى هذا المعنى الإمام النووي- رحمه الله- في شرح مسلم [18] .
وكذلك حديث الرجل الذي كان منقطعا لعبادة الله مدة طويلة، فلما مات سأله الله تعالى هل أدخلك الجنة بعملك أم برحمتي؟. فقال: بل بعملي، فلما حاسبه الله بالعدل استوجب النار، لكن الله سبحانه عامله بالرحمة التي هي أوسع من العدل فأدخله الجنة.
وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كلها تصف هذه الشريعة بالرحمة، وتصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وتصف المسلمين بالتراحم بينهم وتأمرهم به، يقول جل ذكره في معرض وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . (الأحزاب: 43) . وعن المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . (الفتح:29) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل المرأة الكافرة، والطفل والشيخ الكبير والمنقطعين للعبادة من الرهبان وغيرهم، ما لم يشتركوا في الحرب، وفي الحديث: "من لا يرحم لا يرحم ". والآيات والأحاديث والوقائع في هذه كثيرة لا تنحصر.(30/66)
الرابعة: اليسر:
من مزايا التشريع الإسلامي الاتجاه إلى التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في الحرج والضيق والمشقة وهذا واضح من الآيات والأحاديث الكثيرة يقول جل ذكره: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . (البقرة: 185) . ويقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم} . (النساء: 28) .
ويقول عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . (الحج: 78) . وفي الحديث: "يسروا ولا تعسروا" [19] . وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما" [20] .
وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال لهم عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". أخرجه البخاري عن أبى هريرة.
وهذا واضح في العبادات من صلاة وصوم وحج، وكذلك في المعاملات فإنها مبنية على التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في المشقة والحرج، أما فيما يتصل بحقوق الناس إن كانت في الأموال أو الدماء أو الأعراض، فهذه ينبغي أن يمكن صاحب الحق من حقه، ولكن برفق كما قال جل ذكره: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان} . (البقرة:178) . لذلك فإن أي نظام يسن ينبغي أن يراعى فيه التيسير والرفق بمن وضع لهم والرحمة بهم.
الخامسة: الحكمة:
تعرف الحكمة بأنها وضع الشيء في موضعه المناسب، وعرفها العلامة محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله- بقوله: والحكمة في الاصطلاح هي وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها [21] .(30/67)
وتلاحظ الحكمة في التشريع الإسلامي في عدة مواضع , فمنها فيما يختص بالإرث وتقسيمه بنسب معينة , نلاحظ أنها في منتهى الحكمة , فعندما نقارن بين أنصبة البنين والبنات والأخوة والأخوات والأبوين والزوجين , نجدها تتناسب مع مسئولياتهم ومع واجباتهم وصلتهم بالميت ,وعندما نلاحظ العقوبات وتفاوتها من حد إلى حد ومن جناية إلى جناية نجد التناسب التام والانسجام الدقيق العقوبة والجريمة , وكذلك نجد الحكمة في تفاوت أنصبة الزكاة ومقاديرها من مال إلى مال , كذلك العبادات فأحكامها في غاية الحكمة ,وهذا شأن التشريع الإسلامي وصفته المميزة له الحكمة , فهو من لدن عليهم حكيم , وقد تكلم ابن القيم –رحمه الله –في كتابه المشهور أعلام الموقعين, عن هذا الموضوع بالتفصيل, وأورد كثيراً من الشبه وردها , وبين الحكمة في تفاوت العقوبات من ذنب إلى ذنب ومن جناية إلى أخرى, كما بين الحكمة فيما شرع من التماثل بين الجناية والجزاء , والحكمة فيما لم يشرع فيه التماثل , كما تطرق إلى كثير من الأحكام وبين وجه الحكمة في الاختلاف والاتفاق في كثير من صورها وفروعها , وذالك في حديثه عن القيس وهو كلام جيد نقيس [22] .
السادسة: الخلود والديمومة:(30/68)
كما ألمحت آنفاً أن هذا التشريع يمتاز بأنه خالد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يتطرق إليه التعديل أو التبديل، لذلك فإننا نلاحظ هذه الشريعة مرنة في أحكامها، ولكنها راسخة الأصول، أو كما وصفها أحد الكتاب شجرة ثابتة الأصول متحركة الفروع، ومما يدل على خلود الشريعة وديمومتها واستمرارها وشمولها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . (الصف: 9) . فهذا نص مطلق غير مقيد بزمر وكذلك قوله جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . (الحجر: 9) . وفي الحديث: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم". رواه مسلم.
السابعة: العناية بالدنيا والآخرة:
إن من المميزات الرئيسية للتشريع الإسلامي بصفة عامة، أنه شامل للدنيا والآخرة، علاج للظاهر والباطن، فهو لا يكتفي بعلاج الظاهر دون الباطن، ولا يكتفي بالحديث عن الدنيا دون الحديث عن الآخرة.
ولذلك فإن النظم الإسلامية كلها يجب أن تكون مبنية على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر وبالبعث بعد الموت والمجازات بالعمل إن خيراً فخيرا وإن شراً فشراً، ولاشك أن النظم التي ترتكز على هذه القواعد العظيمة، وتعتبر مستمدة من المنهج الإلهي لا شك أنه سوف يكون لها قدسية في نفوس الناس وأثر كبير وهيبة عظيمة، وإن المسلم الذي يعتقد أنه أن أفلت في الدنيا من قبضة الحاكم فلن يفلح في الآخرة من قبضة الله سبحانه وأنه له بالمرصاد، وأن أعماله وحركاته وسائر تصرفاته مرصودة وأن أنفاسه محسوبة معدودة.(30/69)
لاشك أن مثل هذا الاعتقاد وهذا التصور له دور كبير في تهذيب النفوس وصقلها وردعها عن الشرور وزجرها عن الجريمة، ولذلك نلاحظ أن النصوص الإسلامية لم ترد مجرد أوامر جافة، بل نجدها تخاطب في الإنسان قلبه ولبه وضميره وأحاسيسه، وتحرك كوامن الإيمان فيه وتوقظ ضميره، إن كنتم مؤمنين، لعلكم تتقون، لعلكم تذكرون، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... الخ.
فمثل هذا الخطاب يحرك جذوة الإيمان في نفس المسلم، فيكون أدعى للاستجابة وأقرب للالتزام والانضباط.
وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي لا ترتكز على دعائم من الإيمان في جوهرها، ولا تراعي أحاسيس الإنسان ومشاعره في أسلوبها، فهي مجرد أوامر ونواه جافة، تكتفي بعلاج الظاهر والحديث عن الدنيا على ضعف في العلاج وقصور في الحديث وركاكة في الأسلوب.
الثامنة: العصمة والصدق:
يعتبر هذا التشريع معصوما عن الخطأ، معصوما عن التحريف والتبديل والتغيير، كما يعتبر مصيباً في أحكامه لأنه من عند الله، صادقا في أخباره ووعده ووعيده. يقول جل ذكره في حق الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . (الحاقة: 44-47) . ويقول سبحانه حكاية عن المشركين: {ائْت بقرآن ئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ} . (يونس: 15) .
ويقول الشاطبي - رحمه الله- في كتابه الموافقات: إن هذه الشريعة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة ثم أورد دليلين:
أحدهما:(30/70)
من القرآن فاستدل بقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقوله: {كتاب أحكمت آياته} .
والثاني:
دليل الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن [23] .
وكما يعتبر معصوما فإنه يعتبر صادقا مصيبا يقول جل ذكره: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} . (سورة النساء: 87) . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} . (النساء: 22 1) . {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . (الإسراء: 9) . ويقول جل ذكره متحدثا عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . (النساء: 82) . وفي الحديث: "إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد".
والتشريع الذي يتميز بالعصمة والصدق والإتقان وعدم التفاوت والاختلاف، لاشك أنه التشريع الواجب الاتباع.
التاسعة: السلطة التشريعية في التشريع الإسلامي:
جعلها الله في أهل الذكر من العلماء، وهم المجتهدون الذين يكلفهم الشارع استنباط الأحكام للوقائع من النصوص أو الأمارات، على وفق نظم الإسلام وقواعده من غير جور ولا تحيف، بخلاف السلطة التشريعية في القوانين، فإنها تتولاها هيئة معينة يحددها دستور الدولة، وقد يكون الخطأ أقرب إليها من الصواب [24] .
هذه بعض المزايا التي وقفت عليها أو وفقت إليها، وقد يكون فيها شيء من التداخل أو الازدواج وقد يكون بعضها مستلزما للبعض الآخر، ولكن زيادة في الإيضاح وحرصا على التبليغ أفردتها في فقرات ليسهل استيعابها والرجوع إليها.
وبهذه المناسبة فقد لاحظت أن بعض الكتاب في حديثهم عن مزايا التشريع الإسلامي، يتكلمون عن مزايا التشريع الجنائي، فبعض الباحثين يرى أن التشريع الجنائي الإسلامي له خصائص معينة تميزه عن أقسام التشريع الأخرى فمن ذلك فيما يرى هؤلاء:
أولاً: التدرج:(30/71)
يقول الأستاذ أحمد فتحي بهنسى في كتابه السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية: إن سياسة التجريم التي ينهجها أي مشرع وضعي تأتي تدريجا، وخاصة إذا كانت الأفعال التي يخضعها للتجريم مباحة في الأصل.
وهذه السياسة هي التي سبقت بها الشريعة الإسلامية منذ القدم، ونذكر أمثلة التجريم التي يظهر فيها هذا التدرج التشريعي في الشَريعة الإسلامية. ثم أورد بعض الأمثلة منها حد الزنا [25] .
والزنا باعتباره جريمة حرم دفعة واحدة، ولم يتدرج فيه ولكن التدرج حصل في العقوبة فقد كانت الحبس والإيذاء، ثم صارت الجلد والتغريب أو الرجم.
ثم ذكر حد شرب الخمر [26] . وفعلا فقد حصل- التدرج في تحريمها بوضوح حيث أن- المجتمع في ذلك الوقت قد ابتلي بعادة الشرب وارتكس فيها.
ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذه المحرمات التي حرمت بالتدرج، أو فرضت عقوباتها بالتدرج، أن هذا أمراً خاصا بها، وفي ذلك الوقت خاصة. فإنه بعد تحريمها بصفة نهائية لا يجوز التدرج في تحريمها، في حق المجتمع الآخر ولا يقاس عليها غيرها من الجرائم، ولو توافرت في هذا المجتمع مثل هذه الظروف.(30/72)
والحكمة في التدرج والله أعلم هو أن المجتمع الإسلامي في أول أمره كان ضعيفاً قليل العدد، ولم تكن له القاعدة الشعبية التي تحميه وتؤازره، في حالة الرفض وعدم الاستجابة من قبل الآخرين، فلما قوى المجتمع الإسلامي وازداد عدد المسلمين لم تكن هناك حاجة للتدرج، يدل لذلك أنه في عهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم وفي آخر أيام حياته وكذلك في عهد الخلفاء الراشدين لما فتحوا بلاد الكفار من النصارى والمجوس وغيرهم لم يتدرجوا معهم في التحريم والتجريم والعقوبة، مع أن هذه المجتمعات كانت قد ابتليت بالزنا والربا وشرب الخمر، ومع ذلك فقد ابلغوا بالإسلام كاملا، وطولبوا بالالتزام به جملة واحدة، ويدل لذلك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض الوفود، كوفد عبد القيس، ووفود اليمن وثقيف، فإنهم عندما أسلموا استأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرب الخمر لأنهم يحتاجون إليها للتدفئة فلم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما قال أحدهم: إن الناس ليسوا بتاركي هذا الشراب أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم جمالها بمقاتلتهم، ومنهم من استأذن في الزنا أو في ترك الصلاة فكلهم لم يأذن لهم رسول الله بذلك، فلو أن هناك تدرجاً لاستجاب لهم رسول الله ولتدرج معهم.
ولكن لا مانع أن تستخدم سياسة التدرج في التجريم والعقوبة في الجرائم التعزيرية، فعندما يبتلى الناس بعادة سيئة، أو ينتشر بينهم خلق دميم، فلا مانع من التدرج في تحريم ذلك بتتبع مصادره أولا، وإيجاد البديل عنه، ثم تحريمه ثانيا، والمعاقبة على فعله بالعقوبة المناسبة.
ثانياً: عدم رجعية التشريع الجنائي على الماضي:
وينبني على هذا التدرج التشريعي أن المذنب لا يعاقب إلا بمقتضى النص الذي يكون ساريا وقت ارتكابه جريمته، أي أن النص لا ينسحب على ما مضى من الوقائع، ثم أورد بعض الأدلة من القرآن.(30/73)
ثالثا: الاقتصار على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات: ثم تكلم عن النسخ. والواقع أن ما أشير إليه من هذه الأمور على أنها خصائص التشريع الجنائي لا يبدوا ذلك واضحا، بل الذي يظهر أن هذه الأمور ليست خاصة بالتشريع الجنائي دون غيره من أقسام التشريع الإسلامي، إن كانت في العبادات، أو الشئون المالية أو الأسرية أو شئون الحرب.
فكثير من التشريعات نلاحظ فيها التدرج كالزكاة والصلاة والصيام والجهاد، فليس التدرج مقتصرا على التجريم والعقوبة، بل نستطيع أن نقول أن التدرج يعتبر صفة عامة للتشريع الإسلامي.
كذلك عدم رجعية التشريع الجنائي على الماضي ليست مقتصرة على الجنايات بل هي صفة عامة للتشريع الإسلامي بجميع أقسامه، والآية التي يستدلون بها وهى قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . (الأنفال: 38) . وردت عامة مطلقة في كل شيء من الجنايات وغيرها.
أما الاقتصار على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات، والنسخ فهذه المسائل من الوضوح بحيث لا يحتاج الأمر إلى الكتابة عنها، فهذه من المسائل الخاصة بكثير من الأحكام كالمعاملات، والشئون الاقتصادية ونظام الحكم، وليست مقتصرة على قسم دون آخر، وليس من المناسب الإشارة إليها في معرض الحديث عن خصائص التشريع الجنائي لأنها عامة تشمل كثيراً من الأحكام كما ذكرت.
ومن هذا يتضح لنا أن التشريع الجنائي الإسلامي ليست له خصائص تميزه عن بقية أقسام التشريع، هذا إذا نظرنا إلى التشريع الجنائي بمفهومه العام الذي يدخل فيه الاعتداء على حقوق الله سبحانه وحقوق الناس والاعتداء على الأموال والأعراض والأبدان.
إنما نلاحظ في التشريع الجنائي الخصائص المشار إليها في التشريع الإسلامي بصفة عامة من عدالة وحكمة ورحمة ويسر وغير ذلك من المزايا التي أشرنا إليها.(30/74)
وجوب تطبيق التشريع الإسلامي والالتزام به وتنفيذه:
إن التشريع الإسلامي على اختلاف أقسامه إن كان جنائيا أو مالياً أوفي العبادات أو في الحرب وشئونها، يعتبر روح الأمة الإسلامية، فبدون هذا التشريع لا يعتبر للأمة الإسلامية كيان ولا وجود، إلا وجودا شكلياً وكياناً صوريا، أي كالجسد الميت الذي لا روح فيه ولا حياة.
وما لم ينفذ المسلمون حكاما ومحكومين التشريع الإسلامي في كل مجالات الحياة، فإنه في هذه الحالة لا يعتبر لهم وجود شرعي، ولا كيان حقيقي، فالمسلمون ملزمون بتطبيق الشريعة الإسلامية خاصة ولاة الأمر، يقول جل ذكره: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . (الجاثية: 18) . فاتباع الشريعة واجب في كل ما جاءت به من كليات أو جزئيات وأصول أو فروع، والحكم بما أنزل الله واجب لابد منه في حق الحكام والمحكومين: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . (المائدة: 44) . {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . (المائدة: 45) . {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . (المائدة: 47) . ويقول سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) . ويقول عليه الصلاة والسلام: "والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". وفي الحديث: "وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ".
إن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى زيادة تفصيل، يدركها كل مسلم يتلو كتاب الله ويتدبره، ويقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفقهها.(30/75)
وينبغي أن نلاحظ أنه لابد من تطبيق الشريعة عامة بكل أحكامها، وإلا فلا يعتبر المجتمع ملتزما بشريعة الله ولا مطبقا لها، يقول جل ذكره: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . (البقرة: 85) .
ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} . (النساء:150-151) . فلاشك أن الذي يطبق الإسلام في جانب ويحول بينه وبين التطبيق في جانب آخر، لاشك أن هذه الآيات تنطبق عليه وهو على خطر عظيم من الكفر والنفاق. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] في ظلال القرآن: (ج1ص228) .
[2] مدخل الفقه الإسلامي: الدكتور محمد سلام مدكور.
[3] الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت: (ص22) .
[4] متفق عليه.
[5] رواه أبو داود والترمذي.
[6] المدخل لدراسة الفقه الإسلامي: الدكتور محمد يوسف موسى.
[7] منهج التشريع الإسلامي وحكمته: (ص23) .
[8] تفسير ابن كثير: (ج2ص582) .
[9] تفسير الرازي: (ج2ص211) . وراجع تفسير القرطبي: (ج6ص420) . وأضواء البيان للشنقيطي فقد تكلم على هذه الآية بإسهاب ونقل كلاما للسيوطي من كتابه الإكليل في استنباط التنزيل حول هذا المعنى: (ج3ص306) .(30/76)
[10] رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
[11] الوفا بأحوال المصطفى: (ج1ص371) .
[12] أخرجه الب خاري. انظر فتح الباري: (ج11ص494) .
[13] مدخل الفقه الإسلامي: الدكتور محمد سلام مدكور: (ص13) .
[14] انظر رسالة البرهان والدليل على كفر من حكم بغير التنزيل: أحمد بن ناصر المعمر: (ص48) .
[15] ذكره القاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (ج1ص109) . وانظر كذلك الوفى بأحوال المصطفى لابن الجوزي: (ج3ص425) .
[16] الشفا: (ج2ص199) .
[17] الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي: القسم العام. (ص6-7) . محمد أبو زهره.
[18] شرح مسلم للإمام النووي: (ج15ص108) .
[19] الحديث متفق عليه. انظر رياض الصالحين للنووي بتحقيق الألباني: (ص75) .
[20] الحديث متفق عليه. انظر رياض الصالحين للنووي بتحقيق الألباني: (ص76) .
[21] منهج التشريع الإسلامي وحكمته.
[22] انظر أعلام الموقعين: (الجزء الثاني من أوله إلى ص 187)
[23] الموافقات: (ج2ص40) .
[24] مدخل الفقه الإسلامي: محمد سلام مدكور: (ص23) .
[25] السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية: (ص10) .
[26] السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية: (ص10) .(30/77)
مَنْهَجُ السَّلَفِ في العَقِيدَةِ وأثَرُهُ في:
وحدَةِ المُسلِمِينَ
الدكتور صالح سعد السحيمي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
وبعد:
فهذا جهد متواضع أساهم به لبيان المنهج الذي كان عليه السلف الصالح في العقيدة ومدى مخالفة الناس لذلك المنهج مما فرق كلمة المسلمين وأضعف وحدتهم.(30/78)
وجعلت عنوان البحث: منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين وقد حملني على ذلك إهمال كثير من الباحثين لهذا الجانب، أعني جانب العقيدة، والذي هو العامل الأول والركيزة الأساسية التي ينبني عليها كيان المجتمع الإسلامي، وتنضوي تحت لوائها صفوف المسلمين. منها يستلهمون طريق وحدتهم، وعلى ضوئها يشقون طريقهم إلى أعلى قمم المجد والعلى وبهداها ومبادئها القيمة يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا الأمصار والأقطار، ولقد كثرت المؤلفات والخطب والمحاضرات والمواعظ والندوات التي تنادي بنجدة المسلمين وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم بالأساليب المتعددة، وطرح الحلول الكثيرة، لكن هذه الأساليب والحلول، ناقصة وغير تامة نظراً لاهتمامها بالجوانب الفرعية فقط. فنجد أن جماعة ممن يهتمون بعوامل التضامن الإسلامي يركزون جل اهتمامهم على الجانب السياسي. ونجد جماعة أخرى تركز على الجانب الأخلاقي، ونجد جماعة ثالثة تركز على جوانب الترغيب والترهيب والزهد والورع. وقلّ أن تجد بين هؤلاء من يهتم بالجانب الأساسي والركن العظيم، والذي هو الحصن الحصين، والمنطلق المتين لجمع كلمة المسلمين، ألا وهو عقيدة التوحيد الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وألف بين قلوبنا بعد التمزق, حتى أصبحنا به أمة واحدة ذات هدف واحد ومنطلق واحد , وعقيدة واحدة , هي مصدر عزتنا , وعنوان سعادتنا , ومناط وجودنا في هذه الحياة. إنها عبادة الله الذي لا إله غيره , ولا رب سواه إنه الهدف الاسمي , والمقصد الأعلى الذي خلقنا الله له , وأوجدنا من أجله , كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .(30/79)
إذا تأملنا هذه الآيات الكريمة وما جاء في معناها، وما أكثره في كتاب الله، وجدنا أن أساس كل عمل في الإسلام إنما ينطلق من العقيدة، ويرتكز عليها، كما يرتكز البناء على أركانه.
والبيت لا يبتنى إلا له عَمدٌ
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
إذا عرفنا ذلك فإن أية دعوة إلى التضامن الإسلامي، إذ لم ينطلق أصحابها من هذا المبدأ الأساسي، ولم تؤسس على هذا البناء الراسخ، ولم تقم على تحقيق التوحيد، وتخليصه من شوائب الشرك، والبدع، والمعاصي، فإنها دعوة سيكتب لها الفشل لا محالة. عاجلاً أم آجلاً لأن البناء، لا يقوم في الهواء ولا يمكن تشييده إلا على أرض صلبة حتى لا يتعرض للانهيار يوماً من الأيام.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وحينما نقول إن مبنى التضامن الإسلامي على عقيدة التوحيد وعندما ندعوا إلى وجوب الانطلاق من هذا المبدأ، فإن ذلكَ لا يعنى إهمال الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها أو إلى بعضها في ما مضى، وإنما نعني وجوب التأسيس وذلك بأن نبدأ أعمالنا كلها من هذا المنطلق.(30/80)
فعلى ضوئه تكون السياسة، وعلى منهجه تبنى الآداب والأخلاق، وفي حدوده ندعو إلى الترغيب، والترهيب، وعلى مبادئه يوجد بإذن الله المجتمع الإسلامي الصالح المنشود، وتوجد السعادة البشرية في الدنيا والآخرة، ويعود الناس إلى دين الله أفواجاً فينعمون بالخير، والأمن، والطمأنينة وفق هدى العقيدة الخالصة الوارفة الظلال، فيتخلصون بذلك من أدران الوثنية، وأوضار الجهل، وحينئذ تصفو قلوبهم، وتخلص لله وتخلع ربقة الشرك الذي ران عليها سنين طويلة، والذي هو أعظم ذنب عصي به الله عز وجل، منذ أن انحرف الناس عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، فلقد كان الإنسان في أول خلقه على المنهج الرباني الصحيح، عقيدة وسلوكا، وأخلاقاً، وعبادة، ومعاملة، حقبة من الزمن.(30/81)
يذكر علماء التاريخ، والسير بأنها تقدر بعشرة قرون، إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، والأوثان، بسبب الغلو في الصالحين. فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو، بطريق التدريج، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمناً طويلاً إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم. ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير، ويشب عليها الصغير إلى أن بعت الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه فأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو، ومجاوزة الحد، واتباع الهوى الذي أدى بالناس إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى. وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير ما آية.
والغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.(30/82)
وأهل الكتاب هنا، هم اليهود، والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فنقلوه من حيز النبوة إلى أنْ اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلو فيمن زعم أنه على دينه من اتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أم باطلاً، ناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فحطوا من منزلته حتى جعلوه ولد بغي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بافراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبى طالب رضي الله عنه، وقاتلوهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح، والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية، والمعتزلة. وقال أيضاً: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أهـ.(30/83)
وهذا الكلام يدل دلالة واضحة على أن أعظم فتنة ابتليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو الذي جاء التحذير منه في غير ما آية وحديث، وقد تقدم من الآيات ما يوضح ذلك. أما الأحاديث فمنها ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". وثبت في سنن أبي داود والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو فإن ما أهلك من كان قبلكم الغلو".
وهذه نصوص صريحة، وواضحة في أن سبب الانحراف عن العقيدة الصحيحة والفطرة السليمة إنما هو ذلك الغلو ومجاوزة الحد الذي أدى بالتالي إلى صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي من أجله بعث الله الرسل لإعادة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ذلكم هو الهدف الأسمى الذي أوجد الله من أجله الثقلين، الجن، والإنس. فكل عاقل في هذا الوجود يعرف أنه مخلوق لخالق، ومربوب لرب أوجده بعد العدم.
لو طرح سؤال مفاده: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا فضلت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما هي مهمتك في هذه الحياة؟.. فإن الجواب عند المؤمن حاضر بكل بساطة: إن كل صانع يعرف سر صنعته، لماذا صنعها.. ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره ...
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه، ومدبر أمره فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان؟ هل خلقته لمجرد الطعام والشراب.؟ هل خلقته للهو واللعب؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب، ويأكل مما خرج من التراب، ثم يعود كما كان إلى التراب، فإذا لم يكن الأمر كذلك فما سر هذه القوى والملكات التي أودعها الله الإنسان من عقل وإرادة وروح.(30/84)
لقد جاء جواب ذلك بما يشفي، ويكفي في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، حيث نص تبارك وتعالى على أنه خلق هذا الإنسان ليكون خليفة في الأرض.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} . وهذه الخلافة معناها أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته، ويعبده حق عبادته.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
وإذن، فالجواب البدهي الذي تنطق به الفطرة في هذا الكون، أن الإنسان عبد لله خلق لذلك، وسخر الله له ما في السماوات، وما في الأرض، من أجل تحقيق الغرض.
ومن هنا يعلم كل ذي فطرة سليمة، وعقل متجرد، أن عبادة الإنسان لقوى الطبيعة ومظارها من فوقه، ومن تحته كالشمس، والقمر، والنجوم، والأنهار، والأبقار، والأشجار، ونحوها قلب للوضع الطبيعي، وانتكاسٌ بالإنسان أي انتكاس!!
والإنسان إذن , بحكم فطرته، ومنطق الكون، إنما هو مربوب لله سبحانه لا لغيره، لعبادته وحده، لا لعبادة بشر، ولا حجر، ولا بقر، ولا شجر، ولا شمس، ولا قمر، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان.(30/85)
ولذا نرى أول نداء يوجهه الله لرسله هو الأمر بعبادته، وبيان أنه لا إله غيره، ولا رب سواه، اقرأ مثلا: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان، ورسخه في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ خلقهم، وصورهم، وجعلهم في أحسن تقويم، وأوجد فيهم العقل الواعي، الذي يتميزون به على سائر الكائنات، وجعل كل ما حولهم من الآيات البينات دليلاً قاطعاً على وحدانيته سبحانه، وإفراده بكامل العبودية، وأخذ العهد عليهم حيث قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
ومن هنا نعلم أن كل عبادة لغير الله، وإن ظهرت في صورة عبادة حجر، أو شجر، أو مدر، أو هوى، إنما هو من إيحاء الشيطان، وتزيينه، ووسوسته بشكل مباشر أو غير مباشر، بغض النظر عن القالب الذي ظهرت فيه تلك العبادة، ولذا نرى أنَّ الله تبارك وتعالى قد أخذ العهد على بني آدم منذ أن كانوا في صلب أبيهم آدم.
هذا العهد بين الله وعباده، هو الذي صوره القرآن في أروع صورة، وبلاغة، حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} .(30/86)
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية، أو التقليد الأعمى.
ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
بهذا دعا قومه، نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت. كما قال تعالى على لسان قوم: {وكنا وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وهو الموت. فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلقى ربه.
ولم تسقط عنه بسمو الروح، ولا بالاتصال القوى بالله كما يدعي غلاة الصوفية.(30/87)
وقال تعالى في شأن عيسى بن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
ويعرض لنا القرآن مشهداً من مشاهد يوم الحشر. يسأل الله فيه المسيح عليه السلام عما نسبوا إليه، وافتروه عليه، فيجيب في أدب العبودية متبرئا مما صنعوا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده. والأنبياء جميعاً أول العابدين لله. وعبادة الله وحده هي- إذن مهمة الإنسان الأولى في الوجود كما بينت ذلك كل الرسالات.(30/88)
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه نوحاً} . فقد دلت الآية الكريمة وما في معناها على وحدة الهدف والعقيدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من لدن نوح عليه السلام إلى خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من أوحال الشرك، وأدران الوثنية، فكان بذلك نبراساً للأمة ينير لها الطريق، ومشعلا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يترسمون تلك الخطأ النبوية، ويستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا، وفتح الله لهم أبواب الخير من كل مكان ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. وكل عاقل يدرك أن هذا النصر المؤزر الذي حققه الله على أيديهم لم يكن وليد الصدفة، ولم يكن بسبب العدد والعدة، وإنما تحقق ذلك، بسبب اعتمادهم على الله، والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وبدئهم بالأهم قبل المهم، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمتي التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله "، لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .(30/89)
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... الحديث ".
ومما يدل على أهمية العقيدة، وكونها أساس كل عمل، تكفيرها للذنوب والكبائر، إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان، يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة.
وإذاً فتوحيد الله تعالى، هو رأس الأمر كله، والجسد لا يستقيم بلا رأس، كما قال صلى الله عليه وسلم رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
وهذه نصوص صريحة دالة على وجوب البدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، قبل جميع التكاليف، لأن قبول جميع التكاليف مرهون بتحقيق ذلك، وهذا ما سار عليه السلف الصالح في دعوتهم، مما حقق النجاح في برهة وجيزة، أذهلت العقول، وتحطمت أمامها عروش الكفر والطغيان.
وقد استمر الأمر على هذا الحال ثم بدأ الانحراف بعد ذلك عن هذه الجادة بسبب الانصراف عن الكتاب والسنة الذين يجب أن نأخذ العقيدة منهما والاشتغال بالفلسفة والمنطق، اللذين لم يستفد منهما المسلمون غير تخريب العقيدة، والقيل, والقال، والجدل الذي لا طائل تحته ولا جدوى من ورائه حتى قال قائلهم:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(30/90)
الأمر الذي حدا بكثير من الناس إلى تعطيل صفات الله عز وجل، أو تفويضها، أو تأويلها، أو تمثيلها، وكذلك الحالة في عبادة الله عز وجل حيث لم يقتصر الأمر على التقيد بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في ذلك، حتى أصبح الناس في العبادة نتيجة لجهلهم بما كان عليه السلف الصالح من صحة الاعتقاد، أصبحوا ما بين مُفْرِطٍ ومُفَرِّطٍ، فالمفرطون أسرفوا في دعوى المحبة حتى أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة والدعاوى التي تنافي العبودية، وتثبت الربوبية أو شيئاً منها لغير الله، ومعلوم أن الرب والمعبود هو الله وحده، ومع ذلك يدعي هؤلاء دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين- فضلاً عن عامة الناس، أو يطلب من غير الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، لا يصلح للأنبياء ولا للمرسلين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعنى شيوخ المتصوفة) وسببه: ضعفه تحقيق العبودية التي بينها الرسل، وحددها الأمر والنهي، الذي جاءوا به، بل ضعْفُ العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
وإذا ضعف العقل، وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويكون سببا لبغض المحبوب له، ونفوره منه، بل سببا لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: "أي مريدٍ لي ترك في النار أحداً فأنا بريء منه، وقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء".
فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.(30/91)
ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين - وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم. أه.
وإذا كانت هذه المقالات الإلحادية قد وجدت في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله، فإن في عصرنا من الدعاوى التي تبلغ حد التأليه، ما هو أدهى وأمر.
من ذلك قول أحد زعماء الطرق الصوفية المعاصرين:
قد خصني بالفضل والتشريف
إن قلت كن يكن بلا تسويف
ويدعي هذا الكذاب الأشر أن رجلا نصرانيا دخل الجنة بسبب أنه عاشر امرأة من أتباع ذلك الشيخ، معاشرة غير شرعية مع أن المرأة التي عاشرها كما يقول ليست ملتزمة بالطريقة، ولكنه دخل الجنة ببركة شيخ الطريقة التي تنتمي إليها هذه المرأة، ويقول أحد الأفّاكين من هؤلاء إن من ضرورات مذهبهم أن لأئمتهم درجة لا يبلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلى غير ذلك من المقالات الكفرية وإلحادية، القديمة والحديثة، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى.
تُرى ماذا ترك هؤلاء الملاحدة لله من العبودية، إذا ادعوا بلوغ مثل هذه المراتب، وإذا سئلوا عن تفسير هذه التراهات، ادعوا أنهم كانوا في حالة سكر بحب الإله.
قال الشاعر في التهكم بهم ووصف أحوالهم التي يزعمون أنها عبادة:
ألا قل لهم قول عبد نصـ
ـوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا
بأن الغنا سنّةٌ تتبع؟
وأن يأكل المرء أكل الحمار
ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القِصَع
كذاك البهائمُ إن أُشْبعت
يرَقصها رِيُّها والشِبَعْ
ويسكره النايُ ثم العنا
ويس لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى
ألا منكر منكمو للبدع
تهان مساجدنا بالسماع(30/92)
وتكرم عن مثل ذاك البيع
وقال آخر:
تُلي الكتاب فأطرقوا، لا خيفةً
لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى العناء، فكالحمير تناهقوا
والله ما رقصوا لأجل الله
دفٌ ومزمار ونغمةُ شادن
فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثَقُلَ الكتاب عليهمُ لماّ رأوا
تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعداً وبرقا, إذ حوى
زجراً وتخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن
شهواتها، يا ذبحها المتناهي
وأتى السماعُ موافقاً أغراضها
فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع
أسبَابَه، عند الجَهول الساهي؟
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه
خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه
وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه
من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
وما وصفه الشاعر من أحوال هؤلاء الناس يعطى صورة حقيقية عن مدى الانحراف الذي وقعوا فيه حيث بلغ بهم الحال إلى اعتبار الرقص والغناء عبادة تقربهم إلى الله بدعوى أن تلك الرقصات والأنغام الصوفية إنما هي نابعة من قلب مفعم بالمحبة، فجعلوا محبتهم للخالق مشابهة لمحبة المخلوق للمخلوق من وجود العتاب، والعذل واللوم والغرام، ونحو ذلك مما يجب أن ينزه الله عنه. لأنه لا يليق بجلال الله وعظمته.
ولكن الدليل والبرهان على محبة القلب لله وخضوعه له إنما يتجسد في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . فلا يكون محبا لله إلا من اتبع رسوله.
وطاعة الرسول، ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.(30/93)
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر. وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة لشريعة الرسول وسنته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله، الجهاد في سبيله. والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به. وكمال بغض ما نهى الله عنه. ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} . ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم. وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل.
"هذا صنف".
والصنف الثاني وهم المُفَرّطون الذين غلطوا في فهم حقيقة العبادة وهم الذين ظنوا أن المحبة تنافي أدب العبودية، ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد لله. كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق، إنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.
ولذا نجد بعضهم يقول اللهم إني أعبدك لا طمعاً في ثوابك ولا خوفاً من عقابك، فانظر يا أخي المسلم، كيف فصلوا بين العبادة وبين الخوف والخشية، والمحبة، والرجاء.
والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية، والمخافة بل الخوف لازم للمحبة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له.(30/94)
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه، راغباً راهباً، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} . إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصوله مرغوبه، فلا يكون عبدا لله، ومحبه، إلا بين خوف ورجاء. كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .
فقد دلت الآية الكريمة على أن كل عبد مخلص لله لابد أن يكون مع عبادته بين الخوف والرجاء، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي للمسلم أن يُغلّب جانب الخوف في الصحة حتى لا يأمن من مكر الله، وأن يُغلَّب جانب الرجاء في المرض حتى لا ييأس من رَوح الله، والآية الكريمة نزلت في أناس من الإنس كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجن، وبقي الإنس على عبادتهم إياهم، فأَخبر الله تعالى، إن هؤلاء المدعوين يطلبون القربة إلى الله، عز وجل، بالعمل بما يرضيه، خوفاً من عقابه. وطمعاً في ثوابه، وهذا ينطبق على كل من يدعو غير الله في الوقت الذي يكون المدعو أحوج ما يكون إلى عبادة الله. كما يقال: "فاقد الشيء لا يعطيه"ومع ذلك نجد كثيراً ممن انتكست فطرتهم، يعكف عند ميت في قبره، يطلب منه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويزعم أنه يعلم الغيب، ويعطي الولد، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله.
ولا نكاد نجد بلداً من بلاد الإسلام، إلا وفيه أنماط من هذه الطقوس التي حالت بين الناس، وبين فهم العقيدة الصحيحة. ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى بيان تلك العقيدة الصافية، الخالصة، التي ترتكز على نصوص الوحيين الكتاب والسنة.(30/95)
فالإنسان في كل زمان، ومكان، في حاجة ماسة إلى عقيدة تحدد له غايته، وتوضح له منهجه الذي يسير عليه لتحقيق هذه الغاية، ولكنه عندما تنتكس فطرته، وتطول غفلته، وينقلب فهمه، حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن، عندها تتحول عقيدته إلى حجر يقدسه، أو شجر يعظمه، أو شمس تضيء نهاره، أو قمر ينير ليله، أو بحر تتلاطم أمواجه، أو نار تتلظى، أو حيوان يهابه، أو إنسان يكبر في نفسه، أو أي مخلوق يرى له فضلا عليه من ملك، أو جني أو نبي، أو ولي، ميت أو حي، فيتعلق من ذلك كله بما هو أوهى من خيوط بيت العنكبوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
وقد يكون ذلك منه لمجرد التقليد من غير وعي، أو تفكير: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .(30/96)
وقد يكون الانحراف في العقيدة، باتباع الهوى الذي ذمه الله في غير ما آية، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} .
وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
وفي هذا العصر الذي أدلهمت فيه الظلمات، وانقلبت فيه الحقائق، وتغير ت فيه المفاهيم، يتساءل الفرد المسلم عن طريق الخلاص، يتساءل وهو حائر بين هذه الجماعات المتصارعة، والأحزاب المتناحرة، والدعوات المتفرقة ذات المناهج المختلفة التي تدعي لنفسها السير على المنهج الصحيح.
وكل يدعي وصلاً لليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك
وهذه الدعوات لا يخلو أمرها من حالين:
إحداهما: الخطأ في المنهج والسلوك:
كمناهج الطرق الصوفية التي ذكرنا فيما سبق بعض مقالاتهم الإلحادية التي لا تَمتُ إلى الدين بصلة بل صرفت اتباعها عن الاعتماد على الكتاب والسنة اللذين هما مصدر شريعة الإسلام.
والحال الثانية: الخطأ في الفكر:
كمثل جماعات الدعوة الإسلامية المعاصرة، والتي تنطلق في دعواتها من منطلق حزبي ضيق.
الأمر الذي بعد بهم عن منهج السلف الصالح، إذ أن هذه الجماعَات لم تؤسس بناء دعوتها على توحيد الباري جل وعلا. والعقيدة السلفية الصافية من الشوائب.(30/97)
فإن من تأثر بتلك الدعوات إن كان من أهل العقيدة أصلاً لا يكون ولاؤه لها، ولا يكون فكره متفقا معها، بسبب سيطرة هذه المناهج على أفكاره، حتى ماتت العقيدة في نفسه، فأصبح لا يدعو لها وإن كان يعتقدها، لكنه بعد عنها تحت تأثير المنهج الحزبي، لأنه يوالى، ويعادي على ذلك الفكر الضيق، الذي بني على غير أسس سليمة، فلا يكون للعقيدة مكان ولا مجال في التطبيق العملي، ولا تعطي ثمراتها الطيبة اليانعة، فهي لا تفيد معتقدها، لأنها قد فقدت روحها، فأصبحت، بلا روح كالجذوة التي استترت وانغمرت تحت الرماد.
وخطورة هذا الأمر لا تقل خطورة عن الجهل بالعقيدة، فإن من يعرف العقيدة ولا يدعو إليها، هو كالجاهل بها سواء بسواء. وهؤلاء إنما أصيبوا بالخرس عن الدعوة إلى العقيدة بدعوى أن ذلك يفرق الأمة، ويمزق كيانها. لأنهم يريدون أن يجمعوا تحت لوائهم من هب ودب. لا فرق في ذلك عندهم بين ملتزم بالعقيدة الصحيحة وغيره. إذ إن الهدف الذي يقصدونه هو مجرد الجمع دون تمييز.
وهذا منهج بلا شك سينتهي بأصحابه إلى الفشل الذريع نظراً لكونه قد بنى على غير أسس سليمة. وذلك أن أصحاب هذا المسلك أتوا من عدم الفهم، والإدراك الصحيح حيث لم يفرقوا في الدعوة، بين الأصول، والفروع، فتراهم يبدأون بالدعوة إلى بعض الفروع، ويزعمون أنه متى أقيم هذا الفرع، فإنه سوف يوجد الأصل تلقائيا، ولذا نرى كثيرا منهم يهتمون بالجانب السياسي، بدعوى أنه متى وجدت الدولة التي ينشدونها عند ذلك تصلح العقيدة، وغيرها، مما فسد من أحوال المسلمين، وهذا تصور غير صحيح، لأن صاحب هذا التصور ذكر شيئاً، وغابت عنه أشياء.
نعم الإسلام دين، ودولة، وعقيدة، وشريعة، ولكن يجب أن نأخذه كوحدة متكاملة بحيث ينطلق في سياسته، وجميع أموره أن العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وهما كفيلان ببيان منهج الدعوة الإسلامية. كما فصلنا ذلك فيما تقدم.(30/98)
لا بمجرد الدعاية والأناشيد الحماسية والهتافات، والشعارات الجوفاء التي لم يستفد منها المسلمون سوى القضاء على الدعوة وأهلها في كثير من البلاد، حيث يهيجون الشباب المسلم، ويلهبون حماسه، ويستثيرونه، إلى أن يثور، ويتحرك، فيقع في أيدي الطغاة الظلمة، أعداء الإسلام والمسلمين، فيقضون على هؤلاء الشباب، ويهدرون هذه الطاقة نتيجة لذلك المسلك الخاطئ، الذي تسلكه تلك الجماعَات في دعوتها. وإذا أردنا، أن يتحقق للمسلمين، ما يصبون إليه وما يتطلعون إليه، من العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح، فعلينا أن نسلك بهم طريق التعليم، والتربية، وتفقيه الشباب المسلم في دينه، وتبصيرهم في ذلك حتى تزول بإذن الله تلك الشوائب التي علقت بالدين، ودعوته، وتلك الرواسب التي أكل عليها الدهر، وشرب، والتي انحرفت بالمسلمين عن الجادة الصحيحة التي رسمها الله عَز وجل، في كتابه المبين، وبينها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، ولنا أسوة حسنة في أولئك الدعَاة المصلحين الذين أسسوا دعوتهم على عقيدة الإسلام، وبدأوا بتطهيرها من شوائب الشرك والخرافات.
الأمر الذي تحقق بسببه رفع راية التوحيد, خفاقة في ربوع الجزيرة العربية، بعد أن ران عليها الجهل، وخيم عليها الظلام، عدة قرون، وعاد كثير من الناس إلى الشرك، والخرافات، فانقشع ذلك الجهل، وتحول ذلك الظلام إلى نور، على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الذي بدأ بتعليم الناس، العقيدة الصحيحة، وقامت بفضل هذه العقيدة، دولة التوحيد، منذ أن قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله، مؤسس هذه الدولة المباركة بتبني، هذه الدعوة، فكتبَ الله لها بذلك النصر، والبقاء، وزالت مظاهر الشرك، والوثنية في برهة وجيزة، وهى لم تكن لتزول، لو لم تنطلق هذه الدعوة من روح العقيدة.(30/99)
ولست مبالغاً حينما أذكر هذه الحقيقة، فإنها حقيقة يسلم بها الأعداء؟ فضلا عن الأصدقاء، والحق محا شهدت به الأعداء.
وخلاصه القول أنه لا صلاح لنا، ولا فلاح، ولا نجاح لدعوتنا، إلا إذا بدأنا بالأهم، قبل المهم، وذلك بأن ننطلق في دعوتنا ثمن عتيدة التوحيد، نبني عليها سياستنا، وأحكامنا، وأخلاقنا، وآدابنا, ننطلق في كل ذلك أن هدف الكتاب، والسنة، بلا إفراط، ولا تفريط، ذلكم هو الصراط المستقيم، والمنهج القويم، الذي أمرنا الله تعالى، بسلوكه، فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم أمرين، لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي ".
ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
اللهم إنا نسألك أن ترد المسلمين إلى دينهم رداً جميلا، ونسألك أن ترينا الحق حقاً، وترزقنا اتباعه، والباطل باطلاً، وترزقنا اجتنابه وأن لا تجعله ملتبساً علينا فنضل. إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.(30/100)
أثر العقيدَة الإسلاميَّةِ
في تضامُنِ وَوَحْدَة الأمَّةِ الإسلاميَّةِ
الدكتور أحمد سعد الغامدي
أستاذ مساعد بكيلة الدعوة وأصول الدين
الحمد لله رب العالمين والصلاة على رسوله الأمين وبعد:
فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى اللقاء ... وإلى التعاون ... إحساس منطقي وواقعي ... ذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات ... وأنهكتها النزاعات ... والتي كانت سبباً لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه لصوت الضعفاء ولاِ لأنين الجرحى.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
فارتفاع الأصوات المسلمة من هنا وهناك تنادي بضرورة وحدة الأمة واجتماع كلمتها. أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمي حقها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} .
ولكنه لابد للأمة المسلمة- وهى تلم شعثها وتوحد صفوفها- لابد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع وللأسس التي ينبغي عليها والوسائل التي يمكن أن تتحقق بها تلك الأسس. وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف.
وإن المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة والدعاة. الذي ستعقده الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في شهر ربيع الأول لهذا العام 1404 هـ والذي سيكون موضوعه "سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين". لهو استجابة موفقة لمدارسة السبل التي تؤدي إلى وحدة الأمة.
وهذا بحث موجز بعنوان "أثر العقيدة الإسلامية في تضامن المسلمين ووحدة الأمة الإسلامية". أحببت أن أشارك به في هذا المؤتمر راجياً من الله أن ينفع به.(30/101)
ويتضمن هذا البحث أربعة أقسام تحت كل قسم منها عدة قضايا شارحة له ثم ألحقت بها خاتمة موجزة بينت فيها أهم ما اشتمل عليه هذا البحث.
أقسام البحث:
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
أولاً: في العقيدة.
ثانياً: في العبادة.
ثالثاً: في الشريعة.
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
أولاً: الجهل بدين الله.
ثانياً: تمزيق الاستعمار لبلدان المسلمين.
ثالثاً: الغزو الفكري.
القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية:
أولاً: وحدة العقيدة.
ثانياً: وحدة الغاية.
ثالثاً: وحدة القيادة.
رابعاً: وحدة المنهج.
القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة:
أولاً: التعليم الموجه.
ثانياً: الإعلام الملتزم.
ثالثاً: الاقتصاد المستقل.
رابعاً: إيجاد مراكز علمية.
الخاتمة.
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يهيء أسباب الوحدة الصحيحة وأن يجمع كلمة الأمة على الحق إنه سميع مجيب.
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
واقع الأمة الإسلامية واقع مكشوف لا يكاد يجهله أحد. فقد تعرض لأمراض متعددة وانحرافات متنوعة بحيث لا يكاد يسلم منه شيء ... لا في العقيدة ... ولا في العبادة ... ولا في الشريعة ... وسنحاول هنا الإشارة إلى ذلك الواقع بشيء من الإيجاز:
أولاً: في العقيدة:
إن أخطر الانحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الانحرافات في العقيدة ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها ولكننا سنكتفي بالتنبيه على بعضها.
(1) انحرافات إلحادية: هدف أصحابها استبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام ... وهم طوائف متعددة: منهم من يعلن عقيدته الإلحادية ويظهر كفره بالله ورسله واليوم الآخر ومنهم من يخفي ذلك وراء شعارات ظاهرها الدعوة إلى الإصلاح وباطنها الكفر والإلحاد.(30/102)
(2) انحرافات طائفية: تتمثل في طوائف مستقلة- كالقاديانية والبهائية ونحوها من الطوائف التي خرجت على عقيدة الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهي تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفتها لعقيدة ختم النبوة التي هي جزء من عقيدة المسلمين.
(3) انحرافات طائفية قديمة: لازالت قوية ونشطة في دعواتها رغم انحرافها وفساد معتقداتها ومن تلك الطوائف.
طائفتا الشيعة والصوفية:
فالأولى تقوم على عقيدة تخالف عقيدة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك إسباغ صفات الألوهية على أئمتهم وادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب ثم تدعي كذلك أنهم يتلقون الوحي من السماء وفي كلا الأمرين إساءة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً فإنها تقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتهمهم بالخيانة والردة.
وهذا جميعه ينتهي إلى إلغاء الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأئمة يعلمون الغيب وإذا أراد الله عز وجل أن يحدث أمراً استشارهم - كما في أصول الكافي لهم- وهذا إساءة إلى الله.
والأئمة يوحى إليهم مع العلم أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بانقطاع الوحي ... وهذا يصادم خبره ...
والصحابة قد خانوا في دين الله ... فالإسلام الذي نقلوه غير موثوق فيه ... وبهذا فالإسلام غير موثوق به ...
إذن فليعد الناس إلى المجوسية الفارسية ... وهذا هو المطلوب للحركة الشيعية.
وأما الصوفية فقد ابتدعت تقديس الأفراد ودعوى رفع التكاليف عن بعض الناس كما أعادت إلى الأذهان تلك الطقوس الكنسية التي أفسدت الدين النصراني حيث اتخذت من البشر وسائط عند الله بها تقضى الحاجات وتغفر الزلات إلى عشرات أخرى من الانحرافات.(30/103)
كما أنها تدعي الاستقلال في معرفة الشريعة إذ أن الأولياء يأخذون حاجتهم من اللوح المحفوظ مباشرة وهذا كلام يخرج صاحبه من الإسلام.
وقد كان التصوف من الأسباب المباشرة بظهور الشرك في الأمة بتقديس الأموات وطلب حاجاتهم منهم واتخاذ قبورهم مزارات وأماكن للعبادة وزاحم تعظيم الأموات توحيد الله عز وجل في القلوب. فكثرت الأضرحة وتعددت الفرق والأحزاب لكل حزب ضريح به يستغيثون وعنده ينيخون وإليه عند نزول الحوادث يلجأون.
انحرافات في الجانب النظري: "العلمي"من العقيدة وهو ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله فقد وجدت الإتجاهات المنحرفة التي تتنكر لهذا الجانب أو لبعضه فأولت الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة وردّت الأحاديث الأخرى والتي تعرف الناس بربهم عز وجل وأنه عليم حكيم سميع بصير يقول ما يريد ويفعل ما يشاء يأمر وينهى وأنه استوى على عرشه استوأً يليق بجلاله وعظمته.
فكان من ثمرات ذلك الرد والتأويل أنها حالت بين الناس ومعرفة ربهم فانتهى بهم هذا إلى الإلحاد والتعطيل.
وقد أتى القوم من ضلال عقولهم القاصرة وظنهم أن إثبات تلك الصفات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي التشبيه بالمخلوق.
وهذا إساءة إلى الله ورسوله حيث أن في هذا الكلام اتهام لله ورسوله بالعجز عن البيان ... لأنهم لم يفهموا من تلك الآيات والأحاديث إلا التشبيه ... والله عز وجل يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقد فروا من تشبيه إلى تشبيه.
فإنكار كلام الله عز وجل لئلا يشبه الإنسان المتكلم- كما زعموا- تشبيه لله عز وجل بالجماد فلم يسلموا من التشبيه على مذهبهم.
ولكن الاعتقاد الصحيح إثبات ما أثبته الله عز وجل وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله.
ثانيا: في العبادة:(30/104)
لم تسلم العبادات- كذلك- من الشوائب حيث تعرضت لأنواع متعددة من الإنحرافات والبدع نورد طرفاً منها.
(1) الغلو المفرط في أدائها والذي كان يمثله فيما سبق طائفتا الخوارج والصوفية حيث كان لكل منهما غلو مفرط في جانب أو جوانب من الإسلام.
فالخوارج كانوا يصومون النهار ويقومون الليل حتى أصبحت أجسادهم شاحبة نحيلة من طول القيام وشدة الجوع والعطش.
والصوفية بالغوا في الذكر والزهد حتى كان أحدهم يعيش على الصدقات والهبات ويخلو بنفسه في الزوايا المظلمة ليصل بزعمه إلى درجة اليقين فتسقط عنه التكاليف.
(2) الإهمال المطلق للعبادات والإكتفاء بلفظ الشهادتين وهذا الإنحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي للعمل اهتماماً إذ أن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط أو به وبالاعتقاد فقط.
وقد أصبح في الآونة الأخيرة ترك العبادات ظاهرة بارزة في أغلب المجتمعات الإسلامية ولاشك أن هذا لا يتفق مع أصول الدين.
(3) عدم التزام كثير من المسلمين بالأداء الصحيح للعبادات فهو يؤديها بصورة ناقصة أو محرفة وهو لا يشعر بذلك وقد يظن أنه يؤديها بالصورة الصحيحة فكان من نتائج ذلك حرمانهم من لذة العبادة وثمراتها.
ثالثاً: في الشريعة
لم تقتصر الانحرافات على الجانبين السابقين بل شملت- كذلك- الشريعة حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية- تعرضت إلى انحراف وفساد بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية نذكر طرفاً من ذلك:(30/105)
(1) محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها وذلك من آثار الاستعمار العسكري والفكري الذي مزق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده ... فوجد في المسلمين من يتحمس لتلك القوانين ويتبنى ذلك الكفر والضلال. هذا إلى جانب ما خلفه الاستعمار في بلدان المسلمين من أنظمة كافرة لازالت تسيطر على كثير منها إلى اليوم بعد أن كانت تحكمها الشريعة الإسلامية.
(2) محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية فيؤخذ من الشريعة الإسلامية ما يتعلق بالأمور الشخصية وبعض الجوانب الأخرى ثم تكمل من القوانين الوضعية.
وهذا وإن كان أصحابه أخف من المتقدمين ولكنه كذلك طعن في الشريعة الإسلامية واعتقاد نقصها وحاجتها إلى أنظمة أخرى مشاركة.
هذا عرض مجمل لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل من جوانبه مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة واجتماع كلمتها ... فقد أصيبت في عقائدها ... وعباداتها ... وشريعتها ... وما لم يصحح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة ...
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر طرفاً منها- أو أهمها- وهي:
أولاً: جهل الأمة بدينها:
إذ لولا الجهل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما وجدت تلك الضلالات طريقاً إلى المسلمين لا في عقيدتهم ولا في عبادتهم ولا في شريعتهم فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله " [1] . فلو لم تصاب الأمة بداء الجهل بهما لما وصلت إلى حيث ما وصلت إليه.(30/106)
ونحن نلمس أصابع الغزو الاستعماري في مناهج التعليم في كثير من بلدان المسلمين والتي قد خلت أو قلصت منها المواد الدينية حتى أن المتخرج من تلك المدارس لا يكاد يحسن فهم دينه ... بل لا يفهم من دينه إلا أنه مجموعة من العبادات المحددة فقط.
وهذا الجهل هو الذي يمهد الطريق لكل وارد غريب يتسلل إلى البلدان الإسلامية.
ثانياً: تمزيق الاستعمار لبلدان المسلمين:
كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة تستظل براية واحدة وتخضع لقيادة واحدة فكانت ذات شوكة ومنعة ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها فضعفت قوتها وذلت عزتها فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات واستولت على كثير منها فترات طويلة ثم خرجت منها مخلفة وراءها آثارها الاستعمارية التي لا تزال إلى اليوم.
وقد ركز الاستعمار أثناء وجوده على إحياء القوميات الجاهلية التي كانت عليها قبل الإسلام فاستجاب لها بعض المسلمين فحملوا لواءها ودعوا إليها فكان من ثمار ذلك تعميق الاختلاف وإضعاف الروابط بين أفراد الأمة.
ثالثاً: الغزو الفكري المنظم:
هناك عدة جبهات اشتركت في غزو البلدان الإسلامية أهمها ثلاث جبهات:
أولاها: الصليبية الحاقدة والتي قد دخلت البلاد الإسلامية مستعمرة مخربة وبقيت فيها فترة طويلة تحارب الإسلام بشتى الوسائل وتبشر بالنصرانية ثم رحلت مخلفة وراءها بقايا الفساد بعد أن ربّت جيلاً يرعى ذلك الفساد وينشره ولا زالت جيوش الغزو الصليببي تعيث في الأرض فساداً.
والجبهة الثانية: هي "اليهودية"الآثمة التي يتمثل دورها في تصنيع المذاهب المنحرفة والأفكار المضلة وتصديرها إلى بلدان المسلمين.(30/107)
والجبهة الثالثة: هي "الشيوعية الملحدة" والتي هي من ثمرات اليهودية وقد أصبح لها كيان ودولة وهي تنشر أفكارها وإلحادها بشتى الوسائل ابتداءً بالدعوة السلمية وانتهاءً بقوة الحديد والنار.
