قول النبي صلى الله عليه وسلم "إلا المكتوبة" فيه منع من التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كانت راتبة أم لا.
ويؤكد ذلك حديث أحمد "إلا المكتوبة التي أقيمت لها".
وفيه معنى أنه لا يجوز أن يقضي من الفوائت المفروضة أيضا عند الإقامة.
وقد ورد الاستثناء من ذلك بركعتي الفجر في حديث أبي هريرة عند البيهقي عن حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال البيهقي عقب ذكر الحديث "وهذه الزيادة لا أصل لها، وحجاج بن نصير وعباد بن كثير ضعيفان".
وعقب عليه العيني في العمدة [12] وقال: "قال يعقوب بن شيبة سألت ابن معين عن حجاج بن نصير الفسطاطي البصري فقال: صدوق وذكره ابن حبان في الثقات، وعباد ابن كثير كان من الصالحين. أقول: ذكر ابن معين في كتابه التاريخ [13] حجاج بن نصير الفسطاطي فقال: ليس بشيء"انتهى.
وقال عنه ابن المديني: "ذهب حديثه"وقال أبو حاتم: "منكر الحديت، ضعيف الحديث، ترك حديثه، وكان الناس لا يحدثون عنه"وقال البخاري: "سكتوا عنه" [14] .
وأما عباد بن كثير فقد قال عنه أحمد: "روى أحاديث كاذبة لم يسمعها، وكان من أهل مكة وكان صالحاًَ. قيل كيف كان يروي ما لم يسمع قال: البلاء الغفلة".
وقال عنه ابن معين: "ضعيف الحديث".
وقال البخاري: "سكن مكة، تركوه".
وقال النسائي: "متروك" [15] .
مع وجود هذا الكلام من العلماء فيه حاول الشيخ العيني توثيق الرجلين واعتمد على توثيقه علماء الحنفية مثل صاحب لامع الدراري [16] ثم يعارض هذه الزيادة ما ورد في بعض طرق حديث أبي هريرة عن مسلم بن خالد، عن عمرو بن دينار "قيل يا رسول الله ولا ركعتي الفجر". قال: "ولا ركعتي الفجر"أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر كما ذكر العيني والحافظ ورواه أيضاً الإمام البيهقي في السنن [17] قال الحافظ إسناده حسن.
أقول: مسلم بن خالد تكلم الناس فيه.(26/181)
وبعد هذا نرجع إلى مذاهب العلماء في الموضوع فنقول: في الموضوع عدة أقوال جعلها الشوكاني تسعة. ولكن يمكن حصرها في أربعة.
الأول: عدم جواز الدخول في النوافل لمن سمع الإقامة سواء كان في خارج المسجد أو داخله، وسواء في ركعتي الفجر أو غيرهما فإن من فعل فقد عصى الله ورسوله.
قال ابن حزم في المحلى [18] "فمن سمع إقامة صلاة الصبح، وعلم أنه إن اشتغل بركعتي الفجر فاته من صلاة الصبح ولو التكبير، فلا يحل له أن يشتغل بهما، فإن فعل فقد عصى الله تعالى. وإن دخل في ركعتي الفجر فأقيمت صلاة الصبح فقد بطلت الركعتان، ولا فائدة له في أن يسلم منهما ولو لم يبق عليه منهما إلا السلام، لكن يدخل بابتداء التكبير في صلاة الصبح كما هو ثم قال: وقال الشافعي وأبو سليمان كما قلنا". انتهى.
قال الخطابي في معالم السنن: روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الرجل إذا رآه يصلي الركعتين والإمام في الصلاة.
أقول رواه البيهقي [19] بدون إسناد، وأخرجه ابن أبي شيبة [20] مسنداً إلا أنه فيه ابن أبي فروة وهو: إسحاق بن عبد الله الأسود أبو سليمان متروك قاله أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وا لدارقطني، وغيرهم.
ورواه عبد الرزاق في المصنف [21] بإسناد آخر وفيه جابر بن يزيد الجعفي الكذاب.
ويبدو أن القول بالتحريم قاله أيضاًَ بعض السلف كما جزم ابن حزم. وابن عبد البر في التمهيد.
الثاني: الكراهية. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم: ابن عمر، وأبو هريرة، وسعيد بن حبير، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي وعطاء.
وإليه ذهب الشافعي وأحمد وابن مبارك وإسحاق وغيرهم.
ففي شرح المهذب [22] مذهبنا أنه إذا أقيمت الصلاة كره أن يشتغل بنافلة سواء تحية المسجد، وسنة الصبح وغيرها.(26/182)
وقال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي: "ومن دخل المسجد وقد أقيمت صلاة الصبح، فليدخل مع الناس، ولا يركع ركعتي الفجر".
وفى المغني [23] إذا أقيمت الصلاة، فلا يشتغل بالنافلة، سواء خشي فوات الركعة الأولى أو لم يخش.
ثم قال: "ولأن ما يفوته مع الإمام أفضل مما يأتي به فلم يشتغل به".
وفي مصنف ابن أبي عيينة [24] وعبد الرزاق [25] عن نافع أن ابن عمر دخل المسجد والقوم في الصلاة، ولم يكن صلى ركعتي الفجر فدخل مع القوم في صلاتهم، ثم قعد حتى إذا أشرقت له الشمس قضاها.
قال: وكان إذا أقيمت الصلاة وهو في الطريق صلاها وهو في الطريق.
وروى عبد الرزاق أيضاً عن نافع أن ابن عمر رأى رجلاًَ يصلي، والمؤذن يقيم. فقال: "أَتصلي الصبح أربعاً"؟
قال معمر: وبلغني عن سعيد بن جبير مثل ذلك.
الثالث: قال مالك: "من دخل المسجد وأقيمت الصلاة، أو وجد الإمام في الصلاة فلا يركع ركعتي الفجر بل يدخل مع الإمام، وأما إذا كان خارج المسجد فعلم بالإقامة، أو بأن الإمام في الصلاة فإن رجا أن لا تفوته مع الإمام الركعة الأولى فليركع ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام، فإن لم يرج ذلك فليدخل مع الإمام ولا يشتغل بشيء من النوافل".
وفي المدونة [26] قيل لمالك: إن سمع أحد الإقامة قبل أن يدخل المسجد، أو جاء والإمام في الصلاة، ألا ترى له أن يركعهما خارجاًَ، قبل أن يدخل؟ فهو أحب إلي: ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد التي تصلى فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة مع الإمام فليدخل المسجد وليصل معه".
ويروى في هذا الموضوع حديث ضعيف عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة لمن دخل المسجد والإمام قائم يصلي، فلا ينفرد وحده بصلاة، ولكن يدخل مع الإمام في الصلاة". رواه الطبراني في الكبير.(26/183)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [27] فيه يحيى بن عبد الله البابلتي وهو ضعيف. انتهى قوله.
وبابلت: قرية بين حران والرقة.
والبابلتي هذا ضعفه أحمد، وابن أبي حاتم، وابن عدي ويحيى بن معين، وهو من رجال النسائي.
وأخرج عبد الرزاق [28] عن نافع أن ابن عمر سمع الإقامة فصلى في الحجرة، ركعتي الفجر ثم خرج فصلى مع الناس.
قال: وكان ابن عمر إذا وجد الإمام يصلى ولم يكن ركعهما، دخل مع الإمام، ثم يصليهما بعد طلوع الشمس "وفى مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يدخل في الصلاة تارة"ويصليهما في جانب المسجد أخرى.
وروى الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار [29] عن يحيى بن كثير، عن زيد بن أسلم أن ابن عمر جاء والإمام يصلي الصبح، ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح، فصلاهما في حجرة حفصة ثم صلى مع الإمام.
قال الحافظ: وقد فهم ابن عمر اختصاص المنع لمن يكون في المسجد، لا خارجاً عنه فصح عنه أنه كان يحصب من يتنفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة.
الرابع: وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة للصبح فإن طمع بأنه يدرك مع الإمام ولو ركعة وتفوته الأخرى فليبدأ بركعتي الفجر ثم يدخل مع الإمام، وإن خشي أن لا يدرك مع الإمام ولا ركعة فعليه أن يدخل في الصلاة جمعاً لكلتا المكرمتين والدليل على ذلك ما جاء من الزيادة في بعض الروايات. عن أبي هريرة وقد مضى التحقيق فيها بأنها لا تصح.
وقولهم: إن طمع أن يدرك مع الإمام ولو ركعة فليبدأ بركعتي الفجر، مردود بحديث عبد الله بن سرجس لأن قوله صلى الله عليه وسلم. "أو التي صليت معنا"يدل على أنه أدرك الركعتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرغ من ركعتي الفجر قبل فواته حتى الركعة الأولى.(26/184)
وقد ذكر الشيخ الطحاوي والعيني بعض الآثار عن الصحابة بأنهم كانوا يصلون ركعتي الفجر والإمام في صلاة الصبح في جانب المسجد والجواب عن ذلك: إن ثبت فعل بعض الصحابة فالنص النبوي مقدم عليه.
ثم ذكر الشيخ الطحاوي تأويلات كثيرة في جواز إتيان ركعتي الفجر وإليكم بعض هذه التأويلات مع مناقشتها.
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كره لابن بحينة وصله النافلة بالفريضة في مكان واحد، لم يفصل بينهما بشيء، وليس لأنه كره له أن يصليها في المسجد إذا كان فرغ منها (ثم) تقدم إلى الصفوف، فصلى الفريضة مع الناس.
واستدل لذلك بحديث يحيى بن كثير عن محمد بن عبد الرحمن (ابن ثوبان) . "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن مالك ابن بحينة وهو منتصب (أي قائم) يصلى ثمة بين يدي صلاة الفجر فقال: "لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها واجعلوا بينهما فصلاً"رواه أحمد [30] . بطريق عبد الرزاق أنا معمر، عن يحيى مثله. وإسناده جيد.
ويجاب عن هذا بأنه يلزم أن لا يكون الفصل مطلوباً في سنة الظهر مع فرضها، وهذا لا يقول به أحد.
ثم لو كان الفصل هو المطلوب لحصل ذلك بالكلام، أو تقدم خطوة، ولا يحتاج أن يمشي من مؤخرة المسجد إلى مقدمه.
فلابد أن نحمل حديث ابن بحينة على الفصل بالزمان. يعني لا يجوز لأحد أَن يصلي النوافل في زمان الفريضة التي أَقيمت لها. وهذا مطلوب في جميع الصلوات.
وإنما خص بالذكر ركعتا الفجر لأن القصة وقعت فيهما.
الثانية: أن النهي يحمل على من يصلي النافلة في الموطن الذي أقيمت فيه الصلاة. وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن سرجس فإنه صلاهما خلف الناس فكان شبيه المخالط لهم. وهذا مكروه عندنا. وإنما يجب عليه أن يصليهما في مؤخر المسجد، ثم يمشى من ذلك المكان إلى أول المسجد. فأما أَن يصليهما مخالطاًَ لمن يصلي الفريضة، فلا. انتهى.(26/185)
ويجاب على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر على الرجل وقال له: "يا فلان، أجعلت صلاتك التي صليت معنا، أو التي صليت وحدك".
وكان المقام يقضي أن يبين له بأنه إذا صلى بعيداً عن الناس فلا حرج في ذلك ولكنه اكتفى بالإنكار، وإنكاره يشمل من صلى مخالطاً بالناس ومن صلى بعيداً عن الناس.
ثم لفظ الحديث يرد على هذا التأويل أَيضاًَ، لأن الرجل صلى ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فلو كان صلى مخالطاً بالصف ما كان يقال له: ثم دخل.
ولفظ حديث مسلم أصرح من هذا وهو "دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان بأي الصلاتين اعتددت أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا"".
وهذا الحديث يبطل جميع التأويلات التي قال بها الحنفية وذكرها الإمام الطحاوي ومن بعدهم.
الثالثة: قال الشيخ الطحاوي: وأما من طريق النظر فإن الذين ذهبوا إلى أَنه يدخل في الفريضة ويدع الركعتين، فإنهم قالوا: تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع وأفضل..
فكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد أجمعوا أنه لو كان في منزله، فعلم دخول الإمام في صلاة الفجر أنه ينبغي له أن يركع ركعتي الفجر ما لم يخف فوت صلاة الإمام.
فإن خاف فوت صلاة الإمام لم يصلهما لأنه أمر أن يجعلهما قبل الصلاة. انتهى.
ويجاب على هذا بأنه حجة على من يقول بأداء ركعتي الفجر عند الإقامة في البيت وهم المالكية.
وأما الذين يكرهون أداءهما وقت الإقامة فلم يفرقوا بين أدائهما في المنزل، وغير المنزل، بل كرهوا مطلقاً لأن الزمان زمان الفريضة فكيف يصرفه أحد في غير الفريضة ومهما بلغ تأكيد ركعتي الفجر فإنهما لن يفضلا على صلاة الفرض.(26/186)
ولذا نرى المتأخرين من محققي الحنفية ذهبوا إلى ظاهر أحاديث الباب، ولم يقبلوا تأويلات الطحاوي.
قال الشيخ المحقق عبد الحي اللكنوي صاحب الرفع والتكميل في التعليق الممجد [31] بعد ذكر تأويلات الطحاوي "لكنه حمل من غير دليل معتد به بل سياق بعض الروايات يخالفه. إلى أن قال: وظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع".
وأما من شرع في النافلة فأقيمت الصلاة فمن الأفضل أن يقطع صلاته، ويدخل مع الإمام.
وقال علماء الحنفية عليه أن يتم صلاته لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .
يقول الشيخ الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع [32] "لأن صونه عن البطلان واجب"وخصوا النهي الوارد في حديث أبي هريرة بابتداء النافلة عند الإقامة لا عدم الاستمرار لمن دخل في النافلة قبل شروع الإقامة.
وذهب علماء الشافعية أيضاً إلى الاستمرار في إتمام النافلة ما لم يخش فوات الجماعة ففي المهذب "وإن دخل في صلاة نافلة، ثم أقيمت الجماعة، فإن لم يخش فوات الجماعة، أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها قطع النافلة لأن الجماعة أفضل".
قال النووي في شرح المهذب [33] ومراده بقوله: "خشي فوات الجماعة، أن تفوت كلها بأن يسلم من صلاته".
هكذا صرح به الشيخ أبو حامد والشيخ نصر وآخرون.
وأما الظاهرية فكما سبق ذكره بالغوا في ذلك فقالوا: لا فائدة من التسليم إذا أقيمت الصلاة.
فعلى المتطوع أن يقطع نافلته، ويدخل مع الإمام في الفريضة حتى يدرك فضيلة التحريم. وظاهر أحاديث الباب يؤيد ما قاله الظاهرية والله تعالى أعلم.(26/187)
وأما استدلال الحنفية بالآية الكريمة فبعيد لأن معناها: لا تبطلوا أعمالكم بالشرك والرياء. ثم ليس هنا إبطال بل إنما هو بناء لما هو أفضل منه وقد قال الشيخ الكاساني في بدائع الصنائع [34] "إذا شرع في الفرض، ثم أقيمت الصلاة، فإن كان في صلاة الفجر يقطعها ما لم يقيد الثانية بالسجدة لأن القطع وإن كان نقصاً صورة فليس بنقص معنى. لأنه للأداء
على وجه الأكمل، والهدم ليبنى أكمل يعد إصلاحاً لا هدماً فكذلك هنا. فمن قطع ركعتي الفجر ليدرك فضيلة تكبيرة التحريم فإنه وإن كان قطعاً صورة فليس بنقص معنى، لأن ما يدركه من الجماعة أعظم أجراً، وأكثر ثواباً مما يفوته بقطع النافلة".
وقد ذكر الشيخ المحدث عبيد الله المباركفوري صاحب المرعاة توجيهاً حسناً في المسألة فقال: "الراجح عندي أن يقطع صلاته عند الإقامة إن بقيت عليه ركعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة"فلا يجوز له أن يصلي ركعة بعد
الإقامة، وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو التشهد فلا بأس لو لم يقطعها وأتمها لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة. أي ركعة بعد الإقامة"انتهى.
وهو الذي أرجحه في هذه المسألة والله تعالى أعلم بالصواب.
عموم البلاء
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ...
لو طوِيَ بساطه، وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد ...
وفي ذلك روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم، فلم يفعل، إلاّ يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ... ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1](26/188)
مسلم: 5/229 مع شرح النووي، أبو داود: 1/489 مع عون المعبود، الترمذي: 2/481 مع التحفة، النسائي: 1/129، ابن ماجه: 1/364، الدارمي: 1/337، أحمد في المسند 3/521،517،455،221 ابن خزيمة: 2/169، الخطيب: 5/197، 7/195، 12/213، 13/59.
[2]
1/372.
[3]
2/483.
[4]
/352.
[5]
1/372.
[6]
انظر تعجيل المنفع: 209.
[7]
شرح السنة: 3/362.
[8]
البخاري: 2/148 مع الفتح، ومسلم: 5/222 مع النووي، والنسائي: 3/117، والطحاوي: 1/372، وأحمد: 5/345.
[9]
ابن حبان (موارد الظمآن 123) ، وابن خزيمة: 2/170، والطيالسي: 358: والحاكم: 1/307، والبيهقي: 2/982، وأما الطبراني في الكبير والبزار وأبو يعلى فكما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: 2/75.
[10]
مسلم: 5/224 مع شرح النووي، وأبو داود: 1/489 مع العون، والنسائي: 2/117، وابن مالك: 1/364: والطحاوي: 1/373، والبيهقي: 2/482.
[11]
ص 144.
[12]
5/185.
[13]
2/103.
[14]
انظر: الجرح والتعديل: 1/2/167، وميزان الاعتدال: 1/465، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكان يقبل التلقين.
[15]
انظر: الجرح والتعديل: 3/84_85، وميزان الاعتدال: 2/373، وتهذيب التهذيب: 5/100.
[16]
3/133.
[17]
2/483.
[18]
3/143.
[19]
2/383.
[20]
2/77.
[21]
2/436.
[22]
3/550.
[23]
1/401.
[24]
2/255.
[25]
2/443.
[26]
1/134.
[27]
2/75.
[28]
2/443.
[29]
1/375.
[30]
5/345.
[31]
ص 86.
[32]
2/722.
[33]
4/105.
[34]
3/722.(26/189)
دراسة حول قول أبي زرعة الرازي ت 264هـ
في سنن ابن ماجه
للدكتور سعدي الهاشمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث
سبق وأن نشرنا على صفحات هذه المجلة [1] دراسة حول قول أبي زرعة الرازي (ت 264 هـ) في سنن ابن ماجه، وذكرنا قائمة بـ (125) راويا من الرواة الذين انفرد ابن ماجه بالرواية عنهم في سننه دون الأئمة الستة في مصنفاتهم، وفي هذه المرة نكمل تلك الدراسة بذكر الرواة الذين اشترك ابن ماجه بالرواية عنهم مع أصحاب المصنفات الستة، والذين جرحهم أبو زرعة الرازي مجتمعين ومنفردين وبلغ مجموعهم (172) راوياً. وسنبدأ بذكر الرواة الذين انفرد ابن ماجه مع الترمذي في جامعه بالرواية عنهم، ثم الرواة الذين انفرد ابن ماجه مع أبى داود في سننه بالرواية عنهم، ثم النسائي في (المجتبى) ثم أصحاب السنن الثلاثة (أبو داود، الترمذي، النسائي) ثم نختمهم بالرواة الذين روى عنهم أحد الشيخين أو كلاهما، وشاركهم أبو زرعة بالرواية عنهم [2] .
الرجال الذين انفرد بالرواية عنهم الترمذي في (الجامع) وابن ماجه في سننه وضعفهم أبو زرعة:
1- (ت ق) إبراهيم بن عثمان بن عبد الله بن المخارق أبو شيبة العبسي مولاهم الكوفي قاضي واسط ت 169 هـ، قال ابن أبي حاتم، سئل أبو زرعة عنه فقال: "ضعيف حدثنا عنه علي بن الجعد" [3] . وذكره في أسماء الضعفاء [4] .
2- (ت ق) إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني أبو إسحق. قال عنه أبو زرعة (ضعيف) [5] . وذكره في أسماء الضعفاء [6] .
3- (ت ق) إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، ت 164 هـ، قال ابن أبي حاتم سمعت أَبا زرعة يقول عنه (واهي الحديث) [7] . وذكره في أسماء الضعفاء [8] .
4- (ت ق) إسماعيل بن إبراهيم الأحول أبو يحيى التيمي الكوفي. قال عنه أبو زرعة (يعد في الكوفيين) [9] . وذكره في أسماء الضعفاء [10] .(26/190)
5- (ت ق) إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي النخعي الكوفي. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [11] .
6- (ت ق) إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحق البصري. سكن مكة ولكثرة مجاورته قيل له المكي وكان فقيهاً مفتياً. نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه: "هو بصري سكن مكة يحدث عن الحسن، ضعيف الحديث" [12] وكلح أبو زرعة وجهه - حينما سئل عنه- وقال عنه (ضعيف) .
7- (ت ق) أشعث بن سعيد البصري أبو الربيع السمان، قال ابن أبي حاتم سمعت أبا زرعة يقول عنه: "ضعيف الحديث" [13] وذكره في أسماء الضعفاء [14] .
8- (ت ق) بكر بن خنيس الكوفي العابد نزيل بغداد وكان يوصف بالزهد والعبادة، ت في حدود 170 هـ، قال عنه أبو زرعة (ذاهب) [15] .
9- (ت ق) بكر بن يونس بن بكير الشيباني الكوفي، قال البرذعي: سألت أبا زرعة، عنه؟ فقال: (واهي الحديث) ، حدث عن موسى بن علي بحديثين منكرين لم أجد لهما أصلا من حديث موسى [16] .
10- (ت ق) ثواب بن عتبة المهري، البصري، قال ابن أَبي حاتم: "سمعت أبي وأبا زرعة ورأيا في كتاب رواه عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: ثواب بن عتبة ثقة. فأنكرا جميعا ذلك" [17] .
11- (ت ق) حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة ابن النعمان، الأنصاري، البخاري، المدني ت 148 هـ، قال عنه أبو زرعة (واهي الحديث، ضعيف الحديث) [18] .
12- (ت ق) الحارث بن نبهان الجرحي، أبو محمد البصري، ت ما بين 150_160 هـ قال ابن أَبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه؟ فقال: "ضعيف الحديث في حديثه وهن وتعجب من قول يحيى بن معين أنه قال: ليس بشيء" [19] . وفي أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي قال عنه: "ليس بالقوي " [20] .
13- (ت ق) الحارث بن النعمان بن سالم الليثي ابن أخت سعيد بن جبير، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [21] .(26/191)
14- (خت ت ق) حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري أبو عمرو الحناط الكوفي. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [22] .
15- (ت ق) الحسن بن أبي جعفر عجلان، وقيل عمرو الجفري، أبو سعيد الأزدي، البصري، ت 161 أو 167 هـ. قال ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عن الحسن بن أبى جعفر؟ فقال: ليس بالقوي، روى عنه عباد بن العوام) [23] .
16- (ت ق) الحسن بن علي النوفلي الهاشمي، والد أبي جعفر الشاعر ت ما بين (150_160 هـ) قال عنه أبو حاتم::ليس بقوي، منكر الحديث، ضعيف الحديث. روى ثلاثة أحاديث أو أربعة أو نحوها مناكير: [24] .
17- (خت ت ق) الحسن بن عمارة بن المضرب البجلي مولاهم الكوفي أبو محمد كان على قضاء بغداد في خلافة المنصور ت 153 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [25] .
18- (ت ق) الحسين بن قيس الرجبي أبو على الواسطي (حنش) قال عنه (ضعيف) [26] .
19- (ت عس ق) حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر البزاز الكوفي القاري، ت 180 هـ. ضعفه أَبو زرعة [27] .
20- (ت ق) حنظلة بن عبد الله وقيل ابن عبيد وقيل ابن عبد الرحمن وقيل ابن أبي صفية، السدوسي أبو عبد الرحيم البصري. قال عنه (هو ضعيف) [28] .
21- (ت ق) خارجة بن مصعب بن خارجة الضبعي بن الحجاج الخراساني السرخسي ت 168 هـ. قال البرذعي: قلت: خارجة بن مصعب؟ قال: (منكر الحديث، يحدث بكذا ويحدث بكذا فجعل يعدد) . قلت: يحدث عن حفص بن برد، عن مكحول، عن واثلة "لا تظهر الشماتة بأخيك" [29] . فقال: حدث بهذا؟ قلت: نعم، حدثني بهذا عنه حجاج بن حمزة. فقال: (ليست لهذا أصل) .
22- (ت ق) خالد بن إلياس ويقال إياس بن صخر أبو الهيثم العدوي المدني، نقل ابن أبي حاتم عن أبيه أبي زرعة أنه قال عنه: "ليس بقوي، ضعيف، سمعت أبا نعيم يقول: لا يسوى حديثه وسكت وذكر بعدنا: لا يسوى حديثه فلسين" [30] .(26/192)
23- (ت ق) داود بن الزبرقان، الرقاشي، أبو عمرو وقيل أبو عمر البصري نزيل بغداد توفي سنة نيف وثمانين ومائة هـ. وقد نقل البرذعي عن أبي زرعة أنه قال عنه: (واهي الحديث) [31] . وسأله مرة أخرى عنه فقال: (متروك الحديث) . قلت: ترى أو يذاكر عنه، أو يكتب حديثه؟ قال: (لا) [32] .
24- (ت ق) ذواد بن علبة الحارثي أبو المنذر الكوفي، ت ما بين (180_190 هـ) ذكره أبو زرعة في أَسماء الضعفاء [33] .
25- (ت ق) الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد االتميمي السعدي الأعرجي، ويقال العرجي أبو العلاء البصري المعروف بعليلة وهو لقب، ت 178 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [34] .
26- (ت ق) رشدين سعد بن مفلح بن هلال المهدي أبو الحجاج المصري وهو رشدين أبي رشدين، ت 188 هـ. قال ابن أبي حاتم سئل أبو زرعة عنه فقال (ضعيف الحديث) [35] ، وذكره أبو زرعة في أَسماء الضعفاء [36] .
27- (ت ق) رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني، نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أَنه قال عنه "ضعيف الحديث" [37] وسئل مرة أَخرى عنه فقال: "منكر الحديث" [38] .
28- (ت ق) روح بن جناح أَبو سعد الأموي مولاهم ويقال أبو سعيد الدمشقي. قال ابن أبى حاتم: "سألت أبا زرعة عنه فقال: شيخ دمشقي - قلت ما حاله؟ قال أخوه مروان بن جناح أحب إليّ منه – قلت روح ليس بقوي؟ قال: نعم" [39] .
29- (ت ق) زيد بن جبيرة بن محمود بن أبي الضحاك الأنصاري أبو جبيرة المدني. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [40] .
30- (ت ق) سعد بن طريف الاسكاف الحذاء الحنظلي الكوفي، قال عنه أبو زرعة (لين) [41] ، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [42] .(26/193)
31- (بخ ت ق) سعيد بن المرزبان العبسي، أبو سعد البقال الكوفي الأعور مولى حذيفة، ت سنة بضع وأربعين ومائة. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [43] ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه فقال: " لين الحديث مدلس ". قلت: هو صدوق؟ قال: " نعم كان لا يكذب " [44] .
32- (ت ق) سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [45] .
33- (ت ق) سفيان بن وكيع بن الجراح، الرؤاسي، أبو محمد، الكوفي ت 247 هـ ترك الرواية عنه الرواية أبو زرعة. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: سفيان بن وكيع كان يتهم بالكذب؟ قال: (الكذب بس) ، ثم قال لي أبو زرعة: (كتبت عنه شيئأً؟) قلت: لا. قال: (استرحت) .
قال أبو زرعة: " كان وراقه [46] نقمة، كان يعمد إلى أحاديث من أحاديث الواقدي فيجيء بها إليه، فيقول: قد أصبت أحاديث، عن أسامة بن زيد فلان، وفلان فاكتبها بخطك حتى ندخلها في الفوائد فتحملها على الشيوخ الثقات حتى قال يوماً قد بلغت الفوائد ألفي حديث ".
قلت: حديث أسامة بن زيد في (الهريسة) من ذاك؟ قال: " نعم " [47] .
34- (ت ق) سليمان بن عبيد الله الأنصاري أبو أيوب الخطاب الرقي سمع منه أبو حاتم بالكوفة سنة 215 هـ. قال البرذعي قلت لأبي زرعة: سليمان بن عبيد الله، أعني الرقي؟ قال: " منكر الحديث " [48] .
35- (ت ق) صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله الطلحي الكوفي، روى عن شريك والأعمش وهشام بن عروة وغيرهم. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [49] .
36- (ت ق) الصلت بن دينار الأزدي الهنائي البصري أبو شعيب المجنون، قال عنه (لين) [50] .
37- (ت ق) طريف بن سفيان السعدي، العطاردي وهو الذي يقال له طريف ابن سعد، وقد قيل طريف بن شهاب ويقال أيضاً طريف الأشل. ذكره أبو زرعة في أَسماء الضعفاء [51] .(26/194)
38- (ت ق) عاصم بن عبد العزيز بن عاصم الأشجعي، أبو عبد الرحمن، ويقال أَبو عبد العزيز المدني. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: عاصم بن عبد العزيز؟ قال: " ليس بالقوي " [52] .
39- (ت ق) عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري أبو عمر المدني، قال البرذعي: قلت لأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي عاصم بن عمر؟ قال: " واهي الحديث جدا " [53] .
40- (ت ق) عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد كيسان، المقبري، أبو عباد الليثي مولاهم. المدني. قال عنه أبو زرعة " ضعيف الحديث ليس يوقف منه على شيء " [54] وقد نعته بالضعف في أجوبته على البرذعي [55] .
41- (بخ ت ق) عبد الله بن المؤمل بن وهب الله القرشي المخزومي العابدي المدني ويقال المكي، ت 150 هـ قال عنه " ليس بقوي " [56] .
42- (ت ق) عبد الجبار بن عمر الأيلي، أبو عمر ويقال أبو الصباح الأموي مولاهم. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة عبد الجبار بن عمر؟ قال: "واهي الحديث، وأما مسائله فلا بأس"، كأنه يقول: حديثه واهي، ومسائله مستقيمة يعني ما روى من المسائل، عن ربيعة، وغيره [57] .
43- (ت ق) عبد الحميد بن الخزاعي أَبو عمر، المدني، الضرير نزيل بغداد أخو فليح، سأل ابن أَبي حاتم أَبا زرعة عنه فقال " ضعيف الحديث " [58] وقد قال البرذعي قلت لأبي زرعة: عبد الحميد بن سليمان؟ قال: " واهي " [59] .
44- (ت ق) عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي، المليكي، التيمي، الجدعاني. ذكره أبو زرعة في أَسماء الضعفاء [60] .
45- (ت ق) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني ت 182 هـ وقد قال عنه أبو زرعة " ضعيف الحديث " [61] .
46- (ت ق) عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري المدني، ت ما بين (180_ 190 هـ) ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [62] .(26/195)
47- (ت ق) عبيد الله بن عكراش بن ذويب بن حرقوص التميمي. ذكره أَبو زرعة في أَسماء الضعفاء [63] .
48- (بخ ت ق) عبيد الله بن الوليد الوصافي أبو إسماعيل الكوفي، قال عنه: " ضعيف الحديث " [64] .
49- (ت ق) عفير بن معدان، الحضرمي، الحمصي، المؤذن، أبو عائذ، ت 166 هـ، قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: عفير بن معدان؟ قال: " منكر الحديث جدا إلا أنه رجل فاضل كان مؤذنهم بحمص وكان من أفاضلهم إلا أن حديثه ضعيف جدا " [65] .
50- (ت ق) على بن يزيد بن أبي هلال الدلهاني ويقال الهلالي، أبو عبد الملك ويقال أبو الحسن الدمشقي، قال عنه أبو زرعة (ليس بقوي) [66] ، وذكره في أسماء الضعفاء [67] .
51- (ت ق) عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرحمن الكوفي. قال عنه: (ضعيف) [68] .
52- (عخ ت ق) عمارة بن جوين، أَبو هارون العبدي البصري ت 134 هـ، قال البرذعي: قلت:- أي لأبي زرعة- أبو هارون البكاء؟ فكلح وجهه، وقال بيده هكذا. قلت: فأي شيء أنكروا عليه؟ قال: "أمّا شيء كذا فلا أعلمه إلا أن أصحابنا حكوا عن، يحيى ابن معين أنه قال: فيه شيئا ليس من طريق الحديث، مثل الشرك، وأشباهه" [69] .
53- (ت ق) عمر بن راشد بن شجرة أَبو حفص اليمامي، قال ابن أبي حاتم (سئل أَبو زرعة عن عمر بن راشد الذي يحدث عن يحيى بن أبي كثير فقال: (لين الحديث) [70] .
54- (ت ق) عمر بن عبد الله بن أَبور خثعم، وقد ينسب إلى جده ويقال عمر ابن خثعم. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: عمر بن عبد الله بن أبي خثعمة؟ قال: (واهي الحديث، حدث عن يحيى بن أَبي كثير ثلاثة أحاديث، لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها) [71] .
55- (ت ق) عمر بن هارون بن يزيد بن جابر بن سلمة الثقفي، مولاهم أَبو حفص البلخي، ت 194 هـ، قال عنه (قيل لإبراهيم بن موسى لم لا تحدث عن عمر بن هارون؟ قال: الناس تركوا حديثه) [72] .(26/196)
56- (ت ق) عمر بن دينار البصري أبو يحيى الأعور قهرمان آل الزبير بن شعيب البصري. نقل ابن أَبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (واهي الحديث) [73] . قال البرذعي: سألت أبا زرعة عن عمر بن دينار وكيل آل الزبير؟ قال إسماعيل: (لم يكن عندي ممن يحفظ الحديث) [74] .
57- (ت ق) عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص، وقال بعضهم عنبسة بن أبي عبد الرحمن الأموي القرشي، قال عنه أبو زرعة (واهي الحديث منكر الحديث) [75] ، وذكره في أسماء الضعفاء [76] .
58- (ت ق) عيسى بن ميمون، المدني مولى القاسم بن محمد يعرف بالواسطي ويقال له ابن تليدْ. روى عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن أبي حاتم (سألت أبا زرعة عن عيسى بن ميمون فقال: ضعيف الحديث) [77] . وسأل مرة أَخرى عنه فقال: (واهي الحديث) [78] .
59- (ت ق) فائد بن عبد الرحمن الكوفي، أَبو الورقاء العطار ت ما بين 150_160 هـ، قال ابن أَبي حاتم (سمعت أبي وأبا زرعة يقولان فائد أبو الورقاء لا يشتغل به) [79] . وقال البرذعي: قلت لأبي زرعة: أبو الورقاء فائد؟ قال: (ضعيف الحديث) [80] .
60- (ت ق) فرقد بن يعقوب، السبخي، أبو يعقوب، البصري، من سبخة البصرة، وقيل من سبخة الكوفة ت 131 هـ. قال البرذعي: قلت: لأبي زرعة: أحاديث فرقد عن مرة؟ قال: منكرات [81] .
61- (ت ق) كثير بن زادان النخعي الكوفي. قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا هذا شيخ مجهول لا نعلم أَحداً حدث عنه إلا ما روى ابن حميد عن هارون بن المغيرة عن عنبسة عنه) [82] .
62- (ت ق) محمد بن أبى حميد واسمه إبراهيم الأنصاري الزرقي أَبو إبراهيم المدني يلقب بحماد. قال عنه أبو زرعة (ضعيف الحديث) [83] . وقد ذكره في أسماء الضعفاء [84] .
63- (ت ق) محمد بن زادان المدني، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء وقال عنه (منكر الحديث) [85] .(26/197)
64- (ت ق) محمد بن سعيد بن حسان بن قشر الأسدي المصلوب الأردني الشامي، قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة. قال البرذعي: سمعت أبا زرعة يقول: محمد بن حسان يقول: محمد بن حسان ويقال: محمد بن أبي قيس ويقال: محمد الأردني والشامي، وهو من أهل الأردن، (متروك الحديث) [86] .
65- (ت ق) محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي. الفزاري أبو عبد الرحمن الكوفي ت 155هـ، قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عنه فقال: (لا يكتب حديثه، وترك قراءة حديثه علينا) وقد ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [87] .
66- (ت ق) محمد بن الفضل بن عطية بن عمر بن خالد العبسي. مولاهمْ تْ 180 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [88] . وقالا عنه (ضعيف الحديث) [89] .
67- (ت ق) معاوية بن يحيى الصدفي أبو روح الدمشقي كان على بيت المال بالريّ قبل المهدي، قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عنه فقال: "ليس بقويْ. أحاديثه كلها مقلوبة ما حدث بالريّ، والذي بالشام أحسن حالا" [90] . وذكره أيضا في أسماء الضعفاء [91] .
78- (ت ق) معدي بن سليمان أبو سليمان صاحب الطعام. نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (واهي الحديث، يحدث عن ابن عجلان بمناكير) [92] .
69- (ت ق) موسى بن عبيدة بن نشيط بن عمرو بن الحارث الربذي أبو عبد العزيز المدني، ت 152 هـ أو 153، قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (ليس بقوي الحديث) [93] قال البرذعي: قلت لأبي زرعة موسى بن عبيدة؟ قال: (عاصم أنكر عندي) - وقال فيه: (عاصم واهي الحديث جداً) - حدثنا عن موسى بن عبيدة، روى عن عبد الله بن دينار خمسين حديثا مناكير كلها وموسى لا أرى غيره عندي عاصم أنكر حديثا [94] .
70- (ت ق) موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أبو محمد المدني، ت 151 هـ، قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: موسى بن محمد بن إبراهيم؟ قال: (منكر الحديث) [95] .(26/198)
71- (ت ق) ناصح بن عبد الله. ويقال ابن عبد الرحمن التميمي المحلمي أبو عبد الله الحائك الكوفي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [96] .
72- (ت ق) نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى، الهمداني، القاص، النخعي. قال عنه (لم يكن بشيء) [97] .
73- (ت ق) هشام بن زياد بن أبي يزيد القرشي، أبو المقدام بن أبي هشام المدني مولى عثمان. قال عنه: (ضعيف الحديث) [98] .
74- (ت ق) واصل بن السائب الرقاشي أبو يحيى البصري ت 144 هـ. قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عنه فقال (ضعيف الحديث) مثل أشعث بن سوار وليث بن أبي سليم وأشباههم [99] ، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [100] .
75- (بخ ت ق) الوليد بن جميل بن قيس القرشي، ويقال الكندي أبو الحجاج الفلسطيني قال عنه (شيخ لين الحديث) [101] .
76- (ت ق) الوليد بن محمد الموقري، أبو بشر البلقاوي مولى يزيد بن عبد الملك، ت 182 هـ. قال أبو زرعة عنه (لين الحديث) [102] ، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [103] .
77- (ت ق) يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي المدني، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [104] .
78- (ت ق) يحيى بن مسلم، ويقال ابن سليم، ويقال ابن أبي خليد الأزدي، أبو سليم، ويقال أبو السلم ويقال أبو مسّلم ويقال أبو الحكم البصري المعروف بيحيى البكاء مولى القاسم بن الفضل الحداني ت 130 هـ قال عنه (ليس بقوي) [105] .
79- (بخ ت ق) يزيد بن أبان الرقاشي، أبو عمرو البصري القاص الزاهد ت ما بين (110_120 هـ) ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [106] .
80- (ت ق) يزيد بن زياد ويقال ابن أبي زياد القرشي الدمشقي ويقال أنهما اثنان، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [107] .
81- (ت ق) يزيد بن سنان بن يزيد التميمي الجزري، أبو فروة الرهاوي ت 155 هـ. قال عنه: (ليس بقوي الحديث) [108] .(26/199)
82- (ت ق) يزيد بن عياض بن جعدبة الليثي. أبو الحكم المدني، نزل البصرة وتوفي بها في خلافة المهدي قال ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عن يزيد بن عياض؟ فقال: ضعيف الحديث وانتهى إلى حديثه فيما كان يقرأ علينا فقال: اضربوا على حديثه ولم يقرأ علينا) [109] وقال عنه أيضا (أكذب من ابن سمعان) [110] . وذكره في أسماء الضعفاء [111] .
83- (ت ق) يعقوب بن الوليد بن عبد الله بن أبي هلال الأزدي أبو يوسف، وقيل أبو هلال المدني. قال ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عن يعقوب بن الوليد فقال: ليس يشيء. وترك حديثه ولم يقرأ علينا) [112] .
الرواة الذين انفرد بالرواية عنهم أبو داود وابن ماجة في سننهما وضعفهم أبو زرعة.
84- (د ق) أيوب بن قطن الكندي الفلسطيني قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة (لا يعرف) [113] .
85- (د ق) الحسين بن عيسى بن مسلم الحنفي، أبو عبد الرحمن الكوفي أخو سليم القاري قال عنه: (منكر الحديث) [114] .
86- (د ق) خالد بن عمرو بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن العاص الأموي السعيدي أبو سعيد الكوفي قال عنه: (واهي الحديث) [115] . وقال عنه: (منكر الحديث) [116] . وضرب على حديثه [117] .
87- (قد ق) داود بن المحبر بن قحذم بن سليمان الطائي. ويقال الثقفي البكراوي أبو سليمان صاحب كتاب العقل ت 206 هـ. قال عنه: (ضعيف الحديث) [118] .
88- (د ق) درست بن زياد العنبري. ويقال القشيري أبو الحسن، ويقال أبو يحيى بصري. القزاز ت ما بين 170_200 هـ قال عنه: (واهي الحديث) [119] .
89- (بخ د ق) شرحبيل بن سعد أبو سعد الحظمي المدني مولى الأنصار ت 123 هـ قال عنه (لين) [120] .
90- (د ق) عباد بن كثير الثقفي البصري ت سنة بضع وخمسين ومائة قال عنه: (واهي الحديث. وهو فاضل متعبد) [121] .(26/200)
91- (مد ق) عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المخزومي أبو عبد الرحمن المدنيْ. قال ابن أبي حاتم امتنع أبو زرعة من أن يقرأ علينا حديث ابن سمعان وقال: (هو لاشيء) [122] .
92- (د ق) عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفيْ. قال عنه: (ضعيف الحديث) [123] .
93- (د ق) عمر بن عطاء بن وراز، ويقال ورازة، حجازيْ قال البرذعي: قلت لأبي زرعة عمر بن عطاء الذي يروي، عن عكرمة؟ فقال: (عمر بن عطاء بن وراز يحدث عن عكرمة ضعيف الحديث) [124] .
94- (مد ق) محمد بن مروان بن قدامة العقيلي، أبو بكر البصري المعروف بالعجلي قال عنه: (ليس عندي بذاك) [125] .
95- (د ق) مسلم بن خالد بن فروة مولى بني مخزوم. الزنجي المكي الفقيه أبو خالد ت 180 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [126] وقال عنه: (منكر الحديث) [127] .
(د ق) مندل بن علي العنزي أبو عبد الله الكوفي. يقال اسمه عمرو، ومندل لقبه ت 167 هـ. مر بحديثه أبو زرعة أثناء مذاكراته مع البرذعي فأمره بالضرب عليه. ولم يقرأه [128] وقال عنه: (لين الحديث) [129] ، وقال عنه أيضا (ليس بالقوي) [130] .
(د ق) يحيى بن العلاء البجلي أبو سلمة ويقال أبو عمرو الرازي ت ما بين (150_160 هـ) قال عنه (واهي الحديث) [131] .
96- (د ق) أبو سعيد الجبراني، الحميري، الحمصي، ويقال أبوْ سعد الخير الأنماري، ويقال إنهما اثنان، قيل اسمه زياد، ويقال عامر، ويقال عمر بن سعدْ. قال عنه: (لا أعرفه) [132] .
الرواة الذين انفرد بالرواية عنهم النسائي وابن ماجة في سننهما وضعفهم أبو زرعة
97- (س ق) إبراهيم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم الكوفي، أبو إسحاق أخو سفيان ت قبل 200 هـ. قال عنه: (ضعيف الحديث) [133] .
98- (س ق) بشر بن حرب الأزدي، أبو عمر الندبي البصري ت سنة نيف وعشرين ومائةْ قال عنه: (ضعيف الحديث) [134] ، وذكره في أسماء الضعفاء [135] .(26/201)
99- (س ق) جرير بن يزيد بن عبد الله البجلي. قال أبن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: (منكر الحديث) [136] .
100- (خت س ق) سلامة بن روح بن خالد بن عقيل بن خالد الأموي مولاهم الأيلي ت 197 هـ. قال أبو زرعة: (ضعيف. منكر الحديثْ) . قلت- القائل ابن أبي حاتم- يكتب حديثه؟ قال: نعم يكتب على الاعتبار روى حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "أكثر أهل الجنة البله"، وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من ضعيف متضعف لو قسم على الله لأبره" [137] .
101- (عس ق) عبد الله بن ميسرة أبو ليلى الحارثي الكوفي الواسطيْ قال عنه: (واهي الحديث) [138] .
102- (س ق) عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي، الدمشقيْ قال عنه: (ضعيف الحديث) [139] .
الرواة الذين روى عنهم أصحاب السنن مع ابن ماجه وضعفهم أبو زرعة
103- (د ت ق) إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عبد الرحمن الأسود أبو سليمان الأموي مولى آل عثمان المدني، أدرك معاوية ت 144 هـ. قال ابن أبي حاتم سمعت أبا زرعة يقول عنه: (ذاهب الحديث، متروك الحديثْ. وكان في كتابنا حديث عنه فلم يقرأه علينا وقال: أضعف ولد أبي فروة إسحاق) [140] ، وذكره في أسماء الضعفاء [141] .
104- (ي د ت ق) إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير [142] الأسدي المكي أبو عبد الملك ابن أخي عبد العزيز بن رفيع. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [143] .
105- (ت عس ق) ثابت بن أبي صفية دينار وقيل سعيد أبو حمزة الثمالي الأزدي، الكوفي مولى المهلب. مات في خلافة أبي جعفرْ. قال عنه أبو زرعة: (لين) [144] قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: أبو حمزة الثمالي؟ قال: (واهي الحديث) [145] .
106- (د ت ق) جابر بن يزيد بن الحارث، الجعفي، أبو عبد الله، ويقال أبو يزيد الكوفي ت 127 هـ وقيل 132 هـ. قال عنه أبو زرعة (لين) [146] .(26/202)
107- (د ت ق) دلهم بن صالح الكندي، الكوفي، قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: دلهم بن صالح؟ قال: (ضعيف الحديث) [147] .
108- (د ت ق) سليمان بن جنادة بن أبي أمية الأزدي الدوسي. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [148] .
109- (مد ت ق) صالح بن حسان النصنري أبو الحارث المدني نزيل البصرة. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [149] .
(د ت سي ق) صالح بن محمد بن زائدة المدني أبو واقد الليثي الصغير ت ما بين 140_150 هـ قال عنه: (ضعيف الحديث) [150] .
110- (د ت ق) صالح بن نبهان مولى التؤمة بنت أمية بن خلف المديني وهو صالح بن أبي صالح ت 125 هـ. قال عنه أبو زرعة فيما نقله عنه أبن أبي حاتم (ضعيف) [151] . قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: صالح مولى التؤمة؟ فقال: (حدثني عبد الله ابن الحسن عن مطرف قال: سمعت ملكا يقول: صالح مولى التؤمة كذاب) [152] .
111- (ت س ق) صدقة بن عبد الله السمين أبو معاوية ويقال أبو محمد الدمشقي، قال عنه (كان شاميا قدريا لينا) [153] .
112- (عخ د ت سي ق) عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ت 132 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [154] ، وقال عنه (منكر الحديث، مضطرب الحديث) [155] .
113- (بخ مد ت ق) عبد الله بن مسلم بن هرمز، المكيْ قال البرذعي: سألت أبا زرعة عن عبد الله بن مسلم بن هرمز فقال: (ليس بالقوي) [156] .
114- (بخ د ت ق) عبد الرحمن بن رافع التنوخي أبو الجهم ويقال أبو الحجر المصري، قاضي إفريقية ت 113 هـ، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [157] .ْ(26/203)
115- (بخ د ت ق) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، الإفريقي، أبو أيوبه، الشعباني قاضي إفريقية (ت 156) قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة، عن الإفريقي، وابن لهيعة؟ فقالا ضعيفان وأثبتهما الإفريقي، أما الإفريقي فإن أحاديثه التي تنكر عن شيوخ لا نعرفهم، وعن أهل بلده فيحتمل أن لا يكون فيهم ويحتمل أن يكون) [158] . قال البرذعي: قلت: يروى عن يحيى القطان أنه قال: (الإفريقي ثقة، رجاله لا نعرفهم؟) . فقال لي أبو زرعة: (حديثه، عن هؤلاء لا يدرى، ولكنه حدث عن عبد الله بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب "فيمن أتى بهيمة" [159] وهو منكرْ. قلت: فكيف محله عندك؟ قال: يقارب يحيى ابن عبد الله) [160] ونحوه.
116- (د س ق) عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي المروزيْ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [161] .ْ
117- (خت د ت ق) عبيدة بن متعب الضبي أبو عبد الكريم الكوفي، قال عنه أبو زرعة (ليس بقوي) [162] . وقال البرذعي: قال لي أبو زرعة: حدثنا علي بن الجعد قال: سمعت سفيان يقول لنا: شيخ من أهل الكوفة فقالوا: من هو؟ قال من بني ضبة. فقالوا: من هو؟ قال: عبيدة. كأنه كره أن يذكره لأنه ليس بذاك القوي [163] .
118- (تم س ق) عطاء بن مسلم الخفاف أبو مخلد الكافي نزيل حلب ت 190 هـ قال عنه (كان من أهل الكوفة قدم حلب، روى عنه ابن المبارك، دفن كتبه ثم روى من حفظه فيهم فيه، وكان رجلا صالحا) [164] .
119- (د ت ق) علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، أبو الحسن التيمي مولاهم ت 201 هـ. قال ابن أبي حاتم في ترجمة محمد بن مصعب القرقساني (قلت لأبي زرعة: محمد ابن مصعب وعلي بن عاصم أيهما أحب إليك؟ قال: محمد بن مصعب أحب إلي. علي ابن عاصم تكلم بكلام سوء ما أقل من حدث عنه من أصحابنا) [165] . وقال البرذعي: قلت لأبي زرعة: علي بن عاصم؟ قال: (ترك الناس حديثه إلا أن أحمد ربما ذكره) [166] .(26/204)
120- (بخ قد ت ق) عيسى بن سنان الحنفي، أبو سنان القسملي، الفلسطيني، سكن البصرة. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: عيسى بن سنان القسملي؟ فقال: (لين الحديث) . وسألته مرة أخرى عنه فقال: (مخلط ضعيف الحديث) [167] .
121- (بخ د ت ق) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي الكوفي أبو الحسن. ت 111 هـ. قال عنه (لين) [168] . قال البرذعي: قلت: أبو إسماعيل المؤدب، عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقصوا أعرافها" [169] فقال: (حديث منكر جدا) [170] .
122- (ز د ت ق) كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد اليشكري المزني ت ما بين 150_160 هـ، قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عنه فقال (واهي الحديث ليس بقوي، قلت له بهز بن حكيم وعبد المهيمن وكثير بن عبد الله أيهم أحب إليك؟ فقال: بهز وعبد المهيمن أحب إلي منه) [171] . وقال البرذعي: قلت: أحاديث كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال (واهية) . قلت: ممن وهنها؟ قال: (من كثير) [172] .
123- (د ت ق) المثني بن الصباح اليماني الأبناوي أبو عبد الله ويقال أبو يحيى المكي، أصله من أبناء فارس ت 149 هـ. قال عنه أبو زرعة (لين الحديث) [173] . وقد ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [174] .
124- (د س ق) مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، ت 157 هـ. نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (ليس بقوي) [175] وفي أجوبته على البرذعي قال أيضاً (ليس بقوي) [176] .(26/205)
125- (د ت ق) محمد بن حميد بن حيان التميمي الحافظ أبو عبد الله الرازي. قال عنه أبو زرعة (من فاته ابن حميد يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث) وقال أبو القاسم ابن أخي أبو زرعة (سألت أبا زرعة محمد بن حميد فاومي بأصبعه إلى فمه فقلت له كان يكذب فقال برأسه نعم. فقلت له: كان قد شاخ لعله كان يعمل عليه ويدلس عليهْ. فقال: لا يعنى كان يتعمد) وقال أبو زرعة (كتب إلى من بغداد بنحو من خمسين حديثا من حديث ابن حميد منكرة، فيه أحاديث رواه شبابة عن شعبة حدث به عن إبراهيم بن المختار عن شعبة) وروى أن أبا زرعة سئل عنه فقال تركه محمد بن إسماعيل فلما بلغ ذلك البخاري قال (بره لنا قديم) [177] .
وقال البرذعي دفع إليّ أبو زرعة جزءا من فوائد الرازيين، فنسخت منه ما نسخت وكان فيه أحاديث، عن أحمد بن أبي سريج، وعن من دون أحمد فلما أتيته بالكتاب قلت: لا إدراك أدخلت في هذا الجزء محمد بن حميد؟ فقال لي: محمد بن حميد يحتاج إلى جزء على حدةْ. وقلت له مرة أخرى أو قال له غيري أن أحمد بن حنبل قال: (إن أحاديث ابن حميد، عن جرير- ابن عبد الحميد الضبي-صحاح، وأحاديثه. عن شيوخه لا يدري) ْ فقال أبو زرعة: (نحن أعلم به من أبي عبد الله رحمه الله يعني في إمساكه، عن الرواية عنه) [178] .
126- (د ت ق) محمد بن فضاء بن خالد الأزدي الجهضمي، أبو بحر البصري. قال عنه: (ضعيف الحديث) [179] .
127- (د س ق) نوح بن ربيعة الأنصاري مولاهم أبو مكين البصري ت 153 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء وقال عنه (منكر الحديث) [180] .
128- (بخ د ت ق) الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني، المرهبي ت 172 هـ. نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (في حديثه وهي) [181] . قال البرذعي: قلت لأ بي زرعة: الوليد بن أبي ثور؟ قال: (منكر الحديث يهم كثيراً) [182] .(26/206)
129- (د ت ق) أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي اسمه بكير وقيل عبد السلام، ت 256 هـ. قال عنه (ضعيف الحديث، منكر الحديث) [183] .
130- (د ت ق) أبو زيد المخزومي مولى عمرو بن حريث، وقيل أبو زائد، وأبو زيد بالشك. (قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أبو زيد مجهول لا يعرف لا أعرف كنيته ولا أعرف اسمه) [184] .
131- (د ت ق) أبو ماجد، ويقال أبو ماجدة الحنفي العجلي الكوفي اسمه عائذ ابن نضلة، عن ابن مسعود في السير في الجنازة. قال أبو زرعة: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قلت ليحيى الجابر: من أبو ماجد الحنفي؟ قال: (طار علينا طير فحدثنا، وهو منكر الحديث) [185] .
132- (د ت ق) أبو المهزم التميمي البصري. اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن بن سفيان، روى عن أَبي هريرة. قال ابن أبي حاتم (سألت أبا زرعة عن أبي المهزم يزيد بن سفيان، فقال: ليس بقوي، شعبة يوهنه ويقول: كتبت عنه مائة حديث ما حدثت عنه بشيء حكى علي بن المديني عن عبد الرحمن بذلك) [186] . وقد ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [187] .
133- (بخ د ت ق) أبو يحيى القتات الكوفي الكناني، اسمه زاذان، وقيل دينار وقيل مسلم، وقيل يزيد، وقيل زبان، وقيل عبد الرحمن بن دينار. قال البرذعي: قلت لأبي زرعة أبو يحيى القتات؟ قال: (ضعيف الحديث) [188] .
134- (4) باذام ويقال باذان أبو صالح مولى أم هانيء بنت أبي طالب. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [189] .
135- (4) الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور الخارقي أبو زهير الكوفي الحوني قال عنه: (لا يحتج بحديثه) [190] . وروى بسنده إلى الشعبي أنه قال: (حدثني الحارث الأعور وكان كاذباً) [191] .
136- (4) زيد بن الحواري أبو الحواري العمي البصري قاضي هداة وهو مولى زياد بن أبيه، قال عنه: (ليس بقوي، واهي الحديث ضعيف) [192] .(26/207)
137- (4) سعيد بن بشير الأزدي، ويقال البصري مولاهم أبو عبد الرحمن، ويقال أبو سلمة الشامي. ت 168 أو 169 هـ قال ابن أبي حاتم: (سمعت أبي وأبا زرعة ذكرا سعيد بن بشير فقالا: محله الصدق عندنا. قلت لهما يحتج بحديثه؟ فقالا: يحتج بحديث ابن أبي عروبة، والدستوائي، هذا شيخ يكتب حديثه) [193] وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [194] .
138- (4) عبد الاعلى بن عامر الثعلبي الكوفي، ت 129 هـ، نقل ابن أَبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه: (ضعيف الحديث ربما رفع الحديث وربما وقفه) [195] . وقد ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [196] .
139- (4) عبد الرحمن بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن النعمان، الأنصاري المدني قال البرذعي: قلت: حارثة وعبد الرحمن ابنا أبي الرجال؟ فقال: (عبد الرحمن أشبه، وحارثة واه، وعبد الرحمن أيضا يرفع أشياء لا يرفعها غيره) [197] .
140- (س 4) عمارة بن حديد البجلي. قال عنه (لا يعرف) [198] .
141- (4) عمران بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، أَبو الحسن الكوفي أخو سفيان قال عنه أبو زرعة: (ضعيف الحديث) [199] ..
142- (خت 4) عباد بن منصور الناجي أبو سلمة البصري القاضي ت 152 هـ قال عنه (لين) [200] .
143- (خت 4) محمد بن سليم أبو هلال الراسبي، العبدي، البصري ت 167 هـ. قال ابن أبي حاتم سئل أبو زرعة عنه فقال (لين) [201] قال البرذعي: سئل أبو زرعة، وأنا شاهد، عن أبي هلال الراسبي؟ فقال: (لين، وليس بالقوي) [202] .
144- (4) المغيرة بن زياد البجلي، أبو هاشم الموصلي، ويقال أَبو هاشم روى عن مكحول وغيره، ت 152 هـ. قال ابن أبي حاتم (سألت أبي وأبا زرعة عن مغيرة بن زياد؟ فقالا: شيخ. قلت: يحتج بحديثه؟ قالا: لا) [203] . وقد ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء وقال عنه: (في حديثه اضطراب) [204] .(26/208)
145- (4) نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، أبو معشر، وهو مولى بني هاشم، مشهور بكنيته، ويقال كان اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن هلال ت 170 هـ ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [205] ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي وأبو زرعة عنه فقالا: (صدوق) . وقال أبو زرعة: (هو صدوق في الحديث وليس بالقوي) [206] .
الرواة الذين روى عنهم أحد الشيخين في صحيحيهما أو كليهما أو يشاركهم أصحاب السنن أو بعضهم وجرحهم أبو زرعة
146- (خ م س ق) أحمد بن عيسى بن حسان، المصري، أبو عبد الله العسكري المعروف بالتستري، ت 243 هـ، قال عنه أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد ابن عيسى. وأشار بيده إلى لسانه كأنه يقول: الكذب [207] .
147- (م 4) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي أبو محمد القرشي مولاهم الكوفي الأعور وهو السدي الكبير كان يقعد في سدة باب الجامع فسمي السدي ت 127 هـ. قال عنه (لين) [208] .
148- (بخ م ت س ق) أشعث بن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف ويقال له: شعبة النجار، والتابوتي، والأفرق، والأثرم، صاحب التوابيت ت 136 هـ قال عنه (لين) [209] .
149- (خ د ت ق) الحسن بن ذكوان، أبو سلمة البصري، قال البرذعي: قلت لأ بي زرعة: الحسن بن ذكوان؟ قال: (ضعيف الحديث) [210] .
150- داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني ت 135 هـ قال عنه (لين) [211] .
151- (م مد ت س ق) زمعة بن صالح الجندي اليماني، سكن مكة، سئل أبو زرعة عنه فقال: (مكي، لين، واهي الحديث، حديثه عن الزهري كأنه يقول مناكير) ( [212] ) .
152- (خت م 4) شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي أبو عبد الله الكوفي القاضي، ت 177 هـ، قال ابن أبي حاتم (قلت لأبي زرعة شريك يحتج بحديثه؟ قال:(26/209)
كان كثير الخطأ صاحب حديث وهو يغلط أحياناً. فقال له فضلك الصائغ أنه حدث بواسط بأحاديث بواطيل. فقال أبو زرعة لا تقل بواطيل) [213] .
153- (م 4) الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي أبو عثمان المدني، القرشي، ت 153 هـ قال عنه (ليس بقوي) [214] .
154- (ع) عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري، مولاهم أبو بكر المدني، ت 147 هـ أو قبلها. قال ابن أبي حاتم (وهنه أبو زرعة) [215] .
155- (م 4) عبد الله بن عمر بن حفص بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، أبو عبد الرحمن العمري، ت 173 هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [216] .
156- (م د ت ق) عبد الله بن لهيعة بن عقبة (وفي المجروحين لابن حبان: عبد الله بن عقبة بن لهيعة) أبو عبد الرحمن الحضرمي ويقال الغافقي قاضي مصر ت 174 هـ. لقي ابن لهيعة (72) تابعياً. صدوق، خلط بعد احتراق كتبه قال البرذعي: قال لي أبو زرعة: قال يحيى يعني بن بكير، احترق حصن لابن لهيعة فبعث إليه الليث [217] بمائة دينار [218] وأنكر يحيى [219] أن يكون احترقت كتب لابن لهيعة. قال أبو زرعة: (لم تحترق كتبه، ولكن كان رديء الحفظ) [220] .
157- (م 4) عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان الخراساني، واسم أبيه ميسرة، وقيل عبد الله، ت 135 هـ ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [221] .
158- (خت م ل ت س ق) عبد الكريم بن أبي المخارق واسمه قيس ويقال طارق أبو أمية المعلم البصري نزيل مكة، ت 126 هـ. قال عنه (لين) [222] .
159- (ز م 4) العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، أبو شبل المدني، مولى الحرقة من جهينة ت 132 هـ، قال البرذعي شهدت أبا زرعة ينكر حديث العلاء بن عبد الرحمن (إذا انتصف شعبان) [223] وزعم أنه منكر [224] .
160- (بخ م 4) علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة، زهير بن عبد الله التيمي أبو الحسن البصري ت 129 هـ قال عنه ليس بقوي) [225] .(26/210)
161- (م ت ق) عمار بن محمد الثوري أبو اليقظان الكوفي ابن أخت سفيان الثوري، ت 183 هـ قال عنه (ليس بقوي، وهو أحسن حالا من عمار بن سيف) [226] .
162- (خت م د ت ف) عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي العمري، المدني، قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: عمر بن حمزة؟ قال: (ليس بذا خبر) [227] .
163- (ع) فضيل بن سليمان، النعيري، أبو سليمان، البصري، ت 183 هـ وقيل غير ذلك. قال عنه ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عن فضيل بن سليمان؟ فقال: لين الحديث روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين) [228] .
164- (ع) فليح بن سليمان بن أبي المغيرة، واسمه رافع، ويقال نافع ن جبير الخزاعي، ويقال الأسلمي، أو يحيى المدني، وفليح لقب غلب عليه، واسمه عبد الملك ت 168 هـ. قال أبو زرعة: (فليح بن سليمان، ضعيف الحديث إلا أنه من حسن حديثه نعمة) [229] . وقيل له: فليح؟ فحرك رأسه، وقال (واهي الحديث، هو وابنه، محمد بن فليح جميعا واهيان) [230] .
165- (م 4) قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل بن ناشرة بن عبد بن عامر أبو محمد البصري، ويقال إنه مدني الأصل ت 147 هـ، قال عنه (الأحاديث التي يرويها مناكير) [231] .
166- (خ م د ت ق) كثير بن شنظير المازني ويقال الأزدي أبو قرة البصري. قال عنه (لين) [232] .
167- (خت م 4) ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم أبو بكر ويقال أبو بكر الكوفي، ت 148 أو 143 هـ، قال ابن أبي حاتم: (سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ليث لا يشتغل به هو مضطرب الحديث) وقال أبو زرعة عنه أيضاً (لين الحديث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث) [233] .
168- (خ س ق) محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي ويقال الخزاعي المدني ت 197 هـ، قال عنه أبو زرعة: (واهي الحديث) [234] .(26/211)
169- (ع) محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم أبو الزبير المكي، ت 126 هـ، قال ابن أبي حاتم: (سألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال روى عنه الناس. قلت: (يحتج بحديثه؟ قال: إنما يحتج بحديث الثقات) [235] .
170- (خت م 4) مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء الخراساني السلمي مولى علي، سكن البصرة، ت 125 أو قرب 140 هـ قال عنه (روايته عن أنس مرسل لم يسمع مطر من أنس شيئاًَ) وقال ابن أبي حاتم: (سئل أبو زرعة عن مطر الوراق فقال: صالح كأنه لين أمره) [236] .
171- (خ قد س ق) معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أبو الأزهر الكوفي. قال عنه: (شيخ واهي) [237] .
172- (خت م 4) يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي أبو عبد الله مولاهم الكوفي ت 137 أو 136 هـ قال عنه: (لين يكتب حديثه ولا يحتج به) [238] .
(عالم فقدته الأمة الإسلامية)
شاء الله جلت قدرته أن يختار إلى جواره في هذه الأيام عالما جليلاً كان مثالا للورع والإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل، بذل جهده ووقته في خدمة الإسلام والمسلمين، ذلكم هو سماحة الشيخ عبد الله بن حميد- تغمده الله بواِسع رحمته، ورفع درجاته في الجنة. وعوض الأمة الإسلامية عن فقده خيراًْ.
والفقيد الكريم كان قد عينه جلالة المغفور له الملك عبد العزيز قاضيا في الرياض في محرم 1357 هـ.
ثم اختاره في عام 1360 هـ ليكون قاضياً بمقاطعة سدير.
وفي عام 1372 هـ انتدبه المغفور له جلالة الملك فيصل رئيسا للرئاسة العامة للإشراف الديني في المسجد الحرام.
وفي عام 1395 هـ اختاره جلالة المغفور له الملك خالد بن عبد العزيز رئيساًً لمجلس القضاء الأعلى في المملكة.
وكان -يرحمه الله- علماً من أعلام الإسلام، قضى حياته في خدمة العلم وطلابه وخدمة المسلمين في كل أنحاء العالم.
وكان إلى جانب علمه ورعاً وزاهداً وحسن الخلق والمعاشرة.(26/212)
وقد ساهم في التوجيه والإرشاد من خلال حلقات الدرس التي كان يلقيها في المسجد الحرام.
إضافة إلى ذلك كان لسماحته مؤلفات عدة وزعها في جميع أنحاء العالم الإسلامي كان لها أثرها في توجيه المسلمين.
رحم الله الفقيد، وأجزل له المثوبة، وألحقنا به على الإيمان.
(مجلة الجامعة)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] في العددين (47، 48) لشهري رجب - ذو الحجة سنة 1400 هـ من صفحة (31- 51) .
[2] قد يذكر ضمنا بعض الرواة الذين روى عنهم البخاري في الأدب المفرد أو تعليقا أو غيرهما من مصنفاته وكذلك بالنسبة للأئمة الأربعة (مسلم، أبو داود، الترمذي، النسائي) والعبرة بالرواة الذين لهم رواية في الكتب الستة.
[3] انظر الجرح والتعديل ج 1/ ق 1/ 115.
[4] انظر أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف - أ-.
[5] انظر: الجرح والتعديل ج أ/ ق 1/ 122 تهذيب التهذيب ج 1/150، ميزان الاعتدال ح 1/52.
[6] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف - أ-.
[7] انظر: الجرح والتعديل ج ا/ق 1/237 تهذيب التهذيب ج 1/254.
[8] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرب - أ-.
[9] انطر: الجرح والتعديل ج ا/ ق 1/155 وتهذيب التهذيب ج 1/381.
[10] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف أ. انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 1/ 152_ 153، تهذيب التهذيب ح 1/379، وانظر ترجمته في ميزان الاعتدال ج 1/ 312_313.
[11] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف- أ-.
[12] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/ 199، وفي كتاب تهذيب التهذيب ج 1/333 اكتفى بقوله (ضعيف الحديث) وفي ميزان الاعتدال ج 1/ 348 اكتفى بقوله (بصري ضعيف: سكن مكة) .
انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (13_أ_) .(26/213)
[13] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/272، عن ابن أبي حاتم، وفي تهذيب التهذيب ج 1/351 قال (يضعف في الحديث) واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله ضعيف.
[14] انظر أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف - أ-.
[15] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (12- أ-) وقد روى الخطيب في تاريخ بغداد ج 7/90 بسنده إلى البرذعي قوله فيه، وفي تهذيب التهذيب ج 1/482 قال أبو زرعة (ذاهب الحديث) .
[16] روى له الترمذي وابن ماجة حديثا واحدا من حديث عقبة بن عامر "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام" وحسنه الترمذي واستغربه، انظر: تهذيب التهذيب ج 1_488_489 وفيه (وقال أبو زرعة واهي الحديث، حدث عن موسى ابن علي بحديثين منكرين لم أجد لهما أصلا في حديث موسى) وانظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (29 - أ-) .
[17] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/471. وفي تهذيب التهذيب ج 2/30 قال ابن أبي حاتم: (أنكر أبي وأبو زرعة توثيقه) . وانظر كذلك ميزان الاعتدال ج 1/373.
[18] انظر: الجرح والتعديل ج1/ق 2/256، وفي أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي قال عنه (واه) . انظر ورقة (10 -ب-) . وفي تهذيب التهذيب ج 2/166 (واهي الحديث، ضعيف) وفي أسماء الضعفاء لابن الجوزي في الحاشية نقاط عنه قوله (ضعيف الحديث) .
[19] انظر: الجرح والتعديل ج1/ق 2/92 وفي تهذيب التهذيب ج 2/159 قال أبو زرعة (ضعيف الحديث في حديثه وهن) .
[20] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11 - ب-) .
[21] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة. وانظر: ترجمته في الجرح والتعديل ج ا/ق 2/91 تهذيب التهذيب ج 2/159_160. ميزان الاعتدال ج 1/444.
[22] انظر أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف (ح) .(26/214)
[23] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/29، وانظر كذلك، أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي وفي ورقة (17- ب-) . وفي تهذيب التهذيب ج 3/261، وقد نقل ابن حجر عن أبي زرعة أنه قال (ليس بالقوي في الحديث) .
[24] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة (حرف -ح-) وانظر ترجمته في الجرح والتعديل ج 1/ق 1/ 20، تهذيب التهذيب ج 2/303_304، ميزان الاعتدال ج 1/505.
[25] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ح-. وقال عنه أحمد بن حنبل (متروك الحديث أحاديثه موضوعة لا يكتب حديثه) وقال ابن حجر بعد كلام حول إخراج البخاري له تعليقا: (فلم يعلق له البخاري شيئا بل هذا مما يدل على سوء حفظه وكان يلزم الشيخ على هذا أن يعلم له علامة مقدمة مسلم فقد ذكره في المقدمة..) وانظر ترجمته في الجرح والتعديل ج 1/ ق 2/37_38 وميزان الاعتدال ج 1/513_515، وتهذيب التهذيب ج 2/307، وتاريخ بغداد ج 7/345_350.
[26] انظر: تهذيب التهذيب ج 2/364، والجرح والتعديل ج 1/ق 2/64، وميزان الاعتدال ج 1/564، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[27] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (16 - أ-) وفي الجرح والتعديل ج 1/ق 2/174 قال ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عن حفص بن داود فقال هو حفص بن سليمان وهو ضعيف الحديث) وقال في تهذيب التهذيب ج 2/401 (ضعيف الحديث) واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (ضعيف) .
[28] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (7 - أ-) (له في الكتابين حديث واحد، وهو: (أينحني بعضنا لبعض) ؟ قال: "لا" حسنه الترمذي رواه عن أنس، انظر: تحفة الأحوذي ج 7/ 513_514، وسنن ابن ماجة ج 2/1220.
انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (13 -ب-) ، وانظر ترجمته في الجرح والتعديل ج 1/ق 2/375_376 تهذيب التهذيب ج 3/76_78، وميزان الاعتدال ج 1/625_626.(26/215)
[29] رواه الترمذي في الجامع في أبواب صفة القيامة: با.0ب 18 ج 7/206_207 من طريق حفص بن غياث، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك"وقال عنه: هذا حديث حسن غريب، ورواه الطبراني، وابن أبي الدنيا كما في المقاصد الحسنة ص 463، وكشف الخفاء ج 2/356، ورواه أبو نعيم في الحلية ج 5/186 هـ، والخطيب في تاريخ بغداد ج 9/96، وذكره ابن حبان في المجروحين ج 1/352 في ترجمة السري بن عاصم بن سهل الهمداني، وقال عنه (كان ببغداد يسرق الحديث ويرفع الموقوفات لا يحل الإحتجاج به) . وج 2/211 في ترجمة القاسم بن أمية الحذّاء وقال عنه (شيخ يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة لا يجور الإحتجاج به إذا انفرد) وقال عن الحديث: (وهذا لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وانظر: تذكرة الموضوعات لابن طاهر المقدسي ص 73، وانظر ميزان الاعتدال ج 1/8_369، ورواه أبو حنيفة في مسندة ص 214 قال سمعت واثلة به الأسقع بلفظ "لا تظهرن شماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك".
[30] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/321، وكذا في تهذيب التهذيب ج 3/80_81، وانظر: كذلك أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (14 -أ-) ، وفيها قال عنه: (ليس بالقوي) . ثم قال: كتبنا أحاديثه. وإبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع عن أبي نعيم الفضل بن دكين-. وحضر خروجا، ولم يسمعه منه. قال أبو زرعة: فبلغنا أن أبا نعيم لما حدث. حدث عنهما قال: (قد حدثتكم اليوم، عن شيخين لا يسويان فلسين) .
[31] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (8 -أ-) .
[32] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11 -أ- (وهذا القول رواه الخطيب في تاريخ بغداد ج 8/358_359 بسنده إلى البرذعي واقتصر المزي والذهبي على قوله (متروك) . انظر: تهذيب التهذيب ج 3/185. وميزان الاعتدال ج 2/7.(26/216)
[33] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف - د-. روى له الترمذي حديثا واحدا، وكذلك ابن ماجة روى عنه حديثاً واحداً وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 3/228، ميزان الاعتدال ج 2/32. والجرح والتعديل ج 1/ق 2/452_453.
[34] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ر-، وانظر ترجمته في تهذب التهذيب ج 3/239_240، ميزان الاعتدال ج 2/38_39، والجرح والتعديل ج 1/ق 2/455.
[35] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/513، وكذا تهذيب التهذيب ج 3/278، وفي ميزان الاعتدال ج 2/49 اكتفى بقوله (ضعيف) وكذا في الترغيب والترهيب ج 4/570 وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[36] انظر أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ر-.
[37] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 2/513، وفي تهذيب التهذيب ج 3/279 اكتفى بقوله (ضعيف) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[38] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11-ب-) .
[39] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/494، وفي تهذيب التهذيب ج 3/ 292 (قال ابن أبي حاتم عن أبيه وفي نسخة عن أبي زرعة مروان أحب إليّ منه يكتب حديثهما ولا يحتج بهما، وروح ليس بقوي) .
[40] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ر-. وانظر ترجمته: الجرح والتعديل ج 1/ ق 2/567 ميزان الاعتدال ج 2/105، ولسان الميزان ج 2/508.
[41] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق 1/87، وفي تهذيب التهذيب ج 3/473 قال (لين الحديث) .
[42] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف - س-.
[43] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –س-.(26/217)
[44] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق 1/63، وتهذيب التهذيب ج 4/ 79_80، وفي ميزان الاعتدال ج 2/158 قال عنه (صدوق مدلس) وقد ذكره ابن حجر في المرتبة الخامسة من مراتب المدلسين وقال فيه (ضعيف، مشهور بالتدليس) ، وصفه له أحمد وأبو حاتم والدارقطني وغيرهم وأصحاب هذه المرتبة قال فيهم ابن حجر: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع إلا أن يوثق من كان ضعفه يسيراْ) . انظر: تعريف أهل
التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص 8، صْ 40.
[45] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف- س-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 4/83_84، وميزان الاعتدال ج 2/158 والجرح والتعديل ج 2/ق 1/67.
[46] وراق سفيان اسمه (قرطمة) ذكره الدراقطني في حاشية كتاب المجروحين لابن حبان ج 1/355. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق 1/231 (سمعت أبي يقول جائني جماعة من مشيخة الكوفة فقالوا: بلغنا أنك تختلف إلى مشايخ الكوفة تكتب عنهم وتركت سفيان بن وكيع أما كنت ترعى له في أبيه؟ فقت لهم: إني أوجب له وأحب أن تجري أموره على الستر وله وراق قد أفسد حديثه، قالوا فنحن نقول له أن يبعد الوراق عن نفسه فوعدتهم أن أجيئه فأتيته مع جماعو من أهل الحديث وقلت له: إن حقك واجب علينا في شيخك ونفسك فلو صنت نفسك وكنت تقتصر على كتب أبيك لكانت الرحلة إليك في ذلك، فكيف وقد سمعت؟. فقال: ما الذي ينقم علي؟ قلت: قد أدخل وراقك في حديثك ما ليس في حديثك. فقال: فكيف السبيل في ذلك؟ قلت: ترمي بالمخرجات وتقتصر على الأصول، ولا تقرأ إلا من أصولك، وتنحي هذا الوراق عن نفسك، وتدعو بابن كرامة توليه أصولك، فإنه يوثق به. فقال مقبول منك. وبلغني أن وراقة كان قد أدخلوه بيناً يتسمع علينا الحديث، فلما فعل شيئاً مما قاله، فبطل الشيخ، وكان يحدث بتلك الأحاديث التي قد أدخلت بين حديثه. وقد سرق من حدث المحدثين)(26/218)
وانظر: الخبر في تهذيب التهذيب ج 4/124 وأشار إليه الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/173، وانظر: بعض الأحاديث التي لقنها له في المجروحين لابن حبان ج 1/355، ج 1/ 355، وانظر ما ذكره الخطيب في الكفاية ص 237 في باب (رد حديث من عرف بقبول التلقين) حول وراق سفيان بن وكيعْ.
وذكره ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 2/8 وقد سأل والده عنه؟ فأجابه (هذا حديث كذب ومحمد بن الحجاج (أي الواسطي) هذا ذاهب الحديث) وكذلك ذكره في ترجمته في الجرح والتعديل ج 3/ق 2/234 وذكره ابن حبان في المجروحين في ترجمته ج 2/290 والذهبي في ميزْان الاعتدال ج 3/509 في ترجمته وقال عنه: (هذا من وضع محمد، وكان صاحب هريسة) ، رواه ابن الجوزي في الموضوعات ج 3/16_18 وقال: (هذا حديث وضعه محمد بن الحجاج وكل الطرق تدور عليه إلا طريق ابن عباس، فإن فيها نهشلْ. قال ابن راهويه: كان كاذباَ وضعفه آخرونْ) . وذكر طرقه السيوطي في اللآليء المصنوعة ج 2/234_237 وذكر هذه الرواية التي أشار إليها أبو زرعةْ رواها أبو نعبم في الطب بسند إلى سفيان بن وكيع قال حدثنا أبي حدثنا أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله علبه وسلم "أطعمني جبريل االهريسة شد بها ظهري لقيام الليل"، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد ج 2/280 وانظر: تنزيه الشريعة لابن عراق ج 2/ 253، وتذكرة الموضوعات للفتني ص 145، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج 5/38، وابن القيم في المنار المنيف ص 64، وملأ على في الأسرار المرفوعة ص 439.(26/219)
[47] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (9_أ _) . وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق 1/231 (سألت أبا زرعة عنه فقال. لا يشتغل بهْ. قيل له كان يكذب. قال كان أبوه رجلا صالحاْ. قيل له كان يتهم بالكذب؟ قال: نعم) ونقله عنه المزيْ انظر: تهذيب التهذيب ج 4/124. ونقل الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/173 عنه أنه قال (يتهم بالكذب) وفي أسماء الضعفاء لابن الجوزي قال عنه: (لا يشتغل بهْ. قيل له كان يتهم بالكذب؟ قال: نعم) .
[48] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (6- ب-) . وانظر: ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 4/10. وميزان الاعتدال ج 3/214، والجرح والتعديل ج 2/ ق 1/127.
[49] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ص-. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 4/404، وميزان الاعتدال ج 2/301_302، والجرح والتعديل ج 2/ ق 1/415.
[50] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/438، وتهذيب التهذيب ج 4/434 وفيه قال ابن حبان (كان الثوري إذا حدث عنه يقول ثنا أبو شعيب ولا يسميه) . وانظر: المجروحين ج 2/370_371.
[51] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ط- وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 5/11_12، وميزان الاعتدال ج 2/336، والجرح والتعديل ج 2/ق 1/492_493.
[52] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (7-ب-) . وانظر ترجمته تهذيب التهذيب ج 5/46، وميزان الاعتدال ج 2/353.
[53] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (22-أ-) ، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 5/51-52، وميزان الاعتدال ج 2/355_356 والجرح والتعديل ج 3/ق 1/346_347.
[54] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/71، تهذيب التهذيب ج 5/238.
[55] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (6-أ-) .
[56] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق 2/175، وتهذيب التهذيب ج 6/46، والترغيب والترهيب ج 4/573.(26/220)
[57] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10- أ-) وقد نقل ابن رجب في شرح العلل ص 452_453 قول ابن أبي زرعة فيه وكذلك تعقيب البرذعي وزاد في الخبر (قال البرذعي كأنه يقول..) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق 1/32 عن أبي زرعة أنه قال عنه (ضعيف الحديث ليس بقوي، وقرأ علينا حديثه) وكذا في تهذيب التهذيب ج 6/103 وزاد نقلا عن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (واهي الحديث، وأما مسائله فلا بأس بها) واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/534 بقوله (وهاه أبو زرعة) وفي أسماء الضعفاء لابن الجوزي قال أبو زرعة عنه (ضعيف) .
[58] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/14
[59] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10- أ-) .
[60] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع- وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 6/146، وميزان الاعتدال ج 2/550، والجرح والتعديل ج 2/ق 2/217_218.
[61] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/233، وفي تهذيب التهذيب ج 6/178 اكتفى بقوله (ضعيف) وقال ابن الجوزي في أسماء الضعفاء (ضعفه أبو زرعة) .
[62] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع- وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 6/432، وميزان الاعتدال ج 2/671، والجرح والتعديل ج 3/ق 1/67_68.
[63] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 7/37 وميزان الاعتدال ج 3/13_14 والجرح والتعديل ج 2/ ق 2/329_330.
[64] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/337، وتهذيب التهذيب ج 7/55، واكتفىْ الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/17 بقوله (ضعيف) لابن الجوزي.
[65] انظر: أحوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (6-ب-) . وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 2/25، وميزان الاعتدال ج 3/83، والجرح والتعديل ج 3/ق 2/36.(26/221)
[66] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/209، وكذا في ميزان الاعتدال ج 3/161، وفي تهذيب التهذيب ج 7/397 قال (ليس بالقوي) .
[67] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-.
[68] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/393، وتهذيب التهذيب ج 7/402، والترغيب والترهيب ج 4/575، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/165 بقوله (ضعفه أبو زرعة) .
[69] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (13 -ب-) . قال ابن حبان في المجروحين ج 2/167 (كان رافضيا يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه ولا يحل كتبة حديثه إلا على جهة التعجب) وقال بهز بن أسد: أتيت إلى أي هارون العمدي فقلت أخرج إليّ ما سمعت عن أبي سعيد فأخرج لي كتابا فإذا فيه حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل حفرته وإنه لكافر بالله، قال: قلت تقر بهذا قال هو كما ترى قال: فدفعت الكتاب في يده وقمت فهذا كذب ظاهر على أبي سعيدْ. كذا في تهذيب التهذيب ج 7/413_414 ونحوه في ميزان الاعتدال ح 3/174، وفي الجرح والتعديل ج 3/ق 1/364 نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (ضعيف الحديث) وكذا في تهذيب التهذيب ج 7/412.
[70] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (17-أ-) . وانظر: كذلك في الجرح والتعديل ج 3/ق 1/107_108، وانظر: تهذيب التهذيب ج 7/446، واكتفى المنذري في الترغيب والترهيب ج 4/575 بقوله (لين) وكذا الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/194.
[71] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (19-ب-) . انظر: كذلك في تهذيب التهذيب ج 7/468 وفيه (قال البرذعي عن أبي زرعة واهي الحديث، وذكر قوله فيه) واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/211 بقوله (وهاه أبو زرعة) .
[72] انظر. الجرح والتعديل ج 3/ق 1/141، وتهذيب التهذيب ج 7/504.
[73] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ ق 1/232 وكذا في تهذيب التهذيب ج 8/31، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.(26/222)
[74] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (17-أ-)
[75] انظر: تهذيب التهذيب ج 8/161، وفي الجرح والتعديل ج 3/403 ذكر قوله هذا في ترجمة عنبسة بن عبد الرحمن غير الأول، وقال ابن أبي حاتم بعد أن نقل قول أبي زرعة (أحسب أن عنبسة بن عبد الرحمن هذا هو القرشي الذي يحدث عن شبيب بن بشير) أي صاحب الترجمة المذكورة.
[76] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-.
[77] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/287.
[78] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (8-ب-) .
[79] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/84.
[80] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (11-أ-)
[81] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (2-ب-) ، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 8/262_264، وميزان الاعتدال ج 3/345_346، والجرح والتعديل ج 3/ق 2/81_82.
[82] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/151، وفي تهذيب التهذيب ج 8/413 عن أبي زرعة (شيخ مجهول) وفيه له عندهما حديث واحدة فضل القرآن قال الترمذي (لا نعرفه إلا من هذا الوجه ليس له إسناد صحيح) . وفي ميزان الاعتدال ج 3/403 قال عنه أيضاَ (مجهول) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[83] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/234، تهذيب التهذيب ج 9/133، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[84] انظر: أسماء الضعفاء لأَبي زرعة حرف-م-.
[85] انظر: أسماء الضعفاء لأَبي زرعة حرف -م-، وانظر: ترجمته في تهذيب التهذيب ج 9/165، ميزان الاعتدال ج 3/546. والجرح والتعديل ج 3/ق 2/260.
[86] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (33-أ-) . وانظر: كذلك في الجرح والتعديل ج 3/ق 2/262_264 وفيه نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (صلب في الزندقة وهو متروك الحديث) .(26/223)
[87] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/2، وفي تهذيب التهذيب ج 9/323 اكتفى بقوله (ترك أبو زرعة قراءة حديثه) ونقل ابن الجوزي في أسماء الضعفاء عنه أنه قال (لا يكتب حديثه) وقوله (ضعيف الحديث) .
[88] ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف -م-.
[89] انظر: أجوبة أبى زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (8-ب-) ، وانظر كذلك الجرح والتعديل ج 4/ق 1/57، وتهذيب التهذيب ج 9/401، وتاريخ بغداد ج 3/151.
[90] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/384، وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/219 إلا أنه قال (أحاديثه كأنها منكرة) بدل (كلها مقلوبة) في ميزان الاعتدال ج 4/138 اكتفى بقوله (أحاديثه كلها مقلوبة) .
[91] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -م-.
[92] انظر: الجرح والتعديل ج ا/ق 1/438، وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/229 واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 4/143 والمنذري في الترغيب والترهيب ج 4/578 بقوله (واهي الحديث) وانظر: كذلك: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (17-ب-) .
[93] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/152، وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/358 وفيهما قال يحيى بن معين روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير، وكذا في المجروحين لابن حبان ج 2/234.
[94] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (22-أ-) .
[95] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (8-أ-) ، انظر: كذلك الجرح والتعديل ج 4/ق 1/160، وكذا في تهذيب التهذيب ج 1/368.
[96] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ن-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 10/401_ 402، وميزان الاعتدال ج 4/240، والجرح والتعديل ج 4/ق 1/502_503.
[97] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/490، وميزان الاعتدال ج 4/272.
[98] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/58. وتهذيب التهذبب ج 11/38.(26/224)
[99] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/31، وكذا في تهذيب التهذيب ج 11/104. دون كلمة وأشباههم، وفي ميزان الاعتدال ج4/328 اكتفى بقوله (ضعيف) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[100] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -و-.
[101] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (19-أ-) والجرح والتعديل ج 4/ق 2/3، وكذا في تهذيب التهذيب ح 11/132. والترغيب والترهيب ج 4/579، وميزان الاعتدال ج 4/337.
[102] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/ (15) .
[103] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعه حرف -و-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 11/149_150. وميزان الاعتدال ج 4/346.
[104] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعه حرف -ي-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 11/252_254. وميزان الاعتدال ج 4/395، والجرح والتعديل ج 4/ق 2/176_168.
[105] انظر. الجرح والتعديل ج 4/ق 2/187، وتهذيب التهذيب ج 4/279، والترغيب والترهيب ج 4/580، وميزان الاعتدال ج 4/409.
[106] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ي- وقال عنه شعبة (لأن اقطع الطريق أحب إلي من أن أروي عن يزيد) وقال أيضاً (لأن أزني أحب إلى من أن أحدث عن يزيد الرقاشي) . وانظر: ترجمته في الجرح والتعديل ج 4/ق 2/251_252. وتهذيب التهذيب ج 11/309_311، وميزان الاعتدال ج 4/418، والمجروحين لابن حبان 3/98.
[107] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ي-، وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 11/328_329، وميزان الاعتدال ج 4/425، والجرح والتعديل ج 4/ق 2/262_263.
[108] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/267، وكذا في تهذيب التهذيب ج 11/336 دون كلمة (الحديث) .
[109] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. وانظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/283، وفي تهذيب التهذيب ج 11/353 قال عنه (ضعيف الحديث وأمر أن يضرب على حديثه) .(26/225)
[110] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (9-ب-) وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سليمان ابن سمعان المخزومي الذي قال عنه أبو زرعة (كذاب) ، انظر: تهذيب التهذيب ج 5/220_221.
[111] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ي-.
[112] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/216_217، وفي تهذيب التهذيب ج 11/398 قال عنه (غير ثقة) .
[113] انظر: تهذيب التهذيب ج 1/410، وفي تقريب التهذيب ج 1/90 قال عنه: (فيه لين) .
[114] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/60، وتهذيب التهذيب ج 2/364، واكتفى في ميزان الاعتدال ج 1/545 بقوله (له مناكير) وأخرجا له حديثا واحداً "ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم"، كذا في تهذيب التهذيب ج 2/364.
[115] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11-أ-) .
[116] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/344، وكذا في تهذيب التهذيب ج 3/109.
[117] انظر: ميزان الاعتدال ج 1/635.
[118] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (17-أ-) وكذلك روى الخطيب في تاريخ بغداد ج 8/361 بسنده إلى البرذعي قول أبي زرعة فيه، وانظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/424، وتهذيب التهذيب ج 3/200، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/20 بقوله قول أبو زرعة: (ضعيف) ، وقال الذهبي: (لقد شان ابن ماجة سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها) .
[119] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/438، وتهذيب التهذيب ج 3/209، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/26 بقوله (واه) . وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[120] انظر: الجرح والتعديل 2/ق 1/339، وتهذيب التهذيب ج 4/321، وميزان الاعتدال ج 2/266 قال عنه (فيه لين) . وكذا في الترغيب والترهيب ج 4/571.(26/226)
[121] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (7) . وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق 1/85 (سألت أبا زرعة عن عباد بن كثير قلت يكتب حديثه؟ قال: (لا. ثم قال: كان شيخا صالحا وكان لا يضبط الحديث) وكان في كتاب أبي زرعة حديث عن أحمد بن يونس عن زهير، عن عباد بن كثير. فقال: (اضربوا عليه ولم يحدثنا به) . وانظر: تهذيب التهذيب ج 5/100_101.
[122] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/62، وكذلك انظر: تهذيب التهذيب ج 5/220_221. وفي أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (9-ب-) نقل أبو زرعة بسنده إلى مالك بن أنس أنه قال عن ابن سمعان: (كذاب) .
[123] انظر أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (5-ب-) ، وفي الجرح والتعديل ج 3/ق 1/118_ 119 قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: (ليس بقوي) . قلت: ما حاله؟ قال: (أسأل الله السلامةْ) . ونقل هذا القول المزي. انظر: تهذيب التهذيب ج 7/471.
[124] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10-أ-) ، ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ح 3/ق 1/126 عن أبي زرعه أنه قال عن (مكي. لين) وفي نسخة أخرى في الجرح والتعديل قال عنه: (ثقة، لين) ومن هذه النسخة نقل المزي قول أبي زرعة فيه. انظر: تهذيب التهذيب ج 7/483_484 وفيه قال يحيى بن معين: عمر ابن عطاء الذي يروى عنه ابن جريح يحدث عن عكرمة ليس هو بشيء وهو ابن أبي وراز وهم يضعفونه. كل شيء عن عكرمة فهو ابن وراز، عمر بن عطاء بن أبي الخوار: ثقةْ.
[125] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/86 وتهذيب التهذيب ج 9/437، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 4/33 بقوله (ليس بذاك) ، وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[126] انظر أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -م-.
[127] انظر: أسماء الضعفاء لابن الجوزيْ.
[128] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (24-ب-) .(26/227)
[129] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/435، وتهذيب التهذيب جْ 10/299.
[130] انظر: أسماء الضعفاء لابن الجوزيْ.
[131] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (18-أ-) ، وقال عنه أيضا كما في الجرح والتعديل ج 4/ق 2/180 (في حديثه ضعف) وكذا في تهذيب التهذيب ج 11/262.
[132] انظر: تهذيب التهذيب ج 12/109، وميزان الاعتدال ج 4/529، وقال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ج 2/428 (مجهول) .
[133] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (13-أ-) وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 1/149_150، وميزان الاعتدال ج 1/51، والجرح والتعديل ج 1/ق 1/118.
[134] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/354، واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (ضعفه أبو زرعةْ) .
[135] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ب-.
[136] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/503، وتهذيب التهذيب بقوله ج 2/77. وميزان الاعتدال ج 1/397، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، قال المزي كما في تهذيب التهذيب ج 2/77، له عندهما حديث واحد في المسح على الخفين، وفي تحفة الأشراف للمزي ج 2/376 عزاه لابن ماجة فقط وهذا وهم منه رحمه الله حيث عزاه للنسائي كما مر، وانظر الحديث في: سنن ابن ماجه ج 1/183.
[137] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/304 وكذا في تهذيب التهذيب ج 4/289 باختصارْ واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/183 بقوله (منكر الحديث) ، واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (ضعيف منكر الحديث) ْ.
[138] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10-ب-) ، وفي الجرح والتعديل ج 2/ق 2/ 178 قال عنه (واهي الحديث، ضعيف الحديثْ) وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/511 ضمن ترجمته (أبو ليلى، وهو أبو إسحاق وأبو جرير، وأبو عبد الجليل، كناه بهذه الأربعة هشيم يدلسه) .(26/228)
[139] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/301، وتهذيب التهذيب ج 6/296_297، وفي أجوبته على أسئلة البرذعي ورقة (13 -أ-) قال عنه: (ضعيف) . واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/598 بقوله (ضعيف) ، وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[140] انظر: الجرح والتعديل ح 1/ق 1/228 وقال في ج 1/ق 1/307 (ترك أبي وأبو زرعة حديث إسحاق بن أبي فروت وكذلك أحمد ويحيى وعلي) ، واكتفى في تهذيب التهذيب ج 1/241 بقوله (متروك الحديث ذاهب الحديث) وفي ميزان الاعتدال ج 1/193 بقوله (متروك) .
[141] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –أ-.
[142] والصفير) بالمهملة والفاء مصغراً، وفي الجرح والتعديل ج 1/ق 1/186 والمجروحين لابن حبان ج 1/110 (الصفيراء) وفي الأصل وميزان الاعتدال ج 1/237، (الصغير) وكذا في خلاصة تهذيب الكمال.
[143] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –أ-.
[144] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/458، تهذيب التهذيب ج2/7
[145] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11) .
[146] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/498، وانظر: ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 2/46_51، وميزان الاعتدال ج 1/379_384.
[147] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (11-أ-) ، وانظر: ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 3/212_213، وميزان الاعتدال ج 2/28، والجرح والتعديل ج 1/ق 2/436.
[148] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –س-. وانظر: ترجمته في تهذيب التهذيب ج 4/177، وميزان الاعتدال ج 2/198، والجرح والتعديل ج 2/ق 1/105.
[149] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ص-، وانظر: ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 4/384_385، وميزان الاعتدال ج 2/291، وتاريح بغداد ج 9/301_303، والجرح والتعديل ج 2/ق 1/398.
[150] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (5-أ-) ، وانظر: تهذيب التهذيب ج 4/401.(26/229)
[151] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/418، وكذا في تهذيب التهذيب ج 4/406.
[152] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ورقة (13- أ-) .
[153] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/430، وفي تهذيب التهذيب ج 4/416 قال عنه (ضعيف) وقال: (شيخ) ، وفي ميزان الاعتدال ج 2/310 اكتفى بقوله (كان قدرياً ليناً) ، وفي تهذيب التهذيب ج 4/416 قال أبو زرعة: الدمشقي عن دحيم أنه قال عن صدقة (مضطرب الحديث ضعيف) وفيه وفي الجرح والتعديل ج 2/ق 1/429، قال الإمام أحمد: (ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر وما كان من حديثه مرسل عن مكحول فهو أسهل وهو ضعيف جداً) .
[154] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-.
[155] في الجرح والتعديل ج 3/ق 1/348 (سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: قال لي محمد بن عبد الله بن نمير عاصم ابن عبيد الله أحب إليك أم ابن عقيل؟ فقلت ابن عقيل يختلف عليه في الأسانيد وعاصم منكر الحديث في الأصل وهو مضطرب الحديث) ، وفي ميزان الاعتدال ج 2/354 قال عنه (منكر الحديث) .
[156] انظر: أجوبة أبى زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (2-أ-) . وانظر ترجمته في الجرح والتعديل ج 2/ق 2/164، وتهذيب التهذيب ج 6/29، وميزان الاعتدال ج 2/503.
[157] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 6/168، وميزان الاعتدال ج 2/560، والجرح والتعديل ج 2/ق 3/232.
[158] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/235 وزاد (سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن الإفريقي؟ فقال: ليس بقوي) .(26/230)
[159] رواه أبو داود في سننه ج 17/431، والترمذي في الجامع أبواب الحدود ج 5/19،21. ورواه ابن ماجه في سننه ج 2/856، والإمام أحمد في مسنده ج 16/102_103، والحاكم في المستدرك ج 4/355 وقال صحيح الإسناد. وأقره الذهبي. كلهم عن طريق عكرمة، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج 6/273 عن أبي هريرة وأشار إليه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق 2/278.
[160] ويحيى بن عبد الله لعله أراد به يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح أبو حجية الذي قال عنه (ليس بقوي) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/164، أو أراد به يحيى بن عبد الله بن الضحاك، الحراني البابلتي الذي امتنع أن يحدث عنه ولم يقرأ حديثه عن ابن أبي حاتم، انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/164، وميزان الاعتدال ج4/390.
[161] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-. وانظر: ترجمته في الجرح والتعديل ج 2/ق 2/322، تهذيب التهذيب ج 7/26_ 27، ميزان الاعتدال ج 3/11.
[162] انظر: تهذيب التهذيب ج 7/87، الجرح والتعديل ج 3/ق 1/94.
[163] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (29-أ-) .
[164] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/336، وكذا في تهذيب التهذيب ج 7/211_212 دون عبارة (قدم حلب روى عنه ابن المبارك) واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/76 بقوله (كان يهم) .
[165] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/103، تهذيب التهذيب ج 7/348 وفيه نقل قول أبي زرعة ابن حجر.
[166] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (8- أ-) .
[167] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (7 -أ-) ، وقد نقل المزي قول أبي زرعة فيه باختصار. انظر: تهذيب التهذيب ج 8/212.
[168] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/383، وتهذيب التهذيب ج 7/225.(26/231)
[169] رواه أبو داود في سننه كتاب الجهاد / باب في كراهية جز نواصي الخيل وأذنا بها ج 13/36، عن عتبة بن عبد السلمي ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان ج 1/171، بلفظ مقارب عن أنس. وانظر مجمع الفوائد للمغربي ج 1/36.
[170] انظر أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (6 -ب-) .
[171] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/154، وانظر: تهذيب التهذيب ج 8/422، وقال ابن حبان في المجروحين ج 2/221 (منكر الحديث جداً) يروي عن أبيه عن جده بنسخة موضوعة، لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (واهي الحدث) .
[172] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (16-أ-) .
[173] انظر: الجرح والتعديل ج4/ق 1/324، تهذيب التهذيب ج 10/36.
[174] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -م-.
[175] انظر: الجرح والتعديل ج4/ق 1/304.
[176] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (19 -ب-) .
[177] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/232- 233، وميزان الاعتدال، وتهذيب التهذيب ج 9/127_ 131، وتاريخ بغداد ج 2/259_264.
[178] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (24 -أ-) .
[179] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/56، وتهذيب التهذيب ج 9/400.
[180] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ن- وانظر: ترجمته في تهذيب التهذيب ج10/485، وميزان الاعتدال ج 4/277، والجرح والتعديل ج 4/ق 1/482_483.
[181] انظر: تهذيب التهذيب ج 11/138، وقد نقل المزي قول أبي زرعة فيه كما أجاب البرذعي به. ونقل الذهبي القولين عنه في ميزان الاعتدال ج 4/341، إلا أنه قال وقال مرة: (حديثه وهاء) وروى هذا الخبر الخطيب في تاريخ بغداد ج 13/440 بسنده إلى البرذعي.
[182] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10-ب-) .(26/232)
[183] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/405، واكتفى في تهذيب التهذيب ج 12/29 بقوله (ضعيف، منكر الحديث) ، واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (ضعيف) .
[184] انظر: تهذيب التهذيب ج 12/103 وزاد في الجرح والتعديل ج 4/ق 2/373 (ولا بشر بن منصور الذي روى عن أبي زيد هذا) ، وانظر: ميزان الاعتدال ج 4/527.
[185] قال البخاري في الضعفاء الصغير في ترجمته (قال الحميدي، عن ابن عيينة قلت ليحيى من أبو ماجد؟ قال: طاري طرأ علينا وهو منكر الحديث) ، وكذا في تهذيب التهذيب ج 12/217 وفيه (طير طرأ علينا.....) وانظر: ميزان الاعتدال ج 4/567.
[186] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/269، وكذا تهذيب التهذيب ج 12/249.
[187] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ي-.
[188] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (- -) .
[189] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ب-، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج 1/417، وميزان الاعتدال ج 1/296، والجرح والتعديل ج 1/ق 1/432.
[190] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/79، وتهذيب التهذيب ج 2/146.
[191] هذا الخبر أورده مسلم في مقدمة صحيحه ج 1/98، وكذا في تهذيب التهذيب ج 2/145، والجرح والتعديل ج 1/ق 2/78، وميزان الاعتدال ج 1/435.
[192] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/561، وتهذيب التهذيب ج 3/408.(26/233)
[193] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/7، كذلك في تهذيب التهذيب ج 4/10، وفي ميزان الاعتدال ج 2/129 قال الذهبي (وذكره أبو زرعة في الضعفاء وقال لا يحتج به) . وكذا قال أبو حاتم. وقال (يحول من كتاب الضعفاء) . وقال أبو مسهر عبد الأعلى ت 218- (لم يكن في بلدنا أحفظ منه، وهو منكر الحديث..) وقال البخاري: (يتكلمون في حفظه) ، وقال ابن (معين ضعيف) ، وقال مرة: (ليس بشيء) وقال النسائي: (ضعيف) ، وقال علي بن المدين: (كان ضعيفا) . وقال محمد بن عبد الله بن نمير: (منكر الحديث ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكراتْ) . وقال ابن عدي. (لا أرى بما يرويه بأسا ولعله يهم في الشيء بعد الشيء، ويغلط والغالب على حديثه الإستقامة والغالب عليه الصدقْ) . ووثقه شعبة ودحيم هذه أغلب أقوال الأئمة فيه، لذا قال عنه ابن حجر في التقريب ج 1/292: (ضعيف) ، وانظر ترجمته وأقوال العلماء فيه في: تهذيب التهذيب ج 4/8_10، وميزان الاعتدال ج 3/127_ 128، وتهذيب تاريخ دمشق ج 6/123_124.
[194] أسماء الضعفاء لأبى زرعة حرف - س-.
[195] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/26، وكذا في تهذيب التهذيب ج 6/94_95، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/530 بقوله (ضعفه أبو زرعة) ونقل ابن الجوزي أسماء الضعفاء عنه أنه قال: (ضعيف الحديث) .
[196] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -ع-.
[197] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي (ورقة -10-) ، وانظر: تهذيب التهذيب ج 6/169.
[198] انظر: تهذيب التهذيب ج 3/414، وميزان الاعتدال ج 3/175، والجرح والتعديل ج 3/ق 1/364، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.(26/234)
[199] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (13 –أ-) . وكذا في ميزان الاعتدال ج 3/240، والترغيب والترهيب ج 4/576، وفي تهذيب التهذيب ج 8/136، نقل عن أبي زرعة أنه قال عنه (صالح الحديث) ولفظة (ضعيف الحديث) من ألفاظ الجرح ومرتبتها (3) ويراد بها أن (لا يطرح حديثه بل يعتبر به) ولفظة (صالح الحديث) من ألفاظ التعديل ومرتبتها (4) ويراد بها أن (يكتب حديثه للاعتبار) وكان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعيف وهو رجل صدوق فقول رجل (صالح الحديث) .
نظر: مقدمة ابن الصلاح ص 112_ 113. أقوال الأئمة فيه: قال البزار: (ليس به بأس) وقال ابن خلفون وقال أبو صالح: (صدوق) ، وقال ابن معين والذهبي: (صالح الحديث) ، وقال أبو داود: (صالح وحديثه قريب) ، وقال أبو حاتم (لا يحتج به يأتي بالمناكير) ، وقال العقيلي: في العقيلي: (في حديثه وهم، خطأ) . انظر: تهذيب التهذيب ج 8/136_137، وميزان الاعتدال ج 3/340_341، والجرح والتعديل ج 3/ق 1/302.
ا [200] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/86، وتهذيب التهذيب ج 5/104 وضبط اسمه بالنون والجيمْ.
[201] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/274.
[202] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (16-ب-) .
[203] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/222، وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/259.
[204] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف -م-. تهذيب التهذيب ج 10/259، وفي الترغيب والترهيب ج 4/578 قال أبو زرعة (لا يحتج به) ونقل ابن الجوزي في أسماء الضعفاء عنه أنه قال: (لا يحتج بحديثه) .
[205] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ن-.(26/235)
[206] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/495، وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/421، وانظر أقوال العلماء فيه في المصدرين السابقين وتاريخ بغداد ج 13/457_462، وميزان الاعتدال ج 4/246_ 248. قال عنه الخليلي الحافظ: (أبو معشر له مكان في العلم والتاريخ، وتاريخه احتج به الأئمة وضعفوه في الحديث وكان ينفرد بأحاديث أمسك الشافعي عن الرواية عنه، وتغير قبل أن يموت بسنتين تغراً شديداً) . انظر: تهذيب التهذيب ج 10/422.
[207] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (28 -ب-) وقد قال الخطيب عنه (ما رأيت لمن تكلم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه) . انظر: تهذيب التهذيب ج 1/64_65، تاريخ بغداد ج 4/272_275.
[208] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/185، وتهذيب التهذيب ج 1/314 وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[209] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 1/272، تهذيب التهذيب ج1/353، وميزان الاعتدال ج 1/264.
[210] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (8-أ-) ، وانظر: ترجمته في ج 1/ق 2/13، وتهذيب التهذيب ج 2/276_277، وميزان الاعتدال ج 1/489، وهدي الساري ص 397. قال الساجي: (إنما ضعف لمذهبه وفي حديثه بعض المناكير، كان قدرياً) .(26/236)
[211] انظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/409، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، وتهذيب التهذيب ج 3/181، وميزان الاعتدال ج 2/5، وفي هدي الساري ص 401 قال ابن حجر في ترجمته (وثقة ابن معين وابن سعد والعجلي وابن إسحاق وأحمد بن صالح المصري والنسائي وقال أبو حاتم ليس بقوي لولا أن مالكاً روى عنه لترك حديثه) ، وقال الجوزجاني (لا يحمدون حديثه) ، وقال الساجي (منكر الحديث متهم برأي الخوارج) وقال ابن حبان (لم يكن داعية) وقال علي بن المديني (ما روى عن عكرمة فمنكر) وكذا قال أبو داود وزاد حديثه عن شيوخه مستقيم، وقال ابن عدي (هو عندي صالح الحديث) ، قلت (ابن حجر) روى له البخاري حديثاً واحداً من رواية مالك عنه عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة في العرايا وله شواهد.
[212] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (37-أ-) . وانظر: الجرح والتعديل ج 1/ق 2/624، كذا في تهذيب التهذيب ج 3/339 دون كلمة (مكي) ، وفي ميزان الاعتدال ج 2/81 اكتفى بقوله (لين واهي الحديث) .
[213] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/367، وتهذيب التهذيب ج 4/335، وميزان الاعتدال ج 2/271.
[214] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 1/460، وتهذيب التهذيب ج 4/447، وميزان الاعتدال ج 2/324.
[215] انظر: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/71، وقال ابن حجر في هدي الساري ص 413 (وثقة أحمد وابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وعلي بن المديني وآخرون) ، وقال أبو حاتم (ضعيف الحديث) ، وقال أبو بكر بن خلاد سألت يحيى القطان عنه فقال (كان صالحاً يعرف وينكر) . قلت (أي ابن حجر) احتج به الجماعة) وذكره ابن حبان في الثقات وقال: (يخطئ) ، وانظر: أقوال الآئمة فيه في تهذيب التهذيب ج 5/239، وميزان الاعتدال ج 2/429.(26/237)
[216] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ع-. وانظر ترجمته في: الجرح والتعديل ج 2/ق 2/109_110، وتهذيب التهذيب ج 5/326_327، وميزان الاعتدال ج 2/465_466.
[217] (ع) الليث بن سعد بن عبد الرحمن، الفهمي، أبو الحارث الإمام المصري (94_175 هـ) شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها، أصبهاني الأصل. انظر: ترجمته في: المعرفة والتاريخ ج 2/441_446، والجرح والتعديل ج 3/ق 2/180، تهذيب التهذيب ج 8/459_465، تذكرة الحفاظ ج 1/224_226.
[218] قال المزي في ترجمة الليث (واحترق بيت ابن لهيعة فوصله بألف دينار) انظر: تهذيب التهذيب ج 8/464، تذكرة الحفاظ ج 1/225.
[219] خ م د ت س يحيى بن حسان، حيان، التنيس، البكري، أبو زكريا البصري (144_208 هـ) ثقة. روى عنه الشافعي، انظر: تهذيب التهذيب ج 11/197، الجرح والتعديل ج 4/ق 2/135.
[220] قال ابن أبي حاتم (سألت أبي وأبا زرعة، عن الإفريقي وابن لهيعة أيهما أحب إليك فقالا جميعاً ضعيفان وابن لهيعة أمره مضطرب يكتب حديثه على الاعتبار (قال ابن أبي حاتم) قلت لأبي إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك فابن لهيعة يحتج به، قال: (لا) . قال أبو زرعة: (كان لا يضبط) وفيه أيضاً (سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه، فقال: (آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك،(26/238)
وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ- هكذا في الكتاب والصواب والله أعلم يأخذون من النسخ- وكان ابن لهيعة لا يضبط وليس ممن يحتج بحديثه من أجل القول فيه) ونقل ابن حجر كلامه هذا في تهذيب التهذيب ج 5/378_379، وذكره ابن الجوزي في أسماء الضعفاء، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/477، وابن رجب في شرح العلل ص 137 باختصار أيضاً، وانظر: ترجمته وأقوال أئمة الجرح والتعديل فيه: كتاب المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان ج 2/184_185، 434_436، الجرح والتعديل ج 2/ق 2/145_148، المجروحين لابن حبان ج 2/18_21، ميزان الاعتدال ج 2/475_483، شرح علل الترمذي لابن رجب ص 137_139، تهذيب التهذيب ج 5/343/393، وانظر: الترغيب والترهيب ج 4/573.
[221] انظر: أسماء الضعفاء لأبي زرعة حرف –ع-. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب ج 7/212_215، الجرح والتعديل ج 3/ق 1/334_335، ميزان الاعتدال ج 3/73_75.
[222] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/59، وتهذيب التهذيب ج 6/378.(26/239)
[223] رواه أبو داود في سننه كتاب الصيام / باب في كراهية ذلك ج 11/133_134، والترمذي في الجامع كتاب الصوم/ باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان لحال رمضان ج 3/437_439 وقال عنه: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ أي "إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا" وقال (ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي شيء من شعبان أخذ في الصوم لحال شهر رمضان) ، وان ماجه في سننه ج 1/528 بلفظ "فلا صوم حتى يجيء رمضان" وأحمد في مسنده ج 10/205، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان ج 1/283 بلفظ "فأسمكوا عن الصوم لرمضان" ورواه أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار ج 2/82 بلفظ "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان" كلهم عن طريق العلاء بن عبد الرحمن. وقد اختلف في صحة هذا الحديث فصححه الترمذي وابن حبان، وابن عساكر، وابن حزم، وابن عبد البر، وضعفه الإمام أحمد فيما حكاه البيهقي عن ابن داود، قال قال أحمد، (هذا حديث منكر) ، قال وكان عبد الرحمن (يعني ابن مهدي) لا يحدث به. وقال المنذري: (ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن فإن فيه مقالا لأئمة هذا الشأن..) ، انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري ومعالم السنن للخطابي وتهذيب ابن القيم ج 3/223_225 ط القاهرة، أنصار السنة المحمدية 1368 هـ 1949 م، والمقاصد الحسنة ص 35، وكشف الخفاء ج 1/84، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي ج 1/33 حيث عده من غرائب الحديث التي يرويها الثقات العدول.
[224] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (7-ب-) وقد نقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق 1/358 عن أبي زرعة أنه قال فيه (ليس هو بأقوى ما يكون) وفي تهذيب التهذيب ج 8/187 (ليس هو بالقوي ما يكون) وفيه قال الخليلي الحافظ: (مدني مختلف فيه لأنه ينفرد بأحاديث لا يتابع عليها لحديثه "إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا") .(26/240)
[225] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/187، وتهذيب التهذيب ج 7/323، والترغيب والترهيب ج 4/575، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، ولقد الحق كلام ابن حبان دون أن ينسبه له ومن يقرأه يحسبه كلام أبي زرعة. انظر: قول ابن حبان في تهذيب التهذيب ج 7/324.
[226] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/393.
[227] انظر أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (5 -ب-) وانظر: ترجمته في: الجرح والتعديل ج 3/ق 1/104، تهذيب التهذيب ج 7/437، ميزان الاعتدال ج 3/192، وضعفه بعض أئمة الجرح والتعديل.
[228] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/73، وانظر: قوله هذا في تهذيب التهذيب ج 8/292، واكتفى في ميزان الاعتدال ج 3/361 بقوله (لين) ، وكذا في المغني ج 2/515، وذكر قوله ابن حجر في هدي الساري ص 435 كما في التهذيب. ونقل ابن الجوزي عنه في أسماء الضعفاء قوله (لين الحديث) .
[229] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (5-ب-) وقال ابن عدي: (لفليح أحاديث صالحة يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب وقد اعتمد، البخاري في صحيحه، وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به) .. وانظر: ترجمة وأقوال العلماء فيه في: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/84_85، وتهذيب التهذيب ج 8/303_305، وميزان الاعتدال ج 3/365، وهدي الساري ص 435، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[230] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10-ب-) .
[231] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/132، وتهذيب التهذيب ج 8/373.
[232] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/153، وتهذيب التهذيب ج 8/419، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، وميزان الاعتدال ج 3/406، وفي هدي الساري ص 436 قال ابن حجر (قال النسائي، ليس بالقوي، ووثقه ابن سعد وقال الساجي صدوق فيه بعض(26/241)
الضعف وقال أبو زرعة لين. قلت (ابن حجر) احتج به الجماعة سوى النسائي وجميع ما له عندهم ثلاثة أحاديث: أحدهما عن عطاء بن جابر في السلام على المصلى رواه الشيخان من حديث عبد الوارث عنه وتابعه الليث عن أبي الزبير عن جابر عند مسلم وثانيهما حديثه بهاذ الإسناد في الأمر بتخمير الآنية وكف الصبيان عند المساء أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث حماد بن زيد عنه وتابعه ابن جريح. وثالثها انفرد ابن ماجه بإخراجه والراوي عنه ضعيف.
[233] انظر: الجرح والتعديل ج 3/ق 2/179، وتهذيب التهذيب ج 8/467، واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (لا يشتغل به هو مضطرب الحديث) .
[234] انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (10-ب-) . وانظر: ترجمته والجرح والتعديل ج 4/ق 1/95، تهذيب التهذيب ج 9/406_407، وميزان الاعتدال ج 4/10، هدي الساري ص 441_442.
[235] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق 1/76، وتهذيب التهذيب ج 9/442، واكتفى الذهبي في تذكرة الحفاظ ج 1/127، وميزان الاعتدال ج 4/38 بقوله (لا يحتج به) . قال ابن حجر في هدي الساري ص 442 (أحد التابعين مشهور وثقه الجمهور وضعفه بعضهم لكثرة التدليس وغيره، ولم يرو له البخاري سوى حديث واحد في البيوع قرنه بعطاء عن جابر وعلق له عدة أحاديث واحتج به مسلم والباقون) وانظر: أقوال الأئمة فيه في المصادر السابقة وقال ابن الجوزي في أسماء الضعفاء (قيل لأبي زرعة يحتج حديثه؟ فقال: إنما يحتج بحديث الثقات) .
[236] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/287_288، وتهذيب التهذيب ج 10/168 دون عبارة (كأنه لين أمره) .(26/242)
[237] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 1/381، وتهذيب التهذيب ج 10/202، وميزان الاعتدال ج 4/134، وقال ابن حجر في هدي الساري ص 444 (وثقة أحمد والنسائي، وقال أبو حاتم لا بأس به، وقال أبو زرعة: (شيخ واه) . قلت: (ابن حجر) ما له في البخاري سوى حديث واحد في الجهاد عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة حديث جهادكن الحج، وقد تابعه عليه عنده حبيب بن أبي عمرة، وروى له النسائي وابن ماجة) .
[238] انظر: الجرح والتعديل ج 4/ق 2/265، وتهذيب التهذيب ج 11/330.(26/243)
مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله
للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
عميد شئون المكتبات بالجامعة
ظاهرة الحياة:
يقول تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ الله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} الأنعام آية 95.
من الدلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته أفعاله تعالى التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، ومن تلك الأفعال الإحياء والإماتة، فإن الخلق عاجزون عنها، ذلك أن الله وحده هو القادر على ذلك دون سواه، يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة..} الملك آية 1،2.
ولم يدّع أحد من البشر أنه يستطيع ذلك، ولا عبرة بدعوى أبله بليد لا يعرف معنى الإحياء والإماتة، أو معاند مكابر يسلك سبل المغالطة لقومه، فيفسر لهم معنى الإحياء والإماتةّ بقتل أحد الرجلين وإطلاق سراح الآَخر، كما يذكر المفسرون ذلك عن نمرود إبراهيم عليه السلام الذي حاجه في ربه.
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة آية258.(26/244)
فحين ادعى ذلك المكابر تلك الدعوى التي يعلم إبراهيم عليه السلام كذبه فيها، عدل به إلى أَمر مشاهد للناس جميعاً، فطلب منه أن يتصرف فيه بغير المألوف والمعهود للناس، إن كانت لديه القدرة الكاملة كما يدعي، ذلك الأمر هو أن يأتي بالشمس من المغرب، إذ أن رب إبراهيم يأتي بها من المشرق، فبهت الكافر، ولم يحر جوابا، والله غالب على أمره، ومظهر دينه وناصر رسله، وقد عنى القرآن الكريم عناية خاصة بظاهرة الحياة فجعلها من الأدلة التي تنبه المخاطب الغافل عن التفكر في سر هذا الأمر العجيب الذي جعل سبباً في وجوده، ذلك أن الإنسان كان معدوماً ثم أَصبح إنساناً حياً يسير على هذه الأرض متمتعا بما أوجده له خالقه من نعم كثيرة على ظهرها، يشاهد نوع الحياة التي تدب فيه من أين جاءت وكيف سببها.
يقول الفخر الرازي: (ودليل الإحياء والإماتة دليل متين قوي، ذكره الله سبحانه في مواضع من كتابه كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} ، وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .(26/245)
ويقول سيد قطب في تفسير الآَية: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت.. الخ} : إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد، فضلا على أن يملك صنعها أحد، ... وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأدوارها.. تقف أَمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول، تدرك الوظيفة والمظهر. وتجهل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها ... لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أَنها من خلق الله ... ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا.. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله.. ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا.. ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص، وأقوال بعض (علمائهم) الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله، تصور حقيقة موقف (علمهم) نفسه من هذه القضية، ونحن نسوقها لمن لايزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يثبت ((الغيب)) وهم ((علميون)) [1] لا ((غيبيون)) .
والمؤمنون الصادقون في إيمانهم، الذين يؤمنون بالله يكفيهم في ذلك ما قاله خالقهم عن خلق هذه الحياة، وما شاهدوه في الواقع أمامهم، من تكرر خلق الحياة كل لحظة، لأن عقولهم الفطرية لم تلوث بشكوك المرتابين وأباطيلهم.
وأما أولئك الذين أصابتهم لوثة الشك، فلا يؤمنون إلا (بالعلم) فمن المناسب أن ينقل لهم بعض أقوال هؤلاء العلماء الذين عجزوا عن تفسير الحياة إلا أن تكون من صنع خالق قادر هو (الله) سبحانه وتعالى.(26/246)
وفي ذلك يقول: (ايرفنج وليام نوبلوس) أخصائي الحياة البرية في الولايات المتحدة، وأَستاذ العلوم الطبيعية في جامعة ميشجان، تحت عنوان -المادة وحدها لا تكفي- (إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها، والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن نقول إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع) [2] .
ويقول مؤلف كتاب (مصير البشرية) (ليكونت ديونوي) : ( ... نكرر القول هنا بأنه لا توجد حقيقة واحدة في يومنا هذا تقدم تفسيرا قاطعاً لمولد الحياة وتطور الطبيعة، ولقد درسنا مسألة أصل الحياة، وسواء أردنا أَم لم نرد، فإننا مضطرون إلى أَن نقبل فكرة تدخل قوة سامية يدعوها العلماء أيضا (الله) (عكس الصدفة) أو أن نعترف ببساطة بأننا لا نعلم شيئاً عن هذه الأمور سوى بعض الآَيات، وهذه ليست مسألة اعتقاد فحسب، ولكنها حقيقة علمية لا نزاع فيها، ولسنا من أولئك الماديين العريقين الذين يتمسكون بآرائهم واعتقاداتهم رغم كونها سلبية بدون أي برهان) [3] .
وقد أورد الشيخ نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان) بعض آيات من كتاب الله، تحدثت عن خلق الحياة وتكونها من - الطين اللازب والماء- ثم أورد بعض ما قاله العلماء حول تكون الحياة، ونحن بدورنا نقتطف بعضاً من ذلك:
-الآيات- قوله تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقوله تعالى: {وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ..}(26/247)
وقوله تعالى- {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم عن تكون خلق الحياة وأنه بقدرة الله تكون من الماء والطين [4] .
والعلماء قالوا كما جاء في القرآن بتكون الحياة من الماء والطين. ثم وقفوا على عتبة باب الخفاء من سرها حائرينْ، وقد عرفوا الشيء الكثير من فروعها وأصولها، وعناصرها وطبائعها.. وعلموا أن جميع الأحياء تتألف من خلايا وأن الخلية تتكون من النطفة الأولى (بروتوبلاسما) وعلموا أن هذه النطفة الأولى مكونة من الكربون والأكسجين، والهيدروجين والنتروجين ... وجربوا أن يخلقوا الحياة في شيء فعجزوا.... ثم اعترفوا كما ذكر القرآن باستحالة خلق ذبابة. ْ
يقول (توماس اكيوناس) -: (ما من عالم عرف حتى اليوم حقيقة ذبابة..) .
ويقول (روجر باكون) -: (إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن طبيعة ذبابة واحدة) ويقول: (بخنز) -: (إن الكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمنع معه صدورها من الجماد مباشرة بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعدا عن العقل من ظهور الأحياء العلياء من الجماد مباشرة) .
وفي القرآن يقول الله للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ..} الحج آية 73.(26/248)
إن العقول السليمة تتلاقى على الحق، وكلما ازدادت علما كان تلاقيها على الحق أيسر وأقرب. ومن أجل هذا رأينا العلماء بعد ذلك الإنتكاس المادي الذي اعترى بعضهم في أواخر القرن التاسع عشر يرجعون إلى التلاقي على الحق ويكادون يجمعون اليوم إجماعا بلسان أكابرهم على أن هذه القوانين والنواميس، التي نشأت على أساسها الحياة وتطورت تنطوي على وحدة القصد، والإرادة والعناية والحكمة يستحيل معها العقل السليم المفكر أن يؤمن بأن هذه الحياة خلقت وتطورت بالمصادفة العمياء.
فهذا اللورد كلفن العالم الإنجليزي يعلن هذا الإيمان على الناس، ويسخر من القائلين بالمصادفة في خلق هذه الحياة ويعجب من إغضاء بعض العلماء عما في آثار الحكمة والنظام من حجة دامغة وبرهان قاطع على وجود الله ووحدانيته، حيث يقول: "يتعذر على الإنسان أن يتصور بداية الحياة واستمرارها دون أن تكَون هنالك قوة خالقة مسيطرة وإني أعتقد من صميم نفسي أن بعض العلماء في أبحاثهم الفلسفية عن الحيوان، قد أغضوا إغضاء عظيما مفرطا عما في نظام هذا الكون من حجة دامغة. فإن لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام مدبر وخير، وهي براهين تدلنا بواسطة الطبيعة على ما فيها من أثر إرادة حرة، وتعلمنا أن جميع الأشياء (الحية) تعتمد على خالق واحد أحدي أبدي".
ويقول- انشتين- "إن جوهر الشعور الديني. في صميمه. هو أن نعلم بأن ذلك الذي لاسبيل لمعرفة كنه ذاته موجود حقا، ويتجلى بأسمى آيات الحكمة، وأبهى أنوار الجمال ... وإنني لا أستطيع أن أتصور عالما حقا لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل، فالعلم بلا إيمان يمشي مشية الأعرج، والإيمان بلا علم يتلمس تلمس الأعمى"أ.5 هـ[5] .
المبحث الثاني: ((دليل العناية)) :(26/249)
المتأمل في هذا العالم المترابط الأجزاء يجد فيه الدلالة الواضحة على قدرة خالقه، وكمال علمه وحكمته وحسن لطفه وعنايته بالعالم كله إذ الرعاية شاملة لكل أفراده، والعلم محيط بَكل جزئياته.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام آية 59.
{ ... وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ..} فاطر آية 11.
فالناظر بعين البصيرة في هذا العالم كله: علويه، وسفليه. كبيره، وصغيره، يجد فيه العناية التامة به أولا، وبمن خلق الله له هذه الموجودات وسخرها له ثانيا، فالسماوات وأفلاكها والأرض ومحتوياتها، خلقت بالحق، وبه حفظت، كما قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ} الأحقاف آية 3.
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} الأنبياء آية 16.
فإذا تأمل الإنسان بفكره وعقله في بعض جزئيات هذا العالم المسخر لمصالحه والتي عليها استقرار حياته، كفاه ذلك دليلاً واضحا. وحجة بينة على أن هذا العالم مخلوق لخالق، حكيم قدير عليم قد قدر هذا العالم، فأحسن تقديره. ونظمه فأتقن تنظيمه.
فمن تلك الجزئيات، الشمس، وما تضمنته من مصالح عليها قوام حياة الناس وأحوالهم، وحياة المخلوقات جميعا، من حيوان ونبات، فإن الناظر فيها يلمس كمال العناية. واللطف من الله تعالى والرحمة بهذا الإنسان.(26/250)
تعاقب الليل والنهار: وأول ما ينتج عن طلوع الشمس وغروبها، تعاقب الليل والنهار، واللذان هما من أعجب آيات الله، وبدائع مصنوعاته، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} سورة فصلت آية 37.
فلولا تسخير العليم القدير لها لتعطل أمر العالم، إذ كيف يتصرف الناس، ويسعون لكسب معاشهم، وطلب أرزاقهم، إذا لم يكن هناك ضياء يبصرون به، ثم كيف يكون لهم قرار وهدوء تستريح به أبدانهم. ويستعيدون فيه قواهم، إذا لم يكن هناك ليل يسكنون فيه. فنعمة الليل والنهار الناتجين عن طلوع الشمس وغروبها من أعظم آيات اللطيف الخبير، الذي جعل تلك الشمس المشرقة للناس بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت، زمناً لقضاء حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك الزمن، ليهدءوا ويستريحوا تماما كما هدي الإنسان لإيقاد مصباحه عند الحاجة إليه، وإطفائه بعد قضائها. وقد نبه الله عباده إلى تلك العناية والرحمة به، في جعله الليل والنهار متعاقبين، ليتمكنوا من طب المعاش والسعي في تحصيل الرزق في النهار المبصر، والهدوء والراحة في لباس الليل الهادئ. وبين أن ذلك التصريف الحكيم حاصل بأمره وتقديره، ومشيئته وإرادته. يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .(26/251)
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} القصص آية 71_73.
أي لعلكم تشكرون نعمة الله وإحسانه إليكم، ولطفه وعنايته بكم، في جعله الليل والنهار متعاقبين، على الدوام والاستمرار؛ وقد خص آية الليل بحاسة السمع لقوة سلطانها في هدوء الليل، إذ تسكن فيه الحركات، كما خص آية النهار بالبصر لشدة إدراكه المبصرات فيه، هذه المخلوقات التي هي السماوات وأفلاكها، والأرض ومحتوياتها جميعها مسخرة بأمر خالقها محفوظة بعنايته المستمرة في كل لحظة فهو الخالق لكل شيء، الآمر له بما أراد، القائم بحفظه، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} الأعراف آية 54 وقال تعالى: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة آية 255.
فهو قيوم السماوات والأرضين، فلا قيام لهما ولا استقرار إلا به سبحانه وتعالى – كما قال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فاطر آية 41.
الإنسان:
ومع أن رعاية الله وعنايته، سبحانه وتعالى، شاملة للعالم كله، والإنسان جزء من هذا العالم. إلا أنه قد خصه الله بمزيد من تلك العناية والرعاية، فقد هيأ له كل احتياجاته الروحية منها، والجسمية:
فمن الناحية الروحية:(26/252)
تعهده بإرسال رسله، وإنزال كتبه، المشتملة على الهدى والنور، ففيها طمأنينة قلبه، وإشباع روحه، وهدوء نفسه. حيث تضعه في الخط المستقيم الواضح، الذي يصله بربه وخالقه، كما بينت له السبل المتفرقة المضلة التي تؤدي به إلى ما يمزق كيانه، ويشتت أمره، بحيث تجعله كالعبد المملوك لشركاء يتشاكسون فيه، يجره أحدهم ذات اليمين، والآخر ذات الشمال، أو كالحيران الذي استهوته الشياطين، فأضلته عن سبيل الهدى حتى لا يدري إلى أين يسير، يقول تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام آية 71.
وذلك كله من كمال رحمته بعباده فإن رحمته جل شأنه تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، واسمه الرحمن متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب. أعظم من تضمنه، إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب.
فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح، أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح [6] .
أما من الناحية الجسمية:(26/253)
فقد خلق له ما في الأرض جميعاً، وسخر له ما في السماوات والأرض، وكان من عنايته أن أوجده في المكان الموافق لحياته [7] ، فالأرض التي وجد عليها، وهي المكان الذي اختاره الله ليكون مقرا لهذا الإنسان، قد زودها بكل مستلزمات الحياة، من ماء وهواء، وتربة صالحة للزرع والبناء وغير ذلك. فهي المهاد، والفراش، والمسكن الذي أعده الله بكل احتياجات البشر الضرورية، منها وغير الضرورية، ففيها الغذاء والدواء، والمشرب، والملبس، والمركب، يقول تعالى في معرض الامتنان على عباده بما أسداه إليهم من النعم التي لا تحصى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم الآية 33_34.
الحر والبرد:(26/254)
اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية، تعاقب الحر والبرد، لما في ذلك من مصالح للبلاد والعباد، وقد ربط السميع العليم ذلك بتصريف الشمس وتقدير مطالعها في منازلها المختلفة منزلة بعد أخرى، وبسبب ذلك التنقل الذي قدره الله تحدث تلك الفصول المتعاقبة فيظهر البرد، وبظهوره تختفي الحرارة، وتبرد الظواهر، فيكون ذلك سبباً لاستكشاف الهواء، فيحصل السحاب والمطر الذي به حياة الأرض ومن عليها، ويعقب نزول المطر إخراج النبات من الأرض رزقا للعباد، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} سورة ق آية 9_11.
فمن عنايته بعباده ورحمته بهم إخراج تلك الأقوات والثمار، والحبوب، والفواكه متعاقبة متلاحقة شيئاً بعد شيء، ولم يخلقها سبحانه وتعالى جملة واحدة، فإنها لو خلقت كذلك، على وجه الأرض لفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها.
ومن كمال عنايته ورحمته دخول فصل الحر الذي به يحصل نضج تلك الثمار واستواؤها ولولا تقديره سبحانه وتعالى لذلك وتيسيره لبقيت فجة غير صالحة لأكل ولا ادخار؛ كل ذلك حاصل بتقدير من الحكيم العليم الذي عاقب بها تلك الفصول، التي يقتضي كل فصل منها من الفواكه، والنبات مالا يقتضيه الفصل الآخر، فهذا حار، وهذا بارد، وهذا معتدل، وكل نوع في فصل موافق للمصلحة التي خلق من أجلها؛ كما أن من رحمته أن جعل في دخول أحدهما -الحر والبرد- على الآخر بتدرج، إذ جعل سبحانه بين الحر الشديد، والبرد القارس، برزخا ينتقل فيه الحيوان، على ترتيب وتمهل، لطفا به، ورحمة لضعفه لأنه لو انتقل دفعة واحدة، من الحر الشديد، إلى البرد القارس، لعظم ضرره، وأشتد أذاه؛(26/255)
وفي ذلك حكمة بالغة، وآية باهرة، ولولا العناية الإلهية، والحكمة الربانية، والرحمة والإحسان لما كان ذلك؛ وهل يمكن أن يقال: إن هذا التقدير والتدبير حادث بالاتفاق والمصادفة؟ أو أنه صادر من فاعل مختار قدر ذلك وأراده؟ فلو قال قائل إن السبب في ذلك التدرج والمهلة، إنما كان لإبطاء سير الشمس في ارتفاعها إلى مستوى خط الاستواء مثلا ثم انخفاضها عنه.
قيل له فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع؟ ولو قال إن السبب في ذلك هو بعد المسافة بين مشارقها ومغاربها. لتوجه السؤال أيضا عن السبب في بعد المسافة؟.
ولا تزال الأسئلة متوجهة. كلما عين سبباً حتى تفضي به إلى أحد أمرين:
- إما مكابرة ظاهرة ودعوى أن ذلك حاصل بالاتفاق من غير مدبر ولا صانع.
- وإما الاعتراف برب العالمين، والإقرار بقيوم السماوات والأرضين، وأنه الفاعل المختار المقدر لذلك: إذ ليس بين الأمرين واسطة، إلا هوس الشياطين وخيالات المبطلين، التي إذا طلع الفجر عليها فجر الهدى كانت في أول المنهزمين والله متم نوره ولو كره الكافرون [8] .
معرفة الحساب:
ولما كانت حاجة الناس إلى معرفة الحساب من الأمور الضرورية التي لا غناء لهم عن معرفتها، فبالحساب يعرفون مواقيت الديون المؤجلة، والإِجارات، وعقود المعاملات على اختلاف أنواعها، كما أن به تعرف العدد، وتحدد مواعيد المعاهدات، والعبادات، وغير ذلك لأن معرفة هذه الأمور ضرورية لحياة الناس ومعاملاتهم، وهي قائمة على معرفة الحساب. الذي ربطه السميع العليم بهذين القمرين النيرين:
الشمس والقمر، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} البقرة آية 189.(26/256)
فخلق الله تعالى للقمر من عجائب آياته الدالة على عنايته بعباده، إذ يًُبديه الله تعالى كالخيط دقيقاً، ثم يتزايد نوره شيئاً فشيئاً كل ليلة إلى أن يصير بدراً، ثم يأخذ الاستدارة في النقصان حتى يعود [9] كالعرجون القديم، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} يس آية 39.
فيتميز بذلك عدد الأشهر والسنين، ويقوم حساب العالم، فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر في منازله تعرف الشهور والأعوام، لأنه لو كان الزمن نسقاً واحداً متساوياً سرمداً، لما عرف شيء من ذلك، وقد نبه الله عباده إلى ذلك حيث يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يونس آية هـ.
ويقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} الإسراء آية 12.
المبحث الثالث- دليل النظام:
النظام، والإتقان والتقدير في هذا العالم، شامل لجميع مخلوقات الله كلها، ذلك أن الكون منظم ومنسق، وانتظامه مرتبط بإرادة الله وقدرته، كما أن استمراره على هذه الحال منوط باختيار الله تعالى ومشيئته.
قال تعالى: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} النمل آية 88.
وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان آية 2.
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر آية 49.(26/257)
فلا عبث إذن ولا فوضى، وإنما هو نظام وإتقان وتقدير وتدبير، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ص آية 27.
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون آية 115
تعالى الله عن ظن الكافرين علواً كبيرا.
وقد بين الله في القرآن الكريم دقة هذا النظام الكوني، الذي جعله خالقه أية من آياته الدالة على وجوده، وقدرته، وعلى علمه وحكمته، وإتقان مصنوعاته، فقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس الآية 37-40.
ودليل النظام يعتمد على دليل الخلق، غير أنه يزيد عليه التوضيح والبيان لما في ذلك الخلق من إبداع، واختراع، وتنظيم، وإتقان، وما تدل عليه، هذه المخلوقات من قصد في إيجادها وحكمة في تسييرها وتدبيرها.(26/258)
ودليل النظام من الأدلة التي يدركها العقل الإنساني ويرضاها بيسر وسهولة لأنه لا يحتاج في إدراك مدلوله إلى كد ذهن وإعمال فكر، وغوص في لجج الاستدلالات المنطقية الجافة، لأنه خطاب موجه ممن يعلم طبائع النفوس البشرية، فاقتضت حكمته الإلهية، أن يخاطب الناس كافة، بالدليل الأيسر، والأسهل والأوضح، والذي يزداد على مر الأيام وضوحاً، وكلما تقدمت وسائل العلم، وانكشفت أسرار النواميس الدالة على النظام [10] والإتقان، مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} فصلت آية 53.
فلو نظر الإنسان في عالم الأفلاك والكواكب، لرأى عجائب الخلق متجلية، ودلائل النظام والإتقان واضحة، فهي تسير على نظام ثابت لا يختل، كل كوكب منها يسير في مدار لا يتعداه، وانتظام دورته في زمن معين لا يتجاوزه، واختصاص كل كوكب بوظيفة خاصة يؤديها حسب ما قدر له، كل ذلك بحساب دقيق مقدر لا يزيد ولا ينقص فحركتها دائبة من غير فتور ولا خلل وذلك بتقدير من العزيز العليم.
إن ذلك كله ينبئ عن دقة في الصنع، وإحكام في النظام، وتحديد للهدف المقصود. وقد أشارت الآية الكريمة إلى تلك الدقة المتناهية، حيث تقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، فسير الشمس والقمر بحساب دقيق جعل أحدهما لا ينبغي له أن يدرك الآخر، ولا يسبقه، لأنهما لم يوجدا بالاتفاق والمصادفة، وإنما وجدا بالقصد والإرادة والاختيار، وكان سيرهما وحركتهما بتقد ير العليم الحكيم.
يقول سيد قطب في تفسير الآية- {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ِْ ... } الخ(26/259)
.. ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي، والظلمة تغشى.... مشهد مكرر يراه الناس في كل طبقة من خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار، كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب، وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعوا إلى الأمل والتفكر، والشمس تجري لمستقر لها) ..
وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة، تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، تدرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود، عن قوة وعن علم ... ذلك تقدير العزيز العليم ... إلى أن يقول ... وأخيرا يقرر القرآن دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
ولكل نجم أو كوكب فلك أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه، أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة، وقد قدر خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب ووضع (تصميم) - تنظيم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع،- حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل يسبق النهار ولا يزحمه في طريقه لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر في الجريان- {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ) [11] .(26/260)
ودورة الشمس والقمر والكواكب، ليست مضبوطة بالساعة، أو الدقيقة، وإنما هي مضبوطة بسرعة الضوء أو الشعاع، الذي قدرت سرعته بقطع، (168) ألف ميل في الثانية تقريباً [12] يؤيد ذلك ما نقله ابن القيم وأقره، من اتفاق أرباب الهيئة وعلمائها، من أن الشمس بقدر الأرض مائة [13] ونيفاً وستين مرة، والكواكب التي نراها كثير منها أصغرها بقدر الأرض قال: وبهذا يعرف ارتفاعا، وبعدها، وأنت ترى الكوكب كأنه لا يسير، وهو من أول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكة قد طَلعَ بقدر مسافة الأرض مائة مرة مثلا، وهكذا يسير على الدوام، والعبد غافل عنه وعن آياته [14] .
المبحث الرابع- ((مسلك المتكلمين، والفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى)) :
بعد أن عرضنا مسلك القرآن الكريم في إثبات وجود الله تعالى، وهو الأصل في هذا البحث، ذلك أن معرفة الله تعالى، المعرفة الحقة وإثبات وحدانيته هما المطلب الأول، رأينا أن نذكر فكرة موجزة عن المسالك الأخرى في إثبات وجود الله تعالى، حتى يطلع القارئ على الفرق بين المسلكين، وسأتبع في ذلك مسلك الإيجاز، وسيكون كلامي هنا مختصراً لا إطناب فيه، إذ المقصود هو التمايز بين منهج القرآن الكريم وغيره من المناهج، لقول القائل: فبضدها تتميز الأشياء، فيدرك الفرق بينهما، ويتضح مسلك القرآن اتضاحاً كاملا، ويمتاز امتيازاً تاماً، ولأنه قد قيل أيضاً:
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ألم تر أن السيف ينقص قدره(26/261)
أولا- مسلك المتكلمين: يذهب جمهور المتكلمين [15] إلى إثبات وجود الله تعالى، عن طريق حدوث العالم، ذلك أن الحدوث عندهم هو العلة المحوجة إلى المؤثر، فإذا ثبت أن العالم حادث فلا بد له من محدث، يبرزه من حيز العدم إلى حيز الوجود، وهذه قضية بدهية عندهم، فمن رأى بيتاً مبنياً منسقاً علم أنْ له بانياً ضرورة، إلا أن بعض مشايخ المعتزلة يرون أن هذه القضية استدلالية، وليست بدهية [16] والواقع خلاف ما قالوا.
ولا شك أن القرآن الكريم، قد أشار في مسلك إثبات وجود الله تعالى إلى مسلك حدوث العالم أيضاً بالإِضافة إلى المسالك الأخرى التي أرشد إليها، ولكن الفرق بين المسلكين، مسلك المتكلمين، ومسلك القرآن هو في الطريق إلى معرفة كيفية إثبات هذا الحدوث. فبينما نجد القرآن الكريم يسلك بالمخاطبين سبيل الحس والمشاهدة، لإِدراك حدوث العالم، عن طريق حدوث أعيان الأشياء وتغييرها، كحدوث السحاب المسخر بين السماء والأرض، وكإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بالنبات، {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وكخلق السماء والأرض، والإبل، والإنسان نفسه، كما في هذه الآيات. التي يقول الله تعالى فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة آية 164.(26/262)
فقد جعل الله تعالى هذه الأعيان الحادثة، التي يدركها الإنسان إدراكاً مباشرا آيات ودلائل على وجود خالق ومحدث لها، حيث يقول جل شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} كما أنها أشارت إلى حدوث الأعراض أيضا، فالرياح أعيان، وتصريفها وحركتها أعراض [17] لها، وكلاهما يدرك بالحس.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} الغاشية آية 17.
وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِق، َ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} الطارق آية 5_6.
وقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الطور آية 35.
فهذه المذكورات في هذه الآيات أَعيان حدثت بعد أن لم تكن، فدل وجودها بعد عدمها على أن لها موجداً، إذ لو كانت واجبة الوجود بنفسها لامتنع عليها العدم، هكذا يثبت القرآن الكريم حدوث العالم، ويبين تغيره المستمر، الذي لا يختص بمعرفته شخص دون آخر، إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب الناس بما يشاهدونه ويلمسونه في حياتهم اليومية، بل وفي أنفسهم.
ولهذا يقول أبو الحسن الأشعري: "إن الإنسان إذا فكر في خلقه من أي شيء ابتدأ، وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور، حتى وصل إلى كمال الخلقة، وعرف يقيناً أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، وينقله من درجة إلى درجة، ويرقيه من نقص إلى كمال، علم بالضرورة، أن له صانعاَ قادراً عالماً مريداً، إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع، لظهور آثار الاختيار في الفطرة، وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة، فله تعالى صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها" [18] .
ويؤكد ابن تيمية أن أَحسن استدلال وأوضحه على وجود الله تعالى، هو الاستدلال بخلق الإنسان نفسه، كما كرره القرآن، إذ هو الدليل وهو المستدل {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} الذاريات آية 21. ثم بما يحدثه الله في هذا العالم من آثار [19] .(26/263)
بينما نجد القرآن الكريم يسلك هذا المسلك، إذا بالمتكلمين يسلكون لإِثبات حدوث العالم طريقاً صعب المنال حتى على المتخصصين، فضَلاً عن الجمهور، وذلك لاصطلاحاتهم التي بنوا عليها حدوث العالم، فهم يقولون مثلاً: العالم جواهر وأعراض، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما، إما بحدوثه أَو بإمكانه، والأعراض بعضها حادث بالمشاهدة، كالضوء بعد الظلمة والوجود بعد العدم والحركة بعد السكون، وبعضها بالدليل، وهذه الأعراض تقوم بالجواهر، فدل حدوثها على حدوث الجواهر.
فهذه المقدمات يصعب فهمها على الإِنسان.
فما الجوهر؟ وما العرض؟ مثلا. لقد اختلف المفكرون في تحديد كل منهما اختلافا بيناً.
فهل يمكن أن يدْرَك كل واحد منهما بالحس إدراكاً مباشراً، كما يدرك الإنسان حدوث أعيان السحاب والماء؟ وأعراض تصريف الرياح؟؟.
أو أنه يحتاج إلى الاستدلال على وجود الجواهر، وعلى تعلق الأعراض بها، إذ أنها لا تنفك عنها في نظرهم، ثم يقيم الدليل على حدوث الأعراض، ثم على حدوث الجواهر، لقيام الأعراض بها، ويثبت كل ذلك أولاً، فإذا ثبت له ذلك استدل على أن لها محدثاً ثانياً.
الواقع أنهم يذكرون هذه المقدمات، ليستدلوا بها على إثبات حدوث الجواهر، والجَوْهر المقصود به الذاتْ المتحيزة، مبني على نظرية الجواهر الفردة، وهو التي تقول: إن العالم مكون من ذرات، أَي من أجزاء لا تتجزأ، ثم من اجتماع تلك الذرات تتكون الأجسام، فالذي يحدث في الأجسام هو تجمعها [20] ، والتجمع عرض.
أما حدوث الجواهر فيعلم بالاستدلال بحدوث تلك الأعراض، لا بمشاهدة حدوث الأعيان ذاتها، وذلك لأن الجواهر التي تكونت منها هذه الأجسام قبلت الاجتماع والافتراق، وما كانت صفته كذلك فهو حادث، على قولهم ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.(26/264)
ولكن هذه النتيجة غير مسلمة، بل يعترض عليها من يثبت الله تعالى صفات الأفعال الاختيارية الواردة في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فهي قضية مطعون فيها.
فكأن المستدل على وجود الله تعالى بحدوث العالم عن هذا الطريق يحتاج إلى ما يأتي:
أولاً: إلى إثبات الجواهر الفردة.
ثانياَ: إلى إثبات حدوثها.
ثالثاً: ثم الاستدلال بعد ذلك على أن لها محدثا.
وهكذا نرى أن طريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى، شاقة، وصعبة المنال حتى على المتخصصين فضلا عن الجمهور، مع الاعتراضات الموجهة إليها، والواردة عليها، ثم بطلان نظرية الجوهر الفرد علميا الآن، فالجوهر الفرد عندهم هو الجزء الذي لا يتجزأ، وقد أثبت العلم الحديث تجزأه، فدل ذلك على فساد النظرية، ثم إن هذه النظرية مأخوذة عن الماديين الطبيعيين، من فلاسفة اليونان ذلك أَن الواضع لنظرية (الجوهر الفرد) هو (ديمقريطي [21] 470 ق. م) الفيلسوف الذي قرر أن هذا العالم يتركب من جزئيات غاية في الصغر، وأنها لا نهاية لها، وهي (الجواهر الفردة) ، ورأَى أن هذه الجواهر تتجمع، وتتفرق من تلقاء نفسها، وبواسطة حركة ذاتية فيها، فيتكون من اجتماعها الأجسام ومن تفرقها عدم الأجسام، وهذه الحركة لم تستمدها الجواهر من أية قوة أَخرى أو أصل آخر، وإنما من طبيعتها) [22] . وهذه نظرية من لا يؤمن بخالق لهذا الكون ومن فيه.
وقد أثبت العلم بطلان هذه النظرية، كما أثبت الشرع أن كل حركة لابد لها من محرك.
ثانياً- مسلك الفلاسفة:
أما الفلاسفة الإلهيون فلم يسلكوا في الاستدلال على وجود الله تعالى مسلك المتكلمين، وهو الاستدلال بالحادث على المحدث، أو بالصنعة على الصانع، وإنما سلكوا مسلكاً آخر، هو ما يسمى في عرف العلماء بدليل الإمكان، كي يثبتوا به الواجب.(26/265)
فقد قالوا: إن الموجود لا يخلو من أن يكون واجبا أو ممكناً، والواجب ما كان وجوده من ذاته، والممكن ما كان وجوده من غيره، أي أنّ الممكن مالا يكون وجوده أولى من عدمه بحسب ذاته، وحينئذ فلا بد له من مؤثر يرجح جانب الوجود على جانب العدم، هذا المؤثر إما أن يكون واجب الوجود بذاته، أَو ممكن الوجود، فإن كان واجب الوجود بذاته ثبت وجود الواجب وهو المطلوب.
وإن كان ممكن الوجود احتاج إلى علة ترجح وجوده على عدمه، وتسلسل الممكنات إلى غير نهاية ممتنع، إذ لابد من الانتهاء إلى علة غير محتاجة إلى علة أخرى توجدها، هذه العلة عندهم هي (واجب الوجود) أي الله تعالى.
وفي ذلك يقول ابن سينا في كتابه: النجاة:
"لا شك أن هنا وجوداً، وكل وجود فإما واجب أَو ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب.
وإن كان ممكناً فإنا نوضح أَن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود ... ثم ينهى ابن سينا سلسلة الممكنات إلى علة واجبة الوجود، إذ ليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية" [23] .
ويقول في كتابه: الإشارات والتنبيهات، مشير إلى هذا المعنى:
"كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه، أو لا يكون، فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب الوجود من ذاته، وهو القيوم.
وإن لم يجب لم يجز أن يقال إنه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجوداً، أي في قولنا كل موجود بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعاً، أو مثل وجود علته صار واجباً وإن لم يقرن بها شرط، لا حصول علة ولا عدمها بقي له في ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان: فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع.
فكل موجود إما واجب الوجود بذاته.
أو ممكن الوجود بحسب ذاته" [24] .(26/266)
وعلى ذلك فالممكن في نظر الفلاسفة ليس وجوده من ذاته بل من غيره، فإن من الممكن في حد ذاته ليس وجوده بأولى من عدمه، فإذا وجد فلا بد أن يكون ذلك بمؤثر خارج عن ذاته، وفي ذلك يقول ابن سينا:
"ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده أولى من عدمه، من حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته" [25] .
ولكن قد يقال: هذا الواجب بذاته الذي أَثبته ابنا سينا، والفارابي [26] من قبله، هل هو الله الخالق للعالم بقدرته ومشيئته واختياره، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} القصص آية 68.
وكما قال تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الزمر آية 62.
الواقع أن فلاسفة الإسلام لم يثبتوا للعالم خالقا ومدبراً أوجد العالم بمشيئته واختياره، وإنما أثبتوا واجب وجود بذاته، هو- (الله) وجعلوه علة تامة، صدر عنها معلولها من غير اختيار ولا مشيئة، كصدور شعاع الشمس عنها.
أما خلق العالم وتدبيره، فقد أحالوه على العقول والأفلاك التي انفصلت عنه تعالى، عند تعقله لذاته، بدون اختياره ومشيئته، وبواسطة تلك العقول كان الخلق والتدبير، والإيجاد والإعدام.
أما الله -واجب الوجود-عندهم-، فلا صلة له بالعالم، لا من ناحية الخلق، فالخلق والتأثير إنما هو للعقول والأفلاك الناشئة عنه بطريق العلية، ولا من ناحية العلم فهو لا يعلم الجزئيات الكائنة في العالم، بل يعلم النظام العام للكون، ذلك لأن الجزئيات ناقصة، والله كامل، وعلم الكامل بالناقص ينقصه في نظرهم.
وبعد: فهذه نبذة عن بعض أراء الفلاسفة في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وبعض صفاته.(26/267)
والمتأمل فيها، مع ما سبق عرضه من كتاب الله تعالى في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، يدرك أن –الإله- الذي أَثبته الفلاسفة، هو غير -الإله- الذي جاء وصفه في كتاب الله تعالى-القرآن الكريم- من أنه الخالق، القادر، المدبر، الحافظ لهذا العالم بمشيئته واختياره، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، والقائل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة آية 186.
وهو الذي علم عباده المؤمنين به أن يدعوه في السراء والضراء.
أما إله الفلاسفْة، فلا يعلم عن العالم شيئاًَ، لأنه لم يخلقه باختياره، ولذلك فهو لا يفكر فيه وإنما تفكيره في ذاته فلا يعقل سواها.
لأن واجب الوجود بذاته عندهم، عقل، وعاقل، ومعقول [27] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سيد قطب (في ظلال القرآن جـ 3/ص 311 و312 الطبعة الثانية سنة 1961 م دار إحياء التراث العربي بيروت -لبنان-.
[2] من كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص 52، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، الطبعة الثالثة سنة 1968 م الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع القاهرة.
[3] ليكونت ديونوي: مصير البشرية ص 130 ترجمة الأستاذ أحمد عزت طه، وعصام أحمد طه، مطابع فتى العرب شارع الفردوس-دمشق التاريخ بدون.(26/268)
[4] الحياة في لغة المتكلمين عرض، والماء والطين جوهر، والعرض لا يقوم بنفسه والله القادر خلق آدم من طين. ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، وكذلك جعل نسله من ماء مهين، ثم يأخذ ذلك الماء أطوره التي تحدث عنها القرآن، وبينت السنة وقت وكيفية نفخ الروح في ذلك الجنين فندب فيه الحياة، وكلام الشيخ نديم الجسر عن الحياة هو كلام عن الخلق، والخلق أعم من الحياة، ولكنهما متلازمان إذ الحياة لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم في ذلك المخلوق المكون من الماء والطين، وهذا الذكر يريده الشيخ لكلامه، والله أعلم.
[5] الشيخ نديم الجسر (قصة الإيمان ص 423_425) بتصرف الطبعة الثالثة سنة 1389 هـ 1969 م منشورات المكتب الإسلامي، بيروت.
[6] ابن القيم، مدارج السالكين جـ 1 ص 8 تحقيق محمد حامد فقي، الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان، مطبعة السنة المحمدية سنة 1375 هـ 1956 هـ.
[7] ابن رشد الكف عن مناهج الأدلة ص 109_110 الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ - 1368 م.
[8] ابن القيم مفتاح درا السعادة ج 1-1980-215 بتصرف.
[9] ابن القيم، مفتاح دار السعادة ج 1 ص 198 وابن كثير، التفسير ج 2 ص 407.
[10] الشيخ نديم الجسر، قصة الإيمان ص 281 بتصرف.
[11] سيد قطب، في ضلال القرآن ج 7 ص 25-26.
[12] الشيخ نديم الجسر، قصة الإيمان ص 304 ومحمد قطب منج التربية الإسلامية ص 94.
[13] قلت هذا التقدير حسب وسائلهم التي توصلوا بها إلى هذا التقدير وإلا فالعلماء اليوم يقدرون الحجم أكبر بكثير من ذلك، كما ذكر السيد قطب في النص الذي نقلناه عنه.
[14] ابن القيم مفتاح دار السعادة جـ 1 ص 198.
[15] وإنما قلت جمهور المتكلمين، لأن منهم من يستدل على وجود الله بإمكان العالم كالفلاسفة.
[16] الايجي، شرح المواقف ج 8 ص 3.
[17] ابن تيمية، النبوات ص 50.(26/269)
[18] الشهرستاني، الملل والنحل جـ 1 ص94 طبعة دار الاتحاد العربي للطباعة سنة 1387 هـ - 1968 م الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع – القاهرة.
[19] ابن تيمية جـ 16 ص 262 الطبعة الأولى سنة 1382 هـ مطابع الرياض.
[20] ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ص 79، 80.
[21] فيلسوف يوناني، وجد في القرن الخامس الميلادي، الدكتور محمد السيد نعيم والدكتور عوض الله جاد حجازي، في الفلسفة الإسلامية وصلاتها بالفلسفة اليونانية ص 31 الطبعة الثانية سنة 1379 هـ- 1959 م.
[22] أ. س رابويرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين ص 252، الناشر، دار الكتاب العربي بيروت سنة 1969 م.
[23] ابن سينا، النجاة ص 235 الطبعة الثانية سنة 1357 هـ - 1938 م.
[24] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 447 حـ 3، القسمان الثالث والرابع تحقيق د. سليمان دنيا، مطبعة دار المعارف بمصر سنة 1957 م.
[25] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 448 جـ 3.
[26] الدكتور محمد السيد نعيم، والدكتور عوض الله حجازي في الفلسفة الإسلامية، وصلاتها بالفلسفة اليونانية ص 220، الطبعة الثانية سنة 1389 هـ - 1959 م دار الطباعة المحمدية بالأزهر بالقاهرة.
[27] ابن سينا – النجاة ص 243.(26/270)
مفهوم الأسماء والصفات
سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
أحمد الله تبارك وتعالى، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأسأل الله ربي أن يديم علينا نعمة عقيدة التوحيد، وأن يثبت قلوبنا عليها، وأن يختم لنا بها ختام الإيمان.
وإتماما للحلقات السمع الماضية، أواصل -بحول الله وقوته- بحثي في محاولة لبيان ما يوفقني الله تعالى إلى فهمه من معاني أسمائه الحسنى.
* وقد كان البحث في الحلقات السابقة في اسم (الحميد) سبحانه، وأنه قد اقترن باسم (الغني) سبحانه عشر مرات، ذكرتُ منها بعضا، أضيفُ إليه قولهُ تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم:8) . والمعنى أنه سبحانه غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإنْ كفره من كفره، كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} الآية، وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وفى صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلاِ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أَولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أَفجر قلب رجل واحدٍ منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أَن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر" فسبحانه وتعالى الغني الحميد [1] .
وقد جاء في جامع البيان أن معنى الآية أَن الله غني عن خلقه وشكرهم، وهو سبحانه مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده الحامدون [2] .(26/271)
وذكر الإمام الشوكاني أن معنى الآية أَن الله تعالى غني عن شكركم، لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص، وهو سبحانه مستوجبٌ للحمد لذاته، لكثرة إنعامه وإن لم تشكروه أو يحمده غيركم من الملائكة [3] .
وجاء في تيسير الكريم الرحمن أن المعنى أن الطاعات لا تزيد في ملكه والمعاصي لا تنقص، وهو كامل الغنى، حميد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ليست له من الصفات إلا كل صفة حمد وكمال، ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن، ولا من الأفعال إلا كل فعل جميل [4] .
وجاء في صفوة التفاسير أن معنى الآية أنه سبحانه غني عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته، وهو المحمود وإن كفره من كفره [5] .
أقول:
واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الغني) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو الغني غنىً مطلقا، وجميع خزائن أنواع الخير لديه، بَيْدَ أنه لا يُنزل منها على عباده إلا بمقادير معينة بحكمة تامة، كما يقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجرات آية 21) ، ومن ثم فهو سبحانه لا يحتاج إلى واحد من خلقه مهما علا قدره وامتد سلطانه، إذ الحاجة مظهر من مظاهر الضعف، والضعيف المحتاج إلى غيره لا يصلح أَن يكون إلهاً، ولما كان الله عز وجل من صفاته الغنى المطلق عن كل ما خلق، فإنه الجدير حقاً بأن يكون رباً وإلهاً لجميع ما خلق، وأنَّ كل خلقه محتاجون إليه أعظم احتياج، ومدينون له بكافة أنواع الحمد، لأنه مصدر كافة أنواع النعم، وفي هذا يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر آية 15) .(26/272)
وقد اقترن اسم (الحميد) سبحانه باسمه (العزيز) ثلاث مرات [6] وذلك في قوله تعالى: {الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم آية 1) .
وتقتضي الفائدة- ولو أن موضعها في هذا المقام استطرد أرجو أن يكون نافعاً إن شاء الله- أن أوجز ما قيل في الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم بمناسبة ذكر آية مفتتح سورة إبراهيم (عليه السلام) ، وذلك على الوجه التالي:
تبلغ الحروف في أوائل السور- بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي (أ-ل-م-ص-ر-ك-هـ- ع- ي- ط- س-ح-ق- ن) يجمعها قولك (نَص حَكِيمٌ قَاطِعٌ له سر) وهي نصف حروف الهجاء عدداً- وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة قال عنها الزمخشري إنها على أصناف أجناس الحروف يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة. ومن حروف القلقلة، ثم قال: وقد جاء منها على حرف واحد مثل (ص-ن-ق) ، وعلى حرفين مثل (حم) ، وعلى ثلاثة أحرف مثل (الم) ، وعلى أربعة مثل (المر- المص) ، وعلى خمسة أحرف مثل (كهعيص- حم عسق) لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف، وعلى حرفين، وعلى ثلاثة. وعلى أربعة، وعلى خمسة لا أكثر.
وقد اتجه المفسرون في الحروف المقطعة اتجاهين: الاتجاه الأول: أنها مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها.(26/273)
والاتجاه الثاني: فسروها واختلفوا في معناها، فقيل: إنها أسماء للسور، وذلك لما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم السجدة، وهل أتى على الإنسان". وقيل: إنها اسم من أسماء الله تعالى- فقد روى ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال (سألت السدي عن حم وطس وألم فقال: قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم) .
وأما عن الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور فقد ذكرت أقوال لعل أصحها أنها وردت بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا القول الرازي عن المبرد وجمع من المحققينْ، والقرطبي عن الفراء وقطرب، وحكاه الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكاه عنه الحافظ أبو الحجاج المزي.(26/274)
وقد ذهب إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة آية 1. 2) ، {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْه} (آل عمران آية 1. 2. 3) ، {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف آية 1. 2) ، {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} (إبراهيم آية 1) ، {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة آية 1، 2) ، {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى آية 1، 2، 3) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم [7] . هذا ما يتعلق بالحروف المقطعة.
أما آية مفتتح سورة إبراهيم فمعناها- بعد الحروف المقطعة- أن هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، لتخرج به الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد، بإذن ربهم لأنه هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره، يهديهم إلى صراط العزيز الذي لا يمانَع ولا يغالَب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وأمره، ونهيه، الصادق في خبره [8] .(26/275)
وقال الإمام الشوكاني إن معنى الآية المذكورة أننا أنزلنا الكتاب إليك يا محمد، لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية، جعل الكفر بمنزلة الظلمات، والإيمان بمنزلة النور، واللام في: لتخرج للغرض والغاية، والتعريف في الناس للجنس. والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يخرج الناس بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور، وذلك بإذن ربهم إلى صراط العزيز القادر الغالب، الحميد الكامل في استحقاق الحمد [9] .
ومعنى الآية في جامع البيان: أنه كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس بدعوتك إياهم إلى ما فيه من أنواع الضلال إلى الهدى بأمر الله وتوفيقه إلى صراط العزيز الغالب، الحميد المستحق للحمد [10] .
ومعنى الآية في تفسير الكريم الرحمن: أنه تعالى نزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة، وأنوع المعاصي إلى نور العلم والإيمان، والأخلاق الحسنة، ولا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الإستعانة بربهم. ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: إلى صراط العزيز الحميد، أي الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به.
وفى ذكر العزيز الحميد بعد ذكر الصراط المتصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعزة الله، قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة، وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده عزيز السلطان، حميد في أقواله، وأفعاله، وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم [11] .(26/276)
ومعنى الآية في صفوة التفاسير: أن هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة، فأتوا بمثله إن استطعتم، وقد أنزلناه عليك يا محمد لم تنشئه أنت، وإنما أوحيناه إليك، لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإيمان، بأمر الله وتوفيقه، إلى طريق الله العزيز الذي لا يغالب، المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان [12] .
أقول:
واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو العزيز بعظمته وجلاله وقدرته وقهره وغلبته وسلطانه على كل ما خلق، وأن العزة صفة من صفات كماله، فمن أرادها فليهرع إلى مالكها لينقذه من ذلته، ويعزه سبحانه بعزته، كما أمرنا تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر آية 10) ، ومع ذلك فلو نال العبد العزة من خالقه سبحانه، فإن عزته محدودةٌ بحدود تناسب بشريته وما جبلها الله عليه من طاقات وقُدرْات، لكن عزة الله ذي الجلال مطْلقَةٌ لاَ نِهَايَةَ لها تًناسب عظمته وجلاله. ورغم أنه جل وعلا العزيز القوي، الغالب، القاهر، فهو كذلك المحبوب، (الحميد) سبحانه، بمعنى المحمود المستحق أن يحمد بجميع أنوع المحامد، حتى ولو لم يحمده بعض العُمي المتخبطين ممن جحدوا نعمه وفضله وكماله وجلاله، إذ هو الجدير بكافة ألوان الحمد، والأهل لها، على وجه الثبات والاستمرار، ذلك بأن صفات كماله سبحانه – ومنها صفة العزة وصفة الحمد- ملازمة له لا تنفك عنه لحظةً ما، فمن أراد كذلك أن يحَمد على قوله، وعلى فعله، فليلتزمْ نهجَ (الحميد) سبحانه، ولنا في رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ أنه حين التزم نهج الله (الحميد) كان مما وعده تعالى به يوم القيامة أن يبعثه مقاماً يحمد فيه وذلك في قوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الإسراء آية 79) .(26/277)
وعاب الله على أولئك الذين ساءت أفعالهم، ورغم ذلك يحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال، ثم توعدهم سبحانه بالعذاب الأليم، فقال جل وعلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران آية 188) .
والذي ألفه الناس فيما يتعاملون به بينهم، أن الشخص إذا كان قوياً متسلطاً على غيره، غالباً قاهراً لمن دونه، أن يكون مثل هذا الشخص مكروها غير محبوب ولا ممدوح، لكن الله عز وجل-ولله المثل الأعلى- رغم سلطانه وقوته، وقهره وغلبته، وهيمنته وعزته، فإنه تعالى هو المحبوب غاية الحب لكمال نعمه على خلقه، وهو الحميد المحمود غاية الحمد لكمال صفاته التي تغاير تماماً صفات خلقه، وإن اشتركت أحياناً ألفاظ هذه الصفات، ذلك بأنه سبحانه لا يمَاثِلُهُ واحدٌ من خلقه، ولا يماثِلُ واحداً من خلقه، فهو تعالى كما وصف نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) . أي ليس له تعالى مثيل ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وقال القرطبي: والذي يعتَقَدُ في هذا الباب أن الله -جلّ أسمه- لا يشبه شيئاً من مخلوقاته. ولا يشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات الخالق -عزَّ وجلَّ- بخلاف صفات المخلوقات، وإذْ صفاتهم لا تنفكُّ عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزهُ عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيد إثبات ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَلةٍ من الصفات، إذ ليس كذاته -سبحانه- ذات، ولا كأسمائه أسماء، ولا كأفعاله أفعال -وهذا هو مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة [13] .(26/278)
والموضع الثاني الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) هو قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ آية 6) . ومعنى هذه الآية أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين، وأن هذا الحق هو وحده الذي يهدي إلى صراط العزيز المنيع الجناب، الذي لا يًغَالبَ ولا يًمَانَع، بل قهر كل شيء وغلبه، وهو الحميد في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا [14] .
ومعنى الآية في جامع البيان أن الذين أوتوا العلم كمؤمني أهل الكتاب أو كالصحابة ومن تبعهم يرون -عند مجيء الساعة- أن القرآن هو الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً وهو يهدي إلى صراط العزيز الحميد وهو دين الإسلام.
وذكر الشوكاني معنى قوله تعالى: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، أنه يهدي إلى طريق العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه، والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد [15] .
ومعنى الآية في صفوة التفاسير أن القرآن يرشد من تمسك به إلى طريق الله العزيز أي الغالب الذي لا يقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله [16] .
والموضع الثالث الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . ومعنى هذه الآية أنه ما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله (العزيز) الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع. (الحميد) في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به، فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس [17] .(26/279)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير جـ 2 ص 525.
[2] جامع البيان في تفسير القرآن للإبجي جـ 1 ص 357.
[3] فتح القدير جـ 3 ص 96.
[4] تيسير الكريم الرحمن جـ 4 ص 62.
[5] صفوة التفاسير المجلد 2 ص 91.
[6] المعجم المفهرس.
[7] تفسير الحافظ ابن كثير الجزء الأول ص 36-39.
[8] تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 523 بقليل تصرف.
[9] فتح القدير الجزء 3 ص 93 بقليل تصرف.
[10] جامع البيان في تفسير القرآن ص 356.
[11] تيسير الكريم الرحمن الجزء 4 ص 60.
[12] صفوة التفاسير المجلد 2 ص 90.
[13] تفسير القرطبي الجزء 16 ص 8 بقليل تصرف.
[14] تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 526 بقليل تصرف.
[15] فتح القدير الجزء 4 ص 313.
[16] صفوة التفاسير المجلد 2 ص 546
[17] تفسير ابن كثير الجزء 4 ص 493.(26/280)
العدد 57
فهرس المحتويات
1-كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز في زيارته للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
2- كلمة التحرير زيارة كريمة: بقلم الشيخ سعد ندا
3- افتتاحية العدد: لفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد
4- الهجرة في سبيل الله: للشيخ أبي بكر الجزائري
5- تحية المسجد: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
6- مسلك القرآن الكريم في إثبات الوحدانية: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
7- مفهوم الأسماء والصفات: بقلم الشيخ سعد ندا
8- رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار: الدكتور أحمد طه ريان
9- يريد الله بكم اليسر: للشيخ حسن عبد الوهاب مرزوق
10- مجموعة نصائح: للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
11- حقوق الإنسان في الإسلام (6) : الشيخ: عبد الفتاح العشماوي
12- صفحات مشرقة من حياة عمر بن عبد العزيز: للشيخ إبراهيم الجمل
13- الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (2) : للدكتور محمد نغش
14- تفاعل المسلمين مع دينهم: للدكتور محفوظ إبراهيم فرج
15- الدين بين الشرق والغرب: للشيخ عادل رمضان
16- معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة والرد على ما يثار حولها من شبهات:
للدكتور جمعة علي الخولي
17- المستشرقون… والسيرة النبوية: للدكتور عوض عبد الهادي العطا
18- نماذج من الدعاة الصالحين: الشيخ أبو بكر الجزائري
19- من نحاة الأندلس ابن هشام الخضراوي: للدكتور أحمد محمد عبد الله
20- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
21- بحث في صيغة "أفعل" (بين النحويين والغويين واستعمالاتها في العربية) : الدكتور مصطفى أحمد النماس
22- منهج في دراسة المنهج: للدكتور أحمد بسام ساعي
23- الاتجاه الإسلامي في شعر أحمد محرم: للدكتور صلاح الدين محمد عبد التواب
24- اللسانية العربي بين الأصالة والتعريب: للدكتور محمد منذر عياشي
25- تسابيح: للشيخ عبد المحسن حليث مسلم
26- مع المجاهِدِين الأفغَان: للدكتور محمود أحمد عبد المحسن
27- رمضان..والجرح.. والأمل: شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي
28- رحم الله المحلقين: للشيخ يوسف الهمزاني الشافعي
29- حوار حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته
30- في المشارق والمغارب: الشيخ عبد الله أحمد القادري
31- حقيقة القات في ضوء العلم والدين: للشيخ محمد المجذوب
32- ملاحظات حول كتاب عقيدة السلف والخلف: للشيخ عبد القادر السندي
33- هل كتابة التعاويذ من الآيات القرآنية وغيرها وتعليقها في الرقية، شرك أم لا؟ : لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
34- الإيمان: لفضيلة الشيخ سعد ندا
35- ديانة النصرانية: للشيخ محمد رجب حميدو
36- أخبار الجامعة وقائع اللقاء التاريخي…: إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
37- ترجمة موجزة لفقيد كلية القرآن الكريم بالجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(26/281)
كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز
في زيارته للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
لقد سمع الإخوان البارحة عن المشاريع التي ذكرت من 1401 هـ إلى 1403 هـ، وأودُّ أن أقول: إنه من الصعوبة بمكان أن يستوعب الإنسان دائماً كمية المشاريع أو نوعيتها التي تم إنجازها في المدينة من 1401 هـ إلى السنة الحالية الآن 1403 هـ.
هناك الكثير من المشاريع التي قاربت على النهاية، وبقية هذه المشروعات سيتم إنجازها خلال العام الثالث، فقد بلغ ما رصد لإنجاز هذه المشروعات في السنوات من 1401 هـ إلى 1403 هـ بلغ 14 ألف مليون ريال، و 200 مليون ريال خلال هذه الفترة.
ومثلما ذكرت: إن أكثر سكان المدينة بطبيعة الحال مثلي أنا ومثل أي شخص آخر، لا يمكن له أن يستوعب كل ما ينشر في الجريدة بين شهر وآخر وإنما إذا رأينا الآن ما نفذ في الثلاث سنوات الأخيرة سنجد أنه بلغ 14 ألف مليون ريال كلها في خلال سنتين لأن السنة الثالثة بدأت الآن، ما هي بالبساطة بمكان، ولا يعتبر هذا إهمالاً للمدينة، أو أن هناك تغافلا.
مع هذا كله قرر مجلس الوزراء أن تكون هناك هيئة، ويشرفني أن أكون مشرفاً عليها لتطوير المدينة، وعلى رأس ما ينفذ في هذا المجال:
التوسعة للمسجد النبوي، وكذلك الأمور الأخرى التي ستجعل المدينة تأخذ وضعها المتكامل لأنها في الواقع لها حق كبير على الدولة. وعلى المواطنين. وعلى أي إنسان.
أحب أن أطمئن سكان هذا البلد العظيم ألا يفكروا أبداً أن المدينة مغفلة أو مهملة، نأمل أن نرى- إن شاء الله- في القريب العاجل إضافة مشاريع أخرى خلاف هذه المشاريع، والمسألة كلها مسأَلة وقت حتى يمكن لو أردنا أن نرصد مبالغ طائلة، قد يجوز أن التنفيذ فيه صعوبة أو قد يجوز نأتي إلى السؤال الأول وهو:(26/282)
كيف تصرف الأموال وأين صرفت؟ ولماذا وجدت الأموال؟ ولماذا لا تصرف..؟ هذا ما هو موجود أمامي الآن من 1401 هـ/ إلى 1403 هـ- ونأَمل أن نلمس في السنة الحالية كذلك ما يجد من جديد، وفي السنوات الأخرى- سوف نعمل جاهدين ما نستطيع عمله لجعل المدينة تأخذ الوضع اللائق بها.
وشكراً لمعالي الدكتور نائب رئيس الجامعة الإسلامية- وما قدِّم من أسئلة من الإخوان، وقرأتها الآن، وستكون الزيارات ليس فقط هذه الزيارة، ولكن ستكون زيارات متتالية، والاجتماع بالإخوان وبالأساتذة في هذه الجامعة التي نعتبرها في الحقيقة جامعة قيادية.
وأعود مرة أخرى، وأكرر: يسرنا أَن نعمل لها فروعاً، ولكن بعض الصعوبات التي أشير إليها أنني لا أَريد أن يكون فيه إحراج بالنسبة لأي دولة إسلامية أَو قادتها أو حتى لو أَردنا أَن نفتح لها فروعاً- وأي دولة لا تريد، ما في إمكاننا نعمل أكثر من الطلب والرغبة، والتأكيد على أن أي فرع يعمل في أي بلد إسلامي لن تكون له أَهداف سياسية أو خلق مشاكل لمجتمع هذا البلد الذي يمكن أن يفتح فيه فرع إسلامي.
بقى شيء واحد وهو أن أوجه كلمة قصيرة لطلبة الجامعة الإسلامية، وهي أن يواصلوا هذا المجهود الخبر. سواء في ذلك إخواننا الذين قدموا من جميع البلدان الإسلامية، أَو من السعوديين الموجودين فيها، وأَن يتبصروا في العقيدة الإسلامية التبصر الصحيح، والعقيدة الإسلامية والحمد للهّ أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش إلا من أَراد أن يوهم بأشياء أخرى، والدين الإسلامي وسط، فلا رهبنة في الإسلام، وقد يعتقد البعض أن التصوف أو بعض النواحي الأخيرة البعيدة عن منطق الإسلام هي الإسلام.
إنه على العكس. فالإسلام فيه المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، ولم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى.(26/283)
وهذا البلد والحمد لله بلد إسلامي، وكل ما أرجوه أن تكونوا رسلا للبلاد الإسلامية بعد أن شرفت المملكة العربية السعودية ورحبت بكم أن تعودوا إلى أوطانكم دعاة للإسلام في الإطار الصحيح، وكلنا نعرف ما أدخل على العقيدة الإسلامية لكن السبب في ذلك من المسلمين أنفسهم، فالعقيدة الإسلامية في القمة إلى أن تقوم الساعة.
لذلك أَرجو أن ندرك معنى العقيدة الإسلامية، وأن لا نقع فيما وقع فيه الغير بواسطة من يريد أن يبعدنا عن مسار العقيدة الإسلامية الصحيح.
فشكراً لفضيلة الدكتور وشكراً لطلبتنا في الجامعة الإسلامية، وشكراً للإخوة الذين حضروا هذا الاجتماع، وأرجو إذا حصل أي لبس في التفسير أو في الإجابة أن نستكملها في مرة أخرى قادمة، وأن أجيب على جميع الأسئلة، وسوف نسير في الخط المستقيم إن شاء الله، ونجعله دائماً الهدف الرئيسي لنا ونتمسك بعقيدتنا الإسلامية، فقد وعدنا الله سبحانه وتعالى بالحق: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم} ونحن لا ندعي أبداً بأي حال من الأحوال أننا نحن المسلمون فقط، ففي جميع أنحاء العالم دول إسلامية قيادة وشعباً، وفي كثير من الدول غير الإسلامية عشرات مئات الملايين من المسلمين وكل يوم وكل شهر وكل سنة نجد أن العقيدة الإسلامية تسير بخطى حثيثة وقوية. وفي بلدان لها أهميتها الكبرى، مثل أوربا وأَمريكا واليابان. وحتى الصين الشعبية أَو الاتحاد السوفيتي، نحن نسمع الآن أَنهم قد بدأوا في تفكير آخر وهو احترام العقيدة الإسلامية واحترام المسلمين، ونأمل أن يتحقق ذلك بصرف النظر عن عقيدتهم، ونأمل أن يعطى المسلم الحرية المتكاملة في أن يمارس عقيدته الإسلامية في إطارها الصحيح. وأرجو أن تكونوا الرسل للعقيدة الإسلامية في بلدانكم عندما تعودون إليها بمفهوم العقيدة الإسلامية الصحيحة.(26/284)
وشكرا مرة أخرى. وأرجو أن نلتقي دائما في هذا الإطار المحبب للنفس. وأكرر مرة أخرى الشكر لمعالي الدكتور، وأرجو أن يوفقنا رب العزة والجلالة لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.(26/285)
مجموعة نصائح
للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
رئيس محاكم منطقة عسير
1- صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:
الحمد لله الذي فرض الحج على المستطيعين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد:
فلما دخل الناس في دين الله أفواجاً حج صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة متجرداً في ثوبين إزار ورداء، وطيبته عائشة طيباً فيه مسك، وذلك في خمس بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم في مصلاه، ثم أهل وركب راحلته، وكان معه خلائق لا يحصون عن يمينه وعن شماله وبين يديه مد البصر قيل إنهم مائة وستة عشر ألفاً، وساق معه مئة بدنة وأصبح يوم الأحد بسَرف، وصلى المغرب والعشاء ثم صلى الصبح بعرق الضبية ثم نزل الروحى فصلى العصر والمغرب والعشاء، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج، ويوم الأربعاء بالأبواء، ويوم الجمعة بالجحفة، ويوم السبت بقديد، ومر بامرأة ومعها ابن لها صغير فأخذت بعضده وقالت ألهذا أحج؟ فقال نعم ولك أجر. وكان يوم الأحد بعسفان، ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما فيما بين كرى وكدي ثم أصبح واغتسل.
ودخل مكة يوم الإثنين الرابع من ذي الحجة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه وكبر وقال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريماً ومهابة وبراً" ولما دخل المسجد بدأ بالطواف وكان راكبا على راحلته ولما أتى إلى الركن استلمه وهو مضطبعٌ بردائه، ثم رمل ثلاثة أشواط وكان يأمر من استلم الركن أن يكبر ويقول لا إله إلا الله، الله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك فلما قضى الطواف صلى ركعتين خلف المقام قرأ في الأولى (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) .(26/286)
ثم عاد واستلم الحجر وقال لعمر "استلم الركن فأنت قوي" ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وصعد الصفا وكبر وسعى على راحلته وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ولما انصبت قدماه في الوادي رمل وقال: أيها الناس اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي وقال في سعيه: رب اغفر وارحم فلما قضى سعيه أمر من لم يسق هديه أن يفسخ حجه إلى عمرة ويتحلل ثم يهل بالحج. وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ودخل الكعبة وصلى فيها ركعتين وقام بها حتى يوم الخميس وكان يوم التروية فخطب بعد الظهر بمكة ووعظ الناس وقال: من استطاع أن يصلي بمنى فليفعل فصلى في مكة بحجته أربعة أيام يقصر الصلاة ويقول أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر وركب حين زالت الشمس يوم التروية بعد أن طاف بالبيت فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى.
ولما طلعت الشمس ركب إلى عرفة حتى أتى باطن وادي عرنة وخطب حين زالت الشمس على ناقته فلما فرغ من الخطبة أذن بلال وأقام العصر والظهر بأذان واحد وإقامتين ثم رفع يديه يشير إلى الناس ارفعوا عن بطن عرنة ثم قالت في خطبته: يا أيها الناس إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. خطب خطبته المشهورة التي وعظ بها الناس الموعظة البليغة وفتح الله أسماع الناس في عرفة ووقف بعرفة خلف الصخرات، وقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة كل مزدلفة موقف إلا بطن محسر، وقال: إن خير الدعاء دعاء يوم عرفة، خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ووقف على راحلته حتى غربت الشمس. ونزل عليه وهو واقف بعرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .(26/287)
ثم انصرف بعد ما تحقق غروب الشمس عن يسار طريق المأزمين وصلى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، ولما طلع الفجر صلى الصبح، ثم ركب راحلته ووقف بمزدلفة حتى قرب طلوع الشمس. وأردف الفضل بن عباس من مزدلفة إلى منى ثم سار حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر على ناقته ولا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، ثم نحر هديه وقال نحرت هنا ومنى وفجاج مكة كلها منحر. ونحر بيده ثلاثاً وستين بدنة ثم حلق، ثم أفاض إلى مكة، فطاف وأتى زمزم فأمر بدلو فشرب وصب على رأسه وقال: لولا أن تغلبوا لنزعت معكم. وكان يرمي الجمار أيام التشريق بعد ما تزول الشمس ماشياً على قدميه وخطب في حجته ثلاث خطب، الأولى يوم التروية بعد الظهر بمكة، والثانية بعرفة يوم زالت الشمس. والثالثة يوم النحر بمنى. بعد الظهر على راحلته.
فلما انتهت أيام منى قال: نحن نازلون غداً إن شاء الله في ضيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني المحصب لقصد إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر فنزل في المحصب وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة خفيفة، ثم نهض وطاف بالبيت طواف الوداع ليلاً، ثم خرج من أسفل مكة إلى المدينة. ولأن الحج أعظم مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها وهو ركن من أركان الإسلام أحببت أن أبين لإخواني صفة حجه صلى الله عليه وسلم بصفة مختصرة موجزة. وأرجو الله أَن تكون خالصة لوجهه الكريم وأن ينفع بها من قرأها أو سمعها وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2- في فضل الزكاة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد.(26/288)
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان". فهذه هي أركان الإسلام وهي محك التمحيص لصحة الإسلام ومن يتأمل القرآن العظيم يجده مملوءاً بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. لأن الصلاة عمود الإسلام كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء زكاة تؤخذ منهم وتعطى الفقراء وأداء الزكاة هو عنوان على شكل الغنى بالمال الذي إذا دفعه للفقراء يلهجون بالثناء عليه.
وقد سميت الزكاة لأنها تزكي أي تطهر المال وتنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه إذا كان صاحبه يؤدي زكاته وتزكي إيمان مخرجها من مسمى البخل.
وقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده. بل تزيده. بل تزيده. ويقول الرب العظيم {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أما الذي لا يخرج الزكاة فقد استحوذ عليه الشيطان وأما من أخرج الزكاة فإن الله يخلف عليه بأضعاف مضاعفة قال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} أيها الإخوة المسلمون حصنوا أموالكم بإخراج زكاتها فإنه ليس من مال لا تخرج زكاته إلا يعذب به صاحبه يوم القيامة وفي إخراج الزكاة طهرة للمال وتنمية له. فمن أعطاه الله مالاً فيجب عليه إخراج زكاته والصدقة منه وصلة رحمه والنفقة في وجوه الخير، وما من مال لا تخرج زكاته إلا عذب به صاحبه يوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .(26/289)
والزكاة أيها المسلمون قدر يسير يترتب عليها أجر كثير وخلف من الله كبير وتجب الزكاة في كل مال أريد للتجارة إذا حال عليه الحول سواء كان وديعة في البنوك أو في جهة أو مودعاً في أسهم في شركة فيه كله زكاة، ومن حلي النساء ولو كان للاستعمال فتجب فيه الزكاة، وما من مال لا تخرج زكاته إلا ذهب وكان عاراً على صاحبه.
وما هلك مال في بَرٍّ ولا في بحر إلا بسبب منع الزكاة، أما الغني الذي يخرج الزكاة فيكتسب زيادة في ماله وبركة فيه ويدل على قوة إيمانه. والزكاة فطرة الإسلام ودليل على صحة الإيمان. والواجب على كل مسلم عند حلول وقت الزكاة أن يحسب ماله ويؤدي زكاته طيبة بها نفسه. لأن المال في هذا الزمان قد فاض على الناس والمال غاد ورائح ويبقى لمخرج الزكاة شرف الذكر وعظم الأجر، ولمانع الزكاة عظم الوزر. وإنني أرجو الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين إلى المسارعة إلى أداء الزكاة لأن إخراجها ينمي المال ويبارك فيه ويزيده ويحصل لمخرج الزكاة الأجر العظيم. هذا ما أردت جمعه وأرجو الله أن يكون خالصاً لوجهه الكريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3- في فضل الجهاد وثوابه
الحمد لله الذي شرع الجهاد بالنفس والمال واليد واللسان وجعل جزاء من قام به الغرف العالية في الجنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك المنان وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:(26/290)
لما أكرم الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة كان يغشى الناس في أنديتهم في أيام المواسم وغيرها وفي أسواقها ويتلو عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله ويصبر على ما يناله من الأذى من قريش ومن يتبعه ينال منهم أشد العذاب كبلال وآل عمار وغيرهم كانوا يذيقونهم ألوان العذاب. وقد أمر الله بالجهاد في آي كنيرة من كتابه العزيز كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فالجهاد وإن كان مكروهاً للنفوس لما فيه من التعرض للقتل فقد رتب الله عليه من الأجر مالا يخطر على بال ولا على قلب بشر قال عكرمة: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقد تظاهرت آيات الكتاب العزيز والسنة النبوية على الترغيب في الجهاد والحرص عليه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فجعل سبحانه هاهنا الجنة ثمناً لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن، وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد وأخبرهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد بأداة إن والإخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر. وأضاف هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأخبر أنه هو الذي اشترى هذا البيع، وأنه وعدا بتسليم هذا الثمن وعداً لا يخلفه ولا يتركه إنه أتى بصيغة عليّ التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه وأكد ذلك بكونه حقاً عليه وأخبر عن محل هذا(26/291)
الوعد وأنه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي (التوراة والإنجيل والقرآن) إعلاماً لعباده بصيغة استفهام الإنكار وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه وأمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشروا به بعضهم بعضا بشارة من قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبت فيه خيار ولا يعرض له ما يفسقه وأخبرهم إخبارا مؤكداً بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع هاهنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة.
ولأن المسجد الأقصى له مكانته بالأفضلية لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين وأسري بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه. وفي الحديث أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة وقد عبثت فيه أعداء الله وأعداء رسوله وأحرقته ومنعت الإطفاء وخربت مضخات الماء لكي لا يستعملها الجمهور لإطفاء الحريق وأعلن زعيمهم اللعين أن المسجد الأقصى لهم وأنه لا معنى لليهود بدون القدس. وقد أدرك جلالة الملك الراحل عبد العزيز أسكنه الله الجنة بثاقب فكره وغيرته على المقدسات الإسلامية خطر هجرة اليهود إلى فلسطين كما جاء في كتابه الموجه إلى الحكومة البريطانية المؤرخ في 31 ربيع الثاني 1357 هـ والذي فيه أنه يفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري ولا تؤسس دولة لليهود في فلسطين وكذا كتابه إلى رئيس الحكومة الأمريكية في 7 شوال 1357 هـ والذي فيه: أما دعوى اليهود التاريخية فلا نجد ما يبررها لأن فلسطين كانت مشغولة بالعرب وكان السلطان فيها لهم وغيرها مما ذكر مما تخوفه من هجرة اليهود واستيطانهم فلسطين رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء.(26/292)
ويحدثنا التاريخ أن المسجد الأقصى سبق وأن استولى عليه الصليبيون وذلك في عام 492 هـ وقتلوا فيه ما يقرب من سبعين ألف نسمة وظل في أيديهم مدة 92 سنة يعملون فيه المنكرات حتى أتاح الله تبارك وتعالى بفضله السلطان صلاح الدين ففتحه وطهره من الإفرنج ونظف الصخرة والمعبد وصلوا فيه الجمعة 4 شعبان في السنة المذكورة وتولاه المسلمون ولله الحمد.
وقد كان جلالة الملك الشهيد/ فيصل أسكنه الله الجنة ينوي أن يصلي فيه وقد أدركته منيته وإن شاء الله له قدر على أجر نيته وقد قطع الملك نور الدين زنكي على نفسه عهداً لا يظله سقف حتى يثأر من الإفرنج الذين في بيت المقدس وظل ملتزماً بعهده حتى وافته المنية وحكومتنا الرشيدة وعلى رأسها جلالة الملك وولي عهده ورجاله المخلصون ينوون أن يخلصوه من أيدي الشرذمة اليهودية لأنه قبلتهم الأولى. ولكل ما ذكر فإننا نهيب بجميع المسلمين من ملوك وأمراء ورؤساء وأثرياء أن يستعينوا بالله وأن يصمموا على جهاد أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا ويبشروا بالنصر كما وعدهم الله في كتابه وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ} لأن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام. وأرجو الله أن يهيئ ويوفق ولاة المسلمين وحكامهم لما فيه الخير والسعادة واستعادة مقدسات الإسلام. وقد حررت هذه العجالة للتذكر وأرجو الله أن تكون خالصة لوجهه وأن تلقى أذناً واعية وأنا الفقير إلى الله إبراهيم الراشد الحديثي أرجو أن تحوز القبول والرضاء. وصلى الله على عبده ورسوله محمد إلى يوم الدين.
4- وجوب الحجاب للمرأة المسلمة(26/293)
الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يلزم نساء المسلمين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب الثوب الواسع ليعرفن بالتقوى والعفاف فلا يؤذين. إن المرأة المسلمة لا تدانيها امرأة من العالم وقد أعطيت حقوقها كاملة فكرامة المرأة المسلمة في الإسلام قد بلغت كرامة ما تبلغها كرامة امرأة في الوجود.
وفى الحديث "ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم" وفي الحديث أيضاً "خيركم خيركم لأهله وأنا خبركم لأهلي" وفى آخر عمره صلى الله عليه وسلم قال "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم" وقوله تبارك وتعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخطاب للمؤمنات يعلمهن الباري سبحانه وتعالى أن الخمار من قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهو ما يغطي الرأس وأن الجيب هو فتحة على الصدر وإن الله تبارك وتعالى أمر كل مسلمة أن تغطي وجهها وعنقها بالخمار لا رأسها فحسب ويقول تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهذا صحيح بوجوب غطاء رأسها وصدرها، فمن كشفت عن رأسها وصدرها فإنها عاصية ولم تتمثل أمر الله.(26/294)
ومن أخطر ما يكون الذي حذر الله منه المسلمين الاختلاط بين الجنسين الذكر والأنثى ومن أكبر الأسباب الميسرة لفعل الفاحشة، ولهذا حذرت منه الشريعة السمحاء لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" وكذلك اتخاذ الخدم الرجال والسائقين الأجانب الذين يحملون معهم نساء في سيارات وينفردون بهم دون محارم فهذا يذهب بها إلى المدرسة ويأتي بها بدون محرم وإن المسلم لا يرضى أن يخلو أجنبي بمحارمه. ويوجد من يحضر امرأة مربية لأبنائه وهي غير مسلمة وتربي الأبناء على غير الطريقة المستقيمة ويخلو بها وهي أجنبية وهذا لا يجوز لأن الله أمر بغض البصر سواء في ذلك الرجال والنساء، ولا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها أو شيئاً من بدنها أمام رجل أجنبي.
فيجب على المسلم صيانة محارمه وامتثال أوامر الله بقوله تبارك وتعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} . هذا ما أردت جمعه لإخواني المسلمين في هذه العجالة ولو أخذنا تعدد مساوئ التبرج وما ينشأ من دخول غير المسلمات إلى بيوت المسلمين من الضرر الذي لا يعلمه إلا الله. فعلى المسلم أن يجتنب كل ما يضره في دينه ويذكر وقوفه بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن من الواجب أن تصان المرأة وكرامتها أن المرأة الشريفة العفيفة المؤمنة يأمرها الباري تبارك وتعالى في الآية الكريمة في إطار من الصون والكرامة وإن التبرج وبروز المرأة للمجتمعات من دواعي الفساد وما نهى الله ورسوله عنه. فعلى المسلم الغيور على دينه أن ينهى عنه وأن يراقب الله لأنه مسئول عنه لقوله صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
جاهلية الغرب(26/295)
- عثرت قوات الأمن البريطانية على جثة فتاة في الحادية عشرة من عمرها. مدفونة وهي حية. تحت التراب، من قبل أحد خاطفي الأطفال وتأكد لدى سلطات البوليس أن الطفلة (اورسولا هيرمان) دفنت وهي حية في صندوق طوله خمسة أقدام تحت الأرض.
(النور المغربية)(26/296)
حقوق الإنسان في الإسلام (6)
الشيخ: عبد الفتاح العشماوي
محاضر بكلية الحديث
الباب الثامن
ويشمل المواد الآتية من (إعلان حقوق الإنسان) وهي ثلاث مواد.
المادة الثانية والعشرون:
لكل شخص بصفته عضواً في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية، وفي أن تحقق بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته، وللنمو الحر لشخصيته.
المادة الرابعة والعشرون:
لكل شخص الحق في الراحة، وفي أوقات الفراغ، ولا سيما في تحديد معقول لساعات العمل، وفي عطلات دورية بأجر.
المادة الخامسة والعشرون:
(أ) لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة، وغير ذلك من وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.
(ب) للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وينعَم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية، سواء كانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية.(26/297)
ونحن نقول: - لقد كانت فريضة الزكاة عندنا أضمن ضمان لكل أنواع البشر الذين أحسوا بنقص ما عن مستوى الضروريات الإنسانية، فتجد هذا النوع الذي تخلف في هذه القافلة الدنيوية جمع بكل فروعه بالرقم (8) الحسابي، ولا يمكن أن تبحث عن بائس أو تعس أو محزون خارج هذا الرقم، فكانت الزكاة لهم لتكفكف دمعهم وتذهب همهم وترأب صدعهم، فيلحقوا بالسعداء والهانئين، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وليس تسولاً منهم ولا منًّا من غيرهم، وإنما أعزهم الله بقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ، أي ليس تفضلاً من أَحد سواه، وإنما هو حق يرغم به أنف مانعه على أدائه {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل} ، فإن أبى فعلاجه الموت، حيث أصبح عدواً لله وللمجتمع البشري بأسره، أنانياً لنفسه وليغني من عداه، إذاً فليمت هو ليسلم عدل الله من الظلمة الذين يعيشون على أنين الناس ونكدهم.
لقد ذكروا بعد ما أوردنا من آيات بينات عدة أحاديث عاطرات، نورد منها ما يلي:
عن عبد الرحمن بن أبى بكر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس" رواه البخاري.(26/298)
وأخبر ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" رواه البخاري- وأيضاً روى "أطعموا الجائع وفكوا العاني" وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" رواه مسلم، وإن هذا الحديث وحده ناهيك عن قسطاس هذا الإسلام ككل، (لهو ضربات ماحقات للذين هوَوْا في مستنقع أقذار الشيوعية، التي كتبت العدالة على ورق نجس ودمرت بالظلم وتكبيل الجهود مجتمعها، حتى إن زعيمتهم روسيا لا زالت تشتري حبة القمح لتطعم شعبها المقيد المقهور بمبادئ ماركس ولينين ومن أتى بعدهما من كل عتل كفور، ولكن دعهم في أوحال عداوتهم يتمرغون. فلن نعطيهم من احتقارنا لهم إلا بما قال شاعرنا:
فالصخر يصبح مثقالاً بدينار
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً
وكقول آخر:
فلم يهنها وأدمى قرنه الوعل
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
إننا عندما نسمع هذا الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه فنسمع أعجب ما تسمع الدنيا من العدالة والمساواة والإيثار يقدمه معلم العالمين كلهم بأمر ربه محمد صلى الله عليه وسلم، ونقدم الحديث بلفظه وطوله أولاً، ثم نعلق عليه بقليل من الكلمات.(26/299)
يقول أبو هريرة عن نفسه: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، فإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "أبا هِرّ" قلت لبيك يا رسول الله، قال "الحَقْ"ومضى فتبعته، فدخل. فاستأذن فأذِن لي، فدخل فوجد لبناً وقدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ "قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال "أبا هِرْ" قلت لبيك يا رسول الله، قال: "الحَقْ إلى أهل الصفة فادعهم لي"قال- يعني أبو هريرة- وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنتُ أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: "أبا هِرّ" قلت لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم"، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عَلَيَّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فيشرب حتى يروى، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: "أبا هر" فقلت لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "أقْعدْ فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول(26/300)
"اشرب" حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: "فأرني" فأعطيته القدح، فحمد الله وسمَّى، وشرب الفضلة، وفي رواية، وشرب من الفضلة قال صاحب الفتح، وفي هذا إشعار بأنه بقي بعد شربه شيء، فإن كانت محفوظة فلعلها أعدها لمن بقي بالبيت من أهله صلى الله عليه وسلم، انتهى هذا الحديث الشريف العظيم.
والحديث كما نرى لو بسطنا فيه القول من كل الجوانب المتصلة به لامتد بنا الأمر وأكثرها لا يتصل بالباب الذي نحن بصدده، فنأخذ منه فقط بعض ما نريده:
1- أبو هريرة امتحن في أمر يتصل بإزهاق روحه، وهو الجوع، ولكنه ازداد إيماناً بربه، فلم ينحن ليأخذ لقمة خبز بسؤال، ولم يردد كلمات الزور العالمية اليوم، الإقطاع، الطبقات، التسلط، الشيوعية، لماذا أجوع وغيري شبعان، إذاً نؤمم، إذاً نصادر، إذاً نستولي على الحقوق، باسم العدالة والمساواة والاشتراكية.
2- كوفئ أبو هريرة بوقوع معجزة عظيمة كان هو سببها، فكأس من الحليب يشبع أهل الصفة، وعددهم في أقل الروايات ثلاثون، ثم يظل هو يشرب من تلك المعجزة حتى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، وهو الذي حدث نفسه وهو يدعو أَهل الصفة بأن قدح اللبن لن يغني عنه ولا عن أهل الصفة شيئاً، وساءه ذلك التصور كما ذكر عن نفسه في الحديث.