وقد أصبح لها في بلاد المسلمين أتباع وأنصار يفرقون الأمة ويمزقون وحدتها.
فهذه الجبهات الثلاث قد اشتركت في غزو المسلمين ومحاربة دينهم وتمزيق صفوفهم فانقسمت الأمة الإسلامية وتعدد ولاؤها بحسب الجبهة التي تقودها وتسير على خطاها ولا يكاد يسلم من الأمة أحداً إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
القسم الثالث: أسس الوحدة الإسلامية:
إن الأمة الإسلامية تملك أسساً مشتركة تستطيع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها ... فهي أمة واحدة ... ذات دين واحد ... وكتاب واحد ... ورسول واحد ... هذه هي الأصول الثابتة التي تشترك فيها الأمة. فإذا ما أدركتها جيداً والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منهم أمة واحدة تلتقي على:
وحدة الغاية.
وحدة العقيدة.
وحدة القيادة.
وحدة المنهج.
فهذه الأسس التي تجتمع عليها الأمة وتكون عليها الوحدة الإسلامية الشاملة ... وأي خلل أو نقص فيها فإن ذلك يؤدي إلى استمرار الواقع المؤلم ... واقع التفرق والتمزق. وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس.
أولاً: وحدة الغاية:
إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض "غاية"يؤديها في وجوده فإذا عرفها وتمثلها في حياته فإنه يسعد في الدنيا والآخرة وإذا جهلها وأعرض عنها فإنه يشقى في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية هي "العبادة"لله عز وجل والقيام بدور الخلافة الصحيح في الأرض كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} . فهذه هي الغاية.(30/108)
والمسلمون ولله الحمد قد أدركوا هذه الغاية التي حرمها كثير من الشعوب فضلوا وشقوا وذلك ظاهر لكل متأمل في أحوالهم وشئونهم وإن ملكوا وسائل الإنتاج واكتشفوا كثيراً من قوانين المادة فإن ذلك لم يخفف من وطأة الشقاء النفسي لتلك المجتمعات.
ولكن المسلمين رغم إدراكهم لهذه الحقيقة فإنهم قد فرطوا فيها وأعرضوا عن تحقيقها فكان ذلك سبباً في شقائهم وضعفهم وتسلط عدوهم عليهم.
فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها لنحقق لأنفسنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وتحقيق هذه الغاية "العبودية لله عز وجل"سيكون سبباً من أسباب الوحدة للأمة فإنه إذا توحدت غايات الشعوب المسلمة وغايات القيادات المسلمة فإنه ولاشك ستتحد الآمال والأهداف التي تجمع الأمة.
ولكنه إذا تعددت الغايات وكان لكل بلد من البلدان الإسلامية غاية أو غايات أخرى كلها من صنع البشر ... فارتبطت بشهواتها وأطماعها العاجلة فإن ذلك لا يقطعها عن العالم الإسلامي فحسب بل يقطع صلتها بالله عز وجل وانتسابها إلى الإسلام ... لأن الإسلام يحدد للإنسان غايته في هذه الحياة فإن التزمها الإنسان في حياته صحت نسبته إلى الإسلام وإن أعرض عنها فقد قطع صلته بهذا الدين.
ولو لم تضعف هذه الحقيقة في نفوس المسلمين لما حدثت الانقسامات بينهم ولما استطاع أعداء الإسلام أن يجدوا رواجاً لأفكارهم الضالة في بلدان المسلمين لأن الإسلام نور وغيره ظلام ومن كان في النور فإنه لا يرضى بالظلام بديلا قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} .
ثانياً: وحدة العقيدة:(30/109)
لقد تعرضت العقيدة الإسلامية في كثير من البلدان الإسلامية وعلى مدار التاريخ إلى انحرافات خطيرة وتصورات خاطئة شوهت جمال العقيدة وأوجدت في الأمة الواحدة مذاهب متعددة وطوائف متفرقة لكل منها أتباع وأنصار ... وما ذلك إلا لانتشار الجهل في صفوفهم.
لهذا فإنه لابد من إعادة النظر في ذلك الانحراف وتصحيحه بما يوافق الكتاب والسنة وتجريد العقيدة من الآراء البشرية التي لحقت بها ليتيسر للأمة الاجتماع واللقاء.
فإن العقيدة هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين فإذا قوى الأساس وخلص من الانحراف سهل على الأمر تصحيح بقية الانحرافات الأخرى وأمكن لها الاجتماع واللقاء ... وإلا فلا اجتماع ولا لقاء.
فالله عز وجل هو رب العالمين ومدبر الكون ومالكه وما عداه مخلوق مربوب محتاج فقير.
والله هو وحده المستحق للعبادة لا رب غيره ولا إله، وغيره عبد ذليل.
ولله عز وجل الأسماء الحسنى والصفات العليا لا نحرف ولا نعطل ولا نشبه ولا نمثل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولا ننسى بقية أركان الإيمان من الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
هذا مجمل عقائد الإسلام فإذا ما رسخت هذه الحقيقة في نفوس الأمة وأصبحت واضحة في القلوب بلا غش ولا خفاء أمكن للأمة أن تلتقي وتتحد ... إذ صفاء الاعتقاد وسلامته من الآراء الدخيلة عليه يعني إزالة الحواجز التي قامت بين الأمة وفرقتها إلى شيع وأحزاب.
ثالثاً: وحدة القيادة:
لقد شاء الله عز وجل أن يكون الإسلام آخر الرسالات السماوية إلى الأرض ... وأن يكون محمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل فيه أكمل الله الدين وبه ختم المرسلين فلا دين بعد دينه ولا نبي بعده.
فالإسلام هو الدين الذي رضيه الله لنا ديناً نتعبده به ونلتزم بشريعته.
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو القائد الذي يجب أن نسير خلفه ونقتفي أثره.(30/110)
وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغي هذه القيادة أو تقلل منها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له ... بل كل قيادة تتمرد هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.
هذه حقيقة ينبغي أن تتضح في أذهان المسلمين إذ بقدر وضوحها والتزامهم بها بقدر ما يتيسر للأمة الاجتماع والاتحاد ... وبقدر جهلها أو تجاهلها بقدر ما تبتعد الشقة ويتعذر اللقاء.
فإن إدراك الأمة لهذه الحقيقة يعني "توحيد القيادة"فالجميع يلتقون على قيادة واحدة بها يتأسون وعلى خطاها يسيرون فمنها يتلقون التوجيهات ومنها يعرفون الأحكام والعبادات ... فالحلال ما أخبر بحله والحرام ما نهى عنه ... والخير ما دل عليه ... والشر ما حذر منه {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
فليس هناك قيادة أخرى لها هذا الحق ولا بعضه وإنما تأتي لها الحقوق بمقدار متابعتها لهذه القيادة.
رابعاً: وحدة المنهج:
من الأسباب الرئيسة لتمزيق الأمة الإسلامية تعدد المناهج التي تتبعها في مجتمعاتها ... تلك المناهج التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها ... بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها ... فكان من نتائج ذلك أن اختلفت الأمة وتعددت مناهجها ... فوقعت الفجوة بين المناهج والواقع ... وبين القيادات والشعوب ... بل بين القيادات نفسها ... فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.
وما لم يتحد المنهج للأمة الإسلامية فيكون منهجها واحداً كما يقتضيه دينها فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة خاسرة.(30/111)
وهذا المنهج الذي يجب اتباعه ليس له إلا مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى فهو الذي يضعه لخلقه ويحدده والبشر عبيده وخلقه لا يجوز لهم أن يختاروا أو يرفضوا وإلا فإن ذلك يعرضهم لمقته وسخطه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} .
هذا هو حال المسلم مع شريعة ربه ومنهاجه، فإذا اتضحت هذه الحقيقة في أذهان المسلمين تمثلوها في واقعهم فإنه يتيسر لهم اللقاء والاتحاد.
القسم الرابع: وسائل تحقيق الوحدة:
عرضنا في المبحث السابق الأسس التي لابد منها لتوحيد الأمة الإسلامية وهي وإن كانت شرطاً في تحقيق إيمان المسلم فلا يكون مسلماً بدونها ... فإنها شرط في تحقيق وحدة الأمة واجتماع كلمتها.
ولكن هذه الأسس- كما رأينا من قبل- قد تعرضت للفساد والانحراف واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية فكان لابد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوه.
وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة للقيام بذلك الدور ورعايته في المجتمعات الإسلامية. ومن تلك الوسائل ما يأتي:
التعليم الموجه:
فإن المؤسسات التعليمية من أهم الوسائل الموجهة في المجتمع ... وكثيراً ما ينعكس أثرها على المجتمع ... سواء كان ذلك الأثر خيراً أم شراً.
والمدرسة هي منهج ومعلم ... فإذا صلحا صلحت الأجيال وإذا فسدا فسدت الأجيال- إذا شاء الله ذلك.
لذا فإنه لابد من إعادة صياغة المناهج في مدارس المسلمين وجامعاتهم بحيث يراعى في وضعها تلك الأسس التي تمثل قاعدة الوحدة الإسلامية فتشتمل المناهج على بيان العقيدة والغاية والقيادة والمنهج وتعمق هذه المعاني في نفوس أبناء الأمة ويبين لهم أن هذه أسس الإيمان التي يكون بها الإنسان مسلماً ... ويكون بها المجتمع جزءً من الأمة الإسلامية.
وبهذا تتهيأ للمسلمين أسباب الاجتماع والاتحاد.(30/112)
وإلى جانب هذا البناء الإيماني للفرد المسلم يبين كذلك فساد المذاهب البشرية التي تسود كثيراً من المجتمعات البشرية اليوم وأنها مذاهب ضالة باطلة لا حق لها في الوجود ولا في البقاء.
كما يبين كذلك انتهاء دور الديانات السماوية الأخرى التي كانت قبل الإسلام وأنها قد نسخت بالإسلام كما أنها قد تعرضت للفساد والتحريف ... فهي لا تمثل الدين الذي أنزله الله عز وجَل.
وهذا: البيان هو بمثابة الصيانة والحماية لتلك الأسس الإسلامية.
ثانياً: الإعلام الملتزم:
لقد أصبح للإعلام في العصر الحاضر- بكل وسائله المسموعة والمرئية والمقروءة- دور خطير في الحياة الإنسانية ... فهو يقتحم كل بيت ويصل إلى كل إنسان.
ووسائل الإعلام اليوم في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأَخلاق الرذيلة ... بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسيء إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة ... وهذا كله مضاد لدين الأمة ومفرقة لجمعها وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها.
ولن يكون هناك لقاء أو اتحاد وإعلام المسلمين أو بعضه بهذه الصورة.
فلابد إذن من إعادة البناء الإعلامي بناءً صحيحاً بحيث يكون قادراً على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بخاصيتها في هذه الحياة والمنهج الذي اختاره الله عز وجل لها كما تبين إلى جانب ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية وأنه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى تنازع القيادة المحمدية أو تزاحمها.
فإذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يثبت هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع وساهم في وحدة الأمة ... وإلا فلا وحدة ولا اجتماع.
ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين بالإعلام فتختار الكفاءات المؤمنة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها.(30/113)
ثالثاً: الاقتصاد المستقل:
إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية - اليوم- واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم والذي انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعاً للاتجاه الذي يغلب على كل بلد كان له آثَاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية.
ومحاولة عودة الأمة إلى دينها يلزم منه التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية بالعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من ذلك المنهج الشامل الكامل الذي هو جزء من دين الأمة لا يتم بل لا يوجد بدونه والذي هو أحد الأسس التي تلتقي عليها الأمة.
ولابد من إيجاد اقتصاد إسلامي مستقل ليس مرتبطاً بأي نظام آخر لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم.
ويتم ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة اقتصادية مشتركة تشرف على ذلك الاقتصاد الإسلامي المستقل.
وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية ...
والاقتصاد في الحقيقة هو ضمن المنهج الإسلامي الذي يعتبر أحد الأسس للوحدة الإسلامية ... والذي أريده هنا هو التعاون العَام وتوحيد الأسواق والعملات الذي يعطي للأمة شخصيتها المستقلة ويمهد السبيل للوحدة واللقاء.
رابعاً: إيجاد مراكز علمية:
لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لابد لها من إعداد وتخطيط بحيث تظهر بالصورة الصحيحة كان لابد من مراكز علمية مختلفة تكون مهمتها التخطيط الدقيق لتلك الجوانب إلى جوانب أخرى تتعلق بحياة الأمة.
فتلك المراكز متعددة الأغراض تمثل الهيئة الاستشارية والمخططة لتوحيد الأمة وتكاملها ونموها في جميع الجوانب بحيث تتحد الأمة في كل المظاهر إلى جانب اتحادها في القواعد.
الخاتمة:
في نهاية هذا البحث الموجز نذكر أهم القضايا التي اشتمل عليها هذا البحث وهي:(30/114)
إن واقع الأمة واقع مؤلم قد تخلله الفساد وسرى فيه الانحراف.
وأن هذا الواقع المنحرف لا يمكن معه اللقاء والاتحاد.
وأن وحدة الأمة لا تتم إلا بتصحيح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة.
والله وحده عز وجل هو المسؤول أن يصلح الأمة الإسلامية وأن يجمع كلمتها على الحق إنه سميع مجيب ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مالك في الموط أفي القدر رقم (3) باب النهي عن القول بالقدر. والحاكم (93:1) عن ابن عباس وعن أبي هريرة.(30/115)
العِبَادَاتُ في الإسلام وَأثرُهَا في تَضَامُن المسلِمِينَ
للدكتور علي عبد اللطيف منصور
أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
العبادة في اللغة:
أصل العبادة في اللغة: التذليل من قولهم طريق معبد أي بكثرة الوطء عليه، ومنه أخذ العبد لذله لمولاه.
"والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني يقال تعبد فلان لفلان، أي تذلل له.
وكل خضوع ليس فوقه خضوع: فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة وكل طاعة لله على وجه الخضوع والتذلل فهي عبادة.
والعبادة: نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر" [1] .
والعبدية، والعبودية، والعبودة، والعبادة: الطاعة.
والاعتباد، والاستعباد: التعبيد.
وتعبد أستنسك، وتعبد فلانا: اتخذه عبدا [2] .
العبد: الإنسان حراً كان أو رقيقاً، يذهب بذلك إلى أنه مربوب لباريه عز وجل.
والعبد المملوك خلاف الحر. قال سيبويه: هو في الأصل صفة. قالوا. رجل عبد، ولكنه استعمل استعمال الأسماء والجمع أعبد وعبيد. مثل أكلب وكليب. وهو جمع عزيز وعباد وعبد، مثل: سقف وسقاف وسقف.
وأنشد الأخفش:
انسب العبد إلى آبائه
أسود الجلدة من قوم عبد
وقال الليث: في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُد} أي نطيع الطاعة التي يخضع معها، وقيل إياك نوحد.
قال: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع. ومنه طريق معبد. إذا كان مذللا بكثرة الوطء. وقوله تعالى: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي دائنون وكل من دان لملك فهو عابد له.
قال ابن الأنباري: فلان عابد، وهو الخاضع لربه المنقاد لأمره.
وقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي أطيعوا ربكم.
والمتعبد: المنفرد بالعبادة.
والمعبد: المكرم المعظم. كأنه يعبد. قال:(30/116)
تقول: ألا تمسك عليك فأنني
أرى المال عند الباخلين معبدا
والتعبيد: التذليل. وبعير معبد: مذلل. وطريق معبد: مسلوك مذلل [3] .
والمتأمل في هذه النقول التي أوردتها عن فقهاء اللغة يجد أن المعاني التي ذكروها بيانا لهذه الكلمة، أعني العبادة لا تتجاوز هذه المعاني:
الخضوع، الطاعة، التذلل، التنسك.
العبادة في الشرع:
عبارة عما يجمع كمال الخضوع والمحبة، والخشية لله تعالى.
يقول ابن تيمية رحمة الله"والعبادة: أصل معناها الذل. يقال طريق معبد، إذا كان مذللاً، قد وطئته الأقدام. لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل، ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب: هو التتيم، وأوله. العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام: وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيم".
يقال: تيم الله. أي عبد الله فالمتيم: المعبد المحبوب، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له. ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له. كما قد يحب الرجل ولده وصديقه.
ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء بل لا يستحق المحبة، والخضوع التام إلا الله تعالى.
وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير تعظيم أمر الله فتعظيمه باطل، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ] التوبة: 24 [.(30/117)
فجنس المحبة تكون لله ولرسوله، كالطاعة، فإن الطاعة لله ولرسوله ولإرضاء الله ورسوله {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} ] التوبة: 62 [.
والإيتاء لله ولرسوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ] التوبة: 59 [[4] .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:"العبادة: تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد، أي مذلل والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته، ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له، حتى تكون محبا خاضعا" [5] .
ويقول ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "والعبادة في اللغة: من الذلة. يقال طريق معبد أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع، والخوف، وقدم المفعول، وهو إياك وكرره للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع إلى هذين المعنيين".
وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول والقوة. والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير ما موضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ] هود: 23 [ {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ] الملك: 39 [ {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ] المزمل:9 [، وكذلك هذه الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ] الفاتحة: 4 [[6] .(30/118)
ومن هنا نستطيع أن ندرك أن العبادة التي قصد إليها الشارع، والتي تعلى الإنسان وتشرفه، وترفع من قدره ومكانته، وتجعله يحس بإنسانيته وكرامته، هي تلك التي تجمع بين الخضوع لله تعالى، والمحبة له، والخشية منه.
وكلما اكتملت هذه المعاني في عبد كان أقرب إلى ربه، وأكرم عليه من غيره، وأحق بالأمانة في الدين، وقيادة المتقين، والحديث عن رب العالمين.
وأساس الخضوع لله تعالى هو: الإحساس الصادق بهيبته وعظمته، وسلطانه وقدرته، وأنه المعطي المانع، الضار النَافع، المحيي المميت، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الغني عن كل ما سواه، والمحتاج إليه جميع ما عداه.
والإنسان يكون في قمة التواضع، إذا سجد لخالقه ومولاه، وقام بحق مَنْ خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، وهو في ذلك يكون في أسمي حالات القرب، وأرجى أسباب القبول. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" [7] .
وفي معناه قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ] العلق: 19 [وفي السجود: كمال الخضوع والانقياد لمن بيده ملكوت كل شيء، وهو الله رب العالمين وكمال الخضوع إنما يتم إذا استجاب العبد لربه، وآثره على ما سواه، وقدم شريعته على كل الشرائع، وأمره على كل الأمور، وعرف معرفة الشاكرين عظيم حقه عليه، ورحمته به، وجميل إحسانه إليه.
والإنسان الذي يحسر بعظيم فضل ربه عليه وإحسانه الدائم، وعفوه وستره. ورحمته ومغفرته، فإنه يحب ربه أعظم الحب، ويتفانى في إرضائه أشد التفاني ومعنى حبه لله، أن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، مسارعا إلى مرضاته، فارا من سخطه إلى رضاه ومن معصيته إلى طاعته، ومنه إليه.(30/119)
والله سبحانه يحب من عباده صادق الإيمان به وكامل الإخلاص له، وعظيم التوكل عليه، وجميل الثقة بوعده ثم هو يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين فهو يحب من الأعمال والناس ما أحبه الله، فيبادله الله تعالى حباً بحب، ووداً بود، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ] مريم: 96 [. والذين عرفوا ربهم وأحبوه، أحبوا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الذي عرفهم به، ودلهم عليه، بل لا يتم الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الإنسان من نفسه التي بين جنبيه يقول عليه الصلاة والسلام:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس أجمعين" [8] .
ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي: غاية الغايات، ونهاية النهايات ومطلب الأخيار الأبرار، إذ هي لذة القلب نعيمه وراحته ورحمته، وجماله وأنسه وما من خلق قبل المحبة إلا هو طريقها ودليلها والموصل إليها كالتوبة والصبر، إن محبة الله ورسوله إذا حلت في القلب أثرت المحبوب على كل ما عداه، وقدمته على جميع مَنْ سواه، وكل محبة بعد ذلك فهي تابعة كمحبة المؤمن لأخيه المؤمن، وإيثاره على نفسه، وتنفيس كربته وستر عورته.(30/120)
وأما الخوف الذي أضافه ابن كثير إلى تعريف العبادة فهو يعطي أن عباد الله الذين عرفوا ربهم، وخضعوا له واستجابوا لأمره، وأثمرت لهم هذه المعرفة حباً وشوقاً، يخشون ربهم، ويخافونه، وهم دائما بين خوف ورجاء، وقد امتدح الله عباده، الذين يخشون ربهم ويخافون حسابه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ] المؤمنون: 57-61 [.
وكلما قويت معرفة العبد بربه، كلما اشتدت خشيته منه وتعظيمه له يقول عليه الصلاة والسلام."من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة" [9] . وأدلج: سار من أول الليل. والمعنى: التشمير في الطاعة.
والعبادة بعناصرها المتقدمة لا تكون صحيحة ومقبولة إلا إذا وقعت على الوجه المشروع، وقصد بها صاحبها وجه الله وحده، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ] الكهف: 110 [.
وقال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ] البقرة:112 [.
ويقول عليه الصلاة والسلام:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" [10] .(30/121)
ويقول ابن الجوزي رحمه الله:"واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه، ليست مما يقطع بالأقدام، وإنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة قطاع الطريق، والسبيل كالليل المدلهم، غير أن عين الموفق بصر فرس، لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد فلا حول ولا قو إلا بالله" [11] .
أثر العبادات الإسلامية في تضامن المسلمين إجمالاً:
والعبادات التي تترك آثارها الطيبة، ونتائجها العظيمة، في وحدة المسلمين وتضامنهم، ليست انطواء أو انزواء، أو عزلة عن الحياة، والأحياء، للقيام ببعض الشعائر كالصلاة والذكر كما يتصور بعض الناس، ويظنون أنهم إذا قاموا بذلك منقطعين عن الحياة والأحياء، فهم العباد.
هذا مفهوم خاطئ، وقاصر.
فمفهوم العبادة في الإسلام أرحب وأشمل، وأدق وأعمق من هذا التصور المحدود.
إن العبادة في الإسلام تشمل كيان الإنسان كله كما تشمل الحياة بأسرها. ولذا فان العبادات إذا فهمت فهماً صحيحاً وطبقت تطبيقاً دقيقاً أعطت مجتمعاً قوياً متيناً كالبنيان المرصوص، يسعى بذمته أدناه، ويكون يدا على من سواه.
والعبادات التي جاءت في حديث جبريل المشهور من صلاة وزكاة وصيام وحج، أرسيت دعائمه عليها.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، عن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
1- ما العبادة؟
2- وما فروعها؟
3- وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟
4- وما حقيقة العبودية؟
5- وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات؟
وليبسط لنا القول في ذلك.
فأجاب رحمه الله إجابة مسهبة تضمنتها رسالته: العبودية.(30/122)
قال رحمه الله:"العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشيته والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة، وذلك أن العبادة هي: الغاية المحبوبة والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ] الذاريات: 65 [.
وبها أرسل الله جميع الرسل كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} ] الأعراف:59 [.
وكذلك قال هود وصالح وشعيب لقومهم، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} ] الأعراف: 73 [.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ] الأنبياء: 25 [.
وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ] الأنبياء: 92 [.
كما قال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ] المؤمنون: 51-52 [.(30/123)
وجعل ذلك لازما لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ] الحجر: 99 [.
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ] الأنبياء:19-20 [.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ] الأعراف:206 [.
وذم المستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ] غافر:60 [.
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} ] الإنسان: 6 [.
وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ] الفرقان: 63 [.
ومن هذا البيان الرائع، والتفصيل الممتع الذي ذكره الإمام ابن تيمية [12] ، يظهر لنا أثر العبادات في الأفراد والجماعات، أما أثرها في الأفراد فتتمثل في تقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم وتوجيههم الوجهة النافعة، وتصوغهم صياغة جديدة ترتكز على الصلة بالله، والتعرف إليه، وإبراز الخصائص العليا الكامنة فيهم، وتطهيرهم من الغرائز السفلى وفي سبيل تحقيق هذه الغاية أوصى الله عباده بالفضائل وحذرهم من الرذائل فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ] النمل: 90 [.(30/124)
فأثر العبادات واضح في تقويم الأخلاق وتزكية النفوس، وشحز العزائم إلى جانب أنها تزكي في العبد ملكة المراقبة لربه، وترقى به إلى درجة الإحسان الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [13] .
وإذا نظرنا في الأَحاديث، كهذا الذي مر آنفا وكالحديد الذي يقوله فيه عليه الصلاة والسلام لابن عباس وكان رديفه"يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ... الخ" [14] .
إذا رأينا في هذه الأحاديث الكلام الموجه للفرد فإن المقصود به الأفراد ومن مجموع الأفراد تتكون الجماعات والأمم.
وأثر العبادات في الجماعات،"ودعم روابطها وبناء علاقتها على أسس راسخة من العدل والإخاء والأهداف والإحسان. أثر واضح يتمثل في صياغتهم صياغة إنسانية كاملة بتأليف بناء قوي متماسك قائم على العدل والمساواة، والإحسان، والإيثار، والبر والرحمة، والتعاون على جلب الخير، ودفع الضرر، إن الجماعة التي ينشدها الإسلام هي الجماعة المتماسكة المترابطة التي تكونت من اللبنات الصالحة التي بدأت بالإخاء، ثم تجاوزته إلى الحب، ثم علت حتى صارت إلى الإيثار، ومن هنا ندرك أن الجماعة التي يريدها الإسلام لها سمات ومميزات:(30/125)
أولاً: أنها الجماعة المؤمنة وباسم الإيمان ناداها رب العالمين في كثير من الآيات لتستشعر النعمة وتحس بالفضل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ] آل عمران:102-103 [.
ثانياً: أنها الجماعة التي يحكمها العدل والإنصاف يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ] المائدة: 7 [.
ثالثاً: أنها الجماعة التي يقودها خيارها، ويتولى أمرها حكماؤها وعلماؤها.
رابعاً: أنها الجماعة التي تتواصى بالخير والحق، وتتعاون على البر والتقوى وتتناصح على مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات يقول الله سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ] العصر [.(30/126)
خامساً: أنها الجماعة التي تستعذب الجهاد في سبيل الله وتقدم النفس والنفيس والأهل والولد ابتغاء مرضاة الله ورفعا لدينه وإعلاء لكلمته {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ] التوبة: 111 [.
وهذه الجماعة التي اصطفاها الله لرسالته، وخصها بكرامته فارتقت إلى منصب العدالة، وتسلمت درجة الشهادة، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ] الحج:77- 78 [.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين نرى الأثر الواضح القوى للعبادات في الإسلام، وأثرها في المؤمنين به فهو يناديهم بأحب نداء إليهم وهو الإيمان ويأمرهم بمجموعة من العبادات ويخص منها الركوع والسجود ثم الأمر العام بالعبادة، والجهاد في سبيل الله، ويختمها بالأمر بالصلاة والزكاة والاعتصام بالله.(30/127)
يقول الأستاذ سيد قطب في نهاية تفسيره للآيتين:"فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد، والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد والاعتصام بالله، العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد" [15] .
وهذه الجماعة التي انطبعت بطابع العقيدة وتأثرت بالتربية الربانية المتمثل في العبادات في الإسلام هذه الجماعة ليست خيالا، ولا شيئا محالا، وإنما ظهرت في عالم الواقع في العصر النبوي الكريم، وعصر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ولهذا فقد أثنى الله عليهم في كتابه فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ] آل عمران: 110 [.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما سيكون لهذه الأمة من رفعة طالما كانت متمسكة بكتابه، مستجيبة لأمره قائمة بالعبادات وعمل الصالحات خير قيام.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ] النور: 55 [.
ويقول الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ] التوبة: 72 [.(30/128)
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن عند تفسيره لهذه الآية [16] :"إن طبيعة المؤمن، هي طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة، وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون، ومن هنا تقف الأمة الواحدة صفا واحدا لا تدخل بينها عوامل الفرقة وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولابد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها هو الذي يدخل بالفرقة ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها.
السمة التي يقررها العليم الخبير {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} التي تربطهم بالله، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله، ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله.(30/129)
وبذلك يوحدون نهجهم، ويوحدون هدفهم، ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها إنما تكون في هذه الأرض أولا، ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح، رحمة الله في اطمئنان القلب وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث ورحمة الله في صلاح الجماعة، وتعاونها، وتضامنها، واطمئنان كل فرد للحياة، واطمئنانه لرضاء الله"أه.
وبعد هذا العرض المجمل عن أثر العبادات في إصلاح الأفراد والجماعات وعن مدى النتائج الحتمية لذلك وهو التعاون والتراحم والتضامن والتلاحم الذي تكون به قوتهم وعزتهم وسعادتهم في الدارين.
والآن نتحدث عن أثر الصلاة والزكاة والصوم والحج في جمع كلمة المسلمين.
الصلاة:(30/130)
الصلاة هي الفريضة الأولى بعد الإيمان بالله ورسوله، وهي عماد الدين، من وفق إليها، وأعين عليها، فهو الموفق السعيد ومن حرم منها فهو الشقي البعيد، والصلاة التي نقصد الحديث عنها هي التي يخشع فيها صاحبها، ويحافظ على شروطها وآدابها، لا يقتصر دورها على أجر يثاب عليه المؤمن، وعذاب ينجو منه، وإنما تحفظه، وتنفي عنه الشرك الظاهر والخفي، وتعود به إلى صفوف المتواضعين إن كان فيه شيء من الكبر، وترقى به إلى درجة الأعزاء إن كان فيه شيء من الذلة والخنوع، فالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، وأصحاب الثروة والقوة، والنفوذ والسلطان، والذين ليس لهم من ذلك شيء، كل هؤلاء متساوون في الوقوف بين يدي الله والإقبال عليه، لا فضل لأحد منهم على أحد، إلا بمقدار ما في قلبه من تقوى، وما تثمره هذه التقوى من خيرات وما تحجز عنه من موبقات، فكل أعمال الصلاة ترجع الأمر كله لله، يقف المصلون جميعا بين يدي ربهم يأتمون بإمام واحد كأنهم بنيان مرصوص، يعلنون الله أكبر، وإنها لنعم الكلمة التي تفتح بها تلك العبادة، إنها إعلان بأن الله أكبر من كل شيء ففي هذه الكلمة نفي للخوف والتردد، وإبعاد لشبح الهلع والفزع والجبن لذلك كان المؤمنون هم الذين يحققون الحكم التي يمكن أن تثمرها هذه الصلاة.
لذا هيأ الله تعالى بتشريعه وحكمته للصلاة، جوا طيبا من الإجلال والتعظيم، والخشوع والسكينة، والتعاون والاجتماع، ثم شرع الله تعالى الأذان للدعوة إليها والجمع عليها.(30/131)
نداء لم تتجل فيه مقاصد الصلاة ومعانيها فحسب بل تجلت فيه كذلك مقاصد الإسلام، وشعائر التوحيد، ثم أقيمت لها المساجد تلك البيوت التي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه، والتي يتجلى فيها الوقار والسكينة، والخشوع والخضوع، فهي مهبط الرحمات، وملتقى الصالحين وموضع نظر الله في الأرض، فيها يتم التآلف والتعارف، والتوحد والترابط ويتعرف كل على حاجة أخيه قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} ] النور:36-37 [.
لقد كانت هذه المساجد مركز حياة المسلمين، وتعلمهم ودراستهم ومصدر الإصلاح والتوجيه، تعالج فيها قضايا المسلمين الدينية والاجتماعية ويعرفون في ساحاتها كل ما يرفع من شأنهم في حياتهم، ويكتب لهم السعادة بعد مماتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث حدث أو نزل بالمسلمين أمر أن ينادى في الناس (الصلاة جامعة) فيفيض إليهم بالنصح والتذكير ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويبصرهم بما يصلح من حالهم، ويوقظ من قلوبهم، ويشد من عزمهم، وظلت المساجد هكذا تؤدي رسالتها العظيمة في خدمة الإسلام، ودعم وحدة المسلمين فكانت القطب الذي تدور حوله رحى الحياة، وتتفجر فيها ينابيع العلم والهداية، وتنبثق منها أنوار الإصلاح والإرشاد وتنطلق منها موجات الكفاح والجهاد.(30/132)
والمساجد تتجلى فيها عظمة الله وحده، فلا عظمة فيها لمخلوق ولا اختصاص لعظيم أو كبير، ولا فضل لذي حسب أو نسب، وهو مكان مشاع يتساوى فيه الناس جميعا، الحر منهم والعبد، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، قال تعالى في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ] الحجرات: 13 [.
وشرع الله الجماعة للصلاة، وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضائلها فقال:"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة" [17] .
وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم على تركها، والتخلف عنها وأشار إلى أن ذلك من سمات المنافقين فقال عليه الصلاة والسلام:"والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم" [18] .
وقال عليه الصلاة والسلام:"عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " [19] .
وإذا حضر المؤمن الجماعة، عرف إخوانه وعرفوه فلو غاب عنهم سألوا عنه فإن كان غائبا دعوا له- ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة- وإن كان مريضا عادوه فأثيبوا وأجروا، وجبروا خاطره وأدخلوا السرور عليه، وإن كان حاضرا زاروه، فتوطدت أواصر الأخوة، وتأكدت أسباب التضامن والمحبة.
بل إن في الجماعة بجانب ما سبق، حكم جليلة، ومصالح جمة بعضها اجتماعي وخلقي كالوحدة والاجتماع، والتعارف والتعاون، وبعضها ديني أخروي، كالمحافظة على الصلوات والتنافس في إحسانها وإتقانها، ومنها أن إخلاص المخلصين وخشوع الخاشعين يؤثر في الجماعة كلها، ويرى نوره من خلاها فيوقظ النفوس الخامدة، ويحرك الهمم الفاترة وقد يكون سببا في قبول عبادة الجميع.(30/133)
وإكرام بعض الناس ببعض، أمر تقره قواعد الشريعة ويشهد به قول الرسول صلى الله عليه وسلم"هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" [20] .
نعم إن لاجتماع المسلمين، سرا عجيبا، في تدفق الرحمات، وهذا هو السر في صلاة الاستسقاء وجماعتها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاهتمام بتسوية الصفوف، كثير الترغيب في إقامتها ووصلها، وسد خللها، شديد الإنكار على الإخلال بها والتفريط فيها، ذلك لأن فوائد الجماعة لا تتحقق ولا تكتمل إلا بالمحافظة عليهَا، وقيام المسلمين فيها كالبنيان المرصوص.
وشرع الله صلاة الجمعة، واختصها بشروط وآداب تزيد في جلالها، وترفع من شأنها، وتورث مزيدا من الاهتمام بها في جمع شمل المسلمين، تحت راية الدين، وهيمنة رب العالمين، وشرع الله الاغتسال في يوم الجمعة والتطيب والنظافة، وبين ما يترتب على ذلك من عطاء أخروي، إلى جانب ما نلمسه من أثر صحي واجتماعي.
يقول عليه الصلاة والسلام:"لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يصيب من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبن الجمعة الأخرى" [21] .
فإذا صعد الخطيب المنبر نصح الناس وذكرهم، ودعاهم إلى الله ويعرفهم بأمور دينهم ودنياهم.
وعلى ولاة الأمور من المسلمين تشجيع الخطباء، وتقبل انتقاداتهم على أنها نصائح فإن الدين النصيحة، وهي لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والملائكة تشارك المؤمنين في سماع خطبة الجمعة قال عليه الصلاة والسلام:"إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" [22] .
فإذا انتهت الخطبة، أمهم إمام واحد، فكانوا متراصين متساويين يركعون ركوعا واحدا، ويسجدون سجودا واحدا ويتجهون إلى قبلة واحدة هي الرمز لوحدتهم، والجمع لكلمتهم والعنوان الكامل لترابطهم وتضامنهم.(30/134)
وقد شرع الله للمسلمين صلاة العيدين، يأتي عيد الفطر بعد شهر كامل يقضيه المسلمون، بين الصيام والقيام، والتلاوة والذكر والبر والرحمة، لقد جعله الله ميقاتا للعطاء، والتشرف بضيافة الله، وأما عيد الأضحى فيأتي في آخر عشر ذي حجة، وهي أيام وليال لها فضلها وميزتها، وفيها ذكريات جليلة، توقظ المشاعر، وتبعث الهمم، إنها ذكريات إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم جميعا الصلاة والصلاة، وإذا كان ما يسمى بالأعياد عند غير المسلمين مواسم تحرر وانطلاق، ومناسبات لذة وتمتع تتناقض أشد التناقض مع العبادات ومفهومها، فإن هذين العيدين، يبدءان بالصلاة لله رب العالمين، بشعار هو التكبير لدى الذهاب إلى الصلاة، وفي انتظارها، وفي الخطبة وبعدها ثم صدقة الفطر قبل صلاة عيد الفطر، والأضحية بعد صلاة عيد الأضحى، كما شرع في هذين العيدين الصلاة بالمصلى خارج البلد، إظهارا لشوكة المسلمين، وعنوانا على وحدتهم وتضامنهم.، وكبتا لعدوهم وتكثيرا لجمعهم، ليعظم لهم العطاء.
لقد كان للجمعة والجماعة، والعيدين، وصلاة الاستسقاء وصلاة الخوف في الأمصار والأقطار، فضل كبير في حفظ هذا الدين، وسلامة الشريعة والأوضاع الدينية، وبقائها على ما تركها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبعدها عن تحريف المنحرفين وعبث العابثين، فلو كان المسلمون- أعاذهم الله من ذلك- تركوا الجمعة والجماعة، انفردوا بعباداتهم وصلواتهم في بيوتهم وقاموا بها منفردين منعزلين، موزعين مشتتين، لحرفت هذه الصلوات ومسخت مسخا كبيرا أفقدها أصالتها ووضعها الأولى، وتنوع المسلمون فيها، وصاروا فرقا وأقساما كما في كثير من مظاهر حياتهم المدنية، وآدابهم الاجتماعية وكان للصلاة أنماط ونماذج محلية كما هو حاصل لدى اليهود والنصارى.(30/135)
لقد كانت هذه الجماعة عاملا كبيرا من عوامل وحدة المسلمين في العبادات وعاصما لأحكام الدين من التحريف، كما كانت سببا عظيما في تضامنهم، وجمع كلمتهم، وبلغ من اهتمام الإسلام بالجماعة أنه رغب في إقامتها، والحرص عليها حتى في أوقات المحن والشدائد، حين يلقى المسلمون عدوهم، ويواجهون خصومهم، لأن الصلاة في ذاتها سبب المعونة الإلهية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ] البقرة: 153 [. ولأن في إقامتها مع الجماعة مزيدا من العون والعطاء، تتضاعف بركاتها، وتكثر خيراتها قال سبحانه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ] النساء:102 [.(30/136)
ولم تجز الشريعة الإسلامية ترك الصلاة، أو تأخيرها عن ميقاتها في أمن أو خوف، شدة أو رخاء، صحة أو مرض، سفراً أو إقامة، إلا أنه قد جعل لكل حالة وضعا خاصا يتلاءم مع تلك الحالة، يتحقق به التيسير، ورفع الحرج الذي أكرم الله تعالى به هذه الأمة، يقول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} ] البقرة: 238-239 [.
الزكاة:
لعل من نافلة الحديث أن نقول: إن المال مهم غاية الأهمية للأفراد والجماعات، وأنه قوام الحياة، وأساسها، وعليه تقوم النهضات، وتتقدم الحضارات، به صيانة الحرية، وقوة الشوكة، والعزة والمنعة، فذلك أمر واضح، لا يحتاج إلى بيان، ويكفي أن يصفه القرآن الكريم بأنه قيام الحياة، وينصح بالتوسط فيه إن ملكه المرء فلا يسرف حتى يقف عاجزا عن التصرف، ولا يقتر حتى يتعرض للسخط والملامة قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} ] النساء:5 [.
ويقول جل شأنه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} ] الإسراء: 29 [.
ويثني على فريق من عباده بالتوسط في النفقة بين الإسراف والتقتير فيقول سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ] الفرقان: 67 [.(30/137)
ولما كانت للمال هذه الأهمية في إعداد العدة، وأخذ الأهبة، كان الجهاد بالمال مقدما في القرآن الحكيم على الجهاد بالنفس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ] الصف:10- 11 [.
وكان للنفقة في سبيل الله امتيازها عن الإنفاق في وجوه الخير الأخرى بزيادة أجرها، وكثرة أضعافها قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ] البقرة: 261 [.
ثم كان للمال الأهمية البالغة في دفع الحاجات، وتفريج الكربات بإطعام الجائع، وكسوة العاري، وفك ضائقة المحتاج، فإن الله تعالى أوصى بالبذل في هذه الوجوه، وفرض من ذلك نصيبا معروفا في أموال الأغنياء يرد على الفقراء وسمي ذلك زكاة تارة وصدقة تارة، مشيرا بهذه الأسماء، إلى أمور اتسم بها البذل والإنفاق في الإسلام، لأن الزكاة لغة: التطهير والنماء، وهذا الجزء القليل الذي يبذله المؤمن الغني من ماله يطهر صاحبه من رذائل الشح والبخل، وقلة المبالاة بالناس، وعدم الاهتمام بهم، ثم يحليه بطائفة من الأخلاق الكريمة كالسخاء والإيثار، وحب الخير للناس، ورعاية المجتمع، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ] التوبة: 103 [.(30/138)
وسماه الله صدقة لأن بذل المال لله، وابتغاء مرضاته، دليل الإيمان وآية اليقين، وأمارة التصديق، قال عليه الصلاة والسلام:" ... والصدقة برهان" [23] .
والصدقات في الإسلام تقوم بوظائف شتى لذلك كان القرآن الحكيم حريصا على بيان مصاريفها بيانا قاطعا قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ] التوبة: 60 [.
والمتأمل في هذا النص الكريم يرى ما ينطوي عليه نظام الصدقة من تكافل اجتماعي بين أبناء المجتمع الإسلامي، بمواساة الغني للفقير والمسكين، ومراعاة المجتمع للذين يتفرغون لشئون المجتَمع، وإعانتهم على القيام بما ندبوا إليه من ذلك خير قيام، ثم إعطاء المؤلفة قلوبهم وهم الذين دخلوا في الدين ولم يتمكن من نفوسهم التمكن الكامل، ثم يعطى المكاتبون لاستخلاص رقابهم، وشراء حريتهم، وفي هذا دليل على أن الإسلام توّاق إلى الحرية، معين عليها، مرغب في منحها، وهذا ملحظ سياسي واجتماعي عظيم، ثم من أحاطت به المكاره والديون، جعل الله له في ذلك المال نصيبا، يسدد به دَيْنه، ويستأنف به حياته، أما ابن السبيل وهو المسافر الذي نفد ماله أوضاع فينبغي أن يعان من الزكاة حتى يبلغ أهله، فإنه في هذه الحالة أخو الفقير والمسكين، وإن كان في بلده غنيا، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، أما الإنفاق في سبيل الله فهو قمة الإنفاق يقول عليه الصلاة والسلام:"من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا" 1.
إن الصدقات شرعت إذن سدا لحاجات الفقراء والمساكين، وتفريجا لكرب المحتاجين، وتثبيتا للإيمان في القلوب، وتحريرا للرقاب من ذل الرق، وإعزازا لدين الله، والدفاع عن حرمات الإسلام.(30/139)
وهذا هو أحد جوانب الصدقات، وهو جانب العطاء، أما ما يترتب عليه وهو الذي يطلق عليه الجانب الاجتماعي، فهو الوجه الآخر لتشريع الصدقات.
ونستطيع أن نبين الأثر الاجتماعي للزكاة، حين نطرح السؤال الآتي: ماذا يكون الحال لو بخل الأغنياء بأموالهم على الفقراء والمحتاجين وعلى البذل في وجوه البذل الأخرى؟
والجواب: إن صورة المجتمع تصبح صورة مخيفة مفزعة، فالفقراء والمحتاجون تمتلئ صدورهم بالأحقاد والضغائن، وتمتد أيديهم إلى هذه الأموال التي لم يحصلوا عليها طواعية، ليستولوا عليها بوسائل أخر يفسد بها نظام الحياة ويصبح المجتمع طوائف متناحرة تتربص كل منها بالأخرى، وتغدوا الحياة جحيما لا يطاق.
ويقول قائل: إن الدول والحكومات تقوم بضرائب وجبايات وتبذل صدقات ومعونات، ألا تسد هذه مسد الزكاة؟ ألا تصلح عوضا عنها؟(30/140)
والجواب: كلا، لأن ما يفرضه البشر على البشر لا يمكن بحال أن يرقى إلى ما شرع الله لعباده، فإن ما يفرضه البشر فيه قصورهم وأهواؤهم، وكثيرا ما يحمل ألوانا من التسلط والابتزاز، ثم هو في أغلب الأحيان يوضع في غير موضعه، ويوجه إلى غير مستحقيه، أما الزكاة التي شرعها العليم الحكيم لعباده فإن لها خصائص وسمات تميزها عما عداها، فمن أبرز هذه الخصائص أنها قربة لله عز وجل، تصحبها النية والإخلاص، والاحتساب، لتكون مقبولة ولا شيء من ذلك يقصد في الضرائب، بل أنها في الأعم الأغلب تكون مصحوبة بروح السخط والمقت والاستثقال والإنكار، لأن دافع هذه الضرائب لا يعتقد أنها مشروعة من الله تعالى، ولا يرجو عليها ثوابا بل يعتقد أنها مفروضة عليه من أفراد منه مثله، وربما أقل منه، وأنها تنفق في كثير من الأحيان في الأهواء والشهوات، احتفاظا بسلطة أو خدمة لأفراد محدودين، لا يرافقها شيء من الترغيب في الإخلاف والجزاء، أو الترهيب من النكول والبخل، بل إنها كثيرا ما تؤدى تحت ضغط التهديد والتغريم، التي تزيد دافعها كراهية وسخطا.
ولهذه الحكمة البالغة، والتي لا تتأتى إلا فيما شرع الله سبحانه جاءت الزكاة في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة مشفوعة بما يرغب في إخراجها بطيب نفس، وصدق نية، وكريم احتساب، وذلك ببيان ما يترتب على إخراجها من نتائج وثمرات في الدنيا والآخرة من إخلاف وثواب ونمو وبركة.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ] الحديد: 11 [.
ويقول عليه الصلاة والسلام:"من تصدق بعَدْل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصَاحبها كما يربى أحدكم فلوه،. حتى تكون مثل الجبل" [24] .(30/141)
ويقول عليه الصلاة والسلام:"ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه" [25] .
ويقول عليه الصلاة والسلام:"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" [26] .
وينعى القرآن الكريم على أولئك الذين استولى الشح على نفوسهم فصاروا يعيشون في الحياة، ولا هم لهم إلا الجمع والمنع، يأخذونه من غير حله، ولا يضعونه في محله، فويل لهم حين أخذوه، وويل لهم حين بخلوا به، وويل لمن سلك في الجمع والمنع مسلكهم.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} ] التوبة: 34- 34 [.
ومن خصائص الزكاة، أنها تؤخذ من الأغنياء، وترد على الفقراء وهذا بخلاف الضرائب فإنها تؤخذ من الجميع، ثم أنها تنفق في وجوه إذا وزنت بميزان الشريعة تبين أنه إذا كان فيها الكريم المشروع، ففيها الخبيث الممنوع لقد كانت الزكاة بهذا التوجيه الذي يرعى جانب الفقير، ومصلحة الغني كذلك.
فإذا كان المرء بالشهادتين يدخل في الإسلام، فإنه بالصلاة قد أوفي بالجانب المهم في عهده مع الله، وهو بالزكاة يبدأ عهدا جديدا مع إخوانه في الدين، وشركائه في المجتمع، عهدا ترفرف عليه رايات الحب، ويغمره التعاون والتراحم.(30/142)
ومن هذه الخصائص أنها وسيلة لتقويم مؤديها، ورفعه إلى مقام المراقبة والإحسان، وتحليته بالفضائل النفسية الرفيعة، وقد أثنى الله عز وجل على المتصدقين من أجله، والباذلين لأموالهم ابتغاء مرضاته.
وذكره لأوصافهم ومشاعرهم يدل على ما وصلوا إليه من سمو لا يدانى ولا يمكن- بحال من الأحوال- أن يحصل فيما يشرع البشر للبشر. يقول الله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} ] الإنسان:8-13 [.
ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ] المؤمنون: 60- 61 [.
الصيام.
لا نعتقد أنه بوسعنا ولا بوسع بشر، مهما أوتي من علم، ورزق من حكمة أن يحيط علما بأسرار الله التي تضمنتها العبادات التي شرعها. والشعائر التي وضعها، ولولا أن الله -بمنه وكرمه- أوضح من ذلك جوانب، وأشار إلى أخرى، إيناسا للنفوس وجذبا للقلوب، ما كان لبشر أن يخوض في ذلك أو يتكلم فيه والتسليم معيار الإيمان، وميزان الإخلاص {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ] النور: 51-52 [.(30/143)
وهذا الركن الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو: الصيام له آثاره البعيدة المدى على النفوس، وله فوائده المحققة على المجتمع، في كافة جوانبه وأحواله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ] البقرة: 183 [.
ويقول عليه الصلاة والسلام:"الصيام جنة" [27] ، وقد أمر عليه الصلاة والسلام، من اشتدت عليه شهوة النكاح- ولا قدرة له عليه- بالصيام.
إن الفضائل النفسية، والفوائد الاجتماعية التي يثمرها الصوم أجل من أن تحصى، وإذا كان الصوم يثمر التقوى، وعفة النفس واستقامة الجوارح ويقظة الضمير، ورحمة القلب، وخشية الرب، فإن هذه الفضائل، تنعكس على المجتمع كله، وتنشر بركتها عليه.
والتقوى التي جعلها الله غاية للصيام، والجُنَّة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الصوم يمكن أن يندرج تحتها كل ما أدركنا، وما لم ندرِك من حكم الصيام، فليس للتقوى حد تنتهي عنده، أو غاية تنتهي إليها، وكذلك الجُنّة، قد تكون من التقصير والمخالفات، وقد يرقى بها صاحبها، فتكون من الشبهات، وقد يزداد رقيا فتصبح جُنَّة من الغفلات والخطرات.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:(30/144)
"لما كان صلاح القلب واستقامته، على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالفة الأنام وفضول الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثا ويشتته في كل واد يقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعرقله، اقتضت رحمة العزيز العليم بعباده أن شرع لهم من الصوم، ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة" [28] .
إن المجتمع الذي يستقيم على شريعة الصوم، يكون مجتمعا قويا في عقيدته، قويا في استجابته لأمر ربه، قويا بتماسكه وتضامنه، وتراحمه، قويا بأخلاقه الكريمة، وشمائله النبيلة.
وقد اختار الله سبحانه بحكمته البالغة، شهر رمضان المبارك ليكون موسم الصيام، المفروض على المسلمين من كل عام، وقد أشار القرآن الكريم إلى السر في اختيار هذا الشهر لهذه الفريضة المباركة ذلك أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
وبين الصوم والقرآن صلة متينة عميقة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القران، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة [29] .
لقد أصبح رمضان بما شرع فيه من صيام، وسن فيه من قيام وما رغب فيه من عبادة، وذكر وتلاوة للقرآن الكريم، وصدقات وتراحم، وبر وإحسان، موسما فذا من مواسم العبادة المتعددة النواحي، المتشعبة الجوانب، تلك العبادات التي تطبع النفوس بطابع الرحمة والخير، وتغمر المجتمع كله، بموجة من الحب والود والتعاون والتضامن، والتراحم.(30/145)
وبجوار التعبد بقراءة القرآن في شهر القرآن، تذكر لشريعة الله وما يريده رب العباد من العباد، من صلاة وزكاة وصيام وحج وبر وتراحم، وتحاب وتآلف وصدق حديث، وأداء أمانة ورعاية للعهود، وما يترتب على ذلك، من عظيم الأجر والثواب في العاجلة والآجلة لمن أخلص ذلك لله وحده، وابتغى به وجهه وقام به إيمانا واحتسابا.
يقول الشيخ أحمد الدهلوي:"والصوم إذا التزمته أمة من الأمم، سلسلت شياطينها، وفتحت أبواب جناتها وغلقت أبواب النيران عنها" [30] .
ويقول في نفس المرجع"وأيضا فان اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد في زمان واحد، يرى بعضهم بعضا معونة لهم على الفعل ميسر عليهم، ومشجع إياهم، وأيضا فان اجتماعهم هذا لنزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم، وأدنى أن تنعكس أنوار كلهم على من دونهم، وتحيط دعوتهم مَنْ وراءهم" [31] .
وأيضا فان في الصيام آثارا عظيمة في إعداد المسلمين للعبادات وتأهيلهم لجني ثمارها، والانتفاع بخيراتها وبركاتها. وبالصيام تصبح النفوس مستعدة للخير، راغبة في البر، كارهة للشر، نافرة من الفجور.
وإذا كانت تلاوة القرآن في رمضان عبادة لها ثمارها فإن هذه الثمار تكون أزكى وأنمي، وأبقى، إذا كان القلب مستعدا، والنفس متهيئة. يقول عليه الصلاة والسلام:"الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام رب منعته الطعام بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان" [32] .
الحج:(30/146)
الحج هو: الركن الخامس في الإسلام، وهو الفريضة التي تستوجب مفارقة المألوفات، والعادات، استجابة لرب العالمين، المسلم حين يستعد لتلبية هذه الدعوة بالإحرام يطهر باطنه بالنية الصالحة، والتوبة النصوح، ويطهر ظاهره بالاغتسال فإنه يعلن استجابته لأمر ربه مضاعفة مكررة، ولا يزال ذلك شعاره حتى يفرغ من حجه (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) .
وفي الإحرام التمرين العملي على فضيلة المساواة بين الناس وفيه كذلك تذكير لهم بما كانوا عليه، وبما سيصيرون إليه في الطريق الذي سبق هذه الحياة، والطور الذي سيعقبها وإنما هم فيه من زينة الدنيا وزهرتها إنما هو عارية مستردة"والحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ التي جاء بها الإسلام فقد أراد الإسلام ألا يكون مبادئه، وقيمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعباداته وشعائره، حتى تخط مجراها في عقل المسلم وقلبه، فهما وشعورا، ثم تخط مجراها في حياته سلوكا وتطبيقا، وقد رأينا في صلاة الجماعة كيف تنمي معاني الأخوة، والمساواة والحرية، وهنا في الحج نرى معنى المساواة في أجل صورة وأتمها، فالجميع قد طرحوا الملابس والأزياء المزخرفة، التي تختلف باختلاف الأقطار واختلاف الطبقات، واختلاف القدرات واختلاف الأذواق، ولبسوا جميعا ذلك اللباس البسيط- الذي هو أشبه ما يكون بأكفان الموتى- يلبسه الملك والأمير، كما يلبسه المسكين والفقير، وأنهم ليطوفون جميعا بالبيت، فلا تفرق بين من يملك القناطير المقنطرة، ومن لا يملك قوت يومه".(30/147)
وفي الحج ترى معنى الوحدة جليا كالشمس، وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول لا إقليمية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما هم جميعا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، فأي وحدة أعمق من هذه وأبعد غورا؟ [33] .
والحج أكبر مؤتمر عالمي يجمع المسلمين من جميع أنحاء العالم جمعتهم رابطة الإسلام، ووحدت بينهم كلمة الإيمان"في هذا المؤتمر يلتقي رجال العلم، ورجال الإصلاح، ورجال السياسة، فما أجدرهم وقد التقوا على هدف واحد أن يتعارفوا، ويتفاهموا، ويتعاونوا على تدبير أفضل الخطط وأحسن الوسائل ليبلغوا الأهداف، ويحققوا الآمال" [34] .
في هذا المؤتمر العالمي يتذاكر المسلمون خطبة نبيهم صلى الله عليه وسلم الجامعة على عرفه عام حجة الوداع والتي قد جاء فيها:
" ... وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي.. أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، إن كل مسلم أخ للمسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد" والمسلم يذكر كذلك- في الحج- إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة حينما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف في يوم الجمعة عشية عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينا ً} ] ائدة: 3 [.(30/148)
ونتذكر كذلك أن الحج هو تعويد على مكارم الأخلاق، ومقابلة السيئة بالحسنة، ابتغاء وجه الله، وإحسان إلى الناس طلبا للإحسان من الله رب العالمين {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} ] البقرة: 197 [.
ويقول عليه الصلاة والسلام:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" [35] .
والحق أن الحج بما فيه من أوضاع وشعائر، ودعوات، وابتهالات وذكريات مدرسة تملأ القلب رضا وسكينة وإيمانا وطمأنينة وتغمره بالخير من جميع نواحيه فيعود مسلما مؤمنا، حقا وصدقا مسارعا للاستجابة لربه الذي خلق فسوى، وقدر فهدى يصدق عليه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعام الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا" [36] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المخصص لابن سيدة: (13/96) .
[2] القاموس المحيط: (1/311) .
[3] لسان العرب: (4/264) .
[4] العبودية لابن تيمية: 44/55.
[5] مدارج السالكين: 1/ 24.
[6] تفسير ابن كثير: ج1 ص25.