3- القائد العظيم والمشرّع الكريم بأمر ربه صلوات الله عليه لم يشرب إلا آخرهم جميعاً، وهو خيرهم وسيدهم جميعاً، أسَمِعت الدنيا بحكام وقيادات من هذا الطراز، إلا طراز واحد هو شرع الله أَرحم الراحمين بعباده، وأَقام على تنفيذه إنساناً معصوماً من الحيف والظلم والأنانية كما هو حال غالبية حكام اليوم من عرب ومسلمين بل شيوعيين واشتراكيين ورأسماليين إلى غير ذلك من أَسماء ابتدعوها وحتى ما طبقوها إلا على الضعفاء، واستثنوا منها أَنفسهم والأقوياء.(26/301)
ومشينا بعدالتنا النازلة من السماء أحقاباً سعيدة هنيئة، حتى يأتي يوم في عصر الخليفة الراشد بعد الأربعة الراشدين وهو خامسهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فيبعث بيحيى بن سعيد لجمع زكوات إفريقية، يقول يحيى بن سعيد، طلبت الفقراء لأعطيهم حقهم في الزكاة، فلم نجد فقيراً بها، ولم نجد من يأخذها،- وهكذا أغنت عدالة الإسلام كل الناس، حتى الضاربين في الصحراء والفيفاء، ويثني الشاعر جرير على عدالة عمر بن عبد العزيز وحَدَبه على جميع المسلمين. بقصيدة منها:
ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
كم باليمامة من شعثاء أرملة
كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
ممن يعدك تكفي فقد والده
من الخليفة ما نرجو من المطر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
أما عن إعطاء البدن الإنساني كفايته من الراحة ليستأنف بعدها سعايته، فهل كان الإسلام يمنع ذلك، ويطلب لإنسان أن يخر صريع الإجهاد هالك الإضناء، أم أَنه أسهل وأيسر وأرفق دين نزل على العباد من السماء طيلة هذه الدنيا، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وغير هذا من كتاب الرحمة والراحة، من قرآن الله العظيم.
ومن الأحاديث الصحيحة قوله صلوات الله عليه:
"ما أمرتكم به من أمر فأتوا منه ما استطعتم".(26/302)
"إن لبدنك عليك حقا".
"إن المنبت لا أَرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
"إن الله لا يمل حتى تملوا، وإن هذا الدين متين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق". الحديث الأخير ورد بعدة روايات، ولكنه ثابت لاشتراك البخاري فيه فإذا كان أقدس وأجل عمل في هذه الدنيا وهو عبادة الله، قد أمر سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله، أن لا نكلف أَنفسنا في هذه العبادة أي لغوب أو عناء، فلا نطيل الصلاة أثناء الجماعة حتى لا يقع لأحد ملل منها، أَو إعنات لضعف صحة، أو إجهاد لشيخوخة، أو ضياع لحاجة عاجلة بعد الانتشار من الصلاة، وإنما التطويل يكون للمصلي وحده بما يشاء من طول، فقد وزن خصائص نفسه وصلى بما لا ينتقد به فيه أحد أو يلام عليه من الغير، وحتى مع هذا الحال لم يسكت الإسلام عن الرفق مع أهله، فقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، فرأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: "حُلوه، لِيصل أَحدكم نشاطه، فإذا كسُلَ أو فتر فليرقد"، رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"رواه مسلم.
وفي رواية "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف، فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدري"رواه الجماعة.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرؤه" رواه مسلم.
وعنه أيضاً- أنس- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فَيشَدَّدَ عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فَشُدِّدَ عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"رواه مسلم.(26/303)
فإذا كان هذا الحُنُوُّ قد وُجهنا إليه ونحن نؤدي ما لَوْ أفنينا أنفسنا أثناء تأديته ما وفينا نعمة واحدة من نعمه علينا سبحانه، أفيقسوا الإسلام أو يسمح باستغلال صاحب العمل للعامل حتى يضنيه ويعجزه؟.
بل لقد لفت القرآن النظر إلى ما يرغب ويشجع على التريض والتنزه، عندما تسمع قوله تعالى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ؛ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، فهل تدبرت قوله تعالى في الآية الأخيرة: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} فأنت إذا لم تخرج لتنظر، لتريح نفسك من عناء العمل، ومشاغل الدنيا، ثم لترى جمال الخالق في جمال خلقه، وعظمة المبدع في عظمة ما أبدع، فقد يكون فيك نقص من إيمان، لأن الآية قالت في النهاية: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقد حدث أني خرجت مرة إلى بعض الحدائق ووجدت شجرتيْ زيتون ورمان متقاربتين، فظننتهما نوعاً واحداً لتشابه الصورة في الجذع والفرع والأوراق، ولما شخصت بعيني إلى ثمرهما وجدت في إحداهما حب زيتون وفي الأخرى فاكهة الرمان، فتذكرت قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، أي مشتبها في الصورة غير متشابه في الثمر، فأخذت درساً عملياً في التفسير ما كان لي أن أتعلمه قبل ذلك.(26/304)
فأيهما أَنفع للإنسان، حقوقه التي وضعها لنفسه، أم التي وضعها الله له؟. الله أَكبر.
(الباب التاسع)
ويشمل مادتين من مواد (إعلان حقوق الإنسان) وهما المادتان السادسة والعشرون والسابعة والعشرون.
المادة السادسة والعشرون:
(أ) لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا، وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع، وعلى أساس الكفاءة.
(ب) يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاًًً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية، وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهودات الأمم المتحدة لحفظ السلام..
(ج) للآباء الحق الأول في اختيار نوع تربية أَولادهم.
المادة السابعة والعشرون:
(أ) لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون، والمساهمة في التقدم العلمي، والاستفادة من نتائجه.
(ب) لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمي أَو الأدبي أو الفني.(26/305)
ونحن نقول:- إن أول ما يتحتم معرفته وإدراكه من العلم، هو أن يعرف المخلوق من الذي خلقه، ومن هذا المُتَّكأ الأعظم تنطلق كل المعارف والإحاطات العلمية، بتأكد اليقين الفهمي لحياتيْْ ما قبل الموت وما بعده، هذه هي النظرة الإسلامية لحقيقة العلم، أما أَن ينشغل كافر بموجودات الدنيا، مبهورا بما أودع فيها خالقها من عجائب يركز فيها خلايا مخه لأنه لا يؤمن إلا بها، أو أن يقف مسلم مكذبا بما يكتشف الكافر صاحب الدنيا، فينطوي على نفسه مكتفياَ بعبادات محضية أو ترانيم كلامية، تاركا للكافر يتمتع وحده بما أودع الله في دنياه باسم التصوف والتبتل {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} ، فإن الإسلام يرفض الكافر السابق والمسلم اللاحق اللذين أشرنا إليهما، وإني كما ذكرت في البداية هو أن العلم بالصانع سيجعله ينتفع بكل صنعته، الآن وبعد موته، فهو الآن يجب أن يكون تاجراً أو صانعاً وزارعاً، وباحثاً في أغوار اليابس. وغائصاً في أعماق الماء. وطائراً في الهواء، ومتفكراً في عجائب الفضاء، ومتبصراً في كواكب السماء، على أن هذا من صنعة الصانع الذي عرفه وأيقن به عز وجل، فلما سعد بدنياه حين استخدمها بما ذكرنا، راح يذكر موجد هذه النعمة بالانحناء راكعاً وبالكف صائما وبالإخراج مزكياً وبشد الرحال حاجاً، ولِما نهي عن المعاصي تاركا. ولما أمِرَ به من الطاعات فاعلا مؤدياً، وبهذا أخذ الطريق إلى حيازة ما هو أنعم وأدوم. عندما يلقى الله بالفناء المحتم {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً -في الدنيا- وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - أي في الآخرة- وفي آية أخرى قوله {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَر} .(26/306)
ولهذا صنع نوح السفينة الأم الكبرى، فكان أن نجا بها في الدنيا ومن معه، والنجاة العظمى في الآخرة تنتظرهم، ومن هذه السفينة الهائلة، حيث يوصف ضخامتها في الكتب المقدسة ابتداء من التوراة إلى القرآن، لم يصنع أحد حجمها لا حاملات طائرات ولا غيره، وإلا فما ظنك بسفينة تتسع لتحمل على ظهرها من كلٍّ زوجين اثنين، ذكرا وأنثى من كل الأحياء إنساناً وحيوانا.
ولهذا أيضاً صنع داود أسلحة القتال بغير أفران مجمعات الصلب والحديد، وبغير أفران ذرية. وبغير وغير ... مما نسينا به الصانع الأعظم الذي علم من صنعته نوحاً {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وعلم من صنعته داود، ثم سخر له الحديد ليكون كالعجين في يده بغير نار ولا مصهار، وإنما بكلمة (كن) {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} . فيا للعجب من تلك القدرة والعظمة التي نسيناها.(26/307)
ولهذا أيضاً صنع ذو القرنين أعجب سد وأمنع سور بالصورة العجيبة التي ذكرها القرآن {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً - نحاساَ- فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} ؟ أسمعت أيها القارئ بأن هذا السد- هذا الاختراع في بناء الحصون والأسوار على حد تعبيرهم- سيبقى لمتانة صنعته حتى يجيء وعد الله بيوم الساعة فيدكه هو - وحده- بقدرته {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} ، وغير هذا كثير من عجائب مبدع الملكوت بالمباشرة أو بتسبيبه. إذاً فكيف نوجَّه بإعلان حقوق الإنسان يأتينا من عدونا ونحن الذين علمنا الدنيا من علم الذي قال {قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} ، وغير هذا وفير في الكتاب الذي ضمنه الله علم الدنيا والآخرة، نظرا وكونا وجِرما وفكرا وبحثا ونقلا {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . الله أكبر. فماذا بعد هذا؟ ورحنا نستجدي ونحن الأكرم والأجدى بما علّمنا به الذي علمْنا به، سبحانه، ولكن أساس حيرتنا وتطلعنا إلى ما في يد الغير من كل شؤون الدنيا علماً أو غيره، هو فراغ قلوبنا من كامل الإيمان بالذي وسع كل شيء علماً. فالأزمة أزمة إيمان قبل كل شيء، ولقد أهاجني حقاً تلك الكلمات التي ذكرها الأستاذ نديم الجسر في كتابه القيم والذي عنونه(26/308)
بهذا العنوان الرائع (قصة الإيمان) ، وسأنقل هذه الكلمات هنا لي ولمن يعجب بها معي، يقول الأستاذ نديم الجسر:-
إن لإيمان بالله هو: رأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة. وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه. والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة، ولا يخدعنك عن هذا من يقول لك: إن مكارم الأخلاق تغني- بوازع الضمير- عن الإيمان، لأن مكارم الأخلاق، التي تواضعنا عليها للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع، لا بد لها عند اعتلاج الشهوات في الشدائد والأزمات، أن تعتمد على الإيمان، بل إن هذا الشيء الذي نسميه ضميراً، إنما يعتمد في سويدائه على الإيمان، وانقياد الناس لمكارم الأخلاق، إنما يكون بزاجر من السلطان. أو وازع من القرآن، أو رادع من المجتمع.
ثم يستمر الأستاذ نديم فيقول:-(26/309)
فإذا كنا في نجوة من سلطان القانون والدين والمجتمع، لم يبق لنا وازع، إلا الضمير، ونحن في معركة الشهوات والغرائز مع الضمائر. قلّ أن نرى الضمير منتصرة إلا عند القلة من الناس، وهذه القلة نفسها لا تستمسك بضمائرها عند جموح الشهوات إلا إذا كانت تخشى الله يا حيران. ولو تركنا مكارم الأخلاق جانبا ونظرنا إلى حاجتنا إلى الإيمان، من حيث هو سند في الشدائد، وبلسم للمصائب، وسكن للنفوس، وعزاء للقلوب، وعلاج لشقاء الحياة، لوجدنا أننا عند فقد الإيمان نكون أسوأ حظاً في الحياة، وأدنى رتبة في سلم المخلوقات من أذل البهائم، وأضعف الحشرات، وأشرس الضواري ... فالبهائم تجوع كما نجوع، ولكنها في نجوة من هم الرزق. وخوف الفقر. وكرب الحاجة. وذل السؤال. وهي تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد. ولكنها في راحة من هلع المثكلة، وجزع الميتمة، وهم اليتامى المستضعفين. وهي في أجسادها تلتذ كما نلتذ وتألم كما نألم. ولكنها في راحة مما يأكل القلوب، ويقرح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشمل، ويخرب البيوت من المهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والنفاق والخيانة، والعقوق وكفر النعمة ونكران الجميل، وهي تعرف بنوع من الإدراك ما يضرها وما ينفعها، ولكنها في نجوة من أعباء التكليف، وأثقال الأوزار، ومضض الشك، وكرب الحيرة، وعذاب الضمير، وهي تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، ولكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض. وفراق الأحباب، وسكرات الموت. ومصير الموتى وراء القبور، والضواري تسفك الدماء لتشبع بلا صرف، ولكنها لا تسفكها أنفاً ولا جنفاً، ولا صلفاً ولا ترفا، ولا علوا في الأرض ولا استكبارا.
ثم يمضي الأستاذ نديم ليختم هذا الجزء من كتابه (قصة الإيمان) فيقول:(26/310)
أما هذا الحيوان الفيلسوف- يقصد الإنسان- الضعيف الهلوع الجزوع. المطماع، المختال، المترف، المتكبرة المتجبر، السافك الدماء، الذي لا يأتيه شقاء الحياة إلا من تفكيره. فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، فالإيمان هو الذي يقويه، وهو الذي يعزيه، وهو الذي يسليه. وهو الذي يمنيه، وهو الذي يرضيه. وهو الذي يجعله إنساناً يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة، انتهى.
إذا ًفكل العلوم التي تدرك من أمر الحياتين أولاها وأخراها. مصدرها ومردها إلى الإيمان، ذلك الينبوع الهادر بالخير كله، في الحال والمآل، فما أتعس من طلب العلم عن غير صفاء النبع، وراح يوقف عمره تحت قيادة الشيطان ليخرب ما عمَّر الله بالمقاتلات والقاذفات. ثم يجلس بجانب الركام يذرف الدمع على ما هدمه بيده على رأسه، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} أما وعد الله الذي سيدمر فيه كل هذه الدنيا فسيكون نصيبه أوفر: من هذا الدمار الذي ليس بعده إعمار.
أما نحن فهذا نوع علمنا الذي سعدنا به في اليوم وما بعده يقدمه رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الخليقة كلها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاس} ، في هذه الأحاديث المتفق عليها، وغيرها كثير.
"ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى. وما استقام دينه حتى يستقيم عقله".
"إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر، ليصلون على معلم الناس الخير".
"لا حسد إلا في اثنتين. رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
"منهومان لا يشبعان، طالب علم، وطالب مال" وشتان.(26/311)
ولقد أعجب (كوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) أعظم الإعجاب من شغف العرب بالعلم. ولقد كان إعجابه أعظم أن رأى هذا الشغف منبعثًا منهم عن الدين نفسه. وقال في ذلك: إن العلم الذي استخفت به أديان أخرى قد رفع المسلمون من شأنه عالياً، وإليهم ترجع في الحقيقة هذه الملاحظة الصائبة القائلة باسم الدين: "إنما الناس هم الذين يتعلمون والذين يعلمون، وأما من عداهم فمضر أو لا خير فيه"مشيراً بذلك إلى الحديث الصحيح "ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردًى. وما استقام دينه حتى يستقيم عمله. وفي رواية، حتى يستقيم عقله"، أي بالعلم. ثم يستمر (كوستاف) في كتابه فيقول:- إن النشاط الذي أبداه العرب في الدراسة كان مدهشاً جداً، ولئن ساواهم في ذلك كثير من الشعوب فلم يكن منهم فيما أظن من سبقهم. وكانوا إذا ما استولوا على مدينة وجهوا عنايتهم في الدرجة الأولى إلى تأسيس جامع وإقامة مدرسة، وعدا مدارس التعليم البسيطة فإن المدن الكبرى مثل بغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة الخ، كان فيها جامعات علمية مجهزة بالمخابر والمراصد والمكتبات الغنية، وبكلمة واحدة كانت هذه الجامعات مجهزة بكل المواد الضرورية للبحوث العلمية، وكان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عامة، وكانت مكتبة الخليفة (الحكم الثاني) في قرطبة تحتوي كما ذكره االمؤلفون العرب على ستمائة ألف مجلد كان فيها للفهرس فقط أربعة وأربعون مجلدا. وقد لوحظ بحق، أن (شارل الحكيم) لم يستطع بعد أربعمائة سنة من هذا التاريخ أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من تسعمائة مجلد. وكاد أن يكون ثلثها فقط خارجاً عن علم الكهنوت.(26/312)
وقال (كوستاف) أيضا في كتابه: لقد بلغ شغف العرب بالتعليم مبلغاً عظيما جداً، حتى إن خلفاء بغداد كانوا يستعملون كل الوسائل لجذب العلماء وأشهر الفنيين في العالم إلى قصورهم. وأن أحد هؤلاء الخلفاء بلغ به الأمر إلى إعلان الحرب على قيصر القسطنطينية ليجبره على السماح لأحد الرياضيين المشهورين بالحضور إلى بغداد والتعليم فيها، انتهى وحسبنا أن شهد شاهد منهم.
(الباب العاشر)
ويشمل المواد الثلاث الآتية: وبها نأتي على آخر مواد إعلان حقوق الإنسان:
المادة الثامنة والعشرون:-
لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما.
المادة التاسعة والعشرون:-
(أَ) على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أَن تنمو نموا حرا كاملا.
(ب) يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.
(ج) لا يصح بأي حال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة الثلاثون:-
ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.(26/313)
أما عن المادة الأولى من هذه المواد الثلاث (لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي) ، فأي نظام هذا الذي قالوه وما بينوه، أم هو التيه في ظلمات الأرض لما أظْلمت قلوبهم، إنكارا لموجد هذا المجتمع الدولي الذي تحدثوا عنه وما تحدثوا عن منظمه، بأغرب وأعجب وأدق نظام أَنزله على خير الأنام، صلى الله عليه وسلم {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهل بديع السماوات والأرض والإنسان ضمن إبداعه يمكن- عقلا- أن يوجد المبْدَع نظاما خيراً ممن أبدع؟ ، لتتحقق بمقتضاه الحقوق أكثر مما حققها واقتضاها؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ، وسيظل الإنسان المسكين ذليل هواه ودنياه، ترديه جيلا بعد جيل، حتى يعلم أَنه-- وفي الدنيا قبل الآخرة- لا أحد أنظم ممن نظم صورة أدميته، ثم أحكم له نظام تقلبه في نهاره، وسكنه في ليله، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} لكن تقول الآية {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، فهم وحدهم الذين يعلمون ذلك دون سواهم.
وعن المادة التاسعة والعشرين من حقوقهم تقول الفقرة (أ) :(26/314)
على كل فرد واجبات نحو المجتمع، وإنها لكلمة حق أريد بها الباطل. وهل رأينا أفرادهم إلا متهالكين نحو شهواتهم وخصوصية ميولهم وما يلهثون إلاَّ وراء أنانيتهم الفردية. أما نحن فقلنا لبعضنا ما قاله لنا ربنا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وما قاله لنا نبينا- صلى الله عليه وسلم- "كلكم راع وكلَكم مسئول عن رعيته" و"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وتاريخنا العاطر مشحون بأعمال رجالنا تنفيذاً لما أمرهم الله ورسوله، من الإيثار وتقديم مصلحة الغير والمجتمع على النفس. وقد قدمنا منه العديد في بحثنا هذا. ونزيد فنقول ما رأي واضعوا هذه الحقوق التي ما أحقوها يوماً. عندما عرِضت رأس شاة على جار فقير. فيقول: أعطوها لجاري فقد يكون أولى بها مني. وتظل رأس الشاة تنتقل من دار إلى دار حتى تعود إلى الجار الأول بعد أن تأكد أن غيره ليس أحوج إليها منه. تلك صورة من قاعدة مجتمعنا. أما من قمة مجتمعنا فيشعر عمر بن الخطاب بتقلبات في بطنه وقرقرة في أمعائه حيث ما كان له أدام عام الرمادة إلا الزيت، فيقول لبطنه قرقري أو لا تقرقري. فلن تأتدمي السمن حتى يأتدمه المسلمون) فأي واجبات الفرد حاكما أو محكوماً نحو المجتمع تؤدَّى بأروع من هذا يا بني الإنسان؟ عندما تدور رأس شاة بين أيد محتاجة إليها حتى تستقر عند من هو أشد احتياجاً، وعندما يلزم رئيس أضخم وأوسع أمة في التاريخ بألاَّ يأكل السمن حتى يأكله كل شعبه ويكون هو آخر من يأكله.(26/315)
أم هل أتى واضعوا حقوق الإنسان التي أسلموها للنسيان. نبأ المرأة العراقية التي سافرت الأميال الطوال سائلة عن بيت عمر بن عبد العزيز، فوجدته كوخا ظنت من دلها عليه أنه يسخر منها. ولكنها تأكدت لما قالت لها زوجة الخليفة إنه نصيبه من القصور والدور والضياع والزروع التي كانت له. وتخلى عنها جميعها للمجتمع الإسلامي غداة أن استخلف، ويأتي الخليفة وتقص عليه المرأة قصتها: بأن زوجها مات في الجهاد في سبيل الله وترك لها خمس بنات لا تملك لهن شيئاً، وعندما نسمع جواب عمر بن عبد العزيز تدخل في الفقرة (ب) التي تتحدث عن ممارسة الحقوق وضمان الاعتراف بها للغير.
فطلب عمر قلما وقرطاسا وأخذ يكتب بنفسه- فلا وكيل ولا سكرتير-.
من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى والي العراق. إذا أتتك هذه المرأة فتثبت من أمرها، فإن كان حقاً ما تقول، فاجعل لا بنتها الأولى ألف دينار، فقالت المرأة: الحمد لله، فزاد الخليفة: واجعل للثانية ألف دينار. فقالت المرأة: الحمد لله، فزاد الخليفة: وللثالثة ألف دينار، فقالت: الحمد لله، فقال: وللرابعة ألف دينار، فقالت الحمد لله، فزاد الخليفة: وللخامسة ألف دينار. فقالت المرأة: شكرا لك يا أمير المؤمنين، فجرَّ بقلمه على نصيب الخامسة وألغاه. فقالت لم يا أمير المؤمنين؟ فقال: شكرت الله في الأربعة الأول فأعطاهن من فضله. وشكرتني في الخامسة وليس لدي ما أعطيه إياها. إنما أنا قاسم والله معطي، فلتأكل مع أخواتها.
فأي ممارسة للحقوق وأي ضمان لها أرفع من هذا وأعز يا واضعوا حقوق الإنسان؟.
إذا جمعتنا يا (دعي) المجامع)
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم
مع الاعتذار للشاعرين، جرير والفرزدق، حيث وضعْت (دعي) من عندي.
وهل بعد ادعاء من وضعوا حقوق الإنسان وأكلوها ادعاء؟.(26/316)
أما عن الفقرة (ج) وهي الأخيرة من المادة التاسعة والعشرين فسأعيد فقط نصها لنضحك من أمرها معاً، تقول الفقرة:
لا يصح بأي حال من الأحوال. أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
ووجه الضحك والسخرية من هذه الفقرة أننا ما علمنا للأمم المتحدة أغراضاً أو مبادئ رأى العالم شيئاً من نفعها حتى تتناقض أو لا تتناقض. ما رأينا من مبادئها إلا بطش القوي بالضعيف في عدوان مسلح ينتشر في كل أرجاء الأرض. وابتلاع دول صغيرة بأكملها. وطرد لِشعوب بِمَلايينها في صحراء الفاقة والعوز والهلكة، كما ذكرنا في بداية البحث. فأي أغراض ومبادئ لهيئة أممهم المختلفة..... لقد أضحكونا ورفّهوا عنا.
أما المادة الثلاثون والأخيرة فتقول:
ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو أي فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى عمل عدم الحقوق والحريات الواردة فيه) أي (في كل إعلان المواد التاسعة والعشرين) .
أما عن الدول التي هدمت الحقوق والحريات الواردة في حقوق الإنسان. فلتسأل هذه الدول نفسها كم هدمت وأهدرت من تلك الحقوق ولا زالت، وقد فصلناها وفضحناها في أماكنها من هذا البحث، أما نحن فقد قدمنا إليهم نماذج الإسلام الفذة من حكامنا الحوالى الذين حكموا دولهم باسم حاكم الحكام ومالك الممالك. بل إننا مع تحري عدل الله في حكمنا زَهَّدَنا رسولنا وخوفنا من تولي المسئولية وأمانة الحقوق على عمومها.
فعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ويل للأمراء. ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنّينّ أقوام يوم القيامة، أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء والأرض. وأنهم لم يلوا عملا". رواه ابن حبان، وفي رواية: "ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خرّ من الثريا. ولم يل من أمر الناس شيئا" رواه الحاكم.(26/317)
وعن كلمة (الجماعة) وأنها لا تخول أيضا هدم الحقوق الواردة في الإعلان. فمن الذي يجهل ما تقوم به الهيئة المسماة (بالصليب الأحمر) ..باسم العمل الإنساني والتطبيب العلاجي، وهي في الحقيقة ليست إلا هيئة تبشيرية عالمية كبرى. وأداة تخريب دولية للعقائد والحقوق، وما هي إلا حكومة صليبية تمون بكل أسباب القوة والبأس والتأثير والإغراء من كل دول العالم الصليبية، وأكثر ميادينها التي تصول فيها وتجول هي الدول الإسلامية خاصة المتخلفة منها، ووجدت فيها القصد المطلوب والرجاء المبتغى. وحتى في اختيار اسمها ما استطاعت أن تخفي تصلبها بالصليب والدم الأحمر السليب، وأخيرا، أخيرا جدا، أفاق المسلمون أو بعضهم على دنس قصد هذا (الصليب الأحمر) فقابلوا ذلك بـ (الهلال الأحمر) في بعض بلاد إسلامية، ولكن بعد أن غزيت نفس هذه البلاد بالصليب الأحمر من مستشفيات وملاجئ ورياض أطفال. إلى غير ذلك من منشآت شيطانية شتى، حتى لم يجد الهلال المتأخر في بلده مكاناً للصليب الذي سبقه إليها. وأصبح المئات كل عام بل كل شهر يقعون صرعى التنصر والارتداد عن الإسلام، بسبب العمل الإنساني الذي تقوم به جمعية الصليب الأحمر ولا تخرقْ به قانون الأمم المتحدة ولا حقوق الإنسان.
كل هذا والمسلمون الـ1000 مليون وحكامهم أشبه بثور هائل صرعه المرض، لا يستطيع دفع الزواحف والثعالب التي تنهش من لحمه وهو حي، ذلك لأن المرض ألزمه الأرض فلم يجد من يعينه على النهوض من جديد.(26/318)
نعم. إننا لم نكتف بإلقاء ديننا وراءنا، بل وقّعنا بأيدينا على دينهم وقوانينهم، فشاركناهم حيرتهم الدنيوية، فحيرتهم زادت بارتقائهم المادي الدنيوي، هكذا أدركناه ونحن نتنقل في أرقى دول أوربا، وهم الآن يبحثون عن راحة النفس متجهين إلى الروح، ونحن تركنا راحة النفس بالروح واتجهنا إليهم لتشقينا معهم المادة. وما نخشى إلا أن يدركنا ونحن على هذا الحال موعد إنهاء الوجود. فنكون ولا حتى من أصحاب (الأعراف) وإنما- ونعوذ بالله- لا هذه ولا الآية الآتية. لا دنيا ولا أخرى، فاللهم الطف بنا، وعجل بإنقاذنا، وإلى دينك ردنا، ولا تزدنا من هذا الهوان، يا خير من أكرمت بني الإنسان، والحمد لله رب العالمين.(26/319)
صفحات مشرقة من حياة عمر بن عبد العزيز
للشيخ إبراهيم الجمل
مدرس بالمعهد الثانوي
كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي أمّةً وحده في تاريخ بني أمية، فلم تر الدنيا مثل عمر حاكما، يخاف الله، ويكره ويبغض لله، فكان ورعاً، زاهداً، تقياً، صابرا. كان من أشد الخلفاء حرصًا على أن ينال كل إنسان تحت إمرته حقه، لا فرق بين أمير وغير أمير، أو قريب وبعيد. وإن أخباره مشهورة، وأعماله تبارى فيها مع جده الفاروق عمر بن الخطاب [1] رضي الله عنه، حتى عده المؤرخون الخليفة الخامس المتمم للخلفاء الراشدين الأربعة.
لقد أعاد عمر نهار الإسلام الساطع في الخلافة الأموية، برغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام.
أرسى قواعد الدين الصحيحة وأعاد للإسلام قوته ومبادئه، فتفرع العلماء لتدوين الحنيفية السمحة، فلا عجب أن ينبش العباسيون- وقد حاربوا الدولة الأموية واستولوا عليها- قبور الأمويين، وأن يمثلوا شر تمثيل بمن في القبور من خلفاء وقادة إلا قبر عمر بن عبد العزيز فقد احترموا رفاته، وأثنوا عليه الثناء الكامل؛ والفضل ما شهدوا به
تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد موت الخليفة سليمان بن عبد الملك. والبلاد قد اتسعت رقعتها، وكثر العدو الذي كان يهدد أطرافها، وشغل عمر بأمر الناس والبلاد ليلا ونهارا. وما كان لكل هذا أن يشغله عن رعاية أولاده، وأن يتعرف على أحوالهم، وما يقتضيه واجب العناية والتربية.(26/320)
لقد أشرف بنفسه على تربية أولاده، وخصص لهم جزءا من وقته ليطلع على أعمالهم، فيقْوّم معوجهم، ويوجه من اختاره ليتولى تربيتهم إلى الطريق القويم. فيضع بهذا منهجا إسلامياً لا يصلح لأبنائه وحدهم، وإنما هو قاعدة أساسية لتربية أبناء المسلمين، وإن في رسالته لسهل مولاه وقد اختاره ليؤدب أولاده. منهجا قويما يخلق الأمة الصالحة التي تكون درعاً ووقاية للإسلام والمسلمين.
يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لسهل مولاه ومؤدب أولاده: "أما بعد: فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك عن غيرك من مواليّ، وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء؛ فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن كثرته تميت القلب.
وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغضْ الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف، واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب الماء.
ولعمري لتوقي ذلك، بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به.
وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن. يتثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله، وخرج إلى الغرض حافيا فرمى سبعة أرشاق، ثم انصرف إلى القائلة، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول:
"يا بني قيلوا فإن الشياطين لا تقيل".
إن هذه الرسالة الخالدة لتضع أسس التربية الصحيحة في كل زمان ومكان: فهي تضع الجد في معاملة المربي والمؤدب للدارسين عليه، والبعد بهم عن طريق اللهو، ومزج الجد باللعب. حتى يكون ذلك أدعى لتقويم النفس، وتعويدها على الشجاعة والإقدام.(26/321)
ثم إن عمر رضي الله عنه يبغض الملاهي من حضور المعازف، والاستماع إلى الأغاني، وترديدها. وتأْثيرها في حياة الشباب، والانحراف بقلوبهم عن طريق الحق والصواب. والاشتغال بها قد يضيع على الشباب كل ما يفيده وينفعه في دنياه وآخرته.
ويوصي رضي الله عنه بأن يحرص كل غلام على قراءة جزء من القرآن الكريم كل يوم، والتثبت في قراءته، حتى ينطبع في قلبه حب القرآن والعمل بهِ.
ثم يختم رسالته بالاستعداد للجهاد، وبإعداد فتيان المسلمين وشبابهم وتمرينهم على استعمال القوس والنبل، وإجادة الرمي، حتى إذا دعا داعي الجهاد، كانوا على أتم الاستعداد لقتال العدو ومغالبته والانتصار عليه.
كان لعمر بن عبد العزيز من البنات: أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد حرص رضي الله عنه على تزويدهن بالنصيحة، وبطاعة الله، والعمل على مرضاته، والرضا بما قسم لهن، وقد استطاع حينما تولى الخلافة، أن ينقلهن معه من حياة الترف والعز والنعيم الذي كن يعشن فيه إلى مشاركة أبيهن فيما اتخذ له من طريق ارتآها الموصلة إلى سعادة الآخرة التي اختارها فهي طريق النجاة والفوز، فما عند الله خير وأبقى.
لقد شاركن الأب في حياة الزهد والتعفف والتقشف، وكن سعداء مع هذا الوالد، الخائف من الله، والمتقرب إليه، والذي يحاول إرضاءه.
كان عمر يصلي العتمة كل ليلة، ثم يدخل على بناته، فيسلم عليهن، دخل عليهن ذات ليلة، فلما أحسسنه، وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب.
قال عمر للحاضنة: ما شأنهن؟
قالت إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل، فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن.
فبكى عمر، ثم قال لهن:
يا بناتي ما ينفعكنَّ أن تعشين الألوان، ويمر بأبيكن إلى النار فبكين حتى علت أصواتهن، ثم انصرف.
مرت أمينة ابنة الخليفة عمر بن عبد العزيز يوما عليه وهو جالس، فدعاها الخليفة:
يا أمين، يا أمين.(26/322)
فلم تجبه، فأمر إنسانا فجاء بها، فقال:
ما منعك أن تجيبي.
قالت:
إن ملابسي ليست حسنة!
فقال: يا مزاحم، انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصا .
فذهب إنسان إلى أم البنين عمتها فقال:
ابنة أخيك ليس عندها من الملابس ما تستحسنه، وأنت عندك ما عندك، فأرسلت إليها بتخت من ثياب، وقالت:
ويروي ابن عبد الحكم في سيرة عمر: أن ابنته أرسلت إليه بلؤلؤة وقالت له:
يا أبتي إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها حتى أجعلها في أذني.
فأرسل لها بجمرتين ثم قال لها:
إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك بعثت إليك بأخت لها!!.
كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يتولى الخلافة يعيش في نعيم مقيم، وترف لم يره أموي، وهبت له هبات كثيرة- غير ما ورثه- وضياع منتشرة في كل الآفاق، كان له أرض تُدرّ عليه الغلات الكثيرة في الحجاز والشام ومصر واليمن والبحرين. فدخل له من الأموال ما لا يحصى.
قال ابن عبد الحكم:
"وكان عمر بن عبد العزيز أعظم أموي ترفها وتملكا غذي بالملك، ونشأ فيه، لا يعرف إلا وهو تعصف ريحه فتوجد رائحته في المكان الذي يمر فيه، ويمشي مشية تسمى "العمرية"فكان الجواري يتعلمنها من حسنها، وتبختره فيها، وأنه ترك كل شيء كان فيه لما استخلف غير مشيته، فإنه لم يستطع تركها، فربما قال لمزاحم:
ذكرني إذا رأيتني أمشي فيذكره فيخلطها، ثم لا يستطيع إلا إياها فيرجع إليها".
وبلغ عمر من رفاهيته قبل الخلافة أن الناس كانوا ينتظرون يوم أن تؤخذ ملابسه إلى المغسل، لتغسل ملابسهم بعد ملابسه حتى ينالها الكثير مما نزل منها من الطيب في الماء.
لكنه ترك كل هذا لحظة تولى الخلافة، ورأى أنه مسئول مسئولية كاملة أمام الله عن الدين وعن العباد بادئا بنفسه وأهله، راجيا أن ينجو من العقاب في آخرته.(26/323)
كان له من البنين عبد الله وأبو بكر وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى والوليد وعاصم ويزيد وعبد العزيز وعبد الملك ولم يأل جهدا في تربيتهم ونصحهم وتدريبهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.
حكى عن ابنه عبد العزيز وكان يلي المدينة ومكة- بعد موت أبيه- ليزيد بن عبد الملك، وثبته فيهما مروان بن محمد، أن أباه كان دائم الوصية له ولإخوته ومما كان يقول له: "يا بني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملا على الخير".
ومما روي أن ابنه عبد الله ذهب إليه، وقال له: اكسني يا أبت!
فقال له: اذهب إلى الخيار بن رباح البصري، فإن لي عنده ثيابا فخذ منها ما بدا لك.
قال: فذهبت إلى الخيار بن رباح، فقلت له: استكسيت أبي، فأرسلني إليك، وقال: إن لي عند الخيار بن رباح ثيابا.
قال: صدق أمير المؤمنين، فأخرج إليه ثيابا رخيصة، رأى عبد الله ابن الخليفة أَنها لا تناسبه، فسأل الخيار: هل عندك غيرها له؟
قال: ما عندي غيرها لأمير المؤمنين فخذ منها ما بدا لك.
لم يأخذ عبد الله منها شيئا، ورجع إلى أبيه عمر، فقال: يا أبتاه، استكسيتك فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثيابا ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي. قال: فذاك ما لنا عند الرجل. فانصرف عبد الله حتى إذا كاد يخرج ناداه فقال له: هل لك أن أسلفك من عطائك مائة درهم؟
قال: نعم يا أبتاه.
فأسلفه مائة درهم، فلما خرج عطاؤه حوسب بها، فأخذت منه!
وقال مسلمة بن الخليفة عبد الملك يذكر عطاء عمر لأولاده:
"رحم الله عمر والله لقد هلك وما بلغ ابن له قط شرف العطاء"
كان عمر يكره أن يلي أحد أولاده ولاية أو منصبا، مكتفيا بنفسه حيث سيحاسبه الله على كل صغيرة وكبيرة متأسيا بجده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حيث خوطب في تولية ابنه عبد الله بن عمر فأبى وقال: أعمر وابنه؟!!(26/324)
روى أن عمر بن عبد العزيز قال لبنيه:
"أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا فينطلق تصلصل به جلاجل البريد؟
فقال ابنه أبن الحارثية [2] : لم تعرض علينا شيئا لست صانعه بنا؟
فقال عمر: إني لأعلم أن بساطي هذا يصير إلى البلى، وإني لأكره أن تدنسوه بخفافكم، فكيف أَقلدكم ديني تدنسونه في كل جند!! "
وروي أن بعض أولاد عمر اتخذ خاتما، واشترى له فصا بألف درهم فكتب إليه عمر:
أما بعد: فقد بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فبعه وأشبع ألف جائع. واتخذ خاتما من حديد صيني واكتب عليه: "رحم الله امرءا عرف قدر نفسه".
ولقد بلغ أولاده منزلة كبيرة بعد وفاته، وكانوا محل احترام القريب والبعيد في حياة عمر وبعد مماته، لما اتصفوا به من حسن خلق، وجميل صفات عفة وزهدا وأدبا، واضعين ما أخذهم به أبوهم نصب أعينهم حتى كان منهم المحدثون والولاة.
فكان ابنه عبد العزيز بجانب ولايته على المدينة ومكة في عهد يزيد بن عبد الملك والخليفة مروان بن محمد راويا للحديث.
ذكر له الحافظ أبو جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي أحاديث منها ما رواه عن صالح بن كيسان عن عثمان بن عفان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم خرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج: باسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شره".
وروى له أيضا عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صلى ركعتين قبل أن يتكلم رفعت في عليين".
وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز واليا على الكوفة بعد موت أبيه.(26/325)
ومن أنجب أولاده، وأزهدهم، وأقربهم من الله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وأمه ليست فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان زوجة عمر وإنما هي أم ولد فقد أنجب منها عمر عبد الملك هذا والوليد وعاصما ويزيد وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله. كان أزكى أولاده عقلا، وأحدهم تفكيرا، وأقواهم إيمانا، وأشدهم- على الرغم من صغر سنه- خوفا من الله! وأصبرهم على البلاء.
وكان منذ طفولته أكثر إخوته التصاقا بأبيه، ملازما له، معاونا له في الشدائد، ناصحا له في العمل، داعيا له، مخوفا لأبيه من لقاء الله مع صغر سنه، حتى لقد روى عن بعض مشيخة أهل الشام قال: "كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أَدخله في العبادة ما رآه من ابنه عبد الملك"!.
كتب عمر إلى عبد الملك ابنه مرة فقال: "إنه ليس من أحد، رشده وصلاحه أحب إليّ من رشدك وصلاحك، إلا أن يكون والي عصابة من المسلمين، أو من أهل العهد يكون لهم في صلاحه، ما لا يكون لهم في غيره، أو يكون عليهم من فساده، ما لا يكون لهم من غيره".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ابنه عبد الملك وهو صغير وقد ظهرت عليه مخايل النجابة والفهم الواعي، وقد خصه والده بالعناية والاهتمام قال في رسالته إليه:
أما بعد: فإن أحق من تعاهدت بالوصية والنصيحة بعد نفسي أنت، وإن أحق من وعى ذلك، وحفظه عني أنت.
إن الله له الحمد قد أحسن إلينا إحسانا كبيرا بالغا في لطيف أمرنا وعامته، وعلى الله إتمام ما غبر من النعمة، وإياه نسأل العون على شكرها.(26/326)
فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك. ثم أعن أباك على ما قوي عليه وعلى ما ظننت أن عنده فيه عجزا عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك، فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تحميدا وتسبيحا وتهليلا، فافعل فإن أحسن ما وصلت به حديثا حسناً حمد الله وشكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثا سيئا حمد الله وذكره، فلا تفتتن فيما أنعم الله به عليك فيما عسيت أن تقرظ به أباك فيما ليس فيه.
إن أباك كان بين ظهري إخوته يفضل عليه الكبير. ويدنى دونه الصغير، وإن كان الله- وله الحمد- رزقني من والدي حسبا جميلا. كنت به راضيا أرى أفضل ببره ولده عليّ حقا حتى ولدت وولدت طائفة من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغبا في الجنة، وهاربا من النار فالآن التوبة مقبولة والذنب مغفور قبل نفاد الأجل وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين، ليدينهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يَرِده الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتا إلى منازلهم.
فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل لمن عصى الله. فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك، وقل كما قال العبد الصالح: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (سورة النمل آية 40) .(26/327)
وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامة لك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، وتركت منازل الفقر، وكنت ممن طغى للغنى، وتعجل طيباته في الحياة الدنيا، فإني لأعظك بهذا، وإني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويعمل في الذي خلق له من عبادة ربه إذن لتواكل الناس الخير، وإذن لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة الجاثية 36- 37) .
هذا الابن البار. والذي أخذه والده بالنصيحة. لم يمض عليه زمن يسير، حتى أصبح الأب الخليفة ينتظر منه توجيها له نصيحة يقدمها بين يديه. ورأيا صائبا يعرضه عليه. وأمرا يخوف أباه منه، ودرجة عند الله يغري بها الابن والده. وأصبح عمر ينتظر كل يوم جديدا من عبد الملك ينقذه به من غفلة ومن سهو حتى لقد قال سيار بن الحكم:
"كان ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك. وكان رحمه الله يفضل على عمر. قال: يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار".
وروي أن عبد الملك دخل على عمر فقال:
- يا أمير المؤمنين إن بي حاجة فأخلني- وعنده مسلمة بن عبد الملك- فقال له عمر: أسر دون عمك.
قال: نعم.
وخرج وجلس بين يديه. فقال:
يا أمير المؤمنين. ما أنت قائل غدا لربك إذا سألك، فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها؟
فقال عمر: يا بني أشيء حملّك الرعية إليّ أم رأي رأيته؟
قال: بل رأي رأيته من قبل نفسي. وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل؟.
قال أبوه:
رحمك الله، وجزاك من ولد خيرا، فإني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير.(26/328)
يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة. ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم.
أو ما ترى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين.
وجلس عمر بن عبد العزيز يوما للناس، فلما انتصف النهار ضجر وملَّ وكلذَ، فقال للناس: مكانكم حتى أنصرف إليكم. ودخل ليستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك، فسأل عنه، فقالوا: دخل.
فاستأذن عليه. فأذن له، فلما دخل قال:
يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟
قال:
أردت أن أستريح ساعة.
قال عبد الملك رحمه الله:
أو أمنت الموت أن يأتيك، ورعيتك على بابك ينتظرونك. وأنت تحتجب عنهم!!
فقام عمر من ساعته، وخرج إلى الناس.
وقال عبد الملك مرة يا أمير المؤمنين ما يمنعك أن تمضي الذي تريده، فو الذي نفسي بيده ما أبالي أن لو غلت بي وبك القدور!!
قال:
وحق هذا منك!
قال: نعم والله.
قال عمر:
الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني، يا بني: إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بدا من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف. يا بني: إني أروض الناس رياضة الصعبة. فإن بطأ بي أرجو أن ينفذ الله مشيئتي. وإن تعدد على منيتي فقد عدم الله الذي أريده.
ودخل عبد الملك على أبيه الخليفة عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيت، وقد تركت حقا لم تحيه. وباطلا لم تمته؟.
قال: اقعد يا بني.(26/329)
إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس الحق، فانتهت الأمور إلي. وقد أقبل شرها وأدبر خيرها. لكن ليس حسنا جميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم لا أحييت فيه حقا. وأمت فيه باطلا. حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك.
وغضب عمر يوما واشتد غضبه، فلما سَكت عنه. قال له عبد الملك:
يا أمير المؤمنين في قدر نعمة الله عندك، وموضعك الذي وضعكم الله به وما ولاك من أمر عباده أن يبلغ بك الغضب ما أرى.
قال عمر:
كيف قلت؟
فأعاد عبد الملك كلامه.
فقال عمر:
أما تغضب أنت يا عبد الملك؟
فقال الفتى رحمه الله:
ما يغني عني جوفي إن لم أرد الغضب فيه حتى لا يظهر منه شيء.
اجتمع نفر من بني أمية من الذين يريدون المال والجاه والسلطان الدنيوي إلى عبد الملك بن عمر فقالوا له:
إن أباك قطع أرحامنا، وانتزع ما في أيدينا. وعاب على سلفنا وإنا- والله- لا نصبر على ذلك، فقل له يكفي عما نكره. ففعل ذلك عبد الملك. ودخل عليه فأخبره بذلك.
فكأن عمر وجد في نفسه مما قال، فقال له عبد الملك:
يا أمير المؤمنين امض لما تريد، فوالله لوددت أنه قد غلت بي وبك القدور في الله
فقال له:
جزاك الله خيرا يا ولدي، الحمد لله الذي شد ظهري بك يا عبد الملك.
لم يتجاوز عبد الملك السابعة عشرة من العمر حتى أصبح مستشارا للخليفة، لا يُقْضى أمر إلا بعبد الملك، فكان كلما أشكل موضوع نادى المقربون والفقهاء عبد الملك، ليقضى الأمر برأيه حتى صار على صغره في الصف الأول من فقهاء الشام علما وزهدا وورعا. حتى لقد قالوا عن عبد الملك "إنه أعجوبة تاريخ ونادرة فلك".
عرض عمر رضي الله عنه يوما على وزيره مزاحم ما يفعله ببعض المال، وكان ذلك العرض أمام الناس فقال مزاحم:
ولدك يا أمير المؤمنين أحق به!
فلما بلغ عبد الملك ما قاله مزاحم. أسرع إليه فلقيه فقال له: بئس وزير الخليفة أنت يا مزاحم!(26/330)
ثم انطلق إلى أبيه ولم يزل به حتى دفع ذلك المال إلى بيت المال وحذره من وزراء السوء.
وكان عمر يرى أن الأموال التي أخذت من الناس في غير عهده ظلم ليس مسئولا عنها. واختلف الفقهاء. ولم يصلوا لرأي، فقالوا: نادوا عبد الملك.
فقال رحمه الله:
يا أمير المؤمنين أرى أن تردها، فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها.
مواقف عديدة وكثيرة لعبد الملك. ولا يملك الأب الخليفة إلا أن يضم ابنه النابغة إلى صدره ويشبع رأسه ووجهه لثما وتقبيلا.
هذا الابن البار بأبيه. والذي أوشك على السن التي يقضي بها بين الناس، أصبح فجأة عديم الحركة، قليل الكلام، ملازم الفراش، يتلوى من الألم.
كثر دخول الأطباء وخروجهم. والأب مشغول بالرعية. يمر على فتاه من وقت لآخر. والله أعلم بما يكابد.
ولكن العلة أحكمت. وزاد المرض، والتفت عمر إلى الأطباء فقالوا:
إذا مس الطاعون وهو قرحة فوجد لينا طمع لصاحبه في البرء منه. وإن كان خشنا يئس من صاحبه.
دخل الخليفة على فلذة كبده، فقال.
دعني أمس قرحتك. فكَره عبد الملك أن يمسّها أبوه فيجزع. وكانت متحجرة خشنة، فقال:
أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ فعلم عمر لم منعه، فقال:
ولم يا بني؟ فو الله لأن أقدّمك فأجدك في ميزاني أحب إلي من أن تقدمني فتجدني في ميزانك.
فقال الابن البار:
وأنا يا أمير المؤمنين، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب، فلمسها، فقال:
يا عبد الملك، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران آية 60) .
فقال:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (سورة الصافات آية 103) .
غاب الأب قليلا، ثم رجع ملهوفا إلى ابنه، فوجده يجود بنفسه، فقال:
كيف تَجِدك يا بنَي؟
قال:
أجدني في الموت، فاحتسبني يا أمير المؤمنين، فإن ثواب الله خير لك مني.
قال عمر:(26/331)
رضي الله عنك يا بنيّ، فإنك لم تزل تَسر أباك، وأنت في الخِرَق، وما كنت قط أسَرّ إليّ منك حيث يصيّرك الله في ميزاني، فرضي الله عنك، وعن كل شاهد وغائب دعا لك بالخير.
وما كاد عمر يخرج، حتى عاد إلى ابنه، وكان قد فارق الحياة، فكشف عن وجهه، وأنعم النظر....... ثم قال:
رحمك الله يا بني، سررت بك يوم بشرت بك، ولقد عُمرّت مسرورا لك، وما أتت عليّ ساعة أنا بك فيها أسر مني بك من ساعتي هذه، أما والله إن كنت لتدعو أباك إلى الجنة!
دعا عمر رضي الله عنه أبا قلابة. وكان يستعد لغُسْل عبد الملك رحمه الله، وقال إذا غسّلته وكفنته، فآذنى به قبل أن تُغَطي وجهه، فنظر إليه ثم قال:
رحمك الله يا بُنَيّ وغفر لك.
وخرج الناس بسريره ليصلى عليه، فصف عمر الناس، ثم قام حيال صدره أو رأسه ثم قال:
هكذا يقوم ولي الرجل من الرجل، ومن المرأة يقوم حيال وسطها، فلما صار إلى القبر، دخل فيه وأخذ برأس ابنه حتى وضعه في اللحد.
قال زياد بن حسان:
إنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك رحمه الله وسوى عليه التراب، سووا قبره بالأرض، وصنعوا عند رأسه خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، واستوى قائما.
فلما رآه الناس قائما قاموا، فقال اجلسوا، فإنما يجب القيام على أَولياء الميت.
فلما انتهى من قبول التعزية أحاط به الناس، فنظر إلى قبر ابنه ثم قال:
والله يا بني لقد كنت برا بأبيك، والله مازلت مذ وهبك الله لي مسرورا بك، ولا والله ما كنت قط أشد سرورا، ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله فيه. فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم الله لكل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين".(26/332)
انصرف عمر راجعا وفي أثناء سيره رأى قوماً يرمون، فلما رأوه أمسكوا فقال: ارموا، ووقف عليهم.
فرمى أحد الرامين، فأخرج، فقال له عمر:
أخرجت، فقصّر.
ثم قال للآخر:
ارم.
فرمى، فقصّر فقال له عمر:
قصرت فبلغ.
فقال له مسلمة:
يا أمير المؤمنين أيفرغ قلبك لما يفرغ له، وإنما نفضت يدك من تراب قبر ابنك الساعة، ولم تصل إلى منزلك بعد؟!
فقال له عمر:
يا مسلمة، إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فَالْهَ عما فاتك.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز وهو يدفن ابنه عبد الملك رأى رجلا يشير بشماله.
فقال له:
يا هذا إذا تكلمت فلا تشر بشمالك، أشر بيمينك.
فقال الرجل:
ما رأيت كاليوم أن رجلا دفن أعز الناس ثم إنه يهمه شمالي ويميني.
خطب عمر بن عبد العزيز الناس بعد وفاة ابنه عبد الملك فكان مما قاله:
إن الله جل ذكره لم يجعل مسيء ولا لمحسن خلودا في الدنيا، ولم يرْضَ بما أعجب أهلها ثوابا لأهل طاعته. ولا ببلائها عقوبة لأهل معصيته، فكل ما فيها من محبوب متروك، وكل ما فيها من مكروه مضْمَحل.
كتب على أهلها الفناء، وأخبر أنه يرث الأرض ومن عليها، فاتقوا الله واعملوا ليوم {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} (سورة لقمان آية 33) .
كتب رجل إلى عمر يعزيه فأجابه:
إني لم أزل في صحة منه وسلامة، موطنا نفسي على فراقه والسلام.
وكتب عمر إلى عماله:
إن عبد الملك بن عمر كان عبدا من عبيد الله أحسن إليه وإلى أبيه فيه. أعاشه ما شاء. ثم قبضه إليه، وكان ما علمت- والله به أعلم- خيرا. ومن صالحي شباب أهل بيته قراءة للقرآن. وتحريا للخير. وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله. فإن ذلك يحسن بي في إحسانه إلي. وتتابع نعمه عليّ.(26/333)
وقد قلت عند الذي كان بما أمر الله عز وجل أن أقوله عند المصيبة، ثم لم أجد بحمد الله إلا خيرا. ولا أعلم ما بكت عليه باكية. ولا ناحت عليه نائحة، ولا اجتمع لذلك أحد؛ فقد نَهيْنا أهله الذين هم أحق بالبكاء عليه.
لقد درب عمر منذ الصغر وقبل الخلافة على مواساة الناس، وإظهار منزلة الصبر في حياة المؤمن، والعمل بما وعي وفهم، مستمدا كل هذا من معاملته مع ربه، قوي الإيمان، ثابت العقيدة.
قال له الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يوما: يا عمر هل يكون المؤمن في حالة تنزل به المصيبة، فلا يألم لها؟
قال عمر:
لا، يا أمير المؤمنين، لا يكون أن يستوي عندك ما تحب وما تكره، أو تكون الضراء والسراء عند أحد سواء. ولكن مُعوّل المؤمن الصبر.
كان الناس يتكاثرون، يبكون ويواسون الخليفة عمر بن عبد العزيز، قاصدين التخفيف عن أمير المؤمنين في موت عبد الملك ابنه، ولكن عمر كان يسبقهم بالنصيحة والموعظة.
وقف مرة بين الناس، وهم يواسونه، فكان مما قاله:
الحمد لله الذي جعل الموت حتما واجبا على خَلْقه، ثم سوَّى بينهم، فقال:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران 185، الأنبياء35، العنكبوت 57) .
فليعلم ذوو النّهى أنّهم صائرون إلى قبورهم، مفْرَدون بأعمالهم، واعلموا أن عند الله مسألة فاضحة، فقال عز وجل:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. َ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الحجر آية 92) .
قال أبو الحسن المدائني: أخبرنا العباس بن معاوية قال:
عزى محمد بن الوليد بن عتبة بن أبى سفيان عمر بن عبد العزيز عن ابنه عبد الملك فقال:
يا أمير المؤمنين، ليَشْغَلْك ما أقبل من الموت إليك عمن هو في شغل عما دخل عليك، واعْدد لما ترى عُدّة تكون لك جُنَّةً من الحزن، وسِتْرا من النار.
فقال عمر: فَهَلْ رأيْتَ حزنا يُنْكر أو غفلة أنبّه لها؟
فقال:(26/334)
يا أمير المؤمنين، لو أن رجلا ترك تعزية رجل، لعلْمِه وانتباهه لكُنْتَه، ولكنّ الله قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين.
رثى الناس عبد الملك، وتكلم الكثيرون عن فضله مع صغره وذكائه النادر، وعلمه الغزير، وعمر يتقبل كل هذا بصبر الواثق بما عند الله، وكان مما قيل ليواسوا به عمر، وليصرفوا عنه حزنا ألم به.
لما قد ترى يغذى الصغير ويولد تَعَزّ أمير المؤْمنين فإنّه
لكل على حوض المنية مورد هل ابنك إلا من سلالة آدم
ثم مرض عمر بن عبد العزيز بعد موت عبد الملك، وكان من آخر ما تكلم به عمر أن قيل له: لقد تركت أولادك صغارا وهم كثيرون، وليس لهم مال، ولم تولهم إلى أحد، قال:
ما كنت لأعطيهم شيئا ليس لهم. وما كنت لآخذ منهم حقا لهم. أولي فيهم الذي يتولى الصالحين، إنما هؤلاء أحد رجلين رجل أطاع الله ورجل ترك أمر الله وضيعه.
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فقال: يا أمير المؤمنين.
من توصى بأهلك؟
فقال عمر رضي الله عنه:
إذا نسيت الله فذكرني.
فأعاد عليه القول مسلمة قائلا: من توصي بأهلك؟
فقال عمر:
إن وليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في رواية أخرى فقال:
يا أمير المؤمنين ألا توصي؟
قال عمر:
وهل من مال أوصي فيه؟
فقال مسلمة:
مائة ألف أبعث بها إليك. فهي لك فأوص فيها.
قال:
فهلا غير هذا يا مسلمة.
قال:
وما ذاك يا أمير المؤمنين.
قال عمر رضي الله عنه:
تردُّها من حيث أخذتها!!
فبكى مسلمة، وقال:
رحمك الله لقد ألنت منا قلوبا كانت قاسية، وزرعت في قلوب الناس مودة، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا [3] .
وروي أيضا:
أن مسلمة دخل على عمر في مرض موته فقال:(26/335)
إنك أفقرت ولدك من هذا المال فتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى نظرائي من أهل بيتك.
فقال عمر رضي الله عنه:
أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال فو الله إني ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم.
وأما قولك: لو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتك. فإن وصيتي ووليي فيهم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
بنيّ أحد رجلين إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجا، وإما رجل مكب على المعاصي فإني لم أكن أقويه على معصية الله.
ثم بعث إليهم- وهم بضعة عشر ذكرا- فنظر إليهم، فذرفت عيناه فبكى ثم قال:
بنفسي الفتية- كما يقولون- تركتهم عيلة لا شيء لهم، فإني بحمد الله قد تركتهم بخير.
أي بَنِيَّ إنكم لن تلقوا أحدا من العرب ولا من المعاهدين إلا أن لكم عليهم حقا.
أي بَنِيّ إن أباكم ميل بين أمرين بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله!!
روى أحد المؤرخين قال:
مات الخليفة هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنا، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف دينار، ورأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل ورأيت ولد هشام يُتَصدق عليه.
رحم الله عمر بن عبد العزيز وأولاده ورضي عنهم أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أم عمر بن عبد العزيز هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قيل اسمها: ليلى أو قريبة أو عنبة تزوجها عبد العزيز فولدت له عمر (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم) .
[2] من زوجات عمر لميس بنت علي بن الحارث وأنجب منها عبد الله وبكر وأم عمارة.(26/336)
[3] التعازي للمبرد ص 62(26/337)
الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (2)
للدكتور محمد نغش
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
كتاب بشأن الحصن الذي استجده الفرنج وهدمه السلطان صلاح الدين.
أرسل القاضي الفاضل إلى بغداد رسالة عن هدم هذا الحصن الحصين، وقدم لها مقدمة طويلة تشمل- كالعادة- تمجيداً للخليفة العباسي، والدعاء له، ومما جاء فيها:
"الدولة العباسية الإمامية المستضيئة، يرفع الله منارها، ويعمر قلوب البشر من بشائرها الموجبة لاستبشارها، ويحرز لها من الفتوحات التي تتدارك لها خواطر القنوط، وتمد الرجاء بعد تقلص ظله المبسوط، وتمضي لها من عزائم الأولياء، وتذل بها من أعناق الأعداء، ويظهر من دلائل العنايات بأمرها، ويرسل ملائكة سمائية إلى أرضه لنصرها ويقشع من ظلمات الخطوب برايتها السوداء ويدها البيضاء، ونعمتها الخضراء، وبحور أنعامها الزرقاء، وسيوف انتقامها التي تخرق الآجال برايتها الحمراء [1] .
استدعى السلطان صلاح الدين أخيار البلاد الشامية وعشائرهم، وكتائب من التركمان، وحمل إليهم الأموال وآلات القتال، ومن بينها المنجنيقات وعددها، وسلاليم لمرمى القلاع ومصعدها.
وسار بهذا الجيش الجرار إلى المخاضة في يوم السبت 19 ربيع الأول سنة 575 هـ – 25 أغسطس 1179 م.
وهنا يصف القاضي الفاضل الحصن الحصين. فهو مبني على تلال وعرة عالية. وأبراجه مرتفعة متينة، وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذع، وبني من حجارة صلدة، توعز للحديد بأنه من الصعب هدمه.
وبداخل الحصن ما يزيد على أَلف وخمسمائة رجل، ولديهم الجروخ [2] الوثيقة، "وقد نصبت عليه مجانيق يروع خاطر الجسارة منظرها، وتلتهم الحصون فكيف الخيام حجرها؟، ويسري إلى الأجساد خبرها، وحفر له خندق أحاط بالمدينة سرادقه، وفتحت أبوابها ثقة بما صانته مغالقه، وقد بنوه حتى لا تنهار حروفه، ووسعت حتى لا تنجار جروفه [3] .(26/338)
ثم ركب السلطان صلاح الدين ثاني يوم الأحد إلى صفد، فقطع منها قضب الكروم والأخشاب، فأما الكروم فليجعلها ستائر للمنجنيقات للتمويه على العدو مثلما تفعل الجيوش المحاربة في العصر الحاضر، وأما الخشب ونشارته فبغرض إيقاد النار في أسوار الحصن بعد نقبها.
وعاد السلطان صلاح الدين في نفس اليوم إلى المخاضة، واستقر رأيه على قتال الحصن بطريقتين، وهما القتال زحفا مع نقب الأسوار في آن واحد.
ونقف قليلاً أمام هذه العبارة "وعلم- أي صلاح الدين- أن أمراً أَوله الاستخارة، وأوسطه الاستشارة، وخاتمته الجسارة، فإن الجامع بينها لا يندم [4] ".
ففيها رغم إيجازها وصف كامل للحالة النفسية للمقاتلين الذين يستعينون بالله على محاربة عدوهم، ثم يليها استشارة القائد ضباطه لأخذ آرائهم، ثم الشجاعة والجرأة التي تنجم عن تعبئة روحية عالية، تكون النتيجة الظفر على الأعداء بإذن الله.
ثم يلي ذلك وصف المعركة، ومنه: "وفي الحال أَطافت بالحصن المقاتلة من جميع أقطاره، ولبوا تلبية الحجيج، وكل يرمي جمرة سهم، وعبرت الآجال المسماة على قناطر القسي المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة كأنها مستلئمة بسلاحها، أو كأنها لكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور قد أظهرت حسك [5] الضغائن، أَو كأن أبرجتها لازدحام السهام بها كتائن [6] ، فنجدد عليهم حصر بان في البيوت بعد الحصر في المدينة، وضاق مجال اليد عن أنجاد خواطرها اللعينة المبينة، وفي الحال هجم الأولياء على الحوش، وحازوا الخندق وأطلقوا النيران فتبسطت خطواتها، وتسلطت سطواتها، وأحاطت بالأعداء خطياتها" [7] .(26/339)
ولم ير الصليبيون بداً من النجاة بأنفسهم إلى أسوار الحصن ليحموا أنفسهم وحصنهم حتى يأتي إليهم المدد من طبرية، غير أن المسلمين ألحوا في القتال رغبة في الوصول إلى نتيجة حاسمة قبل وصول المدد، وأدرك الليل قبل أن تتضح النتيجة فأمر السلطان صلاح الدين بالمبيت في الباشورة إلى الغد، وفي الصباح باشر النقابون تنقيبهم في أسوار الحصن وهي بالغة الفخامة. حتى بلغ طول النقب ثلاثين ذراعا في عرض ثلاثة أذرع، وحشى النقب بالحطب، وأشعلت فيه النيران فلم يسقط أيضاً. ولذا أمر السلطان صلاح الدين بإطفاء النار ليتم نقبه، وعاد النقابون إلى عملهم حتى خرَقوا السير وعمقوا الخرق، ثم حشوه بالقش والحطب وأشعلوا النار، فسقط السور يوم الخميس 24 ربيع الأول سنة 575 هـ= 30 أغسطس 1179 م. وكان الصليبيون قد جمعوا وراءه حطباً، فلما وقع السور دخلت الرياح فردت النار على من به، وأحرقت بيوتهم وطائفة منهم، واجتمع الباقون إلى الجانب البعيد من النار وطلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين. وغنم المسلمون مائة ألف قطعة من الحديد من جميع أنواع الأسلحة، عدا ألف زردية، فضلا عما كان في الحصن من أقوات كان الصليبيون قد اختزنوها استعدادا لمقاومة طويلة.
ووجد السلطان صلاح الدين بداخل الحصن من أسرى المسلمين ما يزيد على مائة رجل، فأمر بنزع القيود من أرجلهم، ووضعها في أرجل الصليبيين المأسورين البالغ عددهم نحو السبعمائة.
وتقدم السلطان صلاح الدين فاقتلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وطم جب الماء الذي حفره الصليبيون وسط الحصن، بأن ألقى فيه القتلى من الصليبيين والمحترق من دوابهم، واستمر مقامه ثلاثة أيام، إلى أن دمر ما كانوا يصنعون. وأعز الله الإسلام، وأمر أمره، ونصر الإيمان، وكان حقاً على الله نصره.(26/340)
ثم سار صلاح الدين إلى أعماق طبرية وصور وبيروت، وأنزل بالصليبيين الذين احتلوها الهلاك وبحصونها الدمار، وثل عروشها. وأحل بالكفار الهزيمة المنكرة في ثلاثة أيام وهو في طريقه إلى دمشق.
وعاد السلطان صلاح الدين إلى دمشق في يوم الخميس 19 ربيع الآخر سنة 575 هـ= 29 سبتمبر 1180 م بالنصر الظاهر. والظفر الباهر. فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح [8] .
والقاضي الفاضل يشيد بهذا الفتح الذي يعد فتوحا، قد ضاعف الله بها بهاء الإسلام والملة، وأن هذا الفتح كليلة القدر جمالا وبهاء وقدسية، وأنه قام مقام تجديد شباب الإسلام بل مقام مولده.
ثم يعرج إلى مدح الخليفة العباسي من خلال تمجيده لهذا الفتح، فمن ذلك قوله:
"وقد تخير الله له- أي الفتح- أفضل زمان، وتخير للزمن أفضل قائم، واشتملت أيامه على فتوحات يوصل منها كل خال بتال، ويتجدد منها كل قديم بقادم [9] .
ويحسن القاضي الفاضل الانتقال إلى. موضوع قلج أرسلان إذ يقول: "وسقط جوده الفائض غرس إحسانه، بأعذب وأطهر من سلالة الغمائم، فلا يزال ذلك الغرس مستثمراً لا تخلف دلالته، وذلك الصفو جمالاً ينزف زلالته، غير أن الشوائب لا يخلو منها دهر، والعوارض لا يصفو منها صدر [10] ".
فقد كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة بالروم، وأولياؤه بآسيا الصغرى ممن يكرهون قيام دولة كبيرة على أنقاض الدولة النورية [11] .
فبينما كان السلطان صلاح الدين مشغولا بالصليبيين، تحرك قلج أرسلان نحو حلب، وحاصر حصن رعبان مدعياً أن نور الدين اغتصبه منه، وأن السلطان الصالح إسماعيل أمر برده إليه، ولم يقم صلاح الدين وزنا لهذا الادعاء، فكلف ابن أخيه تقي الدين عمر والأمير سيف الدين مشطوب بصده، وقد نجحا في مهمتهما، وقضيا على مطامعه التوسعية في تلك الجهة [12] .(26/341)
ويوضح القاضي الفاضل أن السلطان صلاح الدين قضى بذلك على تطرف قلج أَرسلان وتطرفه في ادعائه المذكور، وأنه قطع عروة تعلقه بالفساد وبدد أحلامه التوسعية.
ولم يكن أمام السلطان صلاح الدين غير هذا السبيل، فقد أتى قلج أرسلان بكبيرة يحل بها قتاله، وأقدم على عظيمة يجب بها استئصاله. وتوجب الضرورة حينئذ موادعة الكفار ليكون الذرع خاليا لأمره، والأمر مصروفاً عنانه إلى عقره، والرمح مسدداً سنانه إلى عقره [13] .
والقاضي الفاضل يستكثر من قلج أرسلان أن يهاجم سلطنة صلاح الدين القاهرة، التي لم تجد خصما يقهرها، وينزل بأرضها. ولذا فقد قرر السلطان صلاح الدين أن يمهل العدو الصليبي، إلى أن يؤدب هذا المعتدي الباغي، الذي يشق عصا الطاعة على الإسلام بتعديه وظلمه.
وقبل أن تنتهي هذه الرسالة يرد ذكر قاض كريم الخلال قائم بتبليغ هذه البشارة، ولكن لم يذكر اسمه، وإن كانت قد تحددت المهمة المنوطة به، فهو نائب عن السلطان صلاح الدين يشرح بلسانه ما جاء في الرسالة، والتعليق على بنودها من عنده. وعليه أن يؤدي تحية الخلافة والثناء للخليفة.
وتختم هذه الرسالة بالدعاء هكذا: ((لازال المجلس السامي معان [14] الأماني ومأواها.
وموئل الرغبات ومثواها، ومجتبي ثمرات السعود ومجتلاها، وملقي رحال الندى ومبتداها إن شاء الله [15] .
رسالة عن فتح آمد:
وهذه الرسالة الطويلة كباقي الرسائل من هذا النوع، الذي يرسله القاضي الفاضل إلى الخلافة العباسية، كتذكرة بالأمجاد التي يؤديها السلطان صلاح الدين. ويطلب في أثنائها مجازاته بتقليده ما يفتحه من البلاد.
وهو في مقدمتها يمدح الخليفة العباسي، الذي امتد نفوذه، واشتد سلطانه فالأخبار تتوالى عنده مبشرة بانتصار أوليائه.(26/342)
ثم يصف القاضي الفاضل شعور السلطان صلاح الدين عند ورود التقليد إليه بولاية آمد. فقد فرح به وتناوله وكأنه كتاب أنزل من السماء أو نور يمشي به بين الناس، وسار من توه لفتح آمد (بلاد بكر الحالية) ، فوصلها في يوم الأربعاء17 ذي الحجة سنة 578هـ= أبريل سنة 1183 م.
ونرى القاضي الفاضل يسجل ما حدث قبيل الحرب في أمدا وينتقل بعدها لوصف المعركة نفسها، وما انتهت إليه.
فقد أمر السلطان صلاح الدين أن تكتب الرقاع للآمديين يعدهم بالخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، وانتظر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، أخذ في ردم أسوارها، إذ أرسل النقابين لنقبها، فما زالوا بها حتى نقبوها من عدة نواح، فضلاً عن رميها بالمجانيق. وهنا يتفنن القاضي الفاضل في تشخيص المعركة في أسلوب تشعر من خلاله بمدى ضراوتها، فهي كجهنم وقودها الناس والحجارة، وقد أزالت معالم المدينة، مثلما يزال جلد الشاة، والمنجنيقات تسقي الموت لأبرجتها ويعجز أهلها عن الذود عنها، والنقابون ينقبونها فيهتكون حجابها، فهو يصور في بلاغة، قوة البطش بها وبمن بداخلها.
ثم تسلم السلطان صلاح الدين آمد بأموالها وذخائرها، ورفع أعلامه على أسوارها يوم 14 محرم 579 هـ= 6 مايو 1183 م، فقد فضل الآمديون التسليم على المقاومة.
ويفتخر القاضي الفاضل بهذا الفتح المبين، وما تم بعد إحراز النصر المؤزر، فيقول: وهذه مدينة آمد، فهي مدينة ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مفدوغا أنفه، وإن كان محلاً، وقرعها مزيداً بهجة، وإن استصحب حفلاً، ورأى حجرها فقد رأته لا يقال له حجر وسوادها فحسب أنه لا يتوشحه فجر، وحمية أنف أنفها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر، من ملوك كلهم طوى صدره على العليل إلى موردها، ووقف بها وقفة المحب المائد فلم يفز بما أمل من جواب معهدها [16] .(26/343)
ثم وهب السلطان صلاح الدين البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرج أرسلان [17] وقد وعده بها من قبل [18] .
وقضى السلطان صلاح الدين على الحلف الذي تزعم عز الدين مسعود صاحب الموصل، واشترك فيه إيغلازي بن ألبي بن تمرتاش صاحب ماردين، ومغيث الدين طغول شاه بن قلج أرسلان، صاحب أرزن، وغيرهم.
ويطلب السلطان صلاح الدين في هذه الرسالة التقليد لا بالموصل وما علق به أهل الموصل، ذاكراً أن في ذلك خيرا كثيرا للدولة العباسية، حيث أنه لا يوجد بين ولاتها من له مثل فضله وأمجاده،. فيقول: ((هذه آمد لما أرسل إليه مفتاحها، وهو التقليد، فتحها، وهزه الموصل لما تأخر عنه المفتاح منعها وما منحها، ولو أعين به لعظمت على الإسلام عائدته، وظهر في رفع مناره فائدته. لأن اليد كانت تكون به على عدو الحق واحدة، والهمة لآلات النصر واجدة [19] .
ثم يبين للخليفة أن ذلك هو السبيل الوحيد إلى توحيد الأمة الإسلامية، والقضاء على الحروب الصليبية، والظفر بالمسجد الأقصى. وهو أغلى أمنية، فالسلطان صلاح الدين أبر أولياء الخليفة، وأشدهم على أعدائه، وأثبتهم رأياً وروية.
ويعود إلى الدعاء ولكن في هذه المرة للدين، إذ يقول: أعاد الله يا أمير المؤمنين هدى الدين إلى معالم حقه، وأطال يد سلطانه الطولى إلى أن أخذ الأمور مأخذها [20] . وهو يريد أن يعود إلى الإسلام مجده التليد.
ويختم رسالته هَكذا: (وللآراء علوها إن شاء الله [21] ".
الأمة الإسلامية
يقول لينين:
(يمكن أن تتحول كل أمة إلى الشيوعية إلا الأمة الإسلامية، لذلك يجب
العمل على تجريد المسلمين من إيمانهم أولاً..) .
من كتاب (من الرق إلى السيادة)
(لسامحة أي ويردي: التركية)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 75.(26/344)
[2] الجرخ (GARKH) مأخوذ عن الفارسية (تشرخ TCHARKH) وهو نوع من القوس الرامي، ترمي عنه النشاط أو النفط، هكذا تصفه النصوص وهكذا وصفه دوزي بأنه:
(UNEARBOLETE AVEC LA QELLE ON LANCAIT, SOIT DE FLECHES LE NAPHTE)
وقد ذكر مرضي بن علي في تبصرة أبصار الألباب ص 6، 8 (أربعة أنواع للقوس الرامي الذي يشبه المنجنيق، وهو قوس الزياد، قوس العقاد، قوس الرجل، ويقال للذي يرمي عن قوسه السهام أو النفط ((الجرخي)) ، ويقابله بالفرنسية (ARBALETRIER)
والجمع ((الجرخية)) ، وقد عقد الحسن بن عبد الله في كتابه آثار الأول ص 60 فصلا عن صفة القسي والنشاب، أضاف إليه فيه معلومات قيمة عن الشعوب التي تؤثر استعمال الجرخ، والقوس العقاد، وأين يستعمل كل منهما؟. لأن القوس الجرخ يصنع من القرن، والعقاد يصنع من الخشب.. الخ.
[3] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 77.
[4] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 78.
[5] الحسك: أداة من أدوات الحرب.
[6] الكتائن: مفردها كتانة: جعبة صغيرة من أدم للنبل.
[7] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 89.
[8] ابن الأثير: الكامل جـ 11ص 301، 303، أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 11، 13، ابن واصل مفرج الكروب جـ 2 ص 83، 85، المقريزي جـ 1 قسم 1 ص 69، والعين جـ 21 قسم 3 ص 614. Lane. Poob: saladin p. 159.
[9] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 83.
[10] نفس المرجع السابق.
[11] الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي المصري ص 51.
[12] أبو شامة: الروضتين جـ 2ص8، 9، ابن كثير: البداية والنهاية جـ 12ص 2.
[13] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 84.
[14] في الأصل مغان، ولعل الصواب ما أثبتناه، فالمعاني يراد بها الصفات المحمودة.
[15] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 85.
[16] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 71.(26/345)
[17] صاحب حصد كيفا، توفي سنة 581هـ = 1186م (النجوم الزاهرة جـ6ص98) .
Lane –Pool: saladin P. 170 [18]
ابن الأثير: الكامل جـ11ص320، أبو شامة جـ2ص41.
[19] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 72، 73.
[20] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 73.
[21] نفس المرجع السابق اللوحة 73.(26/346)
تفاعل المسلمين مع دينهم
للدكتور محفوظ إبراهيم فرج
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية
يحدثنا التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه أن المسلمين تكون لهم العزة والسيادة إذا تمسكوا بدينهم في جميع شئونهم. وإذا لم يكن لدينهم واقع في حياتهم دبّ الضعف في صفّهم وتداعى عليهم المعتدون كما تتداعى الأكلة على القصعة وليس ذلك عن قلتهم بل إنهم كثير- ولكنهم غثاء كغثاء السيل كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح.
وقد حمل المسلمون السابقون شريعتهم قوية فتية في إطار جميل من المعاملة الطيبة والاحترام الصادق للحقوق والأموال والأعراض.
وساعد على ذلك ما أدركوه وفقهوه من أن تلك الشريعة أشبعت حاجة الناس إلى القواعد العادلة للعلاقات الاجتماعية ولجميع المعاملات، فأيقظت بذلك الضمائر، وأحيت فيها رقابة الله تعالى، فقد علقت الامتياز والخيرية بأمر هو في إمكان الناس جميعا ذلك ما يوحي به قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وما نأخذه ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
وكان من تفاعل المسلمين مع دينهم أن سلوك الواحد منهم في حياته الخاصة والعامة كان انعكاسا لما يقوم به من طاعة وما يؤديه من عبادة مرتفعا عن الأغراض والأهواء لا تتحكم فيه الغرائز والميول.
تمتع المسلمون وهم على هذا المنهج القيم بالقوة والمنعة ودانت لهم الدنيا وملكوا العالم، وسادوا الشعوب ومكن الله لهم في الأرض وتحقق وعد الله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .(26/347)
ذلك أن مبادئ الإسلام الخالدة هي مبادئ الحضارة التقدمية، ولم يشهد التاريخ قوة للإسلام ولا عزة للمسلمين إلا حينما كانوا يتخلقون بما في هذه المبادئ من أخلاق وقيم.
والقوة في هذه المبادئ أنها تنتظم جميع الأفراد وأنها عامة يتساوى أمامها الأمير والصغير، والغني والفقير، فليس هناك تفاضل بالأموال أو الأنساب أو الجاه. وإنما التفاضل بالعمل الصالح والتنافس فيه.
وإذا قدر لواحد منهم أنه استجاب لداعي شهوة أو غريزة ذكر الله فاستغفره. كي تظل حياته عامرة بالإيمان. ولا يجد حرجا أن يعلن عن مخالفته ليرجع إلى الله بالتطهير مما اقترف ولو كان في ذلك قضاء على حياته. لعلمه أنها فانية، وأن الدار الآخرة هي الحيوان فنجد ماعزاً رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله زنيت فأقم عليّ الحدّ. فيراجعه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ويظل على رأيه لا يحيد عنه، فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.
وتجيء الغامدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول له: زنيت. هذا الحمل من سفاح فراجعها الرسول صلى الله عليه وسلم وتصر على الاعتراف فيؤخر الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد عليها حتى تضع حملها وتلد ويستغني الولد عن اللبن بالفطام. وتأتي بعد كل ذلك مختارة ليقام عليها الحد. فتطهر من الدنس الذي علق بها وتلقى الله وهو راض عنها.
كما نجد أن صحابيا تحت تأثير شهوة أتى امرأته في نهار رمضان ولما أفاق من غفلته تحرك فيه الوازع الديني فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: هلكت ليجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقا لنجاته، فيرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل الكفارة على ضوء الحديث الذي حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه من رواية البخاري.(26/348)
هذه أمثلة توضح أن السلف الصالح رضوان الله عليهم حققوا المبادئ الإسلامية في تفكيرهم، وأحسنوا تنفيذها في معاملتهم. ورجعوا إليها إذا انحرفوا عنها تحت تأثير شهوة، لإيمانهم العميق بتلك التعاليم التي اعتنقوها مبدأ وسلوكا.
ولما بدأ التفاعل بين المسلمين ودينهم يضعف. أخذ الإسلام يتحول في نفوس أهله من حياة قوية متوثبة إلى تقاليد وشكليات. فكان أن دب الضعف في الصف الإسلامي، ولعب الاستعمار دوره فصرفهم عن دينهم. وقتل فيهم حيويته وقوة تعاليمه. فتفتتوا بعد توحد، وتمزقوا بعد تجمع، وقل الوازع الديني الذي بجمع الكلمة ويوحد الصف.
وهكذا دار الفلك دورته. وعاد الإسلام غريبا كما بدأ. وهذه الغربة نعيشها اليوم في عصر العلم وغزو الفضاء، فمع التفوق العلمي في جميع ميادين الحياة. نشاهد طغيان المادة على القيم والمبادئ. ونلمس أن الغرائز أضلت عقول الناس لبعدهم عن غذاء النفس وتقويتها، فكان التصدع بين الأفراد والجماعات، وبين الدول والشعوب نتيجة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وتعدي الجماعة على الجماعة، وحرب الدولة للدولة.
في هذا الجو المكفهر المشحون بالمخالفات يتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعا من رواية لمسلم: "بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس".(26/349)
فتعاليم الإسلام أصبحت غريبة غير مألوفة في المجتمعات الإسلامية وأصبح التدين رجعية. والقابض على دينه كالقابض على الجمر. وفقدت التربية الإسلامية، وانعدمت الرحمة من القلوب. فلا شفقة لصغير، ولا تقدير لكبير، واختلت الموازين. وأصبح الأمر فوضى، واستخفت الناس بشعائر الله، وأصبح المعروف منكرا والمنكر معروفاً، وسيطرت الأنانية وانعدم الإيثار أو كاد. وضلّ الناس طريقهم، فمنهم من ظالم يظن أنه عادل، ومسيء يظن أنه محسن. وجاهل يظن أنه عالم، وغبي يظن أنه فاهم، وضنين بنعم الله عليه يظنّ أنه من المزكين، وسار الناس حياتهم في إطار من البغض والكراهية والتمزق، ووهنت الروابط وكادت تنعدم الإنسانية.
وعاد الناس في أزمة ضمير، وساعد على ذلك الأفكار المستوردة، وسموم الاستعمار حتى طفح الكَيل، وحاربت مع الأسف الدولة المسلمة شقيقتها. وكان ضياع آلاف الأرواح والخسائر المتعددة الأشكال والأنواع. وتحقق قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
فذل المسلمون بعد عز. وضعفوا بعد قوة، وأصبحوا فرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا أمة واحدة قوية فتية لها وضعها ومكانتها في المجتمع الدوليّ.
ولن يلتئم الجرح النازف في الصف الإسلامي، ولن يعود للإسلام مجده وحيويته، ولن تعود للمسلمين قوتهم ومنعتهم إلا إذا فهموا دينهم كما فهمه السابقون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة ومعاملة ومنهجا وسلوكا يسيرون على أضوائه في محيط حياتهم. وفي جميع شئونهم الخاصة والعامة لا يجدون في أنفسهم حرجاً من تنفيذ أحكامه.
وصدق قول الإمام مالك رضي الله عنه إمام دار الهجرة (لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها) .(26/350)
وعندئذ يعود المسلمون سيرتهم كما وصفهم القرآن الكريم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" هذا رجاؤنا، وما ذلك على الله بعزيز.
زيادة النعم بالشكر عليها
قال أبو يوسف ينصح هارون الرشيد رحمهما الله: إن الله عزَّ وجل، بمنه ورحمته، جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم، وبين ما اشتبه من الحقوق عليهم.. وإضاءة نظر ولاة الأمر:
إقامة الحدود، ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت والأمر البين، وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً، فإن إحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت.
وجور الراعي هلاك الرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة..
فاستتم ما آتاك الله، يا أمير المؤمنين، من النعم بحسن مجاورتها، والتمس الزيادة فيها بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(26/351)
الدين بين الشرق والغرب
للشيخ عادل رمضان
من جملة الظواهر التي تعاني منها المجتمعات الغربية بشكل عام ظاهرة التشكيك في كل شيء، في القيم، والمبادئ، في المثل، والأخلاق، وحتى في الإنسان نفسه، في وجوده المادي والروحي، هل هو وجود حقيقي أم هو ضرب من الأوهام؟
وتستشري هذه الظاهرة حتى تمس الدين وتطرح التساؤلات حول صلاحيته لهذا العصر وما بعده.
وإننا سوف نقتصر في موضوعنا هنا على بحث ما يتعلق من هذه الظاهرة التشكيكية بمسألة الدين لكونها على درجة كبيرة من الأهمية، لا سيما وأن الخطورة فيها تكمن في تسرب هذه الأفكار الخاطئة إلى رؤوس بعض الشباب داخل المجتمع المسلم، وبشكل خاص أولئك الذين يستهويهم زيف الحضارة الغربية ويخطف لبهم بهرجها.
صحيح إن الشباب في الغرب يعيشون مزيجاً من القلق والضياع والاضطراب الفكري بعد أن فقدوا الثقة بما لديه من قيم دينية.
لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة لنا وفيما يتعلق بديننا الحنيف، إذ هو مناط وجودنا والمحافظ الوحيد على شخصيتنا، وبه كان عزنا ومجدنا وانتصاراتنا. وحقائق التاريخ تثبت ذلك، وتثبت أن الإسلام كان ولا يزال العامل الأساسي في حياتنا واستقلالنا الفكري والثقافي في عالم تضطرب فيه الموازين وتضيع فيه ملامح الشعوب الصغيرة أمام تجاوزات الدول الكبرى، والقوى الاستعمارية العالمية والشيوعية الدولية التي تخطط للقضاء على الإسلام وتعمل لذلك، انطلاقا من خلفيات متعددة تحيك خيوطها في الظلام مسخرة في ذلك كلّ ما لديها من وسائل وضغوط وإغراءات لتخريب كيان الأمة وتمييع شخصيتها تمهيدا لربطها بفلكها وإخضاعها لسيطرتها الدائمة.(26/352)
والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال مطلقاً هي أن هنالك حلفا استعماريا صهيونياً إلحاديا يعمل بمكر وخداع من أجل الهيمنة على العالم الإسلامي ونهب ثرواته واستغلال خيراته، وإفساد عقيدته عقيدة أفراده وتسميم أفكار شبابه وإدخال التشكيك في حياتهم اليومية بطرح فلسفات مادية إلحادية وأفكار وجودية فوضوية تحمل لهم الفساد الاجتماعي والانحلال الخلقي وتشغلهم بجدليات فارغة تكرس الأفكار المشوهة، والآراء المتطرفة، مستغلة أجواء الحرية المتاحة في بعض الدول المسلمة في القول والتعبير ونشر الأفكار المسمومة في أوساط بعض أنصاف المثقفين ليجعلوا منهم أذناباً لهم يتوصلون به إلى أهدافهم العدوانية والتوسعية.
والغريب في هذا الخصوص أن يسقط بعض شباب الأمة في شباك المجرمين دون تبصّر فينساقون وراءهم فيبعدون عن كل القيم والمبادئ، متأثرين بمظاهر الحياة الأوربية الزائفة، فيعيشون حياة ضياع فكري وخلو روحي ونفاق وجداني، تمهيدا لربطهم بفلكهم وإخضاعهم لسيطرتهم البغيضة.
ولئن كان للشباب في الغرب العذر في الخروج على تعاليم الكنيسة والتمرد على أوامرها لأنها تتنافى مع الحق والمنطق السليم، فليس لشبابنا عذر في السير خلفهم وتقليدهم في كل شيء دون دراسة أو بحث مدفوعين بنظرة الإعجاب لكل ما هو غربي.
إن من الجهل الفاحش أن يغمض الإنسان عينه عن البحث والدراسة والمقارنة خاصة وأن الله تعالى مَنّ عليه بعقل لو استعمله لاستطاع أن يصل إلى الحقيقة مهما بعدت.
صحيح أن الدين في أوربا مشوه مزيف يقوم عليه تجار الكنيسة وباباواتها. وكان سبباً في التأخير والانحطاط ومبعث الفوضى والاضطراب عكس ديننا الحنيف الذي لم تمسه يد التحريف إطلاقاً.(26/353)
وإذا كان إقليدس مثلاً قد تعرض للحكم عليه بالإعدام لقوله بكروية الأرض ودورانها من محكمة كنسية أصدرت حكمها باسم الدين. فإن ديننا الحنيف جعل الحقائق الكونية من جملة المعارف الأصلية التي وفق بعض الباحثين إلى معرفتها، ثم وجد السباق إلى معرفة كثير من الحقائق التي وقف العلم حائراً أمامها فترة من الزمن.
الدين في أوربا يأمر أتباعه أن يغمضوا أعينهم عن حقائق الكون ويسلموا لرجال الكنيسة بلا مناقشة أو اعتراض، وأول ما يعلم البطارقة أتباعهم المقولة المتخلفة (أطفئ نور عقلك واتبعني) ويلقنونهم بعد ذلك ما يحلو لهم من الأوهام والأباطيل.
هذه حقيقة ما يعرض باسم الدين في أوربا اليوم. وهو يتنافى مع أبسط قواعد العقل والمنطق. ولشباب الغرب كما أسلفنا العذر في نبذه والإعراض عنه إذ كيف يمكن للعقل السليم أن يقبل دعوى ألوهية المسيح وهو بشر يأكل كما يأكل البشر وينام كما ينامون مع زعمهم أن اليهود عدوا عليه فلم يملك أن ينجي نفسه منهم فأخذوه وصلبوه على حد دعواهم الباطلة، وكيف يمكن للفكر أن يتصور أن الإله لا يملك أن يغفر لبني آدم- وهو الذي خلقهم- فيقدم على التضحية بابنه الوحيد أمام اليهود ليخلص البشر من وبال الخطيئة القديمة التي وقع فيها أبوهم قبل ملايين السنين وهم بريئون لا جريرة لهم في ذلك، وهل يمكن أن نقبل هذا التلفيق في الوقت الذي نرى فيه الخوري أو البابا أو البطريق يغفر لمن يشاء ويحلل ويحرم كما يحلو له.(26/354)
إن الدين في أوربا اليوم يقوم عليه سماسرة ماكرون، اتخذوا من الخديعة والافتراء مهنة لهم، واستخدموا أساليب الحيلة واللف والدوران للسيطرة على الناس وابتزاز أموالهم. ولقد استنكر القرآن الكريم عليهم تشويه كتبهم السماوية وتحريف كلمها عن مواضعه وعاب عليهم أكلهم أموال الناس بالباطل. ومضاهاتهم قول الذين كفروا، وتعاملهم بالربا وتحايلهم على قواعد الشرع وأسسها فما يؤمنون به اليوم يخالفونه غداً، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .
إن دراسة الأديان ومقارنتها من خلال منظور التطور الحضاري للإنسان ومن خلال المخطط الإلهي لبناء الإنسان تبين أن الدين المسيحي في حد ذاته إنما كان يناسب فترة زمنية محددة من تاريخ البشرية.
وبسبب المنافع الدنيوية الرخيصة أصر بعض رجاله المسيحية المتأخرون على التوقف بمسيرة الإنسان عند حد معين لتبقى لهم الرياسة والزعامة والسيطرة، فعادوا الإسلام وكادوا لأبنائه، ووقفوا في وجه مسيرته المعطاءة الخيرة، فخالفوا أمر ربهم ونقضوا ميثاقه الذي قطعه عليهم بالإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه الصلاة والسلام متمماً لشرائع الأنبياء قبله ومتمماً لمنهج الأديان وخاتماً للمرسلين.
وبهذا اصطدم رجال الكنيسة بناموس الحياة فانفرط عقد الدين في أوربا، وتفرق الناس أشتاتاً وشيعاً وحدثت لدى المثقفين منهم ردود فعل أدت بهم إلى رفض التدين مطلقاً بل والتهجم على الأديان عموماً، وراح يصفها بالرجعية والتخلف حتى زعموا أنها أفيون الشعوب وأنها لا تصلح لهذا الزمن.
ولقد استغل أنصار الشيطان ودعاة الإلحاد هذه الظروف، فاتخذوا من الشيوعية المادية، والوجودية الفوضوية مبادئ راجت عندهم.
وكانت ردود الفعل هذه بمغالاتها وتطرفها أكثر تهوراً ومثلها كمثل المستجير من الرمضاء بالنار.(26/355)
وظهرت على الساحة الأوربية أفكار أخرى كانت أقلّ خطراً من ردود الفعل السابقة فصلوا فيها الدين عن الحياة، فقالوا دع ما لقيصر لقيصر والدين للرب في الأعالي.
ووقف بعضهم من الصراع الدائر حول الكنيسة موقف اللامبالاة، ووقع كثيرون غيرهم في الحيرة، ولجأ آخرون إلى القوانين الوضعية وراحوا يحدثون لأنفسهم أنظمة يسيرون عليها. ولم تخلُ الساحة من أناس حكموا عقولهم وأعملوا فكرهم بالبحث ووضعوا المسيحية تحت الفحص والتمحيص وظهرت نتيجة ذلك حركات التحرر والمذاهب الإصلاحية، وأزيلت الحواجز التي أقيمت بين الشباب وبين الإسلام للتعرف على حقيقة والإطلاع على دقائقه وتفاصيله التي ليس هناك مجال للمقارنة ولا يحتاج الإسلام للحكم عليه.
إن الإسلام لا يغفل العقل بل يحث على المحافظة عليه واستخدامه ويدعو إلى العلم ويطالب بفهم الحجة والبرهان.
وقد حث أتباعه على النظر في ملكوت السماوات والأرض، ونعى على المشركين عدم استخدامهم عقولهم، واعتمادهم على الأصنام والأوثان، وما يروجوه لهم سدنتها من الخرافات والأباطيل، واستنكر تقليدهم الأعمى للآباء والأجداد، واتباعهم الهوى والظن.
وأمر بالعلم وجعله فرضاً على كل مسلم، ونفر من الجهل، وكانت أول آية نزلت من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آمرة بالقراءة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
وقرر الإسلام أنه لا واسطة بين العبد وربه وأن الرسل والأنبياء إنما هم مبلغون. مبشرون ومنذرون، وينحصر عملهم في الدلالة على الهدى وتوضيح معالم الطريق وكذلك العلماء من بعدهم، وبذلك قطع الإسلام الطريق على كل من تسول له نفسه الدجل الرخيص والتلاعب بالمثل والقيم والتستر خلف الدين لتحقيق منافع شخصية ومآرب دنيوية رخيصة. واستنكر على أصحاب الديانات قبله ما قاموا به من تشويه كتبهم السماوية وتحريف كلمها عن مواضعه.(26/356)
ولقد وجد منصفون كثيرون غايتهم وضالتهم في الإسلام حين عرفوا أنه الدين الوحيد الذي يتلاقى مع العقل والعلم ويتناسب مع الفطرة البشرية السليمة ولا يُكره الإنسان على طقوس روحية غامضة ومرهقة، فلم يكلفه مالا يطيق، ولم يكبت فيه نوازع الغريزة وإنما وجهها الوجهة الصحيحة التي تتلاقى مع الفطرة الصافية وتدفع عن المجتمع أوضار الرذيلة والفساد، كما راعى في تشريعاته التوفيق بين متطلبات النفس وضروريات الحياة، وأقام التوازن بين المادة والروح، في وضوح وعلى البصيرة.
ثم إنه حارب الفقر والمرض، وفرض في أموال الأغنياء حقاً للفقراء والمساكين.
وأعلن المساواة التامة بين الناس فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وضمن حقوق الإنسان كاملة وسهر على حماية روحه وعرضه وماله.
وقرر حرية الفرد كاملة وبما لا يتعارض مع حرية الآخرين، وأنصف المرأة وأعطاها حقوقها وألزمها واجباتها، وحماها من سوء تصرف الرجل. ومنع الظلم، ودعا إلى تحرير العبيد والقضاء النهائي على كل أشكال الاسترقاق، فقد حث على العتق، ورغب فيه، وجعله من أفضل الطاعات والقربات، بل لقد فرض العتق كحد وكفارة وعقوبة.
وفي كنف الإسلام نشأ علماء أفذاذ مهدوا طريق العلم لمن خلفهم، وكانت أوربا غارقة في ظلمات الجهل فأخذوا من المسلمين علمهم ونهضتهم.
لقد تأسف مستشرقون منصفون على هزيمة العرب في معركة بواتيه واعتبروا ذلك سبباً في تأخر الحضارة عن أوربا عدة قرون.
وفي مجال العلوم والمعرفة الحديثة كان الدين الإسلامي رائداً وسباقاً إلى الكثير من المعارف والحقائق العلمية. بحيث جاءت العلوم الحديثة تثبت بنظريات جديدة ما بادر القرآن الكريم إلى إثباته قبل آلاف السنين.(26/357)
من كل ما سبق يتبين لنا أن الفرق الواضح بين ما يعرض باسم الدين في أوربا وبين حقيقة الدين الإسلامي، ليدرك الناس الحقيقة قبل أن يجرفهم تيار الهوى ويميت الشيطان قلوبهم- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .(26/358)
معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة
والرد على ما يثار حولها من شبهات
للدكتور جمعة علي الخولي
رئيس قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين
بالنسبة لمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة. لا نريد أن نتعجل الحكم ونقول إنه عليه الصلاة والسلام عالج الأمر بالعلاج الوحيد الذي لا ينفع غيره، أو حل عقدته بالسلاح الذي يناسبه.. لا نريد أن نتعجل الحكم بذلك قبل أن نقف على حيثياته وظروفه.. معروف أنه بمجرد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة عقد بينه وبين اليهود الموجودين بها معاهدة رائدة بمثابة أقدم دستور مسجل في العالم [1] . كان من بنود هذه المعاهدة:
أ- التزام كل من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر في الداخل [2] .
ب- تعهد كل من الطرفين بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي وعلى اليهود أن يتفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين [3] .
وحدث في العام الخامس من الهجرة أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل [4] من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل [5] ، وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين.. لكن الذي حدث هو عكس هذا، فقد فوجئ المسلمون ببني قريظة يخونهم في أخطر أوقات محنتهم ولم يرعوا للجوار حقاً، ولا للعهود حرمة، ولقد كانوا يسعون من وراء انضمامهم هذا إلى صفوف الأحزاب التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تاماً.(26/359)
ولقد أحدث نقض بني قريظة لعهدهم مع المسلمين وإعلانهم الانضمام إلى صفوف الغزاة فزعاً شديداً في صفوف المسلمين لأنهم ما كانوا يتوقعون أن يحدث هذا في مثل تلك الظروف، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص أول الأمر على كتمان الخبر على المسلمين لما كان يخشى من وقعه على نفوسهم. وبمجرد أن انتهى إلى سمعه النبأ أرسل وفداً مكوناً من سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير ليذكروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود، ويحذروهم مغبة ما هم مقدمون عليه، وأوصاهم قائلا: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فألحنوا لي لحناً أعرفه. أي ألمحوا لي في الكلام تلميحاً دون تصريح، حتى لا يفت ذلك في عضد الناس، وأما إن كانوا على الوفاء بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.." فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبينه، فرجع الوفد وأخبر رسول الله تلميحاً لا تصريحاً. بأن قالوا له عضل والقارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، أبشروا يا معاشر المسلمين ( [6] ) .
وهكذا ركب القوم رؤوسهم، وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة، وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.. وكانت خيانتهم الأثيمة تلك بمثابة طعنة للمسلمين من الخلف أشق على نفوسهم من هجوم الأحزاب من خارج المدينة، لأنهم ما كانوا يظنون أن يأتيهم الروع من مأمنهم الحصين، وعند ذلك عظم البلاء، واشتد الخوف. وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، وظهر النفاق من بعض المنافقين يفتون بذلك في عضد المسلمين ويرجفون به في المدينة، حتى أن أحدهم ليقول كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ( [7] ) .(26/360)
هكذا كان الوضع إبان معركة الأحزاب حتى لتصور السيدة أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظروف المسلمين وقتئذ بقولها: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد فيها قتال وخوف، شهدت المريسيع، وخيبر، وكتاب الحديبية، وفي الفتح، وحنين، لم يكن ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري. فالمدينة تحرس حتى الصباح تسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفاً [8] ، لكن عناية الله تدخلت لنصرة الإيمان وأهله وهزيمة الشرك وحزبه، وشاء الله أن يندحر ذلك التحالف الوثني اليهودي {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب الآية 25) .(26/361)
وبعد أن ولى المشركون وحلفاؤهم الأدبار، يحملون معهم كل معاني الإخفاق رجع المسلمون إلى منازلهم بالمدينة يغسلون أنفسهم من وعثاء الجهاد والتعب ويلتقطون أنفاسهم بعد قلق نفسي بالغ دام شهرا كاملا.. ويبدو أن البعض ظن أن الموضوع انتهى إلى ذلك الحد لكن أيترك الناكثون للعهود دون محاسبة وتأديب.. ذلك ما لا يكون.. وتأباه العدالة الإلهية، ولذلك كان عقابها عاجلاً، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء المرابطة في غزوة الأحزاب في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال: "أوضعت السلاح يا رسول الله، قال: نعم. قال: ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا أوان رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم [9] ، فنادى عليه الصلاة والسلام في المسلمين "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فسار الناس فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم [10] .. وتبعهم عليه الصلاة والسلام بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وحاصر القوم شهراً أو خمسة وعشرين يوماً [11] .. ولما طال عليهم الحصار.. عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ليخرجوا إلى (أذرعات) .. بالشام تاركين وراءهم ما يملكون، ورفض عليه الصلاة والسلام إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط واستسلم يهود بني قريظة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل عليه الصلاة والسلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ أحد رؤساء الأوس [12] . وفي اختيار سعد دلالة على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد نظره، وإدراكه لنفسيات هؤلاء القوم، لأن سعدا كان حليف بني قريظة في الجاهلية، وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنوا أن الرجل قد يحسن إليهم في حكمه، لكن(26/362)
سعداً نظر إلى الموقف من جميع جوانبه. وقدره تقدير من عاش أحداثه وظروفه. وشاهد كروبه ومآزقه وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله عز وجل التي أنقذت الموقف.. وسعد هو نفسه الذي شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم وغيهم، لكن القوم مضوا في عنادهم لا يقدرون للنتائج عاقبة، ولا يراعون الله في حلف ولا ميثاق، ولذلك لما كلم في شأنهم أكثر من مرة قال رضي الله عنه "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم" [13] .