[7] رواه أحمد ومسلم.
[8] رواه البخاري.
[9] رواه الترمذي وقال حديث حسن.
[10] متفق عليه.
[11] صيد الخاطر لابن الجوزي: 355
[12] العبودية لابن تيمية: 38-40.
[13] البخاري.
[14] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
[15] في ظلال القرآن 2446.
[16] في ظلال القرآن ص1675.
[17] متفق عليه.
[18] متفق عليه.
[19] رواه أبو داود.
[20] رواه البخاري.(30/149)
[21] رواه البخاري.
[22] رواه البخاري.
[23] جزء من حديث رواه مسلم.
[24] متفق عليه.
[25] رواه مسلم.
[26] متفق عليه.
[27] رواه البخاري.
[28] زاد المعاد لابن القيم: 1/168.
[29] رواه البخاري.
[30] حجة الله البالغة: 1/59.
[31] حجة الله البالغة: 2/37.
[32] رواه أحمد.
[33] العبادة في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي: 289-290.
[34] المصدر السابق: 292.
[35] رواه البخاري.
[36] رواه مسلم.(30/150)
التضَامن الإسلامي
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده.. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فلا ريب أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه العبادة وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب لبيان هذا الحق وتفصيله والدعوة إليه كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} ومعنى قضى في هذه الآية أمر ووصى وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بعبادته سبحانه والتصريح بأنه خلق الثقلين لهذه العبادة وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها.(30/151)
وحقيقة هذه العبادة هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص له في جميع الأعمال والامتثال لأوامره والحذر من نواهيه والتعاون في ذلك كله وتوجيه القلوب إليه سبحانه في كل ما يهمها وسؤاله عز وجل جميع الحاجات عن ذل وخضوع وإيمان وإخلاص وصدق وتوكل عليه سبحانه ورغبة ورهبة مع القيام بالأساليب التي شرعها لعباده وأمرهم بها وأباح لهم مباشرتها.
وبهذا كله يستقيم أمر الدنيا والدين وتنظيم مصالح العباد في أمر المعاش والمعاد ولا صلاح للعباد ولا راحة لقلوبهم ولا طمأنينة لضمائرهم إلا بالإقبال على الله عز وجل والعبادة له وحده والتعظيم لحرماته والخضوع لأوامره والكف عن مناهيه والتواصي بينهم بذلك والتعاون عليه والوقوف عند الحدود التي حد لعباده كما قال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم ولا يهابهم عدوهم إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى والتكافل والتناصر والتعاطف والتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه. ولاشك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة وقد نصت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين أفراداً وجماعات حكومات وشعوباً من أهم المهمات ومن الواجبات التي لابد منها لصلاح الجميع وإقامة دينهم وحل مشاكلهم وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك.(30/152)
والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جداً، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة فالتضامن معناه التعاون والتكاتف والتكافل والتناصر والتناصح والتواصي وما أدى هذا المعنى من الألفاظ.
ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة وما فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة.
ويدخل في ذلك أيضاً تعليم الجاهل وإغاثة الملهوف ونصر المظلوم ورد الظالم عن ظلمه وإقامة الحدود وحفظ الأمن والأخذ على أيدي المفسدين والمخربين وحماية الطرق بين المسلمين داخلاً وخارجاً وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية والاتصالات السلكية واللاسلكية بينهم لتحقيق المصالح المشتركة الدينية والدنيوية وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحق ويقيم العدل وينشر الأمن والسلام في كل مكان.
ويدخل في التضامن أيضاً الإصلاح بين المسلمين وحل النزاع المسلح بينهم وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله عملا بقول الله عز وجل {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله سبحانه {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .(30/153)
ففي هذه الآيات الكريمات أمر الله المسلمين جميعاً بتقواه سبحانه والقيام بالإصلاح بينهم عموما وبالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين منهم خصوصاً وقتال الطائفة الباغية حتى ترجع عن بغيها وأن يكون الصلح على أسس سليمة قائمة على العدل والإنصاف لا على الميل والجور، وفيها التصريح بأن المؤمن جميعاً إخوة وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم وتناءت ديارهم فالإسلام يجمعهم ويوحد بينهم ويوجب عليهم العدل فيما بينهم والتصافي والكف عن عدوان بعضهم على بعض ويوجب على إخوانهم الإصلاح بينهم إذا تنازعوا. ثم ختم الله هذه الآية بالأمر بالتقوى وعلق الرحمة على ذلك فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فدل ذلك على أن تقوى الله في كل الأمور هي سبب الرحمة والعصمة والنجاة وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة.
ويدخل في التضامن أيضاً تبادل التمثيل السياسي أو ما يقوم مقامه بين الحكومات الإسلامية لقصد التعاون على الخير وحل المشاكل التي قد تعرض بينهم بالطرق الشرعية واختيار الرجال الأكفاء في عملهم ودينهم وأمانتهم لهذه المهمة العظيمة.
ويدخل في التضامن أيضاً توجيه وسائل الإعلام إلى ما فيه مصلحة الجميع وسعادة الجميع في أمر الدين والدنيا وتطهيرها مما يضاد ذلك.(30/154)
ومما ورد في هذا الأصل الأصيل وهو التضامن الإسلامي والتعاون على البر والتقوى قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أمر الله سبحانه في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقاته ويستمروا على ذلك ويستقيموا عليه حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك، وما ذاك إلا لما في تقوى الله عز وجل من صلاح الظاهر والباطن وجمع الكلمة وتوحيد الصف وإعداد العبد لأن يكون صالحا مصلحا وهاديا مهديا باذلا النفع لإخوانه كافا للأذى عنهم معينا لهم على كل خير ولهذا أمر الله المؤمنين بعد ذلك بالاعتصام بحبله فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحبل الله سبحانه هو دينه الذي أنزل به كتابه الكريم وبعث به رسوله الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم والاعتصام به هو التمسك به والعمل بما فيه والدعوة إلى ذلك والاجتماع عليه حتى يكون هدف المسلمين جميعاً ومحورهم الذي عليه المدار ومركز قوتهم هو اعتصامهم بحبله وتحاكمهم إليه وحل مشاكلهم على نوره وهداه وبذلك تجتمع كلمتهم ويتحد هدفهم ويكون ملجأ لكل مسلم في أطراف الدنيا وغوثا لكل ملهوف وقلعة منيعة وحصناً حصيناً ضد أعدائهم، وبهذا الاجتماع وهذا الاتحاد وهذا التضامن تعظم هيبتهم في قلوب أعدائهم ويستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل ويحفظهم سبحانه من مكائد الأعداء مهما كانت كثرتهم كما وقع ذلك بالفعل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في صدر هذه الأمة ففتحوا البلاد وسادوا العباد وحكموا بالحق وحقق الله لهم وعده الذي لا يخلف كما قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ(30/155)
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . ففي هذه الآيات الكريمات حث المسلمين وتشجيعهم على التمسك بدينهم والقيام بنصره وذلك هو نصر الله فإنه سبحانه وتعالى في غاية الغنى عن عباده وإنما المراد بنصره هو نصر دينه وشريعته وأوليائه والله ناصر من نصره وخاذل من خذله وهو القوي العزيز وفي هذه الآيات أيضاً البشارة العظيمة بأن الله عز وجل ينصر من نصره ويستخلفه في الأرض ويمكن له ويحفظه من مكائد الأعداء.(30/156)
فالواجب على المسلمين جميعاً أينما كانوا هو الاعتصام بدين الله والتمسك به والتضامن فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى ومناصحة من ولاه الله أمرهم والحذر من أسباب الشقاق والخلاف والرجوع في حل المشاكل إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتواصي في ذلك كله بالحق والصبر عليه مع الحذر من طاعة النفس والشيطان وبذلك يفلحون ويسلمون من كيد أعدائهم ويكتب الله لهم العز والنصر والتمكين في الأرض والعاقبة الحميدة ويؤلف بين قلوبهم وينزع منها الغل والشحناء وينجيهم من عذابه يوم القيامة. وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". أخرجه مسلم في صحيحه.
ومما ورد في التضامن الإسلامي قوله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وهذه الآية الكريمة من أصرح الآيات في وجوب التضامن الإسلامي الذي حقيقته ومعناه التعاون على البر والتقوى كما سلف بيان ذلك وفيها تحذير المسلمين من التعاون على الإثم والعدوان لما في ذلك من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة والتعرض لغضب الله سبحانه وتسليط الأعداء وتفريق الكلمة واختلاف الصفوف وحصول التنازع المفضي إلى الفشل والخذلان. نسأل الله للمسلمين العافية من ذلك. وفي قوله سبحانه في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تحذير للمسلمين من مخالفة أمره وارتكاب نهيه فينزل بهم عقابه الذي لا طاقة لهم به.(30/157)
ومن الآيات الواردة في التضامن أيضا قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} وهذه الصفات العظيمة هي جماع الخير وعنوان السعادة وسبب صلاح أمر الدنيا والآخرة ولهذا علق سبحانه وتعالى رحمتهم على هذه الصفات الجليلة فقال: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فتبين بذلك أن الرحمة والنصر على العدو وسلامة العاقبة كل ذلك مرتب على القيام بحق الله وحق عباده ولا يتم ذلك إلا بالتناصح والتعاون والتضامن والصدق في طلب الآخرة والرغبة فيما عند الله والإنصاف من النفس وتحري سبيل العدل وفي هذا المعنى يقول عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ، ويقول عز وجل في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وفي هاتين الآيتين أمر المؤمنين أن يقوموا لله بالقسط وأن يشهدوا له بذلك في حق العدو والصديق والقريب والبعيد. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ(30/158)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
ومما ورد من الأحاديث الشريفة في التضامن الإسلامي الذي هو التعاون على البر والتقوى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة "قيل لمن يَا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك أصابعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "، أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين والتراحم والتعاطف والتعاون على كل خير. وفي تشبيههم بالبناء الواحد والجسد الواحد ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم وينتظم صفهم ويسلمون من شر عدوهم فواجب المسلمين جميعاً أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يدعوا إلى الحق والهدى وأن يعنوا غاية العناية في الدعوة إلى تضامن المسلمين وأن يبذلوا جميعاً ما يستطيعون من الوسائل في نشر هذه الدعوة ومساندة الداعين إليها وشرح محاسنها ومصالحها لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم حتى يتحقق للجميع ما يرجونه من عز في الدنيا وسعادة في الآخرة، عملا بقول الله سبحانه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وقوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(30/159)
وإمام الجميع في هذه الدعوة العظيمة وقدوتهم في هذا السبيل القيم هو نبيهم وسيدهم وقائدهم الأعظم نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول من دعا هذه الأمة إلى توحيد ربها والاعتصام بحبله وجمع كلمتها على الحق والوقوف صفاً واحداً في وجه عدوها المشترك، وفي تحقيق مصالحها وقضاياها العادلة عملا بقوله تعالى مخاطبا له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .(30/160)
وقد سار على نهجه القويم صحابته الكرام وأتباعهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم فنجحوا في ذلك غاية النجاح وحقق الله لهم ما وعدهم به من عزة وكرامة ونصركما سبق التنبيه على ذلك والإشارة إليه أول هذه الكلمة، ولا ريب أن الله عز وجل إنما حقق لهم ما تقدمت الإشارة إليه بإيمانهم الصادق وجهادهم العظيم وأعمالهم الصالحة وصبرهم ومصابرتهم وصدقهم في القول والعمل وتضامنهم وتكاتفهم في ذلك لا بأنسابهم ولا بأموالهم. كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " أخرجهما مسلم في صحيحه فمن سار على سبيلهم ونهج نهجهم أعطاه الله كما أعطاهم وأيده كما أيدهم فهو القائل عز وجل في كتابه المبين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وهو القائل عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .(30/161)
والله عز وجل المسؤول أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى وأن يفقههم في دينه وأن يصلح ولاة أمرهم ويهديهم جميعا صراطه المستقيم وأن يمنحهم الصدق في التضامن بينهم والتناصح والتعاون على الخير وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف ومضلات الفتن وأن يحفظهم من مكائد الأعداء إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(30/162)
العدد 62
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير: للدكتور صالح بن عبد الله العبود
2- القرآن يتحدّى..! : للأستاذ الدكتور محمد سيّد طنطاوي
3- القول الفصل في العمل بالحديث المرسل: للشيخ مظفّر رزق
4- أوّل واجب على المكلّف عبادة الله تعالى وضوح ذلك من كتاب الله ودعوات الرسل:
للشيخ عبد الله الغنيمان
5- منهج الأشاعرة في العقيدة: للشيخ سفر بن عبد الرحمن الوالي
6- إضطراب الناس في مسألة الكلام مع بيان الحق الذي تدل عليه الأدلة وتشهد به الفطر السليمة: للشيخ عبد الكريم مراد
7- نظامُ الإثبَات في الفقه الإسلامي [دراسة مقارنة] : للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر
8- الإمداد بأحكام الحداد: للدكتور فيحان شالي المطيري
9- الكتاب والسنة
10- بحث حول: طبيعة العقوبة في الشريعة الإسلامية ومثاليتها: للدكتور حمد الحماد
11- الملك عبد العزيز آل سعود بين نصره لله ونصر الله له: للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
12- من مراحل الدعوة الإسلامية في مكة: الدكتور جميل عبد الله المصري
13- العهدة العمرية: الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
14- رسائل لم يحملها البريد: الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
15- الأدب الإسلامي.. وعلاقته بالمجتمع والحياة: د. نجيب الكيلاني
16- صفحة لغة: لا تقل.. وقل: للأستاذ الدكتور: عبد العظيم علي الشناوي
17- غريب يبحث عن غريب: للشيخ محمد بن عبد الله زربان الغامدي
18- من تراثنا الشعري: للشاعر: أبي إسحاق إبراهيم الإلبيري الأندلسي
19- الأقراص - الحبوب - الكبسولCapsules pills tablets: صيدلي/ حمدي إبراهيم علي إبراهيم
20- تنَبيهَاتٌ هَامّة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله عزّ وجلّ: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
21- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة بالجامعة
22- رسالة إلى رئيس التحرير: الدكتور أحمد عطية الغامدي المحترم ...
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(30/163)
كلمة التحرير
للدكتور صالح بن عبد الله العبود
رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالميين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد: فإن مجلة الجامعة الإسلامية حين تحفل بمواضيع مكثفة في العقيدة الإسلامية، عقيدة أهل السنة والجماَعة فإنما تنطلق من هدف الجامعة وهو تعميق التديُّن المَبني على إخلاص العمل الصالح لله وحده، وعلى الالتزام بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وهذا هو جوهر العقيدة الإسلامية ومرتكزها ...
والعقيدة: ضرورة حيوية, فالإنسان الحي مضطر أن يعتقد عقيدة ما, يتحرك من أجلها ويدور عليها حبه وبغضه عن اقتناع؛ لأن الإنسان حساس متحرك بإرادة تنبثق عن عقيدة وقناعة ولو خلا الحي من عقيدة ما كان ذا حركة إرادية ولكن إن كانت عقيدته صحيحة كانت حركته سليمة صالحة، وإن كانت عقيدته فاسدة كانت حركته خطرة مفسدة.
ولو تحسسنا أسباب فرِقة المسلمين لوجدناها تكمن في الشبهات التي طرأت على بعضهم وفي الشهوات أيضاً فبسبب ذلك فارقت فرق المسلمين التي تصل إلى اثنتين وسبعين جماعة (؟) أهل السنة والجماعة، وهذه الشبهات والشهوات ما هي إلا فساد في العقيدة.(30/164)
وإذا ألقينا نظرة في عالم هذا العصر نجده يموج ويتجاذب بعقائد جازمة وأيديلوجيات حادة، كالشيوعية والديمقراطية والقومية على المفهوم الغربي مثلاً، ونجد أصحابها يتمسكون بها أشد التمسك ويتحركون من أجلها أعظم حركة، وبيد كثير منهم دولاً كبيرة لها ثقلها الراجح في ميزان الأكثرية من الناس، ولهم قوة مادية هائلة، وقد أخذوا بزمام الصناعة والتقدم التكنولوجي والتفوق العسكرى، هذا فضلاً عن حصولهم على مباهج الشهوات الدنيوية وحضارتها ونظرتها، إلا أننا رغم هذا نرِى الإنسان في الحقيقة تحت ظل تلك العقائد والايدلوجيات قلقا حائراً مضطربا خائفاَ لا يقر له قرار، ولا يعرف طريق الاستقرار، قد شقي في دنياه وأضاع نصيبه من أخراه، وعموماً فهو منساق في متاهات الضلال وأوحال الفساد والشرور ومُنْتَهٍ إلى الهلاك والدمار، والشقاء والخسران.
وحين نختار العقيدة الإسلامية فإنما نختارها عَلى غيرها من العقائد لأنه ثبت في علم اليقين وعين اليقين أن كل عقيدة تخالفها غير صحيحة ولا صالحة فإما أن تكون مخالفة للواقع أو مخالفة للعدل.
أما العقيدة الإسلامية فقد احتوت كل الصحة والصلاح، فالصحة فيها هي مطابقتها للواقع علما ومعرفة وتصورا سواء في النفي أو الإثبات، والتزامها العدل في العمل والإرادة والتصديق فعلا وتركا، أخذا واجتنابا، وحظا ومنعا.(30/165)
وهذا ما تفيده شهادة أن لا إله إلا الله، لأن هذه الشهادة تهني أن يعتقد العبد بعلم ويقين، وصدق وإخلاص أنه لا إله يتصف بالتفرد بالأسماء الحسنى وصفات الكمال المطلق واستحقاق العبودية على الحقيقة إلا الله تبارك وتعالى وهذا الاعتقاد اعتقاد صحيح مطابق للواقع، وتعني تلك الشهادة أن يعمل العبد بمقتضاها فلا يصرف شيئاً من عبادته كالحب والإرادة والدعاء والنذر لغير الله تعالى لأن ذلك ونحوه من الأعمال التعبدية التي شرع الله أن يعبد بها, لا يستحقه إلا الله, فصرفه أو صرف نوع منه لغير الله ظلم عظيم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} , وإخلاصه لله تعالى هو العدل الذي لا عدل فيما خالفه.
والمخالفون لأهل السنة والجماعة إذا لم يخلصوا عبادتهم لله وأشركوا مع الله غيره لم يكونوا عابدين لله وإن كانوا يقصدون بشركهم التقرب والتزلف إلى الله قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . وإذا عينوا الله بصفات نفي أو إثبات ليست واردة في الكتاب والسنة فإن ما عينوه بتلك الصفات ليس هو الله في الحقيقة والواقع، كما إذا قال قائلهم: "ليس الرحمن على العرش استوى", أو قال: "إن الله لم يتكلم بالقرآن، وإنما القرآن عبارة عن كلام الله", فهذا القائل إذا عبد من يعتقده بهذا الوصف لم يكن عابدا لله وإن قصد الله بعبادته بل يكون عابدا لما اعتقده معطلا عن وصف الكمال.
والله برئ من عبادته لأن موصوفه ليس هو الله فتنصرف عبادته إلى غير الله كما انصرف سبُّ قريش عن محمد صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: "ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش، يسبون مذمَّما"أي: أنه محمد لا مذمم. اللهم صل وسلم عليه.(30/166)
وبالجملة، فإن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول صلى الله عليه وسلم وقس على هذا.
وأما صفة الصلاح في العقيدة الإسلامية فهي بناؤها على شهادة أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، ومعنى ذلك اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع, ويصدق فيما أخبر, ويجتنب ما نهى عنه وزجر, ولا يعبد الله إلا بما شرع, ويرفض ما يعارض من ذلك من عقل وذوق وسياسة وعرف وتقليد وعادة.
وبهذا صارت العقيدة الإسلامية هي الصالحة المقبولة، وصارت مادة للحياة الطيبة، وإن لم تكن الحياة طيبة لم تكن حَياة حقيقية، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة, هالكاً حائراً فاحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفّقه لاتباع رسله". اهـ.
وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .(30/167)
ولقد سمى الله ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} .
ومما تقدم يتبيَّن لنا أنَّ العقيدة الإسلامية هي روح الحياة ونور الهداية، فلا أشرف ولا أطيب من حياة تنبني عليها, ولا أصلح ولا أهدى من عمل يسير بمقتضاها ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وأصحابه الغر الميامين وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين…(30/168)
بحث حول:
طبيعة العقوبة في الشريعة الإسلامية ومثاليتها
للدكتور حمد الحماد
كلية الشريعة
إن الأشياء التي تعتبر في نظر الشريعة جرائم إنما نهي عنها لأن في ارتكابها أضراراً جسيمة تلحق بنظام المجتمع وعقائده أو بأمنه وكرامته أو بحياة أفراده وأموالهم وأعراضهم ومشاعرهم.
وعمل العقوبة هو أن تشعر المذنب بذنبه وأن تنبّهه إلى خطئه عسى أن يقوده هذا إلى التوبة والإصلاح وبذلك تصبح الجريمة كالملغاة.
وإذا أمكن الوصول إلى هذه الغاية بوسيلة أخرى أقل كلفة لم يكن من الحزم الإصرار على استخدام العقوبة في غير الحدود طبعاً لذا كان العفو أحيانا صورة من صور العقوبة بمعنى أنه قد يحقق غرضها من الإصلاح غير أنه له نفوس خاصة وظروف خاصة وذنوب خاصة.
وقد شرع العقاب لمنع الناس من ارتكاب المحظور وحملهم فعل المأمور حيث أن الأمر بفعل شيء والنهى عن فعل شيء لا يكفي في تنفيذه فالعقاب هو الذي يحمل على التنفيذ ويجعل للأمر والنهى معنى مفهوماً ونتيجة حقيقية, وهو الذي يزجر ويردع الناس عن المعاصي ويقضي على الفساد في الأرض.
قال الماوردي: "والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً وما أمم به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم" [1] .
إنّ تطبيق العقوبات في الشريعة يحقق ما تقدم إلى جانب أنه سوف يطارد الجريمة ويحصرها في مجال ضيق بل يقضي عليها قضاء تاما فيعيش المجتمع ملتزما إيجابيا بعيدا عن المحالفات وبذلك يتحقق صلاح حال البشر.(30/169)
وإذا كان تطبيقها يحقق ما تقدم فإن تعطيلها يهدر ذلك كله وبسببه تتعطل أحكام الشرع من أمر ونهي لعدم وجود ضمان لها يحمل عليها من لا ينفذها طوعاً وتعود حياة المجتمع إلى مثل حياة الغاب يتسلط فيها القوي على الضعيف نهباً وسلباً وقتلاً واعتداء بل تعود الحياة إلى مثل قطعان البهائم لا شرف ولا كرامة ولا عرض مصان.
فتعطيل عقوبة الزنا مثلاً معناه إباحة الزنا الذي حرمته جميع الأديان الإلهية لما فيه من المفاسد العظيمة والمضار الشديدة.
وتعطيل عقوبة السرقة معناه إباحة لها كذلك فيؤدي ذلك إلى الاعتداء على ممتلكات الناس فيكون الإنسان غير آمن على طعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وَأداة عمله.
وتعطيل عقوبة الردة معناه إباحة الاعتداء على نظام المجتمع المسلم والخروج على مبادئه والتشكيك في صحة دينه ولا يمكن أن تستقيم الأمور في هذا المجتمع إذا وضع نظامه موضع التشكيك والطعن.
وتعطيل القصاص معناه إباحة الاعتداء على حياة الأفراد من ناحية واعتداء على نظام المجتمع من ناحية أخرى.
وتعطيل عقوبة القذف معناه إباحة الاعتداء على نظام الأسرة حيث أن القذف هنا قاصر على الأعراض والذي يمس الأعراض يشكك في صحة نظام الأسرة ... كما يترتب على القذف إشاعة الفاحشة فما ترامى الناس بها إلا شاع فعلها بينهم فإن القول يسهل الفعل. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . (النور: 19) .
وتعطيل عقوبة الخمر معناه إباحة للفساد في الأرض عموماً إذ هو يؤدي إلى فقدان الشعور وإذا فقد الشارب شعوره فقد أصبح على استعداد لارتكاب جميع الجرائم فضلاً عن أن شربها يضيع المال ويفسد الصحة ويضعف النسل ويذهب العقل الذي هو ملاك التكليف.(30/170)
وعلى العموم فإن تعطيل هذه العقوبات مدعاة إلى تعطيل أحكام الشرع وانتشار الفساد والفوضى في المجتمع، وتطبيقها هو الضمان الوحيد لتنفيذ أحكام الشرع وقطع دابر الفساد والحفاظ على النظام والأمن والاطمئنان.
وما يُرى الآن في بعض المجتمعات من مفاسد وفوضى واضطراب واختلال أمن وكثرة جرائم إنما هو بسبب تعطيل العقوبات في الشريعة الإسلامية التي شرعها وأنزلها العليم الخبير بهذا الكون وما يصلحه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون} (المائدة: 5) .
وتأديب الجاني ليس للانتقام والتشفي منه وإنما لإصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق- كما يقول الفقهاء- في أنها "تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب" [2] .
فهي إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم ولذا يجب على من يؤدب المذنبين أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهَم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
هذا وقد نشأت مذاهب مختلفة في العقوبة تعددت اتجاهاتها في الغرض منها.
فمذهب يقول: إن العقوبة يجب أن تكون انتقامية فلابد أن ينال الجاني جزاء ما اقترفت يداه حتى يشعر بأن النتائج الشريرة لجرائمه وبال عليه هو.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة رادعة فالغاية منها ردع الجاني وزجره عن العودة للجناية.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة واعظة للغير فالغاية منها زجر الناس عن ارتكاب جرائم تشبه جريمة الذي يعاقب المجرم من أجلها فهي تعظ قوما ليسوا مجرمين لكيلا يصبحوا يوماً مجرمين.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة مصلحة فمعاقبة الجاني الغاية منه أولاً وآخراً هو إصلاح الجاني لا الانتقام منه واكتفاء شره ولا عظة غيره [3] .(30/171)
وبالنظر إلى هذه المذاهب نجد كل واحد منها نظر إلى العقوبة والغرض منها من زاوية واحدة ولو نظر إليها من جميع الجهات فقد يجد الأغراض الأخرى يمكن أن تأتي تبعاً للغرض الذي يراه هو المقصود، وكما تقدم أن العقوبات في الشريعة الإِسلامية هي في الدرجة الأولى استصلاحية بيد أن هذا لا يمنع أن تردع العقوبة وأن تزجر في نفسِ الوقت كما لا يمنع أن تكون قصاصاً من الجاني فيه معنى الانتقام فتتحقق الأغراض جميعاً، وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون هناك مسائل استثنائية مثل قتل المرتد وقتل القاتل قصاصاً إذ لا يتأتى إصلاح الشخص بعد إزهاق روحه ومثل هذا روعي فيه مصالح أخرى تتعلق بنظام المجتمع وأمنه يجب أن تراعى قبل مراعاة مصلحة الجاني.
ومما يؤيد القول بأن العقوبات في الشريعة الإسلامية استصلاحية نظرية العفو في الشريعة الإسلامية في مجال التعازير والقصاص والديات ... فلولي الأمر أن يعفو عن تعزير من استحقَ التعزير إذا رأى أن المصلحة في ذلك مثلما إذا تاب المذنب وندم على ذنبه واستقام وهكذا.
أما الحدود فلا مجال للعفو فيها إذا وصلت إلى الحاكم إنما شرع التستر على المسلم ومنع التجسس عليه، والحدود تدرأ بالشبهات وكل ذلك يؤيد أن الاستصلاح مراعى فيها بالدرجة الأولى.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية - وخاصة الحدود - أُحيطت بضمانات كثيرة حتى تنحصر في أضيق دائرة ممكنة فالحدود تدرأ بالشبهات والإثبات فيها اقترن بضمانات قوية تمنع الكذب كما أن الإسلام في تطبيقه القضائي ما سوغ لأحَد التتبع والتجسس على الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ... } . (الحجرات: 12) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ... " [4] .(30/172)
إن الإسلام يعاقب على الجرائم إذا أعلنها فاعلها وكشف أمره فيها ولم يستتر عن الناس إذ في الإعلان تحريض عليها ودعوة إليها. "أيها الناس قد آن لكم تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" [5] . إذاً فلا تجسس ولا تتبع للعورات بل إنّ العقاب يكون حيث يتحقق الإثبات فهو مفسدة ودفعها مصلحة وهذه
الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهو أقوى المراتب في المصالح" [6] .
والحدود تقوم على دعامتين هما:
1- حماية المجتمع من الشرور والآفات التي تفتك به وتروع أمنه وعلى مقدار ما في الجريمة من ضرر وفساد وترويع وإفزاع تكون غلظة العقوبة بقدر ذلك.
2- عموم العقاب في أحكام الشريعة الإسلامية فالحدود تطبق على الجميع ولا يعفى منها أحد لمركزه أو شخصه أو لغير ذلك من الاعتبارات.
الموازنة بين الضرب والسجن:
إن المشرعين في القوانين الوضعية يعيبون على الإسلام أن العقوبات فيه أكثرها بدني بالضرب المبرح وقالوا إن هذه العقوبات ليست إنسانية بل فيها استهانة وحط للكرامة الواجب توفيرها للإنسان.
ويرد على هذا بأن الإسلام لاحظ في العقوبات ما لاحظه في كل تشريعه وهو ملاحظة أكبر منفعة والموارنة بين الضَرر الواقع والنفع المطلوب من حيث المقدار وتحمل أقل الضررين ولاشك أن العقاب كيفما كان ضرره لابد منه لأنه يترتب عليه نفع أكبر من الضرر اللاحق بالمعاقب.
وقد لاحظ الإسلام في العقاب الرادع أن يكون ضرره غير وخيم العاقبة بحيث يكون عاجلاً غير معطل للقوى أو مفضياً إلى ما هو أشد ضرراً في عاقبته.
والناظر في عقوبة السجن التي تعتمد عليها القوانين الوضعية إلى حد بعيد يوازن بين ضرر السجن وضرر الضرب أيهما أوخم عاقبة وأيهما أحسم للداء، إنه يلاحظ في السجن أضراراً كثيرة وبالغة الخطورة منها:(30/173)
1- انقطاع الجاني عن أهله وأولاده مدة قد تطول لا يرعونه ولا يرعاهم.
2- أنه يعاشر في السجن المجرمين فتصل إليه عدواهم -وعدوى الجريمة كعدوى المرض يسري بالمجاورة والاختلاط- فيدخل مريضاً بجريمة واحدة ربما كان وقوعه فيها بسبب عارض وليس متمكناً من نفسه ولكنه يخرج وقد أصيب بعدة أمراض أخرى ربما حولته إلى إنسان شاذ في المجتمع.
3- أن السجن تهان فيه الكرامة, وحيث فقدت الكرامة واستمر السجين أمدا ذليلا مهينا فإن قلبه يفسد ويكون مستعدا لارتكاب الكثير من الجرائم لأن الجريمة مهانة تسهل عند المهين وتصعب على الكريم.
4- أن السجناء وقت سجنهم قوة إنسانية معطلة وبذلك يوقع السجن ضرراً بالمجتمع.
5- أن السجين يعاقب أثناء السجن بعقوبات بدنية إذا ارتكب ما يخالف لوائح السجن وقليل من ينجو من هذه المخالفات وآثارها وبهذا يقعون فيما فروا منه.
هذه بعض أضرار السجن فوق ما فيه من تقييد الحريات وعدم الردع الكافي عن ارتكاب الجرائم.
أما عقوبة الضرب فإنها وإن كانت لا تخلو من امتهان لكنه لا يدوم وسرعان ما يسترد المعاقب بالضرب اعتباره إذا عمل بعد ذلك صالحاً ونفسه لم تتدرن بدرن يأكل الكرامة وإذا مازالت جراحه استأنف نشاطه واستئناف النشاط يرد إليه اعتباره ويستمر بين أهله يرعاهم ويرعونه ولا تصل إليه عدوى من أمراض أخرى كما لا يوقع الضرب ضررا بالمجتمع كما هي الحال في السجن.
وقولهم إن في الضرب استهانة وحطاً للكرامة فكرة لا محل لها في العقاب ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه.(30/174)
وبعد فإن العقوبات في الحدود وغيرها شرعت لمنع الكافة عن الجريمة وزجرهم عنها فهي ضمانات لتطبيق أحكام الشريعة وليس كما يتصورها الجاهلون بها وبحقيقتها وبطبيعة المجتمع المسلم حيث يتصورونه أو يصورونه مجتمعاً مقطع الأيدي في كل زاوية رجل مصلوب وفي كل شارع رجل مجلود أو مرجوم ويكفينا لتقرير هذه الحقيقة ورد هذه التصورات الجاهلة أننا حينما ننظر في المجتمع الملتزم بأحكام الله وحدوده أن هذه الجرائم لا تقع إلا في حالات قليلة بل نادرة في بعض أنواعها، في حين أننا نلاحظ ازدياد جرائم السرقة مثلاً في المجتمعات التي لا تطبق فيها الشريعة الإسلامية رغم أنها تعاقب عليها أحياناً بالإعدام.
آمنا بالله وبشرعه فهو العليم الخبير أعلم بطبيعة خلقه وبما يصلحهم وما تستقيم به أحوالهم وشئون حياتهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
بعض مراجع البحث غير ما ذكر في الهامش
1- التشريع الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة.
2- الجرائم في الفقه الإسلامي لأحمد فتحي بهنسي.
3- جرائم الحدود في التشريع الإسلامي لمحمد عطية راغب.
4- التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر.
5- الجريمة في الفقه الإسلامي للشيخ محمد أبو زهره.
6- العقوبة في الفقه الإسلامي له.
غنى وملك
رأى زينون الحكيم رجلا على شاطىء البحر مفكرًا حزينًا على الدنيا فقال له:
"يا فتى ما تلهفك على الدنيا…؟ لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر وقد انكسرت بك السفينة وأشرفت على الغرق!! أما كانت غاية مطلوبك النجاة وأن يذهب كل ما بيديك؟
قال: "نعم".
قال: "ولو كنت ملكا وأحاط بك من يريد قتلك، أما كان مرادك النجاة من يده ولو ذهب جميع ما تملك؟ ".
قال: "نعم".
قال: "فأنت ذلك الغني الآن وأنت ذلك الملك"، فتسلى الرجل بكلامه.(30/175)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأحكام السلطانية ص 221 طبعة مصطفي الحلبي (الطبعة الثالثة) .
[2] الأحكام السلطانية للماوردي ص 236.
[3] انظر فلسفة العقوبة لمحمد مهدي علام ص 36.
[4] البخاري بشرح فتح الباري الطبعة السلفية 10/ 481. حديث رقم 6064 ومسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4/1985 حديث رقم 28 من كتاب البر والصلة.
[5] رواه مالك في الموطأ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي 2/825 ضمن حديث مرسل وقد وصل ذلك الحاكم في المستدرك 4/383 والبيهقي في السنن 8/330 وهو حديث مشهور معروف العمل عليه.
[6] المستصفى للغزالي ص 251 تحقيق محمد مصطفى أبو العلا.(30/176)
الملك عبد العزيز آل سعود بين نصره لله ونصر الله له
للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة
2
لقد وفق الله الملك عبد العزيز آل سعود في كل ما قام به، والتوفيق أمر عظيم لا يهبه الله إلا لرجل عظيم، ومما لا شك فيه أن عبد العزيز كان عظيما، وتظهر هذه العظمة واضحة جلية في توفيق الله له، ونصره إياه في وقعة الرياض وفتحها.
كان عبد العزيز في سن دون العشرين من عمره المبارك، وما تزال ترن في أذنه نصائح أبيه الرجل الصالح الإمام عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، الذي كان دائماً يقص عليه تاريخ الآباء والأجداد، ومواقف الضعف والقوة فيهم، ويذكر بالخير مواقف الصلحاء والأتقياء منهم، ويحرص كل الحرص على أن يبث في نفس ابنه عبد العزيز الروح الدينية، ويغرس في قلبه حب الجهاد والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله، ويذكره بالعهد الذي تم بين جده محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله، الذي يقضى بالعمل على نشر العقيدة السلفية، وجذب الناس إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وإقراره بالعبادة، ودحض حجج الآثمين والمشركين، وإقامة الأدلة والبراهين الناصعة على ثمرة التمسك بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما يجنيه الإنسان من وراء ذلك من سعادة في الدنيا والآخرة.(30/177)
لقد رأى حوادث جساماً، وهو صغير، رأى الأعداء على أبواب عاصمة الآباء والأجداد، وشاهدهم وهم يحاولون الاستيلاء على الرياض وما حولها، ثم استسلم للبيداء بقسوتها وبحرّها وبردها، حتى انتهى به المطاف إلى الكويت, وفي الكويت عرف الكثير عن أمرائها وعلمائها، كان يجلس صامتا، ويسمع أكثر مما يتكلم، وكان ما يسمعه ويقرؤه ويتعلمه يلقى به في بئر آماله وأحلامه العريضة ويضطرب كل ذلك في بحر لجي تتدافقه الأمواج العالية، التي تصل به إلى قمة التفكير ألا وهو كيف يخلص بلاده الغالية من يد الغاصبين.
لقد ذهب إلى الرياض مسقط رأسه، ومحط آماله، وملعب طفولته غازياً، ومكث بها أربعة أشهر، لكنه تركها أمام مالا قبَل له به، فوقعة الصريف [1] وانتصار الأعداء بها، والهزيمة التي لحقت بجيش الشيخ مبارك كان لها أكبر الأثر في التأثير على مجريات الأحداث في ذلك الوقت.
ولقد مرت الأيام، وبلغ عبد العزيز الواحدة والعشرين، وما تزال تراوده فكرة الرجوع إلى بلده، فإما أن يعيش فيها، وإما أن يستشهد في سبيلها، لقد اختمرت في ذهنه فكرة استرداد الحق المغتصب، والمُلك الذي سلب، ونُهِب قسراً عن أهله، والذي لا يُسْتَطاع بغيره أن يُمْتَلك الزمام، فتقام حدود الله، وتطبق أسس الدعوة التي كاد يقضى عليها، إلا من أنفس ما تزال تعض عليها بالنواجذ، ثم أقسم ليستردنّ مجد آبائه وأجداده، ولينشرنّ الدعوة لربه جل وعلا، كما قام بها أجداده الأوائل.
ثم كاشف بما جال في خاطره الأصفياء من ذويه، وأقاربه الشباب، فوافقوه على ما دعا إليه، وذهب إلى والده الإمام، واستأذنه في السفر، بعد أن بين له الدافع الشديد الذي دعاه إلى ذلك فإيمانه القوي بنصر الله، وتوكله عليه، واطمئنان قلبه إلى توفيقه تعالى، جعله متأكداً من عون الله، وشد أزره له.(30/178)
وتنفس الصعداء الرجل العارف بأخبار العدو وقوته، وحرصه على ما اغتصبه، وقد أدرك أن عبد العزيز الذي رباه وعلمه لساعة آتية، قد أدرك الآن أنه أصاب الهدف، واعتمد على من عليه الاعتماد، وأوى إلى ركن حصين وسند عظيم، ولذلك لم يتردد في الإذن له بالعمل، ودعا له بالتوفيق والنجاح [2] .
وإذا وجد الإيمان والتوفيق، والنصر والتوكل على العليم الخبير، فكل ما عداه من الأسباب هين لتحقيق الرغبة القوية.
لقد تمكن عبد العزيز الشاب من الحصول على أربعين جملا، وثلاثين بندقية، وبعض الزاد، ومعه أربعون رجلاً من عائلة آل سعود الذين بالكويت، ومن المقربين إليه، ثم راح يغزو الأرض التي استولى عليها ابن الرشيد، والناس يجتمعون معه، ويتفرقون عنه، حتى وصلوا إلى الألفين، لم يبق منهم في آخر الأمر إلا عشرون ضمهم إلى الأربع فأصبح جيش عبد العزيز ستين رجلا، واتجه ببصره إلى الرياض، واستطاع القائد الشاب عبد العزيز ابن عبد الرحمن بما وهبه الله من الذكاء أن يخطط للاستيلاء على الرياض.
ففي الخامس من شوال عام 1319 هـ كان الشاب عبد العزيز والستون شاباً على مسافة من الرياض. قالوا: إنها كانت على بُعْد ساعتين، ترك فيها عشرين شابا ممن معه، وتقدم بالأربعين الآخرين، فلما وصل إلى البساتين خارج سور المدينة، ترك أخاه محمدا، ومعه ثلاثون رجلاً، ومشى بالعشرة في الظلام الدامس، حتى تمكن من اقتحام الأسوار، والوصول إلى حاكم الرياض من قبل ابن الرشيد، وقتله في مغامرة مثيرة, رافقه فيها تأييد الله له وتوفيقه, وأظلته العناية الإلهية التي شدت من أزر الشاب عبد العزيز، حتى تم له النصر، واستولى على الرياض [3](30/179)
أرسل من ينادي في الناس، في محل تجمعاتهم، وفي الأسواق، وكان الخبر قد سرى في كل مكان، والبشر والفرح يعلو الوجوه، وهم يشكرون الله الذي أرجع الحق إلى أصحابه، كان المنادي يقول بأعلى صوته: "الله اكبر…. الحكم لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود" [4]
هذا الفتح العظيم جدير بأن نسميه "فتح الفتوح في العصر الحديث"فلقد كان بداية لسلسلة من الانتصارات التي مَنَّ الله بها لا على عبد العزيز وحده، بل على العالم الإسلامي، وهذا ما أثبته مرور الأيام.
لقد تناول المؤرخون والكتاب والأدباء هذا الحدث العظيم بالدرس والتحليل والثناء والإكبار، واتفقوا على أن هناك توفيقا إلهيا، سار في ركب تلك الفتية التي آمنت بربها، فظَلت عناية الله تحرسهم وترعَاهم فحققوا النصر على أول طريق الجهاد والكفاح حتى أتم الله نوره.
يقول نجيب نصار في كتابه (الرجل) : "إن ابن سعود الذي تعلم الصعود إلى مراقي العظمة، في مدرسة الإسلام، كما تعلمه فيها أبو بكر وعمر وعلي وخالد ومعاوية، وغيرهم من الصحابة الكرام، وتمرن على الخشونة، وشظف العيش، والشدة في مدرسة بني مرة الساذجة، ارتقى أول درجة من سلّم العظمة بالاستيلاء على الرياض" [5] .
وقال حافظ وهبة: "إن هذه القصة تشبه قصص أبطال اليونان، وترينا عظم الأخطار التي أحاطت بابن سعود" [6] .
لقد جاء الناس من كل مكان، وتجمعوا في قصر الحكم، يرحبون بالأمير عبد العزيز، ويبايعونه زرافات ووحدانا، والفارس الشجاع يدعوهم إلى تناسي ما حدث في الماضي، وإلى المحبة والتعاون، والاستعداد للمستقبل.(30/180)
لم يضيع الأمير عبد العزيز لحظة من وقته، فقام بالبناء والتحصين والاستعداد لكل ما يطرأ من أحداث، وكتب للوالد الإمام عبد الرحمن أن يأذن لأخيه سعد بالقدوم إليه، ومعه نجدة من الرجال والعتاد، ثم أرسَل إلى والده بالكويت، يطلب إليه العودة إلى الرياض؛ فسير الحوادث تفضي أن يكون بجواره، فودع الإمام والشيخ مبارك، وغادر الكويت تلبية لولده، وسلك طريقا غير معروف، فابن الرشيد ما يزال يسيطر على البلاد، وليس من الصواب أن يعرف طريقه في ذاك الوقت.
لم يمض زمن طويل بل أيام معدودات حتى وصل الإمام عبد الرحمن إلى الرياض بسلام، وأسرعت الوفود من كل مكان للتهنئة والتحية والسلام، وتجديد البيعة لآل سعود، ثم دعا الإمام شيوخ العاصمة وعلماءها إلى اجتماع طلب عقده في المسجد الكبير بالرياض بعد صلاة الجمعة، وبعد الصلاة وقف الإِمام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلن أمام الجميع تنازله عن جميع حقوقه في الإمارة والإمامة إلى ابنه عبد العزيز.
ولكن الابن البار الذي تربى في رحاب الإسلام، ووعى قضاء الله للوالدين رد قائلا: "الإمارة لكم وأنا جندي في خدمتكم".
فجمع الإمام العلماء، وأرسل إلى عبد العزيز، وخاطبه قائلا: "إذا كان قصدك في استدعائي إلى الرياض لأتولى الإمارة فيها، فهذا غير ممكن ولا أقبله مطلقا...."
وبعد مناقشات طويلة، قال الحاضرون من العلماء للقائد عبد العزيز: "على الابن أن يطيع أباه"
وقالوا للإمام: "أنت كوالد عبد العزيز رئيس عليه، وبالتالي على أهل نجد".
فقال الإمام رحمه الله: "ولكن الإمارة له".
فقال عبد العزيز: "إني قابلها بشرط أن يكون والدي مشرفا على أعمالي دائما، فيرشدني إلى ما فيه خير البلاد، ويردعني عما يراه مضراً في مصالحها" [7] .(30/181)
موقف فريد في زمنه، زمن قتل الطامع أخوته في سبيل الملك، وتنمر الابن فيه للأب، وضاعت فيه مُثُل الإسلام العليا إلا من فئة قليلة، ظلت محافظة على تعاليم الحنيفية السمحة، تمثلت في أصل عبد الرحمن وفرعه وعين الله ترعاهم، وتوجههم إلى الطريق المستقيم.
تمت البيعة لعبد العزيز، وأصبح قريبا من الله، متحملا مسئولية من تولى أمرهم، فليضاعف النشاط، وليسهر على راحة رعيته، وليتجه إلى ربه، يطلب منه العون والمساعدة والتوفيق.
لو أسرع ابن الرشيد إلى الرياض بجيوشه الجرارة، وقوته الكبيرة لتغير وجه التاريخ، ولقضى على تلك العصابة التي أخذت على عاتقها نشر الدعوة، وإقامة حدود الله.
قال الإمام عبد العزيز:
"أما ابن الرشيد، فقد أشار عليه بعض رجاله بأن يسير من "ثادق"ويضبط الحفر، ولكنه رفض، والحقيقة لو أطاع رأي قومه، ورحل إلى الحفر، لكانت ضربة قوية علينا " [8] , ولكن الله شغل ابن الرشيد بآماله، وتطلعاته التي دار في فلكها، وشغلته عما سواها، فهو يخطط ليستولي على الكويت، فقد طغى عليه التفكير في امتلاكها، وأخذها من الشيخ مبارك، وحسبها هي الأصل، والرياض هي الفرع, وإذا امتلك الأصل، فإن الفرع يأتي إليه بأقل جهد.
لقد مناه الأتراك بالمساعدة، ورسموا له كيفية الاستيلاء على الكويت، ولكنه ما كاد يقترب منها، حتى كان له الإنجليز -حلفاء الشيخ مبارك- بالمرصاد، فقد قضوا على آماله وتطلعاته، وأخيرا وبعد فوات الوقت، عرف أنه أمام قوة لا قبل له بها.
كان كلما ذكروا له عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، واستيلاءه على الرياض، أجاب بلا مبالاة، وأظهر عدم الاهتمام بهذا الاستيلاء، وأن الأمر لا يستحق أقل مجهود، وحينما ألحوا عليه في الذهاب إليه، قال المثل المشهور وهو غير مكترث: "أرنبة محجرة وأهلها مقيمون "أي أنه يستطيع أي يوم شاء أن يخرج عبد العزيز من الرياض" [9] .(30/182)
ومرت شهور، وأتى ابن الرشيد، وفي حسبانه أنه سوف يتسلم الرياض، وأن ساعة تخليصها له قد دنت، ولكنه ارتد على عقبه أمام قوة لم تخطر على باله، بل إنه كلما حاول الاقتراب منها لم يستطع، فنكص على عقبيه، ورجع غير موفق فصرف النظر عنها مؤقتا، لكن كانت له جولات، ومواقع في أماكن أخرى، لازم النصر فيها الإمام عبد العزيز آل سعود رحمه الله.
ظلت الحرب سجالا بين الإمام عبد العزيز وابن الرشيد، وربما كان ابن الرشيد قويا وذا بأس، وكان أكثر عدة وعتاداً، إلا أن الإمام كان أصلب عوداً وأكثر تحملا، وأشد إيماناً؛ فهو يحارب من أجل حق اغتصب، وسُطي عليه، ومن أجل دعوة ودين خف الوازع إليه، وإن له لمبدأ عظيماً يستمد منه الحماسة والقوة.
كانت الجيوش تصول وتجول من قبيلة إلى قبيلة، ومن أرض إلى أرض، والناس قد قلّ تمسكهم بالدين، فتاهوا في البيداء الواسعة، يسعون لمغنم دنيوي، وقد يكونون معك بالنهار، فإذا ما أتى الليل تراهم قد انقلبوا عليك، وتعقدت الأمور بالتقارب الذي لم يكن يخطر على بال، هذا التقارب الذي تم بين الشيخ مبارك وابن الرشيد، وكان هذا مما يستبعد، والعداء ما يزال مستحكما بين طرفي الجزيرة، وبدأ النفاق في بعض القبائل ظاهراً جلياً، وبين رجال تنكبوا الطريق، فكانوا متذبذبين بين الطرفين فأحذ الإمام عبد العزيز الحذر والحيطة منهم، وظل يتنقل وهو في أوج حماسه وقوته وتخطيطه، والمولى جَل وعلا يدبر له الأمر، ويوفقه إلى الطريق الذي سيوصله بإذنه تعالى إلى النجاح الذي يريده.
لقد وصل ابن الرشيد إلى روضة مهنا، بعد سلسلة من التنقلات والمناوشات ولحق به الإمام عبد العزيز، وشرع يجمع رجاله، ثم بدأ هجوما على خط الدفاع الأول ليلا، على من تقدم من رجال ابن الرشيد، وتواقعا في 8 صفر سنة 1324، وتمكن جيش الإمام من أن يزيح جيش ابن الرشيد قليلا، ويقهقره، ويحتل مكانه.(30/183)
وفجأة وبدون تدخل من البشر، والليل حالك الظلام، والنجوم ترسل شعاعاً خافتاً على الرمال، والبصر محدود الرؤيا، والحرس يضعون أيديهم على الزناد استعدادا لإخراج الطلقات، وعين الله الحارسة تتولى الأمور، وتصرفها كما يشاء لها رب الكون، وفجأة يحدث ما لم يكن في الحسبان، ولم يخطر على بال إنسان، وما أراه إلا من صنعِ الله العلي القدير. لقد ركب ابن الرشيد فرسه، وراح يدور في معسكره مستنهضاً همم القوم ممن معه، ومحرضاً للضرب والنزال، يجري هنا وهناك، حتى وصل إلى المكان الذي كان له فيه فرقة من جنوده، ظن أنها لا تزال هناك، وأنسي أنها تراجعت، وتركت مكانها لجيش الإمام عبد العزيز.
صاح بحامل البيرق يحرضه على الهجوم، وما حسب أنه بين القوم الذين يحرض عليهم، ويدبر لهم الشر، ويبتغي الغلبة عليهم.
كان يصيح باسم حامل البيرق، وعرف رجال الإمام الصوت، وعرفوا أنه ابن الرشيد، فصوبت عليه البنادق، ونفذت إرادة الله, وحمل سيفه وخاتمه إلى الإمام [10] .
أما الإمام عبد العزيز آل سعود فكان حينما يبشر بنصر من الله سبحانه وتعالى يخر ساجداً، ويطيل التضرع والدعاء، حامداً شاكراً فضله سبحانه على ما أولاه من نصر وتأييد، وبهذا قُضي على أكبر قوة كانت أمام الإمام رحمه الله.
لقد شمل تأييد الله جل وعلا لعبده عبد العزيز رحمه الله في كل ما دخل من معارك، وإن كان قد خف أوارها في ملحقات الرياض، رغم تشعبها وكثرتها، إلا أنها كانت تنتهي دائماً بنصر من الله، وفي النهاية الاستقرار والهدوء.
وشاء الله أن ينتقل الصراع من نجد إلى الحجاز، وكأن ما حدث ما هو إلا مقدمة لتنفيذ إرادة الله، حتى يوفي سبحانه وتعالى بوعده، فيستجيب دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام كلما اشتد البأس، وانعدم الأمن والطمأنينة بأرضه المقدسة.(30/184)
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} . (إبراهيم: 35) .
وكان ذلك في أرض الحجاز حيث البيت العتيق. والحرم الآمن، وحيث يجب أن تقام شريعة الله، وتنفذ حدوده، والله أشد غيرة من أحدنا على حرماته، ولكن الله يؤخر، ويممهل ولا يهمل.
لقد ظلت حدود الله معطلة زمنا طويلا، وشرائعه مستباحة، والمكان الطاهر مسرحاً للمساومة والمزايدة، والنهب والسلب في كثير من الأوقات, تقام فيه البدع والمنكرات، ويساق الناس وكأنهم قطعان ماشية، وكأنما هذه الأرض الطاهرة ما هي إلا ضيعة لفئة من الناس بلا وازع، فليس لهم -كما يقال- من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه؛ والدليل القوي على ذلك قانون (أبو نمى) وهو الدستور الذي كانت تسير عليه الأمة في الحجاز في معاملتها مع السادة الأشراف، فشرعت قوانينه لأشراف الحجاز، وضعه (أبو نمى) الذي تولى إمارة مكة سنة 932هـ، وظل يعمل به إلى أن قضى عليه الإمام العادل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، حينما طهر الأرض المقدسة من الرجس والآثام.
إن قانون (أبو نمى) يمثل أفدح الظلم في أطهر بقعة على وجه البسيطة، وهو بعيد كل البعد عن التشريع السماوي، ولم يسمع بمثله إلا في العصور الوسطى، ومحاكم التفتيش.
يقول حسين محمد نصيف:
"وهذا القانون على ما أعتقد لم يوضع أقسى ولا أظلم منه, وإذا بحثنا عن معنى الظلم في أي قاموس، فلا نجده وافياً بمعناه الحقيقي إلا في هذا القانون" [11] .(30/185)
كانت انتصارات الإمام عبد العزيز في نجد وما يجاورها مثار إعجاب وإكبار من أبناء شبه الجزيرة، وهو واحد من أبنائها، وهذا ما أوغر صدر حكام الحجاز وأقضّ مضجع الحاكم في ذلك الوقت، وبخاصة أن الإمام كلما أخضع جهة، أقام فيها حدود الله، ونفذ حكم الشرع، والناس قد استجابوا، وسكنوا إلى أحكام الله، وحار الشريف فيما يفعل، وقد أصبحت بلاد نجد قوة لا يستهان بها!!
ماذا يفعل؟ إنه كلما حاول مساعدة البقية الباقية من الخارجين، أو معاونة واحد من أعداء نجد الذين يحاربهم الإمام، ارتدت إليه سهامه.
كان الشريف بين المَد والجزر، والبعد والقرب، فهو يتقرب إلى الإمام أحياناً، حتى ليظن الإمام أن الصفاء والمودة ستمحو كل ما سبق من عداء، وفجأة لا يلبث أن يقلب ظهر المجن فيظهر ما يضمر فإذا به عداء مستحكَم، لا يستقر به على حال، والإمام عبد العزيز ينظر إلى تحركاته نظرة الواعي المستفيد من كل هذه التحركات، إلى أن ظهرت نواياه أخيرا، وهي قوله: "إن الجزيرة بما فيها من نجدٍ من رعاياه، وأن كل هذه البلاد من حق الشريف".
وتذرع الإمام بالصبر والأناة كعادته، وتركه يقول كل ما يريد أن يقوله, وكانت هناك عهود ومواثيق لحلفاء الشريف من الإنجليز، احترمها الإمام، ولم يثر أي مشكلة لهؤلاء الحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى، حتى كانت القشة التي قصمت ظهر البعير؛ وهي مسألة الخلاف على الحدود بين نجد والحجاز، وبالأخص تربة والخرمة -وهما قريتان على الحدود- الشريف يرى أنها من قرى الحجاز، والإمام عبد العزيز يؤكد أنها من نجد وكلاهما يدلي بحججه.(30/186)
لقد كان من المتعارف عليه أنهما من نجد، وأن جبل (حَضَن) هو الفاصل بين نجد والحجاز, وأنه يبعد عن القريتين بمسافة قدرت بسبعين كيلومترا بالنسبة لتربة، وبخمسين كيلو بالنسبة للخرمة، وأنّ البلدين وعربانهم حنابلة المذهب من زمن بعيد، وأنّ كثيراً من تجار نجد يعيشون بين ظهرانيهم، كذلك ما يزال ولاؤهم لآل سعود قائماً منذ زمن بعيد. ولما لم تنفع المكاتبات، ولم تغن الوساطات، ولم يجد الشريف ملاينة من الإمام عبد العزيز، وقد استقل الشريف بالحجاز، وطرد الأتراك، وأصبح يتمنى حكم الجزيرة كلها عزم على غزو نجد مبتدئاً بتربة والخرمة، وهو يعتقد أنه سيفتحهما، بعد أن تكتسح جيوشه كل من يقف أمامه. ومما تجدر الإشارة إليه ما حصل بين خالد بن لؤي أمير الخرمة والذي يعتبر عاملا من قبلِ الشريف على هذه الجهة وبين ابن الشريف الأمير عبد الله بن الحسين، وكان بالعيص قريباً من المدينة المنورة بعد أن اشترك مع الأمير عبد الله في القضاء على الحكم التركي بالمدينة المنورة، فقد ضرب خالداً على وجهه أحدُ المقربين إلى الأمير عبد الله هو فاجر بن شليويع أحد شيوخ الرقة، فاشتكى خالد إلى الأمير، ولكن الأمير لم يهتم كثيراً لخالد، لحاجة في نفسه, وكل ما فعله أنه حبس فاجراً ثم أطلق سراحه بعد أيام.