وبعد أن أخذ رضي الله عنه المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه [14] أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح ففعلوا، ثم قال: "إني أحكم أن تقتل مقاتليهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة [15] ، أي سموات.. وأمر عليه الصلاة والسلام بتنفيذ الحكم فسيقوا إلى خنادق في المدينة، فقتل رجالهم وسبي نساؤهم وذراريهم ومن لم ينبت من أولادهم ولاقى بنو قريظة أسوأ مصير على أفظع خيانة.. وهذا مصداق قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (الأحزاب الآية 26. 27) .. وهنا يحلو للبعض أن يتقولوا على الإسلام. وأن يتطاولوا على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لبني قريظة ويعتبروا أن الإعدام الجماعي الذي تم لهؤلاء الناس يتسم بالوحشة والقسوة، وأنه كان من الممكن أن يعاقبوا بأي عقاب آخر كالإجلاء أو النفي.. ونقول لهؤلاء:(26/363)
أولاً: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم، ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين. على أن اليهود لم يقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكون لديهم ما يشبه اليقين بأنهم- بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميراً كاملاً، واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كلياً، ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين وعلى تلك الصورة البشعة [16] . ولقد كانوا حريصين الحرص كله على المصير إلى هذه النتيجة. حتى لقد طلبوا من الأحزاب والمشركين أن يسلموا إليهم سبعين شاباً من أبنائهم رهائن عندهم ليضمنوا أن جيوش الأحزاب لن تنسحب من منطقة المدينة إلا بعد أن تفرغ من المسلمين وتقضي عليهم قضاء تاماً [17] .. على أن اليهود ترددوا في الاشتراك مع صفوف المشركين في بداية الأمر وأخذ كعب بن أسد القرظي يقول لحيي بن أخطب الذي جاءه يغريه بالانضمام إليهم أخذ يقول له: "إنك امرؤ مشئوم وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه [18] لكنهم لما تلقوا تأكيدات تفيد أن وضع المسلمين يائس، وأنهم لن يصمدوا طويلاً أمام تلك الأعداد الضخمة سارعوا بالانضمام إليهم، فاليهود - لا قدر الله- لو أمكنهم القدر من رقاب المسلمين ما ترددوا لحظة في القتل والإبادة تمشياً مع مزاجهم الدموي الذي لا يرى بأسا في قتال الآخرين واستحلال دمه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران الآية 75) .(26/364)
وفي سفر التثنية: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً ( [19] ) أي تستأصلها استئصالاً.
ولذلك يعلق مولانا محمد علي، على هذا النص في كتابه ((حياة محمد ورسالته)) بقوله ((وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف- في وضوح بالغ- أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس" [20] .
ثانياً: أن اليهود لم يلقوا من المسلمين طيلة الأعوام التي تلت المعاهدة إلا كل بر ووفاء، كما شهدوا أنفسهم بذلك، فعندما ذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي يغريه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً [21] .. لكنه لم يزل به حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد.(26/365)
ثالثاً: هذا الحكم وإن كان صادراً من سعد بن معاذ، إلا أنه بمثابة الحكم الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو أقره، وتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله وفعله مما هو معروف عند أهل الحديث.. ورسول الله لا ينطق عن الهوى، فكأن ذلك هو حكم الله والرسول في هؤلاء الخونة الغادرين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لسعد، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة [22] ، وفي رواية الطبري: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله [23] .. ثم أليس جبريل عليه السلام هو الذي وقف على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يغسل رأسه إبان مرجعه من غزوة الأحزاب ويأمره بالمسير إلى بني قريظة ويقول له إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل أركانهم، وفي رواية: "قم فشد عليك سلاحك فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا [24] .. فعلام يدل هذا إلا أن يكون الهلاك التام والعقاب الصارم من رب العالمين لكل مجرم خائن.
رابعاً: أن قانون أي دولة الآن يحكم بالإعدام على من يخون وطنه ويقيم اتصالات مع العدو أو يتجسس لحسابه، ويقول أحد الكتاب المعاصرين، لو درس الذين يطعنون في حكم سعد على بني قريظة القوانين المعاصرة دراسة نافذة وطبقوها على قضية بني قريظة لرأوا أن قوانين القرن العشرين لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ، لقد كان بين الرسول وبين يهود بني قريظة معاهدة تحفظ حقوق الفريقين وتقضي على كل فريق أن ينصر الآخر إذا واجهه خطر في حرب، ولكن اليهود تآمروا فانضموا إلى أعدائه وأوقعوه بين شقي الرحى في المدينة مصطليا بنار أعدائه المشركين من جهة واعتداء حلفائه اليهود في ساعته العسرة من جهة ثانية فاقترفوا بذلك، الغدر ثلاث جرائم.
أ- رفع السلاح ضد سلطان المدينة مع الأجنبي المعتدي.
3- دس الدسائس لدى العدو ضد المسلمين.
3- تسهيل دخول العدو للبلاد.(26/366)
وقوانين العقوبات العصرية تجعل الإعدام عقوبة كل جريمة من الجرائم الثلاث [25] .
خامسا: قد يقال: كان من الممكن أن يعامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة كما يعامل القائد المنتصر رجال جيش عدوه الذي انهزم أَمامه واستسلم، أو يعاملهم كما عامل يهود بني النضير وبني قينقاع.. والجواب على ذلك أن بني قريظة لم يكونوا أسرى حرب حتى يميل بهم إلى الشفقة، ولم يكونوا في حالة حرب مع المسلمين، وإنما كانوا جيرانا متحالفين يشكلون مع المسلمين وحدة وطنية ملزمة بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدوان، لكنهم ظهروا أخطر من الأعداء، وشراً منهم، إذ يبيتون لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام، فكانوا بمثابة الخائن المتآمر المتواطئ مع العدو على أمته ووطنه في حالة الحرب القائمة وهذه خيانة عظمى ليس لها في جميع الشرائع إلا الإعدام السريع.. وموقفهم هنا يختلف اختلافا واضحا عن موقف بني قينقاع وبني النضير، فالأولون قد أبدوا البغضاء من أفواههم وأشاعوا الرعب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحا لا يفل.. وبنوا النضير ائتمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرصة طريقا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أَهون خطبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية، فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف، وقد جلا بنو قينقاع وبنو النضير عن المدينة، فكانوا مثار القلق والفتنة ومبعث الضيق للمسلمين فهم الذين حزبوا الأحزاب وجمعوا القبائل مع المشركين ليوم الخندق فأعطوا بمؤامراتهم المزعجة محمداً درسا حاسما يحتم استئصال شأفتهم، وتتبع أفاعيهم في كل مكمن، ليطفئ لهيبا يستعر إذا هبت عليه الريح [26] .(26/367)
فعلى الذين يستبشعون الحكم على بني قريظة، ويصفونه بأنه كان قاسيا شديدا، عليهم أن يحيطوا علما بجوانب الموضوع وظروف القضية ليدركوا أن اليهود هم الذين جروا الوبال على أَنفسهم (وعلى نفسها جنت براقش) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة د/ محمد حميد الله ط ثالثة سنة 1389.
[2] سيرة ابن هشام جـ1/501 ط ثانية سنة 1375.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق جـ2/217 ط ثانية.
[5] السيرة لابن هشام جـ2/220 ط ثانية.
[6] السيرة النبوية لابن هشام جـ 2/222 ط ثانية.
( [7] المرجع السابق. نفس الصحيفة.
( [8] في ظلال القرآن جـ21/548 ط سابعة سنة 1391هـ.
[9] السيرة لابن هشام جـ2/232 ط ثانية.
[10] صحيح البخاري، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب.
[11] تاريخ الرسل والملوك للطبري جـ2/583 والسيرة لابن هشام جـ2/234.
[12] تاريخ الرسل والملوك جـ2/586.
[13] المرجع السابق 587.
[14] تاريخ الرسل والملوك جـ2/587.
[15] الطبقات الكبرى جـ2/75 ط بيروت 1376.
[16] غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل – 243.
[17] السيرة الحلبية جـ2/347 ط التجارية سنة 1382.
[18] عيون الأخبار لابن سيد الناس جـ2/59.
[19] سفر التثنية – الإصحاح العشرون 10: 18.
[20] حياة محمد ورسالته ص 175 نقلا عن غزوة بني قريظة / محمد أحمد باشميل 179.
[21] البداية والنهاية 4/103 ط 1966.
[22] السيرة لابن هشام جـ 2/240 ط ثانية.
[23] تاريخ الرسل والملوك جـ 2/587.
[24] عيون الأثر لابن سيد الناس جـ 2/68 ط دار المعرفة بلبنان.(26/368)
[25] غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل نقلا من مقال للدكتور محمد رجب البيومي بمجلة الحج العدد 12 السنة 88.
[26] المرجع السابق – 274.(26/369)
المستشرقون … والسيرة النبوية
للدكتور عوض عبد الهادي العطا
أستاذ مساعد بكلية الحديث
اهتم المسلمون في الفترة المعاصرة بأمر الاستشراق. وأخذوا يدرسون ويقرأون ما كتبه المستشرقون حتى يقفوا على حقائق الموضوعات التي درسوها وخاصية ما يتعلق بالسيرة النبوية العطرة.
وقد اتسع نطاق الاستشراق وتشعبت موضوعاته حتى شملت جميع موضوعات الدراسات الإسلامية، فتعرضوا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أَهله وفى ميدان الدعوة والجهاد، وبالرغم من أن وقائع السيرة النبوية قد لا تحتاج إلى كثير من الشروح والتفاسير والتعليقات فهي قد تحتاج إلى قدر معقول من تنسيق المادة الأولية وترتيبها. إلا أن هؤلاء المستشرقين استرضوا تلك الأخبار وعارضوها بآرائهم وأفكارهم ليصلوا إلى نتائج وأحكام متأثرة بعواطفهم وخلفياتهم الدينية، وسبب ذلك أَنهم اتبعوا منهجا خاصا وضعوه بأنفسهم إذ أنهم يبيتون فكرة مسبقة ثم يأخذون وقائع الأحداث ليأخذوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك فيتمسكون بالخبر الذي يؤيد رأيهم أو الذي يمكنهم تأويله حسب أغراضهم مهما كان ضعفه [1] .
وخطورة الأمر تنجم من كثرة حجم التأليف عند هؤلاء حتى غزوا بهذا الحجم الكبير أفكار الناس في الشرق والغرب. ففي القرن التاسع عشر والقرن العشرين كما يذكر (جب وباون) [2] اللذين تفرغا فترة لمراجعة المخطوطات التركية والعربية، إنه بالرغم من ضخامة التأليف في موضوعات هذه المناطق إلا أَن بعضها عديم القيمة بسبب ما بها من قصور واضح، كنقص الخبرة الوثيقة بالموضوع أو جهل بلغة البلاد أو اعتماد بعض الكتاب (ويقصد كتاب الغرب) على السماع المشكوك في صحته أَو عدم الدراية بالأساس التاريخي [3] .(26/370)
ويتضح من هذا أن مدخل هؤلاء الكتاب لدراسة الإسلام وعلومه المختلفة أمر تنقصه مقومات أساسية في تحرى الحق والتزام جانبه. وتظهر هذه المسائل بالذات في كتب الرحالة والتي كثيراً ما تمتلئ بالخيال أو استبعاد المصادر الأساسية والاعتماد على مصادر غير دقيقة أَو ذات أسلوب قصصي.
والواقع فإن المجتمع الغربي قد اكتشف أهمية الفكر الإسلامي منذ العصور الوسطى، ونقل ذلك التراث نقلاً لا يظهر فيه التصرف إلا في تجاهل ذكر المؤلفين الحقيقيين، وعن طريق ذلك خطت أوربا خطواتها التاريخية في مجال النهضة المعروفة بالنهضة الأوربية renaissance، وبذلك الفكر وعلى هديه أخذت أَوربا منهج التطور العلمي وبنت لنفسها الشخصية العلمية الرائدة. وأرادت بعد ذلك أن تطمس معالم الخلفية التاريخية لكل هذا التطور العلمي حتى وصمت بلاد المسلمين بالتخلف والركود والجمود الاقتصادي والعلمي وغيره سواء في صدر الإسلام أو بعد ذلك، علما بأن هذا الشمول في المجالات الإسلامية أمر تحسه في الدراسات الموسعة لهؤلاء.
ثم لجأت أوربا مرة أخرى في العصور الحديثة تدرس الفكر الإسلامي وعلومه المختلفة عندما أصبح لها أَطماع وأغراض سياسية واقتصادية، وأرادت بذلك حصار الإسلام واقتسام البلاد الإسلامية كجزء من مناطق النفوذ الأوربي الاستعماري، فلجأت إلى دراسة اللغة العربية والتاريخ الإسلامي وغير ذلك فزاد هذا من إنتاج المستشرقين في هذا المجال.
وكان أسلوبهم في غزو الإسلام والمسلمين أسلوبا ناعما متنوعا، جاء في شكل معاهد علمية وشركات أجنبية وبضائع وملابس وأثاثات منزلية وكان للغزو الفكري أثر كبير على أبناء المسلمين، وقد وجدت الإرساليات التبشيرية مساحة واسعة للتحرك في بلاد المسلمين، كما وجد دعاتها الفرصة السانحة للدراسة والتأليف في موضوعات إسلامية مثل (ترمنجهام) triningham الذي ألف عدة كتب عن الإسلام وأثره في عدة مناطق من العالم الإسلامي.(26/371)
وقد اتخذت الدول المسيحية من التربية وسيلة مباشرة حيث منحت بعض أبناء المسلمين فرصاً واسعة للدراسة والتعليم في معاهدها وكلياتها لينهلوا من آدابها وفنونها وعلومها الاجتماعية والتطبيقية، ويعودوا إلى بلادهم وقد تشبعوا بأفكار الغرب وحضارته.
وليس من السهل فصل ما تقوم به هذه الدول عن المجهودات التي يقوم بها المستشرقون في كتاباتهم، فقد كانت تلك الوسائل وغيرها من أساليب النشاط التبشيري مجالاً لنشر حضارة الغرب وفكره وأسلوبه في الحياة، كما أصبحت الدراسات المختلفة ومن بينها علوم تتعلق بالدراسات الإسلامية تصل لأبناء المسلمين عن طريق قنوات الغرب المسيحي التعليمية، وهو أسلوب مكن المستشرقين من فرض أفكارهم وتخريجاتهم وتحليلاتهم لكثير من الأحداث في تاريخ الإسلام والمسلمين ولحركة الجهاد الإسلامي بما في ذلك عصر النبوة.
وقد لاحظ (جب وباون) أن التعليم كان له دور كبير في أضعاف الأثر الديني لدى الدارسين وذلك لتأثر التعليم في بلاد المسلمين بالطابع العصري الغربي المسيحي فقد أخذ المظهر الديني الخالص للتعليم في الانزواء رويدا رويدا وذلك بفعل ازدياد الطرائق التعليمية الغربية كنتيجة لإرسال البعثات التعليمية إلى أوربا وازدياد عدد المدارس الأوربية ومن نتائج ذلك تمكن اللغات الأوربية في التعليم وأثرها على لغة الكلام ولغة الأدب وغير ذلك من الآثار [4] .
ومن الواضح أن العالم الإسلامي في هذه الأثناء يعاني من أَثر الانهيار أمام التيار الثقافي الغربي والذي تأثر به كثير من المثقفين والمتعلمين من أبناء المسلمين وانساق الكثير منهم خلفه باعتباره المنهج العلمي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة، ولعلهم تناسوا الجذور الإسلامية التي قام عليها ذلك الفكر حتى انتبهوا أخيرا لذلك.(26/372)
وقد اتفق كثير ممن ألف في السيرة النبوية العطرة في الفترة الحديثة والمعاصرة على أَن المستشرقين أو الغربيين قد استغلوا بعض الأخبار كمادة للطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فضلاً عما ذكروه من مثالب أو مطاعن نسبوها زورا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بقصد الإساءة مدفوعين بتعصبهم الأعمى ضد الإسلام والمسلمين ( [5] ) .
وبالرغم من هذه المواقف فإن بعض المستشرقين انتقدوا بعضهم بعضا في تفنيد منهجهم الذي مارسوه في دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، فقد ذكر أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وهم يمارسون الكتابة عن الإسلام أو عن بلاد الإسلام أو عن المسلمين. ورغم ما يزعمونه من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم من يتحدث وهو متأثر ببيئته التي نشأ فيها أو خلفياته العلمية التي درسها ولذلك تأثر منهجهم بحسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري.
وأبرز مثيل لذلك ما ذكره بعض الدارسين لمنهج المستشرقين مما هو ملاحظ في تفكيرهم المادي للأشياء والمسائل المختلفة. فالمفكر منهم مثلا تجده يصلي في الكنيسة ويقرأ في كتابه المقدس ولكنه إذا دخل المعمل نظر للمسألة نظرة مجردة عن الإطار الديني.(26/373)
والواقع فإن منهجهم يقوم على افتراضات يفترضونها، وقد لا ينطبق ذلك على حقيقة الوقائع والأحداث، وبالتالي تكون نتائجهم خاطئة لأنهم يريدون الوصول إلى هذه النتائج عن طريق استنتاجاتهم وإخضاعهم الحقائق الثابتة والمعروفة والتي تضمنتها مؤلفات إسلامية عريقة إلى منهجهم العلمي، ولذلك فهم عندما يلجأون إلى تأييد رأي من الآراء يهدمون بعض الأخبار أو يحللونها ليصلوا إلى نتيجة يقصدونها ومن الأمثلة لهذا المنهج نشير إلى ما كتبه (مونتجمري وات) w.montgomery, watt عن السيرة النبوية العطرة، فقد ألف كتابين هما (محمد في مكة) و (محمد في المدينة) [6] صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وناقش في كتابه الأول الفترة المكية وتعرض لموضوعات كثيرة يضيق المجال لعرضها هنا، ولكن من ضمن الموضوعات التي ذكرها هجرة المسلمين إلى الحبشة، وهو موضوع احتوته وحفظته وشرحته كتب السيرة النبوية المتداولة لدى المسلمين جميعا مثل سيرة ابن هشام والروض الأنف للسهيلي وابن كثير وغيرهم ممن تناول السيرة النبوية من المؤرخين والكتاب. وقد ذكر السهيلي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله عزوجل ومن عمه أَبي طالب وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أَرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم) [7] .(26/374)
ومن ثم فقد أصبحت هجرة المسلمين إلى الحبشة في هذا الظرف حدثا تاريخيا هاما في مراحل الدعوة الإسلامية، إذ أن اختيار الحبشة كان خطوة موفقة من خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم الواعية لأن ذلك ينطوي على معرفة تامة بحقيقة الوضع في الجزيرة العربية وأطرافها المجاورة وظروف الدول المحيطة بها من الفرس والروم، فقد كانت القبائل العربية في الجزيرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بقريش تجاريا ودينيا وكان لبعضها أحلاف ومعاهدات، والمعروف أن لقريش رحلة تجارية إلى الشام ورحلة تجارية إلى اليمن، وكانت كل رحلة عبارة عن مدينة تجارية متحركة فقد بلغت كل رحلة ألف بعير أو تزيد تحمل سلعا وبضائع متنوعة بعضها محلى من إنتاج أهل الجزيرة وبعضها مستورد من الشام واليمن والهند بل من أوربا وبلاد الصين وكلها تصب في مكة وتصنف من بعد إلى الجهات التي تكون سوقا لها تبعا للخبرة التجارية وفن التسويق ونوع الرحلة، ولقريش أسواق مشهورة بعد مكة [8] . ومن ثم جاءت الهجرة إلى الحبشة رغم ما فيها من مشقة، ولكنها بلا شك رمز صادق للعزم والإصرار على المبدأ. ولذلك لا يمكن قبول استنتاجات (وات) watt حول أسباب هذه الهجرة فهو يذكر أن من ضمن دوافعها الأساسية أغراض اقتصادية- وإلا في نظره لماذا أقام هؤلاء المهاجرون في الحبشة حتى عندما انتفت الأسباب التي ذكرتها كتب السيرة في مكة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [9] وهو يتناسى هنا عودة بعض المهاجرين إلى مكة عندما بلغهم أن قريشا قد أسلمت.
ثم يذكر أن هؤلاء المهاجرين قد تولاهم يأس قاتم حملهم على التخلي عن كل أمل في الإصلاح الديني في مكة، ولكن (وات) يذهب إلى أن هذا حتى لو كان موقف المهاجرين فإنه ليس موقف محمد صلى الله عليه وسلم [10] وكان يشير إلى أن هذه الهجرة إنما هي هروب من ميدان الجهاد والاختفاء بعيداً عنه.(26/375)
وهو قول ينطوي على دس واضح لأنك عندما تستعرض أسماء الذين هاجروا تجدهم الرواد الأوائل للدعوة الإسلامية وهم الذين حملوا لواءها فيما بعد وماتوا مجاهدين في سبيلها. بل يذهب هذا الكاتب إلى أكثر من ذلك فيقول: "إن هذه الهجرة عبارة عن جزء من مخطط بارع لمحمد على أمل أَن يحصل على مساعدات حربية من الأحباش كما سبق أن سعى جده من قبل للحصول على مساعدات حربية من أبرهة [11] .
والمعروف أن أبرهة جاء إلى مكة غازيا ينوي هدم الكعبة فلا يمكن بأي حال أن يطلب عبد المطلب خادم البيت الحرام أي مساعدات من عدوه ليدافعه بها. وقد حفظ لنا ابن هشام هذه القصة كاملة فقال رحمه الله تعالى"وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم فلما رآه أَبرهة أجله وأَعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان؛ فقال: حاجتي أن يرد عليّ الملك مئتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه! فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك" [12] .(26/376)
فأين موضوع الأسلحة هنا وأين الحجة التي تجعل عبد المطلب يطلب مساعدات حربية من أبرهة. وإذا كان المستشرق قد افترض افتراضات على ضوء أحداث معينة فإن الافتراض لم يكن صحيحا وبالتالي فقد جاءت نتيجته أيضا غير صحيحة، ثم يأتي بافتراض آخر ليثير جدلاً لا يستوي ومكانة الصحابة رضوان الله عليهم بأي حال من الأحوال، ولكنه لا يتورع عن ذلك ليصل إلى القول بأنه قد حدث انقسام قوي في الرأي بين الجماعة الإسلامية الناشئة [13] . في حين تتفق جميع المصادر الإسلامية بأن هذه الجماعة الإسلامية في طور الدعوة السرية في مكة المكرمة وبعد أَن صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره الله، قد كونوا جماعة إسلامية متجانسة منسجمة فيما بينها تؤمن بالله وبرسوله وتتسلح بقيم أخلاقية وسلوكية ربطت بينها رابطة الأخوة الصادقة، فقضت على كل نعرة للعصبية أو الخلافات الشخصية أو العرقية، وأصبحت العقيدة الإسلامية هي الرابطة بين هذه الجماعة، فلم يكن هناك مجال للخلاف أو الانشقاق. ولو كان من دوافع الهجرة إلى الحبشة أي خلاف مثل هذا الذي دسه المستشرق لما أقلقت تلك الهجرة قريشا ولما جعلها تهتم هذا الاهتمام الشديد بأمر الذين هاجروا وتسعى في طلبهم من النجاشي وبالتخلي عن حمايتهم وعودتهم إلى مكة مرة أخرى. ولكن أسماء المهاجرين تشير إلى اتساع دائرة الإسلام وكسبه لعناصر من شتى بطون قريش فقد هاجروا من بني هاشم وبني أمية وبني أسد وبني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني قصي وبني زهرة وبني هذيل وبني تميم وبني مخزوم وغيرهم [14] . فأصبح هناك تنوع كبير في أصول الذين اعتنقوا الإسلام وبالتالي أصبحت للدعوة الإسلامية صفة الشمول في مكة رغم قلة أعضائها ولم يعد هناك مجال للخلاف بسبب العصبية والقبلية أو النسب أو الجاه أو المال.(26/377)
وإذا كان الكاتب المستشرق قد تعرض لكل هذه الموضوعات بهذا المنهج فإن هذا يعكس تماما مقومات الدراسة والقواعد التي ارتكز إليها وهي قواعد مسيحية وعلمانية وبالتالي لا يمكن بأي حال أن يكون موافقا لمقومات الإسلام والبيئة الإسلامية.
وعموما فإن الإحاطة بكل المسائل التي أثارها الكاتب في كتابيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من المستشرقين في موضوع واحد أو كتاب واحد أمر يصعب إثباته ولكن توسيع نطاق البحث في مثل هذه الموضوعات قد يعطي الفرصة للرد على مثل هؤلاء وبالله التوفيق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 13 (1398هـ) .
Gibb, H. and Bowen, H., Islamic Society and the west, oxford 1937 [2]
اانظر ترجمة هذا الكتاب لأحمد عبد الرحيم مصطفى (القاهرة) .
[3] جب وباون، المصدر السابق، (مترجم) ص7، 8.
[4] جب وباون، المصدر السابق، (مترجم) ص21.
[5] محمد عبد العزيز خير الدين، محمد خاتم الرسل، (صلى الله عليه وسلم) جـ1 ص5 القاهرة (1388هـ) .
W. MONTGOMERY,WATT, MUHAMMED At MECCA, Oxford, 1953 [6]
W. Montegomery.watt, Muhammed At MEDINA, Oxford, 1956.
[7] عبد الرحمن السهيلي، الروض الأنف، جـ3 ص203 تحقيق عبد الرحمن الوكيل.
[8] أحمد عبد الرحمن عيسى، ((في الدلالات سورة قريش)) مجلة كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص111-115، العدد الأول 1397هـ.
[9] يذكر المستشرق محمدا مجردا، وقد أوردت أمام اسم الرسول الصلاة عليه.
Watt, M. op. Cit, P. 114 [10]
Ibid, E [11]
[12] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين جـ 1ص 50.(26/378)
WATT, M. op.cit,p. 115 [13]
[14] السهيلي، المصدر السابق، جـ1ص205-213.(26/379)
نماذج من الدعاة الصالحين
الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
حقا إذا ذكر الدعاة الصالحون في أمة الإسلام أن يذكر على رأسهم أحمد بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، وإمام الهدى، محيي السنة وقامع البدعة، وناشر راية الإصلاح في العالم الإسلامي.
وحقا أن في حياة هذا الداعي الكبير لأسوة حسنة، لمن يرغب في الاتساء بالصالحين وتمثل جوانب الكمال في حياتهم. ولما كانت حياة شيخ الإسلام كلها مجالا للقدوة والاتساء فإنا نكتفي بذكر أبرز الجوانب فيها: تعلمه وزهده، وحلمه، وشجاعته، وصبره، وكمال عبوديته، وحسن دعوته. وقبل عرض هذه الجوانب الكمالية في الحياة الأحمدية. نعرف به رحمه الله تعالى فنقول:
من هو أحمد بن تيمية؟
فنجيب بأنه: الإمام تقي الدين أبو العباس أَحمد بن عبد الحليم بن الإمام مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن أبى محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية [1] الحراني. ولد يوم الاثنين العاشر من شهر رببع الأول سنة 661 هـ. وهاجر به والده إلى دمشق عندما أغار التتار على بلاد الإسلام سنة 667 وتوفي بقلعة دمشق ليلة الاثنين لعشرين خلت من القعدة الحرام سنة 728 هـ.
علمه رحمه الله:
نبدأ في الحديث عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى من منطلق كماله ألا وهو العلم وطلبه وحصوله عليه وتفوقه فيه، فنقول لقد طلب أحمد بن تيمية العلم صغيرا ولازم الدرس والتحصيل كبيرا حتى فاز بأنواع العلوم والمعارف ما أصبح به إماما للعلماء، وشيخا للإسلام والمسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
وها هي ذي شهادات فحول علماء عصره ومصره له بذلك فلنستمع إليها:(26/380)
قال ابن النجار- كما ذكر ذلك بهجة البيطار-: قدم بابن تيمية والده إلى دمشق، فأخذ الفقه والأصول على والده. وسمع من خلق كثيرين منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ زين الدين بن المنجا والمجد بن عساكر. وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه وعنى بالحديث، وسمع الكتب الستة، والمسند مرات وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وكبارهم، وتأهل للفتوى والتدريس، ولم يبلغ العشرين سنة، وتضلع في علم الحديث وحفظه، حتى قال من قال: إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث. وأمده الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد، إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه، وألف في أغلب العلوم التآليف العديدة. حتى قال الحافظ الذهبي: وما أبعد أَن تصانيفه تبلغ خمسمائة مجلد.
وقال الحافظ المزي: ما رأيت مثله (أي ابن تيمية) ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أَحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقلت له: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك!!!
وقال الشيخ إبراهيم الرقي: إن تقي الدين يؤخذ عنه ويقلد فإن طال عمره ملأ الأرض علما وهو على الحق، ولا بد أَن يعاديه الناس لأنه وارث علم النبوة.
وقال: قاضي القضاة ابن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟(26/381)
وقال الحافظ الزملكاني، قد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألاَنَ الله تعالى له العلوم كما ألاَنَ لداود الحديد، كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وقال:
وصفاته جلت عن الحصر
ماذا يقول الواصفون له
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو حجة لله قاهرة
أنوارها أربت عن الفجر
هو آية في الخلق ظاهرة
هذه بعض شهادات العلماء لابن تيمية وغيرها كثير. وهي شهادات حق وصدق ليس فيها مجازفة ولا مواربة أبدا، فإن الرجل أجل مما وصف به، وأعظم قدرا مما قيل فيه.
زهده رحمه الله:
إن الزهد وهو الرغبة عن المال والجاه وسائر أعراض الدنيا لتفاهتها وحقارتها وقلة قطرها. صفة كمال في الرجال وشيخ الإسلام ابن تيمية كان أَكمل أهل عصره في هذا الوصف وصف الزهد، لأنه كان أعرف الناس بفضل الزهد، وشرف أهله ولولا زهده لما نال ما نال من العلم والتقى والبصيرة في دين الله والهدى. وحسبنا تدليلاً على زهده أن نذكر الروايتين التاليتين:
الأولى: قال ابن فضل الله العمري كان يجيء ابن تيمية من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافا ومآت، لا يلمس منه درهما بيده، ولا- ينفق آخر في حاجته، وكان إذا لم يجد ما ينفقه على من يسأله يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه. قال وهذا مشهور عند الناس من حاله.
والثانية: قال أحدهم: كنت يوما جالسا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية فجاءه إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجا إلى ما يقيم به، فنزع الشيخ عمامته ومن غير أن يسأله الرجل وقسمها نصفين فاعتم بنصفها، وأعطى الرجل المحتاج نصفها الآخر فاعتم به.
حلمه رحمه الله تعالى:(26/382)
إن الحلم خلق فاضل، وكمال نفسي قل من يظفر به، والعلماء كثيرون ولكن أهل الحلم فيهم قليل.
إذ الحلم: ضبط النفس عند الغضب، أو هو عدم الغضب. والغضب فطري، ولكن الحلم كسبي ومن لا يغضب لا يحلم. وأكثر مظاهر الحلم عند اشتداد سورة الغضب وحب الانتقام ممن اعتدى وظلم. فمن أوذي وقدر على أذية من آذاه ولم يفعل فقد حلم وعفا وغفر في القرآن الكريم (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
ومن هنا كان عظماء الرجال وخاصة دعاة الحق والخير من أعلم الناس وأكثرهم صفحا وعفوا ولقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية المثل في باب الحلم، فإنه على كثرة من آذاه وعاداه لم يثبت أنه انتقم يوما من أحد منهم حتى ولو مكن منهم ... وهذا غاية الحلم ونهايته أنه لما نقل ابن تيمية إلى الديار المصرية وسجن بالجب بقلعة الجبل سنة ونصفا، ولما أفرج عنه واجتمع بالسلطان في حفل كبير ضم القضاة والأمراء وأعيان البلاد، وأكرم الشيخ إكراما عظيما، وشاوره السلطان في قتل بعض أعدائه وخصومه فامتنع الشيخ من ذلك، ولم يقبل أن يقتل أحد بسببه، وجعل كل من آذاه في حل من أمره. وهكذا تتجلى في أحمد صفة الحلم التي هي عنصر من أقوى عناصر الكمال في الدعاة الصالحين، وبذا كان ابن تيمية نموذجا صالحا في حياة الدعوة ودنيا الدعاة.
شجاعته وصبره.(26/383)
إن شجاعة أحمد بن تيمية بنوعيها العقلية والقلبية كانت نادرة في الرجال وقد أصبح بها والحق يقال أسوة صالحة للمؤمنين، وليس أدل على شجاعته القلبية والعقلية معا من تلك الوقفة الجبارة التي وقفها في وجه جيوش التتار، وما أقام به من حشد القوات وجمع الطاقات لقتالهم، وهو العالم الزاهد الرباني فقد جعل الله تبارك وتعالى طرد تلك القوة الفاتكة العاتية التي دمرت وخربت وعاثت في ديار الإسلام فسادا، على يديه وبسبب ما قام به. وقد كانت له مواقف مع بعض ملوك التتار نادرة في الشجاعة والتضحية والفداء.
فقد روي أن ملك الكرج أراد أن يفتك بأهالي دمشق فيسبي نساءهم وذراريهم ويغنم أموالهم فبذل مالاً كثيرا للسلطان غازان المغولي الذي كان قد أسلم أول من أسلم من ملوك المغول، بذل له أموالاً طائلة ليخلي بينه وبين سكان دمشق. وبلغ الخبر شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية فقام من فوره، وانتدب رجالا من وجوه البلاد وكبرائهم، من ذوي النهى والعقول الراجحة. ولما وصلوا إلى السلطان المغولي أخذ الشيخ يحدثه بقول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان ويقرب منه في أثناء حديثه حتى كاد يلصق ركبته بركبتي السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه، مصغ لما يقول، شاخص ببصره إليه لا يعرض عنه، وذلك مما أوقع الله تعالى في نفسه من المحبة والهيبة للشيخ حتى سأل قائلا من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولم أر من هو أوقع منه حديثا في نفسي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه! وقال الشيخ للترجمان قل للسلطان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وعملا الذي عملت: عاهد قومنا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وَجُرْت. فبذل الشيخ نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله ذلك، فكان سببا، وكان رحمه الله تعالى يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.(26/384)
ومن مظاهر شجاعته أيضا أن أحدا من المسلمين شكا إليه ما فعل به أحد السلاطين وكان هذا السلطان ذا جبروت، ظلم واعتدى وأخذ أموال الناس، فذهب إليه الشيخ ولما دخل عليه قال له السلطان في تهكم وازدراء، إني كنت أريد أن آتي إليك، لأنك عالم زاهد، فأجابه الشيخ قائلا، موسى كان خيرا مني، وفرعون كان شرا منك وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات، ويعرض عليه الإيمان.
ومن مظاهر شجاعته أيضا أن وشى به أحد خصومه المبطلين إلى الملك الناصر لدين الله فأحضره السلطان ووجه إليه تهمة الخيانة فقال له: بلغني أنك قد أطاعك الناس وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث أحمد بالتهمة الباطلة وقال في هدوء ورباطة جأش وثبات قلب وبصوت عال: أنا أفعل ذلك؟ والله أن ملكك لا يساوي عندي فلسا واحدا، فتبسم السلطان من ذلك وقال: والله إنك صادق، وأن الذي وشى بك لكاذب وهذا من جراء ما ألقى الله تعالى في قلبه من الهيبة العظيمة والمحبة الدينية، ولولا ذلك لكان يفتك به.
هذا عن شجاعة ابن تيمية رحمه الله تعالى.
أما عن صبره فحدث ولا حرج، وحسبنا أن نعرف أن حياته كلها قضاها في جهاد متواصل بالسيف واللسان والقلم فما كلَّ ولا ملَّ، ولا ترك دعوة الإصلاح في كل حياة المسلمين حتى توفاه الله تعالى في قلعة دمشق.
وماذا نقول عن صبر ابن تيمية وهو القائل: ماذا يبغي الأعداء منى! أو ما يصنع أَعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني. أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة وكان يقول: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه.
كمال عبوديته:(26/385)
إن تحقيق العبودية بالعبادة والتوكل، وصدق اللجأ، والإنابة إلى الله تعالى بكل حال من صفات شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الغالبة عليه. فلننظر إليه عندما يؤمر به إلى السجن كيف يكون حاله: ذكر صاحب الكواكب الدرية: إن الشيخ لما أمر به إلى السجن بقلعة دمشق أظهر السرور بذلك، وقال إني كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم. وروي أنه لما سجن بمصر بسجن القضاة، بحارة الديلم صار الحبس بالعلم والتعلم والعبادة والدين خيراً من كثير من الزوايا والأربطة والمدارس، وصار عدد كبير من المساجين إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إلى الشيخ حتى صار السجن يمتلئ بهم.
وكان رحمه الله تعالى يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه. ولما دخل القلعة وأصبح داخل سورها قال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. فكان يرى في السجن جنة الدنيا لما يحققه له من القرب من ربه بالتفرغ لعبادته والانقطاع إلى الله تعالى فيصبح في جنة أنس ونعيم نفس. حكى عنه عارفوه أنه مع كثرة ما يهدد، ويضايق ويحبس كان أطيب الناس نفساً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وما هذا إلا لقوة إيمانه، وكمال عبوديته، وصدق توكله.
حسن دعوته:
إن من غير المشكوك فيه أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كما كان رجل جهاد، بالنفس والمال في سبيل الله، كان رجل دعوة وإصلاح، وقد كملت رجولته في ذلك فلم يدانيه أحد من معاصريه، ولا ممن جاءوا بعده بحال من الأحوال. وهذا من فضل الله عليه، والله يؤتي فضله من شاء وهو الحكيم العليم.(26/386)
تصدى ابن تيمية لمحاربة الفساد المستشري في أمة الإسلام والمتمثل في الحكام والعلماء والعباد من المتصوفة والمبتدعة والخرافيين، فقاومه بالحجة والبرهان وانبرى لمقاومته الحكام بالوعيد والتهديد، والسجن والحرمان، وتصدى له العلماء، بالإنكار والتشنيع والوشايات لدى الحكام وتصدى له المتصوفة والمبتدعة بالكيد والمكر والدس والخداع والكذب والتضليل.
ووقف الشيخ وحده في الميدان ليس له من ولي ولا نصير إلا ربه تعالى وكفى بالله ولياً ونصيراً. وكان ما أجمع عليه أعداؤه فيه ثلاث مسائل ادعوا أنه خالف فيها الإجماع وهي طلاق الثلاث، والوسيلة، وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. هذه أبرز ما اجتمع عليه أعداء الشيخ فحاربوه عليها حربا ضروسا بلا رحمة ولا شفقة، فما تركوا وسيلة للنيل من الشيخ إلا استعملوها، فكذبوا عليه، وزودوا وافتروا. وقالوا ما لم يقله عدو في عدوه والشيخ صابر محتسب يقرع الحجة بالحجة، ويبين زيف الدعاوى، وافتراء المفترين. كل ذلك بأسلوب نزيه، وكلام طيب، وقول حسن فلا يغلظ في قول، ولا يجفو في عبارة، ولا يحاول انتقاص أحد، أو النيل من كرامته إن كان من ذوي الكرامات. الأمر الذي يعد فيه ابن تيمية فريدا وحيداً أشبه رجل بنبي في دنيا الرجال، وكان إذا التبس عليه أمر أو خفيت عليه حال أو لم يتبين وجه الحق في مسألة فزع إلى ربه يستعلمه ويستهديه فكان يقول في جوف الليل وقد انقطع إلى ربه: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. فيعلمه ربه ويهديه إلى وجه الحق الذي التبس عليه.. وما مات ابن تيمية حتى أوضح منهج الإسلام، وأقام سبيل الدعوة، وفتح الله به عيونا عميا وأسمع بدعوته آذانا صما، وهدى به قلوبا زائغة عن الحق حائرة في طلب الهدى. وكل من أتى بعده من رجال الإصلاح والدعوة في(26/387)
هذه الأمة إنما هو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية. فرحمه الله رحمة واسعة.
وفاته رحمه الله تعالى:
بعد أن أظهر الله تبارك وتعالى الحق على يدي عبده ووليه، أَحمد بن تيمية، في مسائل كثيرة من أهمها العقيدة الإسلامية بجوانبها الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
وبعد أن استنارت في ديار الإسلام بعلوم شيخ الإسلام، وتبددت دياجير الظلام التي عاشتها بلاد الإسلام زمنا غير قصير وفي ليلة الاثنين لعشرين خلت من شهر القعدة عام 728 هجرية قبض الله تعالى إليه روح عبده الصالح، ليكرمها على ما قدمت من تضحيات جسام طلباً لمرضاة ربها، ورغبة فيما لديه من الكرامة. وفي ظهر يوم الاثنين خرجت جنازة شيخ الإسلام من المسجد الأموي بدمشق بعد أن صلي عليها عقب صلاة الظهر يشيعها إلى مثواها الأخير خلق من النساء منهن فقط تمكن خمسة عشر ألف امرأة مشيعة لجنازة الإمام وقالوا: إنه لم يتخلف عن جنازة الإمام ابن تيمية من سكان دمشق من حكام وأَمراء ورجال علم، وصلاح وعامة الناس إلا ثلاثة نفر كانوا أعداء ألداء للشيخ تخلفوا خوفاً على أَنفسهم من أن يرجمهم المسلمون بالحجارة لغضبهم عليهم وحزنهم على شيخهم وهم يودعونه الوداع الأخير. فرحم الله أحمد بن تيمية ورزقنا الأسوة به في طلبه العلم وفي صبره وشجاعته وجهاده وحسن دعوته.
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
إن الحلقة الأخيرة في سلسلة نماذج من الدعاة الصالحين هي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
تعريف:
فمن هو يا ترى محمد بن عبد الوهاب؟
إنه أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي. المولود بقرية العيينة سنة 1115 هجرية من البلاد النجدية الواقعة شمال مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية.
جوانب من الكمال في الشيخ رحمه الله:(26/388)
إننا في هذه السلسلة من أول حلقة فيها إلى هذه الأخيرة منها لا نعرض كثيراً لكمال في الداعية إذا كان وهبيا غير كسبي بعلة أن الوهبي لا تتأتى الأسوة فيه وإنما الأسوة تكون في الكمال الكسبي، ولذا لا نبرز من حياة الداعي إلا جوانب خاصة في حياته لكونها محط الاتساء، ومجال الاقتداء.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعاة الصالحين ممن آثرنا الكتابة عنهم للاقتداء بهم والاهتداء بهديهم. حياته كلها عظات وعبر وما من جانب منها إلا وهو صالح لأن يكون قدوة صالحة للمقتدين، وأسوة حسنة للمؤتسين ونظراً للحاجة الماسة للاختصار فإنا نكتفي بإبراز الجوانب التالية من حياته المليئة بالبر والهدى وهي طلبه العلم ورحلته في سبيله:
كماله العلمي. دعوته الإصلاحية. صبره وما لاقى من أذى في سبيل الدعوة، نجاحه في دعوته. سر نجاحه فيها.
طلب الشيخ العلم ورحلته في ذلك:
ما من شك أن النبوغ في كل شيء لابد له من عوامل تساعد عليه، ومن عوامل نبوغ الشيخ التي أثرت في حياته العلمية وكانت السبب البارز في نبوغه في العلم وتفوقه فيه على(26/389)
أقرانه أن والده الشيخ عبد الوهاب بن سليمان كان عالما فقيها ملما بالكتاب والسنة، ففتح الشيخ عينيه على نور العلم في بيت والده فأخذ منه ما كان طاقة له اقتدر بها على استيعاب شتى الفنون والعلوم وبخاصة العلوم الشرعية، وفي أثناء طلبه العلم ببيت والده قد ولع بمطالعة كتب الشيخين المصلحين الكبيرين شيخي الإسلام أحمد بن تيمية، وابن القيم الجوزية، فانفتح له بمطالعة كتبهما آفاق واسعة بعيدة في العلم والتطبيق. ونظر إلى ما حوله وإذا العلوم الشرعية في واد والناس في واد آخر، العلوم الشرعية تدعو إلى أن يعبد الله تعالى وحده وأن لا يعبد إلا بما شرع، والناس أكثرهم لا يعبدون الله وحده، ولا يعبدونه بما شرع ولكن بما ابتدعوا وحسنوا، فالشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي والجلي شائع ذائع معمول به وأكثر العبادات أعطيت حكم العادات فلا تأثير لها في تزكية النفس وإصلاحها وذلك لخلوها من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. ومن روح الإخلاص لله تعالى.
وهنا أخذ الشيخ تفكير عميق، وتواردت عليه أسئلة عديدة:(26/390)
هل ما عليه المسلمون اليوم في هذه الديار هو فرض لله تعالى؟ وهل المسلمون في غير هذه البلاد أحسن حالاً من هؤلاء؟ ما هي مقومات إصلاحهم، وعلى ما يصلحون، وتقفز إلى ذهنه إجابات متعددة، قد يكون منها: أن مقومات إصلاحهم أن يعلموا فإن أَكثرهم لا يعلمون. وأن ما يصلحون عليه لن يكون غير ما صلح عليه المسلمون الأولون: إنه الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تعلما وعلماً وعملاً وتطبيقاً. وتحرَّك الداعية الموهوب في محيط بلده ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، فتُقَابَل دعوته بالاستنكار الشديد بل وبالتجهيل له أحيانا والتسفيه، ورأى أن الرسوخ في العلم ضرورة لمن أَراد أن يقوم بالدعوة الإسلامية، واقتنع برأيه. وهنا عزم على الرحلة إلى ديار الإسلام لتحقيق غرضين ساميين: أَولهما التزود من العلم والإكثار من المعرفة، والثاني الاطلاع على أحوال المسلمين. ومعرفة ما هم عليه من الهدى والضلال.
وحان موعد الحج إلى بيت الله فخرج الشيخ حاجا وتمكن بذلك من الاتصال المباشر بالعالم الإسلامي فعرف ما عليه المسلمون علماء وجهالاً، وأن حالهم لا تختلف عن حال أهل بلاده النجدية، وقضى حجه، وجلس إلى العديد من علماء المسجد الحرام وأخذ عنهم ثم شد الرحْل زائراً المسجد النبوي الشريف ثم زار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزار قبري صاحبيه رضي الله عنهما وجلس إلى العلماء وكانوا كثيرين بالمسجد النبوي حتى لكان المسجد النبوي جامعة قائمة بذاتها فأخذ الحديث عن رجاله وأخذ التفسير عن رجاله كذلك وتضلع في كثير من العلوم كالفقه الحنبلي والتوحيد السلفي. ثم رحل إلى البصرة فطلب العلم بها من كبار
علمائها ثم رحل إلى الشام كما رُويَ راجلا بلا زاد ولا راحلة حتى كاد يهلِك في بعض أسفاره إلا أن الله أنجاه وكذلك ينجي الله تعالى أولياءه.(26/391)
ولما امتلأ وطابه وطال في العلم باعه، ورسخت في المعرفة قدمه عاد إلى بلاده النجدية، وقد عرف أحوال المسلمين، وعرف ما هم عليه من شرك وضلال وجهالات جهلاء وغايات دهماء وأيقن أنه لا دواء ولا شفاء إلا بالعلم والعمل. العلم بشرع الله تعالى والعمل به. فوطن نفسه لذلك واستعان بالله تعالى وبدأ دعوته.
كماله العلمي:
إن آية كمال علم المرء ورسوخه فيه هو ما يتحلى به من صفات الكمال النفسي وما يقوم به من دعوة وعمل ومن هنا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على درجة من الكمال العلمي لا تدانى ولنستمع إلى الشهادة التالية: قال بعض من ترجم له: كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى علما من الأعلام ناصرا للسنة مانعا للبدعة، خبيرا مطلعا، إماما في التفسير والحديث والفقه وأَصوله وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفا بأصول عقائد الإسلام وفروعها، كشافا للمشكلات حلالا للمعضلات، فصيح اللسان قوي الحجة، مقتدرا على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأَبينها، تلوح على محياه علامات الصلاح، وحسن السيرة وصفاء السريرة، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلحهم ببره وإحسانه ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة. قلما يفتر لسانه عن ذكر الله.
ومن مؤلفاته العديدة ما يلي:
ا- استنباط من القرآن (يقع في جزئين) .
2- كتاب التوحيد.
3- مختصر صحيح البخاري.
4- أَصول الإيمان.
5- كتاب الكبائر.
6- آداب المشي إلى الصلاة.
7- مختصر الإنصاف والشرح الكبير في الفقه.
9،- كشف الشبهات.
9- مختصر السيرة.
10- الثلاثة الأصول.
11- نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين.
12- مختصر زاد المعاد.
13- مسائل الجاهلية.(26/392)
وبهذه تبين أن الشيخ الداعية الكبير ما أطلق عليه لقب شيخ الإسلام إلا لكمال علمه، وما حققه به من هداية لخلق لا يحصون عدا، ولا يعدون كثرة ولا يخطئ المرء إن قال إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وإن كان تلميذا للإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم في علومه، وأفكاره، ومقومات دعوته، وأسباب جهاده، فإنه قد كان له الفضل الكبير في مد دعوة الإصلاح التي قام بها الإمامان المذكوران آنفاً بعد أن انكمشت، وكادت تذوى وتموت، فبعث الله الشيخ فجدد حياتها وأمدها بروح قوية ودفعها بحركة اطرد بها سيرها، حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في هذه الأيام. وهذا عائد إلى ما وهب الشيخ من صدق نية وصفاء طوية، وإخلاص لله تعالى في السر والعلانية.
دعوته الإصلاحية:
بدأَ الشيخ دعوته الإصلاحية التي أَطلق عليها المغرضون من ذوي النيات السيئة (المذهب الوهابي) بدأَها رحمه الله تعالى بقرية الحريملا حيث انتقل إليها والده الشيخ عبد الوهاب من العيينة وكانت حالة البلاد النجدية العقائدية من أسوأ البلاد حالا، إذ كان بها بعض القبور المنسوبة إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم يحج إليها، ويطلب منها حجاجها وزائروها قضاء الحاجات، ويستغيثون بها عند الشدائد، وإلمام الملمات. ومن بين تلك القبور قبر زيد بن الخطاب. ولم يقف أمر أهل الجهل والباطل على عبادة القبور فحسب بل استغاثوا بالأشجار والأحجار، فقد كان أهل المنفوحة يتوسلون بفحل نخل، ومن ذلك قول العانس من النساء: يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول.
وما أن أَعلم أهل بلاده بضلالهم، وأنكره عليهم حتى قام الناس رجالاً ونساء ينكرون على الشيخ ويناصبونه العداء لطول ما ألقوا من الباطل وما اعتادوا من الضلال ومع هذا فقد اهتدى أناس على يد الشيخ وأصبحوا أنصاراً وأعوانا.(26/393)
ولما أَذن الله بنصر دينه، بيت بعض العبيد الأنكاد المناجيس الشيخ فتسوروا عليه جدار المنزل وأَرادوا الفتك به، غير أَن الله أيقظ رجالاً من أهل الحي فصاحوا فيهم فهربوا. وهنا قرر الشيخ العودة إلى بلاه وكان بها حاكم صالح يقال له عثمان بن حمد بن معمر، فتلقى الشيخ بغاية الحفاوة والتكرم وعرض الشيخ عليه الدعوة فقبلها بعد أن عرف أنها حق وأن غايتها إصلاح العباد والبلاد وبانضمام هذا الأمير إلى الدعوة عزت فأمكن الشيخ أن يعلنها داوية وأن يغير الباطل بيده بعد أَن عجز عن تغييره بلسانه، فهدم قبة زيد بن الخطاب وقطع ما كان يعظم من الأشجار فعظم شأن الشيخ وذاع صيته في البلاد.
وهنا شعر حاكم الأحساء بخطر الدعوة إذا استفحل أَمرها فكتب إلى واليه عثمان بن معمر يقول له: إن المطوع الذي عندك قد فعل وفعل فإذا وصلك كتابي هذا فاقتله، وإلا قطعنا عنك خراجك. فخاف عثمان على مركزه فأمر بإخراج الشيخ من بلده، فخرج الشيخ يمشي على رجليه ووراءه فارس موكل به.
ومن كرامات الشيخ رحمه الله أن الفارس الموكل به قد هم بقتلة في الطريق بإيعاز من ابن معمر، غير أَنه لما هَمَّ ارتعدت يده وخارت قواه ولم يفعل، فكفى الله الشيخ شره والحمد لله. وهذه ثمرة من ثمار ذكر الله تعالى والتوكل عليه، إذ كان الشيخ في طريقه لا يفتر عن ذكر الله، ومن الحين إلى الحين يردد قول الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه) .(26/394)
ووصل الشيخ قرية الدرعية ونزل ضيفا على الشيخ عبد الرحمن بن سويلم، وخاف الأخير على نفسه من الأمير محمد بن سعود أمير المنطقة، فسكن الشيخ من روعه، وطمأنه على نفسه فسكن وهدأ. وعلم بوجود الشيخ عند بن سويلم أعيانُ البلاد وضواحيها فزاروا الشيخ خفية فوعظهم ورغبهم في الخير، وبين لهم أهداف دعوته وأنها دعوة حق وخير، وكان للأمير محمد بن سعود إخوان وزوجة صالحة فعزموا ثلاثتهم على أن يذكروا للأمير عن وجود الشيخ ويرغبونه في زيارته والاتصال به، ونصرته وتأييده، ففعلوا، فزار الأمير الشيخ فدعاه إلى التوحيد، وبينه له، ورغبه وبشره بنصر الله تعالى إن هو نصر دينه، واقتنع الأمير بالمبدأ وأعلن تأييده للشيخ ونصرته على إبلاغ دعوته، غير أنه اشترط على الشيخ شرطين الأول أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكن لهم، والثاني أن لا يمنعه من أخذ الخراج المضروب على أَهل الدرعية وقت الثمار فأجابه الشيخ إلى ذلك فقال أما الأول فالدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثاني فلعل الله يفتح عليك الفتوحات وتنال من الغنائم ما يغنيك به عن الخراج.(26/395)
وهنا دخلت الدعوة طوراً جديداً إذ علم الناس بانضمام الأمير محمد بن سعود إلى صف الدعوة وعرفوا أن الشيخ عز جانبه فأخذ الناس يفدون من أنحاء البلاد النجدية عليه لاسيما من سبق أن اقتنع بالدعوة وآمن بها وكثر عدد الأنصار فخافها أصحاب المنافع المادية فناصبوها العداء، وبدأت الحرب بين فريق الهدى وفريق الضلال. ودارت المعارك دامية، ونصر الله جنده، فأخذت القرى النجدية تسقط الواحدة تلو الواحدة ولم تمضي سنوات حتى سقطت العاصمة الرياض ودخلها الإمامان إمام القلم وإمام السيف وتكونت أَول دولة قرآنية في البلاد النجدية وذلك سنة 1187 هـ وبعدها بسنة توفي الإمام محمد بن سعود وبويع لولده عبد العزيز بن محمد بن سعود وهنا أَسند الشيخ مهام الأمور إلى الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود وتفرغ لنشر العلم، والدعوة فأقبل على إلقاء الدروس ومراسلة العلماء والحكام في أنحاء العالم الإسلامي يشرح لهم الدعوة وبين لهم حقائق التوحيد ويظهر لهم ما هم عليه من الباطل والضلال. ووصل صوت الشيخ إلى أقاصي البلاد الإسلامية وأجابه من أَراد الله هدايته وأعرض من لم يكن أهلاً للخير والفلاح. هذه دعوة الشيخ الإصلاحية التي أثمرت وجود دولة إسلامية بكاملها اتسع نطاقها حتى غزت على يد الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود العراق ووصلت إلى كربلاء وأوقعت بأهلها خسائر جساما وهدمت قبة الحسين بها.
صبر الشيخ وما لاقى من أذى:(26/396)
إن ما لاقاه الشيخ من الشدائد وما قاساه من أذى الناس في سبيل الدعوة إلى الحق أمر لا يوصف وحسبه أن عاش مجاهدا طيلة عمر مديد بلغ إحدى وتسعين سنة (1) وحسبنا من ذكر صبر الشيخ ذكر مواطنه وقد مر بنا بعضها من ذلك سفره في طلب العلم إلى الشام على رجليه حيث لم يجد راحلة ولا دابة يركبها، وما لاقى من مشاق السفر مما أشرف معه على الهلاك خروجه من العيينة بأمر ابن معمر وهو حاسر الرأس حافي القدمين خائفاً يترقب وقد هم الفارس الموكل به في الطريق بقتله فاستل سيفه وأَراد أن يضرب الشيخ غير أن الله تعالى أنزل به رعبا فشل معه في ضرب الشيخ.
الحروب التي دارت في بلاد نجد وشنها عليه وعلى الأمير محمد بن سعود أعداء الإصلاح والتوحيد تلك الحروب التي دامت سنوات كلها خاضها الشيخ جنبا إلى جنب مع الأمير محمد بن سعود والموحدين. وقد يغنينا عن مزيد ذكر الأحداث الجسام التي يتجلى فيها صبر الشيخ وتحمله الأذى في سبيل دعوة الحق أَن أخاه سليمان وهو شقيقه قد تصدى له يوما في إبان الدعوة وظهورها، تصدى له أخوه فطعنه بسكين طعنات قاتلة وفر والتحق بصفوف أَعداء الدعوة الإسلامية. غير أن الله تعالى رحمه ببركة دعاء الشيخ فتاب وعاد إلى صفوف دعوة الحق وناصرها حتى مات.
نجاح الشيخ في دعوته وسر ذلك النجاح:(26/397)
إن نجاح دعوة الشيخ أمر ظاهر لا يشك فيه، وقضية مسلمة لا يجادل فيها فما من دعوة إصلاحية ظهرت بعد دعوة الشيخ وفي كل ديار المسلمين شرقا وغربا إلا وهي ترديد لصدى دعوة الشيخ رحمه الله تعالى. وبالرغم من العنف الذي واجه دعوة الشيخ والشدة التي حوربت بها من قبل السياسيين والعلماء والانتفاعيين من ذوي النيات الفاسدة، والأغراض الخبيثة فإنه لم يبق صقع من أصقاع العالم الإسلامي إلا وفيه مؤمنون قلوا أو كثروا يترحمون على الشيخ ويدعون بدعوته، ويسيرون على منهجه في الدعوة إلى الله تعالى وخير ما يقال في هذا الحديث عن نجاح دعوة الشيخ أن دعوة الشيخ شابهت دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل مراحلها وإلى أن انتهت بنصرها، ولنورد وجوه الشبه فنقول: إن البلاد النجدية بصورة خاصة كانت عند ظهور الشيخ في غاية الفساد والضعف من حيث العقائد والأخلاق والسلوك العام والخاص وكذلك كانت حال مكة والبلاد حولها عند بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بدأ الشيخ دعوته في نجد بدأها سرا وكان المؤمنون بها قلة لا تذكر ولاقوا من الضغط الشديد والعداء العنيد مما اضطر الشيخ إلى الهجرة من الحريملا إلى العيينة ثم إلى المدينة وكذلك أتباعه كالذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى استقروا بدار الهجرة والإيمان بالمدينة المنورة.(26/398)
عندما آمن بدعوة الشيخ الأمير محمد بن سعود وانتصر لها أصبحت الدرعية مركز الدعوة ومنطلقها كالذي تم للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة النبوية إذ بعد الهجرة إليها والاستقرار بها أصبحت مركز الدعوة ومنطلقها بدأ جهاد الشيخ المسلح من الدرعية كما بدأ جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم المسلح من المدينة. انتصرت الدعوة الإسلامية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن خاض الرسول صلى الله عليه وسلم وأَصحابه المعارك البطولية ضد جيوش البغي والطغيان. انتهت بتطهير مكة وكل شبه الجزيرة من الشر ومظاهره والفساد وآثاره. وأعلن فيها عن التوحيد والحق والعدل وسادها طهر وصفاء وعدل وأمن ورخاء. وانتصرت دعوة الشيخ في نجد أيضا بعد معارك طويلة خاضها الشيخ وأتباعه على الحق وانتهت بتطهير البلاد النجدية من الشرك والخرافة والباطل والشر والفساد وسادها العلم والعدل وحل بها الأمن والرخاء بتكوين دولة آل سعود بها الأمر الذي لا مجال لإنكاره.
ففي هذه المراحل كلها كان الشبه بين الدعوتين كبيرا مع الفارق الذي هو النبوة وعدمها وآخر وجوه الشبه أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسل الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام لسعادتهم وكمالهم فراسل كسرى وقيصر وغيرهما، فكذلك الشيخ راسل أمراء وعلماء العالم الإسلامي يدعوهم إلى الإسلام، ومن بين ما أذكر رسالة وجهها إلى علماء جامع الزيتونة بتونس ورسالة وجهها إلى الملك سليمان ملك المغرب، وقد رحب الأخير بالرسالة وشرحها لرجاله وقدمها للأئمة في خطبة جمعة ضمنها أهداف الدعوة الإسلامية جزى الله تعالى كلاً من المرسل والمرسل إليه خير الجزاء.
وأخيرا إن سر نجاح دعوة الشيخ يكمن في أمور يجب أن لا تغيب عن ذهن الداعي الإسلامي الذي يريد أن يبلغ الكمال في دعوته وتلك الأمور هي:(26/399)
1- العلم والمعرفة والرسوخ في ذلك الأمر الذي يمكن الداعي من إظهار الحجج ومقاومة الباطل وإظهار زيف التضليل مهما طلى وحسن ونمق.
2- قوة الصلة بالله تعالى وذلك بالإكثار من القربات وفعل الطاعات.
3- الترفع عن الدنيا والزهد في حطامها الفاني، وعدم الالتفات إلى ملاذها.
4- الإخلاص في الدعوة إلى الله تعالى، وعدم نسوبها بأمة شرك ما.
5- الصبر والتحمل وعدم الكلل أو الملل بحال من الأحوال.
6- توطين النفس على الجهاد وخوض معاركه عندما يحين وقته ويتعين القيام به.
هذه الأمور كلها قام بها الشيخ واتصف بها في مثالية نادرة، فكانت سر نجاحه في دعوته وبلوغها أهدافها في الهداية والإصلاح. ولا يسعنا هنا إلا أن نترحم على الشيخ ونسلم عليه فرحمة الله عليك يا بن عبد الوهاب وسلام عليك في المجاهدين، وسلام عليك في الدعاة الصالحين.
قيل لحكيم أَي الأمور أَجل عقوبة فقال ظلم من لا ناصر له إلا الله ومقابلة النعمة بالتقصير واستطالة الغني على الفقير قيل فمن أظلم الناس لنفسه قال من تواضع لمن لا يكرمه ومدح من لا يعرفه قيل فمن أعظم الناس حلما قال من قمع شبه بالصبر وجاهد هواه بالعزم قيل فبم يسلم الإنسان من العيوب قال إذا جعل الشكر رائده والصبر قائده والعقل أميره والاعتصام بالتقوى ظهيره والمراقبة جليسه وذكر الزوال أنيسه.
الدوريات الخليجية
عن مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي صدر كتاب بحصر الصحف والمجلات (الدوريات) التي تصدر في دول المنطقة الأعضاء في المركز باسم (الدوريات الخليجية- الصحف والمجلات الصادرة في أقطار الخليج العربي) - بغداد 1402 هـ/1982م- وذلك لتسهيل مهمات المركز ومهمات الباحثين والعاملين في المؤسسات الإعلامية والثقافية والعلمية داخل منطقة الخليج العربي وخارجها.
وقد تضمن هذا الكتاب بياناً عن مميزات الدوريات وأنواعها- وشمل حصرا لها في الدول الآتية:(26/400)
1- دولة الإمارات العربية المتحدة.
2- دولة البحرين.
3- المملكة العربية السعودية.
4- الجمهورية العراقية.
5- سلطنة عمان.
6- دولة قطر.
7- دولة الكويت.
وإن مجلة الجامعة الإسلامية ليسرها أن تقدم الشكر إلى مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي، لما يبذله القائمون عليه من جهد في إخراج هذا الكتاب المفيد، ونسأل الله أن يجزيهم خيرا، وأن يوفق الجميع لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تيمية هذه هي أم الجد الأعلى لشيخ الإسلام نسب إليها ولدها لكونها كانت عالمة واعظة، فنسب إليها ولدها وعرف بها.(26/401)
من نحاة الأندلس
ابن هشام الخضراوي
للدكتور أحمد محمد عبد الله
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فمدرسة النحو الأندلسية ذات نشاط نحوي متميز، فلقد تمثَّل علماؤها تراث أئمة النحو السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، ومنذ أوائل القرن السادس الهجري وحتى منتصف القرن الثامن تقريبا، نشطت الحركة النحوية بشكل لافت، فظهر الاجتهاد في الفروع والكثرة الهائلة في وفرة الاستنباط، والروعة الفائقة في حسن التعليل والاحتجاج.
وبالجملة فقد استطاع نحاة الأندلس- في الفترة الزمنية السابقة- أن يختطوا لأنفسهم طريقا يبعد إلى حدٍّ مَّا عن التأثير المشرقي، فعوَّلوا على أنفسهم بعد أن برز فيهم كوكبة من النحاة الكبار، مازالت آثارهم إلى يومنا هذا تشكل ثمرات يانعة في مجال الدراسات النحوية.
وبقليل من تفصيل هذا الإجمال يمكن القول: إن معرفة الأندلسيين للنحو في المشرق ترجع إلى أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث:-
فقد تناهى إلى مسمعهم ما كان يدور في مدينتي البصرة والكوفة من توفُّر طبقة من العلماء على الدراسات النحوية واللغوية ... الأمر الذي أغرى بعضهم أَن يشد رحاله إلى المشرق بحثا عن مكنون هذه الدراسة وأسرارها.
وكان أول مرتحل إلى المشرق هو جودي بن عثمان المتوفى سنة 198 هـ[1] الذي اتصل بزعيم المدرسة الكوفية الكسائي المتوفى سنة 189 هـ وبتلميذه الفراء المتوفى سنة 207 هـ.
وبعد أن عرف الكثير عن هذه الدراسة قفل راجعا إلى الأندلس، ليكون بذلك أَول عالم أندلسي يحيط بالنحو الكوفي، ويؤلف فيه كتاباً وسمه بـ ((منبه الحجارة)) [2] .(26/402)
وكان أول من اهتم بالنحو البصري هو محمد بن موسى المعروف بالأفشنيق المتوفى سنة 307 هـ[3] الذي جعل وجهته مصر ليلتقي بعالمها الفذّ أبي جعفر الدينوري المتوفى سنة 282 هـ[4] ليأخذ عنه كتاب سببويه وليعود إلى موطنه ((قرطبة)) مقرئا ومدرسا إياه لتلاميذه الذين التفوا حول حلقته مبهورين بهذا المؤلف العظيم، ولتقوم بعد ذلك حركة نحوية نشطة عكفت على مدارسة هذا الكتاب وغيره من كتب النحويين البصريين والكوفيين.
وهكذا فقد بدأ علم النحو في الأندلس ((كما بدأ في المشرق عبارة عن قطعة مختارة فيها لفظ غريب يشرح، ومشكلة نحوية توضح على النحو الذي نراه في ((أمالي القالي)) و ((الكامل للمبرد)) ، ثم ألفوا نحواً في مسائل جزئيه كما فعل أبو علي القالي نفسه في ((فعلت وأفعلت)) و ((المقصور والممدود)) وكما فعل ابن القوطيَّة في كتابه ((الأفعال)) فلما انتقل إلى الأندلس كتابا الكسائي وسيبويه ألف الأندلسيون في النحو من حيث هو كلٌّ يشمل. جميع الأبواب)) ( [5] ) .
ويعد صاحب المحكم ابن سيدة المتوفى سنة 458 هـ أول أندلسي يشتغل بالنحو البغدادي على النحو الذي اشتغل به العلماء قبله بالنحو البصري والكوفي، وعلى الرغم من وصول النحو الكوفي والبغدادي إلى الأندلس فلقد كان نحو المدرسة البصرية هو الرائد الأول للأندلسيين، فقد اهتموا- في الأعم الأغلب- بمنهج السماع مبتعدين عن القياس ما أمكنهم ذلك ( [6] ) ، وسنرى تأثير هذا المنهج على ابن هشام الخضراوي نفسه حين يأتي الحديث عنه بعد قليل.
وبإطلالة القرن السادس الهجري نجد أن نحاة الأندلس قد اعتمدوا على أنفسهم بشكل يثير الإعجاب وقد برز في هذا القرن وما بعده علماء أفذاذ دوت شهرتهم في الآفاق أمثال:(26/403)
ابن السيد البَطلْيوسي المتوفى سنة 521 هـ، وابن الباذش المتوفى سنة 528 هـ، وابن الطراوة المتوفى سنة 528 هـ، وابن طاهر المتوفى سنة 580 هـ، والسهيلي المتوفى سنة 581 هـ، والجزولي المتوفى سنة 607 هـ، وأبو علي الشلوبين المتوفى سنة 645 هـ، وابن عصفور المتوفى
سنة 663 هـ، وابن مالك العظيم المتوفى سنة 672 هـ، وأبي حيان المتوفى سنة 745هـ اللذين رحلا إلى المشرق وغير ذلك من جلة العلماء. ويمكننا بعد عرض ما تقدم أن نستخلص النتائج التالية:-
أولاً: بدأت معرفة الأندلسيين للنحو منذ أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث.
ثانياً: كان النحو الكوفي هو أول ما عرفه الأندلسيون متمثلا ذلك في رحلة جودي بن عثمان والتقائه بإمام المدرسة الكوفية علي بن حمزة الكسائي وتلميذه الفراء، ثم عرفوا بعد ذلك النحو البصري عن طريق كتاب سيبويه الذي نقله الأفشنيق عن أبي جعفر الدينوري.
ثالثاً: لم يتهيأ للأندلسيين الإلمام بالمذهب البغدادي إلا في منتصف القرن الخامس على وجه التقريب على يد ابن سيده.
رابعاً: كانت للمذهب البصري في الأندلس السمة الغالبة، فقد رأَينا عشرات من علماء الأندلس وقد عكفوا يشرحون كتاب سيبويه ويعلقون عليه ويدرسونه ... الأمر الذي ترك بصمات واضحة في مؤلفاتهم.
خامساً: اعتمد الأندلسيون بشكل أساسي على المشرق حين بدأوا يشتغلون بهذا العلم، ولكنهم بمرور الوقت عولوا على أنفسهم، وحاولوا أن يضيفوا للنحو جديدا، وقد تمثل هذا فِي بعض الآراء الاجتهادية في المسائل الفرعية، وتمثل في دعوة ابن مضاء القرطبي وثورته العارمة على العامل النحوي والمطالبة بإلغائه، أو إقصائه جانبا.(26/404)
بل إنه يمكن القول: إن القرن السادس الهجري يمثل قمة ازدهار النشاط النحوي، إذ قاموا بالاستقلال في البحث والتأليف، لذا كان إنتاجهم وافراً وأكسبهم ذلك فضلاً كبيراً على التراث، حداهم في ذلك روح التفاني والجهد الدائب في سبيل خدمة العربية والإخلاص لها، وقد كان الإنتاج الرائع لعلماء الأندلس تعويضا خلاّقاً عما فقده المشرق حين تهاوى تحت جحافل الغزاة والطامعين، وبديلاً فعَّالا لما افتقدته الدراسات النحوية من جهود علماء البصرة والكوفة الذين انْحلَّ عقدهم بعد القرن الرابع الهجري تقريباً.
تلك فكرة عجلى عن الدراسات النحوية في الأندلس منذ نشأتها حتى عصر عَالِمنَا الذي سنتحدث عنه ((ابن هشام الخَضْرَاوي)) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن هشام الخَضْرَاوي لم ينل حظه من الشهرة والذيوع مثلما نالها ابن هشام المصري ذلك أن الأخير بلغ شأواً بعيدا في فنه فألف كتابه المشهور (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وغيره كأوضح المسالك، وشرح اللمحة البدرية ... وهي مؤلفات تدلك على علو كعبه في هذا الفن وقوة اقتداره وتمكنه العجيب، ولو اقتصر على المغني.. لكفاه منزلة ورفعةً، ولهذا غطت شهرته الآفاق، وتبارى الباحثون في الكتابة عنه مرَّات ومرَّات، غاية القول أنه لم يترك لزميله في المغرب الفرصة للظهور حتى يمكن للدراسات أن تدور حوله، فظل شخصية يكتنفها الغموض، وعلى الرغم من ذلك فقد وجدنا ابن هشام المصري يعتمد آراء ابن هشام الخضراوي ويعول عليها، والقارئ لكتاب مغني اللبيب يجده يشير إليه حينا يلقبه الخضراوي [7] وحينا بدونه [8] ، وكذا فعل في أوضح المسالك وشرح اللمحة البدرية، وهذا يعطينا الدلالة على مكانة ابن هشام الخضراوي في مجال الدراسات النحوية وأثره في الخالفين بعده من العلماء. فمن هو؟(26/405)
هو محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي الأنصاري الخزرجي الأندلسي، وكنيته أبو عبد الله، ولد سنة 575 هـ[9] بالجزيرة الخضراء التي نسب إليها والتي تحدث عنها ياقوت الحموي [10] بقوله:
هي مدينة مشهورة بالأندلس، وقبالتها من البَرِّ بلاد البربر ((سبته)) وأعمالها متصلة بأعمال شذونه وهي شرقي شذونه وقبلي قرطبة، ومدينتها من أشرف المدن وأطيبها أرْضَا، وسحرها يضرب به ماء البحر، ولا يحيط بها البحر كما تكون الجزائر لكنها متصلة ببر الأندلس ... ومرساها من أجود المراسي وبين الجزيرة وقرطبة خمسة وخمسون فرسخا، وهي على نهر برباط ... الخ)) .
وقد تحدث العلماء عن مكانته العلمية فقالوا: إنه كان رأساً وأستاذاً في العربية بعامة والنحو بخاصة فقد تلقى تعليمه عن أساتذة أفذاذ أمثال عمر بن عبد المجيد الرندي [11] (بضم الراء) وعلي بن محمد بن يوسف [12] ومصعب بن محمد بن ذرّ الخُشْني [13] وأخذ القراءات عن والده [14] كما أفاد منه وتتلمذ عليه من كان لهم شأنهم مثل عمر بن محمد المعروف بالشلوبين والذي لقب بالأستاذ [15] وغيره من الذين نهلوا من علمه.
وقد ترك عدداً لا بأس به من المصنفات دلَّت على المكانة المرموقة التي يتمتع بها هذا العالم وهي: فصل المقال في أبنية الأفعال، المسائل النخب، الإفصاح بفوائد الإيضاح، الاقتراح في تلخيص الإيضاح، شرح الإيضاح، غرر الإصباح في شرح أبيات الإيضاح، النقض على الممتع لابن عصفور، وله نظم ونثر وتصرف في الأدب ... ((وقد وافته المنية بتونس ليلة الأحد رابع عشر جمادى الآخرة سنة 646 هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والعلم والمعرفة)) [16] .
والقارئ لكتب النحو المختلفة يجد حشدا من آرائه النحوية التي تحمل سمات شخصيته ومذهبه النحوي، فهناك آراء تفرَّد بها وآراء وافق فيها البصريين والكوفيين، وآراء وافق فيها العلماء قبله وآراء كانت موضع نقد من العلماء ويتمثل كل ذلك فيما يلي:(26/406)
أولاً: له آراء اجتهادية أو آراء انفرادية إن صحَّ هذا التعبير تطالعنا في كتب النحو المختلفة، وهي تكشف عن فكره واستقلال شخصيته في كثير من الأحيان، فقد ارتضى كثيراً من الآراء وتفردَّ بها، ورفض أن يكون مقلدا فيما ذهب إليه، والمقام يقتضينا أن نذكر طرفا منها على سبيل المثال لا الحصر:-
. من أوجه ((حتى)) أن تكون عاطفة بمنزلة الواو، إلا أنه يشترط في معطوفها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون المعطوف إمَّا بعضا من جمع قبلها نحو: قدم الحجاج حتى المشاة، أو جزءا من كل نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أو غير ذلك.
الثاني: أن يكون المعطوف غاية لما قبلها إمَّا في زيادة أو نقص نحو: حضر الفقراء حتى الأغنياء، ونحو: غلبك الرجال حتى الأطفال.
الثالث: أن يكون معطوفها ظاهراً لا مضمراً، كما أن ذلك شرط مجرورها، ذكر ذلك الخضراوي. قال ابن هشام المصري: ولم أقف عليه لغيره [17] ، أي الشرط الثالث.
. من أوجه ((لو)) أن تكون للتمني نحو: لو تأتيني فتحدثني، وعلى هذا المعنى قوله تعالى: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) [18] أي فليت لنا كرة، ولهذا نصب (فنكون) في جوابها، كما انتصب (فأفوز) في جواب ليت في نحو قوله تعالى: (يا ليتني كنت معهم فأفوز) [19] .
واختلف في (لو) هذه فقال ابن هشام الخضراوي: هي قسم برأَسها لا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت، وتبعه في هذا ابن الضائع المتوفى سنة 680 هـ[20] .
. جوز الزمخشري في قوله تعالى: {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [21] أن تعرب (منْ) فاعلا، والواو قبلها علامة، واختلف هل يقاس على هذه اللغة فيقال: جاءوا زيد وعمرو وبكر على أن الواو علامة وما بعدها فاعل. منع ذلك ابن هشام الخضراوي [22] وحده.(26/407)
أجاز النحاة إسناد ((أوشك، وعسى، واخلولق)) من أفعال المقاربة إلى ((أن يفعل)) فتكون أن والفعل مغنية عن الخبر، وسادة مسد الجزأين، فتقول: اخلولق أن تمطر السماء. قال الخضراوي لا يجوز ذلك الإسناد في اخلولق، بل يختص بأوشك وعسى فقط [23] .
. ذهب قوم منهم الزمخشري والسيرافي إلى أنه: يجب وقوع خبر ((أن)) الواقعة بعد ((لولا)) فعلا ليكون جبراً لما فات ((لو)) من إيلائها الفعل ظاهراً نحو قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا) [24] ولا يجوز عندهم: لو أَن زيداً أخوك، وجوز الخضراوي: وقوع خبر ((أنَّ)) بعد ((لو)) جامداً ومشتقا غير فعل، قال السيوطي [25] : وهو الصواب لوروده في قوله تعالى: (ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام) [26] .
. ذهب ابن هشام الخضراوي إلى أَن ((الباء)) المفردة قد تكون بمعنى ((الكاف)) حين تدخل على الاسم، ويراد التشبيه نحو: لقيت بزيد الأسد، ورأيت به القمر، فالباء عنده بمعنى الكاف أي بلقائي إياه الأسد والقمر، أي يشبهه، ولم يرتض هذا أبو حيان الذي قال: والصحيح أنها هنا للسبب، أي بسبب لقائه وسبب رؤيته [27] .
. تقع ((كم)) ظرفا نحو: كم ميلا سرت وكم يوما صمت، ومصدراً نحو: كم ضربةً ضربت زيدا، وتقع ((كم)) مفعولا له نحو: (لكم إكراما لك وصلت) قال بهذا الخضراوي، قال أبو حيان: ولا نعلم أحداً نصَّ على جواز وقوع ((كم)) مفعولا له غيره [28] .
. إذا قلت: نجح الطلاب لا سيّما زيد، بجر زيد، فسيبويه يرى أن ((سيَّ)) مضافة إلى زيد وما زائدة، وزيادة ((ما)) بين المضافين مسموعة. ولهذا يجوز حذفها، وزعم ابن هشام الخضراوي أنها زائدة لازمة لا تحذف، قال السيوطي: وليس كما قال [29] .
. في الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفعولات زاد فيها سيبويه ((نَبَّأ)) وزاد فيها الخضراوي (أَنبأ) [30] .(26/408)
ثانيا: وافق الخضراوي غيره من النحاة في بعض الآراء، تحريا للصواب، ولم تمنعه أندلسيته أن يكون يكون موافقا للمشارقة في آرائهم، وهم الذين نشأ عندهم علم النحو ونما وترعرع ولم يصل إلى الأندلس إلا بعد أن اكتمل نموه تقريبا. فاختياره يدل على أنه ذو تفكير حر أييضا فهو يتحرى الحق ويسير إليه ومن أمثلة ذلك:
. يشترط فيما يصاغ، منه فعلا التعجب أن يكون فعلا ثلاثيا، فإن كان مزيدا على وزن ((أفعل)) فذهب بعض العلماء إلى عدم الجواز مطلقا. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز مطلقا، وعلى ذلك سيبويه وفد اختار الخضراوي ما ذهب إليه سيبويه وصححه [31] .
. إذا أكد الضمير المتصل أعيد مع ما اتصل به: نحو: قمت قمت، أما الحرف فإن كان جوابياً أعيد وحده نحو: (لا لا) وإن لم يكن جوابيا فقال ابن مالك: يعاد مع ما اتصل به نحو: إنّ زيدا إن زيدا. ولا يعاد وحده إلا ضرورة، وأجاز الزمخشري: إنّ إنّ زيدا. بإعادة الحرف وحده دون ضرورة وتبعه على ذلك ابن هشام الخضراوي [32] .
. يذكر النحاة أن المركب تركيب إسناد لا يثنى ولا يجمع اتفاقاً نحو: تأبط شرا، وشاب قرناها، وأما المركب تركيب مزج كبعلبك وسيبويه فالأكثر على منعه أيضا لعدم السماع ولشبهه بالمحكي غير أن الكوفيين أجازوا تثنية المركب المزجى وجمعه، وقد وافقهم في هذا ابن هشام الخضراوى [33] .
. قال عمرو بن يعد يكرب:
يسوء الفاليات إذا فلينى
تراه كالثِّغام يُعلُّ مسكا
فقد اجتمع في (فلينى) نون الوقاية مع نون الإناث، وحذفت إحداهما. وقد اختلف العلماء في أي النونين حذفت، فقال المبرد: هي لون الوقاية. لأن النون الموجودة ضمير فاعل لا يليق بها الحذف ورجح ذلك ابن جني واختاره ابن هشام الخضراوي [34] .(26/409)
في نحو قولك: (ظننت زيدا قائما) يجوز أن تحذف الفاعل ويقام المفعول الأول مقامه فيقال: ظن زيدٌ قائما. وذلك عند البصريين حسن وذهب الجزولي المتوفى 607 هـ إلى أنه لا يجوز إقامة المفعول الأول في المثال المتقدم، وتبعه في هذا ابن هشام الخضراوى [35] ، والجزولي من علماء الأندلس كان إماما في العربية لا يشق غباره، لزم ابن برّي بمصر ثم عاد إلى بلده (المريِّه) متصدرا للإقراء.
. لحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان:
مرادفة ((إلى)) نحو {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [36] ومرادفة ((كي)) التعليلية نحو {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} [37] ومرادفة ((إلا)) في الاستثناء، وهذا المعنى قال به سيبويه حين فسَّر قولهم (والله لا أفعل إلا أن تفعل) المعنى عنده: حتى أن تفعل، وقد اختار هذا المعنى ابن هشام الخضراوي [38] .
ثالثا: وكما وافق غيره من النحاة فقد وافقه بعضهم في كثير ما ذهب إليه تأثراً به واعتدادا بوجهته واعترافا بأستاذيته من ذلك:-
. في باب العلم: كنّوا عن اسم جنس غير علم (بهن) في المذكر. (وهنَه) بفتح و (هنْه) بسكونها في المؤنث، ولا يكنى بما تقدم عن علم عاقل أو غيره كأسامة، وعلى هذا الخضراوي والشلوبين [39] ، ومعلوم أن الشلوبين أخذ عنه وانتفع بعلمه.
. لو المستعملة في نحو: ((لو جاءني زيد لأكرمته)) تفيد ثلاثة أمور:-
أحدها: الشرطية، الثاني: تقييد الشرطية بالزمن الماضي، الثالث: الامتناع، وقد اختلف النحاة في إفادتها له وكيفية إفادتها إياه فذهب بعضهم أنها لا تفيده بوجه وأن ((لو)) في المثال المتقدم لا تدل على امتناع الشرط ولا على امتناع الجواب، بل على التعليق في الماضي، كما في دلت (إن) على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت وعلى هذا الرأي ابن هشام الخضراوي والشلوبين [40] .(26/410)
تمييز (كم) الخبرية يكون مجرورا ويكون مفردا وجمعا. وذهب الخضراوي والشلوبين إلى أن (كم) إذا انتصب تمييزها التزم فيه الإفراد. لأن العرب التزمته في كل تمييز منصوب [41] .
رابعاً: وهو يرفض بعض الآراء بعد أن يقف عندها مليّا ثم يعرضها على منطق تفكيره وميزان عقله ثم يرفضها ويردها بالحجة القوية والدليل الواضح. مثال ذلك:
. ذهب بعض النحاة إلى جواز إضافة الصفة إلى الموصوف نحو: كريم زيدٍ أي زيد الكريم وأنكر ذلك أبو علي، وقال: العرب لا تقول: قائم زيد، ولا قاعد عمرو. ويريدون: زيد القائم وعمرو القاعد، قال ابن هشام الخضراوي: وقد جاء الذي منعه أبو علي في قول الشاعر:
حج بأسفل ذي الحجاز نزول
وكأن عافية النسور عليهم
وإنما أراد النسور العافية [42] .
. جوّز الكوفيون جمع الصفة المؤنثة التي لا تقبل التاء جمع مذكر سالم واستشهدوا بقول أبي قيس بن رفاعة:
والعانسون ومنا المرد والشيب
منَّا الذي هو ما إن طُرَّ شاربه
وقول الشاعر:
جلائل أسودين وأحمرينا
فما وجدت نساء بنى نزار
والبيتان عند البصريين من النادر الذي لا يقاس عليه. قال الخضراوي:
عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابا أو فصلا، وليس بالجيد [43] .
خامسا: وهو ذو مكانة علمية مرموقة، فالنحاة يثقون في علمه وفيما ينقله عن العلماء، وحسبنا أن كتابه (الإفصاح) يعد أحد المصادر المهمة التي نهل منها أبو حيان والسيوطي وابن هشام المصري وغيرهم وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي:
. (رُبَّ) عند البصريين حرف. وعند الكوفيين وابن الطراوة اسم، وهي تفيد التقليل. ونقل في (الإفصاح) أنها للتكثير قال بذلك جماعة منهم صاحب العين وابن درستويه [44] .
. إذا وقع بعد شبه الجملة مرفوع، فإن تقدمها نفي أو موصوف أو موصول نحو:(26/411)
ما في الدار أحد. ومررت برجل معه صقر. وجاء الذي في الدار أبوه. وزيد عندك أخوه".
ففي المرفوع ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن الأرجح كونه مبتدأ، مخبرا عنه بالظرف أو المجرور، ويجوز كونه فاعلا.
والثاني: أن الأرجح كونه فاعلا واختاره ابن مالك.
والثالث: أنه يجب كونه فاعلا، نقله ابن هشام الخضراوي عن الأكثرين [45] .
. جمع التصحيح والمحمول عليه كالهندات والبنات والأخوات وأولات، الأفصح الوقف عليه بالتاء. ويجوز إبدالها (هاء) وفى الإفصاح: ما حكاه الفراء وقطرب من الوقف عليها بالهاء شاذ لا يقاس عليه [46] .
. أنكر المبرد أن تكون (عامّة) من ألفاظ التوكيد، وقال: إنها هي بمعنى أكثر، قال السيوطي: (عامة) لم يذكرها أكثر النحاة غير أن سيبويه قال بها على أنها بمنزلة (كل) معنى واستعمالا. قال أبو حيان: وممن نقلها عن سيبويه صاحب الإفصاح [47] .
. قال ابن هشام في أوضح المسالك: ((وإذا تعدى الفعل لأكثر من مفعول، فنيابة الأول جائزة اتفاقا. ونيابة الثاني ممتنعة اتفاقا. نقله الخضراوي)) [48] .
سادسا: وعلى الرغم مما تقدم فقد تعقّبه بعض النحاة كابن هشام المصري وأبي حيان الغرناطي والسيوطي. واستدركوا عليه أمورا ينبغي عليه أن يتثبت منها وأن يقف عندها مدققا غير أنه لم يفعل، وفي الحقيقة هي هنات لا تقلل من قيمة الرجل وشموخه في فنه. ومن أمثلة تلك الهنات:
. (كأنّ) حرف مركب عند أكثر النحاة، والأصل في (كأن زيداً أسدٌ) إنّ زيدا كالأسد. ثم قدم حرف التشبيه اهتماما به ففتحت همزة أن لدخول الجار عليها، ولقد حكى الإجماع على أنها مركبة ابن هشام الخضراوي قال ابن هشام المصري: ليس كذلك فقد ذهب بعض العلماء إلى القول ببساطتها كأبي حيان. لأن التركيب خلاف الأصل فالأولى أن تكون حرفا بسيطا، إذن فادعاء الخضراوي الإجماع على التركيب غير سديد [49] .(26/412)
ذهب بعض النحاة إلى جواز منع الصرف وعدمه في المؤنث المعنوي إذا كان ثنائيا (كيد) ، أو ثلاثيا ساكن الوسط كهند ومصر، وعلى جواز الأمرين اختلف في الأجود منهما. فالأصح أن الأجود المنع. قال ابن جني: وهو القياس والأكثر في كلامهم، وقال أبو علي الفارسي: الصرف أصح. قال الخضراوي: ولا أعلم أحداً قال هذا القول قبله، وبعد أن ذكر السيوطي آراء بعض العلماء علّق على كلام الخضراوي قائلا: وما ذهب إليه غلط جلي [50] .
. تلزم اللام والنون في جواب القسم، والاكتفاء بأحدهما أي اللام أو النون إن لم يفصل بينه وبين اللام ضرورة. خلافا لأبي على الفارسي والكوفيين في تجويزهم ذلك في الاختيار، وعلى الرغم من تجويز أبي علي الفارسي والكوفيين فقد نقل السيوطي عن أبي حيان أن الخضراوي وهم فادعى الإجماع على المنع، وذلك غير سديد [51] .
. يتعدى الفعل اللازم بتضعيف العين سماعاً نحو: فرح زيد وفرَّحته، ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [52] وقيل: يتعدى الفعل اللازم بتضعيف العين قياساً. قال السيوطي: وادعى ابن هشام الخضراوي الاتفاق على الأول، قال أبو حيان: وليس بصحيح [53] .
(وبعد)
فهذه لمحة عجلى عن ابن هشام الخضراوي الذي كان إماماً في العربية، مقدما فيها، فهو عالم بالأدب والقراءات والنحو، ويعد بحق واحدا من النحاة الأفذاذ في موطنه الأندلس حيث تلقى النحو وغيره عن علماء لهم مكانتهم العظيمة كما انتفع بعلمه الكثيرون أمثال أبي علي الشلوبين الذي لقب بالأستاذ، ويبدو أن الخضراوي قد أعجب كل الإعجاب بأبي علي الفارسي [54] المتوفى سنة 337هـ، وبكتابه الإيضاح، ومن ثم أخذ يشرح هذا الكتاب ويلخصه ويشرح شواهده وغوامضه، ولا عجب فأبو علي الفارسي كان واحدَ زمانه في علم العربية، وحسبنا أن ابن جني [55] المتوفى سنة 392 هـ من تلاميذه، وهو الأديب البارع والعالم المتبحر في علوم النحو والصرف واللغة.(26/413)
ويبدو من خلال الآراء المتقدمة لابن هشام الخضراوي أنه يميل إلى مذهب البصريين، فهو يهتم بالسماع الكثير ويقيس عليه مثلما يفعلون، ومن ثم أخذ يعيب على الكوفيين أنهم يقيسون على الشاذ والنادر من الكلام.
وقد ترك آثاراً نحوية تشهد بكثرة عطائه ورسوخ قدمه في فنه. ولعل أهمها هو كتاب الإفصاح الذي يعد بحق مصدراً من المصادر المهمة التي اعتمد عليها النحاة بعده في مؤلفاتهم كأبي حيان والسيوطي والمرادي وغيرهم، ولا يزال هذا الكتاب (مخطوطا) ومن المفيد أن يحقق هذا الكتاب لينتفع به ولتعم فائدته.
والله نسأل أن يلهمنا السداد في الفكر والقول والعمل فهو حسبنا.
وألبس ثوب الصبر أبيض أبلج
وإني لأغض مقلتي على القذى
فما ينفك أن يتفرجا
وإني لأدعو الله، والأمر ضيق
أصاب لها من دعوة الله مخرجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه
--------------------------------------------------------------------------------
[1] إنباه الرواة: 2/306، وبغية الوعاة 1/490.
[2] تأريخ الفكر الأندلسي: 185 ط أولى مصر 1955م.
[3] إنباه الرواة: 3/216.
[4] بغية الوعاة: 1/306.
[5] ظهر الإسلام جـ3ص91، وتأريخ الفكر الأندلسي: 185.
[6] المدارس النحوية: 292.
[7] مغني اللبيب: ص169، 171، 337، ط دار المعرفة بيروت 1972م.
[8] المرجع السابق: 252، 352، 480، 579.
[9] بغية الوعاة ص115 ط دار المعرفة بيروت.
[10] راجع معجم البلدان جـ1 ص136 ط دار صادر ـ بيروت.
[11] ترجمته في بغية الوعاة: 361.
[12] ترجمته في التكملة لابن الأبَّار 676 ومعجم الأدباء 15، 75، وفوات الوفيات: 2/79، وبغية الوعاة:354.
[13] المغني: 334 وبغية الوعاة: 393.
[14] البغية: 115.(26/414)
[15] ترجمته في إنباه الرواة:2/232 والتكملة لابن الأبَّار658 والديباج المذهب 185 وشذرات الذهب5/232.
[16] راجع بغية الوعاة: 115 والمدارس النحوية: 303، 304.
[17] المغني: 171ط بيروت وانظر الهمع 2/136.
[18] الشعراء: 102.
[19] النساء: 72.
[20] الهمع: 2/66 وراجع الأشموني 4/32.
[21] مريم: 87.
[22] المغني: 48.
[23] ارتشاف الضرب 1/472، 473 والهمع 1/131 والأشموني 1/266، 7
[24] الحجرات: 5.
[25] الهمع 1/138.
[26] لقمان: 27.
[27] الهمع 2/22.
[28] ارتشاف الضرب 1/238.
[29] الهمع 1/234.
[30] ارتشاف الضرب 2/955 وحاشية الصبان 3/40.
[31] ارتشاف الضرب 2/926 وحاشية الصبان 3/21.
[32] ارتشاف الضرب 2/857 والتصريح 2/125.
[33] الهمع 1/42.
[34] المرجع السابق 1/65 وراجع المغني 808 والخزانة 2/445.
[35] ارتشاف الضرب 1/523 وراجع الأشموني 2/69.
[36] طه 91.
[37] البقرة 217.
[38] المغني 169 وراجع معاني القرآن 1/136.
[39] الهمع 1/74.
[40] المغني 337 والهمع 2/65.
[41] ارتشاف الضرب 1/239 والهمع 1/255.
[42] ارتشاف الضرب 2/776 وحاشية الصبان 2/242.
[43] الهمع 1/45 وراجع المغني 400 وشرح شواهد المغني 244.
[44] ارتشاف الضرب 2/735.
[45] المغني 579.
[46] الهمع 2/209.
[47] الهمع 2/123 وراجع الكتاب 1/189 والواضح في الدراسات النحوية 64،65.
[48] أوضح المسالك 1/264.
[49] المغني 252 والارتشاف 1/483 والهمع 1/133 والأشموني 1/271،272.
[50] راجع الهمع 1/33،34.
[51] راجع الهمع 2/42.
[52] الشمس /9.
[53] المرجع السابق 2/82.(26/415)
[54] ترجمته في إنباه الرواة 1/273 ونزهة الألباء 315 ومعجم الأدباء 7/232 وطبقات النحويين واللغويين 120.
[55] ترجمته في إنباه الرواة 2/335 وبغية الوعاة 2/132 ونزهة الألباء 332.(26/416)
كلمة التحرير
زيارة كريمة
بقلم الشيخ سعد ندا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن تبع هديه ووالاه.
وبعد: فقد كانت لفتةً كريمةً لها مدلولها الرائع أَن يولى جلالة الفهد- ثبت الله قَلْبَهُ على الهدى ومُلْكَهُ على الحق- مدينةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رعايته بزيارته الميمونة، ويعطيها من جهده ووقته، ويخطط لرفع مستواها إلى المقام اللائق بها، ما نسأل الله تعالى أن يسدد له فيه الخُطى وأن يجزيه به خير ما يجزي به المخلصين الصادقين.
وكيف لا تكون المدينة النبوية أحق بالعناية والرعاية، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستكون آخر معقل للإيمان، في قوله: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" [1] . كما أخبر أن الله تعالى قضى بحمايتها ممن يريد بأهلها سوءا وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أهلها بسوء- يريد المدينة- أذابه الله كما يذوب الملح في الماء" [2] . وفضلا عن ذلك فإن ساكن المدينة الصابر على لأوائها حتى يموت جعل له الرسول صلى الله عليه وسلم الجزاء العظيم يوم القيامة في قوله: "لا يصبر أحد على لأوائها حتى يموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما" [3] . ولهذا رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في سكنى المدينة بقوله: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" [4] .
ثم كانت لفتة كريمةً ثانيةً أن يزور جلالة الفهد- رعاه الله- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- التي شرفها برئاسته العليا لها، وأن يفتح صدره لمنسوبيها من مسئولين وأساتذة وطلاب، فيجلس بينهم، ويتحدث إليهم حديث الأب الحنون لأبنائه البررة، ويبثهم جياش عواطفه النابعة من حبه لهذه الجامعة التي هيئت لتكون جامعة المسلمين في أنحاء الدنيا(26/417)
جميعا، والتي شاء الله لها أن تكون في هذا البلد الطيب الذي شعَّ منه نور الإسلام، فأضاء الدنيا كلها، وانطلقت منه أسمى حضارة عزَّ من استظل بظلها، ومن ثم كانت هذه الجامعة رمزاً يذكرنا بأمجادنا الأولى، ويفتح أمامنا أبواب العمل الجاد لتحقيق آمالنا في عودة تلك الأمجاد، ونشر الإسلام في أرجاء العالمين.
أَلا حيا الله المليك الكريم فهد بن عبد العزيز، وبارك أعماله، وسدد خطواته، ونصره بالحق، ونصر الحق به، وأعزه بالإسلام، وأعز به الإسلام والمسلمين، إن ربنا جواد كريم، وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده الكريم ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] المرجع السابق حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] المرجع السابق حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] المرجع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(26/418)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة هل:
هذه هي الرسالة الثامنة تكتبها إليك أختك همزة الاستفهام، وتحدثك فيها عن صيغ ثلاث جديدة من هذه الصيغ التي تدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع، وقد كانت من قبل قد حدثتك في رسائلها السبع المتقدمة عن أربع عشرة صيغة، أما الصيغة الخامسة عشرة فهي: "ألم يهد"، وقد وردت كما ثلاث آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (الأعراف/100) .
الهمزة في هذه الصيغة (أو لم يهد) في آيتها الأولى للإنكار والتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على أهل مكة وغيرهم من العرب الذين استخلفوا في الأرض من بعد أهلها، ينكر عليهم ويوبخهم أن لم يتعظوا بما أصاب أهل هذه الأرض قبلهم من عذاب وهلاك بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل، مع علمهم بأن الله قادر على أن يصيبهم بما أصاب أولئك لو شاء ذلك.
والفعل المضارع في هذه الصيغة وهو (يهد) أي يتضح ويبين مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء من آخره. وفي فاعله ثلاثة آراء ذكرها أبو حيان في تفسيره البحر المحيط [1] وذكرها أيضا صاحب الفتوحات الإلهية نقلا عن السمين [2] .
أحدها: أنه المصدر المؤول من أنْ وجواب لو، والمفعول به على هذا الرأي محذوف، والتقدير: أو لم يتبين إصابتُنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك عاقبة أمرهم، فإصابتُنا وهو المصدر المؤول فاعل، وعاقبة أَمرهم هو المفعول به المحذوف.(26/419)
الرأي الثاني: أن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، وعلى هذا الرأي فالمصدر المؤول من أنْ وجواب لو هو المفعول به، والتقدير أو لم يهد أي يبين الله لهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.
الرأي الثالث: أن الفاعل ضمير مستتر في يهد يعود على ما يفهم من سياق الكلام، والتقدير: أو لم يبين لهم ما جرى للأمم السابقة إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.