لم يرض خالد عن هذا الحكم، ولما خاطب الأمير في ذلك لم يأبه به، فغضب خالد، واستأذن على خلاف المعهود في الرحيل، فأذن له غير مكترث به، ولا بما سيتم عليه الأمر، ورجع خالد إلى الخرمة [12] .
إن آثار هذه الحادثة البسيطة كانت السبب في تغيير مجرى الحوادث، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنها غيرت وجه التاريخ، فبمجرد أن وصل خالد إلى موطن إقامته، وثق علاقته مخلصا بالإمام عبد العزيز، وقد كان على علاقة طيبة به، إذ كانت تجمعهما وحدة المذهب ويرى أنه من رجاله, وربما كانت هذه من الأسباب التي أوغرت صدر الأمير عبد الله.(30/187)
صار خالد من رجال الدعوة، وما عاد يخفي شيئاً، فقد أخلص لها، واستعد لأن يضحي في سبيلها بكل شيء، وكأنما رسمت المقادير لخالد دوراً، كان له أكبر الأثر في الاستيلاء على الحجاز.
قطع خالد كل صلته بحكام الحجاز، فكان كلما أرسل إليه الشريف بالحضور والمثول بين يديه، تخلص من هذا بحيلة من الحيل، وتكرر منه ذلك، وعلم الشريف أن خالداً غير راغب في مقابلته، ورأى أن القوة هي الفيصل بينه وبين خالد الذي هو واحد من رجاله، واعتبره خارجاً على طاعته، فأرسل إليه جيشاً تلو جيش، فكان نصيبه الهزيمة، ففكر في أن يرسل إليه جيشاً قوياً بقيادة صهره، الشريف عبد الله بن محمد فلما وصل إلى جبل (حَضن) كان القدر له بالمرصاد، فقد تفشت فيه الأمراض فأفنته [13] وكفى الله المؤمنين القتال.
ويقال: إن الشريف طلب من صهره ألا يباشر عملاً عسكرياً وأن يلتزم مكانه حتى يصل الأمير عبد الله قائد الجيوش [14] .
عبأ الشريف كل قوته استعداداً لإعلان الحرب على الخارجين على طاعته أولا ثم على الإمام عبد العزيز، واستحث ابنه الأمير عبد الله الذي ولاه قيادة الجيوش الغازية أن يعجل بإخضاع القبائل في تربة والخرمة، وأن يقضي على من فيها من الولاة والخارجين، ثم يتجه إلى الرياض.(30/188)
بدأ الأمير عبد الله في الإغارة والتأديب، واستمالة القبائل على حدود تربة، وقتل بعض التجار النجدين، واستَكان له الأعراب المتفرقة في هذه الجهات، فأخذه الزهو، واستصغر شأن خصمه حينما نظر إلى جيشه وكان تعداده 12000 مقاتل على أن هناك من يقول إن تعداد الجيوش وصلت إلى 25000 مقاتل [15] منهم خمسة آلاف من الجيش النظامي، والباقي من المتطوعة والأعراب، ومعهم المعدات وآلات الحرب والقتال التي لا تعد ولا تحصى مما أخذ من الإنجليز، وغنم من الأتراك, فنظر إلى كل هذا الأمير القائد، وأرسل إلى والده قائلا: "إني في 30 يوماً سأطوي نجداً بأجمعها وأخاطبكم من البحرين" [16] .
كان الإمام يراقب ما يجرى في تربة، وتأتيه الأخبار تحت جناح السرعة، فأعدّ جيشا قوامه 000 12 مقاتل، تحرك به من الرياض، إلا أنه حينما وصل إليه أخبار جيش الشريف أرسل سريعاً إلى سلطان بن بجاد كبير هجرة الغطْغُط، أن يلتحق بسرعة وسرية مع جيشه بخالد بن لؤي بالخرمة لنجدته، حتى يصل هو ومن معه، وأسرع سلطان بن بجاد، والتقى بخالد، وجلسا يفكران في كيفية الوصول إلى هذه الجيوش، وكيف يدفعان هذه القوه العظيمة التي لا قبل لهما بها.
وراودهما التفكير أن ينتظرا ابن سعود، ومدده الذي سيأتي به إليهما، ولكن إيمان خالد بالله كان أقوى من كل شيء، وأن من معه متعطشون إلى الجنة، وهُدِي إلى خطة عجيبة، راح يخطط لها: وهي مهاجمة جيش الأمير عبد الله، واتفقا على كيفية الهجوم.
اتفقا على تقسيم القوة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: يهاجم مخيم الأمير عبد الله.
الثاني: ينازل القوات النظامية.
الثالث: ينتشر على الخطوط لقطع خط الرجعة عليها.(30/189)
وما إن سكن الليل، وهدأ كل شيء، واستسلم الجيش والأمير القائد للنوم، وإذ بخطة خالد تبدأ في التنفيذ وإذا بالأصوات تملأ عنان السماء تنادي: "الجنة.. الجنة.. الجنة "، ودارت معركة رهيبة، استخدمت فيها مختلف الأسلحة، وكان في مقدمتها السلاح الأبيض، واختلط الحابل بالنابل، وصار جنود الأمير عبد الله يضرب بعضهم بعضا في وسط الظلام على غير هدى، ووصل خالد بن لؤي إلى مخيم الأمير، وأحاطوا به من كل جانب يريدون قتله، فاستيقظ من نومه مذعوراً، فشق له خادمه الخيمة، وخرج منها، وأقبل على فرس فامتطاه بملابس نومه، وأطلق له العنان، ولم يتوقف به العَدْو إلى أن بلغ الطائف، وكانت نجاته من تلك المجزرة التي لم ينج منها إلا النزر القليل من رجاله أعجوبة الأعاجيب.
أما الذين نجوا من المعركة، ومن المذبحة، ولم يستطيعوا الفرار، فقد التجأوا إلى حصن من الحصون القريبة، فهجم عليهم جيش خالد وابن بجاد في اليوم التالي، فجعلوا خاتمة المذبحة كأولها.
تراكمت الجثث بعضها فوق بعض، ولم ينج إلا من سابق الريح، ومن انضم إلى جيش خالد، وكان أكثرهم من عتيبة، وكان عدد القتلى خمسة آلاف، بينما خسر خالد وابن بجاد من جنودهما حوالي خمسمائة، أربعمائة من رجال الغُطْغُط، ومائة من أهل تربة والخرمة. تمت هذه المعركة التي قضت على كل آمال الشريف، والتي قصمت الظهر، ليلة 25 شعبان 1337 هـ على مقربة من تربة، واستولى خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد ومن معهما على معدات جيش الشريف وذخائره، وكان أكثرها لم يزل في صناديقه [17] .(30/190)
ثم وصل الإمام عبد العزيز على رأس جيشه، وكان تعداده 12000 اثني عشر ألف مقاتل بقيَادته إلى تربة بعد انتهاء المعركة، ولم يعلم بها إلا وهو في الطريق, رأى ضحايا الواقعة، ولم يطق الإمام رؤية هذه المناظر الرهيبة، فقد جيفت الجثث، ولعبت برائحتها الريح، ونقلتها من مَكان إلى مكان، فأطرق رحمه الله حزيناً، وتساقطت الدموع من عينيه [18] , ثم أمر بدفن الجثث، وقد حمّل الشريف نتيجة كل ما حدث.
بعد هدوء الحالة في منطقة تربة والخرمة، واستقرار الوضع بها، اجتمع الإمام عبد العزيز بجيوشه وقواده، واستعرضوا موقف الشريف، وبينوا أنه هو الذي اعتدى، وعليه دارت الدائرة، وأن هذا النصر من الله وحده، فله الحمد في الأولى والآخرة.
كان في قيادة الإمام من يرى أن ساعة الخلاص من حكام الحجاز قد قربت، وأنه ينبغي الزحف إلى مكةَ، وكان الجنود متحمسين لإنهاء الأمر، وتخليص الأراضي المقدسة من كل دنس إلا أن الإمام عبد العزيز رأى أن الأمر يقتضي التريث حتى يُسْمَع الصدى الذي ستأتي به هذه المعَارك، وأن الاحتياط واجب، فليس المهم الآن ما عليه الشريف وإنما مَنْ هم وراء الشريف.(30/191)
لقد كان الإمام رحمه الله يخاف من تدخل قوة خارجة عن المنطقة، ويرى أن ما أصاب الدعوة ورجالهَا من كوارث في الماضي كان بسبب تدخل هذه القوة، وأنه يسير بتؤدة وتأن وصبر، ليفوت على الجميع أمراً قد لا تحمد عقباه، ومن هنا نرى براعة الإمام في معرفته ووعيه للتاريخ، ودراسة أحداثه، والخوف كل الخوف أن يتجمع الصليبيون مرة أخرى مع المسلمين الجاهلين بأمور الدين وتشريعاته، ولكنهم والحمد لله كانوا مشغولين بأمورهم، ففرنسا منصرفة إلى حروبها ونتائجها، وتركيا أصبحت وليس لها من الأمر شيء، أما الإنجليز الذين يهمهم أمر المنطقة، والذين يعتقد الشريف أن لهم التأثير الكبير، ويرى أنهم يستطيعون أن يمدوا له يد العون والمساعدة، فإنهم يدورون في فلك مصلحتهم وحدها، وقد يكونون معك، ولكن حينما لا يرجون الخير منك، فإنهم سينصرفون عنك حتما، ولقد كانوا في طريق الانصراف عن الشريف، حينما رأوا أن التوفيق تخلى عنه.
لقد هال الشريف ما حدث في تلك المأساة المروعة، وحار فيما يفعل، وأخيراً استغاث بحلفائه الإنجليز الذين أخذتهم الشفقة والرثاء لحاله، وأرادوا أن يفعلوا له شيئاً، فأرسلوا إلى الإمام هذا الكتاب:
"ترجوكم حكومة جلالة الملك -ملك الإنجليز- أن تعودوا إلى نجد عند وصول هذا الكتاب إلى أيديكم، وتتركوا تربة والخرمة منطقة حرة، وغير مملوكة لأحد، حتى عقد الصلح، وتحديد الحدود، وإذا لم تعودوا فإن حكومة بريطانيا تعدّ كل اتفاق بينكم وبينها ملغى، وتتخذ ما يلزم من التدابير ضد حركاتكم العدوانية، ونأسف كل الأسف لما حصل بين أصدقائها، وكانت ترجو ألا يقع" [19] .
كانت الحكمة تقضي بأن يتريث الإمام حتى تهدأ العاصفة فيتجه بجيشه إلى الرياض، وقد كان هذا ما قام به فعلاً، فأخذ طريقه إلى العاصمة، بعد أن حذر رجاله من عدم التحرك حتى تحين الفرصة وهى قريبة إن شاء الله.(30/192)
حقيقة إن الذي كان يشغل الإمام الخوف من التدخل الأجنبي، ومن إثارة الرأي العام الإسلامي في الخارج.
"إنني إذا أمنت من جانب تدخل بريطانيا في الأمر من أجل الشريف، فما يدرينا لعلها تتدخل فيما بعد من أجل العالم الإسلامي إذا أنا بسطت نفوذي على الحرمين الشريفين، وحاولت إقامة الدين الحق، ولذلك فلا بد أن أنتظر، وأنتظر طويلاً حتى يأذن الله لي وهو خير الحاكمين" [20] .
ولكن الله مؤيده وناصره، ومن كان الله معه، فكل شيء يهون، وكل الأمور تحل بتوفيقه سبحانه وتعالى، وقد بدأ هذا التوفيق بأن أرسلت له جمعية الخلافة المعروفة بشدة تعصبها للدين، وللدولة العثمانية تطالبه بتحرير الحجاز من المظالم، وأن يعمل على عقد مؤتمر إسلامي يقرر فيه مصير البلاد.
وكان أول الغيث قطرة، استراح لها قلب الإمام، وهدأت نفسه قليلاً، وحمد الله سبحانه وتعالى، ولكنه مازال يفكر في مخرج مما قد يحدث، وإذا بالبشير يجيئه ليقول له: "إن جيش خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد قد دخلا مكة ملبياً طائعاً كما يريد من غير إراقة قطرة واحدة من الدماء، ودون أن يلحق بأحد من جيرة بيت الله أي أذى" [21]
سجد الإمام لله شاكراً، معدداً فضله عليه، وكرمه له، ثم شرع رحمه الله في الإعداد ليتوجه إلى مكَة فكتب إلى جميع ملوك المسلمين وأمرائهم يشعرهم بسفره إلى مكة المكرمة غير باغ ولا آثم، وأنه عازم على عقد مؤتمر هناك، يفكر فيما يراه كفيلا بتوطيد الأمن، ونشر السلام.
وجمع كبار قومه ومعهم العلماء، وخطب فيهم خطبته التاريخية.
بدأ الخطبة بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه.... وكان مما قاله:
"إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل عباد الله، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها؛ فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع، الذي يجب أن تطأطأ جميع الرءوس له.(30/193)
إن مكة للمسلمين كافة، فيجب أن يكون أمر إدارتها وتنظيمها طبق رغائب العالم الإسلامي.
إننا سنجتمع بوفود العالم الإسلامي هناك، وسنتبادل معهم الرأي في كل الوسائل التي تجعل بيت الله بعيداً عن الشهوات السياسية، وتحفظ راحة قاصدي حرم الله" [22] .
غادر الإمام عبد العزيز آل سعود الرياض يوم 13 ربيع الثاني عام 1343 هـ في موكب كبير في طريقه إلى الحجاز، ومعه كبار القوم وعلماؤها، وألوية من أهل الحضر، وسكان الهجر، والفرحة قد عصت الوجوه، وسار الموكب على بركة الله، وجاء البريد من مكة، وهو على آبار المصلوم (المصلوق) مساء 22 ربيع الثاني عام 1343 هـ، فأمر بفتحه في الحال- على عادته- وعُرضَ عليه، فإذا به كتاب موقع عليه من معتمدي قناصل الحكومات البريطانية، والإيطَالية، والفرنسية، والهولندية والإيرانية، وهذا نصه:
جدة في 4 نوفمبر سنة 1924 م
إلى خالد بن لؤي، وسلطان بن بجاد:
بعد الاحترام
وصلنا كتابكما, ولا يخفى كما أن حكومتنا ملتزمة الحياد التام في الحرب بين نجد
والحجاز، وعلى ذلك فنحن محايدون، ولا يمكننا التدخل بأي وجه كان في هذا الخصام، وقد أخذنا علماً بتصريحكما بأن ليس لكما نظر في رعايانا، ونؤيد مضمون كتابنا الأول المختص بهم. والسلام.
إمضاءات [23]
وعندما انتهى من قراءة الكتاب، خر الإمام عبد العزيز ساجداً لله، ورفع رأسه يشكر الله، ثم قال: "قد لزموا الحياد".
يقول الزركلي:
"فعرفنا أن سبب قلقه ترقبه ما سيكون عليه موقف بعض الحكومات الأجنبية، فلما اطلع على الرسالة زال ما كان يساوره" [24] .
كانت جموع الله وعلى رأسها الإمام عبد العزيز قد وصلت إلى قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، فأحرموا بالعمرة، وانحدر الجمع من فوق جبال الهَدي حتى كانوا بأعلى مكة، بمكان يقال له "الأبطح".(30/194)
"..... ولم يكن يخطر على بالي أن أحضر مكة على هذه الصورة، بل إنني لو رأيت في المنام ما تم لي الآن، لما عبرت رؤياي لدى أحد المشايخ (العلماء) مخافة أن يسخروا مني، لكن فضل الله لا يحد، وهذا من محض إحسانه جل وعلا، وإكرامه لي، أسأله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يوفقني للعمل بكتاب لله، وإحياء سنة سيد المرسلين إنه سميع مجيب الدعوات" [25] .
ومما لا شك فيه أن هذا من فضل الله وكرمه وعطفه الذي أولاه لقائد المسيرة عبده وابن عبده الذي كان يستصغر نفسه أمام عطاء الله، وتأييده له، ولقد أثبتت الأحداث أن الله كان دائما معه موفقا وناصرا.
كان حاكم الحجاز قد ترك مكة إلى جدة، يريد أن يلعب بآخر ورقة معه، فراح يعد العدة، ويجمع جيوشا، وحاول أن يعمل شيئا لكنه لم يستطع، ولم يجد مالا يدفعه لجنده، فثاروا عليه، وهاج الناس بجدة بسبب ما وقع عليهم من النهب والسلب، وعمت جدة فوضى عظيمة، ولم يستطع الحاكم أن يسيطر عليها، فيئس، وقد ضاعت كل أمانيه [26] ، فتقدم بموافقته على تسليم آخر البلاد.
أما الملك عبد العزيز فقد بقي خارج جدة، وكلما طالبه جنده بالسماح لهم بدخول جدة دعاهم إلى الصبر والتؤدة، وطال الحصار لجدة وعبد العزيز واثق من توفيق الله له، ويؤكد خير الدين الزركلي هذا التوفيق ببعض ما حدث في أثناء هذا الحصار فقال: "جهز الشريف عليّ طائرة بمدفع رشاش، وكلف الطيار بأن يغير على قيادة جيش الملك عبد العزيز، ولم يكن عنده مدافع مضادة ولا مخابئ، ووصل الخبر إلى الملك عبد العزيز فقال: "وقانا الله شّرها".
وقال الزركلي مكملا:(30/195)
"وحلقت الطائرة فوق الخيام، ومن في الخيام ينظرون، وحامت حول أكابر سرادق في المخيم، حيث يجلس عبد العزيز وخاصته، وكان الوقت قبيل الظهر، ومن في الطائرة يرى من في الأرض بالعين المجردة، وكان مع قائدها شاب أعرفه، روى لي من تمنى له النجاح في مطار جدة قبل قيام الطائرة، وأنه رآه يحمل قنبلتين من اللواتي تقذف باليد وسمعه يقول: "سألقيها على رأس عبد العزيز ... "
ولم يكن بين الطائرة ورأس ابن سعود أكثر من مئات الأمتار؟ وقد أحكم القائد جعل السرادق هدفاً له، وهيئ الرشاش وإحدى القنبلتين, ولكن التوفيق يقظ، فإذا بالقنبلة تنفجر في الطائرة، وإذا بالنار تشتعل في الجو، وتهوي الطائرة، ثم تصبح ومن فيها كومة من الرماد أمام خيمة عبد العزيز" [27] .
وبينما رجال عبد العزيز يواصلون إلحاحهم عليه بدخول جدة، وهو يأمرهم بالتأني والصبر وردت رسالة الملك علي بالتسليم، وأجابه عبد العزيز بالموافقة، ورحل عن جدة والبلاد، وتم الحكم لله ونودي بعبد العزيز في مكة المكرمة في 22 جمادى الثانية 1344 هـ الموافق 8 يناير سنة 1926م ملكاً على البلاد [28] .
كلمتان لأبي بكر وعلي
كان من دعاء خليفة رسوله الله أبي بكر الصديق إذا مدحه الناس أن يقول:
"اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون، واغفر لي، واجعلني خيرا مما يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون "…
وكان أمير المؤمنين علي يقول لمن يتملقه مغاليا في مدحه:
"أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك"..
--------------------------------------------------------------------------------(30/196)
[1] وقعة الصريف كانت بين قرية الطرفية وماء الصريف بين الشيخ مبارك شيخ الكويت وابن الرشيد عام 1318هـ، وبالرغم من أن الأمير عبد العزيز كان مستقلا عن هذه الوقعة إذا اتجه بحملته إلى الرياض إلا أن هزيمة الشيخ مبارك في هذه الوقعة كان لها تأثير عليه ففضل الانسحاب هذه المرة.
[2] الإمام العادل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ج اص 19.
[3] القصة الكاملة لفتح الرياض رواها بتواضع جم الملك عبد العزيز رحمه الله، نقلها عنه فؤاد حمزة في كتابه "البلاد العربية السعودية"ونقل جزءاً منها الكاتب خير الدين الزركلي في كتابه "شبه الجزيرة في عهد الملك عد العزيز"وكذلك نقلها الكاتب أمين الريحاني في كتابه "تاريخ نجد وملحقاتها"بتصرف، وتناولها جميع الكتاب الذين كتبوا عن الملك عبد العزيز رحمه الله من عرب وأجانب بالشرح والتحليل.
[4] المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود 90.
[5] شبه الجزيرة ج اص 87.
[6] شبه الجزيرة ج اص 87.
[7] نجد وملحاقتها ص129.
[8] فتح الرياض كما يرويها الملك عبد العزيز آل سعود من كتاب "المتوكل على الورود عبد العزيز آل سعود "ص 322..
[9] نجد وملحقاتها لأمين الريحاني ص 127.
[10] نجد وملحقاتها ص158.
[11] تاريخ الحجازص17.
[12] صقر الجزيرة ج 1 ص 207.
[13] صقر الجزيرة ص 210.
[14] المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود ص 189.
[15] تاريخ الحجاز ص 64.
[16] نفس المصدر ص 64.
[17] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ج 1 ص 323.
[18] نفس المصدر ج اص 323.
[19] المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود.
[20] الإمام العادل عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود ج اص 79 – 80.
[21] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ج اص333.
[22] صقر الجريرة ج 2 ص هـ 31.(30/197)
[23] جريدة أم القرى العدد 2 السنة الأولى، وتاريخ الحجاز ص 151.
[24] شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ج اص340.
[25] الإمام العادل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ج 1 ص 3.
[26] تاريخ الحجاز ص 199.
[27] شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز ج 2 ص 584.
[28] قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 394.(30/198)
من مراحل الدعوة الإسلامية في مكة
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
الدكتور جميل عبد الله المصري
تحتاج الأمة أية أمة وهي تتلمس طريقها نحو النهضة إلى ما يسمى بالحس التاريخي تعي فيه ذاتها وتحقق أصالتها، وأي أمة خلت من هذا الحس التاريخي هي أمة تابعة مقلدة لاهثة، لا تعي ذاتها وبالتالي لا تملك ذاتها، ومصيرها يكون إلى زوال.
والأمة العربية والإسلامية لم تتميّز ولم تعرف إلا بالإسلام وبدعوته، والكشف عن جذور هذه الدعوة وأصالَتها يجعلها أمة متميّزة شاهدة على الناس، فلا تبعية ولا تقليد ولا ذوبان في حضارة شرقية أو غربية، ويوم تعي هذه الأمة ذاتها تشمخ عملاقة تسير في دروب الخير والعطاء للإنسانية جمعاء، تمديدها لإنقاذ الإنسانية من مهاوي الردى، تنير لها سبيل الخلاص، وتخرجها من الظلمات إلى النور فيصدق فيها قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (سورة آل عمران: 110) .
وتاريخ الإسلام هو تاريخ للدعوة الإسلامية، يتلازمان صعوداً وهبوطاً, وطبيعة تاريخ الدعوة تنبع من طبَيعة الدعوة الإسلامية ذاتهَا التي من أخص خصائصها الشمول والاتساع والعالمية - فهي لا تعترف بحدود جغرافية أو جنسية أو لغوية أو سياسية حتى في الوقت الذي تمزّق فيه المسلمون إلى دول ودويلات وإمارات- لم يتأثر المسلمون بهذا التقسيم بل كانوا ينظرون إلى ذاتهم كأمة دون الناس يطلقون على عالمهم دار الإسلام، يستطيع كل مسلم أن يدخل أي قطر يقيم فيه ويتخذه وطنا هويته الإسلام وجنسيته دار الإسلام.(30/199)
هكذا كان المسلمون يدركون ذاتهم ويتميّزون عن غيرهم إلى أن عصفت بالمسلمين موجات الاستعمار الغربي التي حملت معها أفكار القومية والتغريب والعلمانية، فبهت حسّهم التاريخي وتعثروا في تلمس انتمائهم بين يمين ويسار، ورجعية وتقدمية، وشعارات بعيدة عن ذاتهم وعن أصولهم.
ودراسة الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى طريق إلى إيجاد الحس التاريخي في هذه الأمة، وإنعاشه وبلورته إلى عمل فعّال في استثارة كوامن الطاقات الإسلامية وتجميعها وتوجيهها نحو الخير والعطاء. وسأتحدث عن ثلاث مراحل من مراحل الدَعوة الإسلامية في مكة المكرمة.
المرحلة الأولى: الدعوة سّرًا:(30/200)
بعدما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وكلفه حمل الرسالة وأمره بتبليغها بقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} . أخذ يدعو لدين الله فبدأت المرحلة السرية التي استمرت ثلاثة أعوام، فكان فيها صلى الله عليه وسلم يدعو من آنس فيه الاستعداد لقبول هذه الدعوة بغضّ النظر عن سنه ومكانته وبغضّ النظر عن جنسه وأصله، فكان يدعو جميع من يتوسّم فيهم القبول والتعقل، فأسلم خلالها جماعة من ذوى العقل والرأي والنضجِ مثل خديجة بنت خويلد زوجه، وزيد بن حارثة مولاه، وعلي بن أبى طالب وكان صبيا، وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعيد بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص والأرقم بن أبي الأرقم وجميع هؤلاء من الأسر المتنفّذة القوية، كما كان من السابقين إلى الإسلام أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، أحرار وموالي، عرب وعجم، تجار وعمال، وبعض الكتابيين أمثال صهيب الرومي، والأرقاء أمثال بلال الحبشي وياسر وزوجته سمية وابنهما عمار. فالإسلام من بدايته لم يكن لفئة دون فئة من الناس ولا لجنس دون جنس أو طبقة دون طبقة، بل جاء للناس كافة، وخلاصاً للإنسانية جمعاء, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . (سورة الأنبياء: 107) .(30/201)
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم هؤلاء المؤمنين ما ينزل عليه من القرآن الكريم بعيداً عن أعين المشركين، واتخذ دار الأرقم بن الأرقم مركزاً لبث الدعوة فكانت أول مدرسة في الإسلام، كان يلتقي بالمؤمنين سراً في هذه المدرسة أوفي شعاب مكة أثناء الليل أو في الهاجرة، فيحفظهم القرآن الكريم ويثير فيهم الفكر بالتأمل في آيات الله والتدبر في مخلوقاته، ويعوّدهم الصبر على الأذى وبروّضهم على الطاعة والانقياد لأوامر الله حتى خلصوا لله العلي القدير، وكان أثناء ذلك يتصل بالعرب سراً يبلغهم الرسالة [1] فاستجاب نفر غير قليل من قريش الظواهر التي كانت تتألف من بطون قريش المستضعفة وحلفائها [2] وكان صلى الله عليه وسلم يرسل لمن يدخل في الإسلام من يعلمه القرآن ممّن أسلموا من قبل وفقهوا في الدين، فقد أرسل مثلاً خباب بن الأرت يعلم زينب بنت الخطاب [3] .
المرحلة الثانية: الدعوة جهرا:
نضج الصحابة السابقون في الإسلام وأصبحت عقليتهم عقلية إسلامية ونفسيتهم نفسية إسلامية، وأصبح إدراكهم لصَلتهم بالله بارزة آثاره على أعمالهم، فنزلت الآية الكريمة: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} . (سورة الشعراء: 14) . فجمع صلى الله عليه وسلم قومه من بني عبد المطلب وكانوا يومئذ أربعين رجلا، واتبع معهم ضروب الملاينة، وتحدث معهم في لطف وشرح لهم الدعوة في بساطة وعطف فقال لهم:
"إني ما أعلم شاباً جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، فلقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة" [4] .(30/202)
ثم نزل قوله سبحانه وتعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . (سورة الحجر: 94) فأظهر صلى الله عليه وسلم الدعوة وخرج في أصحابه إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل، فطاف بهم حول الكعبة، ونادى قريشاً وأبلغهم الدعوة فهتف به عمه أبو لهب: "تبّاً لك ألهذا دعوتنا؟ ", فنزل قوله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} . (سورة المسد: ا- 3) . فانتقلت الدعوة من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان، ومن دور الاتصال بمن يأنس فيهم الاستعداد إلى دور مخاطبة الناس جميعاً، فلقي المسلمون من عداوة مشركي قريش وعنتهِم الشيء الكثير، ولكن الدعوة سارت في سبيلها، ولم يرفع المسلمون سيفاً أو يشرعوا رمحاً، إنما كانوا يدعون إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة، يتفاعلون مع المجتمع، وتتنزل الآيات تصارع عقائد المشركين وعاداتهم وتقاليدهم دون مهادنة لزعمائهم.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصارع بدعوة الإسلام عقائد الجاهلية جاهداً لإحلال العقيدة الإسلامية محل العقائد الزائفة ببيان زيف تلك المعتقدات وسخافة عقول معتنقيها، يتلو عَليهم ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأمم السابقة التي تشبههم في عبادة الأوثان ليوقظ تلك العقول الجامدة لعل أصحابها يتعمقون في التفكير، وينذرهم بالعذاب الشديد لعكوفهم على عبادة الأوثان، فكان يتلو عليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . (سورة الأنبياء: 98) .(30/203)
وتعدّى الأمر ذلك إلى مهاجمة نظمهم القبلية وعاداتهم وتقاليدهم البالية التي يستمدون منها نظام حياتهم كالربا وجواز اسئتجار الجواري للزنا والميسر واستشارة الكهنة والعراشين، ووأد البنات وقتل الأولاد والنسيء، وتتنزّل الآيات تحمل الردود العنيفة القاسية على زعماء قريش وسادتهم وكبرائهم وأغنيائهم وطغاتهم كقوله تعالى: {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} . (سورة العلق: 15-17) [5] , وقوله سبحانه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ هماز مشاء بنميم هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} . (سورة القلم:. ا-16) . وقوله سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} . (سورة الهمزة: 1-4) .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم هذه الآيات ومثلها غير مبالٍ بقوتهم وضعفه وكثرتهم وقلته، جرأة في الحق وعدم خشية أحد فيه، فكان المثل الأعلى لأصحابه الدعاة، فلم يهادنوا عظِيماً ولم يراعوا في الحقّ جباراً، ولم يغضوا البصر عن جانب من جوانب الفساد، ولم يتركوا باباً لتبليغ دعوتهم إلا طرقوه، ولم يجدوا مسلكاً إلا سلكوه.
مواقف قريش المضاد للدعوة الإِسلامية في مكة:
واجهت الدعوة الإسلامية من اللحظة الأولى لظهورها الوثنية وتزعمتها قريش، وبشكل خاص بعد أن اعتَنق الدعوة كثير من أهل الفضل منهم ووقفوا في سبيلها بمختلف الوسائل. ومن هذه الوسائل:(30/204)
1- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بمختلف التهم ليبعدوا الناس عنه، فكانوا يقولون: "هذا أساطير الأولين", قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . (سورة الفرقان: 5) .
ونعتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكاهن حيناً والكاذب المفتري حيناً والمتعلم المقتبس من غيره حيناً, وظلوا يكرّرون ذلك حتى آخر العهد المكي, قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} . (سوره ص: 4) . وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراًً} . (سورة الفرقان: 5) .
ووصفوا القرآن بالسحر قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} . (سورة سبأ: 43) .
2- اتبعوا أسلوب الحِجاج فكانوا يحاجّون الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أسلوب أهل الكتاب ومن ذلك قصة النضر بن الحارث الذي حاول أن يخصم الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء بعظم بالٍ يتفتت بين يديه ويقول: "أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ "فأجابه محمد صلى الله عليه وسلم: "نعم ويدخلك جهنم". ونزل قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . (سورة يس: 78-79) .(30/205)
ومن قوله سبحانه وتعالى يبيّن أسلوبهم في الحجاج: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ} (سورة الأنعام: 148) . وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . (سورة الجاثية: 24- 25) .
3- مطالبة الرسول بالمعجزات وتحدّيه: فقد طالبوه بالمعجزات والآيات برهاناً على صدق دعواه كما فعل الأنبياء السابقون، قال تعالى على لسانهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} . (سورة الأنبياء: 5) . وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً} . (سورة الإسراء: 90-93) .(30/206)
4- محاولة استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم وإقناعه بالعدول عن الدعوة: فقد عرض عليه زعماء قريش الملك والمال والنساء، أرسلوا إليه عتبة بن ربيعة سيد قومه، فذهب إليه وهو يصلي في المسجد فقال له: "يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطبيب, وبذلنا فيه أحوالنا حتى نبرئك منه ", فقال صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: "نعم"قال: فاسمع مني: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . (سورة فصلت:1 - 38) حتى انتهى إلى آية السجدة فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد", فقام عتبة إلى أن جلس لقومه وقال: "إني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ... يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به". فقالوا: "قد سحرك يا أبا الوليد بلسانه", قال: "هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم". فقال النضر بن الحارث: "بماذا جاءنا محمد؟ " واللات ما محمد بأحسن حديثا مني" [6] .(30/207)
هكذا كان زعماء قريش يحاولون إقناع محمد صلى الله عليه وسلم بالعدول عن الدعوة أو التنازل عن شيء منها مقابل تنازلهم عن أشياء، فكان قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} . (سورة القلم: 9) . فثبت الرسول أصحابه في الموقف الذي لا يحتمل مساومة ولا تعدداً.
5- أسلوب التعذيب:
لما رأى زعماء قريش إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام توجهوا إلى مقاومة الإسلام عن طريق تعذيب العبيد والضعفاء من المسلمين ليعودوا إلى الشرك وليحولوا دون إسلام المزيد، فكان من صور هذا التعذيب أن يعرّى صدر المسلم ويطرح فوق الرمال والصخور المحرقة المتوهجة من شدة حرارة الشمس ويوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة ويمنع عنهم الماء والطعام وتقيّد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون بالسياط جلدا شديدا، فزهقت أرواح بعضهم ومن بين الذين تعرضوا لمثل هذا العذاب ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار، وبلال بن رباح, وخباب بن الأرت، فكان المشركون يخرجون ياسراً وزوٍجة وابنه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء ويعذبونهم بحرّها فيمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" [7] . وقد مات ياسر وهو يعذّب وأما زوجه فقد طعنها أبو جهل بحربة فقتلها [8] . وكان بلال يخرجه مولاه ويأمره أن يستلقي على الرمّل المتّقد تحت الشمس المحرقة في الصحراء ثم يضع قطعا ثقيلة من الحجارة على صدره، ويبقى على هذه الحال إلى أن يُغشى عليه وهو يقول: "أحد.. أحد"لا يزيد على كلمة التوحيد، وقد ضرب المسلمون مثلاً خالدا للتمسّك بالعقيدة وتحمّل أنواع الأذى والتضحية بالنفس، وكان بعضُ المسلمين الأغنياء وخاصة أبو بكر يشترون الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من الاضطهاد.(30/208)
ثم خطا المشركون خطوة أخرى في التعذيب فأخذوا يعتدون على المسلمين جميعاً ودون تمييز حتى شمل الاعتداء ذوي الثراء والوجاهة والقوة كأبي بكر وعثمان والزبير وطلحة وأبي عبيدة وعثمان بن مظعون، فقد شدّ نوفل بن خويلد وكان يسمى (أسد قريش) أبا بكر وطلحة القرشيين بحبل واحد، فسميا القرينين [9] , وعذب أبو أحيحة ابنه خالد بن سعيد ابن العاص، فكان يضربه بقراعة في يده حتى يكسرها على رأسه ثم يأمر بحبسه ويضيّق عليه ويجيعه ويعطشه حتى لقد مكث في حر ّمكة ثلاثاً ما ذاق ماء [10] .
ونتيجة لتعرض المسلمين جميعاً للعذاب أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثته، واختياره للحبشة يعود لشخصية النجاشي أصحمة بالذات لعدله، خلافاً لما يراه المستشرقون بأن الإذن بالهجرة كان لكون الحبشة على صلة ببيزنطة, بانين ذلك على ما ورد في سورة الروم من تنبؤ بنصر الروم على الفرس، وخلافاً لما ذهب إليه الأستاذ الكبير الصعيدي من أن الإسلام كان ناشئا ولم تفسد السياسة بعد بينه وبين النصرانية فآثر المسلمون مصافاتها على مصافاة أعدائهم من مشركي قريش [11] . والأمر واضح في قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
"لو خرجتم إلى أرضِ الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه" [12] . وقوله كما في اليعقوبي: "ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار" [13] .
فتسلل بعض المسلمين مهاجرين، ومع الذين هاجروا جعفر بن أبي طالب، وقد يكون ندبه الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون وكيله في المهاجرين ورسوله إلى ملك النجاشي، وبنو هاشم كانوا ينصرون النبي صلى الله عليه وسلم مع احتفاظ أكثرهم بدينه وكان رئيسهم في ذلك أبو طالب الذي تولى قيادة النصرة والتعصب للنبي صلى الله عليه وسلم وجعفر هو ابنه.(30/209)
6- تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكف عن دعواه والعدوان عليه:
حين باءت أساليب مقاومة كفار قريش بالفشل لجأوا إلى عمه أبي طالب وقال زعماؤهم: "يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا، فإما أن تكفّه عنا وإما أن تخلّي بيننا وبينه". فردّهم أبو طالب ردّاً جميلاً دون أن يتوقف صلى الله عليه وسلم عن نشاطه أو يتهاون في الدعوة، فعاودوا الكرة وخاطبوا أبا طالب بلهجة المتوعد المهدد وأنهم لن يصبروا على هذا الحال، وخيرّوه بين أن يمنعه عمّا يقول أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الطرفين، فعظم الأمر على أبي طالب فكلّم محمداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به إليه قومه وقال له:
"يا ابن أخي، إن قومك جاءوني وقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق". فكان ردّ المبلّغ الداعية إلى الحقّ الذي يحمل نفساً أبيّة لا تعرف الذل ولا تنحني للوهن، ينظر إلى خصمه من علٍ لأنه يستمد القوة من عزيز حكيم، ينظر إلى زخارف الدنيا وكأنها أوراق الخريف تتطاير في الهواء، ويحتقر أبهة المشرك وعظمته، يستعلي على الدنيا بإيمانه، فهو على الحق وان لقي العنت الشديد, قال صلى الله عليه وسلم: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه" [14] . فطمأنه أبو طالب ووعده الاستمرار في حمايته. فعاد زعماء قريش إلى أبي طالب يعرضون عليه عمارة بن الوليد أوسم شباب قريش ليسلموه إليه على أن يسلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم فردهم ساخراً بقوله: "بئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه!! " [15] . فاتجه بعضهم إلى إنزال الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، قال الهيثمي: "ورجاله(30/210)
ثقات", عن منيت الأزدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فمنهم من تفل في وجهه, ومنهم من حثا عليه التراب, ومنهم من سبّه حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعسّ من ماء، فغسل وجهه ويديه وقال: "يا بنيّة لا تخشَيْ على أبيك غيلة ولا ذلة" [16] . ومن الذين اشتدوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل عمر وبن هشام، وأبو لهب عمه، وأم جميل زوجة أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، ولكنّ إسلام حمزة ثم عمر بن الخطاب كفّ القرشيين عن بعض ما كانوا ينالون به الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى خوفاً منهما. وفي أثناء ذلك استمر القرآن الكريم يردّد مشاهد الشدة والعنف مع المشركين يندّد بهم وينذرهم بسوء المصير، ويصبّر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعدهم بالنصر والتأييد وحسن العاقبة.
أسلوب المقاطعة:
إزداد حنق المشركين من قريش إزاء صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى والتعذيب وإصرارهم في المضي بالدعوة وإزاء فشوا لإسلام في القبائل، فاجتمعوا وائتمروا وقرروا مقاطعة المسلمين وبني هاشم دون أبي لهب، فلا يتزوجون منهم ولا يزوّجونهم، ولا يبيعون لهم شيئاً ولا يشترون منهم، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، وعلقوا صحيفة المقاطعة بالكعبة [17] . فاضطر بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى النزوح إلى شعب أبي طالب شرقي مكة، وقطعت عنهم قريش كل أنواع المؤن، ولم يكن يتاح لهم الاختلاط بغيرهم من الناس إلا في الأشهر الحرم حين يفد العرب إلى مكة لزيارة البيت الحرام, وبلغ بهم الجهد حدّاً لا يطاق، فذاقوا الجوع والحرمان حوالي ثلاث سنوات لا يصل إليهم القوت إلا خفية.(30/211)
وأخيراً أخذت الحمية والرأفة نفراً من القرشيين منهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري, وزهير بن أمية بن المغيرة المخزومي, والمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف, وأبو البختري ابن هشام, والأسود بن عبد المطلب بن أسد, وتعاهدوا على نقض الصحيفة رغم اعتراض أبي جهل, وخرجوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب وطلبوا منهم العودة إلى منازلهم وشقوا الصحيفة فوجدوا الأرض قد أكلتها إلا ما كان من: "بسمك اللهم, وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش [18] .
وأخيراً أخذت الحمية والرأفة نفراً من القرشيين منهم: هشام بن عمر وبن الحارث العامري، وزهير بن أبى أمية بن المغيرة المخزومي، والمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأبو البختري ابن هشام، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وتعاهدوا على نقض الصحيفة رغم اعتراض أبي جهل، وخرجوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب وطلبوا منهم العودة إلى منازلهم وشقوا الصحيفة فوجدوا الأرضة قد أكلتها إلّا ما كان من: بسمك اللهم، وهى فاتحة ما كانت تكتب قريش [19] .
المرحلة الثالثة: عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل:
فقد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد المقاطعة بقليل عمه أبا طالب وزوجه خديجة فخسر نصيرين كبيرين، وتألم لفقدهما، فسمي ذلك العام بعام الحزن [20] . وأدرك صلى الله عليه وسلم أن مجتمع الشرك في مكة وصل مرحلة التحجر فلا تجدي الدعوة فيه، فأخذ يتلمسّ النصرة من قبائل العرب، فكان يقف على منازل القبائل مِن العرب فيقول: "يا بني فلان: إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبينّ عن الله ما بعثني به" [21] .(30/212)
عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على بني عامر بن صعصعة وغسان وفزارة وبني مرة وبني حنيفة وبني سليم وبني عبس وبني نصر وكندة وكلب وبني الحارث بن كعب وبني عذرة، دون مساومة.
فقد دعا بني شيبان بن ثعلبة فقال لهم: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله ما أمرني به", فقال له المثنى بن حارثة: "ولعل هذا الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك مما يلي بلاد العرب فعلينا ", فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحزم لا يقبل المساومة: "ما أسأتم الردّ إذا أفصحتم بالصدق, إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه " [22] .
وقال له أحد بني عامر بن صعصعة: "أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء" [23] .
وذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يتلمسّ نصرة ثقيف فاتصل بسادتها وأشرافها ودعاهم إلى عبادة الله وإلى نصرته فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم أن يتأثروا بدعوته، فأمروه بالخروج من بلدهم، وأغروا به سفهاءهم يسبون ويصيحون به، وقد اصطفوا على جانبي الطريق على مسافات طويلة في داخل المدينة، فلما مر ّمن بينهم جعلوا يرشقونه بالحجارة حتى أدموا قدميه، حتى إذا وصل شجرة فاستظل بظلها اتجه إلى ربه سبحانه يستمدّ منه القوة والعون ودعا قائلا: "اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي" [24] .(30/213)
ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة فوجد قومه يقفون له بالمرصاد، ليمنعوه من دخول مكة، فاستجار بالمطعم بن عدي فأجاره، وتسلح هو وبنوه لحمايته حتى دخل مكة وطاف بالبيت ثم انصرف إلى منزله في حراسة المطعم وأولاده ليعود إلى الكفاح من جديد وليستأنف تبليغ الدعوة في ذلك الجو العاصف المليء بالأخطار والمخاوف, فامتدت له يد الرحمن بالرحمة والخير والحنان واحتضنت العناية الإلهية محمداً صلى الله عليه وسلم لترتفع به إلى أسمى مكان، فأسري به من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، ثم عرج به من الصخرة المشرفة إلى سدرة المنتهى بجسده وروحه حيث فرضت الصلوات الخمس، واطِّلع على جوانب الإعجاز الإلهي في الكون الكبير, قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . (الإسراء: 1) .
وبحادثة الإسراء والمعراج تأكد الرباط المتين الذي يشدّ البلدين مكة والقدس إلى بعضهما، حيث انطلق الأنبياء على مدار القرون يدعون إلى عبادة الله الواحد ورفض الأصنام والطواغيت، ففي مكة حيث أقام إبراهيم أبو الأنبياء وابنه إسماعيل- عليهما السلام - أول بيت وضع للناس لعبادة الله على الأرض، وفي القدس حيث انبعثت نبوات متتالية تكافح من أجل تعزيز دعوة إبراهيم، حيث اجتمع هؤلاء الأنبياء الكرام في صلاة جماعية أمهّم فيها خاتمهم تعبيراً عن الدور الذي جاءوا إلى العالم لأدائه، واتجاهاً إلى الهدف الواحد الذي بعثوا لتحريك الناس إليه، وسجوداً لله الواحد الذي كرم الإنسان وشرّفه بالدين.(30/214)
لقد سرّت الحادثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيقن بنصر الله، وزادت من إيمان المؤمنين المخلصين من أصحابه، فاستمر ّيقدم نفسه إلى قبائل العرب في موسم الحج، ويدعوهم إلى الله والإسلام ويقول: "من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" [25] .
وكانت قد لاحت بشائر النصر حين التقى صلى الله عليه وسلم بستة من الخزرج من عرب يثرب التي أنهكتها المنازعات القبلية ودسائس اليهود، فحدّثهم صلى الله عليه وسلم عن دعوته وبيّن لهم أسس الدين فاستجابوا له وقبلوا ما عرض عليهم من الإسلام ووعدوه أن يحدّثوا قومهم، وقالوا: "إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك" [26] .
وفي موسم الحج في السنة الحادية عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم قدم اثنا عشر رجلا, تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قابلهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى وبايعوه على الإسلام بيعة العقبة الأولى، وسميت بيعة النساء لأنها لم تكن بيعة على القتال وإنما أخذاً للعَهد والميثاق على الشروط التي ورد ذكرها في سورة الممتحنة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (سورة الممتحنة: 12) .(30/215)
وأرسل فيها معهم مصعب بن عمير معلماً ومرشداً، يقرؤهم القرآن، ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فانتشر الإسلام في يثرب وغزا كل بيت [27] . إما إيجاباً أو قبولاً, أو رفَضاً ومناهضة, فتفاعلت الدعوة مع مجتمع يثرب تفاعلا قوياً وتهيأت يثرب لتكون نقطة ارتكاز للدعوة تمهيداً لانطلاقها إلى شبه الجزيرة ثم العالم.
وفي موسم الحج التالي وفد مصعب إلى مكة ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من المسلمين، وأعلمه أن يثرب أصبحت جاهزة لتتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ الغرس نما واشتد وبدأ يعطي ثماره، واجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب اجتماع العقبة الثانية ليلاً وسرّاً بعيدا عن عيون قريش وعرض عليهم شروطه التي رآها ضرورية للدعوة والضمانات الضرورية ليترك مكة وينتقل إلى يثرب، فكانوا على استعداد أن يمنعوا ما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم، وأن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد, وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة [28] . فقال له أحدهم: "يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا (يقصد عهودهم مع اليهود) وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ ", فتبسّم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم" [29] . وطلب منهم أن يخرجوا من بينهم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية التي مهّدت لهجرة المسلمين إلى يثرب.(30/216)
كانت زعامات قريش المشركة تدرك أبعاد اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبائل وبخطر ذلك على كيانها وعقيدتها وزعامتها الدينية والسياسية فكانت تعمل للحيلولة دون هذه الاتصالات، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك قوة قريش وتزعّمها للعرب وقوة تأثيرها، ولذلك أحاط اتصالاته هذه بمنتهى السرّية، ورغم ذلك فقد تسللت الأخبار إلى قريش فجاء وفد منهم إلى اليثربيين وتهدّدوهم، فحلف لهم عبد الله بن أبيّ أنه لا علم له بذلك، وكان لا يعلم بالفعل، وتعقب بعض قريش مسلمي يثرب وقبضوا على بعضهم وضربوهم وعذبوهم [30] .
بدأت بيعة العقبة الثانية مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأتباعه بالهجرة قائلا: "إن الله عز وجلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها" [31] . فأخذ المسلمون يتجهزون بسرعة وفي ستر وخفية، فخرجوا جماعة بعد جماعة وفرادى، وأخذت مكة تقفر من المسلمين يوماً بعد يوم، وزعماء قريش يلحظون ذلك والغيظ يملأ قلوبهم وقد خرج الأمر من أيديهم، حتى لم يبق في مكة من المسلمين غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فلجأوا إلى آخر سهم ليسددوه إلى الدعوة الإسلامية في قلبها وصميمها، للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، في الوقت الذي كان يعدَّ للهجرة واللحاق بالمسلمين.
اجتمع مشركوا قريش في دار الندوة فتشاوروا في أمر الدعوة الإسلامية ففكروا في ثلاث وسائل وهي: حبسه صلى الله عليه وسلم أو اغتياله أو نفيه. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} . (سورة الأنفال: 30) . واتفق رأيهم أخيراً على قتله شريطة اشتراك شبان من مختلف بيوتات قريش حتى يتوزع دمه فلا يستطيعِ آله المطالبة بدمه.(30/217)
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج من داره ليلاً بعد أن ترك عليا ليقوم بتأدية الأمانات، وشق طريقه مع صاحبه أبي بكر- رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة لتتشرف باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدأ الدعوة مرحلة جديدة مليئة بالكفاح والنضال والجهاد.
وقد يتساءل المرء عن استجابة يثرب لدعوة الإسلام وللإجابة على ذلك:
كان نشاط الأوس والخزرج الاقتصادي والسياسي قد اتسع، فلجأ اليهود إلى الدسّ والوقيعة بينهما وأخذوا يحالفون القبيلة المهزومة على المنتصرة حتى تضعف شوكتها فيحتفظون بالسيادة واحتكار الموارد الاقتصادية، وكانت يوم (بعاث) آخر حرب عنيفة بين الأوس والخزرج فشعر الفريقان بالخطر فاتفقا على أن يضعا حدّاً لهذه المآسي، وشعر اليهود مقدار الخطر الذي يهدد مصالحهم من جرّاء هذا التقارب فاتبعوا أسلوب الدسّ الذي برعوا فيه وتمكنوا أن يرشحّوا عميلهم عبد الله بن أبي، ليكون ملكاً على الأوس والخزرج.
ولا ريب أن بعض المستنيرين من الأوس والخزرج أدركوا ما ينطوي عليه تتويج عبد الله من محافظة على مصالح اليهود حلفائه فأسرعوا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لإنقاذهم فبايعوه.
كما كان أهل يثرب قد ألفوا فكرة المسيح [32] المخلص الذي ينتظر اليهود عودته فكان اليهود يستفتحون به على الأوس والخزرج بقولهم: إن نبيّاً الآن مبعوث قد أطلّ زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فسارع الأوس والخزرج لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال النفر الذين بايعوا بعضهم لبعض: "تعلمنّ والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه" [33] .(30/218)
وقد أرجع جورجي زيدان أسباب انتشار الإسلام في يثرب إلى كثرة من في المدينة من اليهود وهم أهل كتاب يعتقدون الوحي ويدركون معنى النبوة، وليس فيهم من يخاف على تجارته إذا بطلت عبادة الأصنام، بل هم يفضلون إبطالها لتسقط مكة وتنهض مدينتهم وخصوصاً إذا هاجر إليها صاحب الدعوة نفسه وصارت مركزاً للدين الجديد [34] . وكأن جورجي يحاول أن يثبت أن الذين استجابوا لدعوة الإسلام كانوا من اليهود، وواضح أن ذلك بعيد عن الحقيقة ومجافٍ لها فاليهود أول من وقف في وجه الدعوة الإسلامية، كما أن نص الطبري السابق يوضح أن استجابة الأوس والخزرج كانت بناءاً على قنَاعتهم بصحة ما حدثهم به اليهود.
كما حاول جورجي أن يرجع الاستجابة إلى أثر العصبية الجاهلية فيقول: "ناهيك بما كان بين تينك المدينتن من المنافسة والمسابقة والتحاسد لتباعدهما في الانساب، لأن أهل مكة من العدنانيين وأهل المدينة من القحطانين ... [35]
ولسنا نريد تفنيد هذه المزاعم فهي واهية ويكفي أن نذكر من مظاهر العلاقة الحسنة بين المدينتين المصاهرات التي تمت بين قريش وأهل المدينة، ثم محاولات الأوس قبل بعاث أن تستنجد بقريش ضد الخزرج فرفضت قريش حتى لا ترضى فريقاً دون آخر.
والحق أن استجابة الأوس والخزرج للإسلام كانت لحسن إدراك الزعماء فيهما لدعوة الإسلام نكاية باليهود، ومحاولة للتخلص من استغلالهم الاقتصادي وللتخلص من فتنهم ودسائسهم ومن حليفهم الذي رشحته لحكم المدينة، ثم لا ننس أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في عرض دعوته عليهم واجتذابهم. وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه
كان صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر بذبح شاة، فقال رجل: "يا رسول الله عليّ ذبحها"، وقال آخر: "عليّ سلخها"، وقال ثالث: "عليّ طبخها"، فقال صلى الله عليه وسلم: "وعليّ جمع الحطب".(30/219)
قالوا: "يا رسول الله نحن نكفيك ذلك", فقال: "قد علمت، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه"، وقام صلى الله عليه وسلم فجمع الحطب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي (ج اص 70) .
[2] ابن هشام. السيرة (ج 1ص 218) .
[3] تهذيب سيرة ابن هشام: (ج اص 78) .
[4] البداية والنهايةج3 ص 24.
[5] ناديه: تعني مجلس قومه، ولعلها دار الندوة.
[6] ابن هشام: السيرة: (ج 1 ص 248) .
[7] ابن الأثير: (ج3 ص 30) .
[8] انظر ابن هشام: السيرة: (ج 1 ص172 - 202) .
[9] البداية والنهاية: (ج 3 ص 29) .
[10] انظر تاريخ الطبري: (ج 2 ص 323-326) .
[11] السياسة الإسلامية في عهد النبوة: (ص 51) .
[12] ابن هشام: السيرة: (ج اص 343) , الكامل: (ج2 ص 327) .
[13] اليعقوبي: تاريخ: (ج 2 ص 29) .
[14] ابن هشام السيرة: (ج اص 278) .
[15] ابن هشام: (ج اص277 - 279) الطبري: (ج 2 ص327) ، طبقات ابن سعد: (ج4 ق1 ص 68) .
[16] الكاندهلوي: حياة الصحابة: (ج اص 289) .
[17] الطبري: (ج 2 ص 74) , ابن هشام: (ج اص 231) .
[18] الطبري: ج2 ص80, وابن هشام: ج1 ص231) .
[19] الطبري. (ج 2 ص 80) ابن هشام (ج اص ا 23) .
[20] ابن هشام: (ج 1 ص416) .
[21] حياة الصحابة: (ج 1 ص71) , اليعقوبي: (ج 2 ص 36) .
[22] حياة الصحابة: (ج اص 74-75) .
[23] الطبري: (ج 2 ص 84) .
[24] البداية والنهاية: (ج 3 ص 136) .
[25] المقريزي: إمتاع الأسماع (ج اص 30) .
[26] ابن هشام: السيرة: (ج1ص429) .
[27] الطبري: (ج 3 ص60) .
[28] اليعقوبي: تاريخ: (ج 2 ص 38) .
[29] ابن هشام: (ج 2 ص 412) .(30/220)
[30] ابن هشام: (ج اص 468) .
[31] ابن هشام: (ج2 ص 76) .
[32] أرنولد: الدعوة إلى الإسلام (ص 42) .
[33] الطبري. (ج 2 ص 354) .
[34] التمدد الإسلامي: (ج 1 ص 48) .
[35] نفسه: (ج1ص48) .(30/221)
العهدة العمرية
الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
مناقشة نص كتاب الصلح الذي قيل إن عمر بن الخطاب قد منحه لأهل القدس كان من عادة المسلمين أن يمنحوا أهل الذمة، في المدن التي يفتحونها صلحاً، عهداً يتعهدون بموجبها، حمايتهم ومنحهم حرية العبادة وممارسة حياتهم المعتادة، مقابل دفعهم الجزية والدخول في طاعة المسلمين.
وقد تفاوتت هذه العهود في الشروط التي اشترطتها عليهم، والحقوق والامتيازات التي ضمنتها لهم, حتى أن نصوص العهد الواحد قد رويت بصيغ مختلفة. وقد كان التحريف أو التزوير يحدث من قبل أهل الذمة أنفسهم، طمعاً في اكتساب حقوق جديدة إضافة إلى الحقوق التي منحهم إياها المسلمون، أو تخفيفاً لبعض الشروط التي اشترطها المسلمون عليهم. وهم في هذا متأكدون بأن ذلك سينطلي على المسلمين، في الأغلب، ذلك أن المسلمين في ذلك العهد المبكر، لم يكونوا يحتفظون بنسخ من هذه العهود، حتى أن بعض أهل الذمة قد وضعوا عهوداً ليس لها أصول على الإطلاق، وفي بعض الأحيان كان النصارى خاصة يحرفون في عهودهم عندما يلمسون ضعفاً من المسلمين في بلادهم.