ويبدو لي - والله أعلم- أن أقرب هذه الآراء الثلاثة إلى الصواب هو الرأي القائل: إن المصدر المؤول من أَنْ وجواب لو هو الفاعل لأنه هو الذي يبدر إلى الذهن أول وهلة، وعليه ظاهر اللفظ، ويؤيده تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وتفسير أبي جعفر بن جرير، فقد جاء في تفسير ابن كثير [3] : "قال ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} أولم يُبين لهم أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم. وكذلك قال مجاهد وغيره، وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها [4] يقول الله تعالى أولم يبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} اهـ.
والظاهر من التفسيرين المتقدمين أن الفاعل هو أنْ وما في حيزها، وليس فيهما ما يدل على أن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أو ضمير يعود على غيره تعالى.
الآية الثانية التي وردت فيها صيغة (ألم يهد) قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} (طه/ 128) .
همزة الاستفهام في (أفلم يهد لهم) في آيتها الثانية للإنكار والتوبيخ كما في الآية الأولى:(26/420)
ينكر الله سبحانه وتعالى على أن المشركين من أهل مكة وغيرهم ويوبخهم أن لم يبيّن لهم ويعظهم كثرة من أهلكهم من الأمم قبلهم بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل، مع أنهم يمشون في مساكن أولئك المهلكين وهم مسافرون إلى الشام وغيرها، ويتقلبون في بلادهم، ويشاهدون آثار العذاب الذي نزل بهم..
وقد اختلفت الآراء أيضا في فاعل يهد في هذه الآية.
يقول أحدها: إن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أي ألم يبيّن الله لهم.
ويقول رأي ثان: إن الفاعل مصدر مأخوذ من أهلكنا بدون سابك، رعاية لما يقتضيه المعنى، والتقدير أفلم يهد لهم إهلاكُنا.
ويقول رأي ثالث: إن الفاعل مقدر، تقديره الهدى.
ويقول رأي رابع: إن الفاعل هو الجملة بعده، أي جملة كم أهلكنا قبلهم من القرون.
وأنا أميل إلى هذا الرأي الرابع، وهو رأي كوفي يجوّز وقوع الجملة مسندا إليها في الصورة وظاهر اللفظ، مع تأويلها بمفرد يدلّ عليه المعنى [5] .
ويعجبني قول ابن مالك في شرح التسهيل: "وفي قوله تعالى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} إنه على تأويل أو لم يهد لهم كثرةُ إهلاكنا، وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل، كما جاز في باب المبتدأ نحو {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} اهـ قول ابن مالك [6] .
وقول ابن مالك هذا يشعر (كما قال القاسمي) بأن الفاعل الجملة لتأويلها بالمفرد.
وقد فسر ابن كثير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} (السجدة/ 26) فسره بقوله "يقول تعالى أولم يهد لهؤلاء المكذبين ما أهلك الله من الأمم الماضية" اهـ[7] ويبدو من هذا التفسير أن فاعل (يهد) هو جملة كم أهلكنا ولكن باعتبار معناها ومضمونها.(26/421)
وعلى الرأي القائل إن الفاعل هو جملة كم أهلكنا على تأويلها بالمفرد يكون المفعول به محذوفا تقديره مآل أمرهم وعاقبة كفرهم.
أما إعراب ما يتعلق بهذه الصيغة من كلمات في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ف (لهم) جار ومجرور يتعلقان بالفعل (يهد) . و (كم) تكثيرية مبنية على السكون في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا. و (أهلكنا) أهلك فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك أو مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره السكون العارض لاتصاله بضمير رفع متحرك. والفعل على كلا الإعرابين لا محل له من الإعراب. و (نا) ضمير مبنيى على السكون في محل رفع فاعل. و (قبلهم) قبل حرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره و (هم) ضمير مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وهذا الظرف متعلق بالفعل قبله (أهلك) . و (من القرون) (من) بيان لكم والجار والمجرور يتعلقان بمحذوف صفة لكم وهذا رأي، وهناك رأي آخر يقوله إن من البيانية ومجرورها في محل نصب على الحال وجملة (يمشون في مساكنهم) في محل نصب حال من الضمير في (لهم) .
الآية الثالثة التي وردت فيها صيغة (ألم يهد) قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} السجدة/ 26.
الهمزة في هذه الصيغة في آيتها الثالثة للإنكار والتوبيخ بالمعنى الذي تقدم تفصيله في الآية السابقة.
وما قيل في فاعل (يهد) في آيتها الثانية المتقدمة يقال هنا في هذه الآية الثالثة، فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.
وإعراب بقية كلمات هذه الصيغة قد تقدم ذكره في الآية الثانية.
أختي العزيزة هل:(26/422)
أما الصيغة السادسة عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع فهي (أو لم يتفكروا) وقد جاءت هذه الصيغة في آيتيها اثنتين:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} الأعراف/184.
الهمزة هنا في هذه الصيغة (أو لم يتفكروا) للإنكار والتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على كفار مكة ويوبخهم أن لم يتفكروا في انتفاء الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو صاحبهم قد عرفوه من قبل هذا صغيرا وجرّبوه كبيرا فما رأوا فيه طيش شباب ولا انحرافا عن صواب، واستأمنوه فكان المستأمن الأمين، واستمعوا إلى قوله فكان المحدث الصادق، وحكّموه فيما شجر بينهم من خلاف فكان الحكم العدل والقاضي الثاقب الرأي، فمن أين يجيئه الجنون بعد هذا كله؟!! لو كنتم يا كفار مكة تتفكرون في أنفسكم! وتتدبرون الذي عرفتم عن صاحبكم هذا لقلتم حقاً وصدقاً إن هو إلا نذير مبين.
وإعراب (أولم يتفكروا) واضح بيِّن قد مضى إعراب مثله كثيراً.
وإعراب (ما بصاحبهم من جنة) : (ما) نافية غير عاملة، حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب (بصاحبهم) جار ومجرور ومضاف إليه: الباء حرف جر وصاحب مجرور بالباء وهم ضمير مبني على السكون في محل جر بالإضافة. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ولك أن تقول الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم. (من جنة) من حرف جر زائد وجنة مجرور بمن وعلامة جره كسرة ظاهرة على آخره وجنة المجرور بحرف الجر الزائد مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الكسرة التي أتي بها لمناسبة حرف الجر الزائد، وعلى رأي من يرى أن المجرور بحرف الجر الزائد يكون إعرابه محلياً تقول (جنة) مبتدأ مؤخر وهو في محل رفع.(26/423)
وجملة (ما بصاحبهم من جنة) في محل نصب بالفعل (يتفكروا) بعد إسقاط حرف الجر (في) ومن النحويين من يجوز أن تكون جملة (ما بصاحبهم من جنة) في محل جر بفي المقدرة.
الآية الثانية التي وردت فيها هذه الصيغة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم/8) .
همزة الاستفهام في هذه الصيغة في آيتها الثانية للإنكار والتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يكفرون بالبعث ولا يؤمنون بالآخرة، ينكر عليهم ويوبخهم ألا يتفكروا في أنفسهم ويتدبروا في هذه الأشياء العظيمة التي خلقها الله تعالى، هذه السموات والأرض وما بينهما، وأنه تعالى ما خلقها عبثاً ولا لعباً، وإنما خلقها متلبسة بالحق مقترنة بالحكمة مقدرة بأجل مسمى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة يوم الحساب والثواب والعقاب، يوم لقاء رب العالمين.
وإعراب (أولم يتكفروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) واضح سهل. ومع ذلك أعرب بعض كلماتها:
(وما بينهما) الواو عاطفة (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على السموات، و (بين) ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، وبين مضاف وهما مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة. ومن المعربين من يجزئ (هما) فيقول في إعرابها: الهاء وحدها هي الضمير، والميم حرف عماد، والألف حرف دال على التثنية، وقد سبق أن بينت ضعف هذا الرأي، لأن الذي يدل على الاثنين الغائبين هو مجموع الأحرف الثلاثة، وليس الهاء وحدها.
وظرف المكان (بين) متعلق بفعل محذوف تقديره كان، والجملة مكونة من هذا الفعل المحذوف وما تعلق به صلة الموصول (ما) وهي جملة لا محل لها من الإعراب.(26/424)
(إلا بالحق) (إلا) أداة حصر حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، (بالحق) جار ومجرور يتعلقان بمحذوف حال، والمعنى: ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسة بالحق وأجل مسمى.
(وأجل مسمى) الواو عاطفة و (أجل) معطوف على الحق و (مسمى) نعت لأجل مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره وهو الألف منع من ظهورها التعذر.
وجملة (ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) في محل نصب مفعول به لفعل (يتفكروا) على إسقاط الخافض، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل جر بفي المقدرة.
أختي العزيزة هل:
الصيغة السابعة عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع هي (ألم ينظروا) وقد جاءت في آيتين اثنتين:
الآية الأولى قوله وتعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف/ 185) .
هذه الاستفهام في هذه الصيغة الواردة في هذه الآية للإنكار والتوبيخ:
ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يكفرون بآيات الله، وينكرون البعث والحساب، ويكذّبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ينكر عليهم ويوبخهم أن لم يتأملوا في عظمة الله وسلطانه وبديع صنعه فيما خلق من سموات وأرض وأشياء كثيرة مختلفة لا تحصى مبثوثة أمام أعينهم في كل مكان تدل على أنه الواحد القادر على كل شيء، فيؤمنوا بالله سبحانه وتعالى، ويصدقوا برسوله صلى الله عليه وسلم.
وينكر عليهم أيضاً ويوبخهم أن لم يتدبروا اقتراب أجلهم فيبادروا إلى الإيمان قبل الفوات، قبل أن يأتيهم الموت بغتة فيهلكوا وهم على الكفر وبئس الممات.(26/425)
هذا، وإعراب قوله تعالى (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) سهل واضح، قد تقدم إعراب مثله أكثر من مرة.
وأما إعراب قوله تعالى بعد ذلك (وما خلق الله من شيء) فالواو عاطفة، و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ملكوت. و (خلق) فعل ماض ولفظ الجلالة (الله) فاعل و (من شيء) من حرف جر، وهي هنا بيانية تبين المعنى المراد من اسم الموصول (ما) وشيء مجرور بمن، والجار والمجرور (من شيء) في محل نصب على الحال من (ما) وجملة (خلق الله من شيء) لا محل لها من الإعراب صلة الموصول، والعائد محذوف، والتقدير وما خلقه الله من شيء.
وإعراب قوله تعالى بعد ذلك (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) :
الواو عاطفة و (أن) - بفتح الهمزة وسكون النون- مخففة من أنَّ الثقيلة، حرف توكيد، تنصب المبتدأ ويسمى اسمها وترفع الخبر ويسمى خبرها، واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره هو أي الحال والشأن.
وعسى فعل ماض جامد مبنية على فتح مقدر على الألف للتعذر لا محل لها من الإعراب.
وتستعمل (عسى) أحياناً فعلا ناقصا فتعمل عمل كان، وأحياناً فعلا تاما فتكتفي بمرفوعها على أنه فاعل.
وتدل (عسى) على الترجي والطمع في خبرها أو فاعلها إن كان محبوبا، وعلى الخوف والإشفاق منه إن كان مكروها.
وتفيد (عسى) الظن والشك في وقوع أمر مع توقع حصوله، وقد تأتي لليقين، وهي هنا في هذه الآية لليقين.
ويجوز في (عسى) الواردة في هذه الآية أن تكون ناقصة وأن تكون تامة، وعلى اعتبار أنها ناقصة في (أجلهم) المذكور في آخر جملتها اسمها مرفوع وعلامة رفعه ضمة ظاهرة على آخره وهو اللام. (أجل) مضاف و (هم) مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وعلى هذا الإعراب تكون المسألة من باب التنازع:(26/426)
تنازع (عسى) و (يكون) و (اقترب) في (أجلهم) فأعمل الأول وهو عسى وأضمر في الثاني والثالث، وأتم الإعراب على اعتبار أنها ناقصة وعلى اعتبار التنازع السابق الذكر فأقول: (أن يكون) أن حرف مصدري ناصب للفعل المضارع مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و (يكون) مضارع كان الناقصة منصوب بأن وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، واسم يكون ضمير مستتر تقديره هو يعود على (أجلهم) المتأخر لفظاً المتقدم رتبة، (قد اقترب أجلهم) :
(قد) حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب. و (اقترب) فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على (أجلهم) المتأخر لفظاً المتقدم رتبة، وجملة (قد اقترب) في محل نصب خبر يكون، والمصدر المؤول من (أن يكون) في محل نصب خبر (عسى) .
وعلى اعتبار (عسى) تامة يكون فاعلها المصدر المؤول من (أن يكون) واسم (يكون) يجوز أن يكون ضمير الشأن المحذوف وحينئذ يكون أجلهم فاعل اقترب ويجوز أيضاً أن يكون أجلهم اسم يكون، وفاعل اقترب حينئذ ضمير يعود على أجلهم المتأخر لفظاً المتقدم رتبة.
وأيًّا كان الإعراب في (أنْ) المخففة من الثقيلة وما دخلت عليه في تأويل مصدر يكون في محل جر بالعطف على ملكوت المجرور بفي، ولأن عسى فعل جامد لا يؤخذ منها مصدر يقدر المصدر من الكون على معنى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكينونة عسى أن يكون قد اقترب أجلهم.
الآية الثانية التي وردت فيها صيغة (ألم ينظروا) قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق:6) .
همزة الاستفهام في هذه الصيغة الواردة في هذه الآية للإنكار والتوبيخ:(26/427)
ينكر الله سبحاله وتعالى على الكافرين بالبعث ويوبخهم أن لم ينظروا بعيونهم نظراً يصحبه التدبر والتفكر إلى هذه السماء فوقهم عاليةً بعيدة في علاها، من غير أن تقوم على عمد، قد أحكم بناؤها فلا فطور ولا فروج ولا اضطراب، وهى مع ذلك جميلة رائعة الجمال، تزينها أشعة شمس الصباح فتملأ الأعين وتأخذ بمجامع القلوب، وتزينها أشعة شمس الغروب فتذهب النفس معها كل مذهب، ويطير الخيال وراءها كل مطار.
وللسماء بين هذه وتلك وجه مشرق وضيء يملأ الكون صفاء وبهاء.
وفي الليل- وما أجمل ليل السماء، وما أجمل سماء الليل- يزينها لألاء النجوم، وبسمات الكواكب، وأشعة القمر، فلا تمل منها عين ولا يروى بصر، يود الناظر إليها أن يطير وراء كل نجم، وأن يسبح معها في كل فلك.
لقد كان بناء هذه السماء وتزيينها بالشمس والقمر والكواكب من أعظم الدلائل على أن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، فما لهؤلاء الكافرين بالبعث لا يفكرون ولا يعقلون، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
أما إعراب هذه الآية: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ ُفرُوجٍ} فسهل واضح في الكلمات الأولى (أفلم ينظروا إلى السماء) .(26/428)
وأما إعراب ما جاء بعد ذلك فـ (فوقهم) (فوق) ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، وهو متعلق بمحذوف حال من السماء، فوق مضاف وهم مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة. و (كيف بنيناها) (كيف) اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من (ها) في بنيناها و (بنيناها) مكونة من فعل ماض (بنى) مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك لا محل له من الإعراب. و (نا) ضمير مبني على السكون في محل رفع فاعل. و (ها) ضمير مبني على السكون في محل نصب مفعول به. وجملة (كيف بنيناها) في محل جر بدل من السماء وهو بدل اشتمال، والمعنى أفلم ينظروا إلى السماء كيفية بنائنا لها.
(وزيناها) الواو عاطفة، وإعراب (زيناها) كإعراب (بنيناها) .
(وما لها من فروج) الواو للحال، و (لها) جار ومجرور يتعلقان بمحذوف خبر مقدم و (من) حرف جر زائد، و (فروج) مجرور بمن وعلامة جره كسرة ظاهرة على آخره. وفروج المجرور بمن مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الكسرة التي أتي بها لمناسبة حرف الجر الزائد، وجملة (مالها من فروج) في محل نصب على الحال من (ها) في (زيناها) .
أختي العزيزة هل:
قبل أن أختم هذه الرسالة أحب أن أنبهك على أشياء:
أحدها: قد تقدم في إعراب قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أن (من) حرف جر زائد، وأحب أن أنبهك هنا على أن هذه الزيادة لا تعني أن هذا الحرف الزائد حشو في الكلام، دخوله فيه كخروجه منه، ولكنها اصطلاح نحوي يعني ثلاثة أشياء:
أحدها: أن المعنى الأساسي للجملة يتم بدون هذا الحرف الزائد.
الثاني: أن هذا الجار الزائد لا يحتاج إلى متعلق.
الثالث: أن مجرور هذا الحرف الزائد له حركة إعرابية غير هذه الكسرة التي جاءت لمناسبة حرف الجر الزائد.(26/429)
هذا الذي سماه أهل النحو زائدا لا بد منه عند أهل البلاغة، عند من يتذوقون أساليب القول الرفيع، ويتعرفون وجوه البيان المشرق.
فالإتيان بهذا الحرف الزائد في هذا المكان من قوله تعالى يفيد نفي الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم والشمول نصاً لا يقبل أي احتمال. والحال التي كان عليها كفار مكة من وصفه صلى الله عليه وسلم كذبا وبهتانا بالجنون أكثر من مرة، حالهم تلك تقتضي مثل هذا القول، وقد سبق بيان مثل هذا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وذلك في الصيغة الثانية عشرة وفي الرسالة السادسة من هذه الرسائل.
الثاني: التعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بصاحبهم) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} كان تعبيرا عميق الدلالة فالج الحجة، كأنما هو يقول لكفار قريش: إن طول مصاحبتكم لهذا الرسول، واطلاعكم الكامل على أحواله، وتجاربكم الطويلة المتنوعة معه، كل أولئك قد أثبت لكم صدقه في الحديث، ورجاحة عقله في تصريف الأمور. فمن أين يجيئه الجنون يا بله التفكير ويا عمي البصائر.
الثالث: قد تقدم في هذه الرسالة بيان معنى الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} وأحب أن أنبهك هنا على أن الأوضح والأرجح- في رأيي- أن يتعلق الجار والمجرور (في أنفسهم) بالفعل (يتفكروا) على اعتبار أن الأنفس ظرف للتفكر.
ولأن التفكر لا يقع إلا في القلوب والأنفس كان (في أنفسهم) زيادة تصوير وتوكيد للتفكر، ومن هذا الأسلوب قولك اعتقده في قلبك وأضمرْه في نفسك، وأبصرْه بعينك واسمعه بأذنك.(26/430)
وعلى هذا الاعتبار المتقدم يكون متعلق التفكر ومفعوله والشيء الذي وبخوا على عدم التفكر فيه هو ما تضمنه قوله تعالى بعد ذلك: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} .
الرابع: ذهب الجلال المحلي في تفسير الجلالين [8] إلى أن الاستفهام في قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} ذهب إلى أن هذا الاستفهام للتقرير على معنى أنهم نظروا وعلموا ما ذكر. وليس هذا بصحيح لأنهم لو نظروا إلى ما تضمنته الآية الكريمة نظرا دقيقاً متدبراً، وعلموه علم اليقين لآمنوا بقدرة الله تعالى على البعث، ولصدّقوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحق أن هذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ على المعنى الذي تقدم بيانه.
أختي العزيزة هل:
لقد آن أن أقول وداعا، فأقول وداعا، وأسأله جل وعلا أن يعين على رسالة قادمة أكتبها إليك يكون فيها النفع والسداد. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
المراجع
مراجع الصيغ الواردة في هذه الرسالة:
1- مراجع (ألم يهد) وهي الصيغة الخامسة عشرة:
أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (السالف الذكر) :
ج4 ص 349/ ج6 ص 288.
ب- تفسير أبي السعود- الناشر: مكتبة ومطبعة محمد عبد الرحمن محمد بالقاهرة: ج3 ص 254/ ج6 ص 48/ ج7 ص87.
جـ- تفسير ابن كثير (السالف الذكر) : ج2 ص 234/ ج3 ص170/ ج3 ص463.
د- الكشاف للزمخشري (الناشر: الحلبي بمصر) : ج2 ص 99/ ج ص 558.
هـ- الفتوحات الإلهية (السالف الذكر) : ج2 ص 169/ ج3 ص 116/ ج3 ص420.
و تفسير القرطبي (الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة) : ج14 ص 110.(26/431)
ز- تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية المتقدم ذكره) ج2 ص 169.
2- مراجع الصيغة السادسة عشرة وهي: (ألم يتفكروا) :
أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (السالف الذكر) : ج4 ص 431/ ج 7 ص163.
ب- تفسير أبي السعود (السالف الذكر) : ج3 ص298/ ج7 ص 51.
جـ- الفتوحات الإلهية (السالف الذكر) : ج2 ص 215/. ج3 ص 386.
د- الكشاف للزمخشري (السالف الذكر) : ج3 ص 215.
3- مراجع الصيغة السابعة عشرة وهي: (ألم ينظروا) :
أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج4 ص 432.
ب- تفسير أبي السعود: ج3 ص 299.
جـ - الفتوحات الإلهية: ج2 ص 215/ ج4 ص 191.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي- الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض- ج4 ص 349.
[2] الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين- الناشر الحلبي بمصر- ج2 ص 169.
[3] تفسير ابن كثير- الناشر: الحلبي بمصر- ج2 ص 234.
[4] تفسير الطبرى- الطبعة الثالثة- الناشر: الحلبي بمصر: ج9 ص 9.
[5] حاشية الدسوقي على مغني اللبيب- الناشر: مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني: ج2 ص 57.
[6] حاشية ياسين على التصريح- الناشر: دار الفكر/ بيروت: ج1 ص 268.
[7] تفسير ابن كثير (السالف الذكر) : ج3 ص463.
[8] تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية السالف الذكر) ج4 ص 191.(26/432)
بحث في صيغة "أفعل"
(بين النحويين والغويين واستعمالاتها في العربية)
الدكتور مصطفى أحمد النماس
المدرس بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر
حسّ وأحسّ [1]
تقول: أحس الرجل بالبرد، وأحس الرجل البرد بمعنى شعر به وتقول أحس الحنان والتقدير من صديقه أو أحس بالحنان بمعنى شعر به أو علمه أو عرفه أو ظنه أو تيقنه ويجوز أن نستعمل بهذا المعنى الفعل الثلاثى المجرد فنقول: حس الرجل البرد، وحس الرجل بالبرد إلا أن بعض اللغويين يتزمت فيمنع هذا وحجته أن ما ورد في القرآن بهذا المعنى هو الثلاثي المزيد لا المجرد قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} وقال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} ولم يأت الثلاثي المجرد بهذا المعنى بل ورد بمعنى القتل أو القطع قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فالمعنى تقتلونهم وتأتون على إحساسهم فلا تبقون لهم حسا وبهذه الحجة يمنعون أن نقول بعض المشتقات من المادة الثلاثية المجردة فلا تقل على رأيهم: حاسَّة: اسم فاعل من حسَّ وجمعها حواس للسمع والبصر والشم والذوق واللمس ويسمونها المحسات ويمنعون كذلك اسم المفعول محسوس وجمعه محسوسات ولا يجيزون إلا المحس وجمعه المحسات لأنهم لا يجيزون المادة الثلاثية بل لا يستعملون في هذه الأغراض إلا الفعل المزيد بالهمزة وكأنهم رفضوا استعمال الثلاثي.(26/433)
ودحض حجتهم هذه أن القرآن الكريم هو الحجة في فصاحة اللغة وبلاغتها ولكن لاشك أنه لم يستوعب كل كلماتها، كما أنه لم يستعمل كل كلمة في معانيها اللغوية فإذا ترك كلمة ما لا يكون دليلا على عدم فصاحتها وكذلك إذا استعمل كلمة في معنى وترك بعض المعاني الأخرى لا يكون دليلا على حظر المعاني الأخرى ولقد جاء الفعل الثلاثي المجرد من هذه المادة في لغة العرب بمعاني غير القطع والقتل والذي يعنيني استعمال الثلاثي المجرد بمعنى الشعور وما يتصل به من العطف والتوجع قال الشاعر الجاهلي السفاح بن خالد التغلبي [2] .
ولا حَسُّوا بنا حتى اعتلينا
فَلَبَّيْتُ الصريخَ ولم يَرونا
فالمعنى فيه ولا شعروا بوجودنا حتى هجمنا عليهم، ومن ذلك قول الكميت بن زيد الأسدي
أو يبكى الدار ماء العبرة الخضل
هل من بكى الدار راجٍ أن تحس له
فالفعل تحس بفتح التاء مضارع من الفعل الثلاثي المجرد فإذا فسرناه بمعنى ترق له وتعطف عليه فهو من معاني الشعور.
وأيضا حديث قتادة كما في اللسان [3] "إن المؤمن ليحسّ للمنافق " أي يعطف عليه أو يتوجع له فبان بذلك ضعف الرأي الآخر الذي أنكر الثلاثي من هذه المادة وأن استعمال المصدر الذي هو الحس من الثلاثي والمصدر من المزيد هو الإحساس ويدل كذلك على أن كثيرا من الأفعال العربية يأتي الثلاثي المجرد والثلاثي المزيد بالألف بمعنى واحد أي أن فعل وأفعل بمعنى واحد وهو ما يقول به كثير من العلماء وأمثال الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت ولذا كان قول ثعلب في كتاب الفصيح "والعامة تقول: حسست الشيء في أحسست وهو خطأ "دعوى من غير دليل.
أثمر:
وفي شفاء الغليل ص 21 أثمر يكون لازما وهو المشهور الوارد في الكتاب العزيز ولم يتعرض أكثر أهل اللغة لغيره: وورد متعديا كما في قول الأزهري في تهذيبه يثمر ثمرا فيه حموضه، وكذا استعمله كثير من الفصحاء كقول ابن المعتز:(26/434)
فأسقيته أجْفاني بسح وقاطرِ
وغرس من الأحباب غيبت في الثَّرى
لقلبي يجنيها بأيد الخواطر
فأثمر همًّا لا يبيد وحسرة
وقال ابن نباتة السعدي:
إذا ما كان فيها ذا احتيال
وتثمر حاجة الآمال نحجا
وقال محمد بن شرف وهو من أئمة اللغة:
فروعها قطر الندى نثرا
كأنما الأغصان لما علا
زبرجد قد أثمر الدرا
ولاحت الشمس عليها ضحى
وقول ابن الرومي: سيثمر لي ما أثمر الطلع حائط.. إلى غير ذلك مما لا يحصى وهكذا استعمله الشيخ في دلائله والسكاكي في مفتاحه، ولما يره كذلك شراحه.
قال الشارح استعمل الاثمار متعديا بنفسه في مواضع من هذا الكتاب فلعله ضمنه معنى الإفادة أو جعله متعديا بنفسه ولو قيل إن تعديه إلى مفعوله كثر حتى صار كاللازم له لما دل عليه، ولذا يذكر أن لم يكن كذلك لم يبعد ألاَ تراك إذا قلت: أثمرت النخلة علم أنها أثمرت بلحا ونحوه.....
أخضر:
استعمل مدحا بمعنى مخضب رحب الجنان وكان يقال للفضل بن العباس رضي الله عنه الأخضر قال: ـ
أخضر الجلدة في بيت العرب
وأنا الأخضر من يعرفني
وذما بمعنى لئيم لا يأكل إلا البقول:
فويل لتيم من سرابيلها الخضر
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها
حصيت وأحصيت:
يقال حصيت إذا عددته وأحصيته إذا ميزته بعضه من بعض قال الشاعر:
ونحصى الحصاة بل يزيد على العد
ويربى على عد الرمال عديدنا
والحصاة العقل أيضا قال الشاعر وهو طرفة بن العبد:
حصاة على عوراته لدليل
وإن لسان المرء ما لم تكن له
ويقال أحصيت الشيء إذا أطقته واتسعت له وقال الله عز اسمه:
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أراد والله أعلم لن تطيقوه- وقال الشاعر:
ولا تطيق علاهم أيةً وقعوا
فاقعد فإنك لا تحصي بنى جشم
يريد لا تطيق بني جشم.(26/435)
ومما يحتمل هذه المعاني قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة إنّه وتْر يحب الوتْر من أحصاه دخل الجنة".
قال محمد بن يزيد المبرد: " معناه عندي من عدها من القرآن لأن هذه الأسامي كلها مفرقة في القرآن فكأنه أراد من تتبع جمعها وتأليفها من القرآن وعانى في جمعها من الكلفة والمشقة دخل الجنة" انظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 24.
ما جاء على أفعل ثم أميت
وقد استعمل العرب بعض الأفعال على وزن أفعل أصلا ولكنهم عدلوا عن الأصل وجعلوه ملحقا بالرباعي فأصبح ملحقا بغيره في الاستعمال بعد أن كان أصلا قال السيوطي في المزهر [4] واستعمل (الهث) ثم أميت وألحق بالرباعي في الهثهثة وهو اختلاط الأصوات في الحرب أو في صخب قال الراجز (العجاج) :
فهثهثوا فكثر الهثهاث
وأمراء قد أفسدوا فعاتوا
واستعمل (الجع) ثم أميت وألحق بالرباعي في جعجع والجعجعة القعود على غير طمأنينة، واستعمل (القح) ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل القحقح وهو العظم المطيف بالدبر واستعمل الكح ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل كحكح وهو الناقة الهرمة التي لا تحبس لعابها واستعمل (ألذع) ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل ذعذع الشيء إذا فرقه.
أفعل فهو فاعل [5]
المعروف أن صيغة فاعل إنما تصاغ من الثلاثي المتصرف ويكون كثيرا مطردا من الفعل المفتوح العين سواء كان متعديا أو لازما ومن مكسور العين المتعدي إما مضموم العين أو مكسورها اللازم فهو قليل وقد وردت صيغة فاعل من الرباعي الذي على وزن أفعل في بعض المواد سماعا.
قال في الغريب المصنف لم يجىء أفعل فهو فاعل إلا ما قال الأصمعي: أبقل الموضع فهو باقل من نبات البقل، وأورس الشجر فهو وارس إذا أورق ولم يعرف غيرها.(26/436)
وزاد الكسائي: أيفع الغلام فهو يافع- قلت: وفي الصحاح بلد عاشب ولا يقال في ماضيه إلا أعشبت الأرض وفيه أقرب القوم إذا كانت إبلهم قوارب فهم قاربون ولا يقال مقربون قال أبو عبيد وهذا الحرف شاذ وفي أمالي القالي: القارب: الطالب للماء، يقال قربت الإبل وأقربها أهلها. قال الأصمعي فهم قاربون ولا يقال مقربون وهذا الحرف شاذ وقال القالي: إنما قالوا قاربون لأنهم أرادوا: ذو قرب وأصحاب قرب ولم يبنوه على أقرب.
وقال السيوطى في المزهر: ليس في كلامهم أفعل فهو فاعل إلا أعشبت الأرض فهي عاشب، وأورس الرمث وهو ضرب من الشجر إذا تغير لونه عن البياض فهو وارس وأيفع الغلام فهو يافع، وأبقلت الأرض فهي باقل وأغضى [6] الليل فهو غاض، وأمحل البلد فهو ماحل.
أفعله فهو مفعول [7]
صيغة مفعول إنما تصاغ من الثلاثي التام المتصرف سواء كان متعديا أم لازما ويشترط مع اللازم أن توجد معها واسطة من جار ومجرور أو غيره تقول محمد محفوظ بعناية ربه وأنت ممرور بك، ومنهوب إليكْ، وقد وردت صيغة مفعول من غير الثلاثي الذي على وزن أفعل من المواد الآتية:
ولم يأت أفعله مفعول إلا أجنه فهو مجنون وأزكمه فهو مزكوم، وأحزنه فهو محزون وأحبه فهو محبوب.
وقال ابن جني في الخصائص باب نقض العادة: ونحو ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول وذلك نحو أحببته فهو محبوب، وأجنه فهو مجنون وأزكمه فهو مزكوم. وأكزه فهو مكزوز، وأقره فهو مقرور، وآرضه آلة فهو مأروض، وأملأه الله فهو مملوء. وأضأضه فهو مضؤود، وأحمه الله فهو محموم، وأهمه (من الهم) فهو مهموم، وأزعقته فهو مزعوق أي مذعور. ومثله ما أنشدناه أبو علي من قوله (وهو خفاف بن ندبة)
جرى وهو مودوع [8] واوعد مَصْدَق
إذا ما استحمت أرضه من سمائه(26/437)
وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل على هذا غير أنه قال أبو زيد يقولون إلا يحزنني (بفتح الياء) ولا يقولون حزنني إلا أن مجىء المضارع يشهد للماضي فهذا أمثل ما مضى- وقد قالوا فيه أيضا محزن على القياس ومثله قولهم: محب منه بيت عنترة:
مني بمنزلة المحب المكرم
ولقد نزلت فلا تظني غيره
ومثله قول الأخرى هند بنت أبي سفيان أخت معاوية رضي الله عنهما وهي ترقص ابنها عبد الله:
مكرمة محبَّةْ تحب أهل الكعبةْ
لأنكحنّ ببة: جارية خِدبةْ
وقال الآخر:
يأتيك منهم خير فتيان العرب
ومن يناد آل يربوع يجب
المُنكْبُ الأيمن والرَّدف المحب
والملحوظ أن أحزنه جاء الثلاثي منه وإن قرن بالمزيد استغناء به عن وصفه، وما قبله ليس في هذا المعنى.
وهذه مجموعة من الأفعال تكلم فيها بأفعلت أو اختير فيها أفعلت على فعلت كما وردت في كتاب فعلت وأفعلت للزجاج: أبنّ بالمكان أقام. وأبرَّ على القوم غلبهم. وأبدع في الأمر إبداعا أتى فيه ببدعة، وأبطا القوم صارت إبلهم بطاء وأبلد القوم صارت إبلهم بليدة، وأبلق الفحل إذا ولد له ولد أبلق.
أتلد الرجل إذا كان له مال تليد أي قديم: وأتأرت الرجل بصري إذا أتبعته بصرك..
وأتأمت المرأة وهي متئم إذا ولدت ولدين في بطن… وارتفتْ فلانا من الترفة وأتمر القوم إذا كثر تمرهم، وأتعب القوم أي تعبت ماشيتهم، وأترعت الإناء ملأتة فهو مترع.
أثغم الوادي صار فيه الثغام وهو شجر أبيض النَّوْر ويشبه به الشيب، ويقولون أثغم رأس الرجل صار كالثغامة وأثغر الشراب صار فيه الثغر… وأثلج الرجل إذا حفر بئرا فبلغ الطين.(26/438)
أجذى سنام البعير في أول ما يبدو، وأجمل القوم كثرت جمالهم، وأجنت الأرض كثر جناها، وأجاد الرجل صار له فرس جواد… وأجرب الرجل صارت له إبل جربى، وأجرز الرجل صار في أرض جرز وهي التي لا تنبت شيئا وأجها القوم انكشفت لهم السماء. وأجدلت الظبية وجدلت وجذبت إذا مشى معها ولدها.
أحمص القوم أكلت إبلهم الحمص ... وأحمق الرجل فهو محمق إذا ولد له ولد أحمق، وأحمر الرجل إذا ولد له ولد أحمر وأحذيت الرجل نعلا… وأحلبت الرجل أعنته على الحلب وأحبينا الأرض وجدناها حية النبات غضة.. وأحوب الرجل إلى الحوب وهو الإثم.
آدمّ الرجل ولد له ولد دميم وهو الصغير الخَلْق. وأدبت الأرض فهي مدبية إذا كثر فيها الدّبا وهو صغار الجراد وأدمن الرجل على الشيء إذا داومه… وأدهيت فلانا وجدته داهيا.
أذعن الرجل بالطاعة ألزمها نفسه ... وأذكرت المرأة ولدت ذكرا… وأذمّ الرجل ولد له ولد مذموم، أو فعل فعلا مذموما… وأذدت الرجل أعنته على ذياد إبله، وأذممت الرجل وجدته مذموما.
أرعت الأرض وهي مرعية خرج منها المرعى، وأسكن رعيها وهو الكلأ. وأركب المهر أمكن أن يركب… وأرهمت السماء مطرت مطرا ضعيفا، وأربع القوم دخلوا في الربيع. وأربع الرجل ولد له في شبابه وولده ربعيون وأردع الرجل حفر بئرا فرأى تباشير ماء كثير. وأرتعت الأرض إذا شبعت فيها الماشية.
أزمع الرجل على الأمر أي عزم عليه واجتمع رأيه فيه.... وأزحف القوم للقوم صاروا لهم زحفا يقاتلونهم وقال العجاج: مثلين ثم أزحفتْ وأزحفا.
أسمن القوم وهم مسمنون إذا كثر سمنهم وكذلك إذا كثرت ماشيتهم…وأسنت القوم أصابتهم السنة وهي الجدب… وأسهل القوم صاروا إلى السهولة ... وأسبقت الناقة ولدت ولدا ذكرا… وأسنهنا وأسنينا دخلنا في السنة ... وأسنعنا وأسوعنا انتقلنا من ساعة إلى ساعة، وأسهب الرجل في منطقه بلغ في القول ما كثر ... وحفر الرجل فأسهب أي بلغ الرمل.(26/439)
أشفى فلان فلانا عسلا إذا جعله له شفاء ... وأشهب الفحل ولد له الشُهُب ... أشب شب ولده وأشب الرجل بنيه إذا صاروا شبانا… وأشحم القوم كثر شحمهم… وأشهر القوم أتى عليهم الشهر.
أصرّ الرجل بأنفه إذا شمخ ... وأصبت المرأة فهي مصب ومصبيه إذا كان أولادها صبيانا وأصعبت الأمر وافقته صعبا، وأصممت الرجل وجدته أصم، وأصهب الفحل إذا ولد له الصُّهب.
أضب الرجل على ما في نفسه إذا أقام على الحقد، وأضب يومنا كثر ضبابه وأضأن القوم كثرت غنمهم الضأن وأضال المكان كثر فيه الضال وهو السدر البرئ وقيل أضيل المكان مثله.
طيب الرجل وأطيب ولد له ولد طيب… وأطاب الرجل جاء بأمر طيب..... وأطنب الرجل في الشيء إذا بالغ في صفتهِِ وأطلى الرجل مالت عنقه، وأطردت الرجل جعلته طريدا أظهر القوم دخلوا في وقت الظهر ... وأظلموا ادخلوا في الظلمة.
أعرب الرجل صار صاحب خيل عراب وهو معرب قال الجعدي:
يّ صهيلا تبين للمعرب
ويصهل في مثل جوف الطوّ
وأعرب الفرس صهل فتبين بصهيله أنه عربي.... وأعوهوا إذا دخلت إبلهم العاهة ... وأعوز الشيء إذا عز فلم يوجد…وأعطن القوم إذا عطنت إبلهم وأعشب المكان إذا نبت عشبه، وأعشب الرائد إذا صادف عشبا قال أبو النجم:
يقلن للرائد أعشبت انزل
أغزر لبن الرجل كثر لبنه… وأغد القوم أصابت إبلهم الغدة… وأغفى الرجل نام..... وأغم الرجل.
أفردت الرجل جعلته فريدا… وأفقر المهر أمكن أن يركب، وأمشى القوم كثرت ماشيتهم ... وأفرضت إبل فلان صارت فيها الفريض.... وقد أفلى الرجل ركب فلوا من الخيل. وأفجر الرجل جاء بالغدر والفجور.(26/440)
أقمر القوم دخلوا في ضوء القمر ... وأقلص البعير إذا بدا سنامه يخرج.... وأقطف الشيء حان قطافه.... وأقفر المنزل خلا.... وأقلقت الناقة قلق جهازها وهو ما عليها من قتبها وآلتها.... وأقوى الرجل صارت إبله قوية وأقطف النخل إذا كانت دانية قطوفها.... وأقرح القوم صارت إبلهم قرحى… وأقتلت الرجل عرضته للقتل وأقدمت الرجل تقدمت عليه.... وأقدت الرجل خيلا جعلت له خيلا يقودها.
أكثر الرجل وهو مكثر، وأكشف القوم صارت إبلهم كشفا والكشف جمع ناقة كشوف والكشوف هي التي يحمل عليها في كل سنة… وأكلب الرجل أصاب إبله الكلب.... وأكاس الرجل ولد له أولاد أكياس.. وأكفر البعير إذا ابتدأ سنامه يخرج.... وأكسد القوم إذا كسدت سوقهم.
ألأم الرجل مهموزا أتى باللؤم في أخلاقه ... وألام فعل ما يلام عليه.- وألمحت المرأة إذا ملت في النظر إليها وألهج الرجل لهجت فصاله بالرضاع، وألحم الرجل كثر عنده اللحم.
أمضغ اللحم استطيب وأكل، وأمات القوم وقع إبلهم في الموت ... وأمغل القوم إذا مغلت شاؤهم وهو أن يتوالى حملها في كل سنة.... ويقال أمكنت الطير إذا كثر بيضها ... وأمخّ العظم صار فيه المخ ... وأملحت الإبل وردت ماء ملحا.... وأمعز الرجل كثرت غنمه المعزى.
أنفق القوم نفقت سوقهم، وأنهل إبله والنهل أول الشرب وأنشط القوم نشطت ماشيتهم، وأنتجت الخيل حان نتاجها، وأنوكت الرجل وجدته أنوك ... وأنقى القوم صارت إبلهم ذات نقة وهو المخ، وأنزع القوم نزعت إبلهم إلى أوطانها، وأنحز القوم أصابت إبلهم النحاز وهو ضرب من السعال.... وأنعمت الريح هبت نعامى وهي الجنوب.
أهيج الرجل الأرض وجد نبتها قد هاج أي يبس قال رؤية:
وأهيجَ الخلصاءَ من ذات البرَق
وأهملت الشيء إذا تركته ... وأهزل القوم إذا أتى الهزال في ماشيتهم.(26/441)
أوقف له الشيء إذا ارتفع ويقولون ما يوقف لفلان شيء إلا أخذه… وأوشى القوم كثرت غنمهم وأوصبوا أصاب أولادهم الوصب وهو المرض…
وأوسع القوم صاروا إلى السعة ... وأوعثوا وقعوا في الوعوثة ... وأوفر النخل كثر حمله.
أهلك الله لهذا الأمر جعلك الله له أهلا ... وآسدت الكلب أغريته بالصيد… وآد الرجل كثرت عنده آلة الحرب وآتيته الشيء أعطيته ... وآلى حلف.
أيسر الرجل صار موسرا…وأيبس القوم صاروا إلى مكان يابس…وأيمن الرجل إذا قصد نحو اليمن.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر تصحيح الفصيح ج1 ص297.
[2] انظر الأنوار ومحاسن الأشعار ص257.
[3] انظر اللسان (حسّ) ، تصحيح الفصيح ج1 ص298.
[4] انظر المزهر ج2 ص46.
[5] انظر المزهر ج2 ص76، وأدب الكاتب لابن قتيبة ص635 وإصلاح المنطق ص305 والمزهر ج2 ص82.
[6] أغضى الليل: أظلم فالليل مغض لغة قليلة، والخصائص ج2 ص215.
[7] انظر المزهر ج2 ص82، والخصائص ج2ص216، وأدب الكاتب ص636 تحت باب في شواذ التصريف.
[8] قوله مودوع مفعول من ودعه أي تركه والملحوظ أن الثلاثي منه قد ترك استغناء بترك.(26/442)
منهج في دراسة المنهج
للدكتور أحمد بسام ساعي
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية
يشكو البحث العربي الراهن، ولاسيما الإنساني منه، مثلما تشكو الموضوعات التي يتخذها مادة له، من انحسار القاعدة والمنهج انحساراً خطيراً يتنافى مع ما تتجه إليه الإنسانية في خطها العام من دقة وموضوعية ومنطق، وهذه الصفات ترتبط بكل خطوة من خطواتها التي يعوّل عليها وحدها في تطور هذه الحضارة، دون الحضارات المزيفة الأخرى التي تواكبها، والتي تتطفل على مائدة العلم والحضارة، حتى تكاد تستأثر بها، لولا أثارة من أصالة الحقيقة التي تتسلح بها تلك الخطوات الأصيلة الأولى المعوّل عليها.
وهكذا تزخر المكتبة العربية الحديثة بركام من الكتب التي يبهرنا منظرها، وتكاد مظاهرها المدلسة، وأغلفتها المتبرجة، وحروفها المتأنقة، وأوراقها السميكة، تعشي عيوننا عن إبصار حقيقتها أو استكناه باطنها، وإدراك غثاثة ما فيها، وفقدانها لأبسط شروط الأبحاث، من منهجية، ودقة، وأمانة، وقدرة على التحليل والاستنتاج والإبداع، وقدرة على التعبير عن كل ذلك بلغة أمينة واضحة، مما يسهم إسهاماً حقيقياً في حركة التطور البشرى ودفعها إلى الأمام.(26/443)
ورغم الدراسات الجادة التي قدمتها خلال الأربعين سنة الأخيرة أقلام عربية رصينة في مجال التنظير للبحث، ورغم اطراد افتتاح فروع الدراسات العليا في الجامعات والمعاهد العربية، مما يسهم في إيجاد مناخات طيبة للبحث العلمي وقواعده وأصوله، ورغم أن مادة "منهج البحث" قد عدّت إحدى المواد الأساسية التي يدرسها الطالب في معظم هذه الجامعات، إن لم أقل كلها، على الرغم من ذلك مازلنا نشهد الانحراف المنهجي في كتابة البحوث- أو ما كان يرجى لها أن تكون كذلك- يزداد اتساعا يوماً بعد يوم، مما يشعرنا باطراد الحاجة، مع اطراد حركة البحث والتأليف، إلى تدارك النقص فيما نظرته أو ترجمته أقلام المنهجيين الرواد حتى الآن في طرائق البحث وأصوله وآدابه.
ويجدر بي هنا أن أنبه- بأسف- إلى غياب المصطلح المنهجي، ليس عند الباحثين العاديين فحسب، بل حتى عند بعض من ألف في مناهج البحث، ومن المؤلم حقا أن تزين واجهات مكتباتنا التجارية مثلا نسخ من مؤلف وضع في "البحوث الأدبية، مناهجها ومصادرها"ثم نجد واضعه وقد عجز عن التمييز بين "منهج"البحث و "خطته"فخلط بين المصطلحين، وطبعيّ أن لا يستطيع بعد ذلك الخلوص إلى شيء مما يفيد الباحث، إن لم أقل إنه يشكل- باضطرابه المنهجي وفوضاه الفكرية- ضرراً حقيقيا على طلاب مادة "منهج البحث "إن وقع في أيديهم، وعلى رأسهم الطلاب الذين قام المؤلف بإلقاء فصول كتابه عليهم في إحدى جامعاتنا.
ونحمد الله على أن مثل هذا المؤلَّف قليل في مكتبة منهج البحث العربية، وأظن من المفيد أن أعرّف تعريفاً سريعاً بأبرز كتبها، وأكثرها عمقاً وإحاطة ومنهجية، قبل أن أنطلق إلى بقية حديثي [1] وإن كنت سأقتصر في تعريفي على الكتب التي وصلت إلى يدي، غير غافل عن وجود عدة من الكتب في هذا الباب قد تحتل مكانة هامة فيه، مما لم أتمكن من الوصول إليه في فترة كتابتي لهذا البحث. وهذه الكتب هي تبعاً لدرجة أهميتها عند الباحث المبتدئ:(26/444)
1- "البحث الأدبي " لشوقي ضيف: وهو أكثر مؤلفات مكتبة منهج البحث العربية إحاطة وشمولاً دون منازع، وضعه مؤلفه عام 1973 وجمع فيه حصيلة لخبرة عشرات من السنين قضاها في التدريس الجامعي والإشراف على الرسائل الجامعية ومناقشتها، وفي وضع ما يقرب من ثلاثين مؤلفاً أحاط فيها بشتى جوانب الثقافة العربية، الأدبية واللغوية والنقدية، وكان له من كل ذلك تجارب وافرة في ((المنهج)) سمحت له بأن يحشد في كتابه كثيراً من الأخطاء الفكرية والمنهجية التي وقع فيها- أو يحتمل أن يقع فيها- الباحثون والمحققون على السواء، مسترسلاً في عرض الأمثلة وشرحها والتعليق عليها، حتى كاد أن ينقلب كتابه في كثير من المواضع إلى ركام من المعلومات التاريخية والأدبية التي تفيد كل باحث، ولكنها في الوقت نفسه تسيء بعض الشيء إلى منهجية الكتاب. مثلما أساء إليها إغفاله ذكر أيّ من مصادره أو مراجعه سواء في هوامش الكتاب أو ملحقاته. وهذا أدى بوجه من الوجوه، إلى اختلاط مادة المصادر بعضها ببعض في الكتاب. ساعد على ذلك إيراد المؤلف لآراء الباحثين - على تناقضها أو تباعدها أحياناً- مختلطة بآرائه. من غير أن يضعنا أمام الاتجاه الأكثر صواباً أو يدلنا على الرأي الذي يرجح على الآراء الأخرى.
إن أهمية الكتاب كانت جديرة بأن يظهر خلواً من تلك الهنات. وبأن يلحق به المؤلف فهارس بأسماء الكتب والأعلام والقضايا، لكثرة ما ورد وما تداخل في ثنايا فصوله من كل ذلك، ممّا تضيع درره بين ركام من التفصيلات والاستطرادات المتنوعة التي تحجب عنا الإفادة السريعة الميسورة من معظم الحقائق التي يسوقها إلينا في تلك الفصول.(26/445)
2- "منهج البحث في الأدب": أملية جامعية أصدرها الدكتور شكري عياد لطلاب الدراسات العليا بمعهد الآداب والثقافة العربية في جامعة قسنطينة (الجزائر) عام 1977. تدارك المؤلف فيها ما فات الآخرين غالباً فيما يتعلق بالتحقيق أو بالدراسة الأدبية وعلاقاتها بالدراسات التاريخية. فدرس جوانب جديدة في هذا الاتجاه بعمق لم تعرفه أي من الدراسات العربية التي وضعت حتى الآن في هذا الباب، وأضاء كثيراً من الكوى حول كتب المصادر العامة والموسوعات، وطبيعة المنهج ومادته، وتحقيق كل من النصوص المروية أو المخطوطة أو المطبوعة، وكذلك فحص الوقائع التاريخية وتحقيقها والتأكد من صحتها من خلال الاستعانة بالموسوعات المتخصصة وكتب التراجم وكتب الفهارس، وكشف أيضاً جوانب من الدراسة الخارجية والدراسة الداخلية للنص لم تزل مظلمة عند كثير من باحثينا.
2- "منهج البحث الأدبي": ألفه الدكتور علي جواد الطاهر وطبع لأول مرة في بغداد عام 1970. وهو كتاب يمتاز بمقدمته وتمهيده الخصبين اللذين يعّرفان البحث والمنهج تعريفاً مفصلاً يقدم للقارىء- طالباً ومدرساً لمادة منهج البحث- كثيرا من الإضافات المفيدة الممتعة، كما يمتاز بـ "المراجع النافعة"التي ألحقها بكتابه سارداً فيها أسماء أهم الكتب العربية والفرنسية والإنجليزية مما يمكن أن يعود بالفائدة على القارئ في هذا الباب. ولكن ما ينحصر بين فاتحة الكتاب وخاتمته من فصول، لا يزيد عن دروس في آداب البحث، يتناول فيها اختيار الموضوع وتبييضه وطبعه على الآلة الكاتبة ثم في المطبعة، وهي دروس سبق أن بحثت في أكثر من كتاب عربي كما سنرى، وإن كان يسجل للمؤلف هنا تخصيصه جزءاً من أحد فصول الكتاب لحديث مفصّل مفيد عن الدرجات العلمية وأنواعها وأسمائها واختلافها بين أهم جامعات العالم.(26/446)
4- "منهج البحوث العلمية": وضعته ثريا عبد الفظاح ملحس ونشر في بيروت عام 1960، تدرس المؤلفة فيه وسائل البحث وأدواته وخطواته دراسة علمية، مستعينة بأمثلة توضيحية كثيرة، ويمتاز بمراجعه الأجنبية الكثيرة التي اعتمدتها المؤلفة وكلها إنكليزي، ومع ذلك فهو كتاب لا يضيف جديداً إلى كتاب الدكتور أحمد شلبي (كيف تكتب بحثاً أو رسالة) الذي نشره في القاهرة عام (1952) والذي يعد رائد الكتب العربية في هذا الباب، وهذا رغم حرص المؤلفة على أن تذكر في مقدمتها أنها تسعى إلى إضافة جديد في مكتبة مناهج البحث.
5- "الاستقراء والمنهج العلمي": للدكتور محمود فهمي زيدان. نشر في الإسكندرية عام 1977، وهو كتاب غزير الفائدة في معرفة تاريخ الاستقراء وتطوره وأنواعه وطرق استخدامه في البحوث العلمية، وقد أفاد كثيراً من كتاب الدكتور محمود قاسم (المنطق الحديث ومناهج البحث) كما أفاد من كثير من المراجع الإنجليزية غير المترجمة إلى العريية. ولكن لغة الكتاب، التي كانت قاصرة في كثير من الأحيان عن التعبير بوضوح وسلامة عن أفكاره المترجمة، والأخطاء المطبعية الكثيرة التي وقعت فيه، تنال كثيراً من قيمته العلمية، وتحدّ من درجة الإفادة منه والتعويل عليه.(26/447)
6- "أصول نقد النصوص ونشر الكتب": محاضرات ألقاها المستشرق الألماني برجستراسر (Bergstraesser) على طلبة كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1931، ثم نشرها وقدم لها الدكتور محمد حمدي البكري في القاهرة عام 1969، وهو أول مؤلف يوضع بين أيدي المحققين العرب، يرشدهم إلى أصول تحقيق الكتب ونشرها، وينبههم إلى الأخطاء الكثيرة التي رافقت تحقيق الرواد من العرب لكتب التراث، ولكن الدكتور البكري ارتكب خطأ منهجياً كبيراً للكتاب حين أضاف إليه إضافات عديدة في الهامش وفي المتن، ليست من أصل الكتاب، دون أن يشير إلى ذلك في أماكنه أو في مقدمة الكتاب، ولولا معرفتنا تاريخ وضع الكتاب أو المحاضرات وتاريخ وفاة المؤلف (1932) لظنناها جزءاً من أصل الكتاب.
7- "منهج البحث في الأدب" (تأليف غوستاف لانسون) و "منهج البحث في اللغة" (تأليف انطون ماييه) : وكلا المؤلفين فرنسي استجاب لطلب ناشر كتاب (De la methode sciences) فأعدّ كل منهما دراسة عن منهج البحث في اختصاصه لتكون جزءاً من الكتاب الموسوعي الكبير الذي خرج في جزءين من نحو ألف صفحة. وقد ترجم الدراستين إلى العربية الدكتور محمد مندور ونشرها في بيروت عام 1946، ثم ألحقها في الطبعات المصرية التالية بكتابه (النقد المنهجي عند العرب) .
والكتاب الأول (منهج البحث في الأدب) أكثر استحقاقاً لاسمه لأنه يتحدث باستيفاء وتركيز شديدين عن منهج البحث بوصفه علماً بحتاً، مع التركيز على الباحث التاريخي والباحث الأدبي خاصة، مما لا غنى عنه للدارس العربي إذ لا يحلّ محلّه كتاب آخر وضع بالعربية أو ترجم إليها. أما الكتاب الثاني (منهج البحث في اللغة) فهو في حقيقته أقرب إلى التمهيد لقواعد علم اللغة ونظرياته منه إلى وضع منهج عام للبحث اللغوي، وهذا على الرغم من أن الكتابين أعدّا لهدف عام واحد في الأصل كما قدمنا [2] .(26/448)
ويجدر بنا هنا أن نميز بين أنواع الدراسات التي وضعت في موضوع منهج البحث، فبعضها انصرف إلى البحث العلمي، وبعضها إلى البحث التاريخي وآخر إلى البحث اللغوي، وكثير منها إلى البحث الأدبي، وانصرف بعضها إلى تحقيق الكتب والنصوص القديمة أو الحديثة، ولكن ما هو أكثر أهمية من ذلك اختلاف طبيعة هذه البحوث حتى ضمن الفرع العلمي أو الإنساني الواحد، فمن الضروري أن نميز فيها أيضاً بين ما كتب في (طرائق البحث) وما كتب في (آداب البحث) وما كتب في (أصول البحث) وهي مصطلحات لابد من التمييز بينها، خلافاً لما ذهب إليه الدكتور علي جواد الطاهر حين ساوى بينها وجعلها أسماء لمسمى واحد [3] . (فطرائق البحث) : وهو المصطلح الأجدر بأن يساوي مصطلح (منهج البحث) - تعني المناهج النظرية والفكرية والفنية التي يتبعها الباحث في إنشاء بحثه، والمنهج لغوياً، هو الطريق، فللباحث أن يتبع منهجاً نظرياً: فرضياً، أو استقرائياً تقليدياً، أو استقرائيا معاصراً، أو منهجاً فكرياً: تأثريا، أو موضوعياً أو مادياً أو إسلامياً أو تقريرياً، أو منهجاً فنياً: وصفيا أو تاريخيا أو نقدياً أو نفسيا أو اجتماعياً أو جمالياً أو بنيوياً أو تكاملياً ... الخ.
أما (آداب البحث) فهي القواعد التنظيمية التي لابد من مراعاتها حين ممارستنا للمناهج المذكورة نظريا أو فكرياً أو منهجيا، وهي قواعد تهدي الباحث في جمعه لمادته وسعيه وراء مصادرها، ثم في طريقة الإفادة منها وتنظيمها وتبويبها وصياغتها وإخراجها بعد ذلك في بحث مخطوط فمطبوع، وأما (أصول البحث) فتعني القواعد السلوكية والأخلاقية التي يتخلّق بها الباحث في تعامله مع مصادره البشرية وغير البشرية، وكذلك قواعد الأمانة العلمية والتاريخية التي لابد أن يأخذ نفسه بها خلال كتابته للبحث.(26/449)
(البحث الأدبي) لشوقي ضيف مثلا كتاب في طرائق البحث وآدابه وأصوله معًا بينما ينصرف بحث شكري عياد إلى طرائق البحث وأصوله دون آدابه. أما مؤلفات أحمد شلبي وثريا ملحس وعلي جواد الطاهر فتنصب على آداب البحث خاصة دون الجانبين الآخرين.
أما هذا البحث فليس في طرائق البحث ولا في آدابه ولا في أصوله، بل هو في (طرائق المنهج) أو هو في (علم المنهج) بتعبير أصح. ومع ذلك فأنا لم أضع نصب عيني في كتابة بحثي استقصاء طرائق المنهج، وإنما أردت أن اقترح طريقة في دراسة المنهج أو تدريسه، وإن كانت هذه الطريقة قد قدمت عمليا- ومن غير القصد المباشر إلى ذلك- كثيرا من الخطوط الرئيسية، وأحياناً، الفرعية. لأصول البحث وطرائقه.
ولعل لدعوة الدكتور علي جواد الطاهر في مقدمة كتابه (منهج البحث الأدبي) إلى أن "ينهض الأساتذة إلى نشر خبراتهم الخاصة، والحديث عن المناهج التي ساروا عليها في جامعاتهم التي درّسوا فيها" لعل لهذه الدعوة أثرها غير المباشر في انصرافي إلى صياغة هذا البحث الذي جاء ثمرة لتدريس مادته لطلاب الدراسات العليا في جامعة قسنطينة (الجزائر) ومن قبلها في جامعة اللاذقية (سورية) . وقد أردت في بحثي أن أضع بين يدي الباحثين - طلاباً وأساتذة على السواء- حصيلة تجربة متواضعة في هذا المجال، دون أن أسمح لنفسي بأن أردد ما سبق إلى ترديده ونشره الباحثون الآخرون.
إنها طريقة وجدت أنها الأصلح في تدريس مادة ((منهج البحث)) وأنها الأكثر فائدة لطلاب هذه المادة لأنها تعينهم على اكتساب قدر وافر من المنهجية التنظيمية والفكرية والتعبيرية في صياغة بحوثهم. وقد انتهيت إلى ذلك لعلمي أن الطالب الذي دفع به تفوقه إلى الدراسات العليا لا بد أن يكون:
1- قد قرأ جيداً في الماضي.
3- قادرا على أن يقرأ جيدا في المستقبل.(26/450)
وإذن كان على المدرس أن يشحذ فيه الطاقة الكامنة التي اكتسبها من خلال تلك القراءة الوافرة، ليس بإلقاء المعلومات القديمة أو الجديدة عليه، فبإمكان القراءة أن تغنيه إلى حد شبه تام عن ذلك كله، ولكن بطريقة تفجير الفكرة تلو الفكرة في رأس الطالب، ومساعدته على تخليقها وبلورتها ثم تنظيم هذه الأفكار ووضعها- عن طريق الطالب نفسه- في السياق المنهجي الذي ينتظمها جميعاً.
فمن المهم لأستاذ الدراسات العليا- وهو غالباً ما يدرِّس طلاب الدراسات الجامعية الدنيا في الوقت نفسه- أن لا يقدم لطلابه من خلال المواد التي يدَرِّسها المعلومات نفسها التي سبق للطالب أن تلقاها- جزئياً أو كليا- في دراساته الجامعية الأولى، بل من المهم أن لا تكون محاضرته مجرد محاضرة في المعلومات "محاضرة إعلامية"إذ من السهل على الطالب أن يعود إلى هذه المعلومات حيث يحيله المدرس إليها، وإذا كان من معلومات جديدة لدى المدرس ما لا تتوفر في الكتب. فبإمكانه أن يخرجها في أملية يضعها بين يدي طلبته، ولكن الأهم من ذلك كله أن يعمل أستاذ الدراسات العليا على صياغة محاضراته بشكل يستطيع معه تغذية ملكة البحث والتفكير لدى الطالب، فيحاول أن يستنبط مادة المحاضرة من ألسنة طلابه بعد أن يطرح عليهم موضوعه، وتكون طريقة طرح هذا الموضوع قادرة على تفجير الأفكار في نفوسهم. وقدح زناد ملكتهم التفكيرية والإبداعية، ثم إذا ما انتهى من "نتح"ما عندهم حول هذا المحور الذي طرحه، انصرف وإياهم إلى "منهجة "أفكارهم ومناقشتها، ثم ترتيبها وتبويبها تبويبا منهجيا منطقياً بحيث يمكن أن تكون عناصرها في النهاية عناصر لموضوع أو بحث أدبي صغير هو جماع المحاضرة في الحقيقة.(26/451)
إن الغاية الأساسية لأستاذ الدراسات العليا هي بذلك تلقين طلابه- من خلال محاضراته- تلقيناً عملياً تطبيقياً، ما أمكن، أصول "المنهجية"وطرائق التفكير العلمي الموضوعي، وكذلك التعبير بدقة وموضوعية عن أفكارهم التي تعتمل في أذهنتهم دون أن يجدوا القدرة في كثير من الأحيان، على إخراجها إلى حيز الوجود في الشكل اللغوي الصحيح وفي البناء المنطقي السليم، مما لا يمكن أن يحصل عليه هؤلاء الطلاب من المكتبة أو غيرها بمفردهم.
و"المحاضرة الإعلامية " توازي في كثير من بحوثنا الأدبية المعاصرة "التأليف الوصفي"أو "التاريخي"في دراسة الأدب، وهي بحوث يعفي المؤلف نفسه فيها من أي إبداع أو كشف جديد، فينصرف إلى صياغة الواقع التاريخي للأدب- ماضياً أو حاضراً- صياغة وصفية أفقية، فيها من الزخرف الإنشائي - أحياناً- أكثر مما فيها من الفكر والإبداع. ولعل كثرة هذه البحوث التاريخية- الإنشائية كانت وراء التقسيم المفتعل الذي فرض على مادة الأدب في معظم الجامعات العربية، فجعلها في مادتين: واحدة في تاريخ الأدب، وأخرى في نصوصه، مما شجع الاتجاه التاريخي أو "الإعلامي"لدى كثير من أساتذة الأدب في محاضراتهم الجامعية، سواء على مستوى الدراسات الجامعية الدنيا أو على مستوى الدراسات العليا، فرأينا كثيراً من المحاضرات في مادة الأدب تسرد على الطلاب تاريخ أدبهم سرداً أجوف تغني الطالب عنه عشرات من الكتب التي تؤرّخ لهذا الأدب، فيستعيض بها أو ببعضها عن مدرسه الذي يتجشّم عناء السرد عليه ومشقة المحاضرة فيه.
إن تجاوزنا لمرحلة الدراسة الوصفية أو التاريخية للأدب تدفعنا إلى تجاوز هذا التقسيم المفتعل لمادة الأدب من ناحية، وإلى تجاوز "المحاضرة الإعلامية"- حتى على مستوى الدراسات الدنيا- من ناحية أخرى.(26/452)
والطرائق لتجاوز الأسلوب "الإعلامي" كثيرة، لعل أبرزها وأقربها متناولاً طريقة طرح الأسئلة المحيطة بالموضوع الذي يريد المدرّس أن يحاضر فيه. ولطريقة طرح الأسئلة هي أيضاً طرائق متعددة، فهناك السؤال الجزئي، والسؤال الكليّ، والسؤال المباشرة والسؤال غير المباشر، والسؤال المفرد، والسؤال المزدوج. وهذا النوع الأخير من الأسئلة- الأسئلة المزدوجة- هو الذي تبنّيناه في تدريس هذه المادة، ومن ثم في صياغة هذا البحث، وهو الذي نراه أكثر مقدرة على تفجير طاقة الطالب الكامنة، لأنه يقوم على قطبين: سالب وموجب - إذا استعملنا لغة الفيزيائيين- يمكن بالتقائهما أو تصادمهما أن يثيرا الشرارة الغنيّة التي نسعى للحصول عليها من ذهن الطالب.
وهكذا لم أشأ أن ألقي درساً إعلامياً على طلابي في منهج البحث، الصحفي، أو العلمي، أو التاريخي، أو اللغوي، أو الأدبي، بل كنت أضع الطلبة في كل محاضرة أمام سؤال مزدوج يشدّ عقولهم باستمرار إلى محور الموضوع الأساسي للمحاضرة، ويدفعهم إلى أن يعطوا من بنات أفكارهم أكثر مما كانوا يتوقعون، مهما كان ظنهم بأنفسهم حسناً. وهكذا بدأت معهم محاضراتي بإلقاء هذا السؤال عليهم:
- ما الفرق بين الصحفي والباحث؟.
وتتالت أجوبتهم الذكية- غالباً- بعد أن قدح السؤال المزدوج زناد أفكارهم: إن على أذهانهم الآن- تبعاً لطبيعة السؤال- أن تبحث، في وقت واحد، عن حقيقة الصحفي، وعن حقيقة الباحث، ثم أن توجد المعادلة إثر المعادلة في إيضاح الفروق الأساسية بينهما، ثم أن تبحث عن صياغة مقبولة سليمة لهذه المعادلات يمكن أن تعبر بدقة عن المطلوب منهم: الفرق بين الطرفين.(26/453)
وكانوا- في البداية- كثيراً ما يخلطون بين "الفروق"وغيرها، فيأتون بصفة للصحفي لا تقابل تماماً الصفة التي قدموها للباحث، مما يخرج بهم عن "المعادلة"المطروحة، ثم لا يزالون يصقلون إجابتهم ويهذبونها حتى يستقيم لهم طرفا المعادلة، فأسجّل الإجابة أمامهم، بعد أن قسمت اللوح المخصص للكتابة إلى قسمين: الأول للصحفي، والآخر للباحث.
وتظل الإجابات تترى. ثم لا يلبث نوع من هذه الإجابات أن يدفعني إلى تعديل لابد منه على السؤال، إذ يتبين من خلال طرح الإجابات ومناقشتها وجود أكثر من نوع واحد من الصحفيين في أذهان الطلاب فهناك "الصحفي اليومي"، أو "الإخباري"الذي لا يهمه - في كثير من الأحيان- أن يمحص الخبر وأن يدقق كثيراً في صحته، وهناك "الصحفي السياسي"الذي يهمه إبراز أخبار معينة وإخفاء أخرى، أو يستخدم أساليب ذكية في عرضها يجعل من الخبر الأول خبرا ثانوياً، أو العكس، هذا إذا لم يصطنع الأخبار أو يزيفها بنفسه، ثم هناك "الصحفي الشهري"أو "الفكري "والذي هو في حقيقته باحث أيضاً، وإنما تقوم مقارنتنا هذه على "الصحفي اليومي"خاصة دون "الصحفي الفكري"حتى نحقق التباعد بين الطرفين إلى أقصى حد، ولكي نصل من خلال هذا التباعدا في أذهان الطلاب، إلى ما يمكن أن نصل إليه من ملامسة القطبين الكهربائيين السالب والموجب، من قوة أو طاقة. وهكذا نعيد صياغة السؤال بشكل أكثر دقة فيكون: ما الفرق بين الصحفي اليومي والباحث؟(26/454)
وإذا تجمع أمامنا عناصر عديدة تكاد تستقصي الفروق بعين هذين الطرفين- ومعظمها من صنع الطلاب أنفسهم- نعود إلى دراستها عنصراً عنصراً: من الناحية الفكرية، والتعبيرية، والمنهجية، فنحذف منها ما أغنى عنه غيره، ونعدّل منها ما استدعت موضوعية الفكرة أو دقتها تعديله، ونعيد صياغة ما قصرّت لغته عن الوفاء بالمعنى المقصود بدقة، ويجري هذا كله على أيدي الطلبة أنفسهم- مع المساعدة الضرورية من المدرس أحياناً- ونفصّل خلال ذلك، الحديث عن هذه العناصر، دارسين جوانب كل عنصر منها على حدة، وملمين عبر هذا التفصيل بشوارد العنصر وروافده.
وتأتي الخطوة الأخيرة، في إعادة ترتيب العناصر التي توصل إليها الجميع، من قبل الجميع أيضاً، ترتيباً منهجياً يراعي تسلسل الأفكار واطرادها، متصورين أن هذه العناصر ما هي إلا عناوين فقرات في موضوع أو فصول في كتاب، فإذا ما توصّلنا إلى ترتيبها على هذا الشكل كان أمامنا مخطط كامل لموضوع أو بحث.
ثم لا تلبث المحاضرات التالية أن تضع الطلاب أمام أسئلة أكثر دقة، ومن ثم تكون الإجابة عليها أكثر صعوبة، وأشدّ إثارة للفكر، وتفجيرا للطاقة، فكلّما قلّت المسافة بعين قطبي المعادلة ازدادت صعوبة تحديد الفروق بينهما، وفي الوقت نفسه ازداد العمق الفكري للمحاضرة، وازدادت إجابات الطلاب دقة وتركيزاً. وهكذا يجد الطلاب أنفسهم في المحاضرة التالية أمام هذا السؤال:
- ما الفرق بين الباحث العلمي والباحث الإنساني؟
فيدخل بهم السؤال الجديد عالما أكثر ضيقا: عالم الباحثين وحدهم، فإذا كان الفرق بين الباحث وغير الباحث كبيرا وواضحا، فهو بين الباحث والباحث دقيق وأقل وضوحا. ولكن أن يكون الطرف الأول من المعادلة هو (الباحث العلمي) والطرف الثاني هو (الباحث الإنساني) - وبينهما مسافة لا يخفى امتدادها- يجعل الانتقالة بين السؤالين، الأول والثاني، انتقالة بسيطة ميسورة.(26/455)
ولكن بالانتقالة التالية، ثم ما بعدها، نشدّد الحصار أكثر فأكثر على الطالب، حين نضعه في المحاضرات المتوالية أمام هذه الأسئلة المتطورة عمقا والمطردة دقة وتركيزا.
- ما الفرق بين الباحث والمحقق؟
- ما الفرق بين الباحث الأدبي والباحث التاريخي؟
- ما الفرق بين الباحث الأدبي والباحث اللغوي؟
- ما الفرق بين الناقد الأدبي والمؤرخ الأدبي؟
- ما الفرق بين دارس الشعر ودارس النثر؟
ومع اشتداد الحصار عليه تزاد العمليات الذهنية لديه قوة وعمقا، وتزداد أجوبته دقة وإحكاما، ويصل مع أستاذه إلى السؤال الذروة وقد أصبح ملمًّا بمعظم عناصر المنهج ومقومات البحث من ناحية، وممتلكا لمقدرة أكبر على التفكير و "المنهجية"وإصدار الأحكام العميقة الجادة، من ناحية أخرى.
إنها أسئلة اخترتها تبعا لاتجاهات طلابي الدراسية وطبيعة اهتماماتهم وحاجاتهم ضمن هذه الاتجاهات، ولكل مدرس أن يختار الأسئلة التي يعتقد أن الإجابات ستقدم لطلابه أهم ما يحتاجونه من مادة منهج البحث. وعلى هذا فالأبواب مفتوحة أمام المدرس في وضع مثل هذه الأسئلة المزدوجة، واتجاهاتها كثيرة، وألوانها مختلفة، تبعا لاختلاف المادة، أو نوعية اختصاص الطلبة، كما في هذه النماذج المتباعدة من الأسئلة مثلا:
- الفرق بين الباحث الديني والباحث العلماني.
- الفرق بين الباحث الإسلامي والباحث الماركسي.
- الفرق بين المؤرخ اللغوي والباحث اللغوي.
- الفرق بين المحقق في الغرب والمحقق في الشرق العربي.
- الفرق بعين الباحث الشرقي والباحث الغربي.
- الفرق بين تحقيق كتاب في العربية وآخر في اللاتينية.
- الفرق بين محقق الكتاب القديم ومحقق الكتاب الحديث.
- الفرق بين طباعة الكتاب في الشرق العربي وطباعته في الغرب.
- الفرق بين عمل الباحث وعمل المترجم.
- الفرق بين منهج المقالة الصحفية ومنهج الخبر الصحفي.(26/456)
- الفرق بين منهج الخبر الصحفي ومنهج الإعلان الصحفي.
- الفرق بين المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي في دراسة الأدب.
- الفرق بين المنهج التكاملي والمنهج البنيوي ... الخ.
وهي أسئلة ما تزال تحتاج إلى من يجيب عنها من الدارسين- ولا أدري إن كنت سأفعل ذلك في المستقبل- وأنا أرجو أن يسبقني إلى ذلك الباحثون الآخرون، وأن يطرحوا على أنفسهم- ومن ثم على قارئيهم- أسئلة كثيرة أخرى تستطيع إجاباتهم عليها أن تستوعب قدراً كبيراً من المادة الفكرية لمنهج البحث عن طريق هذه الفروق التي نتصورها بين أنواع البحوث والمناهج، ثم تفريع الفروع والعناصر من تلك الفروق، تفريعاً نعمد خلاله إلى قتل أطرافها بحثاً ودراسة وتمحيصاً.
علم وعمل
انظر في سير الأولين وأخبار الماضين. فكم فيها من جليل وغني وكبير، كانت تسير له المواكب، ويقف له على كل باب حاجب قد انقضى بموته خبره، ومحي في غياهب الحقب أثره، فلا نعرف له اليوم ذكراً، ولا نقيم له قدراً، وكم من عالم أو شاعر. أو قائد أو ناثر كان من خدام بابه، وسدنة أعتابه لا يزال ذكره بيننا حاضراً وفضله في أيدينا ناضرا، ولا سبب لهذا إلا أنه كان لهذا (علم وعمل) وأما الأول فكان خلوا منهما، إن هي إلا زخارف وشارة وأبهة وإمارة، تذهب كالزبد جفاء إن حان لصاحبها القضاء.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] والمنشور هنا هو الجزء الأول منه.(26/457)
[2] اكتفينا بالتعريف بالكتب التي لم تعرف بها الدراسات السابقة، أما الكتب والدراسات الأخرى، العربية والمترجمة، فنشير إلى أشهر مواضع التعريف بها:. الكتب (مصطلح التاريخ) لأسد رستم، و (منهج البحث التاريخي) لحسن عثمان، و (نحن والتاريخ) لقسطنطين زريق، و (كيف تكتب بحثا أو رسالة) لأحمد شلبي، عرفت بها ثريا ملحس في كتابها (منهج البحوث العلمية) ، ثم (منهج البحث الأدبي عند العرب) رسالة دكتوراة لأحمد جاسم الفجيري عرف بها علي جواد الطاهر في كتابه (منهج البحث الأدبي) ، ثم (الأدب وعلم النفس) لسامي الدروبي، و (مناهج الدراسات الأدبية) لشكري فيصل، و (مناهج النقد الأدبي) لديفيد دنيشس ـ ترجمة محمد يوسف نجم، و (تحقيق النصوص ونشرها) لعبد السلام هارون، و (نظرية الأدب) لرينيه ولك وأوستين وارن ـ ترجمة محيي الدين صبحي) وقد عرف بها شكري عياد في أمليته ـ وستصدر في كتاب ـ ثم مقدمة كتاب (الأدب الجاهلي) لطه حسين وقد عرف بها شوقي ضيف في (البحث الأدبي) .
[3] في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه (منهج البحث الأدبي) ص12، بغداد: 1976.(26/458)
الاتجاه الإسلامي في شعر أحمد محرم
للدكتور صلاح الدين محمد عبد التواب
أستاذ بكلية اللغة العربية ـ جامعة القاهرة
من فضل الله على هذه الأمة أن القرون تمر عليها تلو القرون ورسالة الإسلام لم تخمد ولن تخمد أبدا في نفوس وقلوب المسلمين.
وكيف تخمد رسالة الإسلام وكتاب الله بين المسلمين يتلى؟ وكيف تخبو عزيمة المسلمين وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أسماعهم يدوي: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ... كتاب الله وسنتي"؟..
أجل.. إنه لم يمر عصر من عصور الإسلام منذ انبثاق هذا الدين القيم حتى عصرنا الذي نعيش فيه إلا وقد برزت عظمة الإسلام معلنة عن جوهر هذا الدين وصدق دعوته إلى الحق وإلى الخير، ومعلنة كذلك عن إخلاص دعاته وإيمانهم برسالتهم لأنها رسالة الحق والخير..
ولقد يتراءى لبعض الناس أحيانا أن مظاهر الضعف أو الفتور قد تغلب على حياة المسلمين مما يهددهم بالتوقف أو الجمود.. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن دعوة الإسلام لم تخب ولن تخبو أبداً- والله غالب على أمره- مهما تألبت قوى البغي والشر على هذا الدين، وإذا كانت هناك من غفوة ألمت بالمسلمين فإنما يعقبها صحوة، صحوة تعيد للدين مجده وللرسالة إشراقها وبهاءها وللمسلمين قوتهم وعزتهم، فالدين لم يمت، والمسلمون المُعتزّون بدينهم- وهم كثرة- بحمد الله ما زالوا به متمسكين وأولاً وقبل كل شيء فإن منزل الكتاب- جل في علاه- قد ضمن له الحفظ والبقاء، وصدق الله العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وليس أدل على ذلك من أن كتاب الله - بعد هذه القرون منذ نزوله- ما زالت آياته تتلى وتملأ الأسماع وستظل بحكمها وأحكامها تعلن للأجيال المتعاقبة أنها الآيات المحكمات..(26/459)
وليس أدل على ذلك أيضاً من أن لغة الكتاب قد اتسع نطاق درسها وانتشر التعامل بها على كافة المستويات حتى دوت في الآفاق كلمات هذا اللسان العربي المبين..
ثم ليس أدل على ذلك أيضا من أن الأدب العربي الإسلامي لم تنطفئ جذوته بعد أربعة عشر قرناً من الزمان، وسيظل أبدا بإذن الله يهتف بالإسلام ويمسك بمبادئه. ويذكر المسلمين بتاريخ أسلافهم حتى يكونوا دائماً خير خلف لخير سلف.
أجل.. ما زلنا بعد هذه القرون المتعاقبة نرى أدب الدعوة الإسلامية بيننا يعلو نداؤه وتتردد أصداؤه ليملأ الأسماع والأبصار، فتخفق له القلوب، وتستجيب له النفوس، وهو يصل حاضرها بماضيها التليد.
وإذا كانت الأمثلة كثيرة في عصرنا الحديث، تلك التي تؤكد أن أدب الدعوة الإسلامية إلى وقتنا هذا لم يمت ولن يموت ما بقيت رسالة الإسلام ودعوتها فإن المثل الذي بين أيدينا جدير بالإشادة والتقدير لأنه يبعث على الأمل ويؤكد أن نور الله لا يمكن أبداً أن ينطفئ من القلوب..
إنه ديوان (مجد الإسلام) للشاعر المسلم أحمد محرم، الذي شاء الله لمؤلفه أن ينظمه ليستعيد شباب الأمة أمجاد أسلافهم ثم ليكونوا امتداداً من بعد لأولئكم السالفين.
أما عن أحمد محرم فقد ولد في القاهرة سنة سبع وسبعين وثمانمائة وألف ميلادية ونشأ منذ البداية نشأة عربية أزهرية، وبرز في الشعر منذ صباه حتى أنه نال شهادة الامتياز بين "شعراء النيل "من لجنة التحكيم التي تولت أمر النظر في القصائد المقترحة على كبار الشعراء فيما كان يسمى عيد جلوس الخديوي سنة عشر وتسعمائة وألف (ميلادية) ونال عدة جوائز في مسابقات شعرية ونثرية أخرى اقترحتها الصحف والمجلات في فنون شتى وموضوعات مختلفة من سياسة الممالك وتربية الأمم، وما تصدى كاتب ولا أديب لتعيين طبقات الشعراء إلا عرف له مكانه ووضعه في الصف الأول [1] .(26/460)
وأما عن العصر الذي عاشه أحمد محرم فقد سادت فيه نزعة إسلامية ظهرت بوضوح في كتاب العصر وقادته ومفكريه وانعكست أثارها على الشعر ولم يكن هناك بعين الشعراء المعاصرين وقتذاك- على اختلافهم وتباين نزعاتهم- من يخلو شعره من تلك النزعة، من مدح للخليفة التركي، والإشادة بفضله على المسلمين، وحرصه على إعلاء كلمة الدين، وهم يرون أن الخليفة هو الجامع لشمل المسلمين، وأنه حين يحارب فإنما يحارب دفاعا عن الإسلام وتمسكاً بإعلاء كلمته بين الدول التي تتربص به، وهم- يدعون إلى اتحاد كلمة المسلمين في ظل راية الخلافة، محذرين من الإصغاء إلى دعوة التفرقة التي لا تصيب الأمم الإسلامية جميعاً إلا بالشر [2] .(26/461)
وكان طبيعيا أن يهبَّ الشاعر أحمد محرم- وهو المسلم الغيور- ليقوم بدوره في مجال الدعوة الإسلامية، وكانت فكرة ديوانه (مجد الإسلام) كامنة في نفسه ولكنها لم تخرج إلى مجال التنفيذ إلا بعد أن بعث أحد رجال الإسلام الغيورين- وهو الأستاذ محب الدين الخطيب صاحب مجلة (الفتح) إلى صديقه الشاعر أحمد محرم رسالته في الخامس والعشرين من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة يقول فيها: سيدي الأستاذ الجليل مفخرة البيان العربي وشاعر مصر الكبير الأستاذ أحمد محرم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإن من دلائل رضا الله عز وجل عن حركة الجهاد الضئيلة لوقف هذا الطغيان على الفضائل انشراح صدركم لتأييده، وتصدقكم ببعض الوقت للوقوف في صفوفه، ورب فارس واحد خير من ألف.. وكنت هممت أكثر من غير مرة أن أكتب إليكم أقترح عليكم مشروعاً كنا نحاول إقناع شوقي بك رحمه الله به ولكن خشيت أن يصرفكم ذلك عن معاني الجهاد الأخرى.. وهذا المشروع هو إرسال نظركم الكريم بين حين وآخر إلى مفاخر التاريخ الإسلامي الخلقية والعمرانية والسياسية والإصلاحية والحربية ... الخ. ونظم كل مفخرة منها في قطعة خالدة تنقش في أفئدة الشباب، فإذا زخر أدبنا بكثير من هذه القطع، على اختلاف أوزانها وقوافيها، أمكن بعد ذلك ترتيبها بحسب تاريخ الوقائع: وتأليف (إلياذة) إسلامية من مجموعها.. أليس من العار أن يكون للفرس الذين حفل تاريخهم زمن جاهليتهم بالشنائع ديوان مفاخر يغطى فيه البيان على العيوب، ويشير الكاتب بذلك إلى (شاهنامة الفردوس) .. ثم يردف قائلا: وأن يكون لليونان زمن وثنيتهم وأوهامهم الصبيانية ديوان مفاخر (كالإلياذة) تتغنى بها الإنسانية إلى يوم الناس هذا ... ؟
ثم يواصل الكاتب حديثه إلى الشاعر أحمد محرم مبينا أن الإسلام هو الأولى بذلك (وهو الذي لم تفتح الإنسانية عينيها على أعلى منه رتبة، وأعظم منه محامد) ..(26/462)
وما دام المؤرخون- في نظر الكاتب- قد قصدوا في جانب التاريخ الإسلامي ولم يعطوه حقه من التصحيح والإنصاف، فإن (ما قصّر فيه) المؤرخون لا يستطيع أن يستدركه إلا الشعراء.
وكان هذا الخطاب هو الشرارة التي أججت شعلة الحماس في نفس الشاعر أحمد محرم.. فإذا به يقدم على ديوانه يعرض فيه خلاصة نقية للتاريخ الإسلامي في قالب شعري، مكتمل الفن، واضح الأداء، قوي التعبير، حتى يلفت شباب الإسلام إلى مفاخر تاريخهم وعظمة آبائهم وأسلافهم، ويدفع عنهم عقدة النقص التي جعلتهم ينظرون إلى آثار الأمم الأخرى كما ينظر الأقزام إلى العمالقة.
وحشد أحمد محرم كل طاقاته الفنية، وعكف على التاريخ الإسلامي يستخلص حقائقه، ويستوعب مفاخره، ويسجلها فناً عالميا عاليا يسنده الواقع وتؤكده حقائق التاريخ ... [3]
وكان أول ما بدأ به أحمد محرم في ديوانه الذي بلغت قصائده تسعاً وستين ومائة قصيدة كلها في تاريخ الإسلام والمسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أولى القصائد تحت عنوان: (مطلع النور الأول من أفق الدعوة الإسلامية) ، وفيها يقول الشاعر:
وأغمر الناس حكمة والدهورا
املأ الأرض يا محمد نورا
يكشف الحجب كلها والستورا
حجبتك الغيوب سرا تجلى
فتدفق عليه حتى يغورا [4]
عب سيل الفساد في كل واد
ويستمر الشاعر في قصيدته إلى أن يقول:
غيرت كل كائن تغييرا
أنت أنشأت للنفوس حياة
نابه الذكر في العصور شهيرا
أنجب الدهر في ظلالك عصرا
ثم يقول مبينا كيف كان العالم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم حتى جاء دين الله:
يحسبون الحياة إفكا وزورا
أنكر الناس ربهم وتولوا
جعلوا البغي شرعة والفجورا؟
أين من شرعة الحياة أناس
فع مثقال ذرة أو تضيرا؟
تلك أربابهم: أتملك أن تشـ
باب ما كان عاجزا مقهورا(26/463)
قهروها صناعة، أعجب الأر
ى) غناء لمن يقيس الأمورا
ما لدى (اللات) أو (مناة) أو (العز
الله يحمي لواءه المنشورا
جاء دين الهدى وهب رسول
ثم يمضي الشاعر مستذكراً ذلك الموقف الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة عمه أبي طالب فيقول حاكياً:
أن يقيموك سيداً أو أميراً؟
جاءه عمه يقول: أترضى
ل حياً ماطراً وغيثا غزيرا
ويصبوا عليك من صفوة الما
أبتغيها وما خلقت حصورا [5]
قال يا عم ما بعثت لدنيا
ت أريهم مطالبي والشقورا [6]
لو أتوني بالنيرين لأعرضـ
لأدع الهوى وأعصى المشيرا
إن يشيروا بما علمت فأنى
تطعم الحتف رائعا محذورا [7]
دون هذا دمي يراق ونفسي
وفي قصيدة أخرى يذكر صاحب ديوان مجد الإسلام ذلك الموقف الذي أراد فيه المشركون قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم ما كان من أمر الهجرة إلى المدينة فيقول في مطلع قصيدته:
ـل يميط الأذى ويشفي الصدورا
أجمعوا أمرهم وقالوا: هو القتـ
ثم يمضي الشاعر في تصوير ما حدث للمتآمرين الذين وقفوا بباب الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
أم عمىً في عيونهم مذرورا؟
مالهم؟ هل رمى النبي تراباً
أنكروها دهياء عزت نظيرا
ذهلوا مدة، فلما أفاقوا
كل وجه فرده معفورا.
ينفضون التراب، من مسَّ منا
مالأوصالنا تحس الفتورا؟
أين كنا ما بالنا لا نراه
فسكرْنا وماشربْنا الخُمورا
أين وَلىَّ؟ لقد رمانا بسحر
هـ على غرة لخر عقيرا؟
ياله مصعب لو أنّا أصبنا
أملا ضائعا وجدا عثورا
راح في غبطة ورحنا نعاني
يا لها حسرة تشب وتورى [8]
خيبة تترك الجوانح حرى(26/464)
وفي قباء يقول الشاعر من قصيدة له يشير فيها إلى رسالة المسجد في الإسلام:
جيئة الروح تبعث المقبورا
يا حياة النفوس جئت قباء
للبرايا صنيعك المشكورا
ارفع المسجد المبارك واصنع
أن يميل الهوى بها أو يجورا
معقل يعصم النفوس ويأبى
أو سياج يذود عنها الشرورا
أوصها بالصلاة فهي علاج
وقضاها أرومة وجذورا [9]
غرس الله دوحة الدين قدما
وفي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار يقول الشاعر مشيدا بدور الإسلام فيها:
فلا محالة من حب وإيثار
هي الأواصر أدناها الدم الجاري
حييت من أسرة بوركت من دار
الأسرة اجتمعت في الدار واحدة
يدعو البنين فلبوا غير أغمار [10]
مشى بها من رسول الله خير أب
واستحصد الحبل من شد وإصرار [11]
تأكد العهد مما ضم ألفتهم
يحمي الذمار ويرعى حرمة الجار
كل له من سراة المسلمين أخ
وليس يعطيه إن أعطى بمقدار
يطوف منه بحق ليس يمنعه
ويبذل المال في يسر وإعسار
يجود بالدم والآجال ذاهلة
في صورة الفرد فانظر قدرة الباري
هم الجماعة إلا أنهم برزوا ...
بين القبائل دين الجهل والعار [12]
هذا هو الدين، لا ما هاج من فتن
وعندما تدور رحى الحرب بين المسلمين والمشركين في بدر ويسقط أبو جهل صريعاً في أول معركة يدافع فيها المسلمون عن دينهم، ويعزهم الله بعد أن حسبهم الكافرون أذلة..
يقول الشاعر:
سقيت زعاف الموت فاشرب أبا جهل
بسيفك فيما اخترت من عاجل القتل
لنفسك من حقد مذيب ومن غل
شهدت الوغى تبغى على الضعف راحة
وفاتك ما نال الرويعي من فضل
أصابك فيها ما أصابك من أذى
هو الجد كل الجد لو كنت ذا عقل
دع الهزل يا ابن الحنظلية إنه
وزادتك هذي من ضلال ومن خبل(26/465)
هي اللات والعزى أضلتك هذه
رضيت به ربا يفوز ويستعلي
فلو كنت ترجو أن ترى الهبل الذي
وباء عدو الله بالخزي والذل
أصبت ابن مسعود سناء ورفعة
فما بعد ما أعطاك ربك من سؤل
فخذ سيفه ثم ارفع الصوت شاكرا
ويمضي الشاعر يسجل في ديوانه (مجد الإسلام) مواقف مشرفة للمسلمين وجهادهم في سبيل الدعوة الخالدة ... وكلها من النماذج الرفيعة التي يعتز بها المسلمون أينما كانوا وحيثما حلوا ومع كل نموذج من هذه النماذج الرائعة دعوة تهيب بكل مسلم ومسلمة على وجه هذه الأرض أن يكون واقع حياتهم على نمط ما كان عليه المؤمنون السابقون حتى يصل المسلمون حاضرهم بماضيهم فتكون حياتهم كلها حياة العزة والشرف والكرامة والإباء..
وينهي الشاعر ديوانه الكبير بحادث جلل في تاريخ الإسلام والمسلمين وهو يوم انتقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى رحمة ربه راضياً مرضياً.
ومع شدة وقع هذا الأمر على نفوس المسلمين. فقد ذكره الشاعر في معرض حدث آخر، كانت بدايته في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كانت نهايته المشرفة بعد وفاتة عليه الصلاة والسلام وكأن الشاعر يريد أن يقول: لئن كان الرسول قد مات.. فإن رسالته كانت وستظل ماضية، ودعوته بإذن الله ستكون باقية قوية ما حرص المسلمون على بقائها وقوتها..
أما هذا الحدث الهام الذي أنهى به الشاعر ديوانه فقد كان حول سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما.. والتي كانت آخر سراياه صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الشام للتهيئة لحرب الروم..(26/466)
وهناك أمر آخر في هذه السرية حرص الشاعر على أن يلفت الأنظار إليه وهو أن إرسال أسامة بن زيد على رأس هذه السرية إن دل على شيء فإنما يدل على إمكانية الاعتماد على الشباب المؤمن الغيور على دينه في عظائم الأمور.. فقد كلف أسامة لقيادة الجيش ولم تتجاوز سنه العشرين وقيل إن سنه كانت سبعة عشر عاماً.. الأمر الذي جعل بعض كبار القوم يستنكفون من الانقياد تحت إمارته ويقولون: غلام!! فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم غضب ثم صعد المنبر وقال: "أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ ولئن طعنتم في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإنه لمظنة كل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم ".
ثم تكون وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وينفذ أبو بكر رضي الله عنه إرسال سرية أسامة. ويصدق ظن الرسول بهذا القائد الشاب الذي نصره الله وأيده في جهاده ضد أعداء الإسلام والمسلمين..
وكانت هذه الحادثة هي ختام ديوان (مجد الإسلام) للشاعر أحمد محرم، وفيها يقول: [13]
أنت الأمير وإن تعتب واهم
سر يا أسامة ما لجيشك هازم
وفتى على الصيد الخضارم حاكم
قالوا: غلام للكتائب قائد
جهل الغضاب الساخطون لعالم
غضب النبي وقال: إني بالذي
والعدل عندي لا محالة قائم
إن يجهلوه فقد عرفت مكانه
من قبل والدَهُ ولجَّ الناقم
ولئن رموه بما يسوء فقد رموا
أهل فكل أحوذيّ حازم
نقموا الإمارة فيهما وهما لها
يا قوم وانطلقوا كما أنا عازم
الخير فيه وفي أبيه فآمنوا
والخطب بينهما مقيم جاثم
ساروا وظل مع النبي خليله
صنع القضاء فهمه متراكم
ينتاب مضجعه وينظر ما الذي
يغشاه موج للأسى متلاطم
مرض النبي طغى عليه، فقلبه(26/467)
والحزن طام والدموع سواجم
ودرى أسامة فانثنى في جيشه
ثم يعقب الشاعر بعد ذلك مشيراً إلى ذلك الحدث الجلل فيقول:
أحيا نفوس الناس وهى رمائم
مات الرسول المجتبى مات الذي
أسفا عليه وكل جو قاتم
مات الرسول فكل أفق عابس
والناس شر والحياة مآتم
مات الذي شرع الحياة كريمة
تشفي العقول وداؤها متفاقم
مات الذي كانت عجائب طبه
حتم وإن زعم المزاعم حالم
صلى عليك الله إن قضاءه
وينتهي ديوان (مجد الإسلام) للشاعر أحمد محرم على هذا النمط من صدق العاطفة وحرارة الإيمان وإشراق الديباجة ونصاعة البيان.. وهو بذلك يضارع شعراء عصره في تلك النزعة الإسلامية إن لم يكن قد فاق الكثير منهم بهذه الملحمة الرائعة التي استلهمها من مجد الإسلام ومفاخر المسلمين منذ أن أعزهم الله بهذا الدين القويم.
شكوى
قال أبو العيناء: كان لي خصوم ظلمة فشكوتهم إلى أحمد بن أبي داؤد، وقلت له: إن القوم قد تضافروا عليَّ وصاروا يداً واحدة عليّ، فقال: يد الله فوق أيديهم، فقلت: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فقلت: إنهم كثير وأنا واحد، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين ...
أوصيك بثلاث ...
دخل أبو جعفر محمد بن الحسين بن علي رضي الله عنهم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد ولاه. فقال له أبو جعفر: أوصني، فقال له: أوصيك بثلاث: أن تتخذ صغير المسلمين ولدا، وأوسطهم أخا، وأكبرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبِرَّ والدك، وإذا صنعت معروفا فرَّ به.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع مشاهير شعراء العصر لأحمد عبد الحميد الجزء الأول ص115.(26/468)
و (شعراء العرب المعاصرون) للدكتور أحمد زكي أبو شادي ـ ص48 الطبعة الأولى ـ القاهرة 1958.
[2] راجع الفصل م (الجامعة الإسلامية) من كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين ج1 ص1-49) .
[3] راجع مقدمة ديوان مجد الإسلام.
[4] غار الماء: ذهب.
[5] من معاني الحصور: الضيق الصدر، والهيوب: المحجم عن الشيء.
[6] الحاجات والأمور المتصلة بالقلب المهمة له: جمع شقر.
[7] ديوان مجد الإسلام ص3-6.
[8] تشتعل 8-10.
[9] الأرومة: الأصل، ديوان محبة الإسلام ص15..
[10] غير حاقدين.
[11] استحصد: قوي، والإمرار: الفتل.
[12] ديوان مجد الإسلام ص27-30.
[13] ديوان مجد الإسلام ص449-452، وراجع سيرة ابن هشام ص219 ج4، ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة - 1974.(26/469)
اللسانية العربي بين الأصالة والتعريب
للدكتور محمد منذر عياشي
ما تزال اللسانية كعلم غريبة على فهم بعض الناس، ولا نزال نسمع هنا وهناك من يفسر أهدافها تفسيراً يخالف العلم وقوانينه. ونحن نعتقد أن لهذا ما يعلله من الأسباب. ويمكننا أن نختار منها سببين رئيسيين:
1- سبب خارجي:
أ- الاستعمار.
ب- الموقف المعادي الذي تجلى عند كثير من رجالات العلم في الغرب، ومن والاهم من العرب إزاء الحضارة الإسلامية واللغة العربية.
2- سبب داخلي:
أ- الانحطاط العلمي كنتيجة للانحطاط السياسي.
ب- مقاومة غريزية لكل كشف علمي جاء من الغرب المستعمر.
1- 1- نظرة الغرب إلى اللغة العربية:
- لقد اخترنا، لهذه الفقرة، اثنين من المفكرين الغربيين يمثلان- في رأينا- السبب الأول ويحملان كل الأفكار التي يحملها الغرب تجاه:
- الحضارة الإسلامية والإنسان العربي.
- الحضارة العربية وآدابها.
أما عن النقطة الأولى فقد اخترنا "المفكر"المستشرق (شارل بلا) وهو أستاذ في جامعة السوربون بباريس. إنه يقول:
"هذا العربي البدائي، الظريف في بعض النواحي من شخصيته، الفخور الكريم، وصل به الأمر أن يحتفظ بعنجهية عشائرية وشخصية في منتهى العنف، وهو يعتبر أن ليس هناك شيء آخر بالنسبة إليه غير القبيلة والأنا. وفوق ذلك، فقد ظهر كتاب من أصل إلهي يحث العربي على التعجرف ويدفعه إلى الاحتقار، أي إلى تجاهل كل غريب أجنبي. ومنذ ذلك الوقت أصبح مستنداً إلى القرآن في حياته اليومية. أما عن الأدب، فإن العربي يحتفظ بتقاليد شعرية قديمة وهذا كل ما يكوّن القاعدة الجوهرية لنشاطه الأدبي [1] .(26/470)
أما عن النقطة الثانية، فقد اخترنا "أندريه مارتينه "، وهو واحد من أكبر علماء اللسانية في فرنسا، وصاحب شهرة واسعة في العالم، ومع ذلك سنراه في الفقرة التي سنأخذها من أحد كتبه يقف من اللغة العربية موقفاً غير علمي. إنه يقول:
"ربما تكون اللغة قبل كل شيء، لغة تقليدية، أدبية، أو مقدسة ثم تكون سيئة التأقلم بحيث لا تلبي مجموع الحاجات المنوعة للأمة، كما هو الحال بالنسبة للغة العربية "الكلاسيكية "في البلدان الإسلامية" [2] .
هل المقصود من ذلك هو الطعن في القرآن؟ يعلم كل عالم موضوعي ونزيه أن هذا الكتاب، منذ أنزله الله وحتى يومنا هذا، يمثل الضمير اللغوي للأمة العربية. كما يعلم كل عالم أن القرآن ما دام حياً بين أظهر معتنقيه، ويعيش في مشاعرهم، فإن اللغة العربية ستبقى حية.
إذا كان الطعن في القرآن لإبعاد الناس عن لغة القرآن هو قصدهم، فإن هذا ليس من أهداف البحث العلمي اللساني ولا من أغراضه، وقد كان الأجدى بهم كعلماء في اللغة وآدابها أن يتجهوا إلى دراسة العلاقة بين القرآن من جهة والعربية من جهة أخرى.
أ- 2- إن مناقشة هذين الرأيين توقعنا في حرج شديد. ولذا فإننا نرى أن لا نناقش الأول، لأن صاحبه لا يمثل في عالم العلم أية قيمة كما يدل عليه قوله. وأما الثاني فنرى في مناقشته بعض الفائدة لا لأنه موضوعي وعلمي ولكن لأن لصاحبه في عالم العلم مؤلفات- في اللسانية- ذات قيمة علمية معترف بها.
قبل أن نبدأ نود أن نسوق خمس ملاحظات إلى كل مفكر غربي لها أهميتها الإنسانية:
ا- إن على المفكرين في الغرب أن يدركوا أن العالم الغربي لا يملك الحق من وجهة نظر علمية أن يعتبر نفسه المركز الوحيد لحركة الفكر في العالم.
2- إن على هؤلاء أن يعلموا أن النظريات التي تنطبق على عالمهم قد لا تنطبق على غيرهم بشكل آلي، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية.(26/471)
3- إن عليهم أن يعترفوا بأن النتاج العلمي الفكري والإنساني عند غيرهم من الأمم لا يقل أهمية عما أنتجوه.
4- إن عليهم أن يعلموا أن عهد السيطرة الثقافية قد انقضى، وأن الشعوب قادرة على إبداع ما يتناسب ومستواها الحضاري من علم وفكر.
5- أخيرا، نريد أن نقول لهم بأن الحضارات يَأخذ بعضها من بعض. عندما نلفظ كلمة "لساني"، فإنه ينزل في تفكيرنا مباشرة أن الباحث، في هذه الأمور يمتاز بموضوعية مطلقة يستمدها من طبيعة البحث ومنهجيته. والعلم لا ينفصل عن الحقيقة. ولذا فإن الاغتصاب الذهني، والعنصرية الثقافية، وتشويه الحقائق ... كل هذا لا يدخل في ميدان البحث العلمي، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع "أندريه مارتنيه"أن يخوض مع الخائضين، فينسب إلى العربية ما ليس منها ولا فيها. وقد نعجب من هذا المفكر إذا نظرنا إليه وهو يتكلم عن لغته القومية، وكيف يمتدحها في نفس الكتاب المذكور آنفاً. إنه يقول:
"إن اللغة الفرنسية، كأداة، يستعملها عدد من الكائنات الحية بنجاح للاتصال فيما بينهم"ص (147) .
لننظر إلى كلمة "نجاح"هنا، وإلى "سيئة التأقلم"هناك عندما تكلم عن اللغة العربية، وربما زال عجبنا إذا علمنا أن "أندريه مارتينه"لم يتكلم، ولم يتعلم، ولم يتصل بالعربية لا من قريب ولا من بعيد.
ب- 2- لكي نحدد موقفنا ونبين الحقائق ونكشف المغالطات، لابد لنا من تصنيف الأفكار التي تدور حول اللغة. وإننا نرى أنها تنقسم عموماً إلى ثلاثة أقسام:
- الأفكار التي تعتبر لغة من اللغات الحية كلغة سيئة التأقلم.
- الأفكار التي تسعى أن تقيم علاقة بين إحدى اللغات وإيديولوجية سياسية معينة.
- الأفكار التي تنطوي على أحكام غير صحيحة كأن تعتبر أن لغة الشعب الفلاني أغنى وأرفع وأفضل من لغات الشعوب الأخرى. دون أي دليل علمي.(26/472)
وبما أننا نريد أن نعالج الأمر من الناحية اللسانية، فمن الأفضل أن نبقى ضمن مناهجها وطرقها العلمية، وأن نبين اهتماماتها. ونعتقد أن هذه هي الوسيلة المثلى لرد أقوال أولئك الذين لم ينظروا إلى اللغة إلا من خلال أفكار إن صلحت في فترة من الفترات لطمس الحقائق العلمية، فهي لا تصلح أن تكون علماً يدرس ويستفاد منه في تعميق وتثبيت الأطر المنهجية التي تتبناها اللسانية في أبحاثها:
1- إن الدراسات اللسانية تهدف إلى بناء أسس نظرية تنطبق على جميع اللغات.
وتنقسم هذه الأسس قسمين:
- أما القسم الأول فإن الاتجاه فيه يقوم على تزويد المنهج التحليلي بالأدوات اللازمة لاستخراج القواعد المكررة ضمن الكلام الإنساني، وذلك لدراسة الفوارق التي تميزها عن غيرها من القواعد التي تبنى عليها وسائل التعبير والاتصال الأخرى عند الإنسان، كالموسيقى وإشارات المرور، أو الموجودة عند الحيوان كرقصات النحل مثلاً.
- أما القسم الثاني فالاتجاه فيه يهدف إلى شرح نص من النصوص مع افتراض عدة طرق تأويلية له.
إذا كانت كل اللغات الإنسانية تنطبق على هذه الأسس، لا لشيء إلا لأنها وسائل اتصال مرتبطة بنشاط البشر في حياتهم اليومية والفكرية، فلا يجوز أن ينظر إلى العربية أو إلى غيرها إلا بهذا المنظار.
2- عندما تعمد اللسانية إلى دراسة لغة من اللغات، فإنها تدرسها لذاتها، وتغض الطرف عن الاعتبارات الفلسفية والسياسية والمذهبية والطائفية، ذلك لأنها علم والعلم منهج، وبالإضافة إلى أنه مجرد من هذه النزعات فهو موضوعي.
يجب أن لا تكون الدراسات اللغوية موطن صراعات إيديولوجية. فاللغة- كحد أدنى من التعريف- أداة. ومن شأن الأدوات أن لا تفكر، ولكن تستخدم وتستعمل.(26/473)
إن اللغة نظام، ونظامها القواعد. وإن شئنا فإننا نستطيع القول أن نظام القواعد فيها هو نظام الاستعمال والاستخدام، وبما أنها كذلك، أي أنها أداة توصيل، فإن الفكرة الواحدة ونقيضها تأخذ فيها طريق الظهور. وبمعنى آخر، إن الأفكار لا تنقل اللغات ولا تعكسها ولكن اللغات هي التي تنقل الأفكار وتعكسها.
ب-3- إن ما ذكرناه آنفاً يحتم علينا أن ننظر إلى اللغة كأداة، وأن نجرد نظرتنا عن النزعات غير العلمية. ومما لا يدخل في مجال الدرس العلمي قولنا مثلاً بأن لغة البلد الفلاني لغة ثورية وأن لغة البلد الآخر لغة رجعية، أو قولنا بأن اللغة الفلانية لغة مؤمنة على حين أن باقي اللغات تعتبر كافرة، أو قولنا- والقول هنا لأندريه مرتينه- بأن هناك لغات "مقدسة " وأخرى "سيئة التأقلم "ونحن نعني ضمنياً بأن هناك لغات غير مقدسة وأخرى جيدة التأقلم.
إن كل هذه الأقوال، وقول (مارتينه) من ضمنها لا تدخل في إطار الدراسات اللسانية تماماً، ككل من يجعل اللغة مولوداً لإيديولوجية معينة. ولو أن "مارتينه"درس علاقة الحضارة الإسلامية باللغة وأثرها في تطوير العربية لقبل منه وحمد مسعاه، ولكنه لم يفعل. وهنا نود أن نقف على كلمة "مقدسة"لشرح المقصود منها في ذهنية وفكر الغربيين حين يطلقونها على لغة من اللغات:(26/474)
1- عندما عكف الغربيون على دراسة اللغات الشرقية عثروا في بعض جهات الهند على لغات خاصة بالصلوات والشعائر الدينية، وتستعمل فقط من قبل رجال الدين لهذه الغاية. ولقد وقفوا عند هذا الحد من الملاحظة ولم يعنّوا أنفسهم جهد البحث عن أصولها- في الحقيقة إن عالم الشرق وحضاراته لا يزال مغلقاً على أفهامهم- واكتفوا بتسمية هذه اللغات بلغات "مقدسة "، أي لغات خاصة بالعبادة. وكعادة بعض منهم ممن لا يرون إلا القشور دون اللباب جاء "مارتينه" بحكمه السريع، وصنف اللغة العربية في عداد هذه اللغات. وإننا نعتقد أن الذي أوحى له ولغيره بهذه الفكرة هو نزول القرآن المجيد باللغة العربية وأن الصلاة عند المسلمين لا تصح إلا بنطق الآيات باللغة العربية. ولقد نسي "مارتينه"أو تناسى أن العربية سابقة على نزول القرآن، وأن العرب يستخدمونها كأداة لاتصال بينهم في حياتهم اليومية والأدبية والعلمية وفي مساجلاتهم الفكرية، وأن المكتبات تعج بملايين الكتب العربية، وأن المطابع لا تزال تطبع يومياً أعداداً كبيرة منها في كل مجالات العلم.
2- إن كلمة "مقدسة"تعود ببعض الغربيين إلى المفهوم المسيحي للغة. وهم يرفضونه لسببين: أولاً: لأنه لا يتفق ومناهج البحث العلمي. ثانياً: لأن تفكيرهم المادي يحول بينهم وبين أي تصور ديني لأي أمر من الأمور. أما فيما يخص السبب الأول فنحن لا نملك إلا أن نشاركهم الرأي، لأن المفهوم المسيحي للغة يقوم على مغالطتين: المغالطة الأولى من وجهة نظر علمية، والمغالطة الثانية من وجهة نظر إسلامية. ويمكننا أن نعرض هذا المفهوم لنرى ذلك:(26/475)
لقد استمد علماء الغرب والدارسون للغة في العصور "الكلاسيكية "مفاهيمهم العلمية واللغوية من الإطار الثقافي الذي كان يحيط بالحياة الذهنية ويهيمن على كل النشاطات الفكرية. وقد كان هذا الإطار يقوم أساساً على الإنجيل. وكان من نتيجة تبنيهم للتصور الإنجيلي ميلاد المفهوم اللغوي الذي يعتبر كجدول من الكلمات ومجموعة من المفردات، وليس كنظام قائم على قوانين، ولما ظهرت اللسانية في العصر الحديث رفضت هذا المفهوم وتخلت عنه. وهنا لابد لنا من طرح السؤال التالي: إذا كان هذا المفهوم غير العلمي قد وجد في المسيحية فهل يعني هذا أن له ما يقابله في الإسلام؟ لكي لا نطيل نقول إن المفهوم الإسلامي للغة يخالف المفهوم المسيحي لها. وإن الرأي الذي سنقدمه من خلال القرآن مقارناً مع الإنجيل يبين ذلك:
اللغة العربية، كشأن لغات الأرض جميعاً، لغة طبيعية وإنسانية. ولها خصائصها التي تنفرد بها ككل لغة لها خصائصها. وإن القرآن لا يعارض هذا المفهوم في شيء، بل على العكس، إنه يؤكده ويدعمه، ففي مواضع متعددة منه يشير إلى وجود لغات منوعة. ولا يقف القرآن عند هذا الحد بل يوسع الدائرة بما يضيف من لغة الحيوان إلى اللغات الإنسانية، إنه ليخبرنا بأكثر من ذلك إذ ما من شيء إلا ويسبح بحمد الله:
- لغة الإنسان.
أما عن اللغات، فيجب أن لا نتصور أن القرآن يحصيها عدداً. إنه يشير إلى وجودها واختلافها. يقول تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم:22) .(26/476)
إن الإشارة إلى تعدد الألسنة لها أهمية من وجهة نظر لسانية، لأنها تنفي فكرة الأصل الواحد للغة والوارد في الإنجيل. ونعني بالأصل الواحد اعتبار الإنجيل أن الله لم يخلق إلا لغة واحدة، وأنه سبحانه جعلها كمجموعة من الكلمات التي هي مسميات للأشياء، أو كأنما هي جدول رصفت في داخله المفردات. ويدلك على هذا ما ورد في الإنجيل:
"لقد سمى الله النور نهاراً والظلمات ليلاً ". (GENESE 5)
"لقد سمى الله الفضاء سماء واليابسة أرضاً، وسمى مجامع المياه بحاراً " (GENESE 8) [3]
- لغة الحيوان.
وأما عن لغة الحيوان فإن القرآن يشير إليها في آيات كثيرة، ونكتفي هنا بالآية:
{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم} (النمل: من الآية18) .
بالطبع لا يفصح القرآن عن الطريقة التي عبرت بها النملة، ولكن الدارسين لحياتها يعلمون أن لها نظاماً من الإشارات تستخدمه كأداة للاتصال.
ومن يقرأ القرآن يجد أن الله قد ركز على اعتبار رسالة الأنبياء تذكرة، وفي هذا دلالة على اعتبار اللغة أداة توصيل واتصال:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: من الآية44) .
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) .
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (سورة ق: من الآية45) .
هذه الآيات وغيرها كثير تبين هذا المعنى، أي تعتبر اللغة أداة اتصال بين البشر. وقد نزداد عجباً إذا علمنا أن الإسلام يذهب إلى نفي اللغة المقدسة كلية إذ لا يوجب على الناس اختيار لغة معينة للتوجه إلى الله، بل لا يوجب عليهم الكلام في ذلك أصلاً. وإن قراءة القرآن في الصلاة بلغة عربية لا يغير من هذا شيئاً، الأمر الذي يجعلنا نستيقن أن القرآن يعتبر اللغات على حد سواء، وأن استعمال اللغة إنما هو من طبيعة الإنسان.(26/477)
لم يطلع "مارتينه"على القرآن، لذا فهو لا يستطيع أن يبني أحكاماً صائبة.
ونعتقد أنه أراد أن يندد بمفهوم تقليدي للغة، فسار على عادة بعض الغربيين في النظر إلى الأمور، أي أنه استوحى مما يعرفه عن الإنجيل ليحكم على العربية. ولكن العجيب عند هذا اللساني أنه قد حمل حكماً على اللغة ذاتها لا على الفكرة أو على المفهوم اللغوي، وكل يدري أنه بين اللغة وبين جملة المفاهيم التي نبنيها حول اللغة فرقاً وبعداً، أو على الأقل هما شيئان لا شيء واحد.
لو عمدنا إلى حصر الأخطاء التي وردت في قوله فإننا نستطيع أن نبرز ثلاثة:
- لقد وضع اللغة العربية تحت ما سماه بـ "اللغة المقدسة"حتى يتمكن من تضييق مجالاتها فلا تكون مستعملة إلا في الصلاة والشعائر الدينية. وهذا خطأ شنيع يكذبه أو يصححه الواقع. فاللغة العربية مستعملة في الصلاة وفي كل مجالات الحياة.
- لقد أطلق حكمه على اللغة وكان أولى به أن يطلق حكمه على المفهوم اللغوي.
وهذا يعني أن "مارتينه"لم يفرق بين ما يسمى "بالنظرية اللغوية" واللغة.
- لقد أغفل "مارتينه" الواقع اللساني للغة العربية. ومن البديهي أننا إذا أنكرنا وجود لغة ما، فإننا ننكر وجود الشعب الذي يتكلمها. فكيف تأتى له ذلك؟ وهل للعرب وجود أو لا؟.
ج 1- إن اللغة تحتفظ بسيطرتها كاملة على المجموعة الاجتماعية مادامت تملك القدرة على تسجيل المشاعر وأداء أغراض من يستعملها ويتكلمها. وإن قدرة اللغة تدل على حيويتها. وتتجلى هذه القدرة في احتواء اللغة- كلما دعت الحاجة- للعناصر الجديدة التي تنبع من حاجة الأمة وتطورها، لذلك فإن اللغة عندما تكون حية لا تشكل نظاماً مقفلا يحول بينها وبين التأقلم. وإن ما نعنيه بالتأقلم هنا هو مجموع الإمكانات اللغوية التي تسمح.(26/478)
إن اللغة ليست انعكاساً للفكر. ومن العبث أن نظن أن مثل هذا القول يضفي على اللغة أهمية خاصة. فاللغة تستمد أهميتها الاجتماعية أولاً وأخيراً من الدور الذي تضطلع به ضمن المجتمع كأداة للتوصيل والتفاهم، والتعبير والتخاطب، إلى آخر ذلك من الأغراض التي تلبيها.
نود أن نضيف عنصراً جديداً إلى جملة ما قلناه سابقاً، ألا وهو دور الجماعة في إغناء اللغة: إنه مما لا جدال فيه، أن الجماعة التي تؤلف أمة تعطي اللغة قوة الثبات وتدفع بها نحو التجديد في آن واحد. وما دامت هناك جماعة فهناك لغة. ومن المعروف أن كل جماعة تبحث لنفسها عن مثل لغوي أعلى ينطوي تحته كل الأفراد الراغبين في العيش ضمن مجتمع واحد. وإن من شأن هذا البحث عن المثل اللغوي الأعلى أن يقوي وحدة الأمة، وانطلاقاً من هذه النظرة نستطيع أن ندرس أثر اللغة في الحدث القومي، كما لا نريد أن تكون مفاهيمنا مستوحاة من هذه النظرة. وذلك لأن مفهوم القومية، أو قومية اللغة لا يفيد في دراسة اللغة باعتبارها مجموعة من القواعد التي تؤلف نظاماً. ونحن حين نقف على دراسة لغة من اللغات، فإنه لا يدخل في حسابنا موضوعياً الشعب الذي يتكلمها، لأن هذه الناحية لا تدخل في مجال الدراسات اللسانية، ومن الأفضل إحالة مثل هذه النواحي إلى ميادين علمية أخرى تعنى بمثل هذه الدراسات كالعلوم السياسية والاجتماعية مثلاً. إن العلم يقتضي منا أن نقف إزاء اللغة موقفاً مجرداً دون خلط بين عدة ميادين. وكما يقف الكيميائي من المواد التي يحللها ويجري تجاربه عليها بمعزل عن الأفكار غير الكيميائية، فإن على اللساني أن يقف هذا الموقف من مادته، وأن لا يستعير من الميادين الأخرى إلا ما يسمح به موضوع البحث نفسه.
قبل أن نغادر هذا الأمر إلى أمر آخر نحدد فيه موضوع اللسانية، نرى أن نقدم الأسباب التي تدفعنا إلى اتخاذ هذا الموقف:(26/479)
إن مفهوم قومية اللغة- في رأينا- مفهوم خاطئ تماماً. فاللغة ككل أداة تمتاز بخصال ثلاث:
1- اللغة هي حصيلة لتجربة إنسانية عاشها الأفراد ضمن جماعة وليست حصيلة لتجربة قومية بالمعنى الحديث لهذا المصطلح.
2- اللغة كتجربة لا تختلف عن باقي التجارب، يشارك فيها المجتمع الذي يتكلمها بشكل مباشر، وتشارك فيها الإنسانية جمعاء بشكل غير مباشر.
2- إذا كانت اللغات كلها إنسانية، فهي ملك لمن يتكلمها لا ملك لقوم بالذات. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تكلم العربية فهو عربي" [4] .
يدرس اللسان في اللغة مجموع الرموز الصوتية والبنى القواعدية، ويعني بدراسة المعاني، وهذا هو موضوع اللسانية، وإذا كنا نلح على هذه الناحية فلأن اللسانية تريد أن تكون علماً أولاً وأخيراً. أما إذا تدخلت الأهواء القومية، والنزعات المذهبية، فإن العلم- مهما كان نوعه- يفقد أهم خصائصه الموضوعية، ونعني التجرد والبحث الدقيق للوقوف على القوانين التي يسير بموجبها الأحياء والأشياء. ولو نظرنا في تاريخ الفكر الإنساني لوجدنا أن هذه الأهواء وهذه النزعات قد اتخذت طريقها- في بعض الأحيان- ضمن البحث اللغوي حتى كادت أن تودي بمفاهيمه العلمية الأصيلة. ونستطيع أن نضرب مثلاً بأحد أعلام الفكر الغربي من المتعصبين لنرى بعد ما يقوله عن التجرد والبحث الدقيق والحقائق العلمية، يقول "ديورو"الفرنسي في حديث عن لغته وعن باقي اللغات ما يلي:
"إن الحكمة تقضي باختيار الفرنسية لغة. ويجب استعمال الفرنسية في المجتمعات الراقية، والمدارس الفلسفية. وإن لغتنا ستكون لغة الحقيقة إذا قدر لها أن تعود إلى الأرض، على حين أن اليونانية واللاتينية واللغات الأخرى ستكون لغات الخرافة والكذب.(26/480)
لقد جعلت الفرنسية للتثقيف والإيضاح والإقناع، وأما لمخاطبة الشعب فلا بأس من استعمال اليونانية واللاتينية والإيطالية، ولكن لمخاطبة الحكماء يجب استعمال الفرنسية" [5] .
إن مثل هذه الأقوال توجد في كل الحضارات وعند كل الشعوب، ولكن هل يمكن اعتبارها براهين علمية؟ ولكي ننتهي من هذه الفقرة، نعود مرة أخرى إلى "مارتينه" ونقول: إذا كانت اللغة الفرنسية مستعملة بنجاح، فإن كل اللغات الحية، ومن ضمنها العربية، مستعملة بنجاح أيضاً. وحول هذا الأمر يقول CHRISTION Nigue:
"إن لكل اللغات وظائف منتظمة وقوانين عامة للكلام، وإن كل اللغات الواقعة تحت الملاحظة منتظمة ومباشرة، ولكن بشكل مختلف. لذا فإنه من غير الصحيح أن نقول بأن هناك لغات غنية وأخرى فقيرة، وأن هناك لغات متطورة وأخرى بدائية، كما أنه لا توجد لغة قريبة من الاتصال الحيواني وأخرى بعيدة. إن كل لغة تنطبق على حضارة الشعب الذي يستعملها وعلى أنماط حياته وعاداته " [6] .
2- اللغة العربية- نظرة من الداخل:
1- موقف سلبي:
لقد ذكرنا سابقاً في بداية هذا المقال، أن الدراسات اللسانية العربية ما تزال غريبة على فهم بعض الناس. وقد يكون قولنا هذا من قبيل المبالغة، فهناك من الأعمال والمؤلفات ما هو جدير بالذكر، ولكن مجموع هذه المؤلفات ما زال قليلاً ولا يسد الحاجة. وإذا أردنا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا، فإننا نستطيع أن نحصرها في سببين:
- السبب الأول خاص بالبُحَّاث العرب.
- السبب الثاني خاص بظروف الاحتلال.
- البحاث العرب:(26/481)
أ- تتجلى أولى سلبيات البحاثة العرب في العصر الحديث في وقوفهم على ما أبدعه القواعديون العرب القدماء دون السعي إلى تطويره ومتابعته وتعميقه. وإذا كان القدماء قد فجروا عبقريات لغوية، فلأن حضارتهم الإسلامية كانت وراء ذلك، وكان الباحث منهم يستفيد منهجياً وذهنياً من تلك الحضارة. وعندما وصل إلينا ما تركوه لنا، أخذناه نريد درسه، غير أننا لم ننجح تمام النجاح، وظل هذا العلم مغلقاً على أفهامنا في معظم نواحيه. وللحقيقة نقول بأن هذا الفشل يعود إلى أننا قد عزلنا هذا العلم عن الحضارة التي أنشأته وولدته، فإذا هو يصبح في أيدينا جثثاً هامدة لا حياة فيها، أو أوراقاً تلقى على الأسماع دون أن تعيها العقول، وتحفظ عن ظهر قلب لتردد في بعض المحافل أو في امتحانات آخر السنة الدراسية.
ب- وإذا كنا لم ننفذ إلى أعماق التراث- إلا من رحم ربي وهم قليل- فإننا لم نتابع بفهم جيد ما جد في ميدان البحث العلمي. وربما يكون الأمر كذلك لنفس السبب الذي ذكرناه آنفاً، أي لأننا لا نعير العنصر الحضاري اهتماما في دراستنا، مع العلم أن كل تقدم مهما كان نوعه إنما هو حصيلة للحضارة التي أنشأته. ونحن إذا لم نعتمد العنصر الحضاري كأساس في كل أبحاثنا العلمية فسنبقى عالة على غيرنا لا نتاج لنا ولا عطاء.
- ظروف الاحتلال:
من الأسباب التي أدت إلى خلق السلبيات عند البحاث العرب، نجد الاستعمار بمختلف أشكاله. وباعتبار أن الغرب هو مصدر الاستعمار فقد وقفوا منه موقف العداء.
لقد رأى القواعديون العرب في العصر الحديث، وغيرهم من العلماء، ما أنزله الغرب المستعمر ببلادهم من البلاء، حيث انطمست الحركة العلمية، وخمد النشاط الذهني الخلاق. وشاهدوا أيضاً مدى ما ألحقه باللغة العربية من ضرر عند متكلميها، حتى كان من عاقبة ذلك:
أ- الابتعاد عن منبع اللغة ومصدرها الحضاري.
ب- الابتعاد عن اللغة نفسها وذلك عن طريق:(26/482)
- إغلاق المدارس ومنع التعليم باللغة العربية في كثير من مناطق العالم الإسلامي.
- إحلال لغة المستعمر وفرضها في الدوائر الرسمية والتعليم كبديل للغة العربية.
- العمل على توليد طبقة متأثرة بثقافة المستعمر، تتكلم لغته وتحتقر أصولها الثقافية واللغوية.
ت- انقطاع الصلة في بعض البلدان بين اللغة المتكلمة واللغة العربية الفصحى مما أدى إلى فقر الأولى واختفاء الثانية بعد أن كانت مصدراً يغنيها ويثريها باستمرار.
ث- احتجاب اللغة الأم، فصحى ومتكلمة، في بلدان المغرب عند معظم المثقفين.
ولقد قامت حركة التبشير، والاستشراق بدور هام في دعم خطة المستعمر: أما البعثات التبشيرية فقد تجلى دورها في الإلحاح على قطع صلة الشعوب المستعمرة بماضيها الحضاري الإسلامي. وأما حركة الاستشراق فقد سعت حثيثاً لتحريف وتشويه تاريخ الفكر الإسلامي والتشكيك فيه، كما أنها ركزت جهوداً جبارة للتقليل من أهمية اللغة العربية ودورها الحضاري حتى بدت هذه في عيون بعض (المثقفين) العرب كلغة ميتة لا علاقة لها بالعصر الحاضر، ولا تفي بحاجات التطور العلمي.
2- موقف إيجابي.
- اتجاه نحو التراث:
أ- لقد اتجه بعض البحاث العرب في العصر الحديث إلى نقل التراث.
وكانت هذه خطوة إيجابية بحد ذاتها، لأنها أيقظت حماسة كثير من العلماء. وينقسم هذا الاتجاه- حسب اعتقادنا- أربعة أقسام رئيسية:
1- اتجاه عني بنقل التراث ونشره.
2- اتجاه عني بشرح المنقول وتفسيره والتعليق عليه.
2- اتجاه عني بتأليف الكتب على غرار كتب الأقدمين.
4- اتجاه اعتمد التراث، فألف كتباً مبسطة حتى يسهل على أبناء الجيل الجديد تناول المادة المطروحة واستيعابها.(26/483)
ب- إذا كان هذا الاتجاه قد نجح نسبياً، فإنه قد أخفق نسبياً أيضاً. وإذا كان من أهداف هذا الاتجاه نقل التراث، فإن هذا لا يعني أن الإفادة من التراث ستتم بطريقة آلية. والتفسير الممكن لهذا هو أن الذهنية التي أنتجت التراث هي غير الذهنية التي تلقته. وإننا لا نملك، بالإضافة إلى ذلك، لا الاستعدادات العقلية لذلك، ولا الاستعدادات النفسية، ومناهج التربية وأساليب البحث العلمي عندنا تحول بيننا- في معظم الأحيان وعند معظم المثقفين- وبين بلوغ النضج العقلي الذي يسمح بالإفادة الكلية. وإذا كنا نحكم بأن إفادتنا جزئية، فمن الأفضل أن نعدد الأسباب بشكل أوضح:
ا- إن المكونات الحضارية التي وَلَّدت هذا الفكر تختلف عن المكونات الحضارية للمجتمع الذي نعيش فيه، والتي من خلالها ننظر إلى التراث.
2- إذا كان هذا التراث هو نتاجاً حضارياً لمجتمع متحضر، فإن المجتمع الذي نؤلفه لا يمت إلى الحضارة بصلة، هذا إذا اعتبرنا الحضارة فكراً وروحاً. إن مجتمعنا في أحسن أحواله مجتمع "متقدم مادياً وتقنياً ". ولو عدنا إلى العلامة ابن خلدون لرأيناه يربط تطور الذهنية العلمية بالحضارة ربطاً لا انفصام فيه، إنه يقول:
"وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه" [7] .
وهو يعزو ذلك كما قلنا إلى الحضارة:
"فلم يزل كل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة.
فلما ضربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم" [8] .(26/484)
3- إن هذا التراث يقوم على الديمومة لأنه يتمثل في المجتمع المتحضر الذي أبدى لسان الحقيقة. وهذا يعني أن جوهر التصور الذهني والفكري للذين أوجدوه كان مبنياً على اليقين. أما المجتمع الذي نعيش فيه، فيقوم على عكس ذلك تماماً: لا ديمومة تمثل الحقيقة، ولا ثبات يرافق النمو الفكري والإبداع العقلي، ولقد حل الشك محل اليقين. إن مجتمعنا كتصور ذهني، قد بني على الفرضية ونقيضها في نفس الوقت.
4- كان المجتمع العلمي الذي ولَّد هذا التراث، في كل ميادين أبحاثه، يعمد إلى تفكيك العناصر ثم تركيبها وفق قوانين مستقاة من سنن صدرت عنها هذه العناصر. والاتجاه العلمي المعاصر يعمد فقط إلى تفكيك العناصر إلى وحدات، ثم يعمد إلى هذه الوحدات فيفككها إلى وحدات أخرى أصغر، ثم أصغر حتى تفقد كل صلة لها بأصولها الأولى، أو بالقوانين التي بنيت عليها والنظم التي جمعت بينها. ولقد عبر ابن خلدون عن الرؤية العلمية التي كانت عند أصحاب هذا التراث فقال:
"وأما العلوم التي هي آلة لغيرها (.....) ، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها من المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود" [9] .
نستخلص من كل ما سلف أن الإفادة من التراث تستدعي منا تأمين شروط معينة بدونها لا نستطيع استيعاب كل الأبعاد الحضارية لهذا الفكر. وقد تثير هذه النظرة حفيظة "المغتربين"أي الذين طوتهم معايير المقاييس الغربية، ولكن لا بأس علينا منهم.(26/485)
أخيراً نستطيع القول أن الذين نقلوا التراث -بصورة عامة- والذين علقوا عليه أو ألفوا وكتبوا على غراره لم يكونوا على مستوى الشروط الحضارية، أي لم يكونوا عقليا وذهنيا مشبَّعين بها- هناك استثناءات قليلة- ولذا فإنهم لم يستطيعوا أن يثيروا بالتراث ما كان يثيره في بيئته الطبيعية. وهذا ما قصدنا عندما عزونا إليهم الإخفاق النسبي.
- اتجاه نحو الغرب:
إلى جانب الاتجاه الأول، نجد اتجاها ثانيا يكاد يكون معزولاً عنه. فهو لا يؤمن بالتراث ولا يعيره أي اهتمام إنه اتجاه نحو الغرب. ومن العجيب الغريب في هذا الاتجاه هو ما يضفيه عليه أصحابه من صفة العلمية دون أن يكلفوا أنفسهم أي جهد علمي للتحقق من ذلك أو النظر إلى التراث قبل رفضه.
إذا أنعمنا النظر في هذا الاتجاه، فإننا سنقف فيه على حركتين تسيران معا بآن واحد، وفي نفس الاتجاه:
أ- أما الحركة الأولى فتعنى بترجمة ونقل المؤلفات الغربية إلى العربية.
ب- وأما الحركة الثانية، فتستلهم من المؤلفات الغربية وتحاول أن تزرع المفاهيم المستوردة في حقل الذهنية العربية.
إن النقد الذي وجهناه للاتجاه الأول يصلح، في بعض نواحيه، أن يكون موجها للاتجاه الثاني. وإذا كان الاتجاه الأول قد أخفق نسبيا كما بينا، فإن الاتجاه الثاني لم يحقق في مقابل ذلك، نجاحا يذكر. ومع ذلك، نريد أن نبين ما حققه من خلال نقطتين:
أ- لقد مكن هذا الاتجاه الباحث العربي من الإطلاع على ما يجري في الغرب، وكشف له عن التقدم العلمي الهائل الذي تم إحرازه. وهذا الأمر إيجابي في ظاهره، سلبي في حقيقته وجوهره كما سنرى.
2- لقد أدى تضاعف هذا النشاط إلى "تغريب"في الحياة العقلية لبعض البحاث العرب وبعض المثقفين، فنتج عن ذلك انفصال بين ذهنية هؤلاء والمجتمع الذي يعيشون فيه.
3- أدى هذا الاتجاه إلى ميلاد شيئين خطيرين:
- "المسخ"، أي التحول إلى شيء لا شكل له ولا هوية.(26/486)
- "التبعية"، وتبرز هذه الظاهرة عند من رأى في ثقافة الغرب شخصية جديدة له فتقمصها وأخذ يعمل على أساسها.
نستخلص من هذا كله أن كلا من الاتجاهين، على ما فيه من إيجابية، لم يؤد الغرض المطلوب منه، كما نلاحظ أن كلا من الاتجاهين أيضا لم يؤد إلى كشف علمي يذكر لا من وجهة نظر حضارية، ولا من وجهة نظر تقنية.
لقد كان لقدماء العرب من المسلمين ميزان دقيق يزنون به لك أعمالهم وأبحاثهم العلمية، كما كانوا في كل دراساتهم يقفون على وجهين من وجوه البحث:
أ- الوجه الداخلي أو الروحي.
2- الوجه الخارجي أو المادي.
لو أن الدراسات العربية الحديثة اعتمدت هذا المفهوم، وسعت لكشف القوانين الداخلية والروحية، والقوانين الخارجية والمادية والتداخل القائم بينها لحققت الأمل المنشود دون نقص. ونحن نعتقد أننا إذا أدخلنا هذا المفهوم في أبحاثنا فسنسد ثغرة تركها الشرق والغرب مفتوحة. ولو عدنا للمرة الأخيرة إلى ابن خلدون نستنطقه، فسنجد أنه يعيد العلوم إلى هذين الأصلين دون أن يفصل بينهما. إنه يقول:
"اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين:
علوم مقصودة بالذات، وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم".
أخيراً، يجب أن نوفق بين الأصول الحضارية لتراثنا، والتقدم الحادث، ويكون ذلك بجعل العنصر الثاني، أي التقدم بالمفهوم الذي شرحناه، من منتجات العنصر الأول ووسائله، أي الحضارة. وهذا يتطلب منا أن نبني تصورنا الذهني والفكري على ما قامت عليه حضارتنا، ثم ننظر في كل ما جد من تطور فنأخذ به من خلال ما استقر عندنا من مفهوم حضاري.
والله الموفق والمستعان
--------------------------------------------------------------------------------
CHARLES PELLAT: LANGUE ET LITTERTURE ARABE. P227.
[1]
ANDRE MARTINET: ELEMENT DE LINGUISTIQE GENEVAE. P155.
[2](26/487)
LA bible: Traduction en Franqis: louis segond.
[3]
ورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الفقرة في حديث أم سلمة بن عبد الرحمن ثم علق عليه بقوله: هذا الحديث ضعيف…لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه، انظر (اقتضاء الصراط المستقيم) ص169 ج1 ط مكة 1389.
[4]
Di derot: lettre sur les suords et les muetes. P371-372. EJ j, assezat, ceuvrescompletes DA Divrot, Vol (1) Franier Freres.1875. PARIS.
[5]
Initiation methodice’a la grammaire generatique. p10. ED. Armand Colin. 1974.
[6]
المقدمة ص/544/.
[7]
المقدمة ص/545/.
[8]
المقدمة ص/537/.
[9](26/488)
تسابيح
للشيخ عبد المحسن حليث مسلم
تصارعني وتُمِعْنُ في الصراع
إلهي أين أمضي والخطايا
وكم في الجهلِ سافر بي شراعي
فكم أبحرتُ في دنياي لهوا
قضيتُ العمرَ في طلبِ الخداع
وبعد هُنيهةٍ أيقنتُ أني
وأظهرت الذي وارى قناعي
إلهي قد كشفتُ إليك ضري
غوى وأتاكَ من بعد الضياع
وجئتُ تسوقني هفوات عبدٍ
إليكَ وخانني فيه دفاعي
وقدمتُ الذي قد كان مني
أشد لظى من العمر المضاع
وما في هذه الدنيا شقاء
وإني في حماك لمستجيرُ
مددتُ يديَّ نحوكَ يا إلهي
إلى رحماكَ يا ربي فقيرُ
غنيٌّ أنت عن مثلي وإني
لعرض حسابي اليوم العسير
إلهي ما أقول إذا دعاني
ذنوبٌ ليسَ تمحوها البحور
وكل صحائفي سودٌ وفيها
أم العُقبْى عذاب مستطير
فهل أوتى كتابي في يميني
فأنتَ بما أتى مثلي بصير
فحاسبني بجودكَ لا بفعلي
وغرتني من الدنيا القشورُ
لقد ضيعت هذا العمر لهواً(26/489)
مع المجاهِدِين الأفغَان
للدكتور محمود أحمد عبد المحسن
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
مثلا كأورع ما تكون قويه
ومجاهدو الأفغان صار قتالهم
فغدا يصول بغضبة مضريه
هجموا هجوم الليث ديس عرينه
في وجه أشرس قوة همجيه
صمدوا صمود الراسيات شهامة
لم تثنهم نذر ولا وحشيه
شعب أباة الضيم أبطال الوغى
لا يطلبون سوى الجنان هديه
باعوا لربهم النفوس سخية
أعلى وأسمى ما تكون قضيه
قد طار بين الخافقين حديثهم
مهج النفوس فدىَ لها وضحيه
وقضية الإسلام خير قضية
همم تضيق بوصفها العربيه
لله در المؤمنين وحبذا
في كم بكرة وعشيه
يستبشرون بفتح كابل عنوة
ووسيلة لرضى الإله سنيه
وجهاد أهواء النفوس فريضة
مر صرح كل فضيلة دينيه
إن الذنوب هزيمة كبرى تد
وتحط من قدر الرجال رديه
وتدك صرح النصر من عليائه
تبا لها شهوة نفسيه
أتغاضب المولى الكريم جهالة
الرب لا تخفى عليه خفيه
اكبح جماح النفس عنك قل لها
بالبر والتقوى بكل رضيه
يا إخوة الدين الحنيف تعاونوا
إن التآلف طاقة ذريه
يا إخوة الدين الحنيف تآلفوا
إن الخلاف هزيمة وبليه
ولم الخلاف؟ وفيكمو قرآنكم
مثل البناء مودة أخويه
كونوا على الأعداء صفا واحدا
فتحوا البلاد وأصلحوا البشرية
أجدادكم لما تجمع شملهم
والصبر للنصر المبين مطيه
لا تيأسوا فاليأس شر هزيمة
مثل الجهاد فريضة حتميه
إن الثبات على القتال تجشما(26/490)
رمضان..والجرح.. والأمل
شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي
وفؤادي ـ كما ترى ـ ولهان
جئتَ بعد الغياب يا رمضانُ
يك نور، وفي خطاك اتزان
أيها القادم الحبيب، وفي عينيـ
خاشعا، حين أُنزل القرآن
لَكأني أراكَ، والكونُ يُصغي
وتجلى في ظلك الإيمان
نبتت في حماك راحة نفسي
وفؤادي في أمرها حيران
الرُّؤى من وراء أفقكَ لاحت
ونفسي تذيبها الأحزان
كيف ألقاك أيها القادم الفذ
وتخلى عن مركبي الرُّبان
قيّدتني هموم عصرٍ غريق
حد يرى ولا شطآن
وتمادى محيط حزني فما للبحر
مثلما تاه في نشيدي البيان
تاه في لجّة الحياة شراعي
وماذا أقول يا رمضان؟
بما أفضي إليك من نبأ القوم
نبأ قد مشى عليه الزمان
أعن القدس، والضحايا، فهذا
جمدت دون حلها الأذهان
شغلونا عن شأنها بقضايا
كل يوم يجتاحنا عدوان
أبدلونا بجرحنا ألف جرح
فأحداث أمتي ألوان
صبّر القلب أيها القادم الفذ
القدس يعاني، وتشتكي لبنان
كنتُ، فيما مضى، أقول لك
وتشقى بدعها الأجفان
فيلوح الأسى على وجهك الغض
صار يلهو بأمرها الشيطان
مزقت أمتنا الخلافات حتى
دمار، وحسرة، وهوان
إنها الحرب أيها القادم الفذ
فيلاقيك مأتم ودخان
أيَّ شيء تقوله حين تأتي
تاه فيه السجين والسجَّان
نحن في عالم غدا مثل سجن
في طريق، وماله عنوان
وانبرى كل فارس فيه يجري
ر وقد حال دونه الطوفان
تائها في العباب ليس يرى النور
ء وهو المماذق الخوان
ألف بوق يشدو بأمجاده الغرا
وصلاح، وظلمه إحسان(26/491)
وتماديه في الغواية هديٌ
فارسا، ذلك الغبي الجبان
لا تسلني من بعدها كيف أضحى
يدرون، واختلَّ فيهم الميزان
جهل الناس كل شيء وهم
إن يكن زلَّ في حديثي اللسان
أيها القادم الحبيبُ، أقلني
وجهك نور، يبثه القرآن
ربما جئت منقذا، فعلى
للتآخي، وفي رؤاك أمان
موسم أنت للهدى، ومجال
سيولي، لو أشرق الإيمان
ناد قومي فإن ليل المآسي
يتلظى بناره الإخوان
كل خطب يهون إلا عداء(26/492)
رحم الله المحلقين
للشيخ: يوسف الهمزاني الشافعي
مدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
وسمعت لله لا تألو حتفيه ما أبرَّ النفس قد لبَّت وفيه
فيض آيات ولاء وتحية
صدَّق المكنون أعمال جليه
ذلك الحاج إلى خير بنيَّة
راح يزجيها إلى رب البرية
ناصح التوبة قد أنكر غيّه
قد أتاه صاغرا صادق نية
أعتق المولى بها اليوم وليّه
فأتى الإطلاق والمن عطية
ليس فيها غير نبتات خفيّه
وتجلت صفحة الرأس سوية
إن للسابق في الفضل سنيّه
حلق الشعر فلم تبق بقيّه
كل ما أثقل نفسا من خطيّة
وتهاوى يسبق الشعر هُويَّة
صفحة في العمر بيضاء نقيّه
وغدت تُكتب للنفس الرضية
أي ميلاد سعيد لِزكيّه
تولد النفس بها وهي فتية
خير زاد لحياة سرمديّه
عزمات في الهدى تمَّت قوية
وبفيض النور قد أضحت غنيّه
من هموم العيش قد باتت خلية
وخلت من كل أعلاق دنية
خلصت لله جهرا وطوية
أي فوز أي أيام هنية
حُرِّرت من غلها فهي نجية
بِمُنى النفس من الخير سخية
أي عين لحياة ذهبية
ويرد النفس حسناء صبية
ماؤها يبعث في الميت الحمية
كم طوى ركب إليها من ثنية
حُلُم الماضين أزمانا خلية
وهي ليست ببعيد أو خفية
وأضاعوا العمر بحثا كل طِية
ذلك العود خلاص البشرية
إنها العود إلى رب البرية
عُظم المولى بها فهي مطية
حرمات الله في الأرض علية
ورضا الله لنا أبقى بقية
حق للمالك أن تعنو الرعية(26/493)
حوار حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته
تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة عقدت كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية حواراً حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته في المدة من 5 إلى 9 رجب 1402 هـ.
فكرة الحوار
إن طبيعة الجامعة الإسلامية الدعوية. وحرصها على تلمس حاجات المسلمين وبذل الجهد في تلبية ما تستطيعه منها، والإحساس المتزايد بين المسلمين كافة بأنهم في حاجة إلا أدب جميل ونظيف يصدر عن تصور إسلامي وينمّي الأذواق ويربي الأجيال ويسهم في واجب الدعوة إلى الله، لا سيما وأن قسما من آدابهم قد تحول بفعل الغزو الفكري إلى أداة تهديم للعقيدة والسلوك:.
ولكي تؤدي كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بعض واجبها في خدمة الإسلام والمسلمين.
لذلك كله.
دعت الجامعة عددا من رواد الأدب الإسلامي المعاصر ودارسيه ومدرسيه في جامعات المملكة وبعض الأقطار العربية الأخرى إلى حوار يناقشون فيه أهم قضايا الأدب الإسلامي لتأصيلها وتعميقها ودعم مناهجها.
كلمة صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية، إخواني الأساتذة أعضاء ندوة حوار الأدب الإسلامي. أيها الحاضرون جميعا:
إنه ليطيب لي أن ألتقي بكم وفي هذه المناسبة المحببة إلى قلبي التي تعد من أهم المناسبات الإسلامية في القضايا المعاصرة التي تهم الغيورين على دينهم ولغتهم العربية وهي ارتباط الأديب المسلم بدينه وعقيدته وولائه لكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته الإسلامية حيث يكون بيانه وثقافته وأدبه مسخرا لخدمة هذا الدين ملتزماً بعقيدته.(26/494)
وإذا كانت العقائد والأفكار والمذاهب المعادية للإسلام تجد من يدعمها بالمال والقلم والقوة واللسان من دول ومؤسسات وأحزاب وأفراد فإنما على المسلمين أن يهبوا لنصرة دينهم امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .
وإن عقد مثل هذا الحوار الذي يقصد به إبراز مفهوم الأدب الإسلامي وتعميقه في نفوس أبناء الإسلام من ذوي الطاقات والمواهب الذين لا تستغني الأمة الإسلامية عما أوتوا من بيان وجمال وأسلوب وصدق رؤية مع التزام بمنهج هذا الدين الشامل لكل جوانب الحياة.
إن عقد هذا الحوار بهذه الصفة لهو من الجهاد في سبيل الله الذي أرجو أن تجني الأمة الإسلامية ثماره من خلال أفكار أعضائه وتوصياتهم البناءة الهادفة، كما أرجو أن توفق الجامعات العربية والإسلامية والمؤسسات الأدبية أن تبرز هذا الأدب الملتزم بالخط الإسلامي إلى حيز الوجود وأن تطبقه عمليا لتنير لشباب الإسلام الصراط المستقيم في مناهج الأدب.
وإني أهنئ الجامعة الإسلامية على ما تقوم به من نشاط في كل مجال من المجالات المفيدة ومنها عقد هذا الحوار الذي تنظمه كلية اللغة العربية وأتمنى لكم أيها الأعضاء كل نجاح وتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن، أصحاب الفضيلة والسعادة، أيها الحضور الكرام.(26/495)
إن من دواعي سرورنا واغتباطنا في هذه الجامعة أن نجد الاستجابة التامة من العلماء والأدباء والمفكرين لحضور هذا المنتدى الكريم الذي ستناقشون فيه ما يتصل بتأكيد إعادة الحق إلى نصابه بربط الأدب بالإسلام وهذا الموضوع وإن بدا لبعض الأفكار غريباً إما لكونه من باب تحصيل الحاصل وإما لأن الأدب له مناهجه المتحررة من قيود الدين والالتزام بقوانينه التي قد يرى الأديب نفسه مكبلا بقيود حديدية لا يستطيع تجاوزها إلى الرحب من آفاق الأدب ومجالاته المتعددة فإنا على أي حال من الحالين لا بد أن نعنى في الجامعات العربية الإسلامية بتبيان الحق وتأكيد ارتباطه بمنبعه وأصله.
إن الأدب في أصدق معانيه هو ذلك الأسلوب التعبيري الرفيع بشتى صوره خدمة للإنسان وللأمة.
أو هو ذلك البيان المؤثر على السامع بأي نوع من أنواع البيان أو لنقل ما شئنا فإنه لن يخرج عن هذه الدائرة الإنسانية ومن هنا كان لا بد أن يعلم الناس حقيقة الأدب من حيث هو أدب يخدم عقل الإنسان وفكره وحياته ذات الجوانب المتعددة وهذا يتطلب لعمر الحق جهودا مضنية توازي تلك الجهود التي بذلت بكثافة عبر فترات من التاريخ خلا فيها المقام من قائم للحق بحجة كافية.
ولعل الله قد اختاركم لتنالوا شرف القيام بهذه الحجة لتعيدوا إلى الصواب ما نَدَّ عنه من أفكار ومفكرين.
فإن اللسان ما خلقه الله تعالى إلا ليكون عبدا له وحده قريبا من كل ما يحقق هذا الأكيد بعيدا عن كل ما يعيق مسيرته في تحقيقه، يقدم الخير للناس ويدعو إلى المثل والقيم وعمارة الحياة الإنسانية بالهدى والحق.
إن الذين يظنون الأدب هو ذلك الأسلوب الناد عن الأدب البعيد عن الالتزام بالمبادئ الأخلاقية يظلمون أنفسهم بالباطل من الظن قبل أن يكونوا معتدين على الحقيقة والحق.(26/496)
ويقيني أن الباطل لا يدوم وأن الحق هو الذي سيظل طوداً شامخاً على مر الأجيال والعصور {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .
إننا إذ نؤكد ترحيبنا بكم لعلى أمل أن يسفر حواركم عن النافع والمفيد لنا في هذه الجامعة الإسلامية ولسائر الجامعات العربية والإسلامية والمؤسسات الثقافية في سائر الوطن الإسلامي والعربي بإذن الله. وفقكم الله وسدد خطاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة الأعضاء المشاركين في الحوار
ألقى الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا نيابة عن الأعضاء المشاركين في الحوار الكلمة التالية:
الحمد لله، أحمده وأستعينه، والصلاة على محمد سيد خلقه، وخاتم رسله ثم التقدير كل التقدير لهذه الجامعة الإسلامية التي ملأت ديار المسلمين خيراً وبراً، وأفعمت أقطارهم دعاة وهداة.
وضراعة إلى الله العلي القدير أن يجمعنا معشر المسلمين- على الخير والبر، وأن يحقق على أيدينا ما يرضي الله ورسوله.
وبعد: فباسم الإخوة القادمين إلى هذا البلد الأمين وجامعته الغالية للإسلام في مجال من مجالات نشاطها المتعدد المتنوع المتواصل ألا وهو الدعوة إلى الأدب الإسلامي والعناية به، ومحاولة نشره في الأرض.
باسم هؤلاء الإخوة نشكر هذه الجامعة والقائمين عليها، وعلى رأسهم معالي نائب رئيسها الدكتور عبد الله الزايد أجزل الشكر وندعو له ولمن معه أوفر الدعاء. ونسأل الله أن يهب ملك هذه البلاد الغالية الصحة والقوة والعون، وأن يسبغ على ولي عهده الخير للإسلام، والبر بالمسلمين، وأن يكرم أمير المدينة المنورة كما أكرم هذه الندوة برعايته لها.
والله جلت قدرته هو أعز من يسأل وأغنى من يجيب.
برنامج الحوار التفصيلي
الأربعاء 5 رجب 1402 هـ:(26/497)
حفل الافتتاح في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة.
11,30-12.00 صباحا
استراحة والانتقال إلى الكلية.
12.00-12,30
جلسة الإجراءات.
12,30-1,30
صلاة الظهر وراحة.
1,00
جلسة الحوار الأولى (مدير الجلسة الأستاذ محمد قطب) .
5,00 - 6,45
مناقشة مفهوم الأدب الإسلامي.
صلاة المغرب
6,45 - 7,15
بقية الجلسة
7,15 - 8,15
صلاة العشاء
8,15
الخميس 6 رجب 1402هـ
جلسة الحوار الثانية (مدير الجلسة الدكتور زاهر عوض الألمعي)
8,00 -10,00
مناقشة العلاقة بين الأدب والعقيدة
راحة
10,00 - 10,30
جلسة الحوار الثالثة (مدير الجلسة معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي)
10,30 - 12,30
مناقشة وظيفة الأدب
صلاة الظهر وراحة
12,30
جلسة الحوار الرابعة (مدير الجلسة الدكتور عماد الدين خليل)
5,00 - 6,45مساء
مناقشة مقاييس تقويم الأدب
صلاة المغرب
6,45 -7,15
بقية الجلسة
7,15 -8,15
صلاة العشاء
8,15
الجمعة 7 رجب 1402هـ
جلسة الحوار الخامسة (مدير الجلسة الدكتور عبد القدوس أبو صالح)
5,00 -6,45
مناقشة منهج دراسة الأدب الإسلامي
صلاة المغرب
6,45 -7,15
بقية الجلسة
7,15 -8,15
صلاة العشاء
8,15
السبت 8 رجب 1402هـ
جلسة الحوار السادسة (مدير الجلسة عبد الرحمن رأفت الباشا)
8,00 - 10,00 صباحا
مناقشة قضايا متنوعة في الأدب الإسلامي
زيارة معالم المدينة
10,00-1,00
جلسة الحوار السابعة (مدير الجلسة الدكتور نجيب الكيلاني)
5,00 - 6,45 مساء
مناقشة وسائل تدعيم الأدب الإسلامي
صلاة المغرب
6،45 -7،15
بقية الجلسة
7,15 -9,00
صلاة العشاء
9,00
الأحد 9 رجب 1402هـ(26/498)
مناقشة التوصيات
9,00 - 11,00 صباحا
حفل غداء
2,00
الحفل الختامي
7,30 -9,30
العاملون في الحوار
اللجنة التحضيرية
الدكتور/ عبد الباسط بدر- أمين الحوار
الدكتور/ مصطفى عليان
الدكتور/ صالح آدم بيلو
الدكتور/ عمر الساريسي
الدكتور/ نزيه عبد االحميد
الدكتور/ جلال حجازي
لجان العمل
لجنة التنظيم والمتابعة:
الشيخ/ عبد الله أحمد قادري الشيخ/ عبد العزيز الصاعدي الدكتور/ عبد الفتاح بحيري الدكتور/ عبد الباسط بدر
اللجنة الإدارية:
الدكتور/ مصطفى عليان
الدكتور/ عمر الساريسي
الدكتور/ صالح آدم بيلو
لجنة الإعلام:
الشيخ/ محمود سالم
الشيخ/ محمد عوض السهلي
لجنة البحوث والطابع:
الدكتور/ جلال حجازي، الدكتور/ نزيه عبد الحميد، الشيخ/ عائض نافع العمري
لجنة الاستقبال والمرافقة:
الشيخ/ عبد الرحمن الحجيلي
الشيخ/ جبران أحمد صالح
الشيخ/ عمر باحاذق
الشيخ/ كامل أحمد سعيد
المشاركون في الحوار:
أ- من خارج المملكة:
1- الدكتور نجيب الكيلاني
أديب إسلامي.
الإمارات العربية المتحدة- دبي.
2- الدكتور عماد الدين خليل
أديب إسلامي
وأستاذ سابق في جامعة الموصل- العراق.
3- الدكتور محمد حسن عبد الله
الأستاذ في كلية الآداب بجامعة الكويت.
4- الدكتور النعمان القاضي.
الأستاذ بكلية الآداب بجامعة صنعاء.
5- الدكتور مصطفى يونس
عميد كلية اللغة العربية- جامعة الأزهر- أسيوط.
وقد دعي الأستاذان:
أبو الحسن الندوي
الأديب والداعية ومدير جامعة ندوة العلماء بلكنهو- بالهند.
ويوسف العظم
الأديب الإسلامي المعروف
واعتذرا لارتباطهما المسبق بمؤتمرات تعقد في موعد الحوار نفسه.
ب- من داخل المملكة:(26/499)
أساتذة من جامعة أم القرى:
الأستاذ محمد قطب
الكاتب الإسلامي المعروف والأستاذ بقسم الدراسات العليا.
الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين.
أساتذة من جامعة الملك عبد العزيز بجدة
الدكتور كامل الدقس
الأستاذ بكلية الآداب.
ودعي كل من:
الدكتور أبو بكر أحمد باقادر
والدكتور عبد الرحمن بارود
الأستاذين بكلية الآداب ولم يحضرا.
أساتذة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية:
الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا
رئيس قسم النقد والبلاغة ومنهج الأدب الإسلامي بكلية اللغة العربية بالرياض.
الدكتور عبد القدوس أبو صالح
الأستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض.
الدكتور عبد الإله الحامد
عميد معهد اللغة العربية بالرياض.
الدكتور عبد الله العسيلان
عميد شئون المكتبات بكلية اللغة العربية بالرياض.
الدكتور زاهر عوض الألمعي، الشاعر والأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالرياض
الدكتور محمد على الهاشمي الأستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض
الأستاذ أحمد براء الأميري
الأستاذ بمعهد اللغة العربية بالرياض
الدكتور موسى ريحان
الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بالقصيم
الأستاذ محمد عادل الهاشمي
الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بأبها.
وقد دعي أيضاً كل من:
عميد كلية الشريعة واللغة العربية بأبها.
والدكتور عبد الله بريمه
الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بالقصيم.
واعتذرا عن الحضور لانشغالهما بارتباطات أخرى.
أساتذة من جامعة الملك سعود:
الدكتور محمد الصباغ
الأستاذ بكلية الآداب بالرياض.
شخصيات من جهات مختلفة:
معالي الشيخ/ عبد العزيز الرفاعي
المستشار بمجلس الوزراء "سا بقاً"والأديب المعروف.(26/500)
3- الدكتور/ محمد عبد الله الهرفي
مدير كلية البنات بفرع الرئاسة العامة لتعليم البنات- الدمام.
3- الأستاذ محمد حسن بريغش
الباحث في شعبة الرئاسة العامة لتعليم البنات- الرياض.
4- الأستاذ/ حيدر الغدير
المدير التنفيذي للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض والمسؤول الثقافي فيها.
5- الشيخ عبد الله بن محفوظ
نائب رئيس جمهورية موريتانيا الإسلامية سابقاً.
6- أبو الحسن صالح
من أريتريا- بناء على طلبه
أساتذة من الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة
1- الشيخ/ عبد الله أحمد قادري.
عميد كلية اللغة العربية.
2- الشيخ/ عبد العزيز الصاعدي
وكيل كلية اللغة.
3- الدكتور/ عيد الفتاح بحيري.
4- الدكتور/ عبد الباسط بدر.
5- الدكتور/ مصطفى عليان.
6- الدكتور/ عمر الساريسي.
7- الدكتور/ صالح آدم بيلو.
8- الدكتور/ نزيه عبد الحميد.
9- الدكتور/ جلال حجازي.
10- الدكتور/ أحمد بسام ساعي.
11- الشيخ/ محمد المجذوب.
13- الدكتور/ محمد حرب عبد الحميد.
الأبحاث التي قدمت للحوار
1- الشعر والنقد الأخلاقي.
د. مصطفى هداره.
2- الأدب الإسلامي المعاصر- المعضلات ووسائل الدعم.
د. عماد الدين خليل.
3- وظيفة الأدب.
د. عماد الدين خليل.
4- من منهج الأدب الإسلامي.
د. عبد الباسط بدر.
5- مقدمة لنظرية الأدب.
د. عبد الباسط بدر.
6- الالتزام والأديب المسلم.
محمد حسن بريغش.
7- العودة لكتابة تاريخ الأدب.
محمد حسن بريغش.
8- جاهلية أو إسلامية.
د. أحمد بسام ساعي.
9- منهج الأدب الإسلامي.
د. صالح آدم بيلو.
10- قراءة إسلامية في قصص محمد عبد الحليم عبد الله.
د. محمد حسن عبد الله.(27/1)
11- نقد الشعر الحديث- القاعدة والمنهج والواقع الإسلامي.
د. أحمد بسام ساعي.
12- آثار عدم وضوح الرؤية الإسلامية في الأدب.
د. محمد حرب عبد الحميد.
13- اقتراح لخدمة الدعوة والإعلام الإسلامي.
د. عبد الرحمن حبنكة.
14- الأدب في إطار التصور الإسلامي.
د. عبد الله عسيلان.
15- من قضايا الأدب الإسلامي- قضية المرأة.
د. عبد القدوس أبو صالح.
16- نحو قصة إسلامية.
د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
17- الأدب الإسلامي، المصطلح ودلالاته.
د. النعمان القاضي.
18- مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي.
د. مصطفى عليان.
19- وظيفة الأدب في المفهوم الإسلامي.
د. مصطفى يونس.
20- الدعوة المعاصرة إلى إسلامية الأدب وجذورها التراثية.
د. جلال حجازي.
21- ملامح الأدب الإسلامي في بعض أعمال على أحمد باكثير.
د. عمر الساريسي.
22- قراءة إسلامية في شعر الحروب الصليبية.
د. مصطفى عليان.
22- لماذا الأدب الإسلامي.
د. نجيب الكيلاني.
24- الأدب بين الإسلامية والقومية.
د. محمد علي الهاشمي.
25- قيثارة الشعر في موكب النصر.
د. موسى ريحان.
26- خواطر حول منهج الأدب الإسلامي.
الأستاذ/ محمد حسن بريغش.
27- مشروع لمنهج الأدب الإسلامي.
الأستاذ/ محمد عادل الهاشمي.
مقطع من جلسات الحوار
مدير الجلسة: معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي.
موضوع الجلسة: وظيفة الأدب.(27/2)
مدير الجلسة: هناك ورقة عمل تتطلب إنجازا وهناك أفكار جديرة بأن تتبلور وأن نضع لها مفاهيم معينة لنستطيع أن نخرج بنتائج من هذه الندوة المباركة. فحبذا لو بدأنا بورقة العمل، فنقسم الوقت بين ورقة العمل المقترحة للمناقشة وبين المحاضرتين اللتين ستعقبان ورقة العمل. وكنت أتصور أن الوقت سيتسع لمزيد من الحوار ولكن للأسف ولأن بعض الإخوة سيغادرون المدينة هذا اليوم. حبذا أن ننتهز الفرصة ونناقش ورقة العمل ثم نستمع إلى المحاضرين الباحثين.
"وتساءل مدير الجلسة عن ضرورة قراءة ورقة العمل فطلب نائب الرئيس قراءتها ".
وقرأها مدير الجلسة وهي:
أولا- توظيف الأدب عالمياً.
ثانياً- توظيف الأدب والقيمة الجمالية للنص.
ثالثا- وظيفة الأدب في المفهوم الإسلامي.
رابعاً- المقترحات التي تجد في هذا الميدان.
"وسجل مدير الجلسة أسماء الأساتذة الذين يرغبون المشاركة في المناقشة، ثم طلب الدكتور عماد الدين خليل أن يقوم أمين الحوار د. عبد الباسط بدر بشرح المقصود بالفقرة الأولى "توظيف الأدب عالمياً "وأن تؤجل الفقرة الثالثة "وظيفة الأدب في المفهوم الإسلامي"إلى ما بعد قراءة ملخص بحثه الذي يحمل العنوان نفسه فوافق المجتمعون.
ثم قدم أمين الحوار د. عبد الباسط بدر توضيحاً للفقرة الأولى فقال: المقصود بتوظيف الأدب عالميا ما وصل إليه الأدب في العالم شرقيه وغربيه والاتجاه الذي يسود الأدب الآن وهو توظيف الأدب في صياغة صورة للحضارة سواء الشرقية أو الغربية، أو خدمة أهداف محددة، أو إبراز مبادئ معينة، تمهيدا لفهم وظيفة الأدب. ونحب أن يوضح الإخوة الذين لهم معلومات عميقة في هذا الجانب وأن يبينوا هل خدش هذا التوظيف القيمة الجمالية للأدب، وهل استطاعت هذه التجربة التي قامت في العالم قديمه وحديثه أن تتوصل إلى مواءمة بين الأدب بجمالياته وشروطه والتوظيف بشكل ناجح؟.(27/3)
بعد ذلك أعطيت الكلمة للدكتور نجيب الكيلاني لمناقشة القضية الأولى "توظيف الأدب عالميا"فقال:
د. نجيب الكيلاني - الرسالة العالمية لأي أدب من الآداب لا تتم باتخاذ قرار أو توصية، وإنما بالعمل الأدبي الناجح المستوفي للشروط الفنية والذي يستطيع أن يشق طريقه إلى أية بيئة وأي مجتمع.
النقطية الثانية: أن إيصال أدبنا الإسلامي أو إعطائه الصفة العالمية يتم عن طريق وسائل في مقدمتها تفعيل حركة الترجمة. والواضح حتى الآن أننا نترجم من اللغات الأخرى الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى العربية. لكن كم من تراثنا الأدبي الإسلامي ترجم إلى تلك اللغات الحية التي يتكلم بها ملايين من البشر، وأرى أن تبرز هذه النقطة في التوصيات.
الترجمة من العربية أو لغات الشعوب الإسلامية. هذه النقطة فيها تقصير كبير. ونتساءل فيما بيننا كم كتاباً من القصة أو الشعر أو المسرح أو التشريع الإسلامي ترجمت إلى اللغات الأجنبية. إن حركة الترجمة مصابة بضعف وقصور شديدين وهي بحاجة إلى استعدادات مادية ومكتب فني يشرف عليها دون النظر إلى عوائدها المادية. فقد ندفع لها الدعم كما ندفع للرز والسمن. لننشر فكرنا وأدبنا في الخارج.
القضية الثانية في ورقة العمل: توظيف الأدب والقيمة الجمالية للنص: إن قارئ الأدب لا يعرف المجاملة. يقرأ العمل الجيد فإذا اقتنع به أخبر عنه أصدقاءه ومعارفه أو تحدثت به الصحف أو تناوله النقاد بالشرح والتعليق، ومن هنا ينتشر العمل الأدبي الناجح وأحيانا توضع دعايات ضخمة لبعض الأعمال الأدبية ولكن لا يتحقق الهدف لعدم قدرتها على النجاح.(27/4)
النقطة التالية: إن اختيار النصوص للترجمة لا يصح أن يخضع لأي معايير سياسية أو صداقة أو مجاملة، وإنما نختار العمل الجيد الذي يعبر عن الأدب الإسلامي والمستوفي للقيم الجمالية والأدوات الفنية. ومهما كان النص يحتوي على مضامين إسلامية ممتازة فإن هذا لا يكتب النجاح إن لم تكن القواعد الفنية متحققة بشكل جيد. وعلينا أن ننقل نماذج جيدة وأن تكون الترجمة محددة وموجهة تقوم بها مؤسسات لها ميزانية وتقوم باختيار ناجح ومتفق عليها.
بعد ذلك يستطيع القارئ المسيحي والأجنبي أن يتقبل أي عمل جيد مهما كانت العقيدة التي فيه طالما أنها تؤثر فيه وتقنعه، بل إن بعض الغربيين بدأ يدرس البوذية والمذاهب الشاذة أو المنقرضة وعندما يقتنع بها يحاول ترويجها، وإخواننا الذين يعيشون في أوربا وأمريكا يرون أن تلك الأرض خصبة جداً للإسلام.
وعلينا أن نلاحظ أن الأدب يمكن أن بكون جزءأً من الإعلام فنستطيع بالأدب أن نقدم للعالم قضايانا بحيث يفهمها ويقتنع بها. وليس كل إعلام أدباً، إنما يمكن أن يكون الأدب نوعاً من الإعلام.
الإعلام يمكن أن يستعمل الأرقام. يأتي بقضية من القضايا ويضع لها أرقاماً ويقنعنا بهذه الأرقام. وتكون هذه الأرقام ذات ثقل وتأثير جماهيري كبيرين، ولكن الأدب لا نستعمل فيه الأرقام إنما نستعمل فيه القيم الجمالية، والإعلام العالمي الآن اتسع لدرجة كبيرة وأصبح يستعمل السينما والشعر وألوان الأدب الأخرى وكل شيء لذلك يمكن أن نوظف الأدب بالأسلوب الأمثل وأن تراعى القيم الجمالية لكل نص وشكراً.
د. موس ريحان: قضية ترجمة أدبنا إلى اللغات الأجنبية، وتقصيرنا فيها.(27/5)
إننا لحاجتنا أو ما خيل إلينا وحبب إلينا نترجم ما عند غيرنا وبأموالنا، وقد نستفيد وقد يكون عملنا دعاية لهم، أما الأوربيون فلديهم المستشرقون وهم يعرفون ما عندنا. ولو وجدوا حاجة لهم في أدبنا لترجموها على حسابهم كما يؤلفون في آدابنا وتراثنا وينقبون بلغتنا وينقلون إلى لغتهم. هذه قضيتهم لا قضيتنا. فأن ينقل أدبنا إليهم فهذه قضية الذين يحتاجون إليه وليست قضيتنا الأولى.
عبد الرحمن حبنكة: موضوع توظيف الأدب عالمياً كما فهمت. هو أن العالم يوظف الأدب لخدمة مبادئه، فالوجودي مثلاً كجان بول سارتر وظف أدبه لخدمة الوجودية والإلحاد، والآداب المسرحية توظف اليوم لنشر الإباحية والرذيلة للأسف أفنكون - ومعنا الحق- منعزلين انعزالاً تاماً عن توظيف أدبنا الإسلامي في خدمة قضيتنا؟، سواء أكانت قضية عقيدية أو حضارية أو أمة.. الخ ولا بد أن تدخل هذه الوظائف.
إذن فالقياس مع غيرنا في أنهم يوظفون آدابهم لخدمة قضاياهم وقد أثروا فينا تأثيراً وغزونا في عقر دارنا، علينا أن نرد الكيل بالكيل ونغزو العالم بالآداب الإسلامية.
د. عبد الله العسيلان: توظيف الأدب عالميا: أرى أنه ينبثق عن التصور الإسلامي، ذلك لأنه تصور خلاق مبدع يشمل الكون كله. وجاء الإسلام ليكون للناس كافة. ومن هذا المفهوم يتبين لنا سعة الأدب الإسلامي الذي ينبثق من التصور الواسع سعة الكون والحياة والإنسان الذي يرتضي الإقليمية المقيتة التي ينادي بها بعضهم في عصرنا. إن وظيفة الأدب الإسلامي واسعة الحدود، وحينما ينبثق الأدب من هذه المنطلقات ليتحدث عن عموم الإنسانية عامة وآلامها وآمالها في إطار المفهوم الإسلامي تكون وظيفته وظيفة عالمية.
وهذه الوظيفة، حينما تتوفر لها الأدوات الفنية، التي تتمثل في القيم التعبيرية والجمالية، نشعر أنها قد تحققت وأن الأدب الإسلامي أصبح قادراً على أن يؤدي دوره المأمول عالمياً.(27/6)
د. أحمد بسام ساعي: أجدني مضطراً للتفريق بين الأدب الإسلامي العربي والأدب الإسلامي غير العربي - فكيف يمكن أن نوظف الأدب الإسلامي العربي لخدمة المسلمين من العرب؟ وكذلك العكس.
علينا- مبدئيا- أن نترجم أدب هؤلاء إلى لغة أولئك وبالعكس. ولكن نحن بهذا نقضي على ما يسمى أدباً. لأن الأدب ليس فكرا وحسب، إنما هو فكر وشكل أيضاً، ما العمل إذن؟؟ عندما نترجم شعر إقبال إلى العربية فهل نسمع شعر إقبال حقاً. يقول أحد النقاد: الشعر هو الجزء الذي نفقده عند الترجمة، وعندما يحصل العرب على شعر إقبال مترجماً يفقدونه قبل أن يصل إليهم.
إذن كيف نوظف الأدب مع المحافظة على وصفه بالأدب. هذه مشكلة لا حل لها إلا أن ندعو إلى لغة إسلامية موحدة وهي الطريق إلى أدب إسلامي موحد يوظف في خدمة الإسلام والمسلمين، وهذه اللغة الإسلامية هي لغة القرآن الكريم وأقترح على حوارنا المبارك أن يتخذ توصية بإطلاق اسم اللغة الإسلامية على اللغة العربية. وهي لغة الإسلام والمسلمين، وهذا يعطيها صفة أكثر اتساعاً وشمولا. لأن العروبة أضيق من الإسلام.
وعندما أنزل القرآن بالعربية كان الإسلام لا يزال عربياً. ولكن تحول الإسلام وشمل غير العرب وصار هؤلاء أكثر من العرب أنفسهم فجدير بالعربية أن تكون اللغة الإسلامية، ونحن بهذا نشعر إخواننا المسلمين من غير العرب بمسؤوليتهم تجاه هذه اللغة، والتي لن يستطيعوا أبدا أن يكونوا مسلمين حقاً من غير أن يتعلموها، فكيف إذا لم يفهم القرآن الكريم ولم يفهم ما يقوله في صلاته ولا ما يقوله في آذانه ودعائه وحجه.
المسلم التام هو الذي تعلم العربية. والعربية هنا جزء من الدين ولا يمكن أن ينفصل عنه.(27/7)
ستقولون إن هذه مسألة صعبة لا تتحقق، ولكن أذكركم أن الصهيوني الأول قبل مئة عام فقط دعا اليهود إلى إحياء لغتهم وكانت اليهودية "اللغة العبرية"لا تعرف إلا في الكتب الدينية. ولم يكن اليهود يتكلمونها في أية بقعة في العالم. والآن لليهودية قوام اللغة وقوام الدولة.
إذن يجدر بنا أن نبدأ ولو من نقطة الصفر بتعريب الألسنة الإسلامية للوصول إلى لغة إسلامية حقيقية تكون لغة توحد المسلمين.
د. نعمان القاضي: قضية وظيفة الأدب الإسلامي شائكة لأنها تقع بين الفن والدعاوة وهذا أمر لا يمكن أن نصل إليه بقرار.
إن القول بتوظيف الأدب لابد أن يسبقه إيمان بأن الأدب يلزم أموراً معينة. القول بتوظيف الأدب يسبقه القول بالالتزام. أي أن الأديب المسلم يجب أن يلزم بأشياء معينة، وأن يوظف الأدب في سبيلها. لذلك أرى أن نناقش في ظل قضية الوظيفة في ظل التوظيف لأن الوظيفة تتناسق مع الالتزام، أما التوظيف فلا بد له من التزام. والأدب العالمي ليست له مواصفات محددة. فإذا قلنا إن الأدب الإسلامي يمكن أن يكون أدباً عالمياً. فما معنى هذا، هل معناه أن يناقش القضايا التي تشغل العالم الآن؟ وهل يناقش القضايا التي تهم بعض المسلمين الذين يعيشون في أصقاع مختلفة. وهل معنى هذا أن يتزيّا بالأزياء العالمية ليصل إلى هؤلاء الناس ويعبر عنهم؟.
في الحقيقة لا أفهم معنى العالمية هنا؟ هل المقصود أن نصدره إلى العالم؟ أم أنه يصدر عن مشاكل العالم. فالقضية ليست واضحة في ذهني حتى الآن. لكني أفهم أن يرقى الأدب الإسلامي حتى يصبح عالمياً، وإذا كانت القضية على هذا النحو فإنه لا يكون أبداً بتوظيفنا له. بل بأن يوجد الأديب صاحب الموهبة العالمية التي يستطيع بها أن يخدم الإسلام ويقدمه للعالم. فإذا ما دخلنا هذا المدخل فإننا أرى أن قضية الترجمة تصبح قضية هامة وعاملا معيناً ولابد أن يسبقها اختيار دقيق لما يقدم للعالم.(27/8)
إن أول نص أدبي هو القرآن الكريم. وقضية ترجمته وترجمة معانيه ما تزال بحاجة إلى كثير من الاهتمام والنقاش. فقد لاحظ كثير من العلماء أنه مع اطراد وكثرة التراجم القرآنية يقل الاهتمام بالعربية - التي يجب على كل مسلم تعلمها- ويخشى من كثرة الترجمات أن تشغل الناس عن القرآن نفسه فهذه قضية تحتاج إلى كثير من التدبر ويمكن أن يلتحق بها الأدب الإسلامي.
ثم هل الأدب الإسلامي هو ما كتب بالعربية فقط؟.
ثم هل الوسائل التي تقدم الأدب كالسينما والمسرح والتلفزيون والكتاب والمجلات والصحف- وهذه وسائل اتصالنا بالعالم- هل يستطيع الأدباء المسلمون أن يطوعوا الأدب الإسلامي كي تحمله هذه الوسائل.
هذا جانب لابد من الاهتمام به.
مدير الجلسة: إذا صح لي أن أتحدث عن فهمي لتوظيف الأدب عالمياً فهو في ذهني أن نحشد الجهود لنخرج أدبنا الإسلامي إلى العالم لنستطيع أن نوصل أصواتنا إلى العالم كله.
ولي تعليق حول ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى. حبذا لو جرى الاهتمام بهذا الموضوع في ندوة خاصة تتبناها هذه الجامعة لما لهذا الموضوع من أهمية كبرى.
وكما فهمت من كلمة د. بسام ساعي أنه يرمي إلى تعميم اللغة العربية لتكون لغة عالمية على المحيط الإسلامي.
الأستاذ عادل الهاشمي: أود أن أتقدم باقتراح بتكريس عالمية الأدب الإسلامي.
فهل الأدب الإسلامي مهيأ لهذه العالمية؟.
إن الأدب الإسلامي ذو صفة عالمية حقاً. ولأن المسلمين في كافة أقطار الأرض خوطبوا بهذا الإسلام. وخوطبوا ليدعوا الأقوام جميعاً بهذا الدين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فما أثر ذلك وما إيحاءاته وإلهاماته لأدبنا.(27/9)
يتجلى هذا الإيحاء والإلهام في أننا استطعنا أن نترك آثاراً في آداب الأقوام والبلاد التي فتحناها. وهناك من يقوله إننا سبقنا إلى فن القصة في الأندلس قبل ظهورها في أوربا- كما تركنا آثاراً هي شاهد على عالميتنا.
إن من خصائص الأدب الإسلامي الكبرى إنه أدب إنساني عالمي لأنه يخاطب البشرية من خلال الآثار الأدبية المنبثقة عن التصور الإسلامي.
والتصور الإسلامي يضع حقلا كبيراً جدا للإنسان. إذن الأدب الإسلامي يخاطب في الإنسان البشرية قاطبة.
بناء على هذا نقول: إن تيار التقليد الذي عرى أمتنا الإسلامية هو حاجز بيننا وبين العالمية. هذا التقليد هو الذي يقيد أصالتنا.
وهو الذي وزع شعرنا العربي إلى مدارس تقلد المدارس الغربية: الاتباعية والإبداعية والواقعية والرمزية.. الخ.
أما الأدب الإسلامي الذي نقدم به زاداً جديداً للعالم. ونقدم به تصوراتنا فهو الذي ينبغي أن نقدمه، لا أن نقدم للعالم الغربي رجع عطائه.
إن الزاد الجديد الأصيل يمكن أن يرغد العالم بنتاج رفيع يسيغه العالم بوصفه زادا أصيلا نابعا من أكبر تجمع بشري في العالم، ومن تطلعات الأمة المسلمة في كل مكان بينما التقليد هو الذي يقيد خطانا.. وأضرب مثالاً على الأصالة من أدبنا الإسلامي والعالمي هو الشاعر الإسلامي إقبال. إن إقبالاً بنهله من التصور الإسلامي وارتقاء أداته استطاع أن يقدم أدباً عالمياً وأخذ مكانه في صلب الأدب العالمي.
نحن أمام مسؤوليات كبرى في هذه الندوة وعلى مستوى العالم الإسلامي بأسره لأن الأدب الإسلامي لن يكون نتاجه حبيس ديار الإسلام أو البلاد العربية. ولكنه سيعرض تصوره وتجاربه على العالم كله بما فيه من تيارات كبرى في العالم وهذا ما يوقفنا أمام مسؤوليتنا على المستوى العالمي ويضخمها.
قضية من قضايا الحوار: أهمية الأدب الإسلامي(27/10)
الأستاذ محمد قطب: افتتح الأستاذ محمد قطب الجلسة الأولى التي يديرها بالحديث عن أهمية الأدب الإسلامي، وكان موضوع الجلسة: مفهوم الأدب الإسلامي.
وفيما يلي نص حديثه المرتجل:
إن هذه الأمة لا تستطيع أن تفكر ولا أن تعبر إلا من خلال الإسلام إذا أرادت أن يكون وجودها صحيحا. فكما أنها ينبغي أن تحكّم منهج الله وشريعة الله في حياتها فكذلك هذا المنهج ذاته هو الذي ينبغي أن يحكم الفكر ويحكم التعبير عن هذا الفكر.
ولا نستطيع أن نكون مسلمين حقاً إذا تحاكمنا لغير شريعة الله ولغير نهج الله كذلك لا نستطيع أن نكون مسلمين حقاً إذا فكرنا تفكيراً غير إسلامي أو عبرنا تعبيراً غير إسلامي. فأهمية الأدب الإسلامي "أو الفكر الإسلامي" لا تقل في نظري عن أي جزئية من جزئيات هذا الدين أو هذا المنهج الرباني، والأمة الأولى أو الجيل الأول من هذه الأمة الذي استحق وصف الله تعالى له {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
كانوا يعيشون الإسلام كل لحظة من لحظات حياتهم. يعيشون في السلم والحرب، يعيشون نظام حكم ونظام تفكير.(27/11)
إلا أن التعبير عن هذه الحياة لم يأخذ في نظري مجاله الذي كان ينبغي أن يأخذه لأن التعبير يأتي متأخراً. فالجيل الأول شغل ببناء نفسه وبناء المجتمع الإسلامي وبناء الدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله كل هذا من التعبير عن هذه المعاني. وهذا أمر طبيعي غير مستغرب، فإنه لابد أن تمضي فترة من الوقت بين الحدث وتمثله في النفس تمثلاً يعبر عنه في صورة أدبية. هذه الفترة التي انقضت في الإنشاء لم يكن فيها كثير من التعبير من جانب المسلمين لأنهم كانوا مشغولين بعملية الإنشاء لأن أثر القرآن في نفوسهم كان من الفخامة بحيث يغنيهم عن التعبير، فكل ما في الحياة يجدونه معبراً عنه في كتاب الله. فيغنيهم هذا عن أن يعبروا بأنفسهم ولكن كان لابد أن يأتي الوقت الذي يعبر المسلمون فيه عن تجربتهم الجديدة هذه ويخرجونها في ثوب فني.
حين جاء هذا الوقت كانت قد حدثت أحداث فخام في العالم الإسلامي ردت المسلمين إلى بعض المعاني السابقة على الإسلام من قبلية ومن نزاعات، فحين بدؤوا يتكلمون، حين بدؤوا يعبرون عن أنفسهم رجعوا مع الأسف إلى قوالب التعبير الجاهلية وفي كثير من الأحوال إلى معاني التعبير الجاهلية في الفخر والهجاء وأيضاً فيما نهى الله عنه.. وصار الأدب.
وسار أدب المسلمين مسيرة طويلة خلال أربعة عشر قرناً يقترب أحياناً من المفهوم الإسلامي ويبتعد أحياناً كثيرة، حتى أننا في كثير من الأحيان لا نكاد نجد فرقاً واضحاً بين التعبير العربي في الجاهلية والتعبير العربي الذي أنتجه المسلمون وإلا فالخمريات والمجون والمدح والهجاء وكل هذه الأبواب التي جاء الإسلام ليبطلها وليضع مفاهيم جديدة للحياة وللتفكير والتعبير قد عادت إلى الظهور في أدب الأدباء خلال أربعة عشر قرناً.(27/12)
أقصد بهذا أن التجربة الإسلامية- في الأدب- لم تكن قد أخذت نضجها الذي ينبغي أن تأخذه. وركن الأدباء إلى صور التعبير الجاهلية ووضعوا عليها عنواناً إسلامياً في كثير من الأحيان.
ونحن اليوم إزاء تجربة جديدة. والتجربة الجديدة قد نشأت من أن المجتمع الإسلامي كله قد ابتعد بعداً شديداً من الإسلام ثم عاد إليه مرة أخرى في حركة الصحوة التي يمارسها المسلمون اليوم وهذه التجربة الجديدة هي التي نريد أن تعبر عنها بالصورة الإسلامية. وليس من الضروري أن نتقيد فيها بما جرى خلال الأربعة عشر قرناً السابقة من محاولات تعبيرية قد لا تكون وافية بالغرض إنا نريد إن استطعنا- تجربة جديدة كاملة نستمدها من الإسلام مباشرة، لا من التراث الذي يحمل اسم الإسلام إنما من حياتنا الواقعة من تجربتنا نحن، من معاناتنا، من تفاعلنا مع المعاني الإسلامية في أزمتنا الحاضرة. وليست الأزمة هي التي تؤدي إلى التعبير، فإن الوجود ذاته هو الذي يؤدي إلى التعبير. الوجود الإسلامي في نفوسنا هو الذي يؤدي إلى أن نعبر تعبيرا إسلاميا. ولكن الأزمات دائما حافز قوي من حوافز التعبير ونحن اليوم نعيش أزمة ونعيش أزمة داخل مجتمعاتنا، ونعيش أزمة في التفاعل أزمة في التفاعل مع العالم المعادي للدين. والمعادي للإسلام بصفة خاصة، يضغط على مفاهيمنا بحضارته وبأفكاره وبتعبيراته وبفنونه فلا يجعل الرؤية واضحة بالنسبة للأديب المسلم، كيف يعبر، وعن أي شيء يعبر، هل يقلد ذلك الأديب الغربي أم أنه يجب أن يختط طريقاً خاصة له؟.
وما الطريق الخاص، من أين تحدد معالمه؟ لابد لنا في كل أمر عظيم أن نعود إلى الكتاب والسنة، فهذا هو أصل حياتنا الإسلامية، وهذا هو الذي يرسم لنا منهج الحياة. لكن في الفن بصورة خاصة (والأدب لون منه) كيف يكون الرجوع إلى الكتاب والسنة؟ كيف نستفيد منه؟ هل نستوحيها في الموضوعات؟ أم نستوحيها في الروح العامة، أم نستوحيها في المفاهيم؟(27/13)
لقد ألفت كتاباً منذ سنوات طويلة أيام كنت أشتغل بالأدب ويجب أن أعترف لكم أنني بعدت بعداً شاسعاً عن الأدب ومفاهيمه وطرائقه تعبيره وأنتم الآن تشدونني شداً إلى الأدب وما أدري هل أفلح في ذلك أم لا؟
إن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مفاهيم كاملة يعيش فيها الأديب المسلم والفنان المسلم - يستمد إيحاءاته كلها من مفاهيم هذا الدين. ليس من الجزئيات لكن من المفاهيم العامة.
ثم إنه أيضاً يستطيع أن يستمد الجزئيات من كتاب الله. ومثلت في الكتاب لأمر لفتني في كتاب الله وهو العناية الشديدة بإبراز مشاهد الطبيعة. حتى في التمثيل للمعاني المجردة. فيمثل الإنفاق عن إيمان ولمرضاة الله بجنة بربوة أصابها وابل ويمثل للإنفاق رياء بصفوان عليه تراب أصابه وابل فتركه صلداً.
إن استخدام القرآن لمشاهد الطبيعة في التعبير عن معاني نفسية بحتة يجعل المسلم يتفاعل مع هذا الكون الحي الذي خلقه الله، تفاعل صداقة، وتفاعلا حيويا، تحس أن هذا الكائن الذي خلقه يتجاوب معه، وهو يتجاوب معه فهناك صلة بين هذا الإنسان وبين الطبيعة.
هذا نموذج من النماذج في الجزئيات التي يمكن أن نستمدها من كتاب الله. وأذكر أنني قد أشرت إلى أنه حتى فيما يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى وردت هذه الآية الكريمة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ} .
هذا فيما يتعلق بذات الله تجيء به مشاهد الطبيعة، فما أحرانا نحن قبل أي فنان في العالم أن يبرز هذه المعاني.
هذا موضوع وهناك موضوع آخر.(27/14)
وفي موضوعات الإسلام سعة كبيرة جداً للفنان المسلم، يتحدث عن الجمال، يتحدث عن العدل، يتحدث عن النظافة النفسية، عن الإنسان وتفاعلاته مع هذا الكون حين يكون ملتزماً بمنهج الله. وحين يكون عاصياً لمنهج الله. موضوعات كثيرة جداً يمكن أن تدخل في حيز الأدب الإسلامي والفن الإسلامي.
أما طريقة التعبير. كيف تكون. هذه تجربة. وكل تجربة جديدة. لاحظنا في تاريخ الأدب: أن كل تجربة نفسية جديدة أحدثت في الأدب لوناً جديداً من التعبير هو بذات اللغة. لكنه يأخذ صيغة جديدة.
ما صورة التعبير الإسلامي؟
لن أجيب عن هذا السؤال لأنني بعدت عن ساحة الأدب، ولكني أطرحه، كان المفروض أن يستحدث المسلمون في إطار اللغة العربية صوراً جديدة من التعبير تتناسب مع التجربة الإسلامية الجديدة، ولا يعودوا لعهد الشعر الجاهلي ولا يعودوا إلى الصورة الجاهلية، لأنهم انتقلوا من حياة إلى حياة. ومن جو نفسي إلى جو نفسي آخر.
ولست أزعم من هذا الكلام أن الإنتاج الإسلامي لم يكن إسلامياً أبداً. لا. أنا بعيد كل البعد عن هذا الزعم ففي إنتاج المسلمين كثير من المعاني الإسلامية التي أخذت الثروة الإسلامية كاملة أو أخذت المضمون الإسلامي كاملاً. ولكني أقول: إن نسبتها إلى حجم الإنتاج الذي كتبه المسلمون ما تزال أقل مما يجب. وما يزال المسلمون في حاجة إلى تجربة تعبيرية جديدة يبلورون فيها المفاهيم الإسلامية في صورة إسلامية كاملة.
إننا حين نقول أدب إسلامي أو فن إسلامي يرد إلى الخاطر أنه مجموعة من المواعظ أو تعبير مباشر عن المعاني الإسلامية. وأحب أن أقول إن الموعظة قد تكون فناً. ولكن هذا نادر لأنها تعبير مباشر يقصد بها العبرة. والفن لا يحب التعبير المباشر إنما يحب التعبير من خلال الخلجات النفسية من خلال الذهن. لا من خلال المعاني المجردة ولا المعاني المدورة في صورة حكم أو في صورة مواعظ.(27/15)
هذه قد تكون على هامش الفن ولكن الفن الحقيقي - الذي يؤثر عن غير الطريق المباشر- عن طريق عرض نفس بشرية تتفاعل فيها المعاني. هذا هو الفن وهذا هو الذي نريد أن نصل إليه.
ليس الفن الإسلامي مجموعة مواعظ وقد يتحدث الفن الإسلامي في قصة الاقتصاد، وقد يتحدث في الحرب، وقد يتحدث في المعصية التي تقع لبني آدم، وقد يتحدث في أي موضوع من الموضوعات، لكنه لا يعطينا صياغة ذهنية باردة مدورة. إنما يعطينا خلجات نفس حية تتفاعل فيها المشاعر فتأتينا من خلال التأثير غير المباشر، ما يريد الكاتب أن يمضمي إليه السامع أو القارئ.
حديث عن الحوار
أمين الحوار: د. عبد الباسط بدر
لماذا الحوار؟
ليس التساؤل عن الحوار مشكلة، أياً كان الذي يجابهك به وأياً كانت دوافعه، لأن العمل الذي لا يملك مسوغات مقنعة يسقط في أول الطريق.
وفي ظني أن الجواب عن هذا السؤال يبدأ بالحديث عن الكلية التي دعت إلى الحوار واحتضنته، وعن الدوافع التي جعلتها تتبنى الأدب الإسلامي وقضاياه وتقطع في سبيله دروباً بكراً وشائكة.
ولعل الذين يعرفون هذه الكلية يعلمون أنها جزء من المؤسسة الدعوية الكبيرة:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وأنها تحمل خصائصها الدعوية، وتحرص على أن يكون خريجها نموذجاً للداعية الواعي المثقف، والذي يجسد في ثقافته وعمله التلازم الأصيل بين العلوم العربية والعلوم الإسلامية، فالعربية وعاء الإسلام اللغوي، بها تنزل القرآن، وبها يقرأ ويصلى، وستبقى إلى ما شاء الله لصيقة به، تستمد ثباتها وقوتها من حفظ الله لكتابه ومن بقاء جذوة الإسلام متوهجة على الأرض. والإسلام هو الذي دفع أمتنا إلى إبداع ما أبدعوه في النحو والصرف والبلاغة والعلوم اللغوية كلها.(27/16)
هذه الحقيقة كانت حاضرة عند إنشاء كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية. تبدي حضورها في التلازم الكبير بين العلوم اللغوية والعلوم الإسلامية في مناهجها، وفي اهتمام الكلية بالتراث، وفي قائمة العلوم الإسلامية اللازمة لكل داعية والتي تجاور العلوم اللغوية المستله من المؤلفات الرائعة التي وضعها سلفنا من العلماء خدمة لكتاب الله.
أما الأدب فأمره مختلف عن العلوم اللغوية كلها، ذلك أن تاريخه المدون لا يخلو من دخن كثير، وصورته الماثلة في دواوين القراء وكتب التراجم والأخبار منذ العصر الجاهلي إلى مشارف العصر الحديث تتراوح بعين الارتباط بالأخلاق والعقيدة- أو مراعاتها على أقل تقدير- والتفلت في صحاري الجاهلية وأودية الهبوط، وقد حملت قصيدة المدح مع قصيدة الغزل الماجن مهمة تشويه جزء من الأدب العربي، وساعدتا المستشرقين وتلامذتهم من المتغربين على طمس الحقيقة، إلى درجة جعلت الدكتور طه حسين يعد أبا نواس في مجونه صورة للعصر العباسي. والدكتور طه حسين يعلم قبل غيره أن أبا نواس وشعره جزء صغير من العصر العباسي وأن هذا العصر لم يكن ماجناً ولا داعراً على النحو الذي يصوره شعر أبي نواس.
وقد انسحبت هذه الصورة الشوهاء المزيفة على النقد وأثرت في المعايير النقدية. وذلك عندما أخذ بعض الدارسين مقولات نقدية لا تهتم بالجانب الخلقي أو العقيدي وعدوها صورة للنقد العربي كله. وكان الإنصاف يقتضي منهم أن يعترفوا بأن النقد الذي لا يعبأ بالأخلاق موجود عند عدد قليل من النقاد وبأن القواعد الخلقية والعقيدية موجود أيضاً وبكثرة تنافس النوع الأول.(27/17)
أما الأدب العربي الحديث ونقده فأمرهما أدهى وأمرّ. فقد توزع معظمها أمشاجاً تقلد مدارس الأدب الغربي، وتدخل إلى مفهوماتنا الأدبية ومقاييسنا أشياء غريبة عنا ومجافية لأصولنا وأذواقنا، وطبيعي - هذا شأنهما- أن يسقط كل ارتباط بين العقيدة والأدب بل وبين القيم الخلقية في أدنى صورها والأدب.
وأما التيار الأصيل الذي سلم من التعبية وحافظ على قدر من الضوابط الخلقية، أو ارتبط بالعقيدة وصدر عنها فقد حورب بوسائل شتى، أهونها الإهمال والتعتيم والتجاهل.. لذلك ليس من الغريب أن يقل بين نقادنا ودارسينا من يقتنع بأن للإسلام علاقة حميمة بالأدب، وأنه بحكم شموله لظواهر الحياة كلها ينبغي أن يأخذ دوره في تمحيص الأدب في بيئتنا، وليس غريباً أن نجد في أدبنا الحديث تياراً أدبياً كاملا- يعضده تيار نقدي كبير- يشتغل بالتجديف وشتم الحضارة الإسلامية وعقيدتها، وبإثارة الغرائز الجنسية وجعلها قضية القصيدة أو القصة أو المسرحية ... كل هذا باسم الرفض والتمرد والتجديد والعصرية.... الخ ...
وطبيعي أن تقف كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية موقفا "عقيديا" من الأدب ونقده، وأن يكون موقفها نابعاً من طبيعتها وأهدافها وظروف تكوينها، فتهتم بإبراز التيار الأخلاقي والعقيدي في الأدب العربي القديم وتشارك في دعم التيار الإسلامي في الأدب العربي الحديث، وتقف معه في مواجهة تيارات الإلحاد والفساد، وتعمل جاهدة على تحقيق وئام أكبر بين الإسلام والأدب، وقد بدا موقفها واضحاً في المناهج وفي النصوص المختارة وفي تحليلها وتقييمها، ومن ثم في البحث الجاد عن صيغة أقوى للارتباط بين الأدب والإسلام.(27/18)
ولم يكن هذا البحث وذلك الموقف مقتصرا على كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية وحدها، بل شاركتها فيها كليات أخرى في جامعات مختلفة، ودارسون متفرقون في أنحاء العالم الإسلامي. ذلك أن وحدة الفكر الإسلامي، وتشابه الظروف التي يمر بها المسلمون في كل مكان، وتماثل الآلام والآمال بينهم.. كل ذلك أوجد مشاعر متشابهة ومشاريع متقاربة عند المسلمين في مناطق مختلفة، فإذا موقف الجامعة الإسلامية هنا يتكرر في الجامعات الإسلامية في الهند والباكستان، وإذا المساعي التي تقوم بها كلية اللغة العربية في المدينة المنورة تشابهها مساع تقوم بها كليات اللغة العربية في الرياض والقصيم وأبها ومكة المكرمة ... الخ.. وإذا الرغبات الموجودة عند الدارسين هنا تماثلها رغبات موجودة عند الدارسين في الرياض وعليكرة ولكنهو.. الخ.. يظهرها بعضهم في مقالات وكتب تخطط للأدب الإسلامي، ويبقيها بعضهم الآخر في أحاديثه الخاصة ومحاضراته التي يلقيها على قلة من الطلاب.
وهكذا يبحث الجميع عن حلقة تبدأ الربط الحقيقي والفعال والعلني بين الأدب والعقيدة، في ظل قاعات الدرس وفي سطور البحث المنهجي وفي النماذج الأدبية الجميلة والمقنعة.
ويشاء الله أن يكون الداعية الأديب الشيخ أبو الحسن الندوي صاحب الريادة في هذا الميدان، والسابق إلى أول خطوة عملية. فقد دعا إلى ندوة عالمية للأدب الإسلامي يلتقي فيها المهتمون بهذا الأدب، ويبحثون مجتمعين عن الطريق الصحيحة لإنصافه وتخليصه من الإهمال والتقييم، والأخذ بيد الأديب المسلم الملتزم ومساعدته على الارتقاء بأدبه النظيف فناً وفكرةً وقد لاقت الدعوة استجابة طيبة، وخف عدد من الدارسين وأساتذة الجامعات إلى مجلس أبي الحسن، وكان اللقاء الميمون، أول لقاء يعلن بقوة ووضوح عن الأدب الإسلامي، ويحض الجامعات والباحثين على الاهتمام به وإبرازه للوقوف به في وجه الأدب الزائف والمنحرف.(27/19)
وعلى الرغم من غياب ورقة العمل عن جلسات تلك الندوة، فقد كان في الأبحاث التي قدمت إليها ما يتصل بالقضايا الأساسية والملحة للأدب الإسلامي، وأهمها قضيتا: مفهوم الأدب الإسلامي وخصائصه. وخرجت توصيات الندوة لتكون البيان العالمي "المانفستو"الأول لهذا الأدب، والإعلان الدولي عن مفهومه وخصائصه، ولتكون نداءً صادقا إلى الجامعات لإدخال "الأدب الإسلامي" في مناهج الدراسة، وتوجيه الدارسين لبحث قضاياه والكتابة فيها، وتكوين هيئات ومراكز علمية لجمع هذا الأدب وتشجيع مبدعيه وتعهدهم بالتقويم والتوجيه.
وقد تلقت الجامعة الإسلامية توصيات الندوة، ودرستها بعناية كبيرة، ووجدت في سطورها ما يتوافق مع رغبة كلية اللغة العربية في تقوية الروابط بين الأدب والعقيدة الإسلامية، وقررت أن تضيف إلى المواد الدراسية في هذه الكلية مادة اسمها: "منهج الأدب الإسلامي"تعرض فيها نماذج من الأدب الذي يتأطر بالعقيدة الإسلامية وتعمل على جمعه ودراسته، وترسم الطريق إلى بناء نظرية نقدية خاصة به، فنبدأ خطوة عملية في طريق طويل، غايته تأصيل الأدب الإسلامي وإظهار نظريته النقدية.
وقد بدأ تدريس هذه المادة مطلع العام الدراسي 1401- 1402 هـ بمنهج لوحظت فيه تجربة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وما توصلت إليه في هذا الصدد، مع إضافات مهمة أملتها التجربة السابقة والأبحاث الجديدة التي قدمها دارسون من داخل الكلية ومن خارجها.(27/20)
ولما كان الأديب الإسلامي بعيداً عن دائرة الضوء غالبا، وأدبه في حاجة إلى من يبحث عنه ويجمعه من صفحات المجلات الإسلامية وزوايا الصحف المنتشرة في أنحاء العالم العربي، فإن دراسات هذا الأدب قليلة جداً، وقضاياه مغمورة معه، تقف على حدود الأعراف والقواعد الفنية، وتنتظر من يحولها إلى مقاييس نقدية وأعرافٍ أدبية.. ولن يتمكن من ذلك فرد بعينه، ولا من آراء عدة واجتهادات تنال موافقة جماعية وقبولا عند المختصين والمهتمين اهتماماً صادقاً بالأدب الإسلامي وقضاياه.
لذلك، ولفتح الباب أمام الدراسات والاجتهادات.. دعت الكلية عدداً من رواد الاتجاه الإسلامي في الأدب المعاصر، والمهتمين بتأصيل قواعد النقد الأدبي برؤية إسلامية، وأساتذة الأدب الإسلامي في الجامعات السعودية وبعض الجامعات العربية الأخرى، ليديروا حواراً هادئاً وعميقاً حول أبرز قضايا الأدب الإسلامي وأكثرها إلحاحاً.
وعقد الحوار، ودام خمسة أيام كاملة، وكانت قضاياه كثيرة تتشقق منها محاور جانبية أكثر - وكلها بكر في حاجة شديدة إلى من يقول فيها كلمة صادقة- وقدمت للحوار أبحاث ترفد هذه القضايا، بعضها تدرس قضية من تلك القضايا، وبعضها تفرع قضايا أخرى وتطرح أسئلة مهمة، لتزيد من الشعور بالحاجة إلى البحث والدرس.. ودارت مناقشات عميقة وجادة، وطرحت آراء خصبة ملأت فراغاً في حقل الأدب الإسلامي ووضعت معالم واضحة لأسس النظرية النقدية المرتقبة.