ومن العهود المشهورة التي شغلت المؤرخين والباحثين زمناً طويلاً (العهدة العمرية) وهو الاسم الذي أطلق على العهد الذي قيل إن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قد منحه لأهل القدس حينما جاء لتسلمها من بطريرها صفرونيوس في العام الخامس عشر للهجرة!!؟.
ومن الغريب أن المصادر الإسلامية الأولى لم تشر إلى ذلك العهد، فأول مصدر إسلامي أشار إليه هو اليعقوبي، ثم أورده من بعده ابن البطريق وابن الجوزي، والطبري، ومجير الدين العليمي، وأورد فيما يلي مجموعة الروايات المختلفة التي وردت في هذه المصادر التاريخية لهذا العهد.
1- نص اليعقوبي:(30/222)
أورد اليعقوبي المتوفى عام 284 هـ نصاً مختصراً لهذا العهد جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدسِ: إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تسكن ولا تخرّب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً, وأشهد شهودا" [1] .
2- نص ابن البطريق:
وقد أورد أفثيشيوس (ابن البطريق) المتوفى سنة 328 هـ، صيغة تشبه صيغة اليعقوبي جاء فيه: "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهل مدينة إيلياء، إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تهدم ولا تسكن, وأشهد شهوداً" [2] .
3- نص ابن عساكر:(30/223)
أورد ابن عساكر المتوفى عام 571 هـ عهد عمر على صيغة شروط وضعها أهل الذمة على أنفسهم في كتاب وجهوه للخليفة عمر بن الخطاب عندما جاء إلى الشام وهذا نصه:- "عن عبد الله ابن غنم أن عمر بن الخطاب كتب له النصارى حين صالحوه عهدا يقولون فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا، على أن نؤدي الجزية عن يد ونحن صاغرون، وعلى ألا نمنع أحداً من المسلمين أن ينزل كنائسنا في ليل أو نهار، ونضيفهم فيها ثلاثاً، ونطعمهم الطعام ونوسع لهم أبوابها، ولا نضرب فيها بالنواقيس إلا ضرباً خفيفا، ولا نرفع فيهاأصواتنا بالقراءة، ولا نؤوي فيها ولا في شيء من منازلنا جاسوساً لعدو لكم, ولا نحدث كنيسة ولا ديراً ولا صومعة ولا قلاية, ولا نجدد ما خرب منها، ولا نقصد الاجتماع فيما كان منها من خطط المسلمين وبين ظهرانيهم، ولا نظهر شركاً ولا ندعوا إليه، ولا نظهر صليباً على كنائسنا، ولا في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم، ولا نتعلم القرآن، ولا نعلمه أولادنا، ولا نمنع أحداً من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إذا أراد ذلك، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ونلزم ديننا، ولا نتشبه بالمسلمين في لباسهم ولا في هيئتهم، ولا في سروجهم، ولا في نقش خواتيمهم فننقشها نقشاً عربيا، ولا نتكنى بكناهم. وعلينا أن نعظمهم ونوقرهم، ونقوم لهم من مجالسنا، ونرشدهم في سبلهم وطرقاتهم، ولا نطلع في منازلهم، ولا نتخذ سلاحا ولا سيفا، ولا نحمله لا حضر ولا سفر في أرض المسلمين، ولا نبيع خمراً ولا نظهرها، ولا نظهر ناراً مع موتانا في طريق المسلمين، ولا نرفع أصواتنا مع جنائزهم، ولا نجاور المسلمين بهم، ولا نضرب أحداً من المسلمين، ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهامهم. شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا. فإن خالفنا(30/224)
فلا ذمة لنا ولا عهد، وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة" [3] .
وذكر مجير الدين المتوفى سنة 927 هـ أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما جيء إليه بهذا الكتاب زاد فيه "ولا نضر بأحد من المسلمين. شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا شيئاً مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا". وأضاف مجير الدين بأن هذا العهد قد رواه البيهقي أيضاً واعتمده أئمة المسلمين والخلفاء الراشدون وعملوا به [4] .
4- نص ابنِ الجوزي:
أورد ابن الجوزي المتوفى في عام 597 هـ ما يلي: "كتب عمر (بن الخطاب) لأهل بيت المقدس إني قد أمنتكم على دمائكم وأموالكم وذراريكم وصلاتكم، وبيعكم، لا تكلفون فوق طاقتكم, ومن أراد منكم أن يلحق بأمته فله الأمان, وأن عليكم الخراج كما على مدائن فلسطين" [5] .
5- نص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ:
أوردَ مجير الدين العليمي المقدسي المتوفى سنة 927 هـ نصاً منقولاً عن نص الطبري، الذي أسنده لسيف عن أبي حازم وأبي عثمان عن خالد وعبادة، بأن عمر بن الخطاب صالح أهل إيلياء بالجابية وكتب لهم:(30/225)
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن (يقصد مدن فلسطين) ، على أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وصليبهم حتى يبلغوا مأمنهم, ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم, وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليه من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنه خمس عشرة [6] .
6- النص المعتمد حاليا:
وآخر هذه النصوص، النص المعتمد حالياً لدى كنيسة القدس الارثوذكسيه والذي نشرته بطريركية الروم الأرثوذكس عام 1953م، وهو الأساس الذي ينظم العلاقة بين السلطات الإسلامية الحاكمة للقدس، والنصارى فيها. وهذا نصه:(30/226)
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، وهدانا من الضلالة، وجمعنا بعد الشتات وألف قلوبنا، ونصرنا عَلى الأعداء، ومكن لنا من البلاد، وجعلنا إخواناً متحابين، واحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة.
هذا كتاب [7] عمر بن الخطاب لعهد وميثاق أعطي إلى البطرك المبجل المكرم وهو صفرونيوس بطرك الملة الملكية في طورزيتا بمقام القدس الشريف في الاشتمال على الرعايا والقسوس والرهبان والراهبات حيث كانوا وأين وجدوا، وأن يكون عليهم الأمان، وأن الذمي إذا حفظ أحكام الذمة وجب له الأمان والصون منا نحن المؤمنين وإلى من يتولى بعدنا وليقطع عنهم أسباب جوانحهم كحسب ما قد جرى منهم من الطاعة والخضوع، وليكن الأمان عليهم وعلى كنائسهم وديارهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلا وخارجاً وهي القمامة وبيت لحم مولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبراء، والمغارة ذي الثلاثة أبواب، قبلي وشمالي وغربي، وبقية أجناس النصارى الموجودين هناك، وهم الكرج والحبش، والذين يأتون للزيارة من الإفرنج والقبط والسريان والأرمن والنساطرة واليعاقبة والموارنة تابعين للبطرك المذكور, يكون متقدما عليهم لأنهم أعطوا من حضره النبي الكريم والحبيب المرسل من الله وشرفوا بختم يده الكريم، وأمر بالنظر إليهم والأمان عليهم، كذلك نحن المؤمنون نحسن إليهم إكراماً لمن أحسن إليهم، ويكونوا معافاً (معافيين) من الجزية والغفر (الخفر) والمواجب، ومسلمين من كافة البلايا في البر والبحور وفي دخولهم للقمامة وبقية زياراتهم لا يؤخذ منهم شيء, وأما الذين يقبلون إلى الزيارة إلى القمامة، يؤدي النصراني إلى البطرِك درهم (درهما) وثلث من الفضة، وكل مؤمن ومؤمنة يحفظ ما أمرنا به سلطاناً كان أم حاكماً والياً يجرى حكمه في الأرض, غني أم فقير من المسلمين المؤمنين والمؤمنات. وقد(30/227)
أعطى لهم مرسومنا هذا بحضور جم الصحابة الكرام، عبد الله، وعثمان بن عفان وسعد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وبقية الأخوة الصحابة الكرام. فليعتمد على ما شرحنا في كتابنا هذا ويعمل به، وأبقاه في يدهم، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين حسبنا الله ونعم الوكيل.
في العشرين من شهر ربيع الأول سنة خامس وعشر للهجرة النبوية. وكل من قرى (قرأ) مرسومنا هذا من المؤمنين وخالفه من الآن والى يوم الدين فليكن لعهد الله ناكثا ولرسوله الحبيب باغضاً [8] .
مناقشة هذه النصوص
من المرجح أن مكانة القدس لدى النصارى من أهم أسباب تعدد الرِوايات للعهدة العمرية، واختلاف نصوص هذه الروايات، وقد كان هذا الاختلاف قليلا، كما نراه بين روايات اليعقوبي وابن البطريق وابن الجوزي، أو جزئيا أحيانا أخرى كما هو الحال بين هذه النصوص ونص الطبري ومجير الدين. أوكلياً، في الصيغة والأسلوب والمحتوى، كما هو يبين الروايات المذكورة ورواية ابن عساكر, ورواية الوثيقة التي نشرتها بطريركية الروم الأرثوذكس سنة 1953م.
ومكانة القدس لدى النصارى تعود إلى أنها تضم أقدس مقدساتهم، ومحجهم الذي يحجون إليه، ومقر بطريركية الروم الأرثوذكس. فكان هذا التحريف تلبية لرغبتهم في الحصول على أكبر قسط من الامتيازات والتسهيلات لهم، وللحجاج من الطوائف الأخرى، وخاصة حجاج الإفرنج، مستغلين في ذلك علمهم بأن المسلمين لا يحتفظون بنسخة من هذا العهد، وبعض فترات ضعف السلطة الإسلامية.(30/228)
إنّ المطلع على أسلوب الكتابة عامة، وكتابة العهود والمواثيق والمراسلات الرسمية خاصة في عصر صدر الإسلام، يدرك أنها كانت تعمد إلى الاختصار، وتبتعد عن المقدمات، وألفاظ التفخيم، والمحسنات، وتعالج الموضوع المقصود مباشرة، بأوضح الألفاظ وأقل الكلمات. كما أن من غير المحتمل ولا المقبول عقلاً أن ترد في هذه الروايات شروط وعهود تنظم أحوالاً وأوضاعاً لم تكن قد وجدت بعد.
لذلك يتوقع المطلع والمؤرخ أن يكون هذا العهد مصوغاً بأسلوب ذلك العصر، وأن يتضمن نصاً يعطي لأهل الذمة أماناً على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وعبادتهم، مقابل دفع الجزية والدخول في طاعة المسلمين [9] .
وبناء على ذلك نستنتج أن أقرب النصوص توافقاً مع مثل هذه الصيغة المتوقعة هو ما نقلناه عن اليعقوبي [10] ، وابن البطريق [11] ، وابن الجوزي [12] . وذلك لأن هذه النصوص قد جاءت مختصرة، ومعانيها وألفاظها أقرب ما تكون لما هو متوقع من عهد كتب في ذلك العصر، وإنها وإن اختلفت بعض الكلمات فيما بينها، تشير إلى أنها قد أخذت عن مصدر واحد. والأرجح أن اليعقوبي قد روى عن مصدر أقدم منه قد يكون سيف وإن لم يشر إلى ذلك، كما يرجح أن ابن البطريق قد نقل عن اليعقوبي أو عن مصدر نصراني. أما ابن الجوزي فإنه قد نقل عن أحدهما، على الأغلب.(30/229)
أما النص الذي أورده الطبري عن سيف، والنص الذي أورده مجير الدين عن سيف أيضاً وعن آخرين، فبالرغم من ورود بعض الاختلافات بينهما، إلا أنه من المرجح أنهما أخذا عن مصدر واحد، وإن مجير الدين قد أخذ عن الطبري، مع بعض التصرف في النص, هذه واحدة، أما الثانية فهي أن ما ورد فيهما من تحفظات وشروط قصد بها مصلحة النصارى، كالتعهد بعدم هدم الكنائس، وعدم إكراههم على دينهم، وعدم مساكنة اليهود لهم بالقدس، وغيرها [13] ، يدعو للشك فيهما، ومما يقوى هذا الشك أنهما وردا مفصلين ومطولين، مع أن عهود المدن الأخرى جاءت مختصرة وبسيطة، بالغة البساطة كعهد حمص, ومما يؤكده أيضاً أن الطبري ومجير الدين الذي نقل عنه، أشارا إلى أنه أعطي لأهل القدس في الجابية، مع أن المشهور أنه أعطى لهم في القدس نفسها [14] ، كما أن التحفظات المذكورة تنافي الواقع ولم تذكر الروايات الأولى ما يؤيدها. ومن المحتمل أن هذا العهد قد وضع في فترة لاحقة حيث يذكر الدكتور عبد العزيز الدوري "أن الأمر لم يخل من ادعاءات يهودية" [15] . كما تدعي رواية يهودية بأن اليهود طلبوا من عمر بن الخطاب السماح لهم باستقدام مائتي عائلة يهودية من مصر للسكن في القدس، ولكن البطريق صفرونيوس عارض ذلك، فسمح عمر بن الخطاب لسبعين عائلة بالحضور من مصر وأسكنهم جنوب الحرم [16] القدسي. ويسهل كشف كذب هذا الادعاء ببساطة، فمصر قد فتحت بعد فتح القدير بأربع سنوات.
ومن المحتمل أن عبارٍة "ألا يساكنهم فيها اليهود" المذكورة في النصين إنما تدل على أن القدس كما هو معلوم تاريخيا كانت خالية من اليهود، ولم يشأ النصارى أن يسكنها اليهود من جديد تحت حكم المسلمين. وليس كما فسرها اليهود سن أن اليهود كانوا يسكنون في القدس, واشترط النصارى على المسلمين إخراجهم منها.(30/230)
أما النص الذي أورده ابن عساكر، والذي أورد مجيرالدين نصاً يشبهه بالإضافة للنص المذكور سابقاً، فمن المستبعد جداً أن يكون صحيحا، بالإضافة إلى أنه يفيد بأنه وضع لأهل الشام عامة وليس لأهل القدس خاصة كما ذكر مجيرالدين. كما أنه من المستغرب أن يضع المغلوبون الشروط التي يرتضونها لينعقد الأمان لهم على يد الغالب، كما أنه من غير المنطقي أن يتعهد النصارى بعدم قراءة القرآن في الوقت الذي يستشهدون بآية منه في النص نفسه {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . ويلفت النظر أيضاً اختلاف هذا النص المطول عن عهود المدن الأخرى التي كانت بالغة البساطة، وإنه نص يدل على وجود صلات قوية بين المسلمين والنصارى أقوى من الصلات الفعلية التي كانت في مستهل أيام الفتح, وأنه احتوى شروطاً لأمور لم تكن موجودة في ذلك الزمن، كجز المقادم وشد الزنانير ونقش الخواتم والتكني بكنى المسلمين ... ويبدو أن مثل هذا النموذج من العقود كانت تضعه المدارس الفقهية الإسلامية لتصور واجبات وحقوق لأهل الذمة كالنموذج الوارد في كتاب الأم للشافعي [17] .
من هذا كله نرى أن هذه الروايات لنصوص العهود المسماة بالعهدة العمرية قد وسعت وطورت على الزمن تبعاً لتطور أحوال أهل الذمة منذ عهد عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والمتوكل إلى عهود بعدها لأنها احتوت شروطاً لأمور لم تكن موجودة أو معروفة زمن الفتح، فطورت من نصوص مختصرة، أقرب ما تكون للحقيقة، كنصوص اليعقوبي، وابن البطريق وابن الجوزي، إلى نصوص مطولة تحتوي شروطاً مستهجنة كنص الطبري ومجير الدين [18] أو نص مختلف في الصيغة والشروط والمحتويات كنص ابن عساكر [19] .(30/231)
أما النص الأخير الذي نشرته بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس عام 1953 ميلادية، فإن جميع الدلائل، من أسلوب، وألفاظ، وأحكام، ومعلومات تاريخية، تشير إلى أنه غير صحيح. وسوف أقوم بتفنيده في بحث آخر إن شاء الله.
ولعل من المفيد أن نعلم في نهاية البحث أن المؤرخ فيليب حتي ينكر وجود العهدة العمرية [20] ذاتها، بدعوى أن مؤتمر الجابية الذي عقده الخليفة عمر بن الخطاب، لبحث الأمور الإدارية بالشام، لم يعرف بالضبط ما الذي دار فيه وما هي القرارات التي اتخذها [21] معتمداً في ذلك مع المؤرخ ترتون [22] على اختلاف روايات تلك النصوص، واحتوائها على معلومات وأحكاماً وجدت في عصور تالية لعصر الفتح. وإنني لا أوافقه على نفي وجود مثل هذا العهد أصلا. والله اعلم.
المرا جع
1- ابن البطريق، أفشيشيوس الإسكندري، المتوفى عام 328 هـ؛ التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، بيروت 1904م.
2ـ ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن علي بن الجوزي: المتوفى 597 هـ فضائل القدس، تحقيق د. جبرائيل سليمان بيروت 1980 م.
3- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله… الدمشقي الشافعي أبو القاسم، المتوفى عام 571 هـ، تاريخ تهذيب دمشق وأخبارها ... (التاريخ الكير) ، دمشق دار المسيرة/ بيروت 1329هـ.
4- أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب مصر 1917م.
5- البلاذري/ أحمد بن يحي بن جابر بن داود البغدادي (القرن الثالث الهجري) : فتوح البلدان، القاهرة 1956 م.
6- Tritton (A.s) the calisphs and their non _ moslim subjects oxford 1930
7- حتى، تاريخ العرب، مطول بيروت.
8- الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي الحجاز المكي أبو عبد الله (150 ـ 204 هـ) ، الأم، القاهرة 1325 هـ.
9- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (224-310) : تاريخ الرسل والملوك، طبعة طهران.(30/232)
10- عارف الغارف: المسيحية في القدس، القدس 1951 م.
11- د. عبد العزيز الدوري: (فكرة القدس في الإسلام) بحث أعده للمؤتمر التاريخي لبلاد الشام (فلسطين) المنعقد بالجامعة الأردنية سنة 1980م.
12- مجير الدين الحنبلي، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي، (810 - 927 هـ) ، الإنس الجليل بتاريخ القدس عمان 1977.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 46.
[2] ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، 2، ص 147.
[3] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج اص 179, انظر مجير الدين: ج اص 254, الطبري: ج 3 ص609, شذرات الذهب، ج1 ص 28, ذكر أن عقد الصلح كتب على جبل الطور بالقدس.
[4] مجير الدين: الإنس الجليل وتاريخ القدس والخليل، ج اص 255, انظر جرجي زيدان ج4 ص 109, تاريخ العرب.
[5] ابن الجوزي: فضائل القدس ص 123-124.
[6] محير الدين: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ج اص253.
[7] لدي نسخه مطبوعة عام 1953 نشرتها بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس، وفي أعلاها صورة للخليفة عمر بن الخطاب يقود جملا يركبه خادمه أمام أسوار القدس التي وقف عليها النصارى يشاهدون هدا المنظر، صفرونيوس يتقدم لاستقبال الخليفة.
[8] انظر: أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب، رسائل الخلفاء الراشدين.
[9] انظر البلاذري: فتوح البلدان ص 139.
[10] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 167.
[11] ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، ج 2 ص16.
[12] ابن الجوزي: فضائل القدس، ص 125.
[13] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 1، ص 2405- 2406.
[14] البلاذري: فتوح البلدان، ص 131.(30/233)
[15] عبد العزيز الدوري: فكرة القدس في الإسلام، بحث أعده للمؤتمر التاريخي لبلاد الشام (فلسطين) المنعقد بالجامعة الأردنية سنة 1980م.
encyclobidia judacia Art Jerusalem [16] .
[17] الإمام الشافعي: الأم، ج 4، ص118.
[18] مجير الدين: الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ج 1 ص 253-254.
[19] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج ا، ص 179.
[20] انظر عارف العارف: المفصّل في تاريخ القدس، ص 91-92, وعبد العزيز الدوري: بحث بعنوان (فكرة القدس في الإسلام) ، ص 11: 8.
Tritton;The caliphe and their non - Muslim subjects P5
[21] حتى فيليب: تاريخ العرب، ج 3 ص 19 -20.
Tritton;The caliphe and their non - Moslem subjects12. [22](30/234)
رسائل لم يحملها البريد
الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
أختي العزيزة: "هل"
هذه هي الرسالة الثانية عشرة من رسائلي إليك، سوف أحدثك فيها عن الصيغة الرابعة وما بعد الرابعة من هذه الصيغ التي تدخل فيها همزة الاستفهام على (لا) النافية للفعل المضارع، وكنت قد حدثتك من قبل عن ثلاث صيغ من هذه الصيغ.
أما الصيغة الرابعة فهي (أَوَلا يَرَوْن) وقد وردت في أربع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة:126) .
هذا الاستفهام {أَوَلا يَرَوْنَ} في هذه الآية الكريمة يفيد الإنكار والتوبيخ:
فالله سبحانه وتعالى ينكر على أولئك المنافقين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ويوبخهم أن لا يتوبوا من نفاقهم المنتن، وأن لا يتعظوا بما يريهم الله من آيات وحجج، مع أنهم يبتلون في كل عام مرة أو مرتين بما هو حقيق أن يكون زاجرا يزجر، ورادعا يردع، وواعظا يعظ.
وفعل (يرون) في هذه الصيغة يحتمل أن يكون بمعنى يبصرون فهو متعد إلى مفعول به واحد هو المصدر المؤول من (أنهم يفتنون) ، ويحتمل أن يكون بمعنى يعلمون فهو متعد إلى مفعولين، والمصدر المؤول من (أنهم يفتنون) في محل نصب سدّ مسدّ هذين المفعولين، وتقدير المصدر المؤول على كلا المعنيين: أو لا يرون فتن الله إياهم.
وإعراب {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} واضح، و (مرةً) منصوب على المصدرية فهو مفعول مطلق، و (مرتين) معطوف بأو على (مرة) وهو مثله منصوب على المصدرية مفعول مطلق.(30/235)
{ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} : جملة (لا يتوبون) معطوفة بثم على جملة (لا يرون) فهي داخلة في حيز الاستفهام ولا محل لها من الإعراب.
{وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : جملة (لا هم يذّكرون) معطوفة بالواو على جملة (لا يتوبون) فهي مثلها داخلة في حيز الاستفهام ولا محل لها من الإعراب.
وأصل (يَرَون) - عند علماء الصرف- (يَرْءَيون) - بسكون الراء وفتح الهمزة وضم الياء التي قبل واو الجماعة-: تحركت الياء التي قبل واو الجماعة وهي لام الكلمة وفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصارت الكلمة (يَرْءَاوْن) فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصارت الكلمة بعد حذف الألف (يرْءَوْن) - براء ساكنة وهمزة مفتوحة وواو ساكنة- فنقلت فتحة الهمزة إلى الراء الساكنة قبلها فأصبحت الراء مفتوحة والهمزة ساكنة فالتقى ساكنان الهمزة وواو الجماعة فحذفت الهمزة لالتقاء الساكنين وصارت الكلمة بعد حذف الهمزة (يَرَوْن) - بفتح الراء وتسكين الواو- على وزن (يَفوْن) - بفتح الفاء وتسكين الواو- وقد حذفت لام الفعل وعينه وبقيت فاؤه وحدها.
الآية الثانية: في قوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} الآيتان (58-59) من سورة يوسف.
استفهام هذه الصيغة (ألا ترون) في آيتنا الكريمة هنا يفيد التقرير والترغيب والإغراء وإلإيناس والاستمالة على معنى: قد رأيتم أني أوفي الكيل لكم ولغيركم، ولا أبخسه أحدا، وأنا خير من أنزل ضيفا على نفسه في هذا البلد، فإنكم إن أتيتم بأخيكم -يعني بنيامين أخاه لأبيه وأمه- وجدتم خير نُزُل وخير مضيف، وازددتم به كيل بعير.(30/236)
و (ترون) في هذه الصيغة هنا بمعنى تبصرون، والمصدر المؤول من أن وخبرها مضافا إلى اسمها في {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} في محل نصب مفعول به لفعل (ترون) ، والتقدير: ألا ترون إيفائي الكيل. {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المضارع (أوفي) , وهو ضمير مستتر فيه تقديره (أنا) ، ورابط جملة الحال بصاحبها الواو والضمير معا.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ ألا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} . الآية (89) من سورة طه.
الضمير في (يرون) يعود على بني إسرائيل عبدة العجل الذي أخرجه لهم السامريّ من حليّ كانوا قد استعاروها من قوم فرعون وحملوها معهم حين خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام، وفي أثناء غياب موسى لمناجاة ربه جل وعلا ألقوا ما حملته من زينة القوم وكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم من هذه الحلي عجلا جسدا له خوار، فقال السامري وأتباعه الذين افتتنوا به أول ما رأوه: "هذا إلهكم وإله موسى، وقد نسي أن ربه الذي ذهب يريده هو هذا العجل".
والضمير المستتر في (يرجع) و (يملك) يعود على هذا العجل المعبود من دون الله.
والاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَفَلا يَرَوْنَ} استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع, ينكر الله سبحانه وتعالى على عبدة العجل من بني إسرائيل ويوبخهم ويسفّه أحلامهم ويعيب عليهم أن يتخذوا العجل إلههم من دون الله، وأن لا يروا أن هذا العجل المعبود لا يقدر أن يردّ عليهم قولا إن كلّموه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا إن رجوا منه ضرا ونفعا, كيف يكون إلها من كان على هذه الصفة أيها الجاهلون الأغبياء؟!!.(30/237)
و (يرون) في هذه الصيغة هنا بمعنى يعلمون، و (أن) مخففة من الثقيلة، وليست الناصبة للفعل المضارع لأن الناصبة للفعل المضارع لا تجيء بعدما يفيد العلم، واسم (أن) المخففة من الثقيلة ضمير الشأن محذوف، و (لا) : نافية, و (يرجع) : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود على العجل، و (قولا) مفعول به ليرجع. وبقية كلمات الآية واضحة الإعراب، والمصدر المؤول من أن المخففة من الثقيلة وخبرها مضافا إلى اسمها في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي (يرون) والتقدير: أفلا يرون عدم رجعه إليهم قولا.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} الآية (44) من سورة الأنبياء.
يتضمن صدر هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد متّع هؤلاء المشركين من قريش وآباءهم من قبلهم بهذه الحياة الدنيا حتى طال عليهم العمر وهم مقيمون على عبادة الأصنام لا يأتيهم عذاب ولا ينزل بهم عقاب جزاء كفرهم هذا، فنسوا نعمة الله عليهم، وضلّوا طريق الشكر إليها.
والاستفهام الذي جاء بعد ذلك في قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} للإنكار والتوبيخ.
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك المشركين أن لا يبصروا ما يحدثه الله جل وعلا في الأرض من خراب بعد عمارة, ومن موت بعد حياة, ومن هلاك وعذاب وقهر وإذلال بعد حياة نعيم وعز، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به، ويحذروا أن ينزل بهم من العذاب ما أنزله الله بالأمم التي كذبت الرسل من قبل.
أفبعد هذا النقص الذي يحدثه الله- جلّت قدرته- في أطراف الأرض بالهلاك والتدمير والقهر، أفبعد هذا يظن هؤلاء المشركون أنهم الغالبون؟!!.(30/238)
وأنًى لهم الغلبة؟! أمن هذه الآلهة التي لا تستطيع أن تنصر نفسها ولا تملك لهم ضراً ولا نفعا؟!.
الله القاهر فوق عباده هو الغالب على أمره ولا معقب لحكمه وهو الذي ينصر رسوله والذين آمنوا معه.
و (يرون) في هذه الصيغة هنا بمعنى يبصرون، فهو فعل متعد إلى مفعول به واحد، هو المصدر المؤوّل من أن وخبرها مضافا إلى اسمها في (أنا نأتي الأرض) والتقدير: أفلا يرون إتياننا الأرض.
وجملة {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} -فيما يرى العكبري- في محل نصب حال من ضمير الفاعل في نأتي أومن الأرض التي هي مفعول به لنأتي.
وأما الصيغة الخامسة: من هذه الصيغ التي تدخل فيها همزة الاستفهام على (لا) النافية للفعل المضارع فهي (أفلا تبصرون) وقد وردت في أربع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . الآية (72) من سورة القصص. تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: أرأيتم يا هؤلاء إن جعل الله عليكم النهار دائما مستمرا إلى يوم القيامة من إله غير الله المعبود بحق يأتيكم بليل تستريحون فيه من عناء النهار ومتاعبه، أفلا تبصرون هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم وهو اختلاف الليل والنهار، فتعلموا أن العبادة لا تكون إلا لمن أنعم بها.
وهذا الاستفهام {أَفَلا تُبْصِرُونَ} الذي جاء في ختام هذه الآية الكريمة يفيد الإنكار والتوبيخ.(30/239)
ينكر الله سبحانه وتعالى على المشركين من قريش ويوبخهم أن لا يتبصروا في هذه النعمة العظيمة التي أنعمها الله عليهم، فقد جعل الليل والنهار خلفة، جعل النهار ليكسبوا فيه ويبتغوا من فضله، وجعل الليل ليستريحوا فيه من عناء ويسكنوا من جهد، ينكر الله عليهم أن لا يتَبصّروا في ذلك فيعلموا أن المنعم بهذه النعمة وهو الله جل وعلا هو وحده الذي يستحق العبادة ويستحق الشكر، فيعبدوه وحده لا شريك له، ويتبعوا ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم
الآية الثانية:قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} . الآية (27) من سورة السجدة.
تضمنت هذه الآية الكريمة إقامة الحجة على الكافرين المنكرين للبعث، وبيان بعض النعم التي ينعم الله بها على عباده، فذكر جل وعلا في هذه الآية أنه يسوق الماء إلى الأرض اليابسة الجافة التي لا نبات فيها فيخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم ويأكلون، وفي ختام هذه الآية قال تعالى: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} , وهو استفهام إنكار وتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على المكذبين بالبعث أن لا يبصروا ذلك بأعينهم إبصارا يشوبه التدبر والتفكر فيعلموا أن القدرة العظيمة التي تسوق الماء إلى الأرض المجدبة المغبرة فتخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم لا يعجزها أن تبعث الأموات من قبورهم أحياء يوم القيامة كما كانوا من قبل في حياتهم الدنيا.
الآية الثالثة: في قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} . الآيتان: (51-52) من سورة الزخرف.(30/240)
يخبر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أن فرعون قد جمع قومه من القبط فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملكه مصر وما هو فيه من خير ونعيم، فقال: أليس لي هذا الملك العظيم ملك مصر, وهذه الجنان الناضرة الحسان, وهذه الأنهار الجارية من بين يدي لا تقف ولا تجف؟!! أين موسى الذي هو مهين ولا يكاد يبين من هذا كله؟!!.
وقد جاء الاستفهام في قوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} للفخر وتعظيم نفسه.
الآية الرابعة: في قوله: {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . الآيتان: (20- 21) من سورة الذاريات.
تتضمن هاتان الآيتان الكريمتان أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في هذه الأرض التي دحاها وفي هذه الأنفس التي سواها آيات كثيرة للموقنين الذين ينظرون إليها نظرا صحيحا متدبرا معتبرا، فيؤمنون بعظمة خالقها وقدرته الباهرة، ويصدقون بما جاءت به الرسل دونما ريب.
وفي ختام هاتين الآيتين قال تعالى: {أَفَلا تُبْصِرُون} وهو استفهام إنكار وتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على الكافرين ويوبخهم أن لا ينظروا النظر الصحيح السليم المتأمل المتبصر إلى ما في هذه الأرض من آيات دالة تثير التفكر، وإلى ما في هذه الأنفس من عجائب التركيب ودقائق الصنع التي تبعث على الاعتبار، فيعلموا وحدانية الذي خلقها وقدرته له على أن يعيدهم إلى الحياة بعد الموت كما بدأهم أول مرة.
وأما الصيغة السادسة: فهي ما دخلت فيه همزة الاستفهام على (لا) النافية لمضارع (علم) . وقد جاءت هذه الصيغة في ثلاث آيات من آيات القرآن الكريم:(30/241)
الآية الأولى: في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون} . الآيتان: (76-77) من البقرة.
تبين الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين أن منافقي اليهود في المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للذين آمنوا -إذا لاقوهم-: "قد آمنا بما آمنتم به"، ويذكرون أن سبب إيمانهم ما وجدوه في التوراة من نعت النبي صلى الله عليه وسلم والتبشير به، وإذا خلا اليهود بعضهم إلى بعض بعيداً عن المؤمنين أخذ الفريق الذي لم يؤمن ولم ينافق ينكر على الفريق الآخر المنافق أن يحدثوا المؤمنين بأن التوراة قد ذكرت صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبشّرت به؛ لأن عاقبة ذلك أن يكون للمؤمنين في هذا الحديث حجة عليهم عند ربهم، ثم يختمون إنكارهم قائلين: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ تقدم الحديث عنه في الرسالة العاشرة.
وفي الآية الثانية من هاتين الآيتين الكريمتين قال تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وهو استفهام يفيد التقرير على معنى أن أولئك اليهود المنافقين واليهود اللائمين يعلمون أن الله تعالى يعلم ما يسرونه وما يعلنون.(30/242)
ويفيد أيضا الإنكار والتوبيخ على معنى لا ينبغي لهم مع علمهم هذا أن يفعلوا ما فعلو: فيأتي المنافقون منهم إلى المؤمنين قائلين لهم كذباً ونفاقاً: "لقد آمنا بما آمنتم به"، ويأتي الفريق الذي لم ينافق فيلوم في الخفاء الفريق الذي آمن نفاقاً على تظاهرهم بالإيمان وعلى تحديثهم المؤمنين بأنّ نعته عليه الصلاة والسلام قد ورد في التوراة وأنها قد بشّرت به. ألا ساء ما كانوا يفعلون!! وأَقْبِحْ بما كانوا يزرون!!.
الآية الثانية: في قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . الآيتان: (13-14) من سورة الملك.
تتضمن الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين أن السر والجهر يتساويان بالنسبة إلى علمه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى عليمٌ بما تهمس به الألسن وما تكنّه الأنفس وما تخفيه الصدور، لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض ولا في أنفسكم أيها الناس.
وفي الآية الثانية من هاتين الآيتين الكريمتين قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ.
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يزعمون عدم إحاطة علمه عز وجل بالمظهر والمضمر، ويوبخهم على ذلك، كيف لا يعلم الله الذي خلق الأشياء من عدم وخلقكم أنتم أيضا أيها الناس، كيف لا يعلم الخالق أحوال من خلقهم ما ظهر منها وما بطن وحاله أنه اللطيف الخبير المحيط علمه بخفيات الأمور وجلياتها؟!!.(30/243)
الآية الثالثة: في قوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} . الآيات: (6- 11) من سورة العاديات.
هذه الآيات الكريمة جاءت في سورة العاديات، وتعني الآية السادسة من آيات هذه السورة أن الإنسان لجحود لنعم ربه، لا يذكرها ولا يشكرها. وتعني الآية السابعة أن الإنسان ليشهَد بلسان حاله على جحوده هذا ولا يقدر أن ينكره لظهوره في أقواله وأفعاله، وتعيى الآية الثامنة أن الإنسان لشديد الحب للمال.
وفي الآية التاسعة جاء هذا الاستفهام: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} وجاء بعده في الآية العاشرة والآية الحادية عشرة ما يتصل بهذا الاستفهام ويتمّم معناه.
وهو استفهام إنكار وتهديد ووعيد على معنى لا ينبغي لهذا الإنسان الجحود لنعم ربه، لا ينبغي لهذا الإنسان الذي استولى على قلبه حب المال، لا ينبغي له أن ينسى شكر الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ولا أن ينسى العمل الصالح للدار الآخرة، سوف يعلم هذا الإنسان مآله ويرى جزاءه يوم يبعث الأموات من قبورهم، ويبرز ما في صدورهم من خير وشر، إن الله سبحانه وتعالى خبير بما عمل، ومجازيه يومئذ على ما قدم، ويل له يومئذ وثبور!!.
وإعراب {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِير} :
(أفلا يعلم) : الهمزة حرف استفهام، والفاء عاطفة على ما قبل الهمزة، ولا نافية، ويعلم مضارع مرفوع وهو متعد إلى مفعولين.(30/244)
{إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} : إذا: ظرف زمان مبنية على السكون في محل نصب متعلقة بالفعل المضارع (يعلم) ومعمولة له، وهي هنا لا تفيد الشرط فلا جواب لها، وكون (إذا) متعلقة بالفعل المضارع يعلم ومعمولة له هو رأي العكبري والحوفي وجملة {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} في محل جر بإضافة إذا إليها. وجملة {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} معطوفة بالواو على جملة (بعثر ما في القبور) فهي مثلها في محل جر.
وجملة {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِير} في محل نصب سدّت مسد ّ مفعولي (يعلم) ، والجار والمجرور (بهم) والظرف (يوم) المضاف إلى (إذ) يتعلقان بخبر (إنّ) وهو (خبير) .
وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط: "إن الرأي القائل (إذا) ظرف معمول ليعلم غير متضح، لأن المعنى: أفلا يعلم الآن وليس إذا بعثر ما في القبور"، ومن رأيه أنّ إ (ذا) متعلقة بمحذوف تقديره: "مآله: أو "أنه مجازف"، وهذا المحذوف هو مفعول ليعلم المتعدية إلى مفعول به واحد، ومن رأيه أيضا أن جملة {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِير} تكون استئنافية دالة على مفعول (يعلم) وعلى متعلق (إذا) .
والأرجح -فيما يبدو لي- هو إعراب العكبري والحوفي من أن العلم سيكون إذا بعثر ما في القبور وحصّل ما في الصدور؛ لأنه الظاهر المتبادر من الآية فلا تقدير ولا حذف، ويؤيده -في أن العلم سيكون في المستقبل وليس الآن- قوله تعالى في سورة التكاثر: {كلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فهو صريح في أن العلم سيكون في المستقبل، وفي كلتا الآيتين تهديد ووعيد.
أما الصيغة السابعة: من هذه الصيغ التي تدخل فيها همزة الاستفهام على (لا) النافية للفعل المضارع فهي: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} . وقد وردت في آيتين اثنتين من آيات القرآن الكريم.(30/245)
الآية الأولى: قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . الآية (82) من سورة النساء.
هذا الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يفيد الإنكار والتوبيخ؛ الإنكار على أولئك الذين أعرضوا عن الإيمان برسول الله جيدا، ولم يصدّقوا بأن هذا القرآن الذي يبلغهم إياه هو من عند الله تعالى، وَتوبيخهم على ذلك.
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك ويوبخهم أن لا يتدبروا القرآن ويتأملوا ما فيه وينعموا النظر في إِحكام آياته واتساق معانيه وصدق أخباره مع أنه نزل في أزمنة متقاربة ومتباعدة، وفي أماكن متعددة، وفي أمور شتى، وأخطر عن الماضي والحاضر والمستقبل.
ينكر عليهم ويوبخهم أن لا يتدبروا القرآن وهو على هذه الصفات فيدركوا أنه لو كان من عند غير الله تعالى لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، لوجدوا أن بعض آياته يخالف بعضها الآخر، وأن معانيه يناقض بعضها بعضا، وأن أخباره جاء بعضها غير مطابق للواقع.
الآية الثانية: قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .الآية (24) من سورة محمد.
الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} للإنكار والتوبيخ.
ينكر عليهم، ويوبخهم أن لا يتأمّلوا في القرآن ويتفهموا ما اشتملت عليه آياته من حجج وبراهين ومواعظ وعبر فيعلموا أنّ ما هم عليه هو الباطل، وأنّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق.
ولكن من أين لهم تدبّر القرآن وتفهّم ما جاء فيه, وقلوبهم مقفلة ليس لها أبوابه مفتوحة يدخل منها التدبر والتأمل فنور الهدى والإيمان؟!!.
أما الصيغة الثامنة: فهي: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} . وقد وردت في آيتين اثنتين من آيات القرآن الكريم.(30/246)
الآية الأولى: في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} الآيات (33-35) من سورة ياسين.
تتضمن هذه الآيات الكريمة الدلالة على قدرة الله تعالى على ما يشاء، وعلى إعادة الحياة إلى الموتى كما كانوا عليه في الحياة الدنيا، فإحياؤه جل وعلا الأرض الميتة التي لا نبات فيها، ينزل عليها من السماء ماء فيخرج به زرعا وحبا يأكل منه أولئك المشركون بالله المنكرون للبعث، فإحياؤه هذا آية لهم محسوسة لا تردّ ولا تنكر.
وتتضمن أيضا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في هذه الأرض التي أحياها بعد موتها عيوناً يتفجر منها الماء وبساتين نخيل وأعناب يأكلون منها ثمراً طيّبا لم تعمله أيديهم ولا كان بكدّهم ولا سعيهم، وإنما هو فضل من عند الله ورحمة.
وفي ختام هذه الآيات قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يشركون به جل وعلا ويكذبون بالبعث، ويوبخهم أن لا يشكروا له عز وجل تلك النعم العظيمة ذلك الشكر الذي ينبغي أن يتجلى في إفراده تعالى بالعبادة وفي الإيمان بقدرته على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة.
الآية الثانية: في قوله تعَالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُون} الآيات: (1 7-73) من سورة ياسين.(30/247)
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد خلق لبني آدم ومنهم هؤلاء المشركون، قد خلق لهم مما خلق هذه الأنعام من إبل وبقر وغنم، وجعلهم يملكونها ويضبطون أمورها، وجعلها مذلّلة لهم يتخذون منها ركائب يحملون عليها أنفسهم وأثقالهم في تنقلاتهم وأسفارهم، ويتخذون من لحومها طعاماً يأكلون منه ويطعمون.
وفوق هذا وذاك لهم فيها منافع شتى: فهم يتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ملابس دافئة وأكناناً تقيهم الحر والقر، وأثاثاً فارهاً به يستمتعون، ولهم فيها مشارب مختلفة كثيرة مريئة سائغة للشاربين.
وفي ختام هذه الآيات قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} وهو استفهام إنكار وتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المشركين ويوبخهم أن لا يشكروه تعالى على هذه الأنعام التي خلقها نعمة لهم وللناس جميعا، وشكر الله تعالى إنما يكون بطاعته وإفراده بالعبادة، وبالإيمان أنه الرازق الخالق لها ولكل شيء.
أما الصيغة التاسعة: فهي (ألا تكلون) وقد وردت في آيتين اثنتين من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى: في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} الآيات (85 ـ96) من سورة الصافات.(30/248)
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، قال لهم منكرا موبخا: ما هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله؟!! إن عبادتكم لغير الله إفك، وإن الآلهة التي تعبدونها من دون الله لباطل. ثم ما ظنكم أن يفعل بكم رب العالمين وقد عبدتم غيره؟!!.
وحين أرادوه على أن يخرج معهم إلى عيد لهم ليشاركهم فيه نظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم، فتولوا عنه مدبرين خائفين من أن تصيبهم عدوى مرضه، وتركوه وحده في بيت أصنامهم، وتركوا وراءهم في ذلك البيت الطعام الذي أتوا به ليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم بعد أن تصيبه بركة الأصنام فيما يزعمون، فأقبل إبراهيم على أصنامهم هذه يخاطبها مخاطبة من يعقل؛ لأنهم أنزلوها تلك المنزلة، فقال ساخراً مستهزئاً: مالكم أيها الأصنام لا تأكلون؟! طعام كثير لذيذ شهي!!.
ولما كانت الأصنام لا تعقل ولا تنطق -ومن أين لها العقل والنطق؟! - عاد إبراهيم عليه السلام يقول ساخرا زاريا: مالكم لا تنطقون، مالكم لا تجيبون؟! أيّ آلهة أنتم؟! إن كنتم آلهة حقاً وصدقاً فادفعوا عن أنفسكم ما أنا فاعل بكم، وراحت يده اليمنى تهوي على رءوسهم بفأسه القوية ضرباً ملؤه الغيظ والكراهية لآلهة الباطل.
والاستفهام - كما رأيت - في قوله: {أَلا تَأْكُلُونَ} استفهام سخرية واستهزاء وزراية.
الآية الثانية: في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُون فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيم} الآيات: (24 -8 2) من سورة الذاريات.(30/249)
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن جماعة من الملائكة أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام، فجاءوه ضيوفاً في صور بشرية جميلة، فلما دخلوا عليه حيّوه وقالوا سلاما، فردّ عليهم التحية قائلا لهم: سلام أيها القوم الذين لم نعرفهم من قبل، وما لبث أن ذهب إلى امرأته مسرعاً لتعدّ لهم طعام الضيافة، وعاد به إليهم مسروراً بإكرامهم يحمل عجلاً سميناً مشويّاً، وقرّبه إليهم، ولكنه رأى أيديهم لا تمتد إليه، فأنكر ذلك منهم وقال مستغربا: مالكم لا تأكلون؟!! ولكنهم ظلوا ممسكين عن تناول طعامه، فأحس بالخوف منهم وبدت عليه علاماته، فقالوا -وقد رأوا ذلك منه-: لا تخف، وبشروه بغلام سيكون على جانب عظيم من العلم.
وقد رأيت أن الاستفهام في قوله: {أَلا تَأْكُلُونَ} قد جاء للإنكار والاستغراب: أنكر إبراهيم عليه السلام على ضيوفه أن لا يأكلوا من طعامه، واستغرب ذلك منهم، وحق له أن ينكر ويستغرب، فقد كان طعاماً شهياً فيه سخاء وكرم، وما كان يعرف حينئذ أنهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون.
أما الصيغة العاشرة: فهي (أفلا تسمعون) , وقد وردت في آيتين اثنتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} . الآية (71) من سورة القصص.
تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل دائما مستمرا لا يعقبه نهار إلى يوم القيامة من إله غير الله المعبود بحق يأتيكم بالنهار فتقدرون في ضوء شمسه أن تبتغوا من رزقه الواسع وتذهبوا في وجوه المعاش كل مذهب.(30/250)
أفلا تسمعون هذا الذي أقوله لكم سماع تفهّم وتبصّر فتدركوا أن الله هو وحده الذي جعل لكم الليل والنهار خلفة, وجعل الليل سكنة وراحة، وجعل النهار سعيا ومعاشا، فتفردوه بالعبادة.
وقد أفاد هذا الاستفهام {أَفَلا تَسْمَعُونَ} الإنكار والتوبيخ.
أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم ووبخهم ألا يكون لديهم سمع يتفهم ما يسمعه ويتدبره، فيدرك أن الله الذي خلق الليل والنهار يتعاقبان قادر على أن يجعل الليل مستمرا دائما إلى يوم القيامة فيكون لهم في ذلك شقاء وفناء.
لو كان لديهم سمع يدرك ويعتبر لأدركوا أن الله الذي أنعم عليهم بليل يعقبه نهار, ونهار يعقبه ليل هو وحده الذي يستحق العبادة دون أن يكون له شريك.
الآية الثانية: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} الآية (26) من سورة السجدة.
في هذه الآية الكريمة ينكر الله سبحانه وتعالى على المشركين من أهل مكة وغيرهم أنْ لم يبين لهم وأن لم يعظهم كثرة من أهلكهم من الأمم بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل مع أنهم يمشون في مساكن أولئك المهلكين وهم مسافرون إلى الشام وغيرها، ويتقلبون في بلادهم ويشاهدون آثار العذاب الذي نزل بهم.
وقد جاء الاستفهام {أَفَلا يَسْمَعُونَ} في ختام هذه الآية مفيدا الإنكار والتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين لم يعظهم هلاك الأمم السابقة بسبب تكذيبهم الرسل وها هي ذي مساكنهم يمرون بها غدوّا ورواحا تشهد وتذكر وتعظ، ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك المشركين من أهل مكة ويوبخهم أنْ لا يسمعوا آيات الله وعظاته وتذكيره إياهم سماع تفهم وتدبر واعتبار.
أختي العزيزة "هل":(30/251)
بقي من صيغ همزة الاستفهام الداخلة على (لا) النافية للفعل المضارع صيغ لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، وها أنا ذي أقدمها إليك (بحسب ورودها في القرآن الكريم) في الاستفهامات التالية:
الاستفهام الأول: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} وقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} . الآية (50) من سورة الأنعام.
تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا أقول لكم عندي خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، فالرزق والعطاء بيد الله لا بيدي.
وهذا رد على ما كانوا يقولونه له وهو: "إن كنت رسولا من عند الله فاطلب منه أن يهب لنا الغنى ويذهب عنا الفقر".
وقل يا محمد لهم: "لا أقول لكم إني أعلم الغيب".
وهذا رد على قولهم له: إن كنت رسولا من عند الله فأخبرنا بما ينفعنا وما يضرنا فنعمل على تحصيل المصالح ودرء المضار.
وقل يا محمد: "لا أقول لكم إني ملك".
وهذا رد على قولهم ما لهذا الرسول يأكل ويمشى في الأسواق.
وقل يا محمد لهم: لا أتبع إلا ما يوحيه الله إليّ، ولا يستوي الذي عمي عن آيات الله وما جاء به الوحي والذي أبصر آيات الله واتبع ما جاء به القرآن، أفلا تتفكرون.
وهذا الاستفهام {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} استفهام إنكار وتوبيخ؛ إنكار على هؤلاء المشركين, وتوبيخ لهم أن لا يكون لديهم تفكر في الأمور وتبصر فيدركوا أن ما جاء به الوحي هو الحق، وأن ما هم عليه من الشرك هو الباطل.(30/252)
الاستفهام الثاني: (أفلا يتوبون) قد جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . الآيتان: (73-74) من سورة المائدة.
تتضمن الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين أن الذين يقولون إن الله أحد آلهة ثلاثة (يريدون بالثلاثة: الله سبحانه وتعالى، وعيسى، وأمه) إن الذين يقولون هذا قد كفروا كفراناً مبيناً، فما من إله في الوجود مستحق للعبادة إلا إله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له صاحبة ولا ولد، وما كان معه من إله، وهو الله سبحانه وتعالى.
وإن لم يرجع هؤلاء الذين كفروا وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، إن لم يرجعوا عن مقالتهم ويتوبوا إلى الله تعالى ليصيبنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم.
وفي الآية الثانية من هاتين الآيتين الكريمتين جاء هذا الاستفهام: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} . وهو استفهام إنكار وتوبيخ وتعجب.
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الكافرين القائلين إن الله ثالث ثلاثة, ويوبخهم أن لا يرجعوا عن مقالتهم هذه ويتوبوا إليه تعالى ويستغفروه، فقولهم هذا لا يقبله عقل سليم، ولا تقوم به حجه بيّنة.
وهو استفهام يدل أيضا على التعجب بمعنى كيف لا يتوبون إليه تعالى ويستغفرونه من هذا الذنب الذي ليس بعده ذنب وقد تهيأت لهم أسباب التوبة والاستغفار، فالله سبحانه وتعالى غفور لذنوب التائبين الراجعين عن معاصيهم، رحيم بهم بقبوله توبتهم والعفو عما سلف من كفرهم.
أختي العزيزة:(30/253)
جاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان أنّ ابن عطية يرى أن استفهام {أَفَلا يَتُوبُونَ} للتحضيض على التوبة وطلب المغفرة. وقد علق أبو حيان على رأي ابن عطية هذا فقال: "وما ذكره من الحث والتحضيض على التوبة من حيث المعنى لا من حيث مدلول اللفظ؛ لأن مدلول (أفلا) غير مدلول (ألا) التي للحض والحث"اهـ أبو حيان.
وإنما كانت (أفلا) لا تدل على الحث والحض نصاً ومباشرة أو كما قال أبو حيان من حيث اللفظ؛ لأن الفاء الفاصلة بين الهمزة و (لا) تحتّم أن تكون الهمزة للاستفهام، وأن تكون الفاء للعطف، و (لا) نافية.
وأفاد هذا الاستفهام الحث والتحضيض من حيث المعنى والسياق لا من حيث دلالة اللفظ النصية؛ لأنه استفهام إنكار وتوبيخ، وإنكار عدم التوبة، والتوبيخ على تركها يفيد بطريق غير مباشر الحث على التوبة والتحضيض عليها.
وقد سها أبو حيان فقال في صيغة (أفلا تتفكرون) ما قاله ابن عطية في صيغة (أفلا يتوبون) ، قال في تفسير البحر المحيط: " (أفلا تتفكرون) هذا عرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا"اهـ أبو حيان.
وليس لي هنا إلا أن أقول لأبي حيان ما قاله أبو حيان نفسه لابن عطية من أن دلالة (أفلا تتفكرون) على العرض والتحضيض إنما هو من حيث المعنى لا من حيث مدلول اللفظ؛ لأن مدلول (أفلا) غير مدلول (ألا) التي للحثّ والحض.
وقد تقدّم قبل قليل بيان ذلك وسببه.
الاستفهام الثالث: (أولا يذكر الإنسان) وقد جاء في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وََلمْ يَكُ شَيْئاً} . الآيتان: (66-67) من سورة مريم.
تتضمن الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين أن الإنسان الكافر المنكر للبعث يقول لن أخرج حيا من القبر بعد أن أكون قد متُّ وأصبحتُ عظاما بالية، إن هذا لن يكون.(30/254)
وقد تضمنت الآية الثانية الرد على هذا بأن الله سبحانه وتعالى قد خلقه وأنشأه في هذه الحياة الدنيا ولم يك شيئاً قبل ذلك، فكيف ينكر قدرة الله تعالى أن يعيد خلقه وأن يبعثه من قبره إن الإنسان الذي يذّكرّ ويتبصر ّويفكر ّليرى بلا ريب أن الذي قدر على خلق الإنسان وإبداعه في هذه الدنيا قادر على أن يعيد خلقه يوم القيامة.
وقد جاء هذا الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وََلمْ يَكُ شَيْئاً} جاء مفيداً الإنكار والتوبيخ والتعجب.
أنكر الله سبحَانه وتعالى على هذا الإنسان الذي لا يؤمن بالبعث يوم القيامة ووبَّخه أن لا يذّكرّ ويتبصر، ويتفكر أن خلق الله تعالىَ إياه أول مرة ولم يك شيئا من قبل يدل دلالة بيّنة على قدرة الله تعالى على خلقه مرة ثانية.
ويفيد هذا الاستفهام التعجب على معنى كيف يعجز الله سبحانه وتعالى عن إعادة خلقك أيها الإنسان بعد موتك، وقد خلقك من قبل ذلك ولم تك شيئا.
وقد أعرب الزمخشري الواو في (أولا يذكر) عاطفة عطفت (لا يذكر) على (يقول) الواردة في الآية المتقدمة على هذه الآية، وقد وسّطت همزة الاستفهام بين المعطوف وواو العطف.(30/255)
وهذا من المواضع التي رجع فيها الزمخشري إلى مذهب سيبويه والجمهور، وهو أنّ حرف العطف إذا تقدمته همزة الاستفهام فإنه يعطف ما بعدها على ما قبلها، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصلح أن يعطف عليه, وإعراب (ولم يك شيئا) : الواو حاليا، و (لم) نافية جازمة، و (يك) مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، وهذا الفعل المضارع يأتي ناقصاً كماضيه، يرفع المبتدأ على أنه اسمه وينصب الخبر على أنه خبره، فالضمير المستتر فيه العائد على الإنسان اسمه، و (شيئاً) منصوب على أنه خبره، وجملة (ولم يك شيئا) في محل نصب حال من الهاء في (خلقناه) ، والرابط الواو والضمير المستتر في (يك) معا.
الاستفهام الرابع: (أفلا يؤمنون) وقد جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} . الآية (30) من سورة الأنبياء.
اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى في هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} .
فقال الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بالله بأبصار قلوبهم فيرَوا بها ويعلموا أن السموات والأرض كانتا رتقا, يقول: ليس فيهما ثقب بل كانتا ملتصقتين، ... وقوله: (ففتقناهما) يقول: فصدعناهما وفرجناهما"اهـ. وقال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) : "وقالت فرقة: "السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق، ففتقناهما بالمطر والنبات. قال ابن عطية: "وهذا قول حسن، ويناسب قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} أي من الماء الذي أوجده الفتق"اهـ.(30/256)
وعلى الرأي الأول الذي قاله الطبري تكون الرؤية في {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} علمية، وعلى الرأي الثاني الذي ذكره أبو حيان وحسّنه ابن عطية تكون الرؤية بصرية.
أما تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فقد أفاد أبو حيان أن (جعلنا) إن كانت بمعنى خلقنا فالمعنى: وخلقنا من الماء كل حيوان، وإن كانت بمعنى صيرنا فالمعنى: وصيرنا كل شيء حيٍّ بسبب من الماء لابد له منه.
وأما الاستفهام (أفلا يؤمنون) الذي جاء في ختام هذه الآية فهو استفهام إنكار وتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على الذين كفروا ويوبخهم أن لا يؤمنوا بألوهية من قدر على ما تضمنته هذه الآية من فتق السماوات والأرض وإنزال الغيث من السماء وإخراج النبات من الأرض وخلق كل حيوان من الماء، فيفردوه بالعبادة ولا يشركون به شيئا.
الاستفهام الخامس: (ألا تحبون) وقد جاء في قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (22) من سورة النور.