وبعد:(27/21)
فمن غير المنطقي أن أحكم على هذا الحوار بعيداً عن حصيلته، وقد كان بودنا أن نضع بين يدي القارئ غلة الحوار من بحوث ومناقشات ونتائج وتوصيات.. غير أن البحوث وسعة المناقشات وضيق المجال في هذا المكان.. جعلت المسؤولين في الجامعة يؤثرون أن تخرج هذه البحوث وتلك المناقشات في كتاب مستقل، يقدم الآراء النقدية الجديدة والمقاييس التي توصل إليها المتحاورون، والمناقشات التي دارت حولها وأسهمت في صقلها وتوجيهها توجيهاً حسناً.
ونأمل أن يصدر هذا الكتاب قريباً إن شاء الله.
غير أننا- كي لا نحرم القارئ من صورة مبسطة عن الحوار- وضعنا هذه الصفحات القليلة على عجل، لتعرض في لمحات خاطفة مشاهد متفرقة يمكن أن تكوّن انطباعاً أولياً عن الحوار وقضاياه، على وعد أن نضع بين يديه الصورة الكاملة قريباً بإذن الله.
والله نسأل أن يسدد خطانا وهو ولي التوفيق.
كلمة الوفود في اختتام الحوار وألقاها د. نعمان القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة نائب رئيس الجامعة
أساتذتي وإخواني أعضاء الحوار الأول حول الأدب الإسلامي؛
أبنائي الطلاب؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أحمد الله الخالق المبدع الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وأصلي وأسلم على أفصح ولد عدنان، الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
أما بعد:(27/22)
فقد شرفني إخواني أعضاء الوفود إلى هذا الحوار أن أندب عنهم في التعبير عن مشاعرهم بمناسبة اختتام أعمال هذا اللقاء وها أنذا أصدع بما كلفوني به فأتقدم بادئ ذي بدء بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عنهم جميعاً حاملا أرفع آيات الشكر والامتنان إلى مقام جلالة الملك خالد بن عبد العزيز المفدى خادم الحرمين الشريفين وإلى سمو ولي عهده الأمين الرئيس الأعلى لهذه الجامعة المباركة، وإلى سمو الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير المدينة المنورة الذي رعى هذا الحوار وتفضل بافتتاحه.
كما أتقدم بالشكر إلى فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية وإلى فضيلة عميد كلية اللغة العربية وأسرتها وإلى اللجنة التحضيرية للحوار.
أشكر لهم جميعاً ما بذلوه وما قدموه لنا من كرم الضيافة وكريم الحفاوة وحسن الاستقبال. وما أتاحوه لنا من الإمكانيات والوسائل الكفيلة بإنجاح هذا الحوار.
لقد اجتمعت هذه النخبة من العلماء والأدباء والمختصين بالأدب الإسلامي بناء على دعوة كريمة من الجامعة الإسلامية حول فكرة نبيلة وخطيرة في ذات الوقت، نبيلة لأن الغاية من هذا الحوار تجنيد الأدب العربي في معركة بناء الإنسان المسلم وتسديد خطاه على طرف الحياة الكريمة، وخطيرة لأن سلاحها في ذلك هو الكلمة الجميلة النظيفة التي تفعل في النفوس وتؤثر في الوجدان. وليست هذه الفكرة من ابتداع أفكارنا ولا من القائمين على أمر الجامعة الإسلامية، ولكنهم مشكورين ومأجورين يستنون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتبعون توجيهاته إلى أدباء المسلمين وشعرائهم فِي صدر الإسلام الأول، وهى توجيهات تكشف عن عنايته صلى الله عليه وسلم بالأدب وتقديره لأثره وخطره.(27/23)
إن الأدب استجابة مباشرة للحياة بوسائل غير مباشرة. وقد يظن بعض الطيبين أنه طالما كان ديننا الإسلام أعظم الأديان فإن أدبنا لابد بالضرورة أن يكون أرقى الآداب. بينما الحقيقة أن حياة المسلمين هي المحك، فإذا كانت هذه الحياة راقية، وكان الأدب استجابة لهذه الحياة الراقية، ولكن حياة المسلمين لما تصل بعد إلى المستوى الذي أراده لها الإسلام، ومن ثم تعود اليوم إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجند الأدب لتحقيق هذه الغاية.
إن المسئولية الملقاة على عواتق المفكرين المسلمين وأدبائهم لمسؤولية جسيمة، وعليهم الاطلاع بها في ثبات وصبر وجد. وقد أتاحت الجامعة الإسلامية لهم بهذه البادرة منطلقاً قويا نرجو ألا تتراخى قواه.
وإحساسا بجسامة هذه المسئولية، فقد رغب إلي بعض الزملاء - ما دمت آخر المتكلمين قبل أن نعلن التوصيات- أن أقترح استدراك توصيتين هامتين:
أولاهما: أن تظل اللجنة التحضيرية للحوار مستمرة لمتابعة التوصيات وتتصل بجميع العاملين بحقل الأدب الإسلامي على مستوى العالم بأسره تتبادل معهم المشورة حول الوسائل الكفيلة بخروج هذه التوصيات إلى حيز التنفيذ. وحبذا لو دعت اللجنة الأدباء المسلمين ليتخذوا من هذه الكتابات صدى وعلامات في كتاباتهم.
ثانيها: العمل على تخصيص منح تفرغ للأدباء الإسلاميين في سائر فروع الأدب الإسلامي لإبداع إنتاج إسلامي رفيع والله نسأل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة ختامية لنائب رئيس الجامعة(27/24)
بسم الله الرحمن الرحيم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وإمامنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإنني أكرر شكري لله عز وجل تكرارا لا ينتهي مدى الحياة، وأحمده عز وجل أن يسر هذا اللقاء لهذه الصفوة من الأدباء، والمفكرين، ثم أشكر لأركان الحوار من أدبائنا ومفكرينا وعلماء المسلمين لاستجابتهم الخيرة لحضور هذا الحوار الذي قصدت به الجامعة وضوح الرؤية وتأكيدها لإشاعة منهج دراسة الأدب الإسلامي في الجامعات العربية والإسلامية جميعاً بإذن الله عز وجل.
إن اهتمامنا بالأدب الإسلامي ينبع من اهتمامنا بالإسلام والدعوة إلى الإسلام. وربنا عز وجل يوضح أهمية هذا الجانب في كتابه العزيز إذ يمتن على الإنسان بقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
فبدون بيان لا يمكن أن يتأثر المبيَّن له، والأدب في أصدق معانيه هو ذلك التعبير البياني، ورسول الهدى عليه الصلاة والسلام يقول: "إن من البيان لسحراً". وإذا كان البيان سحراً حلالا فإنه خليق بالجامعة الإسلامية والجامعات الأخرى أن تهرع بكامل طاقاتها وعزمها إلى تأصيل ما يكون به هذا البيان متأصلاً وتضع له المناهج وتتبنى تدريسه، لا في مادة في قسم، ولكن فيمَا يجعله أكبر تأثيراً على مسيرة الدعوة والتعليم،- بإنشاء قسم مستقل يعني بهذا الأدب وتراثه.(27/25)
ونحن في هذه الجامعة الإسلامية معنيون- أشد العناية- بذلك، وقد سبق أن عقد حوار مصغر في هذه الجامعة منذ سنة تقريبا بين أساتذة الجامعة نفسها، فنشأ من ذلك الاجتماع الشعور بالحاجة الماسة لتوسيع هذا الحوار ليكون على مستوى أشمل، فدعت الجامعة الإسلامية إلى هذا الحوار الذي أنتم أركانه.
وإنني لا أنسى جهود السابقين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في تبني مادة الأدب الإسلامي في كلية اللغة العربية وكذلك ندوة العلماء بلكنهو، حيث دعا صاحب الفضيلة أميرها الشيخ أَبو الحسن الندوي إلى ندوة للأدب الإسلامي.
إننا أيها الأخوة نعدكم بأننا سنبذل قصارى جهدنا بإذن الله عز وجل وعونه على تبني ما وضعتموه من توصيات وستقر أعينكم بإذن الله في لقاء مقبل في هذه الجامعة الإسلامية بأن توصياتكم لم تذهب أدراج الرياح لكنها أصبحت واقعا تلمسونه وتحسون أثاره.
أشكركم مرة أخرى، وأستعين الله عز وجل على بلوغ الأهداف التي نطمح وتطمحون إليها لتأصيل هذا الأدب الذي اعتنى به القرآن الكريم حتى شكل مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية التي تعني بعرض الدعوة في أسلوب قصصي رائع.
{وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} .
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا} .
فالأدب هو الأدب الإنساني الرفيع، الذي يصل الإنسان بخالقه، ويصهل الإنسان لأداء واجبه في هذه الحياة، وهو الأدب الإسلامي الذي حضرتم للحوار من أجله وانتهيتم به إلى هذه التوصيات التي ستكون موضع التنفيذ إن شاء الله.
أشكركم وأسأل الله أن يوفقكم دائما لفعل كل خير وإبعاد الناس عن كل شر فإن البشرية تحتاج إلى جهودكم الخيرة في مثل هذا الحوار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة فضيلة عميد كلية اللغة العربية عبد الله أحمد قادري، في اختتام الحوار.(27/26)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن ما ابتلي به العالم الإسلامي في القرون المتأخرة من مذاهب ونظريات أثرت على عقيدة شبابه وأخلاقهم وسلوكهم، فانحرف بذلك كثير من أبناء المسلمين في تلك التيارات وأعجبوا بها حتى أصبح بعضهم حرباً على دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم.
وكانت هناك صحوة بدأت على يد دعاة قلائل أول الأمر، وقد أهاب هؤلاء بشباب الإسلام أن يعودوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. وتوجه كثير من الشباب إلى هذه الدعوة، وتبينوا الخطر الذي يحيط بهم من الشرق والغرب على السواء وأخذوا يفكرون ويبحثون عن مخلص من المآزق التي انزلقوا إليها، وعرفوا أن المخلص هو بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وما كان المسلمون في عصورهم الأولى في حاجة إلى أن ينادوا إلى أدب إسلامي لأن أدبهم مثل حركاتهم وسكناتهم وعقيدتهم كلها نابعة من مصدرين أساسيين هما كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما اضطر دعاة الإسلام في هذا العصر إلى أن ينادوا بأدب إسلامي واقتصاد إسلامي لأنهم رأوا قلوب الشباب قد أفرغت من عقيدة الإسلام ومثله وأخلاقه وملئت بغير ذلك، فأرادوا مرة أخرى أن يفرغوها من تلك المفاسد ويملؤها بدين الإسلام.
لذلك كانت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في هذا العصر كغيره من الأنشطة الإسلامية ضرورة لا بد منها.
لذلك كتب الكتاب ودعا الدعاة إلى هذا الأدب الإسلامي ليؤثر في نفوس المسلمين بدلاً من أن يؤثر فيهم الأدب الجاهلي.(27/27)
ولقد كان لجامعة الإمام محمد بن سعود فضل في تقرير مادة الأدب الإسلامي في مناهج دراستها، وظهرت نتيجة لذلك كتابات وبحوث طيبة، ثم تلا ذلك دعوة ندوة العلماء بالهند ورئيسها فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي حفظه الله إلى الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي، وقد حضرها وفد من الجامعة الإسلامية وكانت نواة لمثل هذا الحوار.
وقد سعت كلية اللغة العربية إلى إيجاد مادة منهج الأدب الإسلامي ووافق عليها وتحمس لها فضيلة نائب رئيس الجامعة، وأقرها مجلس الجامعة وهي تدرس الآن في كلية اللغة العربية.
وظهر أن الحاجة ماسة لمناقشة مثل هذا الموضوع الخطير، وظهرت فكرة هذا الحوار وقدّم اقتراح به فوافق عليه فضيلة نائب رئيس الجامعة، ودعي إليه عدد من الأدباء والدارسين الذين لهم اجتهاد وتحمس في هذا الباب وعقد هذا الحوار الذي نرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون ثماره طيبة في الجامعة الإسلامية في جميع كلياتها، لأن الأدب الإسلامي - إذا أقرّ في كلية اللغة العربية- سيؤثر على بقية الكليات. وكذلك على بقية الجامعات الإسلامية إن شاء الله.
وأسأل الله أن يجعل الأدباء المسلمين والمفكرين المسلمين هم الطليعة والقادة الذين يقودون شباب المسلمين إلى الطريق الصحيحة.
وإذا كانت المقاييس قد اختلت في هذا الزمان، وأصبح الناس يكرّمون من لا يستحق التكريم من الذين يلعبون بعقول الشباب ويضعون لهم السموم في غذائهم ليخرجوهم من دينهم، فإننا نأمل أن يكون التكريم لدعاة الإسلام ولأدباء الإسلام وليس لغيرهم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توصيات ندوة الحوار حول الأدب الإسلامي التي عقدت بالجامعة الإسلامية
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد عبده ورسوله وبعد:(27/28)
فقد عقدت هذه الندوة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في المدة الواقعة بين الخامس والتاسع من شهر رجب عام اثنين وأربعمائة وألف للهجرة، وذلك بدعوة من نائب رئيس الجامعة فضيلة الدكتور الشيخ عبد الله الزايد.
وإن أعضاء الندوة يتوجهون بجزيل الشكر ووافر الثناء إلى فضيلة نائب رئيس الجامعة وعميد كلية اللغة العربية فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد القادري على ما لاقوه من اهتمامهما بالأدب الإسلامي، وعنايتهما به كما يشكرونهما على الحفاوة البالغة التي قوبلوا بها.
هذا وإن أعضاء الندوة ينتهزون هذه الفرصة ليتوجهوا بالثناء على جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومعالي مديرها الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي للسبق في تبني الأدب الإسلامي وجعله عنصراً أساسياً في قسم من أقسام كلية اللغة العربية وتوجيه عدد من المعيدين للتخصص به كما يثنون على ندوة العلماء بدار العلوم في لكنهو بالهند على تبني الأدب الإسلامي وتدريسه، وعقد الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي في شهر جمادى الثانية من عام واحد وأربعمائة وألف للهجرة.
ويتمنون على الجامعات الإسلامية عامة والعربية منها خاصة أن تتبنى هذه المادة العلمية الأساسية رعاية الإسلام وأدبه وعناية بآداب الشعوب الإسلامية، هذا وإن أعضاء الندوة قد انتهوا إلى التوصيات التالية:
أولاً- تبني الأدب الإسلامي والعناية به:
1- دعوة الوزارات المختصة والجامعات إلى تبني هذا الأدب، والعناية به وتدريسه في المراحل الثانوية، والجامعية ليعبر عن الإسلام وتعاليمه وينشر دعوته في الأرض وذلك عن طريق الكلمة الطيبة المؤثرة.
2- إدخال مادة الأدب الإسلامي بصفة عامة وأدب الدعوة بصفة خاصة في أقسام الدعوة والإعلام وفي السنوات التمهيدية من الدراسات العليا وإعداد الرسائل الجامعية التي تبرز هذا الأدب وتقعّد له، وتخرج الباحثين المختصين فيه.(27/29)
3- دعوة الباحثين من علماء المسلمين عامة وأدبائهم ونقادهم خاصة إلى إعداد البحوث في هذا الأدب، ووضع قواعده في النقد. وحثّ الجامعات على تبني ما يكتب في هذا المجال وطباعته ونشره وبذل المكافآت السخية لكتابه.
4- دعوة الجامعات في الأقطار الإسلامية لإنشاء فروع في مكتباتها للآثار الأدبية الإسلامية القديمة والحديثة المكتوبة باللغة العربية ولغات الشعوب الإسلامية وما كتبه المستشرقون في هذا الموضوع لتكون مراجع لدارسي هذا الأدب.
5- والعمل على ترجمة هذه الآثار من العربية وإليها وذلك لإفادة من الطاقات الأدبية في العالم الإسلامي، وتفاعل هذه الطاقات ورفد بعضها لبعض والسعي لطباعتها ونشرها بالوسائل المختلفة.
6- حض الجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية والنوادي الأدبية على تشجيع ذوي الطاقات الأدبية المبدعة، وإعداد المسابقات لكتابة القصص المسرحية والمسلسلات النابعة من الإسلام وتعاليمه وتوجيهاته ومنح الجوائز السخية لأصحاب الآثار الفائزة، والعمل على نشرها والكتابة عنها، وعن أصحابها في الصحف والمجلات.
7- وضع منهج متكامل للأدب الإسلامي تتفق الجامعات المتناظرة في العالم العربي على تبنيه وتدريسه في المرحلتين العالية والعليا.
8- إنشاء مجلة متخصصة بالأدب الإسلامي عامة وأدب الأطفال واليافعين والشباب خاصة.
9- أن تعمل المعاهد والكليات التي تدرس المذاهب الأدبية من كلاسيكية ورومنسية وواقعية وغيرها على عرض هذه المذاهب وبيان أنها كانت نتيجة لفلسفات واتجاهات أجنبية ثم الاهتمام البالغ بتفنيد وجوه مخالفة هذه المذاهب للإسلام، وتناقضها الشديد مع قيمه وتعاليمه وأن يعهد بتدريس هذه المادة إلى ناقد إسلامي بصير.(27/30)
10- أن تكون الموضوعات والنصوص الأدبية التي تدرس في المعاهد والكليات خالية من كل ما يخالف الإسلام، وأن تختار من الآثار الأدبية المفعمة بالحضّ على المثل التي تنبع من الفطر السليمة، وتتفق مع دين الله.
11- أن تهتم الجامعات اهتماماً كبيرا بالأدب الإسلامي للأطفال وذلك بتدريس هذا الأدب في المرحلتين العالية والعليا، وإعداد البحوث المتعمقة فيه لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة.
13- أن تشتمل كتب الأدب والمحفوظات في المراحل الدراسية كلها على نصوص مختارة مؤثرة للقراء المبدعين من القدماء والمحدثين الذين صوروا نكبة المسلمين في أولى القبلتين وثالث الحرمين، وبكوا ما حل بفلسطين على أيدي الصليبيين، واليهود ودعوا إلى تحريرها، كما تشتمل على نصوص تصور فرحة المسلمين باستعادة الديار المقدسة على يدي صلاح الدين.
13- أن يكون الأدب الإسلامي الذي نقدمه للطلاب في مراحل الدراسة جميعها وثيق الصلة - مادة ومعنى- بكتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان لما في ذلك من روعة بيانية، وعمق إيماني وروح نابضة بالخير والبر وتغذية مستمرة لأدبنا الإسلامي المعاصر.
14- التنديد بالأعمال الأدبية المكتوبة باللهجات العامية ومناهضة الدعوات للمحافظة على التراث الشعبي (الفولكلور) ، وبيان ما فيهما من خطر على لغة القرآن، وقطع لأواصر القربى بين المسلمين عامة، والعرب منهم خاصة.
15- دعوة الجامعات إلى إقامة مراكز للأدب الإسلامي تعنى بجمع مصادر هذا الأدب ومراجعه والموضوعات التي كتبت فيه والمقالات التي حضت عليه والرسائل الجامعية التي أعدت فيه.
16- دعوة القائمين على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى إنشاء فرع للدراسات العليا في الأدب الإسلامي وقواعده في النقد وذلك لتكوين فئة من المختصين بهذا الأدب الداعين إليه عن دراية وتعمق وخبرة.(27/31)
17- تخصيص منح دراسية للأدباء الإسلاميين من غير العرب في المعاهد والمراكز التي أنشأتها الدول العربية لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وذلك لتوسيع رقعة الأدب الإسلامي وتبادل الخبرات الأدبية عن طريق الترجمة من العربية وإليها.
18- اهتمام العاملين في مجالات الأدب الإسلامي بتأصيل علم الجمال وتوجيهه وجهة إسلامية والإفادة منه في الأعمال الأدبية الإسلامية ليتآزر الشكل مع المضمون.
19- يتوجه أعضاء الندوة بجزيل الشكر إلى الجامعات التي أنشأت معاهد ومراكز لتعليم لغة القرآن للمسلمين من غير العرب، ويأملون منها أن تضاف جهودها في هذا المجال الخيِّر، وأن توجه التعليم في هذه المعاهد والمراكز وجهة تعتمد على قراءة القرآن الكريم والتحلي من الحديث الشريف، ومعرفة أداء الشعائر على أكمل وجه.
كما يأملون من هذه الجامعات أن تعمل على افتتاح المدارس في تلك البلاد الإسلامية لتعليم الأطفال والناشئين لغة القرآن ودين الإسلام وتثقفهم بالثقافة التي تربطهم بإخوانهم العرب وأن تؤلف لهم الكتب الإسلامية التي تلائم مستوياتهم.
ثانيا- رسم بعض الخطوط العريضة للأدب الإسلامي الذي ننشده:
تقترح الندوة لتأصيل هذا الأدب وإغنائه ما يلي:
1- تعميق النظرة في مفهوم هذا الأدب القائم على التصور الإسلامي الصحيح، والربط المحكم المتوازن بين قيمه الشعورية والمعنوية وبين قيمه التعبيرية.
2- دراسة النظريات والمذاهب النقدية عند القدماء والمحدثين من نقادنا الإسلاميين، وذلك لاستخلاص السمات التي يجب أن تتوفر في الأدب الإسلامي والوصول إلى مذهب أصيل في الأدب الإسلامي ونقده.
3- العناية بدراسة طائفة من النصوص المختارة من القرآن الكريم والسنة المطهرة وخطب الراشدين دراسة متعمقة وذلك لاستجلاء مكامن الروعة الفنية فيها، وجعلها موجها ومقوما لإنتاج الأدباء الإسلاميين.(27/32)
4- الاهتمام بوضع القواعد والضوابط للفنون الأدبية الحديثة من قصة وأقصوصة ومسرحية ومقال وخاطرة وترجمة وغيرها لتكون هادية للأدباء في إنتاج أدب إسلامي سليم.
5- دراسة منهج القرآن الكريم والحديث الشريف في القصة والحوار والتصوير الفني والتملي من خصائص هذا المنهج ومزاياه للإفادة منهما في النتاج الأدبي الإسلامي.
6- دراسة فنون الأدب الإسلامي في عهودها الأولى وذلك كأدب الدعوة إلى الله، وأدب الغزوات والفتوحات ورصد تطورها في الخطابة وأدب المواعظ. وشعر الجهاد والحماسة الإسلامية.
7- دراسة الشعراء والأدباء الإسلاميين المغمورين من القدماء والمحدثين لتغذية الأدب الإسلامي وتقويته وتنويعه.
8- العمل الجاد على جمع الأدب الإسلامي الحديث ونقده وذلك لتقويمه وتوجيهه ولفت الأنظار إليه.
ثالثاً- توصيات عامة:
1- طباعة البحوث التي أعدت لهذه الندوة وتعميم توصياتها وإرسالها إلى سائر الجامعات في البلاد الإسلامية عامة، والعربية منها خاصة مع الدعوة إلى تبني الأدب الإسلامي الذي تبنته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة دار العلوم الإسلامية في الهند، والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وغيرها من الجامعات.
2- أن تعقد هذه الندوة المباركة في بلد من البلدان الإسلامية مرة كل عامين.
هذا وإن أعضاء الندوة ليهيبون بجميع المسئولين في وزارات المعارف والتربية والثقافة والإعلام وبالمجامع العلمية والنوادي الأدبية والمؤسسات الإسلامية ذات العلاقة أن يبذلوا كل ما في وسعهم لتأييد هذه التوصيات، وتهيئة جميع السبل الممكنة لتنفيذها والله من وراء القصد ومنه يستلهم العون والسداد.(27/33)
افتتاحية العدد
لفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية النتدب
إن الحمد لله أحمده وأستعينه. وأصلي وأسلم على خير خلقه. وأسأله سبحانه الصدق في القول والإخلاص في العمل، وبعد:
أخي القارئ: بهذا السفر تطوى مجلة الجامعة الإسلامية أربعة عشر عاما من عمرها المديد بإذن الله ـ وقد حملت على أكتافها خلال تلك السنين مختلف الجوانب العلمية والإعلامية لمختلف الكليات والأقسام والمجالس والمعاهد والدور التابعة للجامعة الإسلامية وقد حاولت جاهدة على تعدد المسئولين الكتاب والمحررين واختلاف التخصصات والمستويات والمشارب والرغبات أن ترضي الجميع، وتحملت في سبيل ذلك ما كان على الكليات والأقسام والمجالس المتخصصة أن تقوم به كل منها في مجال تخصصه. ولذا فلا عتب أن سارت أحيانا وئيدة الخطى مثقلة الكاهل فترى المجلد منها يضم بين دفتيه العددين والثلاثة لأنها تحمل أثقال غيرها فصعبت عليها المواءمة بين تلك المتطلبات والتخصصات بين علمية وثقافية واجتماعية.. الخ.
وبهذه المناسبة أزجي الشكر لكلية الدعوة وأصول الدين على ما قامت به من إصدار (صوت الجامعة) التي تولت جانبا من أعباء هذه المجلة وكلي أمل أن لا ينقضي العام الخامس عشر من عمر هذه المجلة إلا وقد قامت الكليات والأقسام والمجالس الأخرى بإصدار المجلات المتخصصة كل في مجاله أداء لواجبها ووفاء بالتزامها نحو رسالتها ومساهمة منها في نشر العلم والمعرفة في مجالها وليس ذلك من باب الإكثار والاستكثار من الصحف والمجلات وإنما هو من باب الالتزام بالتخصص الذي من شأنه توثيق الصلة بين العاملين في كل حقل ومتابعة الأمور والقضايا التي تهم العمل والعاملين فيه، ثم إن ذلك رصد لمساهمة كل هيئة في مجالها ومحاسبة لها أمام نفسها أو غيرها.(27/34)
إن التخصص هو المطلب الملح لمواجهة التخطيط المنظم الذي يحاك ضد رسالة الله سبحانه وتعالى ودعوة رسوله المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن المجلة واحدة من أقوى الصلات والروابط بين المختصين من العلماء في مختلف الحقول والمعارف فيما بينهم من جهة وبينهم وبين تخصصهم من جهة أخرى وذلك من خلال بحث ودراسة ومتابعة القضايا والأحداث والتطورات في عالمنا الإسلامي التي تتعلق بعلمهم وفنهم وهو أمر يحتاج إلى درس وقضية تحتاج إلى بحث ومنهج يحتاج إلى توجيه وفكر يحتاج إلى تصويب.
ومن للقيام بهذه الأمور غير المختصين بها وعلى رأسهم المشايخ وطلبة العلم في دور العلم.
وهذه الجامعة ولله الحمد من أقدرها وأولاها وهي ماضية في سبيل ذلك بعون من الله وسند منه وأسأله سبحانه الأجر والمثوبة والعون والتوفيق لكل من ساهم في هذا المجال وساعد عليه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.(27/35)
في المشارق والمغارب
الشيخ عبد الله أحمد القادري
هذا هو البحر الذي تريده.
واصلنا السير إلى ذلك الشاطىء، ودخلنا في سبخة فنصحت السائق ألا يدخل بالسيارة في هذا المكان، لأني رأيت آثار النذير في أماكن منه فاغتر بمكان ظاهره فيه الرحمة جاف أبيض، وباطنه فيه قبور لعجلات السيارات وشد بقوة على مدعس البترول فالتقى أسفل السيارة بالأرض وأصبحت العجلات في مأمن من دفع طاقة البنزين فنزلنا وأخذنا نجمع بعض الحشائش ولففنا ثيابنا وحاولنا دفع السيارة إلى الأمام أو إلى الوراء وما زادها ذلك إلا تمكنا في الأرض، فاتجه إليّ الشيخ عبد القوي قائلا: هذا هو البحر الذي تريده؟ - لأني كنت ألح في كل مدينة تقع بجانب البحر أن نذهب إلى الساحل لنتمتع بجمال البحر- قلت: الحمد لله نحن الآن في البر والبحر قريب منا فذهبنا إلى الشاطىء حيث وجدنا بعض الفقراء يصطادون بطريقة بدائية ولا يحصل الواحد منهم على سمكة صغيرة إلا بعد جهد وبقينا هناك حتى تعبنا ننتظر الإسعاف الذي كان السائق قد طلبه من الفندق فتأخر فذهبنا إلى بعض الأشجار ذات الظلال القليلة فانتظرنا حتى جاء الفرج ورجعنا إلى الفندق وكان عبد البر يرى أن نذهب إلى حديقة الحيوان وعبد الله ... يرى أن نذهب إلى المتحف فغلبناهما لأن كل واحد منهما صوت ضد الآخر وكان اختيارنا موحدا.
أحزاب الفواكه:(27/36)
وفي طريقنا إلى الفندق شرى عبد الله لنا فواكه متنوعة نعرف منها النارجيل الذي يضمن لصاحبه الطعام والشراب معا حيث توجد بداخل ثمرته بحيرة من الشراب الصافي الذي لا يحتاج إلى صبه في الإناء ليشرب، وكذلك فاكهة الباباي وهي فاكهة قشرتها قد تكون حمراء مشربة بخضرة وقد تكون لينة وفي داخل القشرة لب أحمر يوجد بداخله حبوب صغيرة شبيهة ببعر الغزال وهذه الثمرة قد تكون طويلة وقد تكون كروية وتصغر وتكبر على اختلاف شجرها وتسمى في بعض مناطق اليمن العمبرود وكانت فاكهتي المفضلة في صغري ووجودها في أرض الحجاز نادر ولذلك كنت في هذه الرحلة من حزبها وكان الشيخ عبد القوي من حزب الموز وكنت أفوز عليه في الانتخابات. وكان الشعب الذي له حق الانتخاب عبد الله باهرمز والابن عبد البر فإذا لم يوجد إلا الموز كنا جميعا من حزب عبد القوي وإن لم يوجد إلا الباباي كان عبد القوي معنا وهذا دليل على التسامح والتعاون والديمقراطية النظيفة وقد قلت مسجلا المعنى التام لهذا التعاون.
لعبد القوي والقادري على السوا
وفي ثمر الباباي والموز راحة
وفواكه أخرى أنعم الله بها على أهل تلك البلدان يصعب علينا حصرها وحفظ أسمائها وفي الفندق عوضنا أجسامنا ما فقدته من الطاقة في هذه الرحلة على ساحل مدينة جاكرتا من تلك الفواكه الطيبة وأسلمنا أنفسنا لربنا حتى أرسلها وله الحمد والشكر.
وفي عصر هذا اليوم طلب مني بعض الطلبة الأندونيسيين زيارة إحدى الجمعيات النشيطة في الدعوة حيث التقينا ببعض زعمائها الذين كانوا في حاجة إلى تصحيح بعض المفاهيم عن الإسلام فحصل من الاجتماع معهم خير كثير والحمد لله.
في مسجد: (سوندا قلابة)(27/37)
في الساعة السابعة والنصف ذهبنا إلى مسجد (سوندا قلابة) لصلاة العشاء والتراويح وعندما اقتربنا من المسجد رأينا الشوارع المؤدية إليه غاصة بالمشاة إليه قد أوقفوا السير لكثرتهم وأغلبهم من الشباب طلبة الجامعات والمدارس من سن العشرين فأقل إلى سن السابعة بل وأقل أيضا وبأيديهم السجادات وهم من الجنسين ذكور وإناث وعندما دخلنا إلى الساحة المحيطة بالمسجد- وهى واسعة مزروعة بالعشب وعلى يسار المسجد ساحة واسعة مخصوصة بالنساء ويحيط بها حجاب من القماش والمسجد يتكون من طابقين- وقد امتلأ المسجد بطابقيه وازدحمت الساحة وأخذنا نبحث عن مكان في الساحة الخارجية فلما رآنا بعض الشباب بلباسنا العربي تعاونوا فيما بينهم وتفسحوا حتى أفرغوا لنا مكانا يتسع لنا الأربعة وأعطونا سجاداتهم بإلحاح شديد منهم على قبولها، وبعد أن صلينا ركعتين أقيمت الصلاة وصلى الإمام صلاة تميل إلى التخفيف المجزئ وقراءته جيدة، وبعد صلاة الفريضة ألقى موعظة بلغته استغرقت نصف ساعة تقريبا ثم صلى التراويح والوتر بثلاث تسليمات: أربع ركعات وسلم ثم أربعا وسلم وكان يقرأ في كل ركعة مع فاتحة الكتاب بآيتين من سورة يوسف، ثم الوتر ثلاثا بتسليمة واحدة، ثم أخذ يدعو والناس يؤمنون تأمينا ترتج معه الحارة التي بها المسجد.
نفع التحريك فأين التفقيه؟(27/38)
كنا سمعنا قبل زيارة هذا المسجد أن هناك عناية خاصة بالشباب وأن جمعية قد أنشئت لربط النشء بالمسجد وعندما حضرنا هذا المسجد رأينا أثر ذلك التحريك واضحا فقد تحرك الشباب واستجاب لنداء الله وغصت به المساجد ولكن تلك العواطف الملتهبة والفطرة المستجيبة ينقصها التفقه في دين الله "ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" والذي دلنا على نقص الفقه في الدين.. ومما يدل على الجهل بالدين أن الفتاة تأتي إلى المسجد وهي لابسة اللباس الإفرنجي لا فرق بين لباسها ولباس الفتاة غير المسلمة. ولكن هذه الفتاة التي تأتى لأداء الصلاة تكون حاملة كيساً فيه فوطة (إزار) وخمار وسجادة، فإذا دخلت المسجد وأخذت مكانها للصلاة لبست الفوطة أسفل جسمها. وألقت خمارها على رأسها وبسطت سجادتها وصلت. فإذا انتهت من الصلاة خلعت الفوطة والخمار وطوتهما مع السجادة ووضعتهما في الكيس وخرجت في الشارع بلباسها غير الإسلامي وهكذا تكون في المنزل والمدرسة.
وهكذا تجد الفتى لابساً سراويل قصيرة وفوطته بيده فإذا أراد الصلاة لبس الفوطة وإذا فرغ منها خلعها ومشى مكشوف الفخذين.
لقد عرفت الفتاة- وعرف الفتى كذلك- إن ستر العورة في الصلاة واجب فعلا، هذا الواجب عرفاه وجهلا - في أغلب الظن- وجوب ستر العورة - أو جهلا العورة- خارج الصلاة فلم يستراها.
وهكذا تجد كثيراً من المسلمين عندهم عواطف إسلامية طيبة ولكنهم يجهلون كثيراً من أمور دينهم فيرتكبون المحرمات ويتركون الواجبات ولو فقهوا دينهم لكان لهم شأن غير هذا.
الجيش الشعبي أو النفير العام(27/39)
عندما خرجنا من المسجد رأينا السيارات في الشوارع واقفة والمصلون قد ملأوا الشوارع كلها فلم يقدر أهلها على تحريكها من أماكنها وابتعدنا مسافة عن المسجد فاستأجرنا سيارة وحاول قائدها السير فلم يقدر لأن المصلين انتشروا في الشوارع كلها فوقفنا مدة ننظر إلى هذه الأعداد الهائلة. والظاهر أن مسجداً آخر في حارة أخرى خرج المصلون منه فالتقت الجموع وزاد الزحام والهدوء يخيم على الأندونيسيين. بنظام ولو كانت هذه الجموع من بعض الشعوب الأخرى لكان الصخب والضجيج والتدافع مسيطرة على الشوارع.
عندئذ قلت للأخ عبد الله باهرمز: هكذا مساجد أندونيسيا كلها قال: نعم وهذا المسجد من المساجد المتوسطة وليس من الكبيرة قلت: لو ربي هذا الشباب تربية إسلامية سليمة كما أراد الله في منهجه: الكتاب والسنة لكانت هذه الأعداد كلها نفيراً عاماً أو جيشاً شعبياً يرهب أعداء الله. وأعداء الله يرهبون هذا المظهر على الرغم من ضعف التربية وهنا تذكرت المسجد النبوي الذي كان المصلون فيه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كلهم جنود دعوة وجهاد.
أجمع بينهما على سنة الله ورسوله:
عندما رجعنا إلى الفندق كنت مشغولاً بالكتابة فنبهني الشيخ عبد القوي إلى التليفزيون فالتفت فإذا تلك الفتاة الأندونيسية ترتل كتاب الله بصوتها، وهي محتجبة ما عدا وجهها وكفيها وتقرأ في المصحف لم ترفع عينها عنه قلت لعبد الله باهرمز هذه قارئة وهذا قارئ فاجمع بينهما على سنة الله ورسوله ليتعاونا معاً على حفظ كتاب الله وتلاوته وتعليمه فهش الشيخ وبش ولكنه أحجم خوفاً من جو الزوجتين وقد رآه من بعد فأخافه.
2/9/1400 هـ في منزل الدكتور رشيدي:(27/40)
اتصل الدكتور الرشيدي هاتفياً يطلب مقابلتنا في منزله لمناقشة منهاج زيارتنا لمدينة يورك جاكرتا فزرناه في الساعة الحادية عشرة وبعد أن فرغنا من مناقشة ما دعينا من أجله زرنا السفارة السعودية حيث التقينا بالقائم بالأعمال الأستاذ أمين مدني الذي قابلنا ببشاشة وعرض علينا استعداده لتسهيل أي أمر نحتاجه مما يقدر عليه. وكان السفير غير موجود آنئذ في جاكرتا.
أحرام على بلابله الدوح؟
وفي الساعة الثانية بعد الظهر طلب مني بعض الطلبة زيارتهم لمذاكرة بعض شئون الدعوة وأخذ التوجيهات في ذلك. وبقي الشيخ عبد القوي في الفندق يراجع القرآن الكريم فذهبت وعندما رجعت بعد صلاة العصر أخبرني الشيخ أن ضابطاً زاره في الفندق وسأله بعض الأسئلة التي تنبئ عن المضايقة:
متى جئتم وما مهامكم وكم تبقون وإلى أين تسافرون من جاكرتا ومن تعرفون....
وتعجبنا من هذه الأسئلة توجه لاثنين جاءا من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لا هدف لهم سوى التعرف على إخوانهم في شعب مسلم هو أكثر الشعوب الإسلامية عدداً وفي نفس الوقت يجتمع في هذا الشعب المسلم ستة آلاف وفد من نصارى العالم (البروتستانت) في مدينة تومو هنغ للتخطيط لتنصير أبناء المسلمين في هذا الشعب أو إخراجهم من إسلامهم ويحتفي بهؤلاء الوفود على أعلى مستوى في الدولة قلت للشيخ عبد القوي، لقد انطبق علينا وعلى أعدائنا النصارى في شعبنا المسلم "أندونيسيا"بيت الشاعر:
حلال للطير من كل جنس
حرام على بلابله الدوح
وقلت لقد نجح أعداء الإسلام من الغربيين في أمريكا وأوروبا في إشعارنا بالراحة وعدم المضايقة في بلدانهم عندما نزورها وبالقلق والمضايقة في كثير من بلداننا، ولعل هذا الضابط نصراني أو عميل للنصارى.
وكل ذلك لا يهمنا لأننا ما جئنا إلا لهدف واضح وعليهم أن يتحركوا معنا في كل الجهات التي سنزورها ليروا ذلك.
أين من يغار على حمل الأمانة(27/41)
3/9/1400هـ.
أخبرنا بعض الطلبة الأندونيسيين - وهو من طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ومن أصل عربي - أن جده أسس خمسمائة وخمسين مدرسة في شرق أندونيسيا وأنه أوقفها كلها على بعض المؤسسات الإسلامية التي كانت قائمة آنذاك حرصاً على استمرارها وحمايتها وإنه عندما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه أمام المدرسة القريبة من منزله إشعاراً للمسلمين بأن هذه المدرسة هي مدرستهم وليست مدرسته وأن عليهم أن يتحملوا هم مسئوليتها بعد أن لقي ربه.
واسم هذا الرجل عيدروس بن سالم الحضرمي وكان قد طرده الإنجليز من حضرموت فقام بهذا العمل الجليل. فأين من يغارون على حمل أمانة هؤلاء العظماء الذين سجلوا في التاريخ هذه الصفحات المشرقة بجهود شخصية مخلصة زكاها الله وجعلها تؤتي أكلها بإذنه، ليت المسلمين حافظوا على هذه الأمانة – ولو بدون المزيد عليها لا بل ليت الحكام تركوها للشعوب تحافظ عليها ولم يهدموها.
إلى يورك جاكرتا
4/9/1400هـ.
غادرنا الفندق إلى المطار استعداداً للسفر إلى مدينة يوك جاكرتا عاصمة أندونيسيا الأولى ومدينة الطلاب التي تضم خمسا وثلاثين جامعة. عدا المدارس والمعاهد الحكومية والأهلية، ومدينة المنافسة الشديدة بين المسلمين وبين النصارى.
ورأينا لطف المعاملة في المطار من الموظفين المسلمين الذين كانوا يظهرون لنا البشاشة والسرور ويعفوننا من التفتيش الدقيق الذي يفعلونه مع غيرنا والشعوب شبيهة- في فطرتها- بالمواليد "وكل مولود يولد على الفطرة".(27/42)
وأقلعت بنا الطائرة في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين وأخذت أنظر إلى منازل جاكرتا من الجو وهي تقع في داخل غابات وأحجامها صغيرة وهي في أشكالها شبيهة بالعرش التي تبنى في الجزيرة من الخشب والقشاش إلا أن منازل الأندونيسيين تبنى بالحديد والإسمنت والآجر (مسلح) وإن كانت منازلهم في الأرياف تبنى بنفس الشكل ولكن من الخشب والقصب القوي والأرض كلها خضراء إلا أنها أقل من ماليزيا وسنغافورة وهبطت بنا الطائرة مطار يوك جاكرتا في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثلاثين. وكان بعض الأساتذة والطلاب في انتظارنا وعندما دخلنا قاعة القادمين رأينا صوراً مجسمة مصنوعة من الخشب وهي ترمز إلى ما قبل الإسلام وهذه المناظر يراها المسافر أمامه في كل مكان، والقصد منها ربط الأندونيسيين بالعصور الجاهلية كالحال في بعض الشعوب العربية التي يحاول زعماؤها ربط أهلها بالجاهلية القديمة كالفرعونية والأشورية والكلدانية وغيرها.
وكان الإخوة قد حجزوا لنا غرفتين في فندف (سريمانجانتي) وهو يتكون من طابقين ومسنم مثل المنازل السكنية ويغلب عليه الطابع المحلي في أثاثه. وفي قاعة الاستقبال صورة منحوتة من الحجارة: رجل عليه عمة وبيديه مضربا دف وأمامه الدف قال لنا الإخوة هذه صورة السيد الشهيد أول من دخل هذه المنطقة ودعا إلى الإسلام عام (1300 م) وكانوا يحكون ذلك بعاطفة تدل على حبهم للرجل.
قالوا وكان أول ما جمع الأندونيسيين بالضرب على الدف وعندما اجتمعوا دعاهم إلى الإسلام.
قلت للإخوة الصور المجسمة محرمة باتفاق العلماء، ولا سيما صور الصالحين وما عبد قوم نوح الأوثان إلا عن طريق الصور وكثير من مساجدهم القديمة إذا جاء وقت الأذان بدأوا بضرب الدف ثم يؤذن المؤذن. وطبيعة الأندونيسيين طبيعة طرب والذي يريد أن يدعوهم إلى الله ينبغي أن تكون عنده بعض النكات المباحة يدغدغهم بها عندما يخاطبهم وهذا ما يجري عليه علماؤهم معهم.(27/43)
أطلعنا الإخوة على منهاج الزيارة الذي أعدوه لنا مستغرقا لأوقاتنا لها ما عدا وقت الراحة وتركونا لنرتاح بعد أن وافقناهم على ذلك المنهاج.
في مؤسسة تثقيف المكفوفين الإسلامية
هذه المؤسسة أنشئت في عام (1384 هـ) بعد أن رأى المسلمون بعض أبنائهم من المكفوفين وغيرهم من ذوي العاهات تتلقفهم أيدي التبشير النصراني ومنهم من يتنصر إظهاراً للاعتراف بالجميل لأهله، وهذه المؤسسة تقوم بتثقيف المكفوفين وخدمتهم وتدريبهم على مستوى الابتدائي والثانوي. وتتبع المؤسسة مكتبة وبها قاعة اجتماعات ضيقة للمدرسين والمدرسات.
كان أول لقاء في هذه القاعة بعد صلاة العشاء، وقد ألقى مدير هذه المؤسسة كلمة باللغة العربية شرح فيها ما تقوم به الجمعية من أعمال البر وذكر أن الحاضرين مدرسون ومدرسات يقومون بالتدريس في داخل الجمعية وفي الأسر.
ثم قرأ الشيخ عبد القوي ما تيسر من القرآن. وألقيت كلمة في العقيدة وطرحت بعض الأسئلة وبعد المناقشة عدنا إلى الفندق.
عودة إلى مكتبة مؤسسة تثقيف المكفوفين:
5/9 صلينا الفجر في مسجد الشهداء الذي غص بالمسلمين المصلين وألقيت كلمة بعنوان الغاية من خلق الإنسان، وفي صباح هذا اليوم زرنا هذه المكتبة وهى عامرة بالكتب إلا أن الكتب الإسلامية لا تتجاوز ثلاثين في المائة من الكتب الموجودة بها لأن أغلب الكتب الموجودة فيها جاءت هدايا من النصارى. وهدايا المؤسسات الإسلامية قليلة وذكر المسئولون أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث أهدي لهدم من قبل النصارى وكذلك دائرة المعارف الإسلامية وهم يستغربون عدم اجتهاد المسلمين في نشر كتبهم للمؤسسات الإسلامية واجتهاد النصارى في نشر كتبهم بين المسلمين وسلينا الإخوة بأننا سننقل هذه المشاعر ورغبتهم في الحصول على مراجع إسلامية للمكتبة فسروا بذلك.
قرود حلوة:(27/44)
ذهبنا بعد زيارة المكتبة إلى حديقة الحيوان. فلم نر فيها جديداً. إذ توجد بها الحمر الأهلية والوحشية والثعابين وبعض الطيور والقرود. وكان الابن عبد البر. وعبد الله بن سعيد باهرمز تأخرا عنا عندما قفلنا راجعين إلى بوابة الخروج فانتظرناهما وعندما جاءا قال عبد البر: والله يا أبويه وجدنا هناك قرود حلوة فكانت نكتة اليوم، وله نكتة أخرى مع القرود ستأتي في مكان آخر إن شاء الله.
جوامع في المنازل:
رجعنا من الحديقة ذات القرود الحلوة إلى الفندق فاسترحنا إلى الساعة الخامسة (قبل أذان المغرب بساعة) وانتقلنا إلى منزل عمري يحيى الذي طلب من اللجنة المنظمة لزياراتنا أن نتناول طعام الإفطار والعشاء عنده،"وعندما وصلنا استقبلنا هو وبعض أصدقائه وعرفنا بنفسه وأنه رئيس منظمة الرسامين الأندونيسيين التي أغلبها مسلمون (90%) وفي داخل منزله قاعة كبيرة قدمت فيها سفرة الطعام وصلينا المغرب وطلب منا أن نبقى لنصلي العشاء عندهم وكذلك التراويح وكانت مناسبة للتحدث معهم بين المغرب والعشاء لا سيما ما يتعلق بمهنة الرجل فقد نصحناه أن يلتزم في رسمه برسم المباحات التي تذكر الناظر بالله تعالى كالغابات والأشجار والفواكه والبحار والأنهار وكذلك المساجد وبيت الله الحرام وغيرها مما تكون فيها معان طيبة تدعو إلى العاطفة الإسلامية فأظهر الرجل الاستجابة.(27/45)
وعندما اقترب وقت صلاة العشاء رأينا الناس- وأكثرهم من الشباب بنين وبنات يفدون إلى هذا المنزل، فسألنا ماذا يريد هؤلاء قالوا أهل الحارة يصلون العشاء والتراويح في هذه القاعة بداخل المنزل طيلة ليالي رمضان وتوجد قاعات في كثير من الحارات في منازل بعض كبار السكان، لأن المساجد لا تتسع لجميع المصلين، وعندما أذن المؤذن كانت القاعة قد غصت بالمصلين وامتدت الصفوف خارجها في حوش المنزل إلى الشارع فصلى بنا إمامهم العشاء وصلى الشيخ عبد القوي التراويح وطلب مني إلقاء حديث في الحاضرين فألقيت كلمة مختصرة شرحت فيها معنى الصراط المستقيم وأن سلوكه يتضمن العلم به والعمل ونصحت الآباء والأمهات والمصلين أن يجتهدوا في تعليم الأبناء والتلاميذ مضمون هذا الصراط ويحثوهم على العمل بما علموا وأن يكونوا لهم قدوة كما نصحت الأبناء والتلاميذ أن يجتهدوا في التعليم من آبائهم وأمهاتهم وأساتذتهم وأن يسألوهم عن أمور دينهم ويعملوا بما يعلمون لينالوا ثواب الله وينجو من عقابه يوم الصراط الذي ينصب في الآخرة.
الإيمان بالوحي:
ثم ذهبنا إلى مركز تثقيف المكفوفين لإلقاء محاضرة أخرى للمعلمين والمعلمات وكانت بعنوان الإيمان بالوحي، استغرق إلقاؤها ساعة ونصف الساعة تقريبا ثم أجيب على بعض الأسئلة التي ألقاها الحاضرون وانتهينا في الساعة الحادية عشرة.
كأنا في المشعر الحرام
6/9/1400 هـ:(27/46)
في الساعة السادسة صباحا كنا على موعد مع جمعية الحجاج التي يرأسها الحاج مطري وهم أكثر من أربعة آلاف من الرجال والنساء وأغلبهم من كبار السن وممن وفقهم الله لحج بيت الله الحرام، وكنا نظن أننا سنجد أمامنا عدداً لا يتجاوز خمسمائة شخص ولكن عندما أقبلنا إلى المكان ذكرنا مظهر هذا الحشد الضخم وهم أعضاء هذه الجمعية كلهم بحشود الحجاج الذين يتجمعون في المشعر الحرام يوم النحر والذي كنا نخشاه أن يصر هذا العدد كله على مصافحتنا بعد الفراغ من إلقاء المحاضرة، كما هي عادة الناس هناك معنا، ومع كل مسلم يأتي من البلاد العربية وكان هذا اليوم هو يوم الجمعة وهو موعد اجتماعهم كلهم في هذا المكان يتذاكرون أمورهم ويتبرعون بما يقدرون عليه للجمعية. رحب الحاج مطري بالضيوف ثم قرأ الشيخ عبد القوي بعض الآيات القرآنية ثم ألقيت كلمة موضوعها إنما الأعمال بالخواتيم وتضمنت- مع الحث على التوبة والاستغفار الحث على تربية الأولاد.
في معهد المكفوفين:(27/47)
في الساعة السابعة والنصف قمنا بزيارة معهد المكفوفين التقينا فيه بالطلبة والطالبات والمدرسين والموظفين ورئيس المعهد وأمينه قدم بعض الطلبة فقرأ آيات الصوم من سورة البقرة عن طريق اللمس وألقى رئيس المعهد كلمة رحب فيها بالضيوف وطلب من المؤسسات الإسلامية مساعدة هذا المعهد لأنه يحتضن فئة لو تركت بدون عناية من المسلمين لكانت هدفا للنصارى وقال إن هؤلاء المكفوفين يتمنون أن يدرسوا في مدارس المملكة العربية السعودية ويؤدوا فريضة الحج. ثم تقدم أمين المعهد فشرح ما يقوم به المعهد لهذه الفئة، ثم قرأ الشيخ عبد القوي بعض الآيات القرآنية وألقيت بعده كلمة تضمنت تهنئة المسئولين في هذا المعهد بهذا العمل الاجتماعي الجليل ووصية الطلبة والطالبات بأن يصبروا على فقد هذا العضو الحبيب وأن في ذلك الصبر نيل ثواب الله وأن لا ينظروا إلى أنفسهم نظرة احتقار وازدراء بل عليهم أن يتطلعوا إلى أن يكونوا قادة علم وهدى وضربت لهم أمثلة ببعض من فقدوا بصرهم من المسلمين ولكنهم كانوا أئمة خير في الماضي والحاضر. ثم ألقى بعضهم أسئلة أجيب عليها وبعد ذلك غادرنا المعهد إلى الفندق.
العبد نام:
كان مقرراً أن نصلي الجمعة في مسجد الجهاد وكان المصلون على علم بذلك، ولكن النوم غلبنا مع التعب والسهر في الليل وتأخر الإخوة الذين كانوا يرافقوننا وعندما جاءوا ونحن نائمون علموا أننا لو قمنا نتوضأ لا ندرك الصلاة فذهبوا إلى المسجد وكان الناس ينتظرون بعد الصلاة فأعلن لهم تأخرنا فانصرفوا نادمين.(27/48)
وبهذه المناسبة فإنني أسجل اعترافنا بأن عواطف المسلمين في هذا الشعب ملتهبة وقلوبهم غامرة بحب إخوانهم المسلمين في الشعوب الأخرى ولا سيما العربية منها وبخاصة بلاد الحرمين الشريفين. تظهر تلك العواطف في حرارة الاستقبال من جموع كثيرة في كل مؤسسة زرناها تضيق بها الأماكن والساحات. كما تظهر في حرص جميع الحاضرين من الرجال على مصافحة الزائر حيث يقفون صفوفاً يتلو بعضهم بعضاً في زحام شديد فيضطرون هم ويضطر الزائر للوقوف مدة طويلة حتى يفرغ الجميع من المصافحة وهم من الشيوخ والشباب والأطفال ويحرص أطفالهم مع ذلك الزحام أن يأخذوا توقيع الزائر في كراساتهم للذكرى ويفرحون فرحاً شديداً عندما يأخذون توقيع زائر قدم من مكة أو المدينة.
وكنا في كثير من المعاهد والمساجد نسمع الأطفال وهم ينشدون عند قدومنا أناشيد ترحيب، وعند مغادرتنا ينشدون أناشيد وداع بعضها باللغة العربية وبعضها بلغتهم وإذا قام أحدنا لإلقاء كلمته في تلك الجموع فقال السلام عليكم اهتز المكان بصوت مرتفع فيه تظهر العاطفة الجياشة (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته) .
ولكن هذه العاطفة لا يصحبها فقه في الدين، ولذلك ترى بعض المظاهر في السلوك أو الصور المجسمة في المنازل، والرسومات التي لا تليق بهذه العاطفة والسبب هو الجهل وعدم التربية السليمة أو قلتها-.
في مسجد جامعة قاجة مادة:(27/49)
وفي الساعة السابعة مساء ذهبنا إلى مسجد جامعة قاجة مادة وهي إحدى الجامعات الحكومية الكبيرة في هذه المدينة. ويمتلىء المسجد بطلبة الجامعة بنين وبنات، صلى العشاء بالناس أحد طلبة الجامعة، ثم تقدم مدير الجمعية المحمدية فألقى كلمة عن صيام رمضان وقيامه باللغة الأندونيسية- وكنت أفهم مضمون كلامه بالنصوص التي يستدل بها من القرآن والسنة: وكان الطلبة منسجمين معه غاية الانسجام، وترتفع صيحاتهم بالضحك في بعض الأوقات. فسألت عن السبب فقيل لي أنه يأتي ببعض النكات المضحكة أثناء حديثه لاجتذاب انتباههم له. وهذه عادة علمائهم معهم عرفوا نفسياتهم فأتوهم من الباب الذي عرفوا أنهم يستطيعون الولوج إليهم منه. وقد سمى الشيخ المجذوب عندما التقينا به- كما سيأتي- سمى الأندونيسيين "الشعب الضاحك"، وقلت أنا مرة الذي لا يستطيع أن يضحك الأندونيسيين لا يستطيع أن يبكيهم وأن تأثير الواعظ في نفوسهم يتوقف على دخوله إلى تلك الأنفس من باب الدعابة ولكني في نفس الوقت أنصح الوعاظ الأندونيسيين وغيرهم عدم الإكثار من النكات المضحكة لأن ذلك سيحول بين الواعظ وبين التأثير المطلوب الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
ثم صلى بنا الشيخ عبد القوي صلاة التراويح فأعجبتهم قراءته فطلبوا منه أن يقرأ بعد ذلك على المنبر ففعل وكانوا جداً متأثرين بقراءته ثم طلب مني إلقاء كلمة- وهمس إليّ الأخ عبد الله باهرمز أنهم يرغبون أن يسمعوا مني رأيي في حالة المسلمين في أندونيسيا.
فقلت ما مضمونه:
1- أن الوقت الذي قضيناه في بلدكم قصير واختلاطنا بفئات الشعب غير متيسر حتى نستطيع الحكم عليه.(27/50)
2- لقد سررنا بإقبال الشباب على المساجد لأداء الصلاة وسماع المواعظ والدروس. ولكن لا أدري أهذا الإقبال مستمر في غير رمضان كرمضان أم لا. فإن كان مستمرا فأنتم على خير وإلا فعليكم أن تداوموا على هذا الخير لأن أحب العمل عند الله أدومه وإن قل.
3- أرى الشباب يزدحمون صفوفاً طويلة على أبواب السينما فهل هذا الشباب هو الشباب الذي تغص به المساجد في أوقات الصلاة أو غيره فإن كان هو هو فإن هذا لا يسرني ولا يليق بشباب المساجد الذي وفد إليها ليتزود بالتقوى أن يفد إلى قاعات السينما ليمحو إيمانه وعاطفته الإسلامية وإن كان غيره فإن على شباب المساجد أن يضاعفوا جهودهم لاجتذاب شباب السينما إلى المساجد.
4- هل يقبل هذا الشباب الذي يملأ المساجد إلى تعلم دينه والتفقه فيه أو أنه يعبد الله على جهل ولا يعلم حلالا ولا حراماً فإن كانت الأولى فالشباب الأندونيسي إلى خير وإن كانت الثانية فعليكم أن تبدأوا حياة جديدة هي حياة تعلم الدين والتفقه فيه والعمل به.
5- ثم وجهت نصيحة للفتاة المسلمة فقلت: هل هذا اللباس الذي أراه في المسجد بالنسبة للمرأة - وهو لباس حشمة ووقار- هو لباسها في الجامعة والشارع إن كان كذلك فهذا ما يسرنا وهو دليل على الالتزام بالإسلام وإن كان لباسها خارج المسجد مشابها للباس غير المسلمة لا حشمة فيه ولا وقار فإنها يجب عليها أن تتوب وأن تقتدي بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يليق بالفتاة المسلمة أن تلتزم بالإسلام في المسجد وتتحلل من أوامره خارج المسجد بل يجب أن تكون مسلمة في المسجد والجامعة والبيت والشارع. وهنا أخذ الشباب من الفتيان في التصفيق حتى ارتج المسجد إعجاباً بهذه النصيحة على الرغم من أنا كنا نوصيهم بعدم التصفيق.
وبعد الفراغ أخذ المصلون يزدحمون علينا لمصافحتنا وكانوا عددا كثيراً فصبرنا حتى أعاننا الله على الفراغ من استقبال ذلك العدد.(27/51)
ندوة المجادلة والمناظرة
كان هذا العنوان ضمن منهاج زيارتنا لمدينة يوك جاكرتا وهو الذي سيتم اللقاء من أجله مع بعض أعضاء هيئة التدريس وعمداء الكليات في الجامعة الإسلامية الحكومية.
وكان هذا العنوان مخيفاً. كنت أقول في نفسي: في أي شيء يريد هؤلاء أن يجادلونا ويناظرونا وهم في بلادهم وفي جامعتهم وعندهم مراجعهم ونحن ضيوف بعيدون عن المراجع والوقت ضيق وكنت سألت الأخ عبد الله باهرمز عن هذا المعنى فلم يشف لي غليلاً لأنه كان مثلي يجهل ما وراء الأكمة.
وعندما وصلنا إلى مقر الجامعة استقبلنا العمداء والأساتذة استقبالاً حارا وأدخلونا إلى قاعة: "المجادلة والمناظرة". وأقعدونا في واجهة الحلقة وبعد قليل جاء شيخ أظهر الجميع احترامه فرحب بنا وقعد بجانبنا- وكان هو مدير المجادلة والمناظرة.
تقدم أحد الأساتذة إلى المنصة وألقى كلمة ترحيب وعرفنا بهذه الجامعة فقال إنها أسست سنة (1950 م) وبها خمس كليات وهى: التربية، والشريعة، والدعوة، وأصول الدين. والآداب، وأن عدد طلابها بلغ أربعة آلاف طالب نسبة الطالبات ثلاثون في كل مائة. وتخرج في الجامعة سبعة آلاف طالب منهم ثلاثة آلاف دكاترة وأربعة آلاف حملة بكالوريوس.
ثم أحال إلى الأستاذ عبد المعطي علي - الشيخ الذي سبق ذكره- إدارة الندوة والشيخ عبد المعطي علي كان وزيراً للشئون الدينية سابقا وكرر معالي الوزير الترحيب وشرح لنا ما تقوم به هذه الندوة فقال إن هذه الندوة تقام كل ليلة سبت يقدم بها بعض الأساتذة بحوثا في موضوعات معينة وتناقش مناقشة تظهر أثرها نتائج طيبة وأن هذه البحوث يمكن أن تطبع قريباً. فعرفنا بذلك معنى المجادلة والمناظرة وهدأت النفوس وسكنت القلوب.(27/52)
ثم طلب مني معاليه أن أعطي الحاضرين معلومات عن الجامعة الإسلامية فتحدثت عن الجامعة: نشأتها وسبب إقامتها وأهدافها وأقسامها التعليمية وثمارها التي ظهرت في العالم الإسلامي ومناهجها وعدد طلبتها وعدد الشعوب الممثلة فيها وما يناله الطلبة فيها من مساعدات مالية ومادية ومعنوية.
ثم فتح الباب فتقدم كثير من الحاضرين بأسئلة في مجالات متعددة ودار النقاش حولها وفي الختام طلب العمداء والأساتدة أن نحاول ربط الجامعتين وتهيئة الجو للزيارة المتبادلة وكذلك تبادل المناهج للاستفادة منها وألحوا علينا في أن تزودهم الجامعة الإسلامية بالمراجع الإسلامية والكتب العربية وقال أحدهم لقد أكثرتم في محاضراتكم من دعوتنا إلى القراءة في الكتاب والسنة والتمسك بهما وهذا حق ولكنا نود أن تعلموا أنا فقراء من مراجع كتب التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي فعليكم أن تساعدونا بذلك.
واستمر النقاش والمذاكرة بلا جدال ولا مناظرة إلى الساعة العاشرة والنصف تقريباً طلبوا من الشيخ عبد القوي أن يختم الندوة بتلاوة القرآن الكريم ففعل.
ولقد كانت هذه الندوة بحق من أمتع اللقاءات وأكثرها فائدة لأنها كانت على مستوى عال من الثقافة والفكر وكان لمدير الندوة أثره في إنجاحها.
ما أجمل هذا المنظر:
7/8/1400هـ:(27/53)
في ساحل المحيط الهندي (جنوب غرب يوك جاكرتا) في الساعة السادسة صباحاً ذهبنا إلى ساحل المحيط الهندي (ويصر الأندونيسيين على تسميته بالمحيط الأندونيسي) وهو الذي يفصل بين الجزر الأندونيسية وقارة أستراليا من الجنوب وكان معنا الأستاذ سلامة سيف المسلمين أحد أعضاء اللجنة المنظمة لزيارتنا، وهو أحد مدرسي المدرسة الثانوية وكان سيرنا وسط أرض مزروعة بالأرز والموز وقصب السكر وأشجار النارجيل. والبامبو وغيرها من الأشجار والغابات. وتتخلل تلك الغابات قرى الفلاحين ومنازلهم التي بني بعضها مسلحاً وبعضها أساسه مسلح وسقوفه. وجدرانه من شرائط قصب البامبو القوي والموجود بكثرة ويستعمل في منافع كثيرة وكان الشارع غاصاً بالطلبة والطالبات الذاهبين إلى مدارسهم، وبالفلاحين الذاهبين إلى مزارعهم هذا راكب وهذا ماش، وكأنهم في مظاهرة في كل اتجاه لكثرتهم.
وعندما اقتربنا من البحر رأيناه من بعد وأمواجه ترتفع ارتفاعاً هائلا حتى كنا نظن في أول الأمر رشاش الموج المتصاعد في الجو سحاباً. وصلنا إلى الشاطئ الذي تقع على جانبه دكاكين صغيرة شعبية يبيع أهلها بعض المأكولات الخفيفة وشراب البيبسي وغيره. تركنا السيارة وذهبنا إلى قرب تلك الأمواج فوقفنا نشاهد عجباً من المباريات والمناورات بينها. فكانت الموجة ترتفع ارتفاعاً مذهلا ثم تنقسم وتكر راجعة فتأتي أختها في حالة هياج فتصطدم بها فيدفع الله بالسابقة اللاحقة.
وأخذت أفكر قائلا في نفسي لو كانت هذه الأمواج مستمرة في هياجها وقوتها ماشية إلى الأمام الأولى تسير والثانية تتبع وتدفع هل تستطيع الجبال الشاهقة أن تصد قوافلها عن إغراق اليابسة بأكملها؟!.
وكانت السحب تتكون فوق البحر وكأن تلك الأمواج تتسابق لإمدادها، وأخذ رذاذ المطر يتساقط علينا من تلك السحب وكأنها تكرمنا برش الطيب علينا.(27/54)
ولقد وقفت في هذا المكان أمام هذه المناظر متأملا هذا الهياج من البحر وتلك الأمواج التي تصطرع بقرب الجبل الذي اشتقت للاقتراب منه لأرى الأمواج وهي تنطحه الواحدة تلو الأخرى. وصخره تصمد مدة من الزمن ثم تضعف فتصرع متكسرة ورأينا آثارا تدل أن البحر قد أكل كثيراً من هذا الجبل موسعاً أمام موجه المساحة ليجول ويصول أكثر.
وكنت أود أن أقف كثيراً أمام البحر الهائج. بل كنت أحب أن لا أدعه- وهذه عادتي مع البحر- ولولا خوفي من هياجه وعدم رحمة أمواجه لتربعت ذلك الموج أصعد بصعوده وأهبط بهبوطه. وقلت للإخوة: ما أجمل هذا المنظر الذي يصعب عليّ فراقه!.
وكان موعد لقائنا مع الجمعية المحمدية قد اقترب فقررنا العودة وكنت أتقدم نحو السيارة خطوتين ثم التفت لأملأ عيني بالنظر إلى تلك الصورة العجيبة التي لا أظن أنها تمحى من ذاكرتي.
ولات ساعة مندم:
عندما كنا واقفين على شاطئ البحر وكنا لابسين اللباس العربي وهو غريب على كثير من الناس وكان المكان فارغاً إلا من أشخاص قليلين هنا وهناك، وشاهدنا شخصين بعيدين عنا في جهة الشمال على يميننا وأخذا يسرعان الخطى إلينا وعندما اقتربا منا عرفنا أنهما رجل وامرأة وكان لباس المرأة غير لائق وحاولا أن يقربا منا مظهرين لنا البشاشة إلا أنهما قوبلا منا بالصد والابتعاد فاقتربا من الأخ سلامة. لأنه يلبس بنطلوناً وقميصا والظاهر أنهما سألاه عنا وهو سألهما من أين فأخبراه أنهما استراليان وعندما رأيا ابتعادنا عنهما ذهبا بعيداً عنا.(27/55)
وبعد أن ركبنا السيارة وقفلنا راجعين أخذت أفكر في تقصيرنا نحو هذين الشخصين الذين أقبلا إلينا بتلك البشاشة أليس الأجدر بنا أن نشرح لهما مبادئ الإسلام ونرغبهما في الدخول فيه؟ فندمت ندماً شديداً على ذلك التقصير ولكن وقت الندم قد فات والسبب الذي جعلنا نصد عنهما هو مظهر المرأة بذلك اللباس الذي يخشى الإنسان على نفسه من الإثم من النظر إليها إضافة إلى وجود بعض الشباب معنا، والله المستعان.
الرصد الرسمي:
وعندما كنا راجعين- بعد مسافة قصيرة من الساحل- وجدنا شابتين بجانب الطريق وبيد أحدهما مكبر صوت وهو يتحدث مشيرا إلى قائد السيارات الذاهبين والعائدين بالوقوف، قلت: ماذا يريد هذان؟ قال الأخ سلامة: هؤلاء موظفون من قبل الحكومة يأخذون ضريبة السير في هذا الطريق. لأنه سياحي وكان الطريق تحت الإصلاح. فأخذ المبلغ المقرر. وأظنه آلاف الروبيات الأندونيسية. وإن كانت آلافها غير مخيفة بعد معرفة قيمتها وسلم القائد بطاقة تثبت أنه تسلم المبلغ.
الرصد الشعبي:(27/56)
ومضينا إلى أن قطعنا ما يزيد عن خمسة كيلو ترك قائد السيارة الطريق الذي كنا جئنا منه ومال إلى اليسار مفضلا أن يكون الرجوع في طريق آخر من أجل أن نرى مناظر جديدة، وهذا الطريق أفضل من الآخر أيضاً. ويجب أن يمر على جسر فوق النهر والجسر مصنوع من قصب البامبو، فإذا شاب واقف يطلب من السائق الوقوف وأخذ كل منهما يرطن للآخر وفهمت أن نزاعا حصل بينهما. لأن طبيعة الأندونيسيين هادئة لا يرفع أحد صوته على الآخر في المخاطبات العادية فسألت ماذا حصل فقيل لي أن هذا الجسر صنعه أهل هذه القرية ولذلك عينوا لهم مندوباً هنا يأخذ من المارة ضريبة. فسألت: كم روبية يأخذون منا الآن قالوا خمسمائة روبية. أي ما يعادل ريالين بالعملة السعودية، قلت: أعطوهم فأعطوهم ومررنا. وهذا الجسر يبقى في الفترة التي يكون فيها ماء النهر قليلاً أما إذا جاءت الأمطار وفاض النهر فإنه يحمل الجسر مع أول قافلة من قوافله القوية.
حركة دائبة:
وكنا- ونحن نسير في الطريق- نرى كثرة الناس: فلاحين يحملون على ظهورهم قصب البامبو أو أنواعاً أخرى من الفواكه والثمار ومنهم من يحمل على دراجة عادية ومنهم من يحمل العربة التي تجرها الخيول أو البقر، وقد يحملون الدراجة العادية بحمل ثقيل ثم يتعاون اثنان أو ثلاثة في دفع هذه الدراجة.
ورأينا عجائز من النساء طعن في السن وهن يقدن الدراجات العادية لمسافات طويلة - أما الفتيات فالأمر طبيعي بالنسبة لهن، وقد لا يفرق الإنسان بين الفتاة والعجوز إلا إذا اقتربت منه لأن الأحجام متقاربة وكذلك الألبسة، وعندما دخلنا المدينة مررنا بالفندق لاصطحاب الابن عبد البر معنا. لأنه فضل النوم ولم يرافقنا إلى البحر وقد ندم على ذلك.(27/57)
حقيقة القات في ضوء العلم والدين
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" [1] فقد نصب بهذا الحديث الجامع مَعْلما منيراً لأولي العلم، يعالجون به العشرات من المشكلات الطارئة مما لم يرد به حكم حاسم عن الله ورسوله.
وفي ضوء هذا المعلم جرى كبار فقهاء الإسلام في مواجهة هذا الضرب من الأحداث، فلا يزالون يدققون في جوانبه وأعماقه حتى يتحقق لهم قربه من الضرر والمضارة أو بعده منهما فينتهون إلى القرار المتفق مع مقاصد الشريعة..
ولقد يكون المشكل العارض مترددا بين الحل والحرمة، فيلجئون إذ ذاك إلى الحل النبوي الصريح في قوله صلى الله عليه وسلم "الحلال بَيّن والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" [2] .
ولا جرم أن وقوف أولي العلم عند هذه المعالم الصحيحة كاف لجمعهم على الحق إذا تجرد كل منهم من أهواء النفس التي كثيراً ما تفسد رؤية الفقيه..(27/58)
ولنضرب لذلك مثلا قريبا من مشكلة التدخين التي طرأت على العالم الإسلامي في العصور المتأخرة، فإذا علماؤه مختلفون في أمره، أهو من الملحقات بالخبائث المحرمة بالنص، أم هو من الطيبات المباحات؟ ... وتسلل الهوى إلى بعضهم فإذا أحدهم يقول: "إن كان حلالاً فقد شربناه، وإن يكن حراما فقد أحرقناه".. وطبيعي أن مثل هذا القول أقرب إلى اللغو منه إلى العلم.. وكان الأحرى بهذا الفريق المتردد في تحريمه أن ينظر إلى الموضوع على ضوء التوجيه النبوي الذي يقضي بأنه من المشتبهات التي يتنزه أولو الأحلام عن مقارفتها- فكيف إذا تذكر قول ربه القاطع المانع: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} وهو مقر من أعماقه بأن التدخين من أنواع التبذير الملحق لأهله بأشياع الشيطان..
هذه مقدمة لعل فيها ذكرى لإخوة لنا في الله فرق بيننا وبينهم الاجتهاد في شأن القات، فذهبنا يمينا وذهبوا يسارا، والمتوقَّع من أهل الإيمان إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
. إن موضوع القات كموضوع التدخين ونحوه من الأحداث العارضة بعد خير القرون، ولابد من الرجوع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله للتحقق من شأنه وحكمه..
وقد شاء الله أن يسلط على موضوع القات مزيدا من الأضواء بما انتهى إليه خبراء الطب والمخابر التحليلية من معلومات جديدة عنه تبين على وجه القطع أنه من الخبائث التي لا تتجاوز نطاق الضير والضرار.. وبذلك ينتقل حكمه من دائرة المشتبهات إلى دائرة المحرَّمات..(27/59)
ولقد أيد هذه الرؤيةَ الحكيمةَ العشراتُ من فقهاء الإسلام وذوي التخصصاتِ العلمية المختلفة، والذين شاركوا في (المؤتمر الإسلامي العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات) المنعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة خلال 27-30/5/1402هـ وتناول موضوعَ القات أثناءئذ العديدُ من مؤلفي البحوث المقدمةِ إلى المؤتمر.. أكتفي بنقل الفقرات التاليات منها-
1- في عرض لأنواع المخدرات الطبيعية يقول الدكتور حامد جامع- عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة من الجامعة الإسلامية- في ص 10 و 11 من بحثه:
"هي المخدرات المشتقة من نباتات الخشخاش والقنب والكوكا والقات وغيرها.. والقات نبات مخدر يزرعه أهل اليمن.... الخ الخ.
2- وفي ص 5 من بحث الدكتور عادل الدمرداش أخصائي الطب النفسي بمستشفى الطب النفسي بالقاهرة يقول:
"أما القات الذي ينمو نباته في اليمن والحبشة والصومال فتمضغ أوراقه.. ويسبب مضغ القات عدمَ الشعور بالتعب والشعور بالنشاط وفقدانَ الشهيةِ وضعفَ مقاومة الجسم للأمراض..".
3- ويقول الدكتور صلاح الدين أحمد عثمان أستاذ ورئيس قسم الكيمياء والنبات بجامعة الملك فيصل في بحثه "التصنيف الكيميائي للمسكرات والمخدرات وتأثيرها البيوكيميائي"ص 21 "المخدرات الطبيعية هي مجموعة من المركبات بعضها عبارة عن قلويات طبيعية في ثمرة الخشخاش أو القنب الهندي أو أوراق القات..
إلى أن يقول: "وينتج عن تعاطي هذه المخدرات تغييرات سلوكية للأفراد تظهر في صورة انتعاش ظاهري مع بلادة فكرية، وكذلك الشعور بالخوف والميل إلى النعاس..
وعن تأثيره يقول: يشابه تأثير الحشيش حيث يؤدي إلى الخمول الجسدي والبلادة الفكرية، وعدم القدرة على التصرف.. يحول الشخص إلى فرد غير منتج وبليد ومتحجر وخامل، حيث يؤثر على المجتمع محوّلاً إياه إلى مجتمع مستكين".(27/60)
وفي هذه الفقرة تفسير دقيق لما يريده الدكتور الدمرداش (بعدم الشعور بالتعب والشعور بالنشاط) على أنه حالة ظاهرية فقط بدليل كون القات مؤديا إلى فقدان الشهية ومضعفا للجسم عن مقاومة الأمراض.. وهو بذلك يشارك المخدرات الأخرى في تغيير السلوك وإيهام الضحية بالنشاط الكاذب..
هذا مع اتفاق هؤلاء الفضلاء جميعا على اعتبار القات من زمرة المخدرات.
وبناء على هذه المعلومات الحاسمة صدر قرار (المؤتمر الإسلامي العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات) بشأن القات في التوصية التاسعة عشرة كما يلي:
"يقرر المؤتمر بعد استعراضه ما قدم إليه من بحوث حول أضرار القات الصحية والنفسية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية أنه من المخدرات المحرمة شرعا ولذلك فإنه يوصي الدول الإسلامية بتطبيق العقوبة الإسلامية الشرعية الرادعة على من يزرع أويروج أو يتناول هذا النبات الخبيث…".
. وما أراني مغاليا إذا قلت بأن في هذا القرار نوعا من الإجماع الملزم للمسلم، إذ هو منبثق من التوافق التام بين الدين والعلم، لأن المقرين له صفوة من فقهاء ومفكري العالم الإسلامي على امتداده وعلى اختلاف مذاهبه..
فمن حقه على أهل العلم أن يتلقوه بالقبول والرضا لأنه حَسَمَ كل خلاف بينهم في شأن هذه المادة التي استهوت الكثيرين منهم حتى جعلتهم أسوة غير حسنة لعامة الناس.(27/61)
ومن هنا كان مثار الدهشة أن يأتي الاعتراض على هذا القرار الرصين من جانب فئة من إخوتنا في اليمن الشمالي. وكلهم من أهل الفضل.. ولا حجة لهم في ذلك من نقل ولا عقل، بعد أن تلاقى العقل والنقل على إصداره.. فلم يبق مسوغا لاعتراضهم سوى حكم العادة التي ألفوها، فتعذر عليهم التحرر من ربقتها فهم بذلك أشبه بالمُدْمِن على التدخين تعرض لعينه أثاره في إتلاف أجهزة الحياة من خلال الشرائح البشرية التي خربها التدخين فلا يزيد على القول، إني أدخن منذ عشرات السنين وها أنذا لا أزال على قيد الحياة!.
وإن هذا الموقف ليذكرني بذلك الحوار الطريف الذي دار ذات يوم بين طبيب للعيون وأحد المرضى..
قال الطبيب لصاحبه وهو يحاوره: إن ما تشكوه من ضعف بصرك سببه الخمر، فعليك بالإقلاع عنها وإلا فقدت بصرك كله في النهاية..
وأجاب المريض وعلى فمه ابتسامة السخرية (إنك لمخطئ أيها الطبيب بدليل أن الخمر يضاعف من قوة بصري حتى لأرى الرجل في حالة السكر اثنين بدل الواحد…!
ولعل إخوتنا الأفاضل أصحاب الاعتراض إنما يدافعون عن القات من خلال ألفتهم إياه، التي تحجب عنهم مساوئه، فلا يرون منه إلا الجانب السار.. ولا عجب:
ولكن عين السخط تُبدي المساويا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولعل أطرف ما في اعتراضهم المنشور في (السياسة) الكويتية بعنوان (فتوى دينية) ذلك الادعاء الغريب بأن العلماء الذين أفتوا بتحريم القات إنما أخذوا ببعض الإشاعات، وكان عليهم أن يتصلوا بالعلماء (الذين يعايشون القات منذ دخوله اليمن) ..!(27/62)
وقد نسي مُوَقّعا هذه الفتوى أَصلحنا الله وإياهما أَنهما بانتصارهما للقات قد رضيا أن يكونا موضع الاتهام، فلا يلتفت إلى دفاعهما عنه، لأنه دفاع عن الهوى.. وآفة الرأي الهوى. أما المُفتون بتحريمه فهم المحايدون الذين بتجردهم عن الهوى يملكون القدرة على الرؤية السليمة التي تفرق بين مختلف الادعاءات فتعطي كل شيء وزنه الحق..
هذا مع العلم بأن قراء تلك الفتوى لا يسلمون لهما بأن رأيهما هو رأي علماء اليمن جميعا في شأن القات، لأنهم لا يتصورون أن كل أولئك العلماء من المتعاملين معه ... لسبب هام وهو ثقتهم بالحكمة القائلة: الإيمان يمان والحكمة يمانية..
. وأخيراً لقد استوقفني بين هؤلاء الإخوة المعترضين على قرار المؤتمر في قضية القات اسم سماحة المفتي الشيخ أحمد زبارة، فلهذا الرجل في نفسي ذكرى لا تمحوها الأيام ... ذلك أني سمعت ذات ليلة صوته الكريم يتدفق بإطراء الحياة الشيوعية التي شاهدها في موسكو عقب عودته من زيارة لها ساقته إليها الجواذب السياسية التي يحسنها ساسة الكرملين، والتي طالما ساقوا إليها غيره من (المفتين) و (رجال الدين) في مصر وسورية فلقوا من إكرامهم ما أطلق ألسنتهم بفنون الثناء عليهم، حتى ليكاد سامعوا إطرائهم يتساءلون.. وهل أصبحت موسكو حامية الإسلام بعد أن كانت مَباءةَ الإلحاد في العالمين!! ...
وما أحسبني اليوم بملوم إذا أنا أعربت عن خشيتي أن تكون شهادة الشيخ أحمد بجانب القات من طراز شهادته السابقة لمصلحة الشيوعية..
. والله نسأل أن يجنبنا وإخواننا الزلل، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه..
.. ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ... إنه خير المسئولين..
... والحمد لله رب العالميين ...
في محاورة شعرية دارت بين الشيخين حافظ أحمد الحكمي.. ويحيى بن محمد المهدي حول القات يقول الشيخ حافظ رحمه الله..
ليلا نهاراً وما احتاجوا إلى القات(27/63)
أئمة الدين في إحيائه جهدوا
وبحث علم وفي أنواع طاعات
وقسموا الليل في تسبيح خالقهم
ولا استعانوا بمضغ للنباتات
فما توانوا ولا ملوا ولا كسلوا
عن طيبات لهم حلّت ولذات
أسلاهم الشوق والذوق الذي وجدوا
في جل أوقاتهم عن بعض أقوات
واستغرقوا الوقت في خير به اشتغلوا
معالم الشرع من كل النقيصات
أولئكم حفظ الله العظيم بهم
وبيننا باحثالات الحثالات
ما أبعد الفرق بين القوم في صفة
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه ابن ماجه ومالك وأحمد.
[2] من حديث متفق عليه.(27/64)
ملاحظات
حول كتاب عقيدة السلف والخلف
للشيخ عبد القادر السندي
تتمة الحلقة الأولى. السالفة في ملاحظاتي حول كتاب (عقيدة السلف والخلف) ، أكمل ما بدأت فأقول:
إن الأمة قد انحرفت بعد ما حكمت عقلها وتركت التحكيم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل العلمية فتأثرت بما جاءها من فلسفة اليونان ونظرياتها المادية حسب الخطة المحكمة المدروسة وذلك بعد مضي وقت ضئيل من تلكم الانتصارات الرائعة التي أبهرت العقول البشرية جميعاً في الخلافة الإسلامية الراشدة العظيمة في تلك القرون المفضلة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح المبارك: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث.
نعم: قال الإمام الذهبي قال مؤمل بن إسماعيل: رأيت همام بن يحيى في النوم فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، وأمر بعمرو بن عبيد إلى النار "وجاء عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه رأى في النوم عمرو بن عبيد قد مسخ قرداً". قال أحمد بن زهير: سمحت يحيى بن معين يقول: كان عمرو بن عبيد رجل سوء من الدهرية، قلت وما الدهرية؟ قال: الذين يقولون لا شيء إنما الناس مثل الزرع، وكان يرى السيف.
قال المؤلف - أي الذهبي - لعن الله الدهرية فإنهم كفار وما كان عمرو هكذا" [1] .
قلت كلام يحيى بن معين الذي هو إمام في الجرح والتعديل الذي نقله الإمام الذهبي في ميزانه وإسناده صحيح فكيف يرده بعد ثبوته؟.
هذه السلسلة الشيطانية التي أدخلت الشر العظيم في الإسلام ولها أثرها البارز في تغيير هذا الخط الواضح الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليه ولا تزال في الأمة بقية تنهج هذا المنهج وتسلك هذا الخط.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة هذا الزنديق عمرو بن عبيد ما نصه:(27/65)
"وعمرو بن عبيد القدري: وهو عمرو بن عبيد بن ثوبان ويقال ابن كيسان التيمي مولاهم أبو عثمان البصري. من أبناء فارس. شيخ القدرية والمعتزلة".
ثم قال: قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه، وقال علي بن المديني ويحيى بن معين: ليس بشيء، وزاد ابن معين: وكان رجل سوء وكان من الدهرية الذين يقولون: إنما الناس مثل الزرع. وقال النسائي: ليس بثقة وقال شعبة عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث، قال حماد بن سلمة: قال حميد: لا تأخذ عنه فإنه يكذب على الحسن البصري، وكذا قال أيوب وعون وابن عون، وقال أيوب: ما كنت أعدله عقلاً. وقال مطر الوراق: والله لا أصدقه في شيء. وقال ابن المبارك: إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر" [2] .
قال السندي: أي في إثبات القدر تفريطاً وإن العبد مجبور على فعل القبائح وليس له ذنب في ذلك، هذا مذهب قبيح وإلى هذا أشار الإمام ابن حبان بإسناده الصحيح في كتابه "المجروحين"في ترجمة هذا الفاسق الفاجر إذ قال رحمه الله تعالى: سمعت أحمد بن الخشرم بمرو يقول: سمعت عبد الحميد بن إبراهيم يقول: سمعت أبا عبيدة يقول: وسمعت معاذ ابن معاذ يقول: كان عمرو بن عبيد يقول: "إن كان" {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من عتب" [3] .
قلت هذا هو الكفر الصريح والشرك الأكبر وسببه تحكيم العقل، ونقل هذه العبارة القبيحة العلامة ابن كثير في البداية والنهاية [4] وعزاها إلى ابن حبان.
وترجم له الإمام البخاري في تاريخه الكبير قال: "مات (سنة) ثلاث أو اثنتين وأربعين ومائة في طريق مكة" ثم قال رحمه الله تعالى: "قال عمرو بن علي سمعت أبا داود حدثنا همام قال: سمعت الوراق يقول: عمرو بن عبيد يلقاني فيحلف لي على هذا الحديث فأعلم أنه كاذب" [5] .(27/66)
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في "البداية والنهاية": وقد روي عنه أنه قال: "إن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة".
قلت: نقله الإمام الذهبي في الميزان بغير هذا اللفظ وقال: "لم يكن لله على العباد حجة"وقال الخطيب في تاريخه وساق إسناده الصحيح بقوله: أخبرنا محمد بن أحمد بن حسنون النرسي. أخبرنا علي بن عمر الحربي حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا معاذ بن معاذ قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: "إن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة" [6] .
قلت: هكذا رواه ابن حبان في المجروحين وإسناد الخطيب رجاله كلهم ثقات، وقد أثبت الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ترجمة هذا الضال بأسانيده الكثيرة غيَّه وكفره وإنكاره لعدة آيات (من) الكتاب الحكيم وكذا السنة النبوية الصحيحة ومنها إنكاره حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما والخطيب في تاريخه وهذا نصه:
قال الخطيب بإسناده هكذا: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال: سمعت أبا عامر عبد الوهاب محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال يقول: سمعت أبى يقول: سمعت عيرو. بن عبيد يقول وذكر حديث الصادق المصدوق فقال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته. ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له ليس على هذا أخذت ميثاقنا".(27/67)
قلت هذا الحديث لم يذكر في النسخة المطبوعة من تاريخ بغداد في أصل الكتاب إلا أن المعلق على الكتاب أورد هذا الحديث على هامش الكتاب وقال هو حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع إلى أن قال: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة....." الحديث.
قلت: هكذا أورد هذا المعلق هذا الحديث في هامش الكتاب فإذا كان الحديث موجودا في أصل الكتاب ثم حذفه هذا المعلق من الأصل وأورده في الهامش فهذه خيانة عظيمة وإذا كان ساقطاً من أصل النسخة المخطوطة فالعلم عند الله تعالى، ولكن الذي يغلب على الظن أن الخطيب لا يفعل هكذا بل يطرد الحديث بتمامه إذا كان لديه رواية في ذلك. فلا أستطيع أن أحكم على هذا العمل الآن إلا بعد الإطلاع على المخطوطة الأصلية من تاريخ بغداد.
وقد أخرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه الحلية [7] وهذا إسناده:
حدثنا محمد بن خنيس. ثنا يوسف بن أسباط، عن حبيب بن حيان عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود: ثم ذكر الحديث. وقال الحافظ أبو نعيم في نهاية الحديث: صحيح ثابت متفق عليه من حديث زيد بن وهب غريب من حديث حبيب لم نكتبه إلا من حديث يوسف معاهدة أبي الحسن الدارقطني هكذا في النسخة.
وأخرجه أيضاً في موضع آخر [8] وهذا إسناده.(27/68)
حدثنا محمد بن أحمد، ثنا محمد بن أسلم ثنا قبيصة وحسين بن حفص ومحمد بن كثير قالوا: ثنا سفيان عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود ثم ذكر الحديث فهذه الرواية المخرجة في الحلية بإسنادين عن زيد بن وهب تدل على أن الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى أخرجها في تاريخ بغداد في ترجمة عمرو بن عبيد ولكنها حذفت من قبل النساخ أو المعلقين والعلم عند الله تعالى. والحديث أخرجه الأئمة البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود والترمذي وابن واجه في سننهم والإمام أحمد في مسنده وهذا تفصيل التخريج:
أخرجه الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق باب رقم (6) عن شيخه الحسن ابن ربيع البجلي أبو علي الكوفي البوراني المتوفى سنة 221 هـ.
وأخرجه في كتاب الأنبياء باب رقم (1) عن شيخه عمر بن حفص بن غياث الكوفي المتوفى سنة 222 هـ.
وأخرجه أيضاً في كتاب القدر باب رقم (1) عن شيخه هشام بن عبد الملك الباهلي البصري المتوفى سنة 227 هـ.
وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد باب رقم (28) عن شيخه آدم بن أبي إياس عبد الرحمن العسقلاني المتوفى سنة 221 هـ.
وأخرجه الإمام مسلم في الصحيح وعقد الإمام النووي عليه باباً "باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه. وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته" وساق الإمام مسلم إسناده بقوله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا أبو معاوية ووكيع، وحدثنا محمد بن عبد الله نمير الهمداني واللفظ له حدثنا أبي وأبو معاوية ووكيع قالوا: حدثنا الأعمش عن زيد ابن وهب عن عبد الله - ثم ذكر الحديث-.
وأخرجه الإمام الترمذي في جامعه في كتاب القدر عن شيخه هناد بن السري - بكسر الراء الخفيفة- ابن مصعب التميمي المتوفى سنة 243 هـ.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده [9] عن شيخه أبي معاوية: محمد بن خازم الضرير الكوفي المتوفى سنة 195 هـ.(27/69)
وأخرجه أيضاً [10] عن شيخه حسين بن محمد بن بهرام التميمي المتوفى سنة 113 هـ.
وأخرجه أيضاً [11] عن شيخيه: يحيى بن سعيد القطان البصري ووكيع بن الجراح الرؤاسي الأول توفي سنة 198هـ، والثاني قبله في سنة 197 هـ.
وأورده الإمام ابن كثير في البداية والنهاية وقال: "فقال عمرو بن عبيد لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أجبته ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته: ولو سمعته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرددته. ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ما على هذا أخذت الميثاق"ثم علق على هذا الكلام بقوله: وهذا من أقبح الكفر لعنه (الله) إن كان قال هذا وإذا كان مكذوباً عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه" [12] اهـ.
قلت رواه ابن حبان في كتابه المجروحين بإسناده الصحيح كما مر آنفاً كما أثبت ذلك الخطيب في تاريخه والله تعالى أعلم بالصواب.
فكل من أنكر هذا القرآن الكريم أو بعض آياته في كونه كلام الله تعالى أو حكم عليه بأنه مخلوق حادث محدث ضرورة كما تفوه به الكوثري في مقالاته الكبرى فإن سلفه في ذلك إما أن يكون الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري أو تلميذه جهم بن صفوان أو تلميذ هذا الأخير وزوج أخته عمرو بن عبيد الباب.
ولا أزال في بحث هذا الإسناد الفلسفي الإلحادي الذي أدخل في الإسلام بدعة جديدة وعقيدة كفرية فاسدة حتى لا يبقي هذه الأمة المجيدة على أصالتها ومحور حياتها.
نعم قال الإمام العلامة القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان [13] : "كان جده من باب سبي كابل من جبال السند وكان أبوه يخلف أصحاب الشرط بالبصرة فكان الناس إذا رأوا عمراً مع أبيه قالوا: هذا خير الناس ابن شر الناس فيقول أبوه: صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر.
قلت: كلاهما فيهما شر.(27/70)
ثم قال ابن خلكان: قيل لأبيه عبيد: إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري ولعله أن يكون فقال: وأي خير يكون من ابني وقد أصبت أمه من غلول وأنا أبوه؟ وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته".
وقد أطال القاضي في ترجمته وفيها من البلايا والمصائب التي انتشرت فيما بعد في المتأخرين.
وترجم له الإمام الذهبي في العبر [14] ترجمة مختصرة جداً وقال مات سنة 143 هـ ووصفه بأنه قدري معتزلي. وهكذا قال الحافظ ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القراء [15] وقال: وردت عنه في حروف القرآن. روى الحروف عن الحسن البصري، وقال: مات (سنة) مائة وأربع وأربعين في ذي الحجة.
وترجم له الحافظ في التهذيب [16] ترجمة طويلة لأنه من رجال أبي داود في كتابه القدر، وابن ماجه في كتابه التفسير. وقال في التقريب [17] : المعتزلي المشهور كان داعية إلى بدعة اتهمه جماعة من إنه كان عابداً من السابعة مات سنة 143 هـ وقال الذهبي في المغني في الضعفاء [18] : شيخ المعتزلة كذبه أيوب ويونس وتركه النسائي اهـ وقال المعلق الشيخ نور الدين العتر على المغني بعد ما نقل كلام الحافظ من تقريب التهذيب: (قلت: الاتهام غلو ناشىء عن اختلاف المذهب) .
قلت دفاع الشيخ نور الدين العتر عن عمرو بن عبيد لا يفيده بل يضر الشيخ العتر نفسه.
وقال ابن العماد في وشذرات الذهب [19] : قال الحسن: رأيته في النوم يسجد للشمس، وقال ابن الأهدل: لما اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن وطرده تحول إليه عمرو فسموا معتزلة، توفي بمرّان (بتشديد الراء) على طريق مكة وهو راجع منها. ثم قال: وقال في المغني: عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة سمع الحسن، كذبه أيوب ويونس وتركه ابن أبي شيبة"اهـ.
ثم قال صاحب الشذرات: وكانت له جرأة فإنه قال عن ابن عمر هو حشوي "فانظر هذه الجرأة والافتراء عامله الله بعدله"اهـ.(27/71)
قال الإمام العلامة الحافظة شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموعة فتاويه [20] : "وأما قول القائل: حشوية فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف العام ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد وقال: كان عبد الله بن عمر حشوياً".
وأصل ذلك أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية، أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم.
فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشوياً. والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة -كأتباع الحاكم- يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشوياً"اهـ.(27/72)
وقال القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي المتوفى سنة 360 هـ وهو أول كتاب في فن أصول الحديث، يقول هذا الفذ مندداً بما قيل في عصره من أهل الجهل والضلال في حق المحدثين"فتمسكوا- جبركم الله- بحديث نبيكم صلى الله عليه وسلم وبينوا معانيه، وتفقهوا به وتأدبوا بآدابه، ودعوا ما به تعيَّرون من تتبع الطرف وتكثير الأسانيد وتطلب شواذ الأحاديث، وما دله المجانين، وتبلبل فيه المغفلون، واجتهدوا في أن توفوه حقه من التهذيب والضبط والتقويم لتتشرفوا به في المشاهد وتنطلق ألسنتكم في المجالس، ولا تحفلوا بمن يعترض عليكم حسداً على ما أتاكم الله من فضله، فإن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكران ونسب لا يجهل بكل مكان، وكفى المحدث شرفاً أن يكون اسمه مقروناً باسم النبي صلى الله عليه وسلم وذكره متصلا بذكره وذكر أهل بيته. وأصحابه، ولذلك قيل لبعض الأشراف: نراك تشتهي أن تحدث فقال: أولاَ أحب أن يجتمع اسمي واسم النبي صلى الله عليه وسلم في سطر واحد. وحسبك جمالاً عصبة منهم: علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، ومن يليه من ذريته وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبناء المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأهل الزهادة والعبادة، والفقهاء وأكثر الخلفاء. ومن لا يدركه الإحصاء من العلماء والنبلاء والفضلاء والأشراف وذوي الأخطار، فكيف بمن يسميهم الحشوية والرعاع ويزعم أنهم أغثار وحملة أسفار والله المستعان.(27/73)
وقال المعلق أخونا وصاحبنا العلامة الدكتور محمد عجاج الخطيب رعاه الله تعالى وحفظه عن كل سوء وجزاه الله تعالى عن هذه الخدمة الجليلة التي قدمها للسنة النبوية خير الجزاء وبارك فيه. قال معلقا على كلمة الحشوية في التعليق ما نصه: فما رأيك بمن يسمي أهل الحديث- وحالهم كما عرفت وأئمتهم كما وصفت- الحشوية لأن بعض أتباع الفرق كان ينعت أصحاب الحديث بأنهم يحملون المتناقض من الأخبار وبأنهم حشوية وحملة أسفار. وقد ناصب هؤلاء العداء لأهل الحديث. لأن كثيراً من المحدثين تصدوا لآراء هذه الفرق وأبطلوها على ضوء السنة الطاهرة. فما كان من أعدائهم إلا توجيه التهم المغرضة إلى أهل الحديث دفاعاً عن ميولهم وأهوائهم وآرائهم المنحرفة اهـ.
قلت: جزاك الله خيراً يا أخانا العجاج على هذه الكلمة الحقة الأمينة المخلصة التي ستكون لك إن شاء الله تعالى في الباقيات الصالحات من أعمالك.
وقال الشيخ محمد بن إسحاق بن النديم المتوفى سنة 346 هـ في الفهرست وهو شيعي معتزلي كما قال عنه العلامة ياقوت في معجم الأدباء، قال هذا المعتزلي في كتابه الفهرست في ترجمة ابن كلاب: "من بابية الحشوية وهو عبد الله بن محمد بن كلاب القطان"اهـ. وسوف تأتي ترجمته فيما بعد إن شاء الله.
والشاهد في هذه العبارة في قوله "من بابية الحشوية"والبابية نسبة إلى عمرو بن عبيد بن باب الذي سبقت ترجمته. فإذا تسمية بعض المعطلة من نفاة الصفات أهل السنة بالحشوية من باب تعكيس القضية وقلب الحقائق وتحريف الأخبار وهذا من أعمالهم الشنيعة.
وقد أثبت ابن النديم في ترجمة أبي عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار بأنه من بابية الحشوية من متكلمي المجبرة القدرية.(27/74)
وسوف يأتي الكلام عليه بالتفصيل لتجلية هذه الحقيقة ولتوضيح هذا البيان الذي أنا بصدده وهو: كيف وقعت الأمة المجيدة بعد تكميل الشريعة الغراء في هذا الوادي الكفري الإلحادي على يد هؤلاء المارقين الفسقة من الجعديين الجهميين الواصليين والعبيديين من أهل الاعتزال ونفاة الصفات بعد أن أتم الله تعالى هذه النعمة الكبرى على رسوله صلى الله عليه وسلم ورضي بها عليهم جميعاً.
لله عليَّ أن لا أشرب خمراً..
. قيل: إنه كان للإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله، جار إسكافي بالكوفة، يسكر كل ليلة وينشد:
ليوم كريهة وسداد ثغر
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ولا يزال يشرب، ويردد البيت، إلى أن يغلبه السكر وينام..
وكان الإمام يصلي الليل، ويسمع حديثه وإنشاده، ففقد صوته بعض الليالي، فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ يومين، وهو في السجن.
فصلى الإمام الفجر، وركب دابته، ومشى واستأذن على الأمير، فأذن له، فلما دخل عليه، أجلسه مكانه، وقال، ما حاجة الإمام؟
فقال: لي جار إسكافي، أخذه العسس، فتأمر بتخليته.
قال الأمير: نعم، وكل من أخذ تلك الليلة، ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين، فركب الإمام، وتبعه جاره الإسكافي، فلما وصل إلى داره، قال له الإمام: أترانا أضعناك؟
قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرا، ولله علي أن لا أشرب خمرا بعد اليوم..
فتاب من يومه، ولم يعد إلى ما كان عليه ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ميزان الاعتدال 3/280.
[2] البداية والنهاية (10/78-80) .
[3] المجروحين (2/69) .
[4] البداية والنهاية (10/79) .
[5] التاريخ الكبير (6/352-353) .
[6] تاريخ بغداد: (12/166-188) .
[7] حلية الأولياء: (8/244) .
[8] الحلية: (9/249) .
[9] المسند: (1/382) .(27/75)
[10] المسند: (1/414) .
[11] المسند: (1/430) .
[12] البداية والنهاية (10/79) .
[13] وفيات الأعيان: (3/460-462) .
[14] العبر: (1/193) .
[15] غاية النهاية لابن الجزري: (1/602) .
[16] التهذيب: (8/70-75) .
[17] التقريب: (2/74) .
[18] المغني في الضعفاء: (2/486) .
[19] شذرات الذهب: (1/210-211) .