مما تضمنته هذه الآية الكريمة: لا يحلف الذين آتاهم الله فضلا منه وسعة رزق لا يحلفوا بالله أن لا يعطوا ذوي قراباتهم والمساكين المهاجرين من ديارهم وأموالهم في سبيل الله، وليعفوا عما كان منهم من جرم، وليتركوا ما يعاقبونهم به من حرمانهم ما كانوا يعطونهم إياه من قبل.(30/257)
ومما جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: "وهذه الآية نزلت في الصدّيق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبداً بعد ما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال ... فلما أنزل الله براءة عائشة أم المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه شرع تبارك وتعالى -وله المنة والفضل- يعطّف الصدّيق على قريبه مسطح، وكان ابن خالة الصدّيق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} الآية ... فعند ذلك قال الصدّيق: "بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا"، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال: "والله لا أنزعها منه أبدا ... ". اهـ تفسير ابن كثير مع حذف بعض الكلمات والجمل.
وهذا الاستفهام {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} يفيد التعطيف؛ تعطيف أبي بكر رضي الله عنه على ابن خالته مسطح بعد أن تاب ونال العقاب، ويفيد أيضاً الترغيب ترغيب أبي بكر رضي الله عنه في مغفرة الله الغفور الرحيم برجع ما كان يصل به مسطحاً من نفقة. والآية تعم كل من كان متصفاً بهذا الوصف الذي تضمنته هذه الآية الكريمة وإن كان سبب نزولها خاصا.
والذي دل على أن (ألا) في {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} ليست للتحضيض، وإنما هي همزة الاستفهام دخلت على (لا) النافية، الذي دل على ذلك هو جواب الصديق رضي الله عنه بقوله: (بلى) , و (بلى) لا يجاب بها إلا النفي.
الاستفهام السادس: (ألا تستمعون) وقد جاء في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} الآيات: (23-25) من سورة الشعراء.(30/258)
بعد أن قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: إنا رسول رب العالمين، وبعد محاورة موسى لفرعون (قد سبق بيانها وتفصيلها في الرسالة التاسعة من هذه الرسائل حين تحدثت عن استفهام (ألم نربك فينا وليدا) بعد ذلك {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فأجابه موسى {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} فلما سمع فرعون هذا الجواب التفت إلى من حوله من أشراف قومه ورؤساء دولته قائلا: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} وهو استفهام تهكّم واستهزاء بموسى عليه السلام وتكذيب له فيما قاله وتعجيب لمن حوله من جواب موسى عليه السلام الدال على أنّ لهم إلها غير فرعون.
الاستفهام السابع: (ألا يظن) في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . الآيات: (1-6) من سورة المطففين.
في هذه الآيات الكريمة يتوعد الله سبحانه وتعالى بالعذاب الشديد المطففين الذين إذا استوفوا حقهم من الناس بالمكيال يستوفونه وافراً تاماً، وإذا أدّوا حق الناس الذي هو عليهم، إذا أدّوا بالمكيال أو الميزان أنقصوا في الكيل والوزن ولم يعطوهم حقوقهم كاملة.(30/259)
وبعد أن توعد الله سبحانه وتعالى المطففين بسوء العذاب قال: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا الاستفهام (ألا يظن) استفهام إنكار وتوبيخ وتعجب: ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك المطفّفين ويوبّخهم أن لا يظنوا ويوقنوا أنهم مبعوثون فمسؤولون عما يفعلون يوم القيامة العظيم الشأن والهول، يوم يخضع الناس ويقفون خشّعا لله رب العالمين، ولو أنهم ظنوا وأيقنوا ما نقصوا في كيل ولا وزن، ولخشوا عاقبة ذلك، وأعطوا الناس حقّهم موفوراً.
وهذا الاستفهام يفيد أيضاً التعجّب على معنى: كيف يجرءون على ذلك كأنما لا يخطر لهم إثمه على بال، ولا يلمّ بعقباه ظن؟!!.
الاستفهام الثامن: (أفلا ينظرون) وقد جاء في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اْلإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى اْلأََرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} . الآيات (17- 20) من سورة الغاشية.
تضمنت الآيات الكريمة المتقدمة على استفهام {أَفَلا يَنْظُرُونَ} تضمنت ما يلاقيه الكافرون يوم القيامة من عذاب ونكال، وما يلاقيه المؤمنون من نعيم وتكريم، ثم جاء هذا الاستفهام {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اْلإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى اْلأََرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} جاء منكراً موبّخا كفارَ مكةَ الذين كذّبوا بيوم القيامة وأنكروا قدرة الله سبحانه وتعالى على أن يبعث الأموات أحياء في ذلك اليوم العظيم.(30/260)
أنكر عليهم ووبّخهم أن لا ينظروا بعيونهم نظراً يصحبه التدبر والتفكر والاعتبار إلى هذه الإبل كيف خلقت خلقاً بديعاً فريداً لم يأت على سنن غيرها من الحيوان الداجن: فلحمهَا يؤكل، ولبنها يشرب، وفي أوبارها وجلودها منافع كثيرة، ثم هي ركائب أسفار طويلة مضنية، وحاملات أثقال إلى بلاد دانية ونائية، صبور على الجوع والعطش أياما وليالي، طعامها سهل المنال، وقيادها هيّن لينّ لا يعرف جماحا ولا نفورا.
وإلى السماء كيف رفعت من فوقهم عالية بعيدة في علاها، لا تقوم على عمد، وليس فيها من فطور، زانها القمر والشمس والنجوم، فما أجمل وما أروع وما أعظم!!.
وإلى الجبال كيف نصبت من فوق الأرض أشكالا عجيبة وأحجاما غريبة وألوانا مختلفة، منها ما يملأ النفس بهجة وسرورا, ومنها ما يملأ القلب هيبة وجلالا، ومنها ما هو جمال ومتاع، ومنها هو رعب وخوف وفزع، بعضها أجرد أقرع عريان عابس، وبعضها مكسوّ بالشجر والزهر والنبات الأخضر، من قممها تتفجر الأنهار، وعلى سفوحها تسيل العيون.
وإلى الأرض كيف سطحت، فقطع خضر لا يمل منها بصر، وصحارى واسعة تحبو على وجهها الرمال، وتطير في أجوائها العواصف، وأنهار تدفّق فيتدفق على ضفافها المدن العامرة والجنان الناضرة، وعيون جارية فتجري الحياة في النبت والأنعام وبني آدم، وبحيرات في جنبات الأرض صغيرة وكبيرة، وجزر كثيرة هنا وهناك مبعثرة، وأبحر ومحيطات يطول في أوصافها ومنافعها وألوان جمالها الحديث والبيان.
إن الأعين التي تنظر، والقلوب التي تبصر، والعقول التي تفكر وتعتبر، إنها لو نظرت بتأمل، وأبصرت بتدبر، وفكرت بدقة وعمق لأدركت أن القادر على خلق هذه الأشياء التي لا ينظر إليها كفار مكة بتدبر وتفكر قادر على إخراجهم وإخراج الناس جميعا أحياء يوم القيامة وإدخال المنكرين منهم نار جنهم وبئس المصير.(30/261)
وإعراب كلمات هذا الاستفهام سهل واضح ومع ذلك أعرب لك (كيف خلقت) : (كيف) اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال، وصاحب الحال الضمير المستتر في خلقت العائد على الإبل وهو نائب الفاعل للفعل الماضي المبني للمجهول: (خلق) , والتاء تاء التأنيث حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب, وجملة (كيف خلقت) في محل جر بدل اشتمال من الإبل، والمعنى أفلا ينظرون إلىَ الإبل كيفية خلقها.
أختي العزيزة:
بهذا الذي قد مضى ينتهي حديثي إليك عن همزة الاستفهام الداخلة على (لا) النافية للفعل المضارع، على أنه قد بقي في هذه الرسالة أن أحدثّك عن همزة الاستفهام الداخلة على (لن) النافية الناصبة لهذا الفعل، وهو حديث قصير، فإنّ همزة الاستفهام هذه لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، وكان ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} . الآيات (123-125) من آل عمران.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين الذين كانوا معه في يوم بدر: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} .
وكان هذا الاستفهام للتقرير ولطمأنة قلوب المؤمنين، ومعنى التقرير هنا طلب الاعتراف من المؤمنين بما تضمنه السؤال: إما بالإيجاب وإما بالسلب.(30/262)
ولما كان من الواضح البينّ أن هذا العدد من الملائكة فيه الكفاية بادر السائل نفسه صلى الله عليه وسلم إلى الإجابة بدلا من المؤمنين فقال: (بلى) أي إن هؤلاء الملائكة يكفون.
ويحسن هذا الأسلوب وهو أن يقوم السائل نفسه بالإجابة عن سؤاله، يحسن في الأمور البينة التي لا مجال لاختلاف الجواب فيها كهذا الذي ذكر وكما في قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} .
أختي العزيزة:
بهذا تنتهي رسالتي هذه إليك وينتهي حديثي عن همزة الاستفهام الداخلة على الأدوات النافية للفعل المضارع: على (لم) وعلى (لا) وعلى (لن) .
سوف أحدثك في الرسالة القادمة إن شاء الله عن همزة الاستفهام الداخلة على أدوات الشرط، أسأله تعالى أن يعين وأن يسدد الخطا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك:
همزة الاستفهام
مراجع ما جاء في هذه الرسالة:
أ- المراجع على وجه الإجمال:
1- تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري- الطبعة الثالثة- الناشر: الحلبي بمصر.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي- الناشر: مكتبة ومطبعة النصر الحديثة بالرياض.
3- تفسير أبي السعود - الناشر: دار المصحف- مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
4- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين- الناشر: الحلبي بمصر.
5- تفسير ابن كَثير- الناشر: الحلبي بمصر.
6- تفسير الكشاف للزمخشري- الناشر: الحلبي بمصر.
7- تفسير القرطبي -نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية- الناشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
8- تفسير الفخر الرازي - الطبعة الثانية- الناشر: دار الكتب العلمية بطهران.
9- إملاء ما منّ به الرحمن لأبي البقاء العكبري - الطبعة الأولى- الناشر: الحلبي بمصر.(30/263)
10- مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري -تحقيق الدكتور مازن المبارك وزميله- الطبعة الثانية, الناشر: دار الفكر.
ب: المراجع على وجه التفصيل:
1- الآية: (126) التوبة: الطبري: (ج11 ص 73) . أبو حيان: (ج5 ص116) . أبو السعود: (ج4 ص113) . الفتوحات: (ج2 ص 330) .
2- الآيتان (58-59) يوسف: الطبري: (ج13 ص 8) . الفتوحات: (ج2 ص465) . أبو حيان (ج 5 ص 321) أبو السعود: (ج4 ص 288) . ابن كثير: (ج2 ص 483) .
3- الآية (89) طه: الطبري: (ج16 ص 202) . الفتوحات: (ج3 ص 108) . أبو السعود: (ج 6ص 36) .
4- الآية: (44) الأنبياء: الطبري: (ج17 ص31) . الفتوحات: (ج6 ص315) العكبري: (ج2 ص 65) .
5- الآية (72) القصص: الطبري: (ج20 ص103) . الزمخشري: (ج3 ص189) .
6- الآية (27) السجدة: الطبري: (ج21 ص114) .الفتوحات: (ج3 ص420) . أبو حيان: (ج7 ص205) . ابن كثير: (ج 3 ص 463) .
7- الآيتان (51-52) الزخرف: الطبري: (ج25 ص80) . أبو السعود: (ج8 ص50) . ابن كثير: (ج4 ص 129) .
8- الآيتان (20- 21) الذاريات: الطبري: (ج26 ص (204) . أبو حيان: (ج8 ص 136) . ابن كثير (ج4 ص235) .
9- الآيتان (76-77) البقرة: الطبري: (ج1 ص369) . أبو حيان: (ج1 ص274) . أبو السعود: (ج1 ص 118) . الفتوحات: (ج1 ص 68) .
10- الآيتان: (13-14) الملك: الطبري: (ج29 ص6) . أبو حيان: (ج8 ص301
) .أبو السعود: (ج9 ص6) . الفتوحات: (ج4 ص377) .
11- الآيات: (6-11) العاديات: الطبري: (ج30 ص280) . أبو حيان: (ج8 ص 505) . الفتوحات: (ج4 ص577) . أبو السعود: (ج9 ص191) . ابن كثير: (ج4 ص542) . العكبري: (ج2 ص292) . 4
2 1- الآية (82) النساء: الطبري: (ج5 ص179) . أبو حيان: (ج3 ص304) . أبو السعود: (ج2 ص207) .
13- الآية: (24) محمد: الطبري: (ج26 ص57) . أبو حيان: (ج8 ص83) . أبو السعود (ج8 ص99) .(30/264)
14- الآيات (33-35) ياسين: الطبري: (ج23 ص4) . أبو السعود (ج7 ص166) . ابن كثير (ج3 ص 575) .
5 1- الآيات: (71-73) ياسين: الطبري: (ج 23 ص 28) ابن كثير: (ج 3 ص 0 58) .
6 1- الآيات: (85ـ 96) الصافات: الطبري: (ج 23 ص 72) أبو السعود: (ج 7 ص 198) القرطبي: (ج 15ص94) .
17- الآيات (24! 2) الذاريات: الطبري: (ج 26 ص 208) أبو حيان: (ج 8 ص 139) أبو السعود: (ج 8 ص 140) الفتوحات (ج 4 ص 205) .
18- الآية (50) الأنعام: أبو حيان: (ج4 ص133) . أبو السعود: (ج3 ص 137) الرازي: (ج12 ص230) . الفتوحات: (ج2 ص32) .
19- الآيتان: (73-74) المائدة: أبو حيان: (ج3 ص536) . أبو السعود: (ج3 ص67) .
20- الآيتان: (66-67) مريم: الطبري: (ج16 ص106) . أبو حيان: (ج6 ص205) . أبو السعود: (ج5 ص274) . الزمخشري: (ج2 ص 528) .
21- الآية (30) الأنبياء: الطبري: (ج17 ص19) . أبو حيان: (ج6 ص307) . أبو السعود: (ج6 ص 65) .
22- الآية: (22) النور: الطبري: (ج18 ص101) . ابن كثير: (ج3 ص276) . أبو حيان: (ج6 ص440) . أبو السعود: (ج6 ص165) .
23- الآيات: (23-25) الشعراء: ابن كثير: (ج3 ص333) . أبو السعود: (ج6 ص239) . أبو حيان: (ج7 ص12) .
24- الآيات: (1-6) المطففين: الطبري: (ج3 ص90) . أبو حيان: (ج8 ص 438) . أبو السعود: (ج9 ص124) . الفتوحات: (ج4 ص502) القرطبي: (ج19 ص254) .
25- الآيات: (17-20) الغاشية: الطبري: (ج30 ص165) . أبو حيان: (ج8 ص464) . أبو السعود: (ج9 ص150) الفتوحات: (ج4 ص527) . القرطبي: (ج20 ص34) . الزمخشري: (ج4 ص247) . المغني لابن هشام: (ج1 ص227) .
26- الآيات: (123-125) آل عمران: أبو حيان: (ج3 ص50) . الزمخشري: (ج1 ص 461) . الفتوحات: (ج1 ص311) .
27- الآية (71) القصص: الطبري: (ج20 ص103) . أبو السعود: (ج7 ص23) (الفتوحات ج3 ص 358) .(30/265)
28- الآية (26) السجدة: الطبري: (ج 21 ص113) أبو السعود: (ج7 ص87) .(30/266)
الأدب الإسلامي.. وعلاقته بالمجتمع والحياة
د. نجيب الكيلاني
عالجت كتب الدراسات الأدبية ذلك الموضوع القديم والجديد معاً، ألا وهو علاقة الأدب (أو الأديب) بالحياة. وعندما نقرأ آراء النقاد البارزين ومؤرخي الأدب، وروّاد المدارس الأدبية المختلفة، ندرك أنهم يقتربون كثيراً في مفاهيمهم العامة، وان بدت الخلافات عميقة جداً في بعض الأحيان، كما يحدث بين الكلاسيكيين والرومانسيين مثلاً، أو كما يحدث بين الواقعيين والرمزيين، لكن يظل الأدب دائما وأبداً وثيق الصلة بالحياة، سواء احتفي بالعقل كما هو عند الرومانسيين، أو ركز على العاطفة مثلما يحدث لدى الرومانسيين، وسواء ارتبط بالواقع المحسوس الملموس، أو اهتم بالمثاليات والغيبيات والسمو الروحي كالذي يفعله الرمزيون، فلكل أديب حياته الخاصة والعامة، وله معتقداته التي يؤمن بها.
ما نريد أن نقوله أن الحياة واسعة وعميقة، وهي تشمل ما هو داخلُ "الذات "أو خارجها، وتنصهر في بوتقتها المظاهر العديدة، والثقافات المتنوعة، والتقاليد الراسخة، والمعتقدات المتباينة، والحياة في حركة موارة دائبة، تزدحم بالأحداث، وترتج بالصراعات، وتضطرم بالانفعالات والتفاعلات الصاخبة، ومما لا شك فيه أن كل عصر يترك بصماته على البيئات، ويؤثر على الأفراد والجماعات, وبإيجاز كبير فإن مادة الحياة غنية، بحيث يجد الأديب -أيّ أديب مهما كان منزعه- العناصر اللازمة لعمله الفني، وفقاً لمزاجه وتصوراته ومعتقداته وأهدافه.(30/267)
الأديب إذن يستمد من الحياة، وينهض أدبه وينمو ويتحرك بما فيه من عناصر تلك الحياة، باعتبار الأديب كائناً حياً. ويؤثر ذلك الأدب تأثيراًَ متفاوتاً في الأفراد والجماعات، فلكم سمعنا أو قرأنا عن أديب أو كتاب معين ساهم في دفع الحياة وتوجيهها، وكان سبباً في حركة تغيير كبيرة، وقد يتناول التغيير أو التأثير مستويات ثقافية بعينها، أو يتناول القاعدة الشعبية العريضة ككل..
وإذا كان الأدب -كما يقال- تعبير عن الحياة وسيلته اللغة، إلا أنه لا يقدم لنا صوراً فوتوغرافية، أو فعلاً حرفياً لتلك الحياة، "لكنه يعبر عنها أو يفسرها أو ينقدها، أو ينقل إلينا فهم الأديب للحياة"، فضلاً عن عملية التأثير في المتلقي، إذ أنها هدف أساسي وإيجابي للأديب الجاد.
من هنا نستطيع أن نقول إن الأديب الحق هو الأديب الذي يتخذ موقفاً عقائدياً أو فكرياً من المجتمع، ويؤثر في ذلك المجتمع، وهكذا نرى أن اختيار الأديب لموقفه الفكري أو لمضمون عمله الأدبي إنما يستند على دعامتين، أساسيتين:
الأولى: المعتقد الفكري للأديب:
الثانية: التشخيص الصحيح لمشاكل المجتمع وسلبياته واحتياجاته والأسلوب الأمثل لحركته الشاملة.
الارتباط بين الدعامتين ارتباط عضوي، ومن ثمّ من الصعب الفصل بينهما، لما بين الدعامتين من علاقة متبادلة، وتأثير متبادل أيضا.(30/268)
والأدب الإسلامي يتواءم مع هذه المفاهيم الاجتماعية للأدب، بل إن هذه العلاقة بين الأدب والحياة، أو الأدب والمجتمع، علاقة واضحة في فكر الأديب المسلم، الذي يدرك أبعاد رسالته، ويعي تجاربه الحضارية، ويفهم التلاحم الوثيق بين المبادئ الإسلامية وحركة الحياة على مدار العصور، ولقد حفل الفكر الإسلامي بعناصر القوة والتجدد والحركة والابتكار طوال حقب التاريخ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت تلك الحركة العلمية، والتراث الفكري، واتصال عملية الاجتهاد والتجاوب مع ما يجدّ من أحداث الحياة وصورها، ولما ساهمت هذه الأصول الحضارية في إثراء الفكر الغربي، وإثارة الحماسة لنهضته الحديث، ولا ما فتحت الثقافة الإسلامية من قبل نوافذها وأبوابها أمام ترجمات التراث العالمي من اليونان والهند وفارس وغيرها، ولما قامت بحركة التقييم والتصحيح لما انحرف من هذا التراث القديم، أو ضل الطريق، ومن ثم أخرجت فكراً إسلاميا مؤثراً متميّزا مازال يتألّق بروائعه، في شتى الفروع، حتى عصرنا هذا ...
والأدب الإسلامي، تحت مظلة العقيدة الإسلامية الشاملة، يهدف أول ما يهدف إلى تكوين الفرد المسلم، ثم المجتمع المسلم، ويهتم بكل صغيرة وكبيرة للأفراد والجماعات، ويتمثل أمراضهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويثير في النفوس الرغبة للعمل الجاد، والبناء الصامد، ويجعل من ذلك العمل قيمة لا تقل عن العبادة، بل
ويجعل من التفكير والتأمل أيضاً فرعاً من العبادة "لا عبادة كالتفكر"، وبمارس في الواقع فعل الخيرات والتمسك بالإيثار والحب والعدل، ومحاربة الرذائل والمفاسد والمظالم، وصور الاستغلال والتحلل والإباحية، ويربط حياة الفرد، وحركة الجماعة بآداب ونظم وشرائع محكمة، هي مقياس الإيمان الصحيح، والطريق إلى مرضاة الله.(30/269)
ذلك هو المضمون الفكري للأدب الإسلامي، سواء أكان قصة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة أو فيلماً سينمائياً أو تليفزيونياً، ويخطئ من يظن أن الأدب الإسلامي الصحيح ينافق المجتمع، أو يماليء السلطات الجائرَة، أو يعتصم بالجمود والتخلف والرجعية الفاسدة، أو يعتسف حلولاً لقضايا الناس وعللهم لا تمتّ إلى الواقع بصلة، فالعلاقة بين المعتقدات وبين حركة الحياة كما قلنا علاقة فهم وتبادل، وليست علاقة جهل أو تعسف.
والمسلم الحق لا يعيش في برج عاجي، أو يعتزل موكب الحياة الصاخب، فهو عامل وصانع ومفكر وعالم وطبيب ومهندس وفلاح وحرفي، وهو باحث اجتماعي، وقوة سياسية فاعلة، وباحث نفسي متعمق، والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يكون لبناته أفراد مسلمون، لكن هذا الذوبان الاجتماعي، لا يلغي شخصية الفرد المسلم، ولا يقضي على تميّزه أو فرديته، ورحم الله الشاعر الفيلسوف محمد إقبال إذ يقول في إحدى قصائده:
وهو في الحشد طليق.
هو في المجمع خالٍ:
حفل: فريد ورفيق
مثل شمع الحفل في ال(30/270)
وإذا تعمّقنا هذا التصور تعمقاً صحيحاً، نجد أن الأدب كقيمة اجتماعية، هو في الواقع قيمة إسلامية، نعم قيمة إسلامية من ناحية المضمون الفكري، ومن ناحية المجتمع الإسلامي المثالي الذي ينشده ذلك الأدب الإسلامي، ولا افتئات في ذلك، أو مجافاة لواقع الحَياة وحقيقتها، وعلى الرغم من نشوء تيَارات وفلسفات فكرية مخالفة في المجتمعات الإسلامية، وفي المجتمعات الشرقية أو الغربية، إلا أن التيار الإسلامي يبقى راسخاً صامداً، يواجه تلك النزعات المنحرفة، على ضوء التجارب التاريخية وَالمعاصرة، ومن خلال الممارسات التي أفرزت الكثير من الكوارث العالمية، على صعيد السياسة والأخلاق والاقتصاد، إنّ مجتمعا كالمجتمع الأمريكي تحدث فيه جريمة كل ثلاث ثوان، يعني أن ذلك المجتمع والمجتمعات المشابهة له تقف على أبواب فاجعة كبرى، وهناك ملايين الأطفال الذين يموتون جوعاً، في الوقت الذي تقذف فيه الدول الغنية بملايين الأطنان من المواد الغذائية في البحار، للحفاظ على السعر المرتفع لتجاراتها، وهناك الحروب العنصرية، والمجازر الطائفية في الهند وأفغانستان والفلبين وآسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا ...
فليس بدعاً أن يقف الأدب الإسلامي في هذا العصر، ويدين بقوة تلك المآسي المدمرة، ويحاول -عبر الأشكال الفَنية المستحدثة- أن يفسر ويحلل وينقد ويؤثر، ويزرع الأمل في النفوس، موحيا إليهم بالحياة الفاضلة التي دعا إليها الإسلام، وإلى التجربة الحضارية الفذة لعصور الإِسلام المزدهرة.
فهل إذا أدّى الأدب الإسلامي هذه الرسالة يكون منافياً لروح العصر؟؟.
أو يكون مجافياً لاحتياجات الواقع الاجتماعي؟؟.
أو يكون متعسفاً وجائراً عندما يقدّم الحل الإسلامي؟؟.(30/271)
إنّ صدق التعبير لا يعني الرضا بالواقع المرير، وتكريس ما هو كائن، والسير في ركاب الانحراف بحجة العصرية والحرية؟؟ إنّ تجسيد تلك المأساة على أسس ومقاييس إلهية موضوعية هو الصدق، وإن شفاء الأرواح والقلوب والعقول هدف أسمى، وبداية صحيحة، وإن إزالة الأنقاض والخرائب، تمهيداً لبناء صحي شامخ هو الحل، ولما يوظف الأدب الإسلامي الصحيح في تأديب العنصرية والطبقية والإباحية، لكنه دائماً وأبدا مشعل حق، ومبعث هداية وعامل بناء وسعادة ورفاهية وطاعة، وتآلف وتراحم.
إنّ الأوضاع الراهنة قد توحي بالحسرة بل واليأس أحياناً، فالفساد قد تسلح بمختلف الأسلحة الحديثة من فكر وإعلام وفيالق مدربة وقوى خفية تعمل من وراء ستار، وأنوار النيون البراقة قد غطّت على سمات الفضيلة, والحب والمغريات قد غزت عقول الناس وأرواحهم، فتحوّلت الأشواق العلوية إلى مطالب مادية، وملذات جسديه، واحتفت الآداب العالمية بالغرائز وعنفها واشتعالها، وركزّت على إشباع الرغبات الرخيصة، وأنماط الحياة المترهلة الكسلى، والمتع الزائلة، وأصبح ذلك كله هدفاً في حد ذاته. وهذا ليس بجديد على تاريخ البشرية، فالناظر في صفحات الماضي، سوف يجد مثيلاً أو شبيهاً له فيما مضى من حضارات ومدنيات وأحداث، ولا يصح أن نخدع باختلاف العصر والأسماء والأزياء ووسائل الحرب والحياة الجديدة.
لكن يبقى أن يكون الأدب الإسلامي كما نقول دائماً، على وعي كامل بنشوء تلك الظواهر الشاذة، وأسباب تلك الأَمراض الاجتماعية وأعراضها، وأن يكون لديه حصيلة كافية من الممارسات والتجارب ومختلف الثقافات، حتى يلعب دوره الاجتماعي -أعني الديني- عن وعي وبصيرة، وأن يكون نداً لحملة الأقلام في أي موقع، محلياً كان أم عالمياً، ولسوف يجد الأديب الإسلامي حافزاً قوياً، يحرّك مشاعره، ويجلي موهبته، وينشط(30/272)
فكره: وليترنم دائماً بذلك التعبير القرآني الإلهي: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَه, ُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . (الأنعام: 162- 163) .
إن أحد نقادنا الكبار -د. عز الدين إسماعيل- يقول "مؤلفات كبار الكتاب تهدي إلى السلوك بأوسع معانيه، لأنها تكشف عن النظام الدقيق، وعن الحكمة والتوافق بين العناصر المختلفة، وألا تبدد الحياة أجزاء لا معنى لها. والعمل الأدبي يرتاد بنا الحياة ويخلق بيننا وبينها علاقات جديدة من الفهم والمعرفة ... ".
والآن أهناك شك في أن التزام أدبنا المعاصر بالإسلام تشريف لهذا الأدب، وسمو بتلك المجتمعات التي عانت وتعاني مرارة القهر واليأس والحرمان منذ سنوات طويلة؟؟.
تعلموا العلم
روي عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- أنه قال:
"تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلم صدقة وبذله لأهله قربة.
وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على الدين، والمصبّر على البأساء والضراء.
يرفع الله به أقواما, فيجعلهم في الخير قادة سادة, هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير، تقتصى آثارهم وترمق أفعالهم…
يبلغ العبد به منازل الأبرار والدرجات العلا، والتفكر فيه يعدل بالصيام, ومدارسته بالقيام ...
به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد, وبه يوحد ويمجد، وبه يتورع, وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام ...
وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعدية ويحرمه الأشقياء ... "(30/273)
صفحة لغة
لا تقل.. وقل
للأستاذ الدكتور: عبد العظيم علي الشناوي
رئيس قسم اللغويات بالجامعة
ملحوظة: قد يجوز في بعض اللهجات بعض ما منعناه, ولكن النحويين أهملوا تلك اللهجات لأنها لم تأخذ مكانها ف الأساليب العربية الفصيحة الواردة عن جمهور العرب.
وقل: فتاة غيور
لا تقل: فتاة غيورة
وقل: امرأة صبور
ولا تقل: امرأة صبورة
وقل: هي طموح
ولا تقل: هي طموحة
وذلك لأن (فعولا) بمعنى (فاعل) لا يقبل التاء ولو كان وصفا لمؤنث.
قال ابن مالك: "ولا تلي فارقة فعولا أصلا".
أي أن التاء لا تلي فعولا فارقة بين المؤنث والمذكر إن كان أصلا أي بمعنى فاعل, فإن كان فعول بمعنى مفعول وجاء وصفا لمؤنث جاز دخول التاء وعدم دخولها نحو ناقة ركوب وركوبة, وشاة حلوب وحلوبة.
وقس على ما ذكرنا فلا تقل: معدة هضومة وقل: معدة هضوم, وهكذا.
وقل: نحن فُخرُ.
لا تقل: نحن فخورون
وقل: نحن صُبرُ.
ولا تقل: نحن صبورون
وقل: نحن غُيُر.
ولا تقل: نحن غيورون
ذلك لأنه يشترط في الصفة التي تجمع جمع مذكر سالما قبول التاء, وفعول بمعنى فاعل لا يقبل التاء -كما عرفت- فلا يجمع جمع مذكر سالما, وإنما يجمع جمع تكسير على فُعُل, كقول الصحابي: "نحن صبُرُ عند اللقاء, صدق في المقال", وقول الشاعر:
غُفُر ذنبهم غير فُخُر
ثم زادوا أنهم في قومهم
وقل: امرأة غضبى.
لا تقل: امرأة غضبانة
وقل: امرأة سكرى.
ولا تقل: امرأة سكرانة
وقل: امرأة عطشى.
ولا تقل: امرأة عطشانة
وذلك لأن جمهور العرب لم يؤنث فعلان صفة بالتاء وإنما أنثه بالألف كما مثلنا:
وقل: هم سُكارى أو سكرى.
لا تقل: هم سكرانون
وقل: هم غضابى أو غضبى أو غِضاب.
ولا تقل: هم غضبانون
وقل: نحن عِطاش.
ولا تقل: نحن عطشانون(30/274)
وذلك لأن هذه الصفة لا تقبل التاء فلا تجمع جمع مذكر سالما. وقد عرفت ذلك آنفاً.
وهذا وبالله التوفيق،،،(30/275)
غريب يبحث عن غريب
للشيخ محمد بن عبد الله زربان الغامدي
مدير المعهد الثانوي التابع للجامعة
والحب تطلبه النفوس وتقبل
العشق يسكن في القلوب فيقتل
حينًا فتمسكها وحينًا ترسل
وتصارع الأشواق في سكراتها
يسعى إليها جاهداً ويهرول
كل يروم محبة لينالها
ضل الطريق إلى الحبيب فيفشل
يفني الحياة لأجلها ولربما
يتلمس الأعوان فيه فيخذل
فيظل طول طريقه متعثراً
هو في فؤادي ساكن متغلغل
أنا لي حبيب حبه في مهجتي
من نبعه الصافي دواما أنهل
هو راحتي هو قوتي هو عزتي
كالأمس يدنو للمحب ويقبل
يا صاح ما بال الحبيب فلم يعد
أتراه يتركنا وعنا يرحل
قد غاب عن عيني سوى أطيافه
ونسير بين العالمين ونسأل
هيا بنا يا صاح نطلب إثره
فلعله فيها يقيم وينزل
أرني بلاد العرب فهو يحبها
فلعلنا نجد الحبيب فندخل
وأقصد بلاد الشام وأطرق بابها
إن قيل من هو قل إمام عادل
وأدخل دمشق فربما عمر بها
أو هل ترى القعقاع وهو يهلل
قف في ربا اليرموك هل ترى خالدا
كالأمس هاهي قد بدت تتبدل
ماذا دها الشام الحبيبة لم تعد
ولكم تشد لها الرحالَ وتنقل
لا تنس أولى القبلتين نزورها
أمروا إلى البلد الحرام تحولوا
صلى إليها المسلمون وحينما
أيدي اليهود الغاصبين مكبل
من يخبر الفاروق أن القدس في
عن عالم الإِسلام يومًا يعزل
ما كان يخطر للقلوب بأنه
إني لأذكره ودمعي يهطل
واليوم في لبنان ينزف للقلوب بأنه
من آمنين وكم نساء رملوا
كم من رضيع يتموه وخوفوا
ساموهمو سوء العذاب ونكلوا
عاثوا فسادًا في البلاد وأهلها
يا أمة الإسلام أمر مخجل
فإلى متى والذل فوق رقابنا
بغداده دار الرشيد ومنزل
هيا بنا نحو العراق فكان في(30/276)
في أي أرض شئت قطرك ينزل
من خاطب المزن الثقال بقوله
بالعدل يأتينا ولو لم نسأل
فلسوف يأتيني خراجك إنه
قد كان صحبته أقول تمهلوا
والقادسية هل ترى سعدا ومن
مما يشيب له الوليد ويذهل
حتى تروا ماذا جرى من بعدكم
قالوا رويدك قد مضى أفتجهل
وسألت أرض النيل هل عمرو بها
لاقيت فيها من أحب وأقبل
يا صاحبي عودًا إلى الحرمين إن
أنا لم أجدها بل إلي يخيل
يا رب هل أنا في بلاد العرب أم
هيا لأندلس ودعني أسال
ارحل بنا يا صاح نطلب غيرها
من ضيعوا الملك العظيم وأهملوا
يا أهل أندلس أجيبوا من همو
يدري حقيقتها فسارع يعمل
يا صاح عن أفريقيا أرأيت من
ظلمًا فمن لمصيرها يتحمل
أو يترك الباغي يعيث بأهلها
قد أعجز الإِلحاد شعب أعزل
هيا إلى الأفغان إن جهادهم
للمسلمين به الصعاب تذلل
لكنه الإِيمان أعظم قوة
فالجسم منها بالهزائم مثقلُ
كيف الخلاص لأمتي مما بها
والمستجيب لما سواه سيخذل
الله ينصر من يجيب لأمره
فالموت في أشلائها يتسللُ
كثرت مصائب أمتي فتمزقت
ح وزهرنا في كل يوم يذبل
في كل أرض نشتكي ألم الجرا
لكننا نحو الظلام نهرول
النور ننبذه ولاء ظهورها
والسنة الغرا كذاك وأغفلوا
يا ويل قوم ضيعوا قرآنهم
والنور والأحزاب والمزمل
ولسورة الأنعام فيها منهج
وهناك من يذكى الخلاف ويشعل
ساد الشقاق مع التفرق بينهم
في حضنهم وهدى المهيمن أكمل
ظنوا الكمال لدى العدل فتهافتوا
أقوى نظام للحياة وأشمل
وتلمسوا نظمًا تصاغ وفيهم
من بأسه وببعضهم قد أشغلوا
في كل يوم والعدو يذيقهم
فالله يجزى بالجميل ويجزل
يا أمة الإسلام هل من توبة
فالباب مفتوح فهيا فادخلوا
توبوا إلى الرحمن توبة صادق
للحق والأعدا تتزلزل(30/277)
أين الشباب اليوم هل من يقظة
عن جسم أمتنا الجريح ونغسل
ونزيل أدران الهزائم كلها
بالنصر يأتيكم فلا تستعجلوا
فترسموا نهج الرسول وأيقنوا
لله وجهتكم عليه توكلوا
وعلى المحجة فاستقيموا ولتكن
كم نكبة أسبابها المستعجل؟
وسلوا الثبات من المهيمن
وأكاد من ألم الحقيقة أقتل
وأقولها، والحزن يعصر مهجتي
الموت خير للجبان وأجمل
كم من خبايا في الزوايا إنما
إني أنا الإسلام يا من تسأل
يا صاحبي وأراك تسأل من أنا(30/278)
من تراثنا الشعري
للشاعر: أبي إسحاق إبراهيم الإلبيري الأندلسي
لقبيح ما يأتي فليس بِزَاكِ
من ليس بالباكي ولا المتباكي
ما عدّ في الأكياس من لَباكِ [1]
نادت بي الدنيا فقلْتُ لها: اقْصِري
منه امرؤ صَافاكِ أو دَاناكِ
ولما صفا عند الإلهِ ولا دنَا
ولو اهتديت لما انخدعت لِذاكِ
ما زلت خادعتي ببرق خُلَّب
وكأن به قد قُصَّ في أشْراكي [2]
قالت: أغرَّكَ من جناحك طوله
إلا وقد نصبت عليه شباكي
تالله ما في الأرض مَوْضعُ راحة
عان بها لا يرتجى لِفَكاك
طِرْ كيف شئت فأنت فيها واقع
فعليّ صرْعَتُهُ بغير عِراكِ [3]
من كان يصرع قرنه في معرك
ولقد بَطَشْتُ بذي السلاح الشَّاكي
ما أعرف العضب الصقيل ولا القنا
ولكم فتكت بأفتك الفُتَّاكِ
كم ضَيْغَمٍ عفرته بعرينه
أجزيت بالبغضاء من يَهْواكِ
فأجبتها متعجباً من غدرها
أسراك أو جرحاك أو صَرعاكِ
لأجلت عيني في بنيك فكلهم
قطعوا مدى أعمارهم بِقِلاَكِ [4]
لو قارَضوكِ على صنيعك فيهم
فتهافتوا حرصاً على حَلْواكِ [5]
طُمسَتْ عقولهم ونور قلوبهم
في الأرى حتى استؤصلوا بهَلاكِ [6]
فكأنهم مثل الذباب تساقطت
عطفاً عليه وأنت ما أقْسَاك
ولقد عهدنا الأم تلطف بابنها
إلا سَيُهْشَمُ في ثفال رَحاكِ [7]
ما فوق ظهرك قاِطنٌ أو ظاعنٌ
بين الضلوع فما أعَز دَواكِ
أنت السراب وأنت داء كامن
لله ربي أن أشق عَصاكِ [8]
يُعْصى الإله إذا أطعت وطاعتي
وعُقوقهنَّ محرم إلاّكِ!
فرض علينا برنا أماتنا(30/279)
سيَّان فقرك عندنا وغِناكِ
ما إن يدوم الفقر فيك ولا الغنى
قد باشروا بعد الحرير ثَراكِ [9]
أين الجبابرة الألى ورَياشُهُمْ
فتعوضوا منها رداء ردَاكِ
ولطالما رُدُّوا بأردية البها
فغدت مُسَجَّاةً بثوب دُجاكِ
كانت وجوههم كأقمار الدُّجا
رب الجميع، وقاهر الأمْلاكِ [10]
وعنت لقيوم السماوات العل
لزهدت فيك ولابْتَغَيتُ سِواكِ
وجلال ربي لو تصح عزائمي
وشددت إيماني بنقض عُراكِ
وأخذت زادي منك من عمل التقى
ولما رآني الله تحت لِواكِ
وحططت رحلي تحت ألوية الهدى
فترى بلا أرض ولا أفْلاك
مهلا عليك فسوف يلحقك الفنا
ليكون يرضى غير من أرضاكِ
ويعيدنا رب أمات جميعنا
إلا لبيب لم يزل يَشنْاكِ
والله ما المحبوب عند مليكه
يضحكن حبا للولي الباكي
هجر الغَواني واصلاً لعقائل
تبكي الهديل على غصون أراكِ
إني أرقت لهن لا لحمائم
تصفو وتحمد عيشة النّسّاكِ
لا عيش يصفو للملوك وإنما
عدد النجوم وعِدَّةَ الأمْلاكِ [11]
ومن الإلهِ على النبي صلاته
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أقصر (بهمزة القطع) : انتهى، وسهّلها الشاعر ضرورة.
[2] ضبطت الكاف من (أغرك) و (جناحك) بالكسر في الأصل المخطوط قلت. وانظر الخطاب بعد ذلك.
[3] القِرن بالكسر كفؤك في الشجاعة، أو هو عام.
[4] في الأساس: فلان يقارض الناس مقارضة: يلاحيهم ويواقعهم. وعن أبي الدرداء: "إن قارضت الناس قارضوك وإن تركتَهم لم يتركوك".
[5] في الأساس: طمس الأثر، وطمسته الريح.
[6] الأرى: العسل.(30/280)
[7] الثقال: الحجر االأسفل من الرحى.
[8] شق العصا: قال في القاموس. هي مخالفة جماعة الإسلام
[9] الرياش والريش (بمعنى) وهو اللباس والفاخر، ومنه قوله تعالى، {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى} .
[10] في التنزيل الحكيم (طه 20 /111) {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} والأملاك ج ملك.
[11] قلت: الظاهر من البيت أن يريد بالأملاك: الملائكة.وفي القاموس: الملك تجمع على ملائكة وملائك.(30/281)
الأقراص - الحبوب - الكبسول
Capsules pills tablets
صيدلي/ حمدي إبراهيم علي إبراهيم
مستشفي الجامعة الإسلامية
يمكن تعاطي العقاقير بطرق عديدة.
ويعتبر التعاطي عن طريق الفم هو أشهر هذه الطرق وأبسطها وكثرها أمناً, بل وأفضلها من الناحية الاقتصادية.
وهَناك بعض الاستثناءات النادرة التي نضطر فيها إلى أخذ الدواء عن طريق آخر.
فقد يتأثر العقار بإفرازات المعدة ويعتبر غير ذي فعالية كما في الأنسولين insulin والأدرينالين adrenaline.. وبعض الأدوية بالرغم من عدم تأثرها بالعصارات المعدية ولكنها عديمة الامتصاص. ولذلك لا يعتمد عليها إلا في التأثير الموضعي داخل المعدة والأمعاء كما في حالات الإصابات المعوية أو لتقليل البكتريا الموجودة في الأمعاء الغليظة قبل إجراء العمليات الجراحية فيها.
ومن هذه الأدوية عديمة الامتصاص عقار النيومايسين neomycin والسلفات الشحيحة الذوبان كما في السلفاجواندين والسلفاثيازول. أيضا هناك بعض الأدوية تؤثر تأثيرا مباشرا على جدران المعدة gastric mucosa ويمكن تقليل التأثير المباشر لها إذا أعطيت بعد الطعام أو كسوة الأقراص والكبسولات بالكسوة المعوية. وتعتبر الأمزجة mixtures هي الأدوية السائلة التي يمكن تعاطيها عن طريق الفم بكميات مناسبة عند الحاجة أو يتناولها المريض دفعة واحدة، adraught وهذا حديث عن الأقراص والحبوب والكبسولات.. مركزاً الجانب الأكبر على الأقراص وأسأل الله التوفيق.
الأقراص tablets(30/282)
الأقراص هي مستحضر صيدلي جامد يشتمل على مادة فعالة أو أكثر.. مخففه أو غير مخففة بمادة خاملة أو أكثر diluents ومقسمة إلى جرعات متفردة في كتل صغيرة متماسكة ومعدّة للتعاطي بالفم عن طريق البلع أو عن طريق المضغ كما نص عقار الفينولفثالين أو phnolphthaline بوضعها تحت اللسان حيث تمتص منها المواد الفعالة مباشرة كما في مادة الأيزوبرينالين isoprenaline.
ويمكن أن تكون الأقراص معدة للاستحلاب lozenges لتذوب ببطؤ في الفم فضلا عن تفتتها إذا لزم الأمر.
وهناك الأقراص الفوارة effervescent_tablets دون العقار أكثر استساغاً..كما في أقراص البوتاسيوم.
ويوجد أيضا في بعض الأحيان مستحضرات طبية ليست للتعاطي عن طريق الفم. ولكنها تحضر على شكل أقراص سريعة الذوبان في الماء كما في محاليل غسول الفم.
وأخيراً فإن الأقراص التي تحتوي على مواد سامة.. لابد أن تكون على شكل خاص وألوان محددة.
صناعة الأقراص
وصف الأقراص:
الأقراص المكسوة والغير مكسوة تكون على هيئة أجسام جامدة مستديرة بيضية أو مزواة مسطحة الأوجه أو محدبتها.
ولا يزيد وزن كل منها في المعتاد على- و1 جم.
وأسطحها ناعمة ملساء. وقد تكون مصقولة لامعة.
ومظهرها العام متجانس منتظم وحوافيها تامة كاملة غير متآكلة وهي غير هشة ولكنها صلبة بحيث تتحمل الصدمات فلا تتكسر إذا سقطت من ارتفاع متر على سطح خشبي.
ولا يحتوى القرص كله على المواد الفعالة فحسب.. وإنما يحتوي بجانب ذلك على سواغات ومواد مضافة إليها.
وهذه المواد بطبيعة الحال هي مواد غير ضارة وليس لها تأثير طبي على القيمة العلاجية للمواد الفعالة في الأقراص.
وهذه المواد المضافة هي:-
- مواد مخففة.
- مواد مبللة.
- مواد مفتتة.
- مواد مزلقة.
- مواد مساعدة على التماسك.
- مواد ملونة ومحسنة للطعم.(30/283)
ومن المواد المخففة: فسفات الكالسيوم- السيليكا الرغوي- الدكستروز المائي والغير مائي- سكر اللبن وملح الطعام.
والمواد المبللة: تفيد في تحويل مسحوق المواد إلى حبيبات أكبر تخلو من فقاقيع الهواء. ويتحدد نوعيتها وطريقة التعامل معها بالتجربة والخبرة في صناعة الأقراص.
المواد المفتتة:
وهذه المواد تساعد على تفتيت الأقراص وسهولة اختراق المحاليل لها لامتصاص الدواء.
وقد تكون أساساً للمادة الفوارة في الأقراص الفوارة, مثال حمض الليمون أو حمض الطرطريك مع بيكربونات الصوديوم أو البوتاسيوم. ومن المواد التي تساعد على تفتيت الأقراص أيضا: سليكات الألمونيوم والمغنسيوم- ميثيل السليولوز والنشا.
المواد المزلقة:
وهذه لها أهمية خاصة في عملية تصنيع الأقراص.. فهي تساعد على انزلاق الخليط, ومثال لها:
بودرة التلك.
وتقليل الاحتكاك مع الآلات.
ومنع التصاق حبيبات الخليط أثناء عملية الضغط.
ومثال لذلك: مادة حمض الستياريك (الدهنيك) ، ستيارات المغنسيوم.
P (281)
المواد المساعدة على التماسك:
وهي التي تساعد على احتفاظ الأقراص بشكلها النهائي بعد التصنيع. ويجب أن توضع بعناية وبكميات مناسبة لكي لا يتحول القرص إلى جسم صلب لا يتفتت في المعدة أو الأمعاء, وبالتالي لا يستفاد من مواده الفعالة. ومن المواد التي تستعمل لهذا الغرض: الصمغ العربي- الجيلاتين- صمغ الكتيرة- محلول الجلوكوز والنشا.
كسوة الأقراص tablet coating:
قد تكسى الأقراص بطبقة أو بعدة طبقات من مادة خاصة أو أكثر للأسباب التالية:
- إخفاء طعمها الغير مستساغ.
- حمايتها من تأثير تعرضها للجو والرطوبة.
- حمايتها من تأثير العصير المعدي الحمضي.
- تحسين مظهرها.
- قد يصقل سطح الأقراص بالشمع أو بمادة أخرى مناسبة ليصير أملس ناعما.(30/284)
ومن المواد المستعملة لكسوة الأقراص:
- إيثيل السليولور.
- بولي فينيل بيروليدون.
- السكر.
ويجب أن تكون مادة التغليف من طبقة رقيقة حافظة, علاوة على عدم تأثيرها على حجم أو وزن القرص, خاصة إذا كان حجمه أو وزنه قبل الكسوة كبير.
الكسوة المعوية enteric coating
في هذا النوع تغطى الأقراص بطبقة من مادة خاملة أو أكثر لا تتأثر بالعصير المعدي.. فتمر الأقراص من المعدة سليمة دون أن تتفتت ودون أن تؤثر محتوياتها في ظهارة المعدة, ولكنها تذوب في العصير المعوي القلوي حيث تمتص موادها الفعالة.
ومثال ذلك الأقراص التي تحتوي على أملاح البزموت يوديد الإميتين والإرثرومايسين.
Bismuth_ salts, emetine- iodide, erythromycin
ومن أمثلة المواد المستعملة في الكسوة المعوية:
- الجيلاتين المعامل بالفورمالين formlized- gelatin
- الكيراتين keratin.
-السالول salol
- اللك المصفى shellac.
P (282)
الأقراص طويلة المفعول sustained-action:
في هذه الأنواع من الأقراصِ: يذوب جزء منها في المعدة ليعطي تأثيراً سريعاً.. ثم يذوب باقي القرص في الأمعاء.. ليعطي تأثيراً متجدداً.
ومن أمثلة ذلك الأقراص المحتوية على هالوجينات المعادن القلوية alkali metal halides والإرثرومايسين.
ومن هنا نجد أن مميزات تعاطي الدواء بواسطة الأقراص: أن التعاطي يتم بكمية ثابتة من العقار ذات خاصية طبيعية وكيميائية خاصة لمدة محدودة وله قوة علاجية.
ولكن تبقى صعوبة البلع عند بعض الأفراد.. خاصة عند الأطفال.
الحبوب pills
هي مستحضرات على هيئة كتل صغيرة كروية أو بيضاوية الشكل, تحتوي على جرعات معينة من الأدوية المعدة للاستعمال الباطني.
تزن الحبة ما بين (0.1 – 0.3) جرام عدا الكسوة إذا ما وجدت(30/285)
وتحضر الحبوب بخلط مادة دوائية أو أكثر خلطاً جيداً مع قاعدة التماسك (السواغ) المناسب.. بنسب تجعل الناتج عجينة شبه صلبة متماسكة متجانسة لدنة تحتفظ بقوامها وشكلها جمع تخزينها
ويجب أن تتفتت الحبوب بعد تعاطيها في المعدة أو الأمعاء.
والسواغ المستعمل في صناعة الحبوب يمكن أن يكون أحد المواد التالية:
النشا
الماء
الصمغ العربي
الجلسرين
مسحوق الآجار
الجلوكوز
مسحوق العرقسوس
الشراب البسيط
سكر اللبن
كسوة الحبوب:
وكما في الأقراص.. قد تكسى الحبوب لتحسين مظهرها أو لتغطية الطعم الغير مستساغ للمواد التي تحتويها.. ولحفظ محتوياتها من الفساد عند التخزين.. أو لحمايتها من العصير المعدي.. أو لمنع تأثيرها على جدار المعدة.
والمواد المناسبة لذلك:-
السكر- الشيكولاتة- زبدة الكاكاو- الجيلاتين- بلسم الطولو.. أيضا.. يمكن كسوة الحبوب بالكسوة المعوية بواسطة الكيراتين أو حمض الاستياريك أو بالسالول حينما يراد تفتيتها في الأمعاء وليس في المعدة كما في حالة الأقراص.
ومن أمثلة الحبوب:- حبوب الكسكارا والبلادونا- حبوب الصبر والحديد- حبوب الكوديين- حبوب الحنظل والسكرات.
الكبسول capsules
الكبسولات هي جرعات مفردة جامدة يكون الدواء فيها في داخل محافظ صلبة أو لدنة أو مرنة قابلة للذوبان.
وتكون كروية أو بيضاوية أو أسطوانية ذات أطراف مستديرة, وهي مختلفة الأحجام وتتكون المحافظ عادة من جزأين.. ينطبق أحدهما على الآخر.
وتصنع من الجيلاتين gelatin أومن ميثيل السليولوز methyl cellulose وقد تلدن بالجلسرين أو بالسورتبول أو بالسكر.. أو بأية مادة أخرى مناسبة وقد تضاف إليها أصباغ أو مواد ملونة.
كل يلزم إضافة مادة حافظة لمنع التخمر الفطري وبخاصة في حالة المحافظ الجيلاتينية.(30/286)
وتستعمل المحافظ اللدنة soft capsules للمواد السائلة أو شبه السائلة. ولا تستعمل الكبسولات للمحتويات التي تذيب مادة المحافظ, والمواد القوية المفعول.. والتي تكون جرعاتها صغيرة.. يجوز تخفيضها بمواد خاملة قبل توزيعها على المحافظ.
أما المواد التي تتسيل مخاليطها مثل مخلوط المنثول والكافور والكلورال هيدرات, menthol, campher, chloral hydrate فيمكن وضعها في محافظ صلبة.. على أن تخلط بمادة ماصة مثل:- كربونات المغنسيوم:
أما الخلاصات السائلة وكذلك المواد التي تحتوى على نسبة كبيرة من الماء فيجب تبخيرها وتركيزها أولا ثم مزجها بالبرافين السائل أو أي زيت مناسب, ثم وضعها في محافظ لدنة.
وتمتاز الكبسولات على الأقراص بأنه يمكن التحكم في كمية المفرد الدوائي أو المفردات الدوائية بحسب حاجة المريض.
وأمثلة على الكبسولات المستعملة:
- كبسولات الأمبسلين.
- كبسولات الكلورا مفنيكول.
P (284)
- كبسولات أوكسى تتراسيكلين.
- كبسولات تتراسيكلين.
- كبسولات كلور تتراسيكلين.
والحمد لله رب العالمين
المرا جع
text book of pharmaceutics. E.A.Rawlins
دستور الأدوية المصري 1972م
المعجم الطبي الصيدلي الحديث. دكتور علي محمود عويضة.(30/287)
القرآن يتحدّى..!
للأستاذ الدكتور محمد سيّد طنطاوي
رئيس شعبة التفسير بالدراسات العليا.
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . (سورة البقرة: 22- 24) .
بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى الناس بعبادته في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} . وساق من الأدلة المقنعة ما يحملهم على اعتناق عقيدة التوحيد، ونبذ عقيدة الشرك… أتبع ذلك بإيراد الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم الله فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر ...
ففي هاتين الآيتين انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزأي الإيمان، وهو صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته، بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك وهو وحدَانية الله تعالى وعظيم قدرته.
والمعنى: وإن ارتبتم أيها المشركون في شأن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد على مهل وتدريج، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة، وعلو الطبقة، واستعينوا على ذلك بآلهتكم وبكل من تتوقعون منهم العون، ليساعدوكم في مهمتكم، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله، إن كنتم صادقن في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن الكريم.
والمقصود بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ... } نفى الريب عن المنزل عليه بنفيه عن المنزل.(30/288)
والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم هو الارتياب في شأنه، أو للتنبيه على أنّ كلامهم في شأن القرآن هو بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح الدلائل الدالة على أنّ القرآن من عند الله تعالى.
وعبر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} ولم يقل: وإن ارتبتم فيما نزَّلنا, للإشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك، وأنه إن أثير حوله أي شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم، وضعف تفكيرهم، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم.
وأتى بـ (إن) المفيدة للشك مع أنّ كونهم في ريب، مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر محقق، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أيّ أحد، وتوبيخاً لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
ووجه الإتيان بـ (في) الدالة على الظرفية، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
وقال: {نَزَّلْنَا} دون أنزلنا؛ لأن المراد النزول على سبيل التدريج، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجّما في مدة تزيد على عشرين سنة.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: لم قيل: {مِمَّا نَزَّلْنَا} على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم, وذلك أنهم كانوا يقولون: "لوكان هذا القرآن من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة، وآيات غب آيات، على حسب النوازل، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد حيناً فحيناً، حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة ... " فقيل لهم: "إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل" [1] .(30/289)
والمراد بالعبد في قوله تعالى: {عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم وفي إضافته إلى الله تعالى تنبيه على شرف منزلته عنده، واختصاصه به.
وفي ذكره- صلوات الله عليه- باسم العبودية تذكير لأمته بهذا المعنى، حتى لا يغالوا في تعظيمه فيدعوا ألوهيته كما غالت بعض الفرق في تعظيم أنبيائها أو زعمائها فادّعت ألوهيتهم.
والسورة: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، والتي أقلها ثلاث آيات، والضمير في قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} يعود على المنزل وهو القرآن.
والمراد من مثل القرآن: ما يشابهه في حسن النظم، وبراعة الأسلوب وحكمة المعنى. وهذا الوجه من الإعجاز يتحقق في كل سورة.
وقيل: إن الضمير في قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} يعود على المنزل عليه القرآن، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الرأي الأول أرجح.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: "وعود الضمير إلى القرآن أرجح لوجوه:
* أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لاسيما ما ذكره في سورة يونس من قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ ... } .
* وثانيها: أن البحث إنما وقع في المنزل وهو القرآن؛ لأنه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا ... } فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزّل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله، وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يقال: وإن ارتبتم في أنّ محمداً منزّل عليه فهاتوا قرآنا مثله.(30/290)
* وثالثها: أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزِين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا, وسواء أكانوا أمّيين أو عالمين، أما لو كان عائداً إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأمّيين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الأمي، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد؛ لأن الجماعة لا تماثل الواحد، والقارئ لا يكون مثل الأمي، ولاشك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى.
* ورابعها: أننا لو صرفنا الضمير إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن، ولو صرفناه إلى القرآن لدلّ ذلك على أن صدور مثله من الأمي ومن غير الأمي ممتنع فكان هذا أولى [2] .
وقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} معطوف على قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} .
وادعوا: من الدعاء، والمراد به هنا: طلب حضور المدعو أي نادوهم.
وشهداءكم: أي: آلهتكم، جمع شهيد وهو القائم بالشهادة، فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم تشهد لهم يوم القيامة بأنهم على حق. وقيل: الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو الناصر أو الإمام، وكأنه سمي به لأنه يحضر المجالس وتبرم بمحضره الأمور.
ودون: بمعنى غير، وتطلق في أصل اللغة على أدنى مكان من الشيء، ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا أي: خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للتفاوت في الرتب فقيل: زيد دون عمرو أي: في الشرف، ومنه الشيء الدون، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد، وتخطي أمر إلى أمر.(30/291)
قال الجمل: "والمعنى: وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنّكم وآلهتكم غير الله، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله ... أو ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله، ولا تستشهدوا بالله، فإن الاستشهاد به من عادة المبهوت العاجز عن إقامة الحجة أو شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله آلهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة" [3] .
وفي أمرهم بدعوة أصنامهم وهي جماد، وفى تسميتها شهداء مع إضافتها إليهم مع أنها لا تعقل ولا تنطق، في كل ذلك أقوى ألوان التهكُّم، لكي يثير في نفوسهم من الألم ما قد يكون سبباً لتنبيههم إلى جهلهم، وانصرافهم عن ضلالهم.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} جملة معترضة في آخر الكلام, وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة حتى صار ذكره في نظم الكلام مما ينزل به عن مرتبة البلاغة. والمعنى: إن كنتم صادقن في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن فأتوا بسورة من مثله. وادعوا آلهتكم وبلغاءكم وجمع البشر ليعينوكم أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه.
وفى هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم، إذ عرّض بعدم صدقهم، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} .
والمعنى: فإن لم تفعلوا أي: تعارضوا القرآن، وتبيّن لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة.(30/292)
والوقود: ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، والحجارة: الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . (الأنبياء: 98) .
واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم. والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلاّ جيء بـ (إذا) الذي للوجوب دون (إن) الذي للشك؟ قلت: فيه وجهان:
* أحدهما: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأنّ العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام.
* والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه: إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه تهكُّما به" [4] .
وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} , ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله؛ لأن قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} جار مجرى الكناية التي تعطي اختصارا ووجازة تغنى عن طول المكنى عنه؛ ولأن الإتيان ما هو إلا فعل من الأفعال، تقول: أتيت فلانا, فيقال لك: نعم ما فعلت.
وجملة: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة معترضة بين الشرط والجزاء، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته, فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيداً لنفيها في الحال.(30/293)
قال الإمام الرازي: "فإن قيل: فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ فالجواب: أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر. وجعل قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} قائماً مقام قوله فاتركوا العناد. وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة، وفيه تهويل لشأن العناد، لإنابة اتقاء النار منابه متبعاً ذَلك بتهويل صفة النار [5] .
ومعنى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} هيِّئت لهم؛ لأنهم الذين يخلدون فيها، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين -أيضا- لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} .
وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإخبار بالغيب، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لاسيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه، فحين لم ينقل عُلِمَ أنه إخبار بالغيب على ما هو به، فكان معجزة" [6] .(30/294)
وقال بعض العلماء: هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتنزيل الكريم. وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} , وقال في سورة الأسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} , وقال في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم أيضاً في المدينة بهذه الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ... } الآية.
فعجزوا عن آخرهم، وهم فرسان الكلام، وأرباب البيان، وقد خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقة وفيهم غريزة وقوة. يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب, فيخطبون، ويمدحون، ويتوسلون، ويتوصلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون بالسحر الحلال… ومع هذا فلم يتصد لمعارضة
القرآن منهم أحد، ولم ينهض- لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط والمضارة ... وقد جرد لهم النبي صلى الله عليه وسلم الحجة أولا، والسيف آخرا, فلم يعارضوا إلا السيَف وحده، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة وبذلك يظهر أن قوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا, وما قدروا ...
وحيث عجز عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر ... فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق القوى والقدر، أنزله تصديقاً لرسوله، وتحقيقا لمقوله [7] .(30/295)
من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا ...
بينما عثمان بن عفان- رضي الله عنه - في أرض له في العالية في يوم صائف إذ رأى رجلا يسوق جملين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر فقال عثمان لمولى له: "انظر من هذا؟ ".
فقال: "أرى رجلا معمّمًا بردائه يسوق بكرين"ثم دنا الرجل فقال: "أَنظر من هذا؟ ".
فنظر فإذا هو عمر بن الخطاب!!.
فقال: هذا أمير المؤمنين. فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب فإذا لفح السموم, فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه قال: "ما أخرجك في هذه الساعة؟ " فقال: "بكران من إبل الصدقة تخلّفا وقد مضى إبل الصدقة للمرعى فأردت أن ألحقهما بالمرعى وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما يوم القيامة". فقالت عثمان: "هلم إلى الظل، والماء ونكفيك؟ ".
قال عمر: "عُدْ إلى ظلك!! "قال عثمان: "عندنا من يكفيك! "قال عمر: "عُدْ إلى ظلك! "ومضى ...
فقال عثمان: "من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا ... "
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير الكشاف: ج 1ص 97.
[2] تفسير الرازي: ج 1 ص 222.
[3] حاشية الجمل على الجلالين: ج اص 28.
[4] تفسير الكشاف: ج اص 101.
[5] تفسير الفخر الرازي: ج 1 ص224.
[6] تفسير الكشاف: ج اص 101.
[7] تفسير القاسمى: ج 2 ص 77.(30/296)
تنَبيهَاتٌ هَامّة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني
في صفات الله عزّ وجلّ
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فقد اطلعت على المقابلة التي أجرتها مجلة "المجتمع"مع فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني ونشرت في العدد رقم 613 وتاريخ 7/ 6/1403 هـ, وعلى مقالاته الست المنشورة في أعداد المجتمع رقم 637 وتاريخ 17/ 17/1403 هـ ورقم 628 وتاريخ 24/ 9/ 1403هـ ورقم 629 وتاريخ 9/ 10/ 403اهـ ورقم 630وتاريخ 16/ 10/ 1403 هـ ورقم 631 وتاريخ 23/ 10/ 1403هـ ورقم 646 وتاريخ17/2/1404. وقد اشتملت على أخطاء نبّه على بعضها صاحب الفضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان في مقاله المنشور بمجلة الدعوة في عدد 15 رقم 904 وتاريخ 29/ 10/1403هـ وفي مجلة المجتمع بعددها رقم 646 وتاريخ 17/ 2/ 1404 هـ و650 في 24/2/ 1404 هـ. وقد أجاد وأفاد وأحسن جزاه الله خيرا ونصر به الحق. وقد رأيت التنبيه على ما وقع فيها من أخطاء تأكيداً لما ذكره الدكتور صالح ومشاركة في الخير ونشر الحق واستدراكا لأخطاء لم يتعرض لها فضيلة الدكتور صالح في مقاليه المشار إليهما والله الموفق. فأقول:(30/297)
1 - قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: "إنه من أوجب الواجبات"لاشك أن هذا الإطلاق خطأ إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسنة لا في تقليد أحد من الناس وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغاً عند الضرورة لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة كما فصّل ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين, ولذلك كان الأئمة رحمهم الله لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلا ما كان موافقا للكتاب والسنة, قال الإمام مالك رحمه الله: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر"يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا قال إخوانه من الأئمة هذا المعنى.
فالذي يتمكّن من الأخذ بالكتاب والسنة يتعيّن عليه ألا يقلّد أحداً من الناس ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
2- قال: "إذا كان ابن تيمية رحمه الله مع درجة علمه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد وإنما مذهبه حنبلي يتقيّد به في كثير من الأحيان" وهذا القول فيه نظر بل هو خطأ ظاهر؛ فان شيخ الإسلام رحمه الله من أعلم المجتهدين, وقد توافرت فيه شروط الاجتهاد, وانتسابه إلى المذهب الحنبلي لا يخرجه عن ذلك؛ لأن المقصود من ذلك موافقته لأحمد في أصول مذهبه وقواعده, وليس المقصود من ذلك أنه يقلده فيما قاله بغير حجة, وإنما كان يختار من الأقوال أقربها إلى الدليل حسبما يظهر له رحمه الله.
3- ذكر أن الخلافات في العقيدة ضيّقة وقال: "الذين يقولون بضلال مذهب الأشاعرة نقول لهم: ارجعوا إلى فتاوى ابن تيمية واقرءوا ماذا كتب ابن تيمية عن أبي الحسن الأشعري حتى نفهم أن هؤلاء جهلة" اهـ.(30/298)
والجواب أن يقال: لاشك أنه ضلّ بسبب الخلاف في العقيدة فرق كثيرة كالمعتزلة والجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم, وأيضا الأشاعرة ضلّوا فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة وما عليه خيار هذه الأمة من أئمة الهدى كالصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان والأئمة المهتدين فيما تأولوه من أسماء الله وصفاته على غير تأويله, وأبو الحسن الأشعري رحمه الله ليس من الأشاعرة وإن انتسبوا إليه لكونه رجع عن مذهبهم واعتنق مذهب أهل السنة, فمدح الأئمة له ليس مدحاً لمذهب الأشاعرة.
ولا يصح أن يرمى من اعترض على الأشاعرة فيما خالفوا فيه عقيدة أهل السنة بالجهل؛ لأن حقيقة الجهل هو القول على الله بغير علم, أما من أخذ بالكتاب والسنة وقواعد الشرع المعتبرة, وسار على طريق سلف الأمة, وأنكر على من تأول أسماء الله وصفاته أو شيئا منها على غير تأويلها فإنه لا يرمى بالجهل.
4- قال: "إنما القوامة للرجل قوامة تكليف وليست قوامة تشريف".
والجواب أن يقال: هذا خطأ والصواب أن يقال إن قوامة الرجال على النساء قوامة تكليف وتشريف لقول الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا} الآية. فأوضح سبحانه أنه جعل الرجال قوّامين على النساء لأمرين:
- أحدهما: فضل جنس الرجال على جنس النساء.
- والأمر الثاني: قيام الرجال بالإنفاق على النساء بما يدفعونه من المهور وغيرها من النفقات.
5- قال في مقاله الأول بعد المقدمة ما نصه: "ولا يجوز أن تجعلهم -يعني بتلك الأشاعرة والماتريدية- في صف الروافض والمعتزلة والخوارج الذين انحرفوا عن أهل السنة والجماعة غاية ما في الأمر أن نقول إنهم مخطئون في التأويل, ذلك لأن الأسلم أن نفوّض الأمر في موضوع الصفات إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية"اهـ.(30/299)
والجواب أن يقال: الفرق المخالفة لأهل السنة متفاوتون في أخطائهم فليس الأشاعرة في خطئهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية بلا شك ولكن ذلك لا يمنع من بيان خطأ الأشاعرة فيما أخطأوا فيه ومخالفتهم لأهل السنة في ذلك كما قد بيّن خطأهم غيرهم لإظهار الحق وبيان بطلان ما يخالفه تبليغاً عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وحذراً من الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . ثم يقال ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علاّم الغيوب لأنه سبحانه بيّنها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن كيفيتها, فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني, وليس التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض، وبدّعوهم؛ لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه, والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك, وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته وينزهونه عن كل مالا يليق به عز وجل. وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم, وأنا أذكر بعض النقول المهمة عن السلف الصالح في هذا الباب ليتضح للقاريء صحة ما ذكرنا.(30/300)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (الفتوى الحموية) ما نصه: "روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: "كنا -والتابعون متوافرون- نقول: "إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات". فقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز والأوزاعي إمام أهل الشام والليث إمام أهل مصر والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية.
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: "سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: "أمروها كما جاءت", وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال: "سألت مالك ابن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: "أمروها كما جاءت"وفي رواية قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف". وقولهم رضي الله عنهم:"أمروها كما جاءت"رد على المعطلة وقولهم: "بلا كيف"رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم, والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ومن طبقاتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.(30/301)
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قالت: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: "قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تغييرها ولا النظر في شيء خالفها, من اهتدى بها فهو مهتد, ومن استنصر بها فهو منصور, ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: "الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, ومن الله الرسالة, وعلى الرسول البلاغ المبين, وعلينا التصديق". وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.
(ومنها) ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحي بن يحي قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فاطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا "فأمر به أن يخرج.(30/302)
فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب"موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف"؛ فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول"ولما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف"؛ فان الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل يكون مجهولا بمنزلة حروف المعجم, وأيضا فانه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضا فإن من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول بلا كيف فمن قال: "إن الله ليس على العرش "لا يحتاج أن يقول: "بلا كيف"فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: "بلا كيف". وأيضا فقولهم: "أمروها كما جاءت"يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه, فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني, فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: "أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد"أو "أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة, وحينئذ تكون قد أُمرّت كما جاءت, ولا يقال حينئذ: "بلا كيف"إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول"اهـ.
6- نقل في المقال المذكور عن الشيخ حسن البنا رحمه الله ما نصه: "نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".(30/303)
والجواب أن يقال: نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله, أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه بل هو محل تفصيل؛ فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض. أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} الآية. وقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان", وقوله صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" أخرجهما مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.(30/304)
7- ثم نعى الكاتب الشيخ محمد علي الصابوني في مقاله الثاني على المسلمين تفرقهم إلى سلفي وأشعري وصوفي وماتوريدي ... الخ. ولاشك أن هذا التفرق يؤلم كل مسلم, ويجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق ويتعاونوا على البر والتقوى, ولكن الله سبحانه قدر ذلك على الأمة لحكم عظيمة وغايات محمودة يحمد عليها سبحانه ولا يعلم تفاصيلها سواه ومن ذلك: التمييز بين أوليائه وأعدائه, والتمييز بين المجتهدين في طلب الحق والمعرضين عنه المتبعين لأهوائهم, إلى حكم أخرى, وفي ذلك تصديق لنبيه صلى الله عليه وسلم ودليل على أنه رسول الله حقاً لكونه قد أخبر عن هذا التفرق قبل وقوعه فوقع كما أخبر حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة, قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة", وفي رواية أخرى قال: "ما أنا عليه وأصحابي". وهذا يوجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق وأن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} , وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} الآية., وهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه وتعالى, وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم, وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم ضد أعدائهم, أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى فيما هي عليه من الحق فهذا هو المحذور والمنهي عنه وهو سبب تسليط الأعداء على المسلمين, واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق, أما من تمسك بالحق ودعا إليه وأوضح بطلان ما خالفه(30/305)
فهذا لا لوم عليه, بل هو مشكور وله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته للحق.
8- ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين: أحدهما مذهب السلف والآخر مذهب الخلف ... الخ.
وهذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم فان مذهب أهل السنة واحد فقط وهو ما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت والإيمان بأنها حق وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض بل يؤمنون بأن معانيها معلومة وأنها حق لائقة بالله سبحانه وتعالى لا يشابه خلقه في شيء منها ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء- ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله وكرر ذلك في غير موضع وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله عن جمع من أهل السنة رحمة الله عليهم وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك.(30/306)
9- ثم ذكر الصابوني هداه الله تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة وهذا ليس بمذهب أهل السنة بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم فإن أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يثبتون له إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في النصوص نفي هذه الأمور ولا إثباتها فالواجب الكف عنها وعدم التعرض لها بنفي ولا إثبات ويغني عن ذلك قول أهل السنة في إثبات صفات الله وأسمائه أنه لا يشابه فيها خلقه وأنه سبحانه لا ند له ولا كفو له, قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث", وهذا هو معنى كلام غيره من أئمة السنة, وأما ما وقع في كلام البيهقي رحمه الله في كتابه الاعتقاد من هذه الأمور فهو ممل دخل عليه من كلام المتكلمين وتكلفهم فراج عليه واعتقد صحته والحق أنه من كلام أهل البدع لا من كلام أهل السنة.
15- ثم قال الصابوني في مقاله الثاني ما نصه: "أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله بصورة غريبة عجيبة ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس له وجه ويدان وعينان وله ساق وأصابع وهو يمشي وينزل ويهرول ويقولون في تقرير هذه الصفات أن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير, وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج. يريد بزعمه أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول وأنه جلوس حس لا كما يتأوله المؤولون فهذا والعياذ بالله عين الضلالة لأنه شبه وجسم وهو كمن فرّ من حفرة صغيرة ليقع في هوة عميقة يتحطم فيها ويهوى فيها إلى مكان سحيق"أ. هـ.(30/307)
وأقول: "إن الأخ الصابوني هداه الله قد جمع في هذا الكلام حقا وباطلا يعلمه كل صاحب سنة وإليك أيها القارئ المؤمن التفصيل في ذلك:
أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع فقد ثبتت في النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة وقال بها أهل السنة والجماعة وأثبتوها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه وهكذا النزول والهرولة جاءت بها الأحاديث الصحيحة ونطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأثبتها لربه عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه من غير مشابهة لخلقه ولا يعلم كيفية هذه الصفات إلا هو سبحانه فإنكار الصابوني هذه الصفات إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم بل إنكار على الله عز وجل لأنه سبحانه ذكر بعضها في كتابه العزيز وأوحى البعض الآخر لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى, وإنما يخبر عن الله سبحانه بما أوحى إليه. فالصابوني هداه الله تارة يقول: "إنه يلتزم بمذهب أهل السنة", وتارة ينقضه ويخالفه فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق، وأما قوله: "ويقولون في تقرير هذه الصفات أن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج.. الخ". فهذا أهل السنة براء منه بل هو من كلام المشبهة الذين كفرهم السلف الصالح وأنكروا مقالتهم لكونها مصادمة لقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وما جاء في معناها من الآيات, فلا يجوز لأحد أن يخلط بين كلام أهل الحق من أهل السنة وكلام أهل الباطل من المشبهة وغيرهم, ولا يميز بينهما بل الواجب التفصيل والتمييز.
11- ثم زعم الصابوني في مقاله الثالث أنّ أوّل من كتب في أصول الدين ورد شبهات أهل الزيغ والضلال أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتوريدي.(30/308)
وهذا جزم غير صحيح فقد سبقهما في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله والإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون والإمام مالك رحمه الله والإمام أحمد بن حنبل والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة والإمام عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على المريسي والإمام عبد العزيز الكناني صاحب الحيدة وغيرهم ممن لا يحصى.
12- ثم كرر الصابوني هداه الله في قال الثالث قوله: "إن السلف لهم مذهبان مذهب أهل التفويض ومذهب أهل التأويل.."إلى آخر ما قال, إلى أن قال: "إنّ بعضهم يفضل مذهب السلف ويقول: "إنه أسلم" والبعض الآخر يفضل مذهب الخلف ويقول هو أحكم".اهـ(30/309)
والجواب: أن هذا التقسيم باطل كما تقدم وليس للسلف إلا مذهب واحد وهو مذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم, وأتباعهم بإحسان, وهو الأسلم والأعلم والأحكم، أما المذهب الثاني فهو مذهب الخلف المذموم, وهو مذهب أهل التأويل والتحريض والتكلف, ولا يلزم من ذم مذهب الخلف والتحذير منه القول بتكفيرهم؛ فإن التفكير له حكم آخر يبنى على معرفة قول الشخص وما لديه من الباطل ومدى مخالفته للحق فلاَ يجوز أن يقال إنه يلزم من ذم مذهب الخلف أو الإنكَار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها إلا صفات قليلة استثنوها القول بتكفيرهم, وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح وهم أهل السنة والجماعة في إمرار آيات الصفات وأحاديثها وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل كما سبق ذكر ذاك غير مرة والله المستعان. ثم ذكر كلام البيهقي هنا وقد تقدم ما فيه وأنه رحمه الله دخلت عليه ألفاظ من ألفاظ أهل البدع فراجت عليه وظنها صوابا فأدخلها في كتابه وهو من جملة الذين خاضوا في الكلام وعلق باعتقاده بعض ما فيه من الشر سامحه الله وعفى عنه, كما نبه على ما يدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 6 ص 53.
13- ثم قال الصابوني في مقاله الثالث ما نصه: "ولا يظن أحد أننا نفضل مذهب الخلف على مذهب السلف ولسنا على الرأي الذي يقوله علماء الكلام: "مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم", بل نقول عن إيمان ويقين: "إن مذهب السلف هو الأسلم وهو الأحكم فلا نحاول أن نؤول صفات الخالق جل وعلا, بل نؤمن بها كما جاء, ونقربها كما وردت مع نفي التشبيه والتجسيم".
ثم استشهد بقول بعض الشعراء:
مما تكلفه المؤول(30/310)
إنّ المفوّض سالم
إلى أن قال: "وإذا كان من أول في الصفات ضال فسنضلل السلف الصالح جميعاً لأنهم أوّلوا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} .
قالوا معهم بعلمه لا بذاته وأوّلوا قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قالوا: "معية علم لئلا تتعدد الذات". وسنحكم بضلال الحافظ بن كثير لأنه قال في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} ملائكتنا أقرب إليه منكم ولكن لا ترونهم كما أولى قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قال: "المراد ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه والحلول والاتحاد منفي بالإجماع تعالى الله وتقدس". وقال: "بل نقول إنه يتعين التأويل أحيانا كما في الحديث الصحيح: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه"وكما قال عن سفينة نوح {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} ا. هـ.(30/311)
والجواب أن يقال: قد أحسنت في اختيار مذهب السلف الصالح واعتقاد أنه الأسلم والأحكم ولكنك لم تثبت عليه بل تارة تختار مذهب التأويل وتارة تختار مذهب التفويض والواجب على المؤمن الثبات على الحق وعدم التحوّل عنه, وما ذكرته عن السلف من تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} بالعلم ليس بالتأويل, ولكنه هو معنى آيات المعية عند أهل السنة والجماعة. كما حكى الإمام أبو عمر بن عبد البر وأبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة على ذلك؛ وذلك لأن النصوص من الكتاب والسنة الدالة على علوه وفوقيته وتنزيهه سبحانه عن الحلول والاتحاد تقتضي ذلك, ومن تأمل الآيات الواردة في ذلك علم أنها تدل على أن المراد بالمعية العلم بأحوال عباده واطلاعه على شؤونهم مع دلالة المعية الخاصة على كلاءته ورعايته وحفظه ونصره لأنبيائه وأوليائه, مع علمه واطلاعه على أحوالهم والعرب الذين نزل الكتاب وجاءت السنة بلغتهم يعلمون ذلك ولا يشتبه عليهم, ولهذا لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن معاني هذه الآيات لظهورها لهم. أما النصوص الأخرى فلا تحتاج إلى تأويل لأن المعنى فيها ظاهر مثل قوله سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} , {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} فلا يدور بخلد أحد أن السفينة بعين الله سبحانه ولا أن محمداً عليه الصلاة والسلام في عين الله, وإنما المراد بذلك أن السفينة تجري برعاية الله وعنايته وتسخيره لها وحفظه لها وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم تحت رعاية مولاه وعنايته وحفظه كلاءته, وهكذا قوله في حق موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي تحت رعايتي وحفظي, وهكذا حديث: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" يفسره قوله في الرواية الأخرى: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" ولا يظن من له أدنى بصيرة ممن يعرف اللغة العربية أن المراد بذلك: أن الله سبحانه هو سمع(30/312)
الإنسان وبصره, وهو يده ورجله, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, وإنما أراد من ذلك سبحانه بيَان توفيقه لأوليائه وتسديده لهم في حواسهم وحركاتهم بسبب طاعاتهم له وقيامهم بحقه, وهكذا الأحاديث الأخرى كقوله: "الحجر يمين الله" فإنه حديث ضعيف والصواب وقفه على ابن عباس, ومعناه ظاهر سواء كان مرفوعا أو موقوفا, وقد قال في نفس الحديث: "فكأنما صافح الله وقبّل يمينه" فدل على أن الحجر ليس هو يمين الله وإنما شبه مستلمه ومقبله بمن صافح الله وقبّل يمينه ترغيبا في استلامه وتقبيله, وهكذا قول الله سبحانه في الحديث الصحيح لعبده "مرضت فلم تعدني, وجعت فلم تطعمني"قد بيّن في هذا الحديث ما يدل على معناه حيث قال سبحانه: "أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده, ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي " فعلم بذلك أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع, وإنما أراد سبحانه من ذلك حث العباد على عيادة المريض وإطعام الجائع.(30/313)
وأما قوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} , وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} فقد فسره جماعة بقرب الملائكة لأن قربهم من العبد حين يتلقى المتلقيان وحين الموت كان بأمره سبحانه وتقديره ورعايته لعباده, وفسره آخرون بأنه قربه سبحانه بعلمه وقدرته وإحاطته بعباده كالمعية وكقربه من عابديه وسائليه مع علوه وفوقيته سبحانه, وليس المراد الحلول ولا الاتحاد -تعالى الله عن ذلك وتقدس- لأن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة تدل على أن الله سبحانه فوق العرش بائن من خلقه عال عليهم, وعلمه في كل مكان, فمن تدبر النصوص من الكتاب والسنة وفسّر بعضها ببعض اتضح له المعنى ولم يحتج إلى التأويل, وقد اختار أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره القول الثاني في سورة (ق) , والقول الأول في سورة الواقعة, وقد أنكر أهل السنة على من تأول نصوص الصفات وبدّعوه لما يترتب على تأويلها من أنواع الباطل وتحريف الكلم عن مواضعه وتجريد الرب سبحانه من صفات الكمال وسوء الظن به وأنه خاطب عباده بما ظاهره تشبيه وتمثيل وأن المراد غيره. وهذا هو التأويل المذموم وهذا هو الذي سلكه أهل الكلام وأنكره عليهم أهل السنة وضللوهم في ذلك لكونهم تأولوا النصوص عن ظاهرها وصرفوها عن الحق الذي دلت عليه بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة بل بمقتضى عقولهم وآرائهم التي لم ينزل الله بها من حجة ولا قام عليها برهان. وقد ألزموهم فيما أثبتوا نظير ما فرّوا منه فيما تأولوه, وهو لازم لهم بلا شك ولا يسلم من التناقض واللوازم الباطلة إلا من أثبت ما أثبته الله ورسوله ونفى ما نفاه الله ورسوله وهم أهل السنة والجماعة والله المستعان.(30/314)
14- ثم دعا في مقاله الرابع إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام وذكر أن الوقت ليس وقت مهاجمة لأتباع المذاهب ولا للأشاعرة ولا للإخوان حتى ولا للصوفيين"ا. هـ.
والجواب أن يقال:
لاريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحذّرهم من التفرّق بقوله سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية. ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية أو غيرهم بل مقتضى الأمر بالاعتصام بحبل الله أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ويبينوا الحق لمن ضل عنه أو ظن ضدّه صواباً بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه وهذا هو مقتضى قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه والمخالف للحق على خطئه وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والله ولي التوفيق.(30/315)
15- ثم ذكر في مقاله الخامس ما نصّه "ليس مذهب السلف الصالح -الذي أسلفنا الحديث عنه في مقالاتنا السابقة في موضوع صفات الباري جل وعلا- هو (التفويض المطلق) كما يتوهم البعض من الناس بل هو مسلك آخر يدل على نظر ثاقب وفهم سليم مستقيم لنصوص الكتاب والسنة, ويتلخص هذا المسلك والمنهج في الآتي:
أولاً: تأويل ما لابد من تأويله من آيات الصفات وأحاديث الصفات مما لا مندوحة عن تأويله لأسباب لغوية أو شرعية أو اعتقادية.
ثانياً: إثبات ما أثبته القرآن الكريم أو السنة المطهّرة من صفات الله جل وعلا: (السمع والبصر والكلام والمحبة والرضى والاستواء والنزول والإتيان والمجيء) وغيرها من الصفات, والإيمان بها على مراد الله عز وجل بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه أو تعطيل أو تجسيم أو تمثيل"ا. هـ.
والجواب أن يقال:
إنّ هذه الدعوى على مذهب السلف دعوى لا أساس لها من الصحة فإنّ السلف الصالح ليس مذهبهم التفويض لأسماء الله وصفاته لا تفويضاً عاماً ولا خاصاً, وإنما يفوّضون علم الكيفية كما تقدم بيان ذلك, وكما نصّ على ذلك مالك وأحمد وغيرهما, وقبلهما أم سلمة رضي الله عنهما وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رضي الله عن الجميع, وليس من مذهب السلف أيضاً تأويل الصفات بل يمرّونها كما جاءت ويؤمنون بمعانيها على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريفا ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كما سلف ذكر ذلك غير مرة.(30/316)
وليس من مذهب السلف أيضا نفى التجسيم ولا إثباته لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام سلف الأمة كما نصّ على ذلك غير واحد من أئمة السنة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد نصّ على ذلك في كتابه التدمرية حيث قال في القاعدة السَادسة: "ولهذا لما كان الرّد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذا الطريق طريقاً فاسداً لم يسلكه أحد من السلف أو الأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً ولا بالجوهر والتحيّز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً. ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة"اهـ.
وقال الحافظ بن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه (فضل علم السلف على علم الخلف) -بعد كلام سبق-: "والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير ولا تكييف ولا تمثيل, ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصاً الإمام أحمد ولا خاضوا في معانيها ولا ضربوا مثلا من الأمثال لها, وان كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك إتباعا لطريقة (مُقاتِل) فلا يقتدى به في ذلك إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم, وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلّمين فضلا عن كلام الفلاسفة ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح, وقد قال أبوزرعة الرازي: "كل من كان عنده علم فلم يصن علمه احتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه"اهـ.(30/317)
وليس فيما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته ما يجب تأويله بل لابد أن يوجد في النصوص ما يدل على المعنى المراد الذي يجب إثباته لله على الوجه اللائق به من غير حاجة إلى تأويل يخالف الظاهر من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم مع تفويض علم الكيفية إلى الرب عز وجل كما سبق بيان ذلك في كلام أئمة السنة.
16- ثم قال الصابوني في مقاله الخامس - هداه الله وألهمه التوفيق - ما نصه: "ولكني أربأ بإخواني السلفيين أن يتحملوا في أعناقهم وزر تضليل الأمة وتكفير أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والتفسير الذين هم على مذهب الأشاعرة فماذا سنجني إن فرّقنا صف المسلمين ونسبنا إلى الضلال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري", وذكر جماعة آخرين ثم قال: "وكل هؤلاء الأئمة الأجلاء وغيرهم من مذهب الإمام الأشعري.. الخ" اهـ.(30/318)
والجواب أن يقال: ليس من أهل العلم السلفيين من يكفّر هؤلاء الذين ذكرتهم, وإنما يوضحون أخطاءهم في تأويل الكثير من الصفات ويوضحون أن ذلك خلاف مذهب سلف الأمة وليس ذلك تكفيراً لهم ولا تمزيقاً لشمل الأمة ولا تفريقاً لصفهم وإنما في ذلك النصح لله ولعباده وبيان الحق والرد على من خالفه بالأدلة النقلية والعقلية والقيام بما أوجب الله سبحانه على العلماء من بيان الحق وعدم كتمانه والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله ولو سكت أهل الحق عن بيانه لاستمر المخطئون على أخطائهم وقلدهم غيرهم في ذلك وباء الساكتون بإثم الكتمان الذي توعدهم الله عليه في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وقد أخذ الله على علماء أهل الكتاب الميثاق لتبيينه للناس ولا يكتمونه وذمهم على نبذه وراء ظهورهم وحذرنا من أتباعهم.
فإذا سكت أهل السنة عن بيان أخطاء من خالف الكتاب والسنة شابهوا بذلك أهبة الكتاب المغضوب عليهم والضالين ثم يقال للأخ الصابوني ليس علماء الأشاعرة من اتبعا أبي الحسن الأشعري لأنه رجع عن تأويل الصفات وقال بمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء والصفات وإمرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كل أوضح ذلك في كتابيه الإبانة والمقالات فعلم مما ذكرنا أن من أول الصفات من المنتسبين للأشعري فليس على مذهبه الجديد بل هو على مذهبه القديم ومعلوم أن مذهب العالم هو ما مات عليه معتقدا له لا ما قاله سابقا ثم رجع عنه فيجب التنبه لذلك والحذر مما يلبس الأمور ويضعها في غير موضعها والله المستعان.(30/319)
17- ذكر الصابوني في مقاله السادس الذي بدأه بقوله: "هذا بيان للناس.. إنّ التأويل لبعض آيات وأحاديث الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة فمنه ما هو خطأ ومنه ما هو صواب, وهنا آيات صريحة في التأويل أوّلها الصحابة والتابعون وعلماء السلف وما يتجرأ أحد أن ينسبهم إلى الضلال أو يخرجهم عن أهل السنة والجماعة", ثم ضرب لذلك أمثلة منها قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} , ومنها ما ذكره سبحانه من استهزائه بالمستهزئين وسخريته من الساخرين بالمؤمنين ومكره بالماكرين وكذلك أيضاً الحديث الصحيح عن قول الله عزوجل: "مرضت فلم تعدني, وجعت فلم تطعمني". إلى أن قال: " ... إذن ليس الأمر كما يظن البعض أن مذهب السلف ليس فيه تأويل مطلقاً بل مذهب السلف هو تأويل ما لابد من تأويله"اهـ.
والجواب أن يقال: هذا الكلام فيه تفصيل وفيه حق وباطل فقوله: "إنّ التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة صحيح في الجملة فالمتأول لبعض الصفات كالأشاعرة لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير الصفات ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل, فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم, وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل وأن ذلك خلاف منهج أهل السنة والجماعة كما تقدم بيانه في أول هذه التنبيهات كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطأوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة تحقيقا للحق وإنكارا للباطل وإنزالا لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها.(30/320)
ولا يجوز أن ينسب التأويل إلى أهل السنة مطلقا بل هو خلاف مذهبهم وإنما ينسب التأويل إلى الأشاعرة وسائر أهل البدع الذين تأوّلوا النصوص على غير تأويلها.
أما الأمثلة التي مثل بها الأخ الصابوني للتأويل عند أهل السنة فلا حجة له فيها وليس كلامهم فيها من باب التأويل بل هو من باب إيضاح المعنى وإزالة اللبس عن بعض الناس في معناها وهاك الجواب عنها: أما قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} (التوبة: من الآية 67) فليس المراد بالنسيان فيها النسيان في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} (مريم: من الآية 64) وفي قوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} (طه: من الآية 52) بل ذلك له معنى والنسيان المثبت له معنى آخر فالنسيان المثبت في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} هو تركه إياهم في ضلالهم وإعراضه عنهم سبحانه لتركهم أوامره وإعراضهم عن دينه لنفاقهم وتكذيبهم, والنسيان المنفي عن الله سبحانه هو النسيان الذي بمعنى الذهول والغفلة, فالله سبحانه منزه عن ذلك لكمال علمه وكمال بصيرته بأحوال عباده وإحاطته بكل شؤونهم فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا ينسى ولا يغفل - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -, وبذلك يعلم أنّ تفسير النسيان بالترك في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} (التوبة: من الآية 67) ليس من باب التأويل, ولكنه من باب تفسير النسيان في هذا المقام بمعناه اللغوي لأن كلمة النسيان مشتركة يختلف معناها بحسب مواردها كما بيّن ذلك علماء التفسير رحمهم الله قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية ما نصه: " {نَسُوا اللَّهَ} ، أي نسوا ذكر الله {فَنَسِيَهُم} أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى: {وَقِيلَ(30/321)
الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (الجاثية:34) اهـ.
وهكذا ما ذكره الله سبحانه من استهزائه بالمستهزئين وسخريته بالساخرين ومكره بالماكرين وكيده للكائدين لا يحتاج إلى تأويل لكونه من باب الجزاء من جنس العمل لأن السخرية منه سبحانه بالساخرين كانت بحق وهكذا مكره بالماكرين واستهزاؤه بالمستهزئين وكيده للكائدين كله بحق وما كان بحق فلا نقص فيه, والله سبحانه يوصف بذلك لأن ذلك وقع منه على وجه يليق بجلاله وعظمته, ولا يشابه ما يقع من الخلق؛ لأن أعداءه سبحانه فعلوا هذه الأفعال معاندة للحق وكفراً به وإنكاراً له فعاملهم سبحانه بمثل ما فعلوا على وجه لا يشابه فيه أفعالهم, ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه, وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون, ومن كيده لهم ومكره بهم وسخريته بهم واستهزائه به إمهالهم وإنظارهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة, ومن ذلك ما يظهره للمنافقين يوم القيامة من إظهاره لهم بعض النور ثم سلبهم إياه كما قال عز وجل في سورة الحديد: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد:13) ...
وهكذا قال علماء التفسير من أهل السنة في هذا المعنى:(30/322)
قال الإمام ابن جرير رحمه الله بعد أن ذكر أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة:15) . والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً وهو بذلك من قبله وفعله به مورثه مساءة باطنا وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله الذي أدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام وان كانوا لغير ذلك مستبطنين أحكام المسلمين المصدّقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضَمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم مع علم الله عز وجل بكذبهم واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكّهم فيما ادّعوا بألسنتهم إنهم به مصدّقون حتى ظنوا بالآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقة هم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه, وتفريقه بينهم وبينهم, معدٌّ لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده حتى ميّز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل. كان معلوماً أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن يميز بينهم وبينه مستهزئا وبهم ساخراً ولهم خادعاً وبهم ماكراً إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل دون أن يكون ذلك معناه في حال(30/323)
فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم أو عليه فيها غير عادل بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره"اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو وحدثني سليم بن عامر قال: "خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: "أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات, وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر - وهو بهذا يشير إلى القبر - بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه إلى مواطن القيامة, فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله فتبيض وجوه وتسوّد وجوه, ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نوراً ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئاً وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور:40) . فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير, ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} . وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: من(30/324)
الآية 142) , فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية. يقول سليم بن عامر: "فما يزال المنافق مغترّاً حتى يقسم النور ويميّز الله بين المنافق والمؤمن ثم قال: حدثنا أبي حدثنا يحي بن عثمان حدثنا ابن حيوة حدثنا أرطاة بن المنذر حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة قال: "يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفّه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} ", وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: "بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً فلما رأى المؤمنون النور توجّهوا نحوه وكان النور دليلا من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتّبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون: "ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور". انتهى ما ذكره الحافظ ابن كثير.
وبما ذكرناه عن ابن جرير وابن كثير رحمة الله عليهما يتضح للقارئ أن المكر والسخرية بالكافرين والخداع والاستهزاء بالمنافقين والكيد منه سبحانه لأعدائه كله على بابه ولا يحتاج إلى تأويل بل هو حق من الله وعدل وجزاء لهم من جنس عملهم يليق به سبحانه وليس يماثل ما وقع من أعدائه لأن صفة الله سبحانه وأفعاله تليق به وكلها حق وعدل ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وإنما يعلم العباد من ذلك ما أخبرهم به عز وجل في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.(30/325)
18- نقل الصابوني في مقاله السادس وفي بعض مقالاته السابقة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: "والعلماء أنصار علوم الدين والأشاعرة أنصار أصول الدين". وعزاه إلى المجلد الرابع من الفتاوى وبمراجعة الفتاوى ص 16 من المجلد الرابع اتضح أن هذا الكلام من فتوى الفقيه أبي محمد لا من قول شيخ الإسلام وبذلك يعلم وهم الأخ الصابوني في النقل المذكور وهذا الكلام على فرض صحته لا يدل على أن الأشاعرة لا ينكر عليهم ما أخطأوا فيه فان القاعدة الشرعية كما نبّه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره أن العالم يمدح بما وافق فيه الكتاب والسنة ويذم على ما خَالف فيه الكتاب والسنة, وهذا الذي قاله رحمه الله هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة فالأشاعرة وغيرهم يمدحون على ما قالوه وكتبوه في نصر الحق في أبواب أصول الدين وفي غيرها ويذّمون على ما أخطأوا فيه إحقاقا للحق ورداً للباطل حتى لا يشتبه الأمر على من قلّ علمه. والله المستعان.
19- ذكر الصابوني في مقاله السادس ما نصه: "وفي الحديث الصحيح ثلاثة من أصول الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله ولا نكفر مسلما بذنب والإيمان بالأقدار أو كما قال صلى الله عليه وسلم"اهـ.
وبمراجعتنا لهذا الحديث في الأصول المعتبرة اتضح أنه ضعيف جداً, وقد رمز له السيوطي في الجامع بعلامة الضعف, وأخرجه أبو داود من طريق يزيد بن أبي نشبة عن أنس رضي الله عنه, ويزيد هذا مجهول كما في التهذيب والتقريب. قال المناوي في فيض القدير: "يزيد بن أبي نشبة بضم النون لم يخرج له أحد من الستة غير أبي داود وهو مجهول كما قال المزي وغيره".(30/326)
وبهذا يعلم أن جزم الأخ الصابوني بأنه صحيح ليس في محلّه, والأولى أن يقال في مثله هذا: "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم", فينقل بصيغة التمريض كما نص عليه أهل العلم في رواية الأحاديث الضعيفة, ولم يسق الأخ الصابوني لفظه كما ورد, وإليك أيها القاريء نصه عند أبي داود لمزيد الفائدة: حدثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية ثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن أبي نشبة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله, ولا تكفره بذنب, ولا تخرجه من الإسلام بعمل, والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال, لا يبطله جور الجائر, ولا عدل عادل, والإيمان بالأقدار" ا. هـ.(30/327)
وهذا الذي دلّ عليه الحديث قد جاء في معناه أحاديث أخرى صحيحة والقول بمعناه هو قول أهل السنة والجماعة فإن أهل السنة يعتقدون أنّ من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والتزم بمعناه ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام فإنه يجب الكف عنه وحسابه على الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل". ومن عقيدة أهل السنة أن المسلم لا يكفر بذنب من الذنوب التي دون الشرك ولا يخرج من الإسلام بعمل من الأعمال التي لا تلحقه بالمشركين, خلافا للخوارج لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (النساء: من الآية 48) , وكان الأخ الصابوني ذكر هذا الحديث ليستدلّ به على وجوب الكف عن الكلام في الأشاعرة وبيان ما أخطأوا فيه, وهكذا ما أخطأ فيه غيرهم من الفرق الإسلامية وليس الأمر كما زعم فإن الحديث المذكور لو صح لا يدل على شرعية الكف عن من خالف الحق كما أنه لا يدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ما أخطأ فيه المخطئون وغلط فيه الغالطون من الأشاعرة وغيرهم, بل الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة كلها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على من خالف الحق وإرشاده إلى طريق الصواب حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة كما بينا ذلك فيما سبق, وإنما المقصود من الحديث - لو صح -: الكف عن قتال من أظهر الإسلام وتكلم بكلمة التوحيد حتى ينظر في أمره بعد ذلك ويعامل بما يستحق حسب الأدلة الشرعية كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها آنفا. والله سبحانه ولي التوفيق(30/328)
وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا آخر ما تيسّر التنبيه عليه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه إمام المجاهدين ورسول رب العالمين نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
المجتمع(30/329)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة بالجامعة
(1) تعيينات لمناصب مختلفة في الجامعة
في عمادة شئون الطلاب:
تم تعيين الدكتور أحمد سعد الغامدي عميداً لشئون الطلاب بالجامعة خلفاً للشيخ عوض أحمد ابن سلطان الشهري العميد السابق لعمادة شئون الطلاب.
والدكتور أحمد سعد الغامدي من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة في كلية الدعوة وأصول الدين.
وقد وجه معالي رئيس الجامعة الدكتور عبد الله الصالح العبيد خطاب شكر للشيخ عوض الشهري بمناسبة انتهاء فترة تكليفه للقيام بعمل عمادة شئون الطلاب.
وأسرة التحرير تشكر العميد السابق على ما قدم من خدمات جليلة, وتدعو الله أن يوفّق العميد الجديد للنهوض بالمسئوليات الجسام في شئون الطلاب.
في رئاسة الدراسات العليا وعمادات الكليات:
وافق المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في دورته الرابعة عشرة التي انعقدت يومي السبت والأحد 27، 28 ربيع الأول 1404 هـ على التعيينات الآتية:
- عين فضيلة الشيخ عبد الله محمد الغنيمان رئيسا لقسم الدراسات العليا خلفا لفضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي الذي عين بقرار من مجلس الوزراء أمينا عاما للجامعة.
- وعين الدكتور علي سلطان الحكمي عميداً لشئون المكتبات خلفاً للدكتور علي ناصر فقيهي الذي منح إجازة تفرغ لإنهاء بحوث علمية. وكان الدكتور الحكمي وكيلا لعميد شئون المكتبات.
- وعين الدكتور عبد العزيز الصاعدي عميدا لكلية اللغة العربية.
- وعين الدكتور مرزوق بن هياس الزهراني عميداً لكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية.
وطبقا للنظام الأساسي للجامعة فإنّ هذه التعيينات تكون لمدة ثلاث سنوات قابلة للتَجديد فترة أخرى بترشيح رئيس الجامعة وموافقة المجلس الأعلى.
وكيل عميد كلية اللغة العربية:(30/330)
أصدر معالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة قراراً بتعيين الدكتور محمد بن حمود الدعجانى الأستاذ المساعد بالجامعة وكيلا لعميد كلية اللغة العربية اعتبارا من 3/17/ 1404هـ لمدة سنتين. وتم هذا التعيين بناء على ترشيح فضيلة الدكتور عبد العزيز الصاعدي عميد الكلية.
هذا ويشغل الدكتور الدعجاني إلى جانب عمله وكيلا لعميد كلية اللغة العربية مدير تحرير مجلة الجامعة في هيئة تحريرها الجديدة.
وكيل لعمادة شئون المكتبات:
كما أصدر معالي رئيس الجامعة الدكتور عبد الله العبيد قرارا بتعيين الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صالح المحاضر بكلية الشريعة وكيلا لعمادة شئون المكتبات, وذلك لمدة سنتين اعتبارا من 1/5/1404هـ.
والشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صالح أحد خرِّيجي الجامعة الإسلامية من كلية الشريعة.
مدير مكتب نائب رئيس الجامعة، ومدير الإدارة المالية:
تم تكليف الشيخ صالح عوض الأحمدي بعمل مدير مكتب نائب رئيس الجامعة الإسلامية. وكان يقوم بعمل مدير الإدارة المالية بالجامعة. ومن الجدير بالذكر أنه صدر قرار معالي رئيس الجامعة بتعيين الشيخ أحمد أحمد بابا مديرا للإدارة المالية بالجامعة.
أستاذ مساعد بكلية الحديث:
تم تعيين الدكتور عبد الرحيم محمد أحمد القشقري أستاذا مساعدا بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة بعد حصوله على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية. ومن الجدير بالذكر أن فضيلته يرأس قسم المخطوطات بعمادة شئون المكتبات.
مديراً للمعهد الثانوي ومستشاراً برئاسة الجامعة:
تم تعيين الشيخ محمد عبد الله الزربان مديرا للمعهد الثانوي بالجامعة كما صدر قرار معالي رئيس الجامعة بأن يقوم بعمل مستشار بالمرتبة الحادية عشرة برئاسة الجامعة بالإضافة إلى عمله الأصلي.
شغل وظائف إدارية عن طريق المسابقة:(30/331)
أجرت الجامعة الإسلامية مسابقة لشغل عدد من الوظائف الإدارية من المرتبة العاشرة حتى المرتبة الأولى, وذلك باشتراك مندوب من ديوان الخدمة المدنية, وفاز في المسابقة كل من:
- الأستاذ عليان عيد الحربي: "إلى المرتبة العاشرة"في وظيفة مدير الاستقدام والترحيل.
- الأستاذ أحمد أحمد بابا: "إلى المرتبة العاشرة "في وظيفة مدير إدارة الشئون المالية.
- الأستاذ عوض إبراهيم الأحمدي: "إلى المرتبة العاشرة"في وظيفة أخصائي مستودعات.
- الأستاذ مبروك معوض حمدان: " إلى المرتبة التاسعة"في وظيفة أخصائي محفوظات ووثائق.
- الأستاذ الشريف مدني شاكر: " إلى المرتبة الثامنة"في وظيفة رئيس قسم التوظيف.
- الأستاذ محمد إبراهيم التركي: "إلى المرتبة السابعة "في وظيفة فني صيانة.
- الأستاذ غرم الله علي الغامدي: "إلى المرتبة السابعة"في وظيفة مشرف سكن.
- الأستاذ محمد ياسين محمد: "إلى المرتبة السادسة"في وظيفة مشرف اجتماعي.
- الأستاذ فائز عواد عيد: "إلى المرتبة الرابعة "في وظيفة كاتب.
- الأستاذ عبد الرحمن صالح حجري الرحيلي: "إلى المرتبة الثالثة "في وظيفة كاتب.
- الأستاذ عصام صالح العقيل: "إلى المرتبة الثانية"في وظيفة مساعد نجار.
- الأستاذ مساعد غيث الردادي: "إلى المرتبة الأولى"في وظيفة ناسخ آلة.
(2) مشاركة الجامعة الإسلامية في اللجنة السعودية الأندونيسية
غادر المدينة المنورة في أوائل شهر ربيع الأول 1404 هـ فضيلة الشيخ صالح عبد الله المحيسن نائب رئيس الجامعة الإسلامية متوجها إلى أندونيسيا للمشاركة في اللجنة السعودية الأندونيسية المنوط بها تنفيذ الاتفاقية الثقافية للتعاون العلمي والتعليم الإسلامي.(30/332)
وقد ترأس وفد المملكة العربية السعودية سعادة وكيل وزارة التعليم العالي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي وضم ممثلين عن بعض الوزارات في المملكة وممثلين عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وجامعة أم القرى بمكة المكرمة بالإضافة إلى ممثلين عن المركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا بالمملكة.
ومن الجدير بالذكر أن الاتفاقية الثقافية للتعاون العلمي والتعليم الإسلامي قد وقعت عام 1401هـ وصدر مرسوم ملكي بالمصادقة عليها عام 1402 هـ.
(3) الأمين العام للجامعة يتصل بالجامعات المصرية
غادر إلى القاهرة فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي الأمين العام للجامعة في منتصف شهر ربيع الثاني حيث قضى فضيلته قرابة أسبوعين أجرى خلالهما عديدا من الاتصالات مع المسئولين في الجامعات المصرية تمهيدا للتعاقد مع أعضاء هيئة التدريس اللازمين للجامعة الإسلامية في العام الدراسي القادم 1404 /1405 هـ.
(4) المخيم التربوي لطلاب الجامعة في عطلة الربيع
أقامت الجامعة المخيم التربوي في عطلة نصف العام الدراسي بمنطقة ينبع البحر, بهدف تنمية قدرات الطلاب واكتشاف عناصر التفوق عندهم ولتأهيلهم للقيام بواجب الدعوة إلى الله, وذلك من خلال ما وضعه المشرفون على المخيم من برامج وأنشطة مختلفة في الجوانب الثقافية والاجتماعية والرياضية ...
وقد أدار المخيم فضيلة الدكتور أحمد عطية الغامدي عميد كلية الدعوة وأصول الدين، وساعده فضيلة الدكتور عبد العزيز راجي الصاعدي عميد كلية اللغة العربية.
وقد اشتمل البرنامج الثقافي والتربوي للمخيّم على العديد من المحاضرات واللقاءات الفكرية التي أسهم فيها كل من فضيلة الدكتور صالح بن سعد السحيمي والشيخ جبران بن أحمد صالح والشيخ عطية عتيق الزهراني أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية والذين تولوا مشكورين مأجورين من الله مهمة توجيه الطلاب وإرشادهم وتثقيفهم والإجابة على استفساراتهم.(30/333)
وقد استمر المخيم أسبوعين ابتداء من 15/4/1404هـ حيث قسم الطلاب إلى فوجين؛ كل فوج مائة طالب لمدة أسبوع وخصص الأسبوع الأول للطلاب الذين يدرسون في المعهد الثانوي والمعهد المتوسط وداري الحديث المدنية والمكية، وخصص الأسبوع الثاني لمائة طالب من طلاب المرحلة الجامعية.
هذا وقد زار طلاب المخيم ميناء ينبع ومصنع الأسمنت وعملية تحلية مياه البحر إلى مياه عذبة. واشتمل برنامج المخيم على جولات حرة في مدينة ينبع تعرفوا فيها على أهم معالم المدينة.
هذا وقد زار معالي رئيس الجامعة الدكتور عبد الله الصالح العبيد المخيم وقضى يوما كاملا مع طلابه وتعرف على أوجه نشاطهم.
(5) لجان من الجامعة للتعرف على الطلاب المرشحين للدراسة للعام القادم
تم تشكيل ستّ لجان من بعض مسئولي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكلفت هذه اللجان لزيارة العديد من المدارس العربية والإسلامية التي تقبل الجامعة طلابا منها على سبيل المنح، وتهدف هذه الزيارة إلى معرفة مناهجها الدراسية وخطتها وسيرها الدراسي والاطلاع على أوجه نشاطها الاجتماعي وكذا مقابلة المعلمين في هذه المدارس، والالتقاء بالطلاب المرشحين للدراسة في الجامعة الإسلامية للعام الدراسي القادم 1404/ 1405 هـ, وتشمل زيارة هذه اللجان كثيرا من بلدان العالم, ومنها تايلاند والفلبيين، وماليزيا وسنغافورة، وأندونيسيا، وجزر القمر، ومدغشقر، موزمبيق، وموريشيوس، وباكستان وكشمير، والهند ومالديف وكينيا، وأوغندة، وتنزانيا.
(6) شخصيات ووفود إسلامية في زيارة الجامعة
زار الدكتور فرحان أحمد فيظامي الأستاذ بجامعة أكسفورد ببريطانيا الجامعة الإسلامية واجتمع خلال هذه الزيارة بمعالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة وقام بجولة للتعرف على معالم الجامعة شملت مطبعة الجامعة وقسم المخطوطات بالمكتبة المركزية.(30/334)
كما قام بزيارة الجامعة وفد من طلاب المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالرياض في 14/ 5/ 1404 هـ. والتقى فضيلة الدكتور محمد حمود الوائلي بهذا الوفد في لقاء ودي وقام الوفد بزيارة لقسم المخطوطات بالمكتبة المركزية ولكلية الدعوة وأصول الدين والتقى مع مدير مركز شئون الدعوة.
كما قام بزيارة الجامعة وفد من ولاية كلنتان بماليزيا ضم في عضويته السيد هاشم أحمد رئيس الهيئة التنفيذية لمجلس ولاية كلنتان والسيد منصور صالح مدير المؤسسة الإسلامية بكلنتان ونائبه السيد نعمان عبد اللطيف والسيد عبد العزيز عمر نائب مدير دار التعليم بكلنتان، واجتمع بالوفد فضيلة الشيخ صالح عبد الله المحيسن نائب رئيس الجامعة وأدار حوارا مع الوفد حول شئون الدعوة الإسلامية والتعليم الإسلامي وتدعيم سبل التعاون بين الجامعة والمؤسسات الإسلامية بولاية كلنتان. واجتمع الوفد بفضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة رئيس مجلسه شئون الدعوة. وبالشَيخ حسن الصايغ مدير مركز شئون الدعوة في أثناء زيارة مركز شئون الدعوة
· وزار الجامعة السيد أبو بكر ضاحي السكرتير الأول بسفارة جامبيا بالمملكة واجتمع به فضيلة الشيخ صالح عبد الله المحيسن نائب رئيس الجامعة حيث تعرف سعادته على أحوال طلبة جامبيا في الجامعة كما قام بزيارة لعميد شئون الطلاب الدكتور أحمد سعد الغامدي ومدير مركز شئون الدعوة الشيخ حسن الصايغ.
· وزار الجامعة فضيلة الشيخ مصطفى الغزال أمين عام الكلية الزيتونية بتونس والتقى بكل من معالي رئيس الجامعة الدكتور عبد الله العبيد وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد رئيس المجلس العلمي بالجامعة وفضيلة الشيخ صالح عبد الله المحيسن نائب رئيس الجامعة.(30/335)
· ومن الجمهورية التونسية زار الجامعة وفد من المديرين العموميين من وزارة الشباب والرياضة ومندوبين من الحزب الدستوري الحاكم ومديري فروع رعاية الشباب ومديري وم ف تشي معاهد التربية الرياضية وجاءت هذه الزيارة تلبية للدعوة الموجهة من الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وقد اجتمع فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي الأمين العام للجامعة بهذا الوفد، كما زار الوفد عميد شئون الطلاب وقسم المخطوطات بالمكتبة المركزية.