[20] مجموع الفتاوى: (12/176) .(27/76)
هل كتابة التعاويذ من الآيات القرآنية
وغيرها وتعليقها في الرقية، شرك أم لا؟
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ولي الله صاحب زاده وفقه الله لما فيه رضاه أمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصلني كتابكم الكريم وصلكم الله بهداه وما تضمنه من التي كان معلوما، وهذا نصها وجوابها ونسأل الله لنا ولكم التوفيق للفقه في دينه والثبات عليه، كما نسأله سبحانه أن يوفقنا جميعا لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول.
(السؤال الأول) هل كتابة التعاويذ من الآيات القرآنية وغيرها وتعليقها في الرقبة شرك أو لا؟(27/77)
والجواب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرقى والتمائم والتوله شرك" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وأَخرجه أحمد أيضا وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" وأخرجه أحمد من وجه آخر عن عقبة بن عامر بلفظ "من تعلق تميمة فقد أشرك" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والتميمة في هذا هي ما يعلق على الأولاد أو غيرهم من الناس لدفع العين أو الجن أو المرض ونحو ذلك (ويسميها بعضهم الجامعة) . وهي نوعان: أحدهما ما يكون من أسماء الشياطين أو العظام أو الخرز أو المسامير أو الطلاسم وهي الحروف المقطعة أو أشباه ذلك، وهذا النوع محرم بلا شك لكثرة الأدلة الدالة على تحريمه، وهو من أنواع الشرك الأصغر لهذه الأحاديث وما جاء في معناها وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد معلق التميمة أنها تحفظه أو تكشف عنه المرض أو تدفع عنه الضرر من دون إذن الله ومشيئته. والنوع الثاني ما يعلق من الآيات القرآنية والأدعية النبوية وأشباه ذلك من الدعوات الطيبة فهذا النوع اختلف فيه العلماء فبعضهم أجازه وقال إنه من جنس الرقية الجائزة وبعض أَهل العلم منع ذلك وقال إنه محرم واحتج على ذلك بحجتين: إحداهما عموم الأحاديث في النهي عن التمائم والزجر عنها والحكم عليها بأنها شرك فلا يجوز أن يخص شيء من التمائم إلا بدليل شرعي يدل على ذلك وليس هناك ما يدل على التخصيص، أما الرقى فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ما كان منها بالآيات القرآنية والأدعية الجائزة فإنه لا بأس به إذا كان ذلك بلسان معروف المعنى، ولم يعتمد المرقي عليها بل اعتقد أنها سبب من الأسباب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا"، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقى بعض أصحابه وقال: "لا رقية إلا من عين أو حمة"(27/78)
والأحاديث في ذلك كثيرة، أما التمائم فلم يرد في شيء من الأحاديث استثناء شيء منها فوجب تحريم الجميع عملاً بالأدلة العامة، الحجة الثانية سد ذرائع الشرك وهذا أصل عظيم في الشريعة ومعلوم أنا إذا جوزنا التمائم من الآيات القرآنية والدعوات المباحة انفتح باب الشرك واشتبهت التميمة الجائزة بالممنوعة، وتعذر التمييز بينهما إلا بمشقة عظيمة، فوجب سد الباب وقفل هذا الطريق المفضي إلى الشرك، وهذا القول هو الصواب لظهور دليله والله الموفق.
(السؤال الثاني) : يقول كثير من علمائنا أنه من الممكن أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأن رؤيته في المنام حقيقة لأن الشياطين لا يستطيعون أن يتمثلوا بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل مثل هذه العقيدة شرك أو لا؟(27/79)
الجواب: هذا القول حق. وهو من عقيدة المسلمين، وليس فيه شرك لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" متفق على صحته، فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد يرَى في النوم. وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته. ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين ولا يجوز أن يعتمد عليها في شيء يخالف ما علم من الشرع بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي صلى الله عليه وسلم من أوامر أو نواهي أو خبر أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرائي للرسول عليه الصلاة والسلام على الكتاب والسنة الصحيحة فما وافقهما أو أحدهما قبِل، وما خالفهما أو أحدهما تُرك، لأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يقبل من أحد من الناس ما يخالف ما عُلِم من شرع الله ودينه (سواء كان تلك من طريق الرؤيا أو غيرها) وهذا محل إجماع بين أهل العلم المعتد بهم، أما من رآه عليه الصلاة والسلام على غير صورته فإن رؤياه تكون كاذبة (كأن يراه أمرد لا لحية له. أو يراه أسود اللون، أو ما أشبه ذلك من الصفات المخالفة لصفته عليه الصلاة والسلام) لأنه قال عليه الصلاة والسلام) فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، فدل ذلك على أن الشيطان قد يتمتل في غير صورته عليه الصلاة والسلام، ويدعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إضلال الناس والتلبيس عليهم، ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً، وإنما تقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه وقد رآه في حياته صلى الله عليه وسلم أقوام كثيرون فلم يسلمُوا ولم ينتفعوا برؤيته كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين وغيرهم "فرؤيته في النوم عليه الصلاة والسلام من(27/80)
باب أولى.
السؤال الثالث: هل الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره أم لا؟ وهل يعلم في قبره بأمور الدنيا "وهل هذه العقيدة شرك أم لا؟
الجواب: قد صرح الكثيرون من أهل السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه وليست من جنس حياة أهل الدنيا بل هي نوع آخر يحصل بها له صلى الله عليه وسلم الإحساس بالنعيم ويسمع بها سلام المُسلم عليه عندما يرد الله عليه روحه ذلك الوقت، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام"وأخرج البزار بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" وأخرج أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا عليّ فإن صلاتَكم تبلغني حيث كنتم" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهذه الحياة البرزخية أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله عنها سبحانه بقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . وفي قوله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ، وروحه عليه الصلاة والسلام في أعلى عليين عند ربه عز وجل وهو أفضل من الشهداء فيكون له من الحياة البرزخية أكمل من الذي لهم ولكن لا يلزم من هذه الحياة أنه يعلم الغيب. ويعلم أمور الدنيا بل ذلك انقطع بالموت بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من تلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "يذاد(27/81)
رجال يوم القيامة عن حوضي فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} " متفق على صحته. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب في حياته، فكيف يعلمه بعد مماته؟ وقد قال الله سبحانه {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وقال عز وجل آمرا نبيه أن يبلغ الناس {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كثيرة. وهكذا غيره من الناس من باب أولى، ومن ادعى أنه يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية كما قالت ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. ولما قذف بعض الناس زوجته عائشة رضي الله عنها في بعض غزواته وأشاع ذلك بعض المنافقين ومن قلدهم. لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم براءتها حتى نزل القرآن بذلك. ولو كان يعلم الغيب لقال لها وللناس أنها بريئة، ولم ينتظر نزول الوحي في ذلك. وهكذا لما ضاع عقدها في بعض أسفاره بعث أصحابه يلتمسونه فلم يجدوه، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم مكانه حتى أقاموا البعير الذي كانت تحمل عليه فلما أقاموه وجدوه تحته، والأحاديث في ذلك(27/82)
كثيرة وفيما ذكرنا إن شاء الله كفاية.
السؤال الرابع: هل يكون من الشرك إذا قال أحد في أي بقاع الأرض يا محمد يا رسول الله يناديه؟.
الجواب: قد بين الله سبحانه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم أن العبادة حق الله ليس فيها حق لغيره وأن الدعاء من العبادة فمن قال من الناس في أي بقعة من بقاع الأرض يا رسول الله أو يا نبي الله أو يا محمد أغثني أو أدركني أو انصرني أو اشفني أو انصر أمتك أو اشف مرضى المسلمين أو اهد ضالهم أو ما أشبه ذلك فقد جعله شريكا لله في العبادة. وهكذا من صنع مثل ذلك مع غيره من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غيرهم من المخلوقات لقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .(27/83)
وقوله في سورة الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله سبحانه {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله عز وجل {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، فسمى الدعاء عبادة، وأخبر أن من استكبر عنها سيدخل جهنم داخراً (أي صاغراً) وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقال سبحانه {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وقال عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وهذه الآيات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن العبادة حق الله وحده وأن الواجب تخصيصه بها لكونه خلق العباد لذلك وأمرهم به كما تدل على أن جميع المعبودين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعوهم ولو فُرِضَ سماعهم لم يستجيبوا له، كما دلت أيضاً على أن المعبودين من دون الله يتبرأون من عابديهم يوم القيامة وينكرون عليهم ذلك ويخبرونهم أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم إياهم، وبين السياق في(27/84)
هذه الآيات أن دعاء غير الله من الأنبياء والأولياء وغيرهم شرك به عز وجل وليست بعد هذا البيان بيان لطالب الحق وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدعون الناس إلى عبادة الله وحده ويحذرونهم من عبادة ما سواه كما قال سبحانه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال عز وجل في سورة الرعد آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم ما أمره به {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" متفق عليه من حديث معاذ رضي الله عنه. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" وقال عليه الصلاة والسلام "الدعاء هو العبادة" وفى لفظ آخر "الدعاء مخ العبادة" وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" وفي صحيح مسلم أيضاً عن طريق ابن بشير الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" والأحاديث في هذا الباب كثيرة ولا شك أن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأولياء والأنبياء والملائكة أو الجن إنما فعلوا ذلك معتقدين أنهم يسمعون ذلك معتقدين أنهم يسمعون دعاءهم ويقضون حاجاتهم وأنهم يعلمون أحوالهم وهذه أنواع من الشرك الأكبر لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ولأن(27/85)
الأموات قد انقطعت أعمالهم وتصرفاتهم في عالم الدنيا سواء كانوا أنبياء أو غيرهم ولأن الملائكة والجن غائبون عنا مشتغلون بشئونهم. وليس لنا أن نصرف لهم شيئاً من حق الله أو ندعوهم مع الله عز وجل لأن الله سبحانه أمرنا أن نعبده وحده دون ما سواه. وأخبر أنه خلق الثقلين لذلك كما تقدم ذكر الآيات في هذا المعنى، ولأن جميع المعبودين من دون الله لا يستطيعون قضاء حاجات عابديهم ولا شفاء مرضاهم ولا يعلمون ما في نفوسهم وإنما الذي يقدر على ذلك ويعلم ما في الصدور هو الله وحده وسبق أن ذكرت الآيات الدالة على هذا المعنى مثل قوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فسمى سبحانه في هذه الآيات دعاء غيره شركاً، وفي آية أخرى سماه كفراً. كما في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وبين عز وجل في آية أخرى أن المعبودين دون الله من الأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عن داعيهم. ولا تحويله من حال إلى حال. ولا من مكان إلى مكان. أو من شخص إلى شخص آخر. كما قال عز وجل في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورا} والآيات في هذه المعنى كثيرة.(27/86)
الإيمان
لفضيلة الشيخ سعد ندا
من الدرر التي قرأتها كلمات عن الإيمان للإمام ابن قيم الجوزية في كتابه "الفوائد".
والإمام ابن القيم من الأئمة الأعلام، بلغ مبلغا رائداً في النقد والتحليل، والعمق في التفكير، والبعد في النظر، والذوق والشفافية بما لم يبلغه الكثير.
وإن من يطلع على كتابات هذا الإمام الجليل، ليرى حقيقة ذلك ماثلا في تجسيمه للمعاني، وتصويره الصادق لما يعتمل في دخيلة نفسه، حتى لتكاد تلمس تعبيره تنساب معانيه في قلبك كالنهر العذب الذي يروي ماؤه القلوب الظمأى.
وإليك بعض ما سطر قلمه عن الإيمان- فيقول:(27/87)
ما الإيمان؟ إن أكثر الناس أو كلهم يدعونه، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلما، وإقرارا ومحبةً ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيمان الصديق وحزبه. وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم. وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين. سواء كان معه عمل أو لم يكن. وسواء رافق تصديق القلب أو خالفه. وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السماوات والأرض. وأن محمدا عبده ورسوله. وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا، بل ولو سب الله ورسوبه وأتى بكل عظيمة وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله؛ فهو مؤمن. وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه، وتكلمه بكلماته وكتبه، وسمعه وبصره ومشيئته. وقدرته وإرادته. وحبه وبغضه، وغير ذلك، مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله: فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله وجحده، والوقوف مع ما تقتضيه آراء المنهوكين وأفكار المخرصين، الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر ابن الخطاب، والإمام أحمد: (مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب) وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول. وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم، بحكم الاتفاق كائنا ما كان. بل إيمانهم مبني على مقدمتين: إحداهما أن هذا قول أسلافنا وآبائنا، والثانية أن ما قالوه فهو الحق. وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق، وحسن المعاملة، وطلاقة الوجه. وإحسان الظن بكل أحد، وتخلية الناس وغفلاتهم. وآخرون(27/88)
عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ القلب منها والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان. وإن كان منسلخا من الإيمان علماً وعملاً.
وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل، وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، ولا قام بهم وهم أنواع: منهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.
والإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من: عرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهرا، وتنفيذه، والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله، وبالله التوفيق.
سعد ندا(27/89)
ديانة النصرانية
للشيخ محمد رجب حميدو
المدرس في المتوسطة الفيصلية بتنومة
عبارات قوية وردت في كتاب "أضواء على حقائق"لفضيلة الشيخ محمد المجذوب تكشف عن حقيقة ديانة النصرانية التي لم تكن ملة المسيح عليه السلام بل ملة بولس، واعتنقها أقوام كثيرون - هذه العبارات نصها كما يلي: "إن هذه الديانة التي يطلق عليها اسم (النصرانية) ليست هي ملة المسيح.... إلى..... واليونان والمصريون والفينيقيون والهنود وغيرهم.
وقد أظهر الكاتب ما كان خافيا من حقائق تلك الديانة. على كثير من الناس. فجزاه الله خيرا.
وتلك لمحة مما حوى ذلك الكتاب القيم الجدير بأن يطلع عليه كل طالب علم.
فيفيد منه كثيرا، ويضم إلى معلوماته كثيرا مما يجهله.
"إن هذه الديانة التي يطلق عليها اسم (النصرانية) ليست هي ملة المسيح عليه السلام، بل هي ملة بولس، فأولى بها أن تنسب إلى بولس من أن تنسب إلى المسيح. لأن (عقيدة الفداء) (وعقيدة التثليث) كلتيهما دخيلتان على دين الإسلام الذي دعا إليه المسيح. وإن بولس هذا هو الذي أوحى بهما وأدخلهما على المسيحية تقليدا لعباد الوثنية: ومن العجيب حقاً أن عقيدة التثليث قد دان بها أكثر من قوم. على حقب متباينة وفي أقطار متنائية: فالهنود يؤمنون بالأقانيم الثلاثة: برهما- فشنو- سيفا) .
وبوذية الصين تدعو إلى ثلاثة أقانيم: منبثقة عن (فاو) .
وقدماء المصريين لهم ثالوث آخر يتألف من: (إيزيس- هورس- سيزا بيس) .
وفلسفة أفلوطين تقوم على ثالوث مختلف وتزعم:
1- أنه تعالى واجب الوجود بمعنى أن العقل لا يتصور الوجود خاليا من الله سبحانه. ويرمزون إليه (بمنشئ الكل) .
2- إن أول شيء صدر من أعماله تعالى هو (العقل المنتج) .
3- وعن العقل المنتج صدر (الروح الأعلى) .(27/90)
فإذا علمنا أن بولس كان تلميذا لهذه الفلسفة: سهل علينا أن نفهم من أين جاء بعقيدة الثالوث التي تقول بـ (الأب) و (الابن) و (الروح القدس) .
وإذا ولينا أبصارنا إلى عقيدة (الفداء وجدنا أنها هي الأصل الثاني لنصرانية بولس الوثنية، وأنها ليست إلا صدى لما جرى عليه عباد الأوثان منذ أقدم الأزمان، إذ أن جميع الوثنيين يقولون: بتقديم الذبيحة البشرية استرضاء لآلهتهم، يشترك في ذلك الرومان واليونان والمصريون والفينيقيون والهنود وغيرهم.
الكتب في تقرير اليونسكو
صدر تقرير عن منظمة اليونسكو يشير إلى التفاوت بين الدول المتقدمة والنامية في مجال النشر والتأليف وقد أشار التقرير إلى أن كل مليون شخص خصص لهم 600 كتاب في أوربا بينما يمثل 66 كتابا في آسيا و 26 كتابا في أفريقيا بمعنى أن أوربا تصدر أكثر من نصف الكتب التي تنشر في العالم.(27/91)
أخبار الجامعة
وقائع اللقاء التاريخي…
لصاحب الجلالة الملك الفهد
مع أساتذة وطلبة الجامعة الإسلامية
إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
جاء لقاء صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى مع أساتذة وطلاب الجامعة الإسلامية في اليوم الثالث من أيام زيارة جلالته للمدينة المنوّرة. وكان هذا اليوم مثل سابقيه حافلا بالإنجازات واللقاءات التي ستظل أجيال أهل المدينة المنورة الحاضرة والقادمة تذكرها لأحقاب طويلة على امتداد الحاضر والمستقبل لما يتوقعه أهل المدينة من ثمار الخير والتقدم الذي ينتظرها وتنتظره من إنجاز المشروعات التي بدئ بها أو تم إنشاؤها في مختلف المرافق والمصالح.
وصل موكب جلالته إلى الجامعة الإسلامية في الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة قبل ظهر يوم الثلاثاء الموافق السادس من محرم 1403 هـ وكان يرافق جلالته خلال هذه الزيارة المباركة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران، وصاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد العزيز وزير الأشغال العامة والإسكان ووزير الشئون البلدية والقروية بالنيابة، وعدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء.
وعند وصول موكب جلالته إلى مقر الجامعة كان في استقباله سعادة الشيخ سعد ناصر السديري وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة، وصاحب الفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة الإسلامية، وأمين عام الجامعة فضيلة الشيخ عمر محمد فلاته، وعمداء الكليات وأعضاء هيئة التدريس وعدد من كبار المسئولين.(27/92)
وبعد وصول جلالته إلى مقر الجامعة توجه إلى قاعة المحاضرات الكبرى لحضور الحفل الذي أقامته الجامعة بمناسبة زيارة جلالته وقد بدأ الحفل بتلاوة آيات مباركات من سورة الشورى رتلها أحد المعيدين في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، ألقى بعدها الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة كلمة أعرب فيها عن ترحيب منسوبي الجامعة بصاحب الجلالة فهد المفدى وسمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران وأصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء وأصحاب الفضيلة العلماء والحضور الكرام، وقال فضيلته: إن تعدد زيارات جلالته للجامعة الإسلامية يدل على اهتمام جلالته الكبير بهذا الصرح الكبير. وأشار إلى ضرورة توجيه وترشيد الصحوة الإسلامية، وسلامة المنهج ليمكن مواجهة واقع اليوم، وقال:
إن الجامعة الإسلامية تعمل في هذا السبيل بصدق القول والفعل وأعرب فضيلته عن شكره لجلالة الملك فهد المفدى على تشكيل الهيئة الملكية لتطوير المدينة المنورة مما يعني الخير كله لهذا البلد الطيب.
وبعد ذلك ألقى الطالب في الدراسات العليا أبو بكر ديكوري من فولتا العليا كلمة نيابة عن طلاب الجامعة رحب فيها بجلالته وأصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء، ونوَّه بجهود جلالته في خدمة الأمة الإسلامية، وأشار إلى أن خريجي الجامعة يقومون بخدمة الإسلام في جميع بقاع المعمورة، وأضاف:
إن الجامعة الإسلامية تعد من أكثر الجامعات شهرة في العالم وأن قيامها برهان صادق على أن المسلمين أمة واحدة وحَّدها الإيمان بالله الواحد وأنه يجب تضامنهم وبخاصةٍ في هذه الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية.(27/93)
ثم تفضل جلالته بالإجابة على الأسئلة التي توجه بها بعض الحضور لهذا الحفل الكريم، فكان من الأسئلة وإجابات جلالته ذلك الحوار الرائع الذي فتح فيه الراعي قلبه لرعيته وألقى فيه الأضواء الكاشفة على القضايا المطروحة في هذا الحوار. وأبانت الكثير من الحقائق حول عدد كبير من الأمور التي تهم عامة المسلمين.
وقد أكد جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى من خلال هذا الحوار أن حكومة جلالته ستبذل كل جهدها لجعل مدينة الرسول تأخذ الوضع اللائق بها، وقال جلالته: إنه يشرفه أن يكون مشرفاً على الهيئة الملكية التي قرر إنشاءها مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها في أول أيام هذه الزيارة للإشراف على تطوير المدينة المنورة، ثم تفضل جلالته فوجه كلمة توجيهية لطلاب الجامعة دعاهم فيها أن يواصلوا الجهود الخيرة، وأن يتبصروا في العقيدة الإسلامية، وأن يكونوا رسلا لبلادهم الإسلامية التي أتوا منها حتى يشرفوا المملكة التي رحبت بهم في الجامعة.
وبعد انتهاء هذا الحوار تفضل جلالته بتوجيه كلمة تناول فيها جلالته أن الإنفاق على المشروعات التي تم إنشاؤها خلال السنوات الخمس الماضية سوف يحظى بمراجعة دقيقة من قبل جلالته تمهيدا لإعلان الكثير من المعلومات والأرقام التي تؤكد صحة مسار خطط التنمية والتطوير في المملكة.
وقد قوبلت كلمات جلالته بحرارة وحماس بالغين ثم قدم فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة هدية تذكارية عبارة عن المصحف الكريم، ثم تقدم عمداء الكليات بالتسليم على جلالته. وبعد ذلك غادر موكب جلالته الجامعة بمثل ما استقبل به من حفاوة وابتهاج وترحيب وتكريم.
وقد أحدثت هذه الزيارة الملكية الكريمة للجامعة وما جرى فيها من حوار. وما طرح فيه من قضايا أصداء إعلامية واسعة من مختلف أجهزة الإعلام من الصحف والإذاعة والتلفاز حيث تناولتها بالتحليلات والتعليقات الهامة.(27/94)
كلمة نائب رئيس الجامعة: الدكتور عبد الله الصالح العبيد بمناسبة الزيارة الملكية
بسم الله، والحمد لله. والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
صاحب الجلالة سمو ولي العهد. سمو النائب الثاني، أصحاب السمو أصحاب الفضيلة والمعالي. أيها الحفل الكريم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
مرحبا بكم يا صاحب الجلالة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرض الطهر والإيمان، وأهلا بكم في رحاب الجامعة الإسلامية رمز الوفاء والإحسان، يا صاحب الجلالة لقد تعددت زيارات جلالتكم وسلفكم الراحل جلالة الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد رحمهم الله، وأسكنهم فسيح جِنانِه.(27/95)
لقد تعددت هذه الزيارات لهذه المدينة في عدة مناسبات، وكان الشيء الذي يتكرر في كل مناسبة هو زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه ثم زيارة الجامعة الإسلامية التي أنشئت لنشر دعوته، ولتقوم بجزء من دور ذلك المسجد الذي يمثل الجامعة الأولى في الإسلام. ولأن واقع اليوم يختلف عن واقع الأمس، ولمواجهة حاجة وواقع المسلمين على تباين الخلفيات، وتفاوت النظريات، ومواجهة التحديات كان لا بُدَّ من توجيه وترشيد للصحوة الإسلامية على أسس من صحة العقيدة، وسلامة المنهج، وسوف يساعد على ذلك- إن شاء الله- الانطلاق بها من هذا المكان الذي كان وعاءها ومصدر انتشارها، لتواجه واقع اليوم بما واجهت به جهالة الأمس- وفي هذا السبيل سوف تعمل الجامعة على الاهتمام بالنوعية اهتمامها بالكمية انطلاقاً من مبدأ تحقيق القوة المتكاملة في العقيدة والعلم والسلوك، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ، ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ولقول جلالتكم- وفقكم الله-، إن من أهدافنا أن نركز على مستوى التعليم- فنعني بالكيف عنايتنا بالكمّ.
يا صاحب الجلالة:
إن لهذه المدينة حقاً، وإن للدعوة حقوقاً، وبين قداسة المكان وشرف الدعوة تقع ضخامة المسئولية وعظمة الواجب ومتطلباتُ حسن الجوار، وبين هذه وتلك لكم منا الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والدعاءُ بأن يكلِّل الله جهودكم بالعون والتوفيق لنصرة الإسلام، وجمع شمل المسلمين. وشكراً لجلالتكم على تشكيل الهيئة الملكية لتطوير المدينة المنورة، ولا شكَّ أن هذه اللفتة الكريمة على هذا المستوى لتَحملُ معاني الخير. ودلالةَ الحاجة.
يا صاحب الجلالة:
باسم كافة منسوبي هذه الجامعة أحييكم وأرحب بكم. وأشكر دعمكم وعونكم.(27/96)
والسلام عليكم ورحمة الله وبرماته.
كلمة طلاب الجامعة الإسلامية بهذه المناسبة
ألقى الطالب بالدراسات العليا أبو بكر ديكوري من فولتا العليا كلمة نيابة عن طلاب الجامعة الإسلامية بهذه المناسبة التاريخية قال فيها:
بسم الله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا. والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا صاحب الجلالة:
فباسم أبناء العالم الإسلامي الممثلين في هذه الجامعة أرحب بجلالتكم أجمل ترحيب.
لقد أعطيتم مرة أخرى في زيارتكم هذه لنا دليلا آخر على اهتمام جلالتكم البالغ بهذه الجامعة وعنايتكم الفائقة بأبنائها، كيف لا وها هديتكم للأمة الإسلامية في وقت ها في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الهدية، حيث تأسست جمعيات وتكونت هيئات سواء في الشرق أو في الغرب لمحاربة الإسلام والقضاء عليه وذلك بافتعال المطاعن الوهمية وزرع الشبهات حوله بقصد عزل المسلمين عن دينهم، أو تشكيههم فيه على الأقل، ليتسنى لهم هدم المقومات الأساسية للكيان الفردي والجماعي لهم، لأن من شأن ذلك أن يضعف شوكتهم، ويجعلهم هياكل هشة تذرو بهم أية ريح، ويجرفهم أي تيار.
لقد استطاعت الجامعة الإسلامية بفضل الله تعالى، ثم بدعم جلالتكم المستمر لها، وبفضل جهود القائمين عليها، استطاعت أن تحقق الهدف المرجو منها، إذ ينتشر آلاف مؤلفة من خريجيها في كافة أرجاء المعمورة، دعاة إلى الله تعالى، وقضاة بأحكام شريعته، وهداة إلى القيم العالية، والمثل الكريمة مما جعل هذه الجامعة من أكثر جامعات العالم شهرة، وأعلاها منزلة في نفوس المسلمين.(27/97)
إن المملكة العربية السعودية بتأسيسها لهذا الصرح العلمي العظيم تكون قد برهنت على إيمانها بأن المسلمين جميعا مهما اختلفت أجناسهم، وتناءت أقطارهم فإنهم أمة واحدة وَحَّدَتْها أخُوَة الإيمان بالله الواحد، فيجب عليهم أن يتضامنوا ويعملوا يدا واحدة من أجل إقامة حكم الله على الأرض، وخاصة في هذه الظروف التي يعيشونها حاليا، حيث تخلّى كثير من بلاد الإسلام عن تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تحت ضغط الاستعمار وغزوه الفكري لأبناء المسلمين مما أدَّى إلى ضعف شوكة المسلمين وتفرق شملهم.
يا صاحب الجلالة:
لئن كان الواجب الديني والعرف البشري يقتضيان تقديم الشكر إلى كل من يقضي معروفاً أو يبذل عونا فإننا - معشر أبناء هذه الجامعة- لن نقتصر في شكرنا لجلالتكم على مجرد الألفاظ، بل سنترجم الألفاظ إلى عمل إسلامي بناء، مستعينين بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وبذلك نعطي صورة حسنة لإسلامنا الحنيف، وأنه دين سمح يحقق العدالة والسعادة للبشرية قاطبة، ونسأل الله تعالى أن يحفظ جلالتكم، وسمو ولي عهدكم الأمرين، ويجزيكم عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأن يديم على هذه المملكة الغالية في نفسي كل مسلم نعمة الأمن والاستقرار والرفاهية حتى تستمر دائماً في القيام بدورها القيادي المشرف في الوطن الإسلامي الكبير والسلام عليكم ورحمة الله.
نشاط علمي وثقافي واسع:
شهدت قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة نشاطاً علميا وثقافياً متعدد الجوانب في خدمة أهداف الجامعة وتحقيق رسالتها.
ففي مجال النشاط العلمي نوقشت خلال هذه الفترة مجموعة كبيرة من الرسائل العلمية من قسم الدراسات العليا للحصول على درجتي الماجستير أو الدكتوراه. سوف ننشرها في العدد القادم.(27/98)
وفي مجال نشاط الموسم الثقافي الذي تنظمه وتعد له عمادة - شئون الطلاب ألقيت مجموعة من المحاضرات القيمة شهدها عدد كبير من الطلاب والأساتدة.
ومن هذه المحاضرات محاضرة لفضيلة الدكتور علي ناصر فقيهي عميد شئون المكتبات عن (أثر الدورات التدريبية في المجتمعات التي تقام فيها) .
ومحاضرة للشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بكلية الحديث موضوعها: (غريب الحي) .
ومحاضرة للداعية الإسلامي الأستاذ محمد قطب موضوعها: (الإسلام ومستقبل البشرية) .
ومحاضرة ألقاها معالي الدكتور عبد الله الوصيف عميد كلية الزيتونة بتونس موضوعها: (حركة التفسير ودلالاتها الاجتماعية في القرن الأول للهجرة) وذلك في إطار برنامج الزيارة التي قام بها معاليه للجامعة الإسلامية والتي تمت في أواخر شهر صفر من هذا العام 1403 هـ.
. صياغة الشيخ محمود محمد سالم
ترجمة موجزة لفقيد كلية القرآن الكريم بالجامعة
انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين الخامس عشر من محرم سنة 1403هـ فضيلة الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي العالم المشهور والمقرئ المحقق المعروف صاحب التصانيف العديدة في علوم القرآن الكريم، ورئيس قسم القراءت بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ولد فضيلته في مدينة دمنهور بمصر سنة 1325هـ، وحفظ القرآن على الشيخ علي عياد وجوده على الشيخين: الشيخ محمود محمد غزال، والشيخ محمود محمد نصر الدين، وذلك بمدينة دمنهور.
ثم أخذ القراءات العشر عن شيوخ كثيرين من الثقات الأثبات منهم: العلامة الشيخ محمود غزال والعلامة الشيخ محمود محمد نصر الدين، والعلامة الشيخ همام قطب عبد الهادي، والشيخ حسن صبحي، وقد أجازه كل من ذكر.
وقد حصل فضيلته على الشهادة العالمية النظامية من جامعة الأزهر عام 1931م، وعلى شهادة التخصص القديم (شعبة التفسير والحديث) عام 1934م.(27/99)
وقد ولي كثيرا من الأعمال وكان له باع طويل في التعليم والتربية والإقراء.
عين رئيسا لقسم القراءات بكلية اللغة العربية بالأزهر.
ثم شيخا للمعهد الأزهري بالدسوق، ثم شيخا للمعهد الأزهري بدمنهور، ثم وكيلا عاما للمعاهد الأزهرية، ثم مديرا عاما لها.
كما عين فضيلته رئيسا لجنة تصحيح المصاحف بالأزهر.
وقد تولى فضيلته رئاسة قسم القراءات بكلية القرآن الكريم منذ إنشائها حتى توفي رحمه الله، وكان له دور كبير في تأسيس الكلية وتطويرها وتعليم أبنائها وإقرائهم، وقد تخرج على يديه أجيال وأفواج من أهل القرآن، ولفضيلته تصانيف عديدة من أهمها:
1- الوافي شرح الشاطبية.
2- الإيضاح شرح الدرة المضيئة في القراءات الثلاث.
3- البدور الزاهرة في القرءات العشر المتوترة.
4- نفائس البيان في عهد آي القرآن (منظومة وقد شرحها الناظم) .
5- منظومة في المواريث.
6- القراءات في نظر المستشرقين والملحدين.
7- النظم الجامع لقراءة الإمام نافع (منظومة وقد شرحها الناظم) .
رحم الله الفقيد وغفر له وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن طلابه ومحبيه وعن أهل القرآن خير الجزاء.(27/100)
ترجمة موجزة لفقيد كلية القرآن الكريم بالجامعة
انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين الخامس عشر من محرم سنة 1403هـ فضيلة الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي العالم المشهور والمقرئ المحقق المعروف صاحب التصانيف العديدة في علوم القرآن الكريم، ورئيس قسم القراءت بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ولد فضيلته في مدينة دمنهور بمصر سنة 1325هـ، وحفظ القرآن على الشيخ علي عياد وجوده على الشيخين: الشيخ محمود محمد غزال، والشيخ محمود محمد نصر الدين، وذلك بمدينة دمنهور.
ثم أخذ القراءات العشر عن شيوخ كثيرين من الثقات الأثبات منهم: العلامة الشيخ محمود غزال والعلامة الشيخ محمود محمد نصر الدين، والعلامة الشيخ همام قطب عبد الهادي، والشيخ حسن صبحي، وقد أجازه كل من ذكر.
وقد حصل فضيلته على الشهادة العالمية النظامية من جامعة الأزهر عام 1931م، وعلى شهادة التخصص القديم (شعبة التفسير والحديث) عام 1934م.
وقد ولي كثيرا من الأعمال وكان له باع طويل في التعليم والتربية والإقراء.
عين رئيسا لقسم القراءات بكلية اللغة العربية بالأزهر.
ثم شيخا للمعهد الأزهري بالدسوق، ثم شيخا للمعهد الأزهري بدمنهور، ثم وكيلا عاما للمعاهد الأزهرية، ثم مديرا عاما لها.
كما عين فضيلته رئيسا لجنة تصحيح المصاحف بالأزهر.
وقد تولى فضيلته رئاسة قسم القراءات بكلية القرآن الكريم منذ إنشائها حتى توفي رحمه الله، وكان له دور كبير في تأسيس الكلية وتطويرها وتعليم أبنائها وإقرائهم، وقد تخرج على يديه أجيال وأفواج من أهل القرآن، ولفضيلته تصانيف عديدة من أهمها:
1- الوافي شرح الشاطبية.
2- الإيضاح شرح الدرة المضيئة في القراءات الثلاث.
3- البدور الزاهرة في القرءات العشر المتوترة.(27/101)
4- نفائس البيان في عهد آي القرآن (منظومة وقد شرحها الناظم) .
5- منظومة في المواريث.
6- القراءات في نظر المستشرقين والملحدين.
7- النظم الجامع لقراءة الإمام نافع (منظومة وقد شرحها الناظم) .
رحم الله الفقيد وغفر له وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن طلابه ومحبيه وعن أهل القرآن خير الجزاء.(27/102)
تحية المسجد
للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف.
عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" [1] .
فقه الحديث: الحديث يدل على مشروعية الركعتين لمن دخل المسجد قبل أن يجلس فإنه من حق المساجد على المسلمين كما رواه ابن أبى شيبة في مصنفه: "أعطوا المساجد حقها، قيل له: وما حقها؟ قال: ركعتان قبل أن يجلس".
ولكن إذا خالف الرجل هذا الحكم عمداً أو ناسياً فجلس فهل يشرع له التدارك أم لا. فالصحيح في هذا أنه يشرع له أن يقوم فيصلي ركعتين لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أركعت ركعتين) . قال: لا. قال: قم فاركعهما. ومثله قصة سليك الغطفانى الآتية بعد قليل.
واختلف العلماء من صيغة الأمر على قولين:
(القول الأول) إن الأمر للندب وليس للوجوب. وهو قول الجماهير من الفقهاء والمحدثين. قال مالك عقب رواية الحديث: هذا حسن وليس بواجب.
(القول الثاني) إن الأمر للوجوب أو قريباً من الوجوب. وهو مروي عن داود الظاهري كما نقله عنه ابن بطال. ولكن الذي صرح به الحافظ ابن حزم غير هذا فقد قال رحمه الله: (لولا البرهان الذي ذكرنا قبل هذا بأن لا فرض إلا الخمس لكانت هاتان الركعتان فرضاً، ولكنهما في غاية التأكيد، لا شيء من السنن أوكد منهما لتردد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما) [2] .
ونحن لا نحتاج إلى إقامة الأدلة لعدم وجوب ركعتي تحية المسجد لتوافر أدلتها التي مرت في صلاة الوتر وركعتي الفجر بأن لا وجوب إلا خمس صلوات.(27/103)
وقد روى ابن أبى شيبة عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. ولكن يمكن لقائل أن يقول: إن الركعتين لمن أراد الجلوس وليس في هذه الرواية التصريح بإرادة الجلوس وكما اختلف العلماء في أداء تحية المسجد في وقتين.
(الوقت الأول) في حال الخطبة.
أ- فذهب فقهاء المحدثين، والشافعي وأحمد وداود الظاهري إلى استحباب إتيان ركعتي التحية. وكرهوا الجلوس قبلها حتى قال النووي: وإن دخل والإمام في آخر الخطبة، وغلب على ظنه أنه إن صلى التحية فاته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصل التحية بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد لئلا يكون جالساً في المسجد قبل التحية وإن أمكنه الصلاة وإدراك تكبيرة الإحرام صلى التحية. هكذا فصله المحققون. انتهى [3]
وكان استدلالهم في ذلك بالأدلة التالية:
1- حديث جابر: قال جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركعت ركعتين فقال: لا. فقال: قم فاركعهما.
روى هذا الحديث بثلاثة وجوه:
(الأول) فيه تصريح باسم الآتي وهو سليك الغطفانى.
روى مسلم [4] عن قتيبة بن سعيد ومحمد بن روح كلاهما عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، وروى أيضا عن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم كلاهما عن عيسى بن يونس عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر. ورواه عبد الرزاق [5] عن معمر والثوري عن أبي سفيان، ورواه أبو داود [6] عن محمد بن محبوب، وإسماعيل بن إبراهيم قالا: حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش نحوه، ثم رواه بطريق أحمد ابن حنبل قال، حدثنا محمد بن جعفر عن سعيد، عن الوليد أبي بشر عن أبي سفيان، وبطريق الوليد رواه الدارقطني [7] كما رواه أيضا عن معاوية، عن الأعمش مثله.
وسليك، هو ابن هديل وقيل ابن عمر الغطفاني.(27/104)
قال الحافظ: هكذا رواه حفاظ أصحاب الأعمش عن أبى سفيان ووافقه الوليد أبو بشر عن أبي سفيان عند أبي داود والدارقطني، وشذ منصور بن أبي الأسود عن الأعمش بهذا الإسناد فقال: النعمان بن نوفل- أخرجه الطبراني قال أبو حاتم: وهم فيه منصور [8] .
(الثاني) الوجه الذي أبهم فيه اسم الآتي:
رواه البخارى [9] عن أبي النعمان والترمذي [10] عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار. كما روى البخاري أيضا عن علي بن عبد الله، والترمذي عن محمد بن أبى عمر، والنسائي [11] عن محمد بن عبد الله بن يزيد كلهم عن سفيان عند البخاري عن عمرو بن دينار عن جابر، وعندهما عن محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد، كما روى النسائي [12] أيضا عن إبراهيم بن الحسن ويوسف بن سعيد قالا: حجاج عن ابن جريج عن عمرو بن دينار.
وحديث أبي سعيد أطول من حديث جابر ولفظه من النسائي: قال جاء رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بهيئة بذة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت؟ قال: لا. قال صل ركعتين وحث الناس على الصدقة فألقوا ثياباً فأعطاه منها ثوبين، فلما كانت الجمعة الثانية جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فحث الناس على الصدقة. قال: فألقى أحد ثوبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة فأمرت الناس بالصدقة، فألقوا ثياباً فأمرت له بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما فانتهره وقال: خذ ثوبك) .
ورواه الترمذي [13] عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة، ومروان يخطب فقام يصلي، فجاء الحرس ليجلسوه فأبى حتى صلى فلما انصرف أتيناه فقلنا رحمك الله إن كادوا ليقعوا بك. فقال: ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر قصة رجل جاء يوم الجمعة في هيئة بذة ... قال الترمذي حسن صحيح.(27/105)
والدليل فيه من قول أبي سعيد: ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قوله بذّة: بفتح فتشديد ذال معجمة- أي هيئة تدل على الفقر. وقد فسر هذا الحديث ممن لم يأخذ به بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره للصلاة ليراه الناس فيتصدقون عليه، ولكن السؤال يا ترى هل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لا يجوز فعله في تلك الحال وسوف يأتي بعض تأويلاتهم أيضاً لحديث جابر والجواب عنها.
قال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن التخصيص على خلاف الأصل، ثم يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم 000 [14] .
(الوجه الثالث) وفيه تعميم لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين.
رواه البخارى [15] عن آدم ومسلم [16] بإسناده عن محمد بن جعفر والدارقطني بعدة أسانيد كلهم عن شعبة عن عمرو بن دينار وقد تابع شعبة في تعميم أبو سفيان طلحة بن نافع عند مسلم بطريق إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم كلاهما عن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي سفيان، وعند الدارقطني بطرق عن الوليد بن بشر والأعمش عن أبي سفيان. وروى الدارقطني عن عبد الرزاق عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان على العموم وهو في الحقيقة بالتصريح باسم سليك ثم روى الدارقطني بإسناده عن روح بن القاسم وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار على التعميم قال الإمام البغوي قوله: في هيئة بذة أي رثاً الهيأة- يقال: رجل باذ الهيئة وفي هيئة بذاذة وبذة. وفي الحديث: البذاذة من الإيمان، وهي الرثاثة وترك الزينة وقد فسر ابن ماجة: البذاذة بأنها القشافة أي التقشف.
(2) حديث أبي قتادة وفيه العموم لمن دخل المسجد.
هذه بعض الأدلة لمن ذهب إلى جواز أداء ركعتي تحية المسجد في حال الخطبة.(27/106)
ب- وذهب الإمامان مالك وأبو حنيفة إلى أن الداخل في المسجد في حال خطبة الإمام لا يصلي تحية المسجد بل عليه أن يجلس ويستمع إلى خطبة الإمام. واحتجا في ذلك بالأدلة التالية:
1- عموم قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
ويجاب بأن الخطبة كلها ليست قرآناً. وإن كان بعضها قرآنا فيخصصها حديث جابر وأبي سعيد وغيرهما.
ثم إن الذي يؤدي تحية المسجد يقال له أيضا أنه منصت. لأنه لم يأت بشيء مخل للخطبة.
2- وذكر صاحب الهداية قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} .
يجاب: من يصلي تحية المسجد فهو في ذكر الله.
3- وذكر أيضا صاحب الهداية فقال: ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه السلام: "إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام".
فقال الشيخ ابن الهمام: رفعه غريب والمعروف كونه من كلام الزهري رواه مالك في الموطأ. قال خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام.
ثم قال: وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام والحاصل إن قول الصحابي حجة فيجب تقليده عندنا إذا لم ينفه شيء آخر من السنة [17] . انتهى.
يقال له فقد عارض قول الصحابي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حديث جابر وأبي سعيد وغيرهما.
4- واحتجوا أيضا في ذلك بحديث عبد الله بن بسر أنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت" [18] .
وبهذا الحديث استدل الإمام الطحاوي على عدم جواز الركعتين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس ولم يأمره بأداء ركعتي تحية المسجد [19] .(27/107)
ولكن في استدلاله بهذا الحديث نظر لأنه من الممكن أن الرجل أدى تحية المسجد في ناحية من المسجد ثم بدأ يتخطى رقاب الناس ليصل إلى أوائل الصفوف، أو كان ذلك قبل الأمر بإتيان ركعتي تحية المسجد ثم هو أيضا واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل أنه أمره بالجلوس لبيان عدم وجوب تحية المسجد، ويحتمل أنه أراد بذلك أن يقدم قبل الجلوس تحية المسجد ثم يجلس لما كان معروفا لديهم.
5- كما احتج الإمام الطحاوي أيضاً بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن اللغو يوم الجمعة كمن مس الحصى، ونزع الثياب أو يقول أحد لصاحبه: أنصت وغير ذلك من الأعمال.
فإذا كان الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات ممنوع مع قصر زمنه فالاشتغال بالتحية مع طولها زمنه أولى.
أجاب الشوكاني عن هذا فقال: حديث الإنصات وارد في المنع من المكالمة للغير ولا مكالمة في الصلاة.
6- وقالوا أيضا: لا يجوز التطوع لمن هو جالس في المسجد والإمام يخطب فكذلك لا يجوز الابتداء في التطوع للداخل والإمام يخطب.
وفي هذا نظر لأن لنبي صلى الله عليه وسلم أمرين. أمر للجالس في داخل المسجد أن يستمع إلى الخطبة، وأمر للداخل بأن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يجلس.
7- واستدلوا أيضاً بحديث ضعيف وهو حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام [20] .
8- وقالوا أيضا: إن حديث جابر يبيح الصلاة وحديث الإنصات يحرم فاجتمع المبيح والمحرم، فيترجح المحرم كما هو معروف.
يجاب بأن هذا إذا لم يمكن الجمع. والجمع هنا ممكن وهو الإنصات لمن هو جالس في المسجد، والصلاة لمن يدخل لأن كلاهما من أمر الشارع. وأمر الشارع لا يتعارض.(27/108)
9- وأجاب العلماء الحنفية عن حديث جابر بأجوبة بعضها لا يستحق الذكر وأحسنها مما قاله العيني [21] وتواتر نقله في الكتب الحنفية منه وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكاً بالركعتين وتوقف عن الخطبة ثم استأنف واستدل العيني في ذلك بحديث أنس رواه الدارقطني [22] قال حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي ثنا محمد بن إبراهيم الصدري ثنا عبيد بن محمد العبدي ثنا معمر عن أبيه عن قتادة عن أنس قال: دخل رجل من قيس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فاركع ركعتين" وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته. وقال: أسنده هذا الشيخ عبيد الله ابن محمد العبدى عن معتمر عن قتادة عن أنس وهم فيه. والصواب عن معتمر عن أبيه مرسلاً كذا رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل عن معتمر عن أبيه قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "يا فلان أصليت؟ " قال: لا. قال: "فصل" ثم انتظر حتى صلى. انتهى.
وذكر هذا أيضا الشيخ ابن الهمام وقال: والمرسل حجة فيجب اعتقاد مقتضاه علينا ثم رفعه زيادة إذ لم يعارض ما قبلها فإن غيره ساكت عن أنه أمسك عن الخطبة أولا، وزيادة الثقة مقبولة، ومجرد زيادته لا توجب الحكم بغلطه وإلا لم تقبل زيادة وما زاده مسلم فيه من قوله: "إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" لا ينفي كون المراد أن يركع مع سكوت الخطيب لما ثبت في السنة من ذلك أو كان قبل تحريم الصلاة في حال الخطبة فتسلم تلك الدلالة عن المعارض. انتهى كلامه.
أقول: على فرض كون المرسل حجة عنده فإن في إسناده عبيد بن محمد العبدي من الضعفاء وقد قال عنه الحافظ بعد ذكر حديث الباب عن الدارقطني: "وقال في حاشية السنن عبيد بن محمد هذا ضعيف. وقال في العلل: بصري ليس بشيء" [23] انتهى.
فالزيادة هذه غير مقبولة لأنها جاءت من الضعيف.(27/109)
ولهم مرسل ضعيف آخر عن أبي معشر عن محمد بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتين ثم عاد إلى الخطبة.
قال الدارقطني بعد نقله: هذا مرسل لا تقوم به الحجة وأبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف. انتهى [24] .
ثم ذكر العيني الوجوه الأخرى وهي في الحقيقة جواب عما قاله الحافظ في الفتح.
10- وقالوا أيضاً إن في حديث جابر بن عبد الله شذوذاً اعتماداً على قول الدارقطني فإنه قال أخرجا جميعاً حديث شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: "إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب فليصل ركعتين".
ورواه ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وأيوب، وورقاء، وحبيب بن يحيى كلهم عن عمرو بن دينار بلفظ: "إن رجلا دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صليت 00000 [25] .
فخالف شعبة هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصره فوهم. وإنما أوردوه على حكاية قصة رجل وهي محتملة للخصوص، وسياق شعبة يقتضي العموم في حق كل داخل.
الجواب: الغريب من الدارقطني كيف حكم على هذا الحديث بالشذوذ والإدراج كما نقله عنه الأئمة الحنفية في كتبهم مع روايته عن روح بن القاسم وابن عيينة عن عمرو بن دينار في سننه بوجهين، كما تابع عمرو بن دينار، أبو سفيان طلحة بن نافع عن جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والدارقطني أيضاً فدعوى الشذوذ والإدراج باطلة. وإليكم الخريطة التوضيحية:
خريطة توضيحية
جابر بن عبد الله
أبو سفيان طلحة بن نافع
عمرو بن دينار
(إذا جاء أحدكم على العموم) (حم- م- د- قط)
1- شعبة خ- م
ا- ابن جريج
2- روح بن القاسم قط
2- ابن عيينة
3- ابن عيينة قط
3- حماد بن زيد
(إذا جاء أحدكم على العموم)
4- أيوب
5- ورقاء
6- حبيب بن يحيى (قصة رجل داخل)
وأبو سفيان وثقه أبو زرعة وأخرج عنه أصحاب الستة.(27/110)
فأنت ترى كأن جابراً روى بوجهين فاكتفى أبو سفيان بوجه عام بينما روى عمرو بن دينار بوجهين. ثم روى تلاميذه بوجهين أيضاً فانتفى حكم الشذوذ والإدراج وقد سرد هذه الروايات بطرقها.
هذه هي بعض أدلة المانعين من أداء ركعتي تحية المسجد والإمام يخطب ويظهر من دراستها أن ما قال به المحدثون هو الراجح في الموضوع وقد قال الإمام ابن حزم (وسبحان من يسر هؤلاء لعكس الحقائق فقالوا: من جاء والإمام يخطب فلا يركع، ومن جاء والإمام يصلي الفرض ولم يكن أوتر ولا ركع ركعتي الفجر فليترك الفريضة وليشتغل بالنافلة فعكسوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عكساً [26] . انتهى.
(الوقت الثاني) تحية المسجد في الأوقات المنهي عنها:
1- قال الإمام الشافعي وأحمد يجوز أداء تحية المسجد في الأوقات المكروهة.
2- وقال الإمام مالك والإمام أبو حنيفة يكره ذلك.
والسبب في ذلك ورود العمومين المتعارضين، الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فوقع الخلاف بين العلماء في تخصيص أحد العمومين وتفرع عن ذلك عدة أقاويل في الموضوع:
(القول الأول) أحاديث النهي عن الصلوات في الأوقات المكروهة منسوخة بأحاديث الإجازة فيجوز للرجل أن يصلي في الأوقات المكروهة مثل صلاة الكسوف والركعتين عند دخوله المسجد والصلاة على الجنائز وسائر ما أمر به من التطوع مستدلاً في ذلك بحديث أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها. رواه النسائي وغيره وإسناده صحيح.
قال ابن حزم "وهذا عموم لكل صلاة فرض أو نافلة" [27] .
(القول الثاني) يجوز أن يصلي الفرائض المنسيّة كلها في الأوقات المكروهة ولا يجوز التطوع بعد الصبح وبعد العصر وكذلك من دخل المسجد في الأوقات المكروهة فلا يصلي تحية المسجد.(27/111)
وهذا قول الإمام مالك أخذاً بعمل أهل المدينة. وهو أصل مختلف فيه بين العلماء.
(القول الثالث) يجوز قضاء الفائتات من الفرائض وكل تطوع ذي سبب، ومأمور به شرعاً في الأوقات المكروهة. وإنما المنع هو ابتداء التطوع بدون سبب من الشارع إلا يوم الجمعة وبمكة فإنه يتطوع في جميع هذه الأوقات.
وهذا قول الإمام الشافعي. وقال ذلك مستدلاً بالأحاديث التالية:
1- حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ".
رواه أبو داود، والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والشافعي وابن حبان، والدارقطني، البيهقي، والحاكم، والطحاوي والدارمي كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم [28] .
قال الترمذي: حسن صحيح.
وسكت عليه أبو داود وأقر المنذري تصحيح الترمذي.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافق عليه الذهبي.
وأبو الزبير وإن كان مدلساً فقد صرح بالسماع في رواية النسائي وغيره.
وسوف يأتي مزيد من التحقيق لهذا الحديث في موضوع: أداء ركعتي الطواف في الأوقات المكروهة.
2- حديث أبي هريرة: قال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ".
رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد المقري عن أبي هريرة.
ومن طريق الشافعي رواه البيهقي [29] .
وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي كذاب. فقد كذبه بشر بن المفضل ويحيى بن سعيد وابن معين والنسائي وعلي بن المديني والدارقطني وابن حبان حتى قال فيه ابن معين: " كان فيه ثلاث خصال، كان كذاباً، وكان قدرياً، وكان رافضياً إلا أن الإمام الشافعي كان يدافع عنه ويقول: لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب وكان ثقة في الحديث.(27/112)
وقد حاول بعض العلماء الإجابة على هذه القضية فقالوا: إنما يروي الشافعى عنه في الفضائل فقط. ولكن هذا مردود فإنه يكثر عنه الرواية حتى في الأصول. وعند الرواية أحياناً يصرح باسمه وأحياناً يقول: حدثني الثقة.
ومن هنا احتاط العلماء في قول من يقول: حدثني الثقة أو فلان لا يروي إلا عن الثقة فقالوا: إن هذا ليس بتعديل فإنه قد يكون ثقة عنده لا عند غيره كعبد الملك بن أبي المخارق عند مالك وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عند الشافعي وعامر بن صالح عند أحمد وغيره.
وكذلك في إسناده إسحاق بن عبد الله وهو ضعيف أيضاً.
كما روى هذا الحديث الطبراني في الكبير عن واثلة وفيه بشير بن عون ضعيف قال عنه ابن حبان: يروي مائة حديث كلها موضوعة [30] .
كأن الإمام الشافعي نظر إلى جملة من المخصصات للنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة منها: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر وإن كان ذلك خاص به، وأمره صلى الله عليه وسلم للرجلين بإعادة الصلاة اللذين صليا في رحالهما وذلك في صلاة الصبح، وكان ذلك في حجة الوداع، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن صلى ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح، وعموم حديث جبير بن مطعم لأداء ركعتي الطواف في الأوقات المكروهة وغيرها فقال به. ولا شك أنه أقرب إلى العمل بالنصوص.
(القول الرابع) ثلاثة أوقات لا يصلى فيها فرض فائتا أو غير فائت أو نفل بوجه من الوجوه وهي:
1- عند طلوع قرص الشمس إلا أن تبيض.
2- عند استواء الشمس حتى تأخذ إلى الزوال.
2- عند غروب الشمس إلا يوم عصره فإنه يصلى عند الغروب وقبله وبعده.
وبهذا يقول العلماء من الحنفية.(27/113)
وتفرد الإمام أبو يوسف فجوز النفل يوم الجمعة عند استواء الشمس مثل الشافعي ومعنى قولهم: إلا عصر يومه كما في الهداية: أن السبب هو الجزء القائم من الوقت لأنه لو تعلق بالكل لوجب الأداء بعده ولو تعلق بالجزء الماضي فالمؤدي في آخر الوقت قاض. وإذا كان كذلك فقد أداها كما وجبت بخلاف غيرها من الصلوات لأنها وجبت كاملة فلا تؤدى بالناقص. انتهى.
وهذا التعليل لا دليل عليه من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
(القول الخامس) تكره الصلوات كلها سواء كانت مفروضة أو نافلة في الأوقات المنهي عنها نقل بعض العلماء عن الإمام أحمد.
والصحيح عنده: لا تكره الصلوات الفائتة ولا الصلوات ذوات الأسباب مثل قول الشافعي إلا أنه اختلف معه في يوم الجمعة.
هذا هو المذهب المشهور عن الإمام أحمد نقله الشيخ ابن قدامة ولفظه: لا نفعل ولا نعيب فاعله [31] .
أداء ركعتي الطواف في الأوقات المكروهة
1- حديث جبير بن مطعم. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة من ليل أو نهار.
رواه أبو داود (2/449) والترمذي (3/211) والنسائي (1/284) وابن ماجة (1/398) وأحمد (4/80) والشافعي في الأم (1/148) وابن حبان (موارد الظمآن (164-165) والدارقطني (1/423) والبيهقي (2/461) والحاكم (1/448) والطحاوي (2/186) والدارمي (2/70) كلهم عن طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم إلا أن الدارقطني فإنه أخرج بوجهين آخرين عن جابر. قال الحافظ في التلخيص (1/190) وهو معلول لأن المحفوظ عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير، لا عن جابر. انتهى.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وسكت عليه أبو داود، وأقر المنذري تصحيح الترمذي.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافق عليه الذهبي.(27/114)
قال المنذري: فيه دليل على أن الصلاة جائزة بمكة في الأوقات المنهي عنها في سائر االبلدان. ومنع بعضهم ذلك لعموم النهي، وتأول الحديث على معنى الدعاء وهو بعيد.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة، صلاة الطواف خاصة وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات. انتهى.
وقد عزا المجد بن تيمية هذا الحديث إلى مسلم وهو تسامح منه فإن مسلماً لم يخرج هذا الحديث في صحيحه.
وقال صاحب الإمام: إنما لم يخرجاه لاختلاف وقع في إسناده. فرواه سفيان كما تقدم ورواه الجراح بن منهال، عن أبى الزبير، عن نافع بن جبير سمع أباه جبير بن مطعم، ورواه معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً نحوه، ورواه أيوب عن أبي الزبير قال أظنه عن جابر، فلم يجزم به، وكل هذه الروايات عند الدارقطني. قال البيهقي بعد إخراجه من جهة ابن عيينة: أقام ابن عيينة إسناده ومن خالفه منه لا يقاومه. فرواية ابن عيينة أولى أن تكون محفوظة. ولم يخرجاه. انظر نصب الراية (1/253) .
2- حديث عبد الله بن عباس: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً يطوف بالبيت، ويصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة عند هذا البيت يطوفون ويصلون".
رواه الدارقطني (1/426) من طريق أبي الوليد العدني، ثناء رجاء أبو سعيد، ثنا مجاهد، عن ابن عباس.
قال الزيلعي: أبو الوليد لا يوجد له ذكر في الكنى لأبي أحمد الحاكم. ورجاء بن الحارث أبو سعيد الملكي ضعفه ابن معين قال الحافظ في التلخيص (1/190) ورواه الطبراني من رواية عطاء عن ابن عباس، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في التاريخ من طريق ثمامة بن عبيدة، عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهو معلول. انتهى.(27/115)
2- حديث أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس" وزاد في آخر الحديث "ومن طاف فليصل"أخرجه ابن عدي، والبيهقي (2/62) من طريقه، من طريق سعيد بن أبي راشد، عن عطاء، عن أبي هريرة. قال ابن عدي: وسعيد هذا يحدث عن عطاء، وغيره بما لا يتابع عليه وكذا قال البخاري أيضاً.
4- حديث أبي ذر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة". وكرر الاستثناء ثلاثاً.
رواه أحمد (5/165) عن يزيد، عن عبد الله بن المؤمل، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، عن أبي ذر، ورواه الشافعي، والدارقطني (1/424) والبيهقي (2/461) بطريق الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، عن حميد مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد. فاختلف على ابن المؤمل فمرة رواه عن قيس بن سعد، ومرة عن حميد.
ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم عن عبد الله بن المؤمل ولم يذكر فيه قيسا ورواه أيضاً من طريق اليسع بن طلحة. سمعت مجاهداً يقول: بلغنا أن أبا ذر......
قال الحافظ: ذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة مناكير عبد الله بن المؤمل. انتهى.
وقال البيهقي: وهذا الحديث يعد في أفراد عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل ضعيف. إلا أن إبراهيم بن طهمان تابعه في ذلك عن حميد. وأقام إسناده. انتهى.
قال أحمد: أحاديث ابن المؤمل مناكير.
وقال ابن معين: هو ضعيف الحديث.(27/116)
قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: حديث أبي ذر هذا معلول بأربعة أشياء أحدها: انقطاع ما بين مجاهد وأبي ذر. الثاني: اختلاف في إسناده فرواه سعيد بن سالم عن ابن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن مجاهد عن أبي ذر. لم يذكر فيه قيس بن سعد أخرجه كذلك ابن عدي في الكامل. قال البيهقي وكذلك رواه عبد الله بن محمد الشامي عن ابن المؤمل عن حميد الأعرج عن مجاهد. الثالث: ضعف ابن المؤمل. قال النسائي وابن معين: ضعيف. الرابع: ضعف حميد مولى عفراء. قال البيهقي: ليس بالقوى. وقال ابن عبد البر: هو ضعيف. انتهى. نصب الراية (1/254-255) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد: وهذا حديث وإن لم يكن بالقوي لضعف حميد مولى عفراء، ولأن مجاهداً لم يسمع من أبي ذر ففي حديث جبير بن مطعم ما يقويه مع قول جمهور العلماء من المسلمين به.
مذاهب الأئمة في الموضوع: في الموضوع رأيان للعلماء ذكرهما الترمذي في جامعه بعد حديث جبير بن مطعم.
(الأول) جواز أداء ركعتي الطواف بعد العصر والصبح وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق (وحجتهم في ذلك أحاديث الباب) .
(والثاني) عدم جواز أداء ركعتي الطواف بعد العصر والصبح. قال به مالك وأبو حنيفة واحتج هؤلاء بعموم أحاديث النهي عن الصلوات في الأوقات المكروهة.
وبعموم حديث عقبة بن عامر الجهني قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تَضَيَّفُ للغروب حتى تغرب [32] .
قوله نقبر: بضم الباء الموحدة وكسرها. أي التعمد في تأخير الدفن إلى اصفرار الشمس، وقوله: تضيف: بفتح التاء والضاد وتشديد الياء: مال.(27/117)
قال الملاَّ علي القاري: والمذهب عندنا أن هذه الأوقات الثلاثة يحرم فيها الفرائض والنوافل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة إلا إذا حضرت الجنازة أو تليت آية السجدة حينئذ فإنهما لا يكرهان، لكن الأولى تأخيرهما إلى خروج الأوقات واستدلوا أيضاً بحديث عمر "أنه طاف بعد صلاة الصبح فلم يصل، وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى فصلى بعد ما طلعت الشمس" [33] .
قال الإمام محمد في موطئه بعد رواية هذا الحديث: وبهذا نأخذ ينبغي أن لا يصلى ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس وتبيض. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا [34] وأجاب عن هذا الإمام الشافعي فقال: فإن كان عمر كره الصلاة في تلك الساعة فهو مثل مذهب ابن عمر. وذلك أن يكون علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر فرأى نهيه مطلقاً، فترك الصلاة في تلك الساعة حتى تطلع الشمس. ويلزم من قال هذا أن يقول: لا صلاة في جميع الساعات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها. لا الطواف ولا على جنازة، وكذلك يلزمه أن لا يصلي فيها صلاة فائتة، وذلك من حين يصلي الصبح إلى أن تبرز الشمس، وحين يصلي العصر إلى أن يتتام مغيبها، ونصف النهار إلى أن تزول [35] وقال الشيخ الطحاوي في شرح معاني الآثار [36] فإذا كانت هذه الأوقات تنهى عن الصلاة على الجنائز، فالصلاة للطواف أيضا كذلك. وقال الشوكاني: وذهب الجمهور إلى العمل بالأحاديث القاضية بالكراهة على العموم ترجيحاً لجانب ما اشتمل على الكراهة، وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح تخصيص أحاديث النهي المتقدمة لأنه أعم منها من وجه، وأخص منها من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر لما عرفت غير مرة [37] انتهى.(27/118)
وقال أصحاب القول الأول: إن هذه الأحاديث تخصص عموم أحاديث النهي عن الصلوات في الأوقات المكروهة. وتوجيه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدنة بيت الله الحرام من عدم التعرض لمن أراد أن يصلي، أو يطوف لابد أن يكون له معنى زائد عما كان معروفاً من قبل من كراهة التطوع في الأوقات المكروهة.
وأن الطحاوي من محققي العلماء الحنفية ذكر تفسيراً حسناً لحديث عقبة بن عامر بعد ذكر أدلة القائلين بعدم جواز أداء ركعتي الفجر وهذا لفظه:
فإذا كانت هذه الأوقات تنهي عن الصلاة على الجنائز، فالصلاة للطواف أيضا كذلك وكذلك كانت الصلاة بعد العصر قبل تغير الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس مباحة على الجنائز، ومباحة في قضاء الصلاة الفائتة، ومكروه في التطوع. وكان الطواف يوجب الصلاة حتى يكون وجوبها كوجوب الصلاة على الجنائز. فالنظر على ما ذكرنا أن يكون حكمها بعد وجوبها، كحكم الفرائض التي قد وجبت، وحكم الصلاة على الجنائز التي قد وجبت. فتكون الصلاة للطواف، تصلى في كل وقت، يصلي فيه على الجنائز. وتقضي فيه الصلاة الفائتة. ولا تصلى في كل وقت لا يصلي فيه على الجنائز، ولا تقضي فيه صلاة فائتة.
ثم قال: وإليه نذهب خلافاً لقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله [38] انتهى قوله.
وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد:
"ولعل المصنف (يقصد به الشيخ الطحاوي) المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا يعني جواز ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب هو الأرجح الأصح. قال: وعليه عملي بمكة قال: ولما طفت طواف الوداع حضرت المقام، مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوفون من الحنفية - فقلت لهم الأرجح الجواز في هذا الوقت، وهو مختار الطحاوي من أصحابنا وهو كاف لنا. فقالوا لم نكن مطلعين على ذلك، وقد استفدنا منك ذلك انتهى [39] وبالله التوفيق.(27/119)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مالك في الموطأ (10/135 مع التنوير) ومنه الجماعة، البخاري (1/537 مع الفتح) ومسلم (1/495) وأبو داود (1/319) والترمذي (2/129) والنسائي (2/53) كلهم عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، ولفظ أبي داود: "فليصل سجدتين قبل أن يجلس وزاد في رواية أبي عميس عتبة بن عبد عن عامر: "ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته"، وروى البخاري (3/48) بطريق عبد الله بن سعيد عن عامر: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"بصيغة النهي.
اتفق جميع الرواة عن مالك بأنه عن أبي قتادة وروى سهيل بن أبي صالح عن عامر فقال عن جابر بدل أبي قتادة وقد خطأ الترمذي هذه الرواية وقال: "وهذا حديث غير محفوظ والصحيح حديث أبي قتادة"وقد نبه إلى هذا الخطأ علي بن المديني كما قال الترمذي، وأما حديث جابر فهو في سياق آخر وسوف يأتي بعد قليل.
[2] المحلى (5/102) .
[3] انظر شرح المهذب (4/924) .
[4] (2/597) .
[5] المصنف (3/244) .
[6] (1/667) .
[7] (2/13) .
[8] انظر فتح الباري (2/407) .
[9] (2/417 مع الفتح) .
[10] (2/384) .
[11] (3/106) .
[12] (3/103) .
[13] (2/385) .
[14] انظر الأحكام (2/112) .
[15] (3/49) مع الفتح.
[16] (2/596) .
[17] انظر شرح فتح القدير (1/421) .
[18] رواه أبو داود (1/668) قال حدثنا هارون بن معروف ثنا بشر بن السري، والنسائي (3/103) قال أخبرنا وهب بن بيان قال أنبأنا ابن وهب كلاهما عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن بسر، وإسناده صحيح وأبو الزاهرية هو حدير بن كريب الحضرمي ويقال الحميري الحمصي وثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان والنسائي انظر تهذيب التهذيب (2/218) .(27/120)
[19] شرح معاني الآثار (1/361) .
[20] رواه الطبراني وفيه أيوب بن نهيك منكر الحديث وقد عارضه الأحاديث الصحيحة.
[21] انظر عمدة القاري (6/231) .
[22] سنن الدارقطني (2/15) .
[23] انظر لسان الميزان (4/123) .
[24] وأما العيني الإمام الحافظ المحقق فذكر هذا المرسل وعزاه لابن أبي شيبة وسكت عن أبي معشر ولا أدري هل هذا غفلة منه أو تعمد.
[25] هدي الساري ص355.
[26] انظر المحلى: (5/102) .
[27] انظر المحلى: (3/33) .
[28] أبو داود (2/449) والترمذي (3/211) وابن ماجة (1/398) وأحمد (1/80) والشافعي في الأم (1/148) وابن حبان (موارد الظمآن 164-165) والدارقطني (1/433) والبيهقي (2/461) والطحاوي (2/186) والدارمي (1/70) .
[29] السنن الكبرى: (2/464) .
[30] انظر مجمع الزوائد (2/228) .
[31] انظر المغني: (2/90) .
[32] رواه مسلم (5/114 مع النووي) وأبو داود (4/226 مع المنذري) والنسائي (1/275-276) والترمذي (4/115 مع التحفة) وقال الترمذي: جسن صحيح.
[33] رواه البخاري معلقا (3/488 مع الفتح) ووصله مالك في الموطأ (مع الزرقاني) عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد القادر عن عمر.
[34] انظر تحفة الأحوذي (3/607) .
[35] الأم: (1/150) .
[36] (2/188-189) .
[37] نيل الأوطار: (3/116) .
[38] شرح معاني الآثار (2/189) .
[39] نقلا من تحفة الأحوذي (3/606) .(27/121)
مسلك القرآن الكريم في إثبات الوحدانية
علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
عميد شؤون المكتبات بالجامعة
تمهيد:
توحيد الألوهية: هو توحيد الله بأفعال عباده.
ولما كان هذا النوع من أنوع التوحيد هو مناط الإيمان بالله وحده، وإخلاص العبادة له {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر الآية 3) {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة الآية 5) ، فقد أفصح عنه القرآن الكريم كل الإفصاح، وأَبدا فيه وأعاد وضرب لذلك الأمثال المحسوسة والمشاهدة التي يعيشها المخاطب ويتعامل معها بعقله ومشاعره لذا نجد في كل سورة من سور القرآن الكريم الدلالة على هذا التوحيد إذ أن الخصومة بين الأنبياء وأممهم إنما كانت في هذا النوع من أَنواع التوحيد، فالشرك الذي حدث من جميع الأمم إنما كان في هذا النوع.
أما توحيد الربوبية والتي سبقت الأدلة الواضحة عليه من القرآن الكريم فعامة مشركي الأمم مقرين بالخالق إلا من فسدت فطرته فانحرف عن خط العقلاء، ولكنهم مع إقرارهم به أشركوا معه غيره يقول عزمن قائل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (الزخرف الآية: 87) .
أما توحيد الألوهية: فقالوا عنه {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص الآية: 5) ، ومن أجل ذلك تتابعت الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وترك ما يدعون من دونه. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر الآية:24) {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء الآية: 165) .(27/122)
وعبادة الله شاملة لكل أفعال العباد قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام الآية: 164-165) .
ثم إن عقيدة التوحيد أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً، ذلك أنها وجدت كاملة منذ اللحظة الأولى، لأنها ليست نابعة من أفكار البشرية كما يرى أَصحاب مذهب التطور، وإنما هي فطرة الله التي فطر عباده عليها، فقد خلقهم حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأضلتهم، هذا ما يقرره القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعليه التصور الإسلامي، فقد أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض ليقوم فيها بالخلافة التي اختاره الله للقيام بها، بعد أن تلقى كلمات من ربه فتاب عليه وأخذ عليه العهد والميثاق أن يتبع ما يأتيه من هدى الله، وأن لا يتبع الشيطان فيضله عن سبيله. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة الآية: 38، 39) .
وما من شك أن آدم عليه السلام علمَ بَنِيه الإسلام وهو عقيدة التوحيد جيلاً بعد جيل، وأن الإسلام كان أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض، ثم انحرفت عن منهج الله وهديه، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..} (البقرة الآية: 213) . أي كان الناس أمة واحدة على الإيمان ودين الحق، دون الكفر بالله والشرك به، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [1] .(27/123)
يوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس الآية: 19) . فحين اختلفوا أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب وكريم المآب، وينذرون من عصى الله فكفر به بشدة العقاب وسوء الحساب والخلود في النار.
فكان أول رسول إلى الناس بعد اختلافهم نوح عليه السلام دعاهم إلى عبادة الله وحده كما قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح الآية: 303) . وقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقد ردوا عليه دعوته متمسكين بعبادة آلهتهم التي اتخذوها من دون الله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} (نوح 23-24) .
فنوح عليه السلام أرسل لإعادة الناس إلى دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم الآية 30) .
ويقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" [2] . وقوله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "خلقت عبادى حنفاء كلهم وأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" [3] .(27/124)
وهنا نقول كذب علماء الأديان المقارنة القائلين بتطور العقيدة، من التعدد إلى الانتخاب ثم التوحيد [4] . وإنما كانت البشرية على دين الإسلام وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها حتى اجتالتهم شياطين الجن والإنس، فأشركوا بالله خالقهم وعبدوا معه غيره، فأرسل الله إليهم الرسل ليعيدوهم إلى الطريق السوي قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر الآية: 24) .
وقد عالج القرآن الكريم انحراف الناس عن توحيد الله بأنواع من الأساليب الواضحة المتصلة بحياة الناس ومشاعرهم، وبين لهم أن كثيراً من أعمالهم التي يتوجهون بها لغير الله هي حق لله لا يجوز صرفها لغيره، حتى استقاموا على أمر الله واتبعوا رسوله الذي تركهم على المحجة البيضاء، ثم اختلط هذا الأمر بعد ذلك على كثير من الناس لا سيما في العصور المتأخرة فخلطوا بين ما هو حق خالص لله لا يجوز صرفه لغيره، وبين أمور من هذا الباب ظنوا أنها من الأمور التي يجيزها الشرع.
ومن هذه الأنواع المشتبهة:
ا- الدعاء.
2- الحب القلبي.
3- الشفعاء.
4- النية والقصد.
5- حق التشريع.
وسنعرض لهذه الأنواع بشيء من التوضيح بأمثلة من الكتاب والسنة.
كما سنذكر في هذا البحث نماذج من طريقة القرآن في إثبات الوحدانية، ونبين طريقة القرآن في توحيد الأسماء والصفات، والغرض من دراسة هذا النوع من أَنواع التوحيد وكيف كان القرآن يخاطب الناس به.
مع ذكر نبذة قصيرة عن طريقة المتكلمين في إثبات هذا القسم من أنواع التوحيد لا للمقارنة، وإنما لمعرفة ميزة طريقة القرآن التي تخاطب العقل والروح معاً. وطريقة المتكلمين الجافة المبنية على الجدل والخصام.
فنقول:(27/125)
المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن أكثر الحوار الذي دار بين الأنبياء وأممهم إنما هو في إثبات قضية الوحدانية لله تعالى.
أما ما حدث من بعضهم من مثل ما حكاه الله عزوجل عن الدهرية في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} (الجاثية الآية:24) .
فهو من قلة من الناس ممن فسدت فطرتهم فانحرفوا عن منهج العقلاء، كما هو الحال في أتباع الماركسية في عصرنا الحاضر. وإلا فوجود الله تبارك وتعالى من بدهية الفطرة، {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} (إبراهيم الآية: 10) .
تدل على أنه واحد.
وفي كل شيء له آية
ولا دليل عند أولئك في نفي وجود الخالق، إنما عندهم الظن. فقد قال الله لهم: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} فالجهل بالشيء لا يدل على عدم وجوده، والظن لا يغني من الحق شيئاً، وقد نفى الله العلم عنهم وبين قصور الحجة عندهم، وبين أن دعواهم بأنهم خلقوا من غير شيء دعوى باطلة، إذ كل عاقل يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أولاده، ولا السموات والأرض، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} (الطور الآية: 35،36) .
وقد بين القرآن الكريم، بأن المشركين جميعاً حتى المدعين للربوبية إلحاداً يعترفون بهذه الحقيقة، أي أَنه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى، إذ لم يدع أحد صفة الخلق والإيجاد عبر تاريخ البشرية كلها، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان الآية:25) .(27/126)
أما ما ادعاه النمرود بن كنعان، كما ذكر الله ذلك عنه في محاجته لإبراهيم عليه السلام في ربه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة الآية: 258) .
وفيها دعواه أنه يحي ويميت، كما أن إله إبراهيم يحي ويميت. فهو يماثل إله إبراهيم في هذه الخاصة كما يزعم.
وهو لعناده ومغالطته، أو لبلاهته، فقد فسر الحياة بالعفو عمن يستطيع قتله، والإماتة بمن ينفذ فيه حكم الإعدام.
ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام قطع لجاجته ودحض حجته، حيث بين له، أن الله وهو إله إبراهيم ومعبوده يأتي بالشمس من المشرق، فعليه إن كان رباً وإلهاً معبوداً كما يدعي أن يأتي بها من المغرب، فبهت الذي كفر وانقطعت حجته، والله لا يهدي القوم الظالمين.
والملحد الآخر المدعي للربوبية والألوهية، هو فرعون، فقد تظاهر بادعاء الربوبية لنفسه كما حكى الله ذلك عنه بقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات الآية: 23، 24) . {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي..} (القصص الآية: 38) .
وقد بين القرآن الكريم حين تحدث عن فرعون وملئه أنهم قد عرفوا الحق، ولكنهم استكبروا عن اتباعه ظلماً وعلوا في الأرض. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل الآية: 13، 14) .(27/127)
والماركسيون يعترفون بوجود قوة خفية تحرك هذا الكون وتدبره أسموها الطبيعة، وهي في الواقع إلههم إذ ينسبون إليها إيجاد هذه الموجودات، فهم لم يدَّعوا خلق أنفسهم، وعليه فهذه القوة التي أسموها الطبيعة هي الله عند المؤمنين به. كما أن الفلاسفة سموا الإله المحرك الأول.
ولذلك فإن الأدلة التي سبقت في مبحث إثبات وجود الله تعالى هي أدلة قاطعة على إثبات وحدانيته سبحانه وتعالى فالله يقول مبينا وموضحاً هذه الحقيقة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء الآية: 22) .
وهذا المسلك في الاستدلال: هو ما يسميه علماء الكلام بدليل التمانع.
وهو انتظام الكون وسلامته من الخلل، الذي يدل على أن هذا النظام والإحكام من تدبير إله واحد.
وتقرير الدليل هكذا:
لو كان هناك آلهة متعددة لحصل الفساد في نظام هذا الكون، إذ لكل إله إرادة تخالف إرادة الآخر. فمثلا هذا يريد إحياء شخص والآخر يريد إماتته. أو هذا يريد طلوع الشمس، وهذا يريد غروبها. فتحصل معارضة الإراديين، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزاً. ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالاً. فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب وهو الإله الحق. والآخر المغلوب ممكنا.
والواقع المشاهد يؤكد صلاح العالم وانتظام الكون وسلامته من الخلل والفساد، فثبت بذلك الوحدانية لله تعالى. التي بها صلاح العالم. وبطل ما يؤدي إلى فساده وهو تعدد الآلهة.
ومن هذا الباب [5] قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون الآية: 91) .(27/128)
حال العرب عند نزول القرآن:
والجاهليون حين نزول القرآن الكريم كانوا يؤمنون بالله وأنه هو الخالق وحده – إلا من فسدت فطرته- وإنما كانوا يشركون معه آلهة أخرى لا يدعون لها الخلق والإيجاد وإنما يتقربون بها لتشفع لهم عند الله. ولذلك عجبوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده. واتهموه بالسحر والكهانة والكذب.
يقول تعالى مخبراً عن ذلك: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص الآية: 4، 5) .
وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس الآية: 3) .
ومع هذا الإنكار الشديد على توحيد الألوهية فهم يعترفون بتوحيد الربوبية قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه..} (لقمان الآية: 25) .
فكأنهم يقولون. فالله إذا كان خالقاً وحده، لا يلزم من ذلك أن يكون منفرداً بالعبادة {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} ذلك أن عبادتنا لغيره ما هي إلاَّ وساطة بتلك المعبودات كي تقربنا إلى الله زلفى {.. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى..} (الزمر الآية:3) .(27/129)
وسبب هذا التمسك والمحافظة على هذه الوسائط والاستمرار في اتخاذها شفعاء عند الله وإن كانت لا تنفع نفسها، هو الألف والعادة فلا مجال للعقل أن يفكر بل ما تلقوه عن الآباء وورثوه عن الأجداد هو الدين، ولو كان الآباء والأجداد لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف الآية: 23) .
وقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية لأبي طالب عند الوفاة: أترغب عن ملة عبد المطلب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب [6] .
فلما دعاهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلى خلع هذه الأنداد المتخذة مع الله وطلب منهم أن يفردوا الله وحده بالعبادة لأنه الإله الحق، وأن يتركوا تلك الوسائط والشفعاء التي لا تدفع عن نفسها شراً. فضلا عن أن تنفع غيرها، أعظموا ذلك الأمر واستغربوه وتعجبوا من قائله، وانطلق سادات القوم وكبراؤهم يحثون أتباعهم على الاستمرار على دينهم والسدور في شركهم، يحثونهم على الصبر على آلهتهم، وأن لا يستجيبوا لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم التي يدعوهم فيها إلى توحيد الخالق في العبادة. الذي يعترفون له بأنه الواحد في الخلق، متهمين رسول الله أنه إنما يريد بهذه الدعوة الشرف والاستعلاء عليهم، وما دعواه النبوة وإنزال الوحي عليه إلا افتراء واختلاف إذ كيف اختصه الله من بينهم بذلك، يقول الله في ذلك: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص الآية: 5-8) .(27/130)
هكذا كان حال أولئك المشركين حين يدعون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة.
وقد سلك القرآن الكريم في دعوتهم إلى ترك هذه الآلهة المزعومة مسالك متعددة منها:
1- بيان عجز الآلهة المدعوة من دون الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج الآية: 73، 74) .
يبين تبارك وتعالى لعباده أن هذه الآلهة المزعومة المدعوة من دونه عاجزة وضعيفة فلو اجتمعت كلها لإيجاد مخلوق حقير مثل الذباب لا تستطيع ذلك. بل إن الذباب الحقير لو أخذ منه شيئاً من حقير المطاعم، وطار به، لما استطاعوا إنقاذه منه وهذا يؤكد عجز هذه الآلهة وضعفها أمام هذا المخلوق الضعيف {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . أفمن كانت هذه صفته يصلح لأن يعبد ليَرْزق ويسْتَنصر، إذاً فالغارقون في عبادة هذه الأوثان، لم يقدروا الله حق قدره وهو القوي العزيز. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة الآية: 21) .
2- بيان أن الخلق عنوان العبادة:
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (النحل الآية: 17) .
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان الآية: 11) .
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام الآية: 102) .(27/131)
وقد تعددت الآيات التي تنبه عقول المخاطبين وتبين لهم بأن أولئك الشركاء المدعوين مع الله لا يستطيعون تقديم شيء لمن دعاهم، بل إنهم عاجزون عن نصرة أنفسهم فيما إذا اعتدى عليهم فكيف يسوغ دعاؤهم عند أصحاب العقول والفطر السليمة. يقول تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف الآية: 191-198) .
فهذه الآيات تضمنت الإنكار الشديد من الله تبارك وتعالى على المشركين الذين يعبدون مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، إذ كيف يسوغ لمخلوق منحه الله العقل والسمع والبصر أن يعبد مخلوقاً مثله، مصنوع مربوب لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يملك من الأمر شيئاً. بل إن أكثر هذه المعبودات جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال: أيشركون به من المعبودات مالا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك.. [7] .(27/132)
ثم يتابع تبارك وتعالى بيان ضعف هذه الآلهة فيقول: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف الآية: 192) . فهي لا تستطيع نصر عابديها، بل ولا نصر أنفسها ممن أرادها بسوء كما كان الخليل عليه السلام يحطم أصنام قومه التي يعبدونها: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (الصافات الآية: 91- 93) . {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء الآية: 58) .(27/133)
ولننظر لقصة عمرو بن الجموح سيد قومه مع صنمه الذي كان يعبده، ويطلب منه أن يدفع عن نفسه الشر إن كان فيه خيراً بعد أن يقدم له السلاح. وكان من خبره أن له صنماً في داره اتخذه من خشب سماه مناة كما كانت الأشراف يصنعون تتخذ إلهاً تعظمه وتطهره، فكان يطيب صنمه هذا وينظفه. فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح في فتيان منهم، ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يَدْلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عذر الناس منكساً على رأسه، فيلتمسه فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ثم يقول: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا نام وأمسى عمرو، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى. فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل. ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم وحسن إسلامه.
فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:
أنت وكلب وسط بئر في قرن
والله لو كنت إلها لم تكن
الآن فتشناك عن سوء الغبن
أف لملقاك إلها مستدن
الواهب الرزاق ديان الدين
الحمد لله العلي ذي المنن
أكون في ظلمة قبر مرتهن
هو الذي أنقذني من قبل أن
بأحمد المهدي النبي المرتهن [8](27/134)
كما بين سبحانه في هذه الآيات أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها. ولا تبصر من تقرب إليها، فلا فرق بين دعائكم إياها وعدم دعائكم في أنها لا تسمع ولا تجيب {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الأعراف الآية 193) ذلك أنهم عباد الله أمثالكم.
وكما قال إبراهيم عليه السلام لأبيه كما حكى الله ذلك عنه: {.. يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم الآية: 43) .
وأخيراً يوجه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن بين لهم ضعف آلهتهم وعجزها تحدياً لأن يجتمعوا هم وشركاؤهم فيكيدون له إن استطاعوا. {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} (الأعراف الآية: 195) .
وذلك لأنه لا يعبد إلها عاجزاً مثل آلهتهم وإنما إلهه ومعبوده ووليه هو الله جل جلاله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين بالنصر والتأييد. أما آلهتهم فلا تستطيع أن تعمل من ذلك شيئاً لأنها لا تسمع ولا تبصر وإن مثلت بصورة من يسمع ويبصر.
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف الآية: 196، 198) . وهكذا يسلك القرآن الكريم هذا المسلك ليقطع طمع هؤلاء في التعلق بهذه المعبودات فيبين لهم عجزها من الواقع المحسوس لهم، فكما أنها لا تستطيع إيجاد ذباب، ولا أن تستنقذ منه ما سلبه منها، ولا تستطيع نصر أحد ولا تدفع الضر عن نفسها، فكذلك هي أوهى من بيت العنكبوت.(27/135)
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت الآية: 41) .
ب- بيان أنهم عند الشدة يلجؤون إلى الله وحده:
فيلزمهم أن يخلصوا له الدين دائماً.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يونس الآية: 21-22) .
هكذا كان حالهم، ففي حال الرخاء يشركون بالله تعالى، أما في حال الأزمات والضيق والشدة فيعلمون أن المفرج لتلك الكربات، والمنجي من تلك المهلكات هو الله العلي القدير، فيخلصون له العبادة فلا يدعون معه غيره، كما قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} (الإسراء الآية: 67) . {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام الآية: 63، 64) .(27/136)
وفرعون واحد من هؤلاء فقد رفض الإيمان بإله موسى. وحين رأى الهلاك وأدركه الغرق، انجلى عن الفطرة ما كان قد شابها، فكرر الإيمان ثلاثاً علّه يستجاب له فينجو، ولكن كان ذلك في وقت لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس الآية: 90) .
ولكن الله يقول: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} (النساء الآية: 18) .
ولذلك قال له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس الآية:91) .
وفى الحديث: عن عمر أن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: كم تعبد اليوم إلها؟
قال: سبعة ... ستة في الأرض واحد في السماء.
قال: فأيهم تعده لرغبتك ورهبتك؟
قال: الذي في السماء.
قال: أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك، فلما أسلم الحصين.
قال: يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني.
قال: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي [9] .
وإذا كانوا يخلصون لله العبادة في حال الشدة فيلزمهم أن لا يشركوا في حال الرخاء لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما كان خالصاً.
كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (الزمر الآية: 2-3) .
وفي الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" [10] .(27/137)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن جرير في التفسير (ج2/335-337) .
[2] خ في الجنائز فتح الباري 3/219 ح1358-1359، وم في القدر 4/2048 ح24.
[3] م/في الجنة/2197 ح63.
[4] انظر كتاب الدين: ص111-119 للدكتور محمد عبد الله دراز.
[5] ابن كثير (3/254) .
[6] خ/التفسير باب إنك لا تهدي من أحببت..فتح الباري 8/506، ح4772.
[7] ابن كثير/2/000
[8] سيرة ابن هشام 1/452-453.
[9] سنن الترمذي 5/517 ح3179 (تحقيق إبراهيم عطوة) .
[10] م/كتاب الزهد/ باب من أشرك في عمله غير الله 4/2289 ح46 (تحقيق فؤاد عبد الباقي) .(27/138)
مفهوم الأسماء والصفات
سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
أحمد الله ربي حمداً كثراً طيباً مباركاً فيه كما يحب - سبحانه- ويرضى على توفيقي إلى الدخول في شيء من بيان بعض معاني أسماء الله الحسنى، وأسأله- جل وعلا- أن يديم عليّ توفيقه حتى أكمل ما بدأت من بيان- هو جهد المقلّ- الذي أضرع إلى الله- عز وجل- أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
وقد بدأتُ في الحلقة الثامنة ببيان بعض معاني الاسم الثاني والأربعين، وهو اسم (الحميد) سبحانه، وانتهيتُ فيها ببيان اقترانه باسم (العزيز) عز وجل.
. وإتماما للفائدة أَضيف في هذه الحلقة أن اسم (الحميد) قد اقترن كذلك باسم (المجيد) في القرآن الكريم مرة واحدة [1] في قوله تعالى {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود الآية 73) .
ومعنى هذه الآية: أن امرأة إبراهيم عليه السلام لما بشرتها الملائكة بإسحاق ومن ورائه يعقوب عجبتْ لقيام مانعيْن من وجود الولد وهما: أنها عجوزٌ لا تلد، وأن زوجها شيخ لا تحمل من مثله النساء، فقالت لها الملائكة إنكاراً لتعجبها، لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شيخاً كبيراً، فإن الله على ما يشاء قدير، وهو سبحانه الحميد في جميع أفعاله وأقواله، المحمود الممَجد في صفاته وذاته، ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" [2] .(27/139)
ومعنى الآية المذكورة عند الإمام الشوكاني: أن الملائكة قالت لامرأة إبراهيم عليه السلام إنكارا لتعجبها: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، وهو لا يستحيل عليه شيء؟ وقد كان إنكارهم عليها - مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة- لأنها من بيت النبوة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أَي الرحمة التي وسعت كل شيء، أو النبوة والبركات وهي النمو والزيادة، أو الأسباط من بنى إسرائيل لما فيهم من الأنبياء. ومعنى {إِنَّهُ حَمِيدٌ} أي بفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة، ومعنى {مَجِيدٌ} أي كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات [3] .
والمعنى في تيسير الكريم الرحمن: أن الملائكة قالت لامرأة إبراهيم عليه السلام لا تعجبي من أمر الله، فإن أمره لا عجب فيه لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء، فلا يستغرب على قدرته شيء، وخصوصاً فيما يدبّره ويمضيه لأهل هذا البيت المبارك، ولا تزال رحمته وإحسانه وبركاته عليكم أهل البيت، (إنه حميدٌ) أى حميد الصفات لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجودٌ، وبرّ، وحكمة، وعدلٌ، وقسط، وهو سبحانه (مجيد) أَي عظيم الصفات واسعها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأَعمها [4] .(27/140)
* أقول: والذي يبين لي من اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (المجيد) جل وعلا، أَنه عز وجل قد عظمت ذاته وتمجدت على وجه مطلق، وتمجدت كذلك أَسماؤه الحسنى التي اختارها سبحانه لنفسه، والتي تضمنت جميع صفاته الكمال المطلق، ومن ثم فإن أفعال هذا الإله العظيم (المجيد) إنما هي جميعها أفعال عظيمة مجيدة في اختيارها، وتقديرها، وإنفاذها، ويستحق سبحانه على كل فعل منها كمال الحمد الذي لا يستحقه أحد غيره، سواءٌ حَمِدَهُ بالفعل عبادهُ، أم أعرضوا عن حمده، فهو جل وعلا- وحده- المستحقُ لكافة أنواع الحمد رغم أنوف كل الجاحدين المعرضين.
. وقد اقترن اسم (الحميد) كذلك باسم (الحكيم) في القران الكريم مرة واحدة [5] في قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت آية 42) .
وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَإنهُ لكِتَابٌ عزيز} (فصلت آية 41) والمعنى أن القرآن الكريم كتاب منيع الجناب لا يُرَام أن يأتي أحدٌ بمثله، وليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزلٌ من رب العالمين، الحكيم في أقواله وأفعاله، الحميد بمعنى المحمود في جميع ما يأمر به عبادَه وينهاهم عنه، المحمودة عواقبه وغاياته [6] .
والمعنى في جامع البيان في تفسير القرآن أن القرآن الكريم أعزه الله، ليس للبطلان إليه سبيل، أو لا يبطله الكتب المتقدمة، ولا يأتيه كتاب بعده يبطله، فهو تنزيلٌ من حكيم حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون [7] .(27/141)
والمعنى في تيسير الكريم الرحمن أنه كتاب جامع لأوصاف الكمال، (عزيز) أي منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يقربه شيطانٌ من شياطين الإنس والجن لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا بنقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل مَنْ أنزله بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} في خلقه وأمره، يضع كل شيء في موضعه وينزله منازله، (حميد) على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والأفضال، لهذا كان كتاباً مشتملاً على تمام الحكمة وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها (المحمود) عز وجل [8] .
* أقول: ويظهر لي من اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الحكيم) أن الله جل وعلا- ومن صفاته الحكمة على وجه مطلق - قد وضع كل شيء في وضعه المناسب، فأنزل الكتاب الحق المهيمن على الكتب السابقة على خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله وأفضلهم، وصاحب الدين الحق المهيمن على سائر الأديان السابقة. وقد حفظ الله عز وجل هذا الكتاب بهيمنته على مدى الزمن، لأنه لا كتاب بعده، وضمَّنه الحق والهدف الذي إن تمسك به الناس فلن يضلوا أبداً، فضلاً عن أنه سبحانه خلق كل شيء على الوجه المناسب له، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى- وهذه كلها أفعال تتم بحكمة الحكيم سبحانه، وكلها تستأهل أن يحمد عز وجل عليها الحمد كله.
. كذلك اقترن اسم (الحميد) سبحانه باسم (الولي) في القرآن الكريم مرة واحدة [9] . في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى آية 28) .(27/142)
ومعنى الآية أنه بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله عز وجل {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} وقوله جل جلاله {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية - قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس، فقال عمر رضي الله عنه: مُطِرْتُمْ، ثم قرأ {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله [10] .
ومعنى الآية عند الإمام الشوكاني: أن الله تعالى ينزل المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق، وأعمها فائدةً، وأكثرها مصلحةً من بعد ما أيِسَ الناسُ عن ذلك، فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمة الله تعالى لهم، ويشكرون له ما يجب الشكر عليه، وهو سبحانه (الوليُّ) للصالحين من عباده بالإحسان إليهم، وجلب المنافع لهم، ودفع الشرور عنهم، (الحميد) أي المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصا وعموما [11] .
والمعنى في تيسير الكريم الرحمن: أن الله تعالى ينزل المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد من بعد ما انقطع عنهم مدةً ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسُوا وعملوا لذلك الجدب أعمالاً، فينزل الله الغيثَ، وينشر به رحمتَه من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعاً عظيماً، ويستبشرون بذلك ويفرحون، (وهو الوليُّ) الذي يتولى عبادَه بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم، وهو (الحميد) أي المحمود في ولايته وتدبيره، والمحمود على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الأفضال [12] .(27/143)
- أقول: ومن اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الولي) جل وعلا قبله، يبدو لي أنه تبارك وتعالى يتولى أمر عباده بصفة عامة بخلقهم، وإبرائهم، وتصويرهم، ورَزْقِهِم، وتدبير أمورهم وتصريفها جميعاً، ويتولى كذلك أمرَ عباده المؤمنين بصفة خاصة بتوفيقهم دائما للخير والهدى، وتوجيه قلوبهم إلى التزام الحق والوقوف عند حدود الله، والبعد عن محارمه، وكل هذه الولاية من الله عز وجل- وهي أمر لا يقوى عليه سواه، ولو لم توفر للخلق لضاعوا وهلكوا- تؤكد لنا أن الله تعالى هو (الحميد) أي المحمود حقَّا في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله جميعاً. فسبحانه من إله عظيم تفرَّدَ بكل صفات الكمال على وجه الإطلاق.
. وقد ورد اسم (الحميد) في القرآن الكريم غير مقترن بأي اسم من أسماء الله تعالى، مرة واحدة [13] في قوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراطِ الحميدِ} (الحج آية 34) - ويعود الضمير في قوله (وهدوا) على المؤمنين في الآية السابقة، وهى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (الحج آية 33) .(27/144)
ومعنى الآيتين: أن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يدخلون جناتٍ تتخرق الأنهار في أكنافها، وأرجائها، وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا، يحلَّوْنَ فيها من الحِلية في أيديهم أساورَ من ذهبٍ ولؤلؤاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "تبلغ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوء"، {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} استبرقه وسندسه، كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} . (ولباسهْمْ فيها حريرٌ) وفي الصحيح: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". ومعنى (وهدوا إلى الطيب من القول) أي هدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلامَ الطيبَ، كقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} ، وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ, سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً, إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} .
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : أي وهدوا إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح: "إنهم يلهمون التسبيح، والتحميد، كما يلهمون النفس". وقيل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} : القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة.
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافى ما ذكر قبله [14] .(27/145)
ويقول الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} أي أرشدوا إليه، قيل: هو لا إله إلا الله وقيل: الحمد لله، وقيل: القرآن، وقيل: هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: الحمد لله الذي صدقنا وعده- الحمد لله الذي هدانا لهذا- الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
وقال في معنى قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أنهم أرشِدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام [15] .
ومعنى {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} في تيسير الكريم الرحمن: أنهم هدوا إلى الطيب من القول الذي أفضله كلمة الإخلاص ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله أو إحسان إلى عباد الله. ومعنى {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي الصراط المحمود، وذلك لأن جميع الشرع كله محتوٍ على الحكمة وحسن المأمور به وقبح المنهي عنه، وهو الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح- أو وهدوا إلى صراطِ الله الحميدِ، لأن الله كثيرا ما يضيف الصراط إليه لأنه يوصل صاحبه إلى الله. وفي ذكر (الحميد) هنا بيان أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم، ومنَّته عليهم، ولهذا يقولون في الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [16] .
* أقول: وإفراد اسم (الحميد) سبحانه في هذه الآية دون أن يقرن باسم آخر من أسماء الله الحسنى كما ذكرت في الآيات التي سبق أن أوردتها، أفهم منه أن اسم (الحميد) استقلَّ بنفسه، كما استقلَّ اسم (الرحمن) في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان آية 60) .(27/146)
ويبدو لي أن اسم (الرحمن) سبحانه كما يتضمن صفة الرحمة التي بها يرْحَم جميع من خلق الله تعالى، بمعنى أنها صفةٌ ذاتيةٌ لله عز وجل لا تنفك عنه البتة، وتظهر آثارها باستمرار على الخلق في كل لحظة، فإن اسم (الحميد) سبحانه يتضمن كذلك صفة الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله عز وجل لا تنفك عنه، وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة. ومعناها أنه سبحانه مستحق لكل أنواع الحمد لأنه المحمود في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه سبحانه.
كما يبدو لي أن العبد لابد أن يسلك في حياته سلوكاً يحمد عليه، لأن أعماله جميعاً يجب أن تُجرّد (للحميد) سبحانه، و (الحميد) لا يقبل إلا العملَ الحميدَ، كما أن (الطيبَ) لا يقبل إلا العملَ (الطيبَ) . ولو أن كل فرد تحرى أن يكون عمله حميداً، لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات والخصومات فيما بينهم، ولعاشوا جميعا إخوةً في الله متحابين.
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} سورة النحل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المعجم المفهرس.
[2] تفسير الإمام ابن كثير الجزء الثاني ص453 ـ بقليل تصرف ـ.(27/147)
[3] فتح القدير الجزء الثاني ص511 ـ بقليل تصرف ـ.
[4] تيسير الكريم المنان الجزء الثالث ص208 ـ بقليل تصرف ـ.
[5] المعجم المفهرس.
[6] تفسير الإمام ابن كثير الجزء الرابع ص103 ـ بقليل تصرف ـ.
[7] جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي الجزء الثاني ص250.
[8] تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص88 ـ بقليل تصرف ـ.
[9] المعجم المفهرس.
[10] تفسير ابن كثير الجزء الرابع ص116
[11] فتح القدير الجزء الرابع ص535 ـ بقليل تصرف ـ.
[12] تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص106.
[13] المعجم المفهرس.
[14] تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص214 ـ بقليل تصرف ـ.
[15] فتح القدير الجزء ص445.
[16] تيسير الكريم الرحمن الجزء الخامس ص141.(27/148)
رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار
الدكتور أحمد طه ريان
أستاذ مساعد بجامعة الأزهر
كيفية العمل بالرخصة:
بعد أن تناولنا في الحلقات السابقة: بيان المستفيدين بالرخصة والمدى الذي تتحقق به، وحكم الأخذ بها، ومدى شمولها لأنواع السفرة نتناول الآن في هذه الحلقة، كيفية العمل بهذه الرخصة من بداية السفر إلى نهايته، فنقول وبالله التوفيق:
بداية سريان الرخصة:
يبدأ سريان الرخصة من اللحظة التي يتحقق فيها وصف السفر على الشخص سواء من حيث الزمان