(7) رسائل جامعية
نوقشت رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب عبد الرحيم محمد أحمد القشقري (السعودي الجنسية) وموضوعها: "كتاب المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للزركشي - تحقيق ودراسة - ", وذلك مساء السبت الموافق 27/3/ 1404هـ بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة, وتكونت لجنة المناقشة برئاسة فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري المشرف على الرسالة وعضوية كل من الدكتور أحمد نور سيف والدكتور ربيع بن هادي مدخلي.
كما نوقشت رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب عبد الرحيم صالح محمد يعقوب (أفغاني الجنسية) وموضوعها: "تحقيق لكتاب: تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع لأبي زيد الدبوسي من أول باب القياس إلى نهاية الكتاب ", وذلك مساء يوم الخميس 8/5/ 1404 هـ بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية، وكانت لجنة المناقشة مكونة برئاسة الدكتور عمر عبد العزيز محمد المشرف على الرسالة وعضوية كل من الدكتور حسين خلف الجبوري والدكتور عبد القادر شحاتة.
ونوقشت رسالة الماجستير المقدمة من الطالب جفري أفندي وهاب وموضوعها "الشرك وأنواعه ", وذلك بعد صلاة المغرب من يوم 9/ 4/ 1404 هـ بقاعة المحاضرات بالجامعة وتكوّنت لجنة المناقشة برئاسة فضيلة الشيخ عبد الله محمد الغنيمان المشرف على الرسالة وعضوية كل من فضيلة الشيخ حماد الأنصاري وفضيلة الشيخ محمد أمان.
حول المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة(30/336)
بموافقة سامية من صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز- حفظه الله- تم عقد المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في المدة من 25- 30 ربيع الأول 1404هـ الموافق الأحد (أول يناير إلى 3 يناير 1984م) وكان موضوعه هو "سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين ". وجاء هذا المؤتمر الثاني امتداداً للمؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة الذي عقد في رحاب الجامعة الإسلامية في المدة من 24-29 صفر 1397 هـ الموافق: (12-17 فبراير 1977م) .
وقد اتخذت الجامعة الإسلامية كافة الوسائل الكفيلة بإنجاح المؤتمر وتحقيق أهدافه، وعقدت لجاناً متعددة لخدمته، وأرسلت إلى العديد من المفكرين الإسلاميين والدعاة وإلى الكثير من الهيئات والمؤسسات الإسلامية العاملة في ميدان الدعوة، وتلقت العديد من البحوث، ووقع الاختيار على (35) خسة وثلاثين بحثاً تغطي موضوع المؤتمر، ووجهت الدعوات لحضور المؤتمر إلى أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة من الوزراء ومديري الجامعات والعلماء والمفكرين من داخل المملكة وكثير من الأقطار الإسلامية ومن رجال الفكر الإسلامي.
وتحت رعاية صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز- حفظه الله افتتح صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أعمال المؤتمر وألقى كلمة جلالة الملك المعظم نيابة عنه.
وعقد المؤتمر ثماني جلسات في قاعة المحاضرات تم فيها مناقشة البحوث، وختم المؤتمر بحفل ختامي أعلنت فيه التوصيات التي انتهى إليها المؤتمر.
ويسرنا أن نسجل هذه التوصيات رصداً لهذا الحدث الإسلامي العظيم.
توصيات المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
مقدمة:
الحمد لله الذي جعلنا بالإسلام خير أمة.. والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه ومن اتبعه.. وبعد:(30/337)
فإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - انطلاقا من رسالتها وأهدافها في تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين - قد دعت إلى عقد المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة لبحث وسائل التضامن والوحدة بين المسلمين: تحقيقا لما يجب أن يكون بينهم من تعاون على البر والتقوى، وقياما بواجب الدعوة، واستجابة لله وللرسول فيما أمروا به من الاعتصام بدينهم والاجتماع عليه وما نهوا عنه من التفرق والاختلاف من بعد ما جاءهم البينات..
وقد تم بعون الله وتوفيقه عقد هذا المؤتمر في مقر الجامعة الإسلامية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفترة من 25-.3 من شهر ربيع الأول 1404 هـ، واشترك فيه علماء ودعاة من العالم الإسلامي.
وبعد دراسة البحوث المقدمة في موضوع المؤتمر والنظر في واقع المسلمين وما يجب أن يكونوا عليه من أخوة وتعاطف وترابط فإن المؤتمر يناشد المسلمين بعامة وحكامهم وأولياء أمورهم بخاصة أن يقدروا الظروف التي تمر بهم والأخطار المحدقة بأوطانهم، وأن يعملوا جميعا على جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم باتباع دينهم وطرح الشعارات المنافية له، وأن يخضعوا كل شيء من أمرهم لإعلاء كلمة الله عز وجل أداء لرسالتهم وتحقيقا لعزتهم ورحمة للعالمين، كما يذكرهم أن يردوا أيّ شيء تنازعوا فيه إلى الله والرسول عملاً بقول ربهم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: من الآية 59) .
وفي سبيل تحقيق ذلك:
يؤكد المؤتمر- في مقدمة توصياته- العناية بتنفيذ جميع توصيات المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة, لشمولها وأهميتها البالغة على طريق الدعوة الإسلامية.
ويوصى بما يلي:
أولا: العقيدة والشريعة:(30/338)
1- أن يعمل المسلمون جميعاً حكّاماً ومحكومين على ترسيخ العقيدة الإسلامية الخالصة الصافية، وتعميق حقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله في قلب كل مسلم ومسلمة بعلم ويقين، حتى تكون العبادة خالصة لله وحده وموافقة لشرع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى يظهر أثر ذلك: صفاء في النفس، واستقامة في الخلق، وصلاحاً في العمل، واعتزازاً بالإيمان، وغيرة على الإسلام، ووحدة وأخوة وتعاوناً بين المسلمين.
2 - دعوة ولاة الأمور في الأقطار الإسلامية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في كافة شئون الحياة, قياما بما أوجبه الله عز وجل عدلاً منه ورحمة، وخروجاً من دائرة الإثم, والتعرض للعقوبات العاجلة والآجلة، وتوحيداً لمسيرتهم في حياتهم على منهج الإسلام، وتعزيزاً لسبل التعاون والتضامن فيما بينهم، وتوفير الأمن والرخاء والاستقرار والنمو في مجتمعاتهم.
وينوّه المؤتمر بما تحقق قريبا في الباكستان والسودان وموريتانيا من اتجاه إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وبدء في تنفيذ ذلك.
3- أن تقوم هيئات الدعوة الإسلامية ومؤسساتها والجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي بجهود علمية نشطة في دراسة أوضاع المسلمين وتشخيص أسباب تفرقهم وتخلفهم وولاء بعضهم لأعدائهم واتباعهم في مذاهبهم وسياستهم، وبيان سبل إصلاح هذه الأوضاع ودعوة المسلمين إليها شعوبا وحكومات للأخذ بها والعودة إلى ما يجب أن يكونوا عليه أمة مسلمة واحدة تقوم على التوحيد الخالص في العقيدة والعبادة، والسير على نهج السلف الصالح خير القرون من الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان.
4- يؤكد المؤتمر ألا سبيل لهذه الأمة لاستعادة مجدها ومكانتها العزيزة القوية القيادية بين الأمم وانتصارها على أعداء الله وأعدائها إلا بالله، ثم بتضامنها ووحدتها وتمسّكها الكامل بعقيدتها ومنهج شريعتها وجهادها في سبيل ذلك.. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ثانيا: الدعوة والدعاة:(30/339)
5- أن يكون للمسجد - منبر الإسلام الأوّل ومنطلق دعوته وأساس دولته - دوره البارز والفعال في توجيه المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية وهدايتهم إلى سبيل ربهم، ومنهج دينهم ودنياهم على طريق تضامنهم ووحدتهم، وتطهير مجتمعاتهم من عوامل التدابر والخلاف والفرقة، وتقوية عناصر التآخي والتواد والتعاطف والتراحم والتعاون فيما بينهم مهما تباعدت أوطانهم.. وأن يشارك المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة بجهوده في توجيه هذا النشاط وتعزيزه وتنسيقه.
6- تعميم مراكز الدعوة الإسلامية في العالم الإسلامي وغيره, وتوثيق الاتصال بينها لتوحيد سياستها وتعزيز جهودها وتنسيق برامجها.
7- يؤكّد المؤتمر على أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي أوجبه الله عز وجل وجعله أساسا لخيرية هذه الأمة لما يستهدفه من إقامة حياة المسلمين على الحق والخير وتطهيرها من كل باطل وشر ... ويوصي الأقطار الإسلامية جميعاً بتعميم إنشاء هيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتوفير كل ما يمكنها من أداء رسالتهاَ أداء كاملا استجابة لقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71) .(30/340)
8- أن تتحمل أجهزة الإعلام في جميع الأقطار الإسلامية مسئوليتها تجاه أمتها، وأن تؤدي دورها كاملا في إبراز معاني التضامن والوحدة ومزاياهما وإظهار مساوئ الخلاف والفرقة، وتكوين رأي عام إسلامي يدرك خصائص أمته التي جعلها الله بها خير أمة أخرجت للناس، ويعي حقيقة تضامنها ووحدتها ويتجاوب معهما: وجدانا وعقلا وسلوكا في كل جوانب الحياة.
والإعلام قادر بإذن الله بقوة تأثيره واتساع دائرة جماهيره أن يخطو بجهود مخلصة خطرات جادة تؤدي إلى الهدف المنشود.
9- ألا تكون الخلافات المذهبية في الفروع سببا للتفرق والتباعد بين المسلمين, وعلينا أن ننبذ التعصبات المذهبية التي يذمها الإسلام ويرفضها, وأن نلتزم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة تطبيقاً لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (النساء: من الآية 59) , وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} .
10- تكوين هيئات إسلامية للتضامن والوحدة في الأقطار الإسلامية توفّر جهودها وتوجّه نشاطها في هذا السبيل.
11- يوصي المؤتمر الهيئات والمؤسسات والجامعات ورجال الدعوة في البلاد الإسلامية:
· بمكافحة الفرق الخارجة عن الإسلام والفرق المبتدعة والزائغة التي تهدد الإسلام وتفرّق جماعته والعمل المشترك لدعوتهم إلى الحق والقضاء على شرهم.
· وبالوقوف في وجه الدعوات العنصرية والقومية التي تفتت الكيان الإسلامي الواحد إلى كيانات صغيرة تفقدها قوتها ويسهل على أعدائها المتربصين بها قيادتها والسيطرة عليها.(30/341)
12- مقاومة الغزو الفكري من قبل أعداء الإسلام والمسلمين ممثلا في: مؤلفاتهم وصحفهم وإذاعاتهم وجامعاتهم ومؤتمراتهم وغير ذلك من المجاَلات, والوسائل التي تستهدف تضليل المسلمين وبخاصة الشباب في دينهم وتوهين عقيدتهم واتصالِهم بشريعتهم، وتشتيت أفكارهم وتفريق كلمتهم وإضعاف ولائهم لدينهم ومبادئه السامية وقيمه العليا، وانتمائهم إلى أمتهم الإسلامية, مستغلين في ذلك تقدمهم المادي.
وهذه المقاومة هي واجب الجامعات وأجهزة الإعلام وهيئات الدعوة ومراكزها والعلماء والدعاة وقادة الفكر المسلمين في سائر الأقطار الإسلامية: حماية للمجتمع الإسلامي من آثار هذا الغزو وإظهارا للفكر الإسلامي ومباديء الإسلام ومناهجه وقيمه العليا المستمدة من: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
13- تيسيراً لقيام الدعاة بواجبهم وتذليلا لما يعترضهم من بعض العوائق يوصي المؤتمر: حكومات البلاد الإسلامية بتسهيل سرعة حصول الدعاة على الإقامة وعلى سمة الدخول في البلدان الإسلامية وغيرها وإعطائهم بطاقات معترف بها من الجهات ذات الاختصاص.
14- انطلاقا من أهمية الدعوة الإسلامية ومسئوليتها الكبرى في عالمنا المعاصر وضرورة العناية بالدعاة وتعزيز جهودهم وكفاءتهم لأداء رسالتهم يوصي المؤتمر بإنشاء (مجلس عالمي للدعوة والدعاة) يعنى بشئون الدعوة الإسلامية والدعاة في العالم ... ومن أهم أهدافه:
· توجيه سياسة الدعوة الإسلامية في العالم.
· في تنسيق جهود الدعاة والجهات المعنية بها وتعزيز تعاونهم لأداء رسالتهم الأداء المنشود.
· دراسة مناهج الدعوة وأساليبها ووسائلها، وتزويد الدعاة بنتائج هذه الدراسات للاستفادة منها وتطبيقها في مجال الدعوة.
· تزويدهم بالمراجع المعتمدة والكتب التي تعينهم في أداء رسالتهم وتحقيق أغراض الدعوة.
· تنظيم البرامج التدريبية للدعاة.
· تمويل الدعوة عن طريق صندوق ينشأ لذلك يتبع المجلس.(30/342)
ويوصي المؤتمر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة أن تقوم بإنشاء هذا المجلس في أقرب وقت.
ثالثا: الجهاد، وحركات التحرر الإسلامي:
15- يؤكد المؤتمر أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية، وعلى المسلمين واجب الجهاد بكل قدراتهم لاسترداد فلسطين المسلمة والمسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى من أيدي الصهاينة المعتدين المغتصبين، ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني المسلم المشرد المضطهد المعذب.. وعليهم أن يكونوا صفا واحدا ضد اليهود ومن وراءهم.. ويناشد المؤتمر أبناء فلسطين أن يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم تحت راية الإسلام.
16- إن جهاد الشعب الأفغاني المسلم لدفع العدوان الشيوعي الهمجي على أرض أفغانستان لمحو الإسلام هو جهاد الأمة الإسلامية جمعاء ... ويوصي المؤتمر أن يشارك المسلمون جميعاً إخوانهم الأفغانيين في جهادهم وأن يكونوا معهم ومن ورائهم بأموالهم وأنفسهم وألسنتهم حتى ينتصروا على عدو الله وعدوهم.
17- يوصي المؤتمر جميع المنظمات التي قامت لمناهضة الاستعمار والاحتلال الأجنبي لأوطانها (كأرتيريا) وغيرها أن تلتزم بتعاليم دينها وأن يكون جهادها تحت راية الإسلام حتى يتحقق لها التضامن فيما بينها والانتصار على أعدائها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: من الآية40) .. ويوصي المؤتمر بدعمها وإعانتها.
رابعا: التعليم، والتربية، والبحث العلمي:
18- أن تعمل الحكومات الإسلامية على توحيد سياسة التعليم في جميع المراحل، والتقريب بين المناهج الدراسية وصبغها بالصبغة الإسلامية التي تحفظ للأمة خصائصها التربوية والتعليمية والعلمية المستمدة من الكتاب والسنة.
ويوصي المؤتمر المركز العالمي للتعليم الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة بالقيام بالدراسات التي تيسر للحكومات تحقيق ذلك.(30/343)
19- التوسع في إنشاء الجامعات الإسلامية في جميع الأقطار الإسلامية في التخصصات الشرعية وفي التخصصات الأخرى التي يحتاج إليها المسلمون في نواحي المعرفة الإنسانية من: طب، وهندسة، وزراعة وغيرها، مع العناية بتربية الطلاب في جميع تخصصاتهم تربية إسلامية تجمع بين العلم والعمل حتى يتيسر لأبناء المسلمين- حيثما يوجدون- تحقيق رغباتهم في مواصلة تعليمهم الجامعي في جامعات تعنى بإعدادهم إعدادا إسلاميا متكاملا، يمكنهم من حمل رسالة الإسلام الشاملة، وتطبيق أحكامه في كل مجالات الحياة.
20- دعوة الجامعات والهيئات والمؤسسات المتخصصة في جميع الأقطار الإسلامية إلى التعاون في مجالات البحوث والدراسات العلمية والتقنية المتطورة في كل فروع المعرفة الإنسانية ونواحي الحياة، والارتقاء بها إلى ما يحقق للأمة الإسلامية التقدم العالمي المنشود في هذا المضمار الذي تتسابق فيه الأمم بكل طاقاتها لتسبق غيرها. وإلى ما يمكن هذه الأمة من بناء قوتها وحضارتها دون اعتماد على غيرها.
21- أن تعنى الجامعات في الأقطار الإسلامية بالتوسع في توفير المنح الدراسية للطلاب المسلمين في مختلف التخصصات لتنمية التآخي والتعاون بين المسلمين، وتعميم العلوم الإسلامية والمعارف الإنسانية بين الشباب المسلم.
22- التوسع في إنشاء المدارس والمعاهد التي تستوعب أولاد المسلمين حتى لا يتجهوا إلى الالتحاق بالمدارس غير الإسلامية التي تؤثر على عقيدتهم وأخلاقهم وولائهم لدينهم، وانتمائهم إلى أمتهم الإسلامية.
23- أن تكون اللغة العربية لغة أساسية في مناهج التعليم في جميع الأقطار الإسلامية بالقدر الذي يمكن من إجادتها إجادة اللغة المحلية, وأن يكون تخاطب الشعوب الإسلامية بها هدفا أساسيا يسعى الجميع إلى الوصول إليه بكل الجهود والوسائل, وعلى أجهزة الأعلام أن تشارك بجهودها وبرامجها في هذا المجال.(30/344)
وفي تحقيق ذلك توحيد للسان الأمة الواحدة بلغة كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم, وتقريب عقلي ووجداني بين شعوبها، فضلا عن تيسير تفقهها في دينها، وتوسيع دائرة المعارف في مجالات علومه المتعددة.
24- أن يكون التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين ضمن ما يركز عليه في مناهج الثقافة الإسلامية في مختلف مراحل التعليم.
25- العناية في دراسة التاريخ والجغرافيا للأقطار الإسلامية باعتبارها أمة واحدة تترابط وتتفاعل أجزاؤها وتتكامل ثرواتها وطاقاتها ويتحد مصيرها.
26- العناية - خاصة في مراحل الطفولة والشباب - بالتربية الإسلامية المبنية على الإيمان وإخلاص العبادة لله عز وجل، وربطها بمبادئ الأخوة والمودة والتعاون والأخلاق والآداب الإسلامية الفردية والاجتماعية المستمدة من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح, وأن تتعاون في ذلك جميع المؤسسات المعنية بالتربية من: الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والجامعة، ومراكز الدعوة والثقافة، والمؤسسات الشبابية والإعلامية.
ويؤكد المؤتمر أهمية العناية برعاية الشباب وتنشئتهم تنشئة إسلامية خالصة: عقيدة وخلقا وسلوكا.. وبناء حياتهم على الاستقامة والجد والحزم والقوة والصبر، وحب الطاعة والبر، وكراهية المعصية والشر، والبعد عن مظاهر الترف ومجالات اللهو واللعب وإضاعة الوقت فيما لا يعود عليهم بنفع يدعو إليه دينهم.
27- دعوة مراكز البحث العلمي ودور النشر إلى تشجيع تأليف الكتب وإعداد البحوث والدراسات لبيان حقيقة الإسلام وشرائعه والدعوة إليه ولا يجب أن تكون عليه الأمة الإسلامية من تضامن ووحدة، ونشرها على أوسع نطاق باللغات المختلفة، وتيسير الحصول عليها.(30/345)
28- يؤيد المؤتمر ما جاء في توصيات لجنة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في المؤتمر الطبي السعودي الثامن من ضرورة العناية بأبحاث الإعجاز العلمي التي تقوم على تحقيق الأدلة الشرعية والكونية لأهميته في مجال الدعوة في هذا العصر.. ويوصي أن يتم ذلك بالتنسيق بين الجامعات المتخصصة في الشريعة الإسلامية والعلوم الكونية.
خامسا: المال، والاقتصاد:
29- يؤكد المؤتمر أهمية الاستفادة من الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة في تحقيق التضامن والتراحم والتنمية في المجتمعات الإسلامية, ويوصي الحكومات في الأقطار الإسلامية بالعمل على تشجيع وتنظيم جمع الزكاة وإنشاء مؤسسات خاصة بها وإنفاقها في مصارفها الشَرعية، والعناية برعاية فقراء المسلمين وسد حاجاتهم وبخاصة اليتامى منهم، وذلك على مستوى التكافل بين جميع الأقطار والأقليات الإسلامية.
30- يؤكد المؤتمر ضرورة التعاون الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية على أساس إسلامي، ويوصى بإقامة المؤسسات الإسلامية المشتركة التي تنمي ثروة المسلمين وتعزز قوتهم وتحقق التكامل بين أقطارهم في هذا المجال الحيوي.
ويوصي المؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي أن تعمل على تحقيق ذلك من خلال مؤسساتها، وبالتوسع في دعم المشروعات في الأقطار الإسلامية، وفي تقديم المساعدات المالية للمحتاجين إليها، خاصة في مجال توفير الخدمات التعليمية والصحية وغيرها، مع العناية بمناطق الأقليات الإسلامية.
31- أن تكون الأولوية للأقطار الإسلامية في العمالة والتبادل التجاري والصناعي، والمشروعات الاستثمارية وغيرها مما ينمي ثروة الأمة الإسَلامية ويدعم قوتها.(30/346)
32- يؤكد المؤتمر وجوب أن يكونَ إيداع أموال المسلمين في مصارف إسلامية، تلتزم في معاملاتها المالية بأحكام الشريعة الإسلامية.. ويدعو إلى التوسع في إنشاء هذه المصارف غير الربوية لتشمل سائر الأقطار الإسلامية، وإلىَ تعزيزها بالأموال لمساعدتها على بناء اقتصاد إسلامي، يقضي على الاقتصاد الربوي القائم ويحل محله.
ويؤكد أيضا على تجنب إيداع أموال المسلمين في المصارف غير الإسلامية إذ أن هذا الإيداع - فضلا عن أنه محرم شرعا- فإن استثمار هذه الأموال في تلك المصارف قوة لأعداء المسلمين.
33- يوصي المؤتمر بالحد من استيراد الكماليات، ومنع استيراد وسائل الترف مطلقا، وخاصة من البلاد الأجنبية التي تتخذ من بلاد المسلمين سوقا لبيع بضاعتها واستنزاف أموال المسلمين وثرواتهم.
سادسا: الأقليات الإسلامية:
34- يوصي المؤتمر بالعناية برعاية الأقليات الإسلامية ومساعدتهم في تفقيههم في دينهم وتوفير احتياجاتهم الضرورية وحل مشكلاتهم، والحصول على حقوقهم العادلة مثل غيرهم من المواطنين دون تفرقة، ومن ذلك حقهم في التحاكم إلى شريعتهم الإسلامية في شئونهم الخاصة وأدائهم لشعائرهم الدينية دون مضايقة: حماية لهم ولعقيدتهم وحياتهم الإسلامية وتعزيزا لولائهم لدينهم والعمل به وانتمائهم إلى أمتهم الإسلامية الواحدة.
سابعا: توصيات عامة:
35- دعوة الحكومات في جميع الأقطار الإسلامية إلى الاتفاق على (ميثاق إسلامي) مستمد من الكتاب والسنة، يجمع كلمتها ويوحد سياستها ويعزز قوتها، ويجعل ولاءها لدينها، وفيما بينها، وانتصارها بربها، لا بالتحالف مع أعدائها، وأن تكون العلاقات الدولية خاضعة للسياسة الشرعية الإسلامية.(30/347)
36- أن تتبنى منظمة المؤتمر الإسلامي إنشاء هيئة للتعاون الإسلامي تعنى بدراسة سبل التعاون والتكامل بين الأقطار الإسلامية في جميع مجالات الحياة: الصناعية، والتجارية، والاستثمارية، والدفاعية، والأمنية، والزراعية، والاجتماعية، والصحية وغيرها، والعمل على تحقيق ذلك.
37 يتابع أعضاء المؤتمر ما يقع لبعض البلاد الإسلامية من محاولات التنصير المدعوم بالقوى المادية و (الاستعمارية) ، ويرى ضرورة العمل من جانب الحكومات والمسلمين على التصدي لهذه المحاولات بإعداد المسلم إعدادا يمكنه من الثبات على دينه والتأثير في غيره لا التأثر به، والعمل كذلك على إقامة المؤسسات وتوفير الخدمات التي تعينه على السير في مجال التعليم، والتمتع بالرعاية الصحية والاجتماعية.
38- يوصي المؤتمر الدول والهيئات الإسلامية وجميع المسلمين بالعناية بالذين يدخلون في الإسلام لحاجتهم الماسة إلى معاونتهم على زيادة معرفتهم بدينهم الحنيف وإلى الرعاية الأخوية والاجتماعية ومساعدتهم على التكيف مع حياتهم الإسلامية تكيفا يزيدهم إيمانا بدينهم وألفة ومودة بين إخوانهم المسلمين.
39- إن المؤتمر إذ يقدر الأهمية البالغة للعناية الكاملة بأطفال المسلمين جيل المستقبل للأمة الإسلامية (خاصة فاقدي العائل منهم) ليوصي الحكومات والجمعيات والمؤسسات وذوي القدرة من المسلمين بتوفير رعايتهم الرعاية الشاملة ووضع البرامج وإنشاء المؤسسات التعليمية في مراحلها المختلفة والايوائية وغيرها التي تحقق ذلك.. وعلى الدعاة أن يعنوا بهذا الجانب الإسلامي الإنساني الاجتماعي في دعوتهم لتنشيط الجهود في هذا المجال.(30/348)
40- محافظة على البيت المسلم والمجتمع المسلم ومبادئه وقيمه الإسلامية وسلوكه الإسلامي ودرءا للمفاسد المتوقعة يحذر المؤتمر من استخدام غير المسلمين وبخاصة في المنازل، والقيام بتربية الأطفال ورعاية شئونهم: التزاما بواجب الوقاية لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} (التحريم: من الآية 6) , ومسئولية الرعاية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع ومسئول عن رعيته".
41- يؤيد المؤتمر (قيام الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية) بالكويت التي تهدف إلى حماية المسلمين من الهجمات التنصيرية والإلحادية عن طريق العمل الخيري والاجتماعي والثقافي والتنموي، ويدعو المسلمين كافة إلى مساندتها بالدعم المادي والأدبي، امتثالا لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: من الآية 2) .
والمؤتمر إذ يختتم أعماله ويقدم توصياته يسجل خالص شكره وتقديره لجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز المعظم وولى عهده الأمير عبد الله بن عبد العزيز وحكومته الرشيدة وشعبه الكريم لاستضافة هذا المؤتمر الإسلامي العالمي، وما لقيه أعضاؤه في المملكة العربية السعودية والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من أخوة وحفاوة وتكريم.. ويتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء أن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه عزة الإسلام وإعلاء كلمته وخير المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والمهتدين بهديه الداعين بدعوته إلى يوم الدين.(30/349)
رسالة إلى رئيس التحرير
الدكتور أحمد عطية الغامدي المحترم ...
بعد التحية والتقدير: إن الأدب الإسلامي مما شرفه الله بأن يكون ثوباً يلبس ... وحلية يتحلى بها ... وبالقرآن والشريعة الغراء كانت اللغة أدبا ومفردات باقية إلى يوم الدين لأن القرآن والشريعة باقية ... ومن هنا كان لدولتنا- رفع الله منارها وأعز شعارها- شرف إعزاز الدين ونشره امتداداً للسلف الصالح ... من الخلفاء الراشدين إلى هذا اليوم الذي أحيت فيه الدولة للعلم قيمته ونشرت إلى الملأ عَلَمَه وعلى الدنيا نوره بعد أن كان باهتا في كثير من العالم ... وخاملاً في جل أقطار الدنيا.
وما هذه الجامعة التي يدرس فيها عشرات الجنسيات من أسود وأبيض وأحمر وأصفر إلا لغة ناطقة بالحق وداعية إليه في بلادها حيث نهَلت من العلم الصحيح والدين السليم الخالي من كل بدعة ونحلة ضالة مضلة ... ومن كل أفكار وآراء مُخِلّة ... من هنا أجد أن شباب جامعتنا - الجامعة الإسلامية- انتقلت من طور التعليم والتربية الإسلامية إلى طور الدعوة بهذه الموسوعات التي أجدها نهراً كالنسيم ... يسيل منهمراً وينتثر درّاً. وإن في العدد الخاص "61 "من المجلة لعام 1404 هـ من الدعوة إلى الله وعن الواقع المعاصر, ما منحنا فيه الدكتور عبد الله صالح العبيد من الأفكار عن الدعوة ومن الشرف باحتضان المؤتمر العالمي الثاني لتوجيهها وأهميتها ودافعها وأسباب وظواهر الصحوة الإسلامية والحاجة لمراجعة هذا الواقع ومتطلباتها وما نحن فيه بين الواقع والمستقبل مختتما حديثه وبحثه بالأمل والرجاء في أن يلتقي العاملون في مجال الدعوة في رحاب الجامعة الإسلامية للاتفاق إلى الهدف والغاية المثلى.(30/350)
ولقد كان للشيخ أبي بكر الجزائري هو الأخر تُحَب (بضم التاء وفتح الحاء) أحاديثه لأن له إلماماً عميقاً بالتوحيد وفهماً صحيحاً للعقيدة تبدو لي من خلال أحاديثه فجراً في كثير من الأيام وحديثه عن "آية العدد" شرحاً واستنتاجاً وتعليقاً وتفسيراً ما يجعل من بحثه كنزاً دقيقاً سال على الصفحات التسع…
وما بحث عميدنا الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي - الجماعة في ضوء الكتاب والسنة- بأقلِ فائدة ولا بأضأل أهمية, إنه حديث جم المنابع وفيه من الآداب والتربية ما يعطي القارئ المسلم نوراً وهدى ... وإنّ ما فيه من الأدلة الواضحة والشواهد الجليلة والاستنباطات الدقيقة ما يجعله يغني عن كتب ... وإفاضته عن المساجد وأثرها في تمتين الروابط وتقوية الأواصر ما يهب المسلم قوة معنوية تجعله يقبل على الصلوات الخمس جماعة التي هي ألزم ما يكون بين المسلمين.
ولقد ثنى الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي بحديثه المتسلسل- 2- على ذلك حول صلاة الجماعة سائحاً في فقه السنة جامعاً ومفسراً ذلك في ستة عشر صفحة تعتبر موسوعة في مجالها وهذه من مزايا الشريعة والتشريع الإسلامي الذي أبدع فيه الشيخ محمد بن ناصر السحيباني في حديث أنيق وبحث متأمل يحسن أن يكون "كتاب المجلة".
ولقد كان الدكتور صالح سعد السحيمي موفقا في مقاله عن- منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين- إن العقيدة هي السياج الذي يحميهم ويلمّ شعثهم ويزيل العنصريات ويجعل من الجميع قوة واحدة متلاحمة والواقع أن ما تناوله حول الصفات وأسماء الله وما قاله العلماء يعطي القاريء فكرة عن وعي شيخنا وعن اطلاعه الواسع ولاسيما نقده لأولئك الضُلاّل الخارجين على الدين بأفكار شاطحة وآراء نادَّه ... وإن الصوفيين هم أيضا من الشذوذ في درجة استحقوا بها ما استشهد به من شعر في من قال من زعماء الطرق:
إ ن قلت كن يكن بلا تسويف
قد خصّني بالفضل والتشريف(30/351)
وما أجمل أبياتا نقلها في بحثه منها:
وح وحق النصيحة أن تستمع
ألا قل لهم قول عبد نص
بأن الغنا سنة تتبع
متى علم الناس في ديننا
ويرقص في الجمع حتى يقع
وأن يأكل المرء أكل الحمار
لقد رأيت حادثتين في حياتي ... فقد حضرت منذ ثلاثين سنة تقريبا في حفل زاره أحد رؤساء الوزارات في مصر لميلاد الرسول الذي سنوه لأنفسهم وما سنه أحد من المسلمين ورأيت امرأة ترقص حتى تعبت وسقطت من الإعياء ... وحملوها إلى المستشفي والناس يكبرون ويحترمون شأنها ... والثانية كنت في دمشق منذ أكثر من عشرين عاماً ودعاني أحد الإخوان لزيارة- خلوة- في هذه المدينة لجمعية إسلامية تدّعي أنها من السنة وزعيمها ورائدها ... عندما صلينا العصر سألت لماذا لم تصلّ؟ قال: لقد رُفِعَت عني التكاليف ... ثم قال: وقد كان في مبدأ أمره فاسقاً يستعمل كل المحرّمات ثم تاب وأناب وصار يصلي طوال الأربع وعشرين ساعة فهتف به هاتف كما يقول!! وقال له: "غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلا تصم ولا تصل" ... من هنا أنفذ إلى كلمة-الدكتور السحيمي- التي ملأت حيزا واسعا من المجلة, إنها لتنفذ إلى القلوب والأفكار لسدادها وصوابها وجودة بحثها وعمق معانيها.
وما أثر العقيدة الإسلامية ... في تضامن ووحدة الأمة الإسلامية للأستاذ الدكتور أحمد سعد الغامدي- إلا جزء متممٌ لحديث دكتورنا السحيمي إلا أنه فصّل حديثه وقسّمه أقساما أربعة وجزأ الأحاديث لاثني عشر موضوعاً وجعل له خاتمة ثم فصل وشرح هذه المواضيع شرحاً كافياً وشافياً ... ونتتابع الأحاديث والبحوث فيسعدنا الدكتور علي عبد اللطيف ببحثه القيم عن العبادات في الإسلام وأثرها في تضامن المسلمين مسهباً إسهابا غير مملول عن الصلاة والصيام والزكاة وما لذلك من أثر وتأثير في جمع المسلمين وتضامنهم وتوادهم وتعاضدهم وتعاونهم ...(30/352)
وبعد أن يملأ أذهاننا وأفكارنا شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز بفائدة التضامن الإسلامي يهدي إلينا الدكتور جمعه على الخولي بحديث شائق عن الإسلام الذي يسد منافذ الفرقة والاختلاف ويصون عوامل الوحدة والائتلاف…
ومن ينسى لا ينسى حديث شيخنا العلامة- عطية محمد سالم- عن مرتكزات التضامن والوحدة ... كما أن أحاديثه المتوالية فجراً من - نداء الإسلام - جزء من فيض علمه, وعسى أن يكون لحديثه الممتع وإفاضته الجليلة وأفكاره الصالحة ولوج إلى أفكار شبابنا الذين هم في حاجة إلى مثل هذه البحوث التي يدبجها هؤلاء الأعلام ...
وما حديث الدكتور محمد السيد الطنطاوي عن كيفية إقامة النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة إسلامية على التضامن والوحدة وما سرده من الأحاديث والتعليقات عليها ينمّ عن سعة علم وفقه - وإنّ الفتح العمري للقدس- من المكانة في قلوب المسلمين والعالم أجمع لدليل قاطع على ما لهذا الدين من أمثلة وأنه دين البشرية. إن المرء وهو يقرأ هذا الحديث الشائق ويسيح في هذا الميدان الرحب ليذكر لعلمائنا الأماثل وأساتذتنا الأجلاء شرف العلم ونباهة التعلم وإحاطة العارف.
وليس الدكتور محمد الجيوشي في حديثه الثاني عن الإسلام والمسلمين في إنجلترا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً امتداداً لحديثه السابق في العدد "60 "، وأنّه بهذا يعطينا عمقاً في بحثه وسلامة في تنقيبه وسدادا في مجهوده, وبودّي لو بحث عن مسجد - ليدى ستانلى هوب- وأين هو الآن؟.. وهل من الممكن - وقد كان لدولتنا وجامعتنا الفتية مجهودها - أن تسعى وتَجدَّ في السعي لكي يكون هذا المسجد من مساجد المسلمين المُصَلىَّ فيها وخوفاً من أن يكون متجراً أو كنيسة ... أفلا تتولى الجامعة ذلك شراء وامتلاكا يضم إلى ما عملته من خير عميم وتربية إسلامية صادقة ... إننا لننتظر في العدد القادم بحثا عنه ... ولاسيما ودعاة الجامعة يوجدون في إنجلترا.(30/353)
وشكراً للدكتور القادري على مسلسل أحاديثه في المشارق والمغارب الذي أبدع فيه ممثلا رحلة أوائلنا التجارية والداعية معاً ... ورحلته هذه أطول من رحلته السابقة في العدد "60" ...
ومن الرسائل- الرسالة الحادية عشرة ... وإذا كانت هذه الرسالة مما لم يحملها البريد فقد حملتها المجلة هدية لقرائها ... أشرقت بإيضاح المعاني للآيات الكريمة تذكيراً ووعظاً وإرشادا ... ولم تكن رسالة إنشاء وصياغة كلام ولكنها من مشكاة القرآن والسنة أخذها من عشرات المراجع.
وإذا كان للبحوث جدواها ... وللمقالات تأثيرها فإن للشعر صوتاً يغرد به- محمد بن عبد الله زربان الغامدي:
يفيض على القلب طيب النسم
أيا بلبل الروض أين النغم
ولم يبق من بعد إلا الرخم
فأين صقور الحمى هاجرت
تحيط بها حالكات الظلم
أيا قادة العلم في أمة
وما كان من زلة القدم
ألا فاذكروا اليوم تفريطكم
ولكن.
من الحق ثم انتشى وانتقم
إذا باطل قام في غفلة
فعاد لأدراجه وانهزم
أفاق له الحق في عزة
إنه لشاعر ... لو يستمر يدلي بدلوه في بئره ... وسقى به سليم فكره ... لأعطانا من شعره ... ومن غالي دره ما هو ممتد إلى شعر حسان وكعب وغيرهما من سيوف المسلمين وأدباء المؤمنين. ولست بناس قصيدة محرم والحديث عن شعره الإسلامي الذي حُدّثنا عنه في الجزء "60"بما يحلو ويغلو.
وأجدني أقف شاكراً للدكتور إبراهيم زيد الكيلاني- عن الرأي العام في: المجتمع الإسلامي وبحثه الممتع وهو خلاصة خالصة لِكُتُب وليس لكتابٍ واحدِ.(30/354)
وعن دور الإعلام في التضامن الإسلامي يتحفنا الدكتور إبراهيم إمام بحديث مفيد وإفاضة عالم جدير بالتقدير عن الإعلام الإسلامي الذي يجدر بجامعتنا أن تعتز به بأن لديها دعاة هم الأعلام والعلماء معاً في مشارق الأرض ومغاربها ... وبما أن كليات الإعلام في جامعاتنا وهي الآن أقسام فعليه أن يتلقوا هذا الحديث برغبة وقبول ليكون مادة من مواد علمهم ...
وتستمر المجلة في أبوابها الجميلة وفصولها الممتعة وبحوثها الهادفة تم تفيدنا بالفتاوى الشرعية فينبري لها شيخنا المفضال سماحة الشيخ الرئيس عبد العزيز بن باز- في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة إليها بالحروف وحكم ذلك إلى غير ذلك من الفتاوى مما هو موضع التساؤل كالسفر إلى بلاد الكفار ...
وأقوال الصحف كما هو واجب فإن الاختيار فيها والمختار من أحسنها جدير بالنقل فقد فاضت في كلمات جلالة الملك الفهد عن الإسلام وتبرعه لكل مفيد يبنى الأفكار وعن نخوته نحو فلسطين وكل بلد إسلامي وموقفه العظيم في لبناَن وإجاباته الجليلة وهو في رحاب الجامعة وعن جائزة الملك فيصل العالمية التي لها دربها ومجالها- فرحم الله الملك فيصل- وبارك في أبنائه الذين كوّنوا هذه الجائزة ونَموَّها ودفعوا بها العلماء إلى الإنتاج والإخصاب الفكري والديني والأدبي, والمرء وهو يقرأ المجلة يصل إلى قرارات وتوصيات مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية الصائبة والتنويه والتحذير من كل ما يعمله الكيان الصهيوني والتحذير من القاديانية الكافرة التي هي إحدى أفكار الإنجليز واليهود في إفساد المسلمين ومن أجمل ما يكون نداء الملك فهد إلى الإخوة المتقاتلين في لبنان.(30/355)
أما أخبار الجامعة فممتعة وفي التعيين عمادها… وتهنئة للشيخ صالح العبد الله المحيسن في نيابة الرئيس داعياً له بالتوفيق كما نزف التهنئة للدكتور محمد حمود الوائلي في وصوله إلى خدمة الجامعة حيث صار أمينا عاماً ... جعله الله موفقاً مسدداً.
وحيا الله ضيوف الجامعة ووفودها ... وتبركات المحب الودود لكل من حمل رسالة ونجح في "ماجستير أو دكتوراه "وبارك الله في نشاط الموسم الثقافي بالجامعة الذي اعتبره من أجمل ما تعمله الجامعة.
هذا ولقد كان للمجلة في نفسي مكان ... ولها عند من يحظى بها تقدير وإكبار. وهي موسوعة مصغرة لعلوم الشريعة والأدب ومنطلق للبحث والتنقيب, وأوَدُّ أن يكون فيها بحوث لغوية وتصويبات في المستعمل في المجلات، الصحف وتقويم للألسن يُخْتَار من كتب اللغة والفقه اللغوي من قواميسنا المفيدة أمثال القاموس وشرح القاموس وأن لا يكون لقواميس النصّارى كالمنجد وما ماثله مكان في البحث فإنها لا تعنى باللغة إلا للتضليل وتمكين الدخيل والكلمات الأعجمية وتحريف معاني الإسلام تحريفا مخلاً يزرع فئ شبابنا الخطأ الذي لا يمحوه ماح ...
لهذا أرجو أن تولوا ذلك عناية فائقة وتكليفا ممن هو أهل لذلك لتحظى مجلتنا بذلك ولتكون سفراً متكاملا ... كما أود أن ترسل هذه المجلة للثانويات من المملكة ولمكتبات الطلبة في سائر المدارس المتوسطة فإنها سفر جليل وكنز دفين…
هذا وقد أسهبت وخضت خوضا أجدني فيه لست فارساً ولا ممارسا ولكني أرغب إشعاركم بأن لها مكانا في قلبي ومكانا في مكتبتي ... ولم أشأ بهذا الكتاب إلا الإعلام بأنها عندي ولي شيء مهم.
تحياتي للمحررين والكاتبين [1] .
عثمان الصالح- الرياض
--------------------------------------------------------------------------------
[1] شكر وتقدير:(30/356)
وأسرة تحرير المجلة إذ تشكر لسعادة الأستاذ عثمان الناصر الصالح مشاعره الطيبة نحو مجلة الجامعة لتتمنى له مزيداً من التوفيق والسداد. ونرجو أن تكون مجلة الجامعة عند حسن ظن جميع القراء ...(30/357)
القول الفصل في العمل بالحديث المرسل
للشيخ مظفّر رزق
الموصل ـ العراق.
1- توطئة:
الحمد لله الذي أنزل أحسن الحديث، وأودع درر بيانه في محكم الحديث، فكرّم هذه الأمة - زادها الله شرفا - بالاعتناء بتدوين ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفظاً له على تكرر العصور والآباد. ونصب جهابذة من الحفاظ والنقاد، وجعلهم دائبين في إيضاح ذلك في جميع الأزمان والبلاد، باذلين وسعهم مستفرغين جهدهم في ذلك جماعات وآحادا.
والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم، وخُصّ ببدائع الحكم، سيدنا محمد المصطفى بتعميم دعوته ورسالته، المفضل على الأولين والآخرين من بريته، المشرّف على العالمين قاطبة بشمول شفاعته، المخصوص بتأييد ملّته وسماحة شريعته، المكرم بتوفيق أمته للمبالغة في إيضاح منهاجه وطريقته.
أما بعد ... فإن الله سبحانه وتعالى فضل هذه الأمة بشرف الإسناد، وخصها باتصاله دون من سلف من العباد، وأقام لذلك في كل عصر من الأئمة الأَفراد، والجهابذة النقاد، من بذل جهده في ضبطه وأحسن الاجتهاد، فظفر بنيل المراد وذلك من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - التي أخبر بوقوعها فقال صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم". (رواه أبو داود بإسناده في سننه) .
فباتصال الإسناد عرف الصحيح من السقيم، وصان الله هذه الشريعة عن قول كل أفّاك أثيم، فلذا كانَ الإرسال في الحديث علة يترك بها، ويتوقف عن الاحتجاج به بسببها, لما في إبهام المروى عنه من الغرر، والاحتجاج المبني على الخطر، وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً فيه وكثرت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وتعارضت أفعالهم.(30/358)
فعمدت في عملي هذا إلى إيضاح ما هو إلى الصواب أقوم المسالك، جامعاً فيه بين طريقة أهل الحديث وأئمة الأصول، والفقهاء الذين في الرجوع إليهم أنفس حصول، ذاكراً من المنقول ما أمكن الوصول إليه، ومن المباحث النظرية ما يعول عند التحقيق عليه، مميزاً في ذلك الغث من السمين، مبيِّناً ما هو الضعيف من المتين.
2 - المقدمة:
يعرف علم الحديث الخاص بالرواية بأنه: علمٌ يعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وعلم الحديث الخاص بالدراية: علم يعرف منه حقيقة الرواية، وشروطها وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها [1] .
والمتن: هو ألفاظ الحديث التي تتقن بها المعاني، والسند: هو الطريق الموصلة إلى المتن (أي أسماء رواته مرتبة) . أما الإسناد: فهو حكاية طريق المتن.
إن متن الحديث نفسه لا يدخل في البحث عند أرباب الحديث إلا نادراً، بل يكتب صفته من القوة والضعف، بحسب أوصاف الرواة من العدالة والضبط والحفظ وخلافها، أو بحسب الإسناد من الاتصال والانقطاع والإرسال والاضطراب ونحوها.
وأول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي بكتابه (المحدث الفاصل) وتلاه الحاكم أَبو عبد الله النيسابوري، لكنه لم يهذب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصفهاني، ثم جاء بعدهم الخطيب البغدادي فوضع قوانين الرواية في كتابه (الكفاية) إلى أن جاء الحافظ الإمام ابن الصلاح فوضع كتابه الشهير، فهذب فنونه وجمع به علوم سابقيه فكان من أئمة هذا الشأن.
لا تخرج أنواع الحديث عن ثلاثة: حسن صحيح، وحسن، وضعيف؛ لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح، أو على أدناها فالحسن، أو لم يشتمل على شيء منها الضعيف.(30/359)
وقد صنف العلماء كالحاكم وابن الصلاح والنووي، الحديث المرسل ضمن الأحاديث الضعيفة لما فيه من انقطاع في السند، واختلفوا فيه بين قبول ورد وتفصيل. وقد عرف المرسل بأنه: ما سقط منه الصحابي، كقول نافع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهو المشهور عند المحدثين. وقد يطلق المرسل على الحديث الذي قد سقط راو من رواته فيدخل فيه المعضل والمنقطع، وهو رأي الفقهاء والأصوليين، ومما يشهد للتعميم قول ابن القطان: "إن الإرسال رواية الرجل عمن لم يسمع منه".
والمرسل على مراتب:
- أعلاها: ما أرسله صحابي ثبت سماعه.
- ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه.
- ثم المخضرم.
- ثم المتقن كسعيد بن المسيب.
- ويليها من كان يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد.
- ودونها مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد كالحسن.
- أما مراسيل صغار التابعين كقتادة، والزهري، وحميد الطويل، فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين.
قال أبو داود في رسالته: "وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي. حتى جاء الشافعي- رحمه الله- فتكلم في ذلك وتابعه عليه أحمد وغيره". وقد وضعت قواعد معينة من قبل الفقهاء والأصوليين لتمييز المرسل المقبول والمردود لحفظ شطر السنة من الإهمال وإثراء الأحكام الشرعية بما تحويه هذه الأحاديث من أحكام ورقائق.
يتلخص في الاحتجاج بالمرسل عدة أقوال:
1- حجة مطلقا.
2- لا يحتج به مطلقاً.
3- يحتج به إن أرسله أهل القرون الثلاثة.
4- يحتج به إنْ لم يرو إلا عن عدل.
5- يحتج به إن أرسله صحابي.
صنف في المراسيل أبو داود، ثم أبو حاتم، ثم البرديجي، ثم الخطيب البغدادي، ثم النووي، ثم الحافظ العراقي. ومن المتأخرين الحافظ أبو سعيد العلائي، والعجمي، وابن الهادي.
(3) الإرسال بين اللغة والاصطلاح:(30/360)
المرسل وجمعه مراسيل بإثبات الياء وحذفها أيضاً، وأصله من (رسل) التي تحمل عدة معاني حسب إشتقاقاتها اللغوية.
ا- تقول: (أرسل) : (أطلق وأهمل) [2] فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف [3] ، أو أهمل ذكر راوٍ من رواة الإسناد.
2- (استرسل) : الطمأنينة إلى الإنسان والثقة فيما يحدثه [4] . وكأنَّ التابعي الذي قد ذكر الحديث اطمأن ووثق بصحة ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووثق بمن أخذ الحديث عنه، فلم يذكره. قال القرافي في (شرح التنقيح) : "إنه ما سكت عنه (الراوي) إلا وقد جزم بعدالته، فسكوته كإخباره بعدالته" [5] .
3- أرسل الحديث: لم يقيده [6] وكأن الراوي لم يقيد روايته باتصال الإسناد فأسقط ذكر الصحابي الذي تحمله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
4- مرسال: يقال: ناقة مرسال أي سريعة السير [7] ؛ فكأن المرسل أسرع فيه عَجِلاً فحذف بعض إسناده.
5- أرسالاً: جاء القوم أرسالا أي قطعاً متفرقين [8] , قال ابن سيده: الرَّسَل بفتح الراء والسين: القطيع من كل شئ والجمع أرسال، وجاءوا رسلة أي جماعة، فكأنه تصور من هذا اللفظ الاقتطاع، فقيل للحديث الذي قطع إسناده وبقي غير متصل: مرسل، أي كل طائفة منهم لم تلق الأخرى ولا لحقتها [9] .
هذا ما يتعلق بهذا اللفظ من حيث اللغة، وأما من ناحية الاصطلاح فلتعريف الحديث المرسل ومعرفة حده ينبغي علينا التمييز بينه وبين المنقطع والمعضل. أما المنقطع فقد ذهب الفقهاء والخطيب وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية منْ دون التابعي عن الصحابي. وقيل: هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفاً كان أو مبهماً [10] . والمعضل- وهو بفتح الضاد- يقولون: (أعضله معضل) وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر [11] .(30/361)
لقد عَرَّف الحاكم الحديث المرسل فقال: "إنّ مشايخ الحديث لم يختلفوا في أنَّ الحديث المرسل: هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم-[12] . وهكذا عبر ابن الصلاح تبعاً للحاكم.
يقتضي كلام الحاكم أن إرسال صغار التابعين ومتأخريهم يلحق بالمرسل، وإن كان ما يروون عمن أدركوه من الصحابة يسيراً، وجل رواياتهم إنما هي عن التابعين.
إنّ خلاصة أقوال المحدثين في الحديث المرسل بأنه: ما رواه التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- باتفاق على التابعي الكبير, واختلافهم في التابعي الصغير هل هو مرسل أو منقطع. وقد وافق المحدثين جماعة من الأئمة كابن فورك، أبي نصر بن الصباغ، أبى المظفر بن السمعاني، وكذلك القرافي.
أما مشايخ أهل الكوفة فيقول الحاكم عنهم: "بأن كل من أرسل الحديث من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من العلماء فإنه عندهم مرسل محتج به" [13] . وهذا قول معظم الحنفية إلا من أطلق الإرسال على قول الراوي من الأعصار الثلاثة الأولى: قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "الكفاية": "لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس، هو راوية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه، نحو رواية سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر والحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثابته في غير التابعين نحو رواية ابن جريج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ورواية مالك بن أنس عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ورواية حماد بن أبي سليمان عن علقمة, وكذلك رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه كرواية سفيان الثوري، وشعبة عن الزهري، وكان نحو ذلك ما لم نذكره، فالحكم في الجميع عندنا واحد [14] .(30/362)
والمشهور في الفقه والأصول أن (المرسل قول الإمام) لما من أئمة النقل وهو من له أهلية الجرح والتعديل (الثقة قال: عليه الصلاة والسلام) كَذا مقول القول (مع حذف من السند وتقييده) أي القائل أو الإمام القائل (بالتابعي أو الكبير منهم) أي كعبد الله بن عدي وقيس بن أبى حازم (إصطلاح) من المحدثين فدخل في التعريف (المنقطع) بالاصطلاح المشهور للمحدثين (والمعضل) المشهور عندهم [15] . وهو كقول الخطيب وبه قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في الروضة [16] والآمدي في الأحكام [17] والغزالي في المستصفى [18] .
من استقراء ما ذكرناه يبدو بأن اصطلاح المرسل لما ذكر من حيث اللغة ممكناً، وعلى هذا هو والمنقطع سيان لغة واصطلاحاً، ويبدو بأن المنقطع أكثر عموماً- وبه قال ابن عبد البر- عن المرسل إذ أن الأول يتحدد بكل ما لم يتصل سنده سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره، أمّا الثاني فهو ما أرسله التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمحدثون كما ذكرنا سابقاً يفصلون بين المرسل والمنقطع ويجعلون بينهم اختلافاً واضحاً.
وقد جعل الحنفية وإمام الحرمين المعضل والمرسل سواء، وعند الجمهور يعتبر المعضل أخص، وعندنا المعضل والمرسل متباينان.
(4) مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والعمل به أو رده:
وقد اختلف العلماء في قبول الحديث المرسل بين القبول مطلقاً والرد مطلقاً أو التفصيل فيه.
ويرجع الخلاف في هذه المسألة إلى القواعد المتبناة من أئمة الأصول والفقهاء في أصول الرواية.
أولها: قبول رواية المجهول العدالة والاحتجاج به.
وثانيها: هل أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له أم لا؟.
وثالثها: قول الراوي: حدثني منِ لا أتهم أو نحو ذلك هل يحتج به إذا لم يسمعه أم لا؟.
ورابعها: هل يقبل التعديل مطلقاً أم لابد من ذكر سببه، وهل يشترط عدد معين في التعديل؟.(30/363)
إن استقراء هذه القواعد ومناقشتها لتبيين ما هو الحق منها، فتخرج في قبول المرسل أورده إطلاقاً أو التفصيل في ذلك.
أ- المذهب الأول: قبول المرسل:
ممن قال بقبول الحديث المرسل والعمل به: مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وجمهور أصحابهما, وأكثر المعتزلة كأبي هاشم، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وابن القيم وابن كثير وغيرهم، ولهم في قبوله أقوال:
أولها: قبول كل مرسل سواء بعد عهده وتأخر زمنه عن عصر التابعين حتى مرسل العصور المتأخرة، وهذا توسع غير مقبول، ومردود بالإجماع في كل عصر، ولو عمل به لزالت فائدة الإسناد وبطلت خصِّيصة هذه الأمة.
ثانيها: قبول مراسيل التابعين وأتباعهم مطلقاً، قال ابن الحنبلي في "قفو الأثر: "والمختار في التفصيل قبول مرسل الصحابي إجماعاً، ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا (الحنفية) وعند مالك مطلقاً [19] . ومن الحجج لهذا القول: أن احتمال الضعف في التابعين لاسيما بالكذب بعيد جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين، ثم للقرنين الذين يلونه، فإرسال التابعي وبقية القرون الثلاثة بالجزم من غير وثوق بمن قاله، مناف لها.
واوسع من هذا قول عمر- رضي الله عنه - "المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنياً في ولاء أو قرابة".
إلا إن كان المرسل معروفاً بالإرسال عن غير الثقات، فإنه لا يقبل مرسله. وأما بعد العصر الثالث، فإن كان المرسل من أئمة النقل قبل مرسله [20] , وهو قول عيسى بن إبان، أبو بكر الرازي والبز دوى وأكثر المتأخرين من الحنفية، وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: "هذا هو الظاهرمن المذهب عندي" [21] .
وثالثها: قبول إرسال التابعين على اختلاف طبقاتهم، وهو قول مالك وجمهور أصحابه، وأحمد بن حنبل, وكل من يقبل المرسل من أهل الحديث.(30/364)
ورابعها: قبول مراسيل كبار التابعين دون صغارهم لقلة روايتهم عن الصحابة كما حكاه ابن عبد البر في التمهيد.
واختلف القائلون بقبول المرسل في طبقته هل هو أعلى من المسند، أو دونه، أو مثله؟. والقائلون بأنه أرجح وأعلى من المسند، وجّهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك بصحته وكفاك النظر فيه. قال القرافي في شرح التنقيح: "إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق؛ لأن المرِسل- بكسر السن- قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقاً بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوّض أمره للسامع، ينظر فيه، ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال" [22] .
وساوى بين المرسل والمسند في وجوب الحجة والقبول محمد بن جرير الطبري، وأبو فرج المالكي، وأبو بكر الأبهري، وعندهم متى تعارض مدلول حديث مرسل وآخر مسند فلا ترجيح إلا بأمر آخر خارجي. وقد قدم أكثر محققي المالكية والحنفية كأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر الرازي بتقديم المسند على المرسل عند التعارض، وأن المرسل دون المسند بالرغم من قبوله والعمل به.
- ب - المذهب الثاني: رد المرسل:
قال الإمام مسلم- رحمه الله- في مقدمة صحيحه: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" [23] .
وهو قول عبد الرحمن بن مهدي ويحي بن سعيد القطان وابن المديني وأبي خيثمة زهير بن حرب ويحي بن معين وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من أئمة الحديث [24] .(30/365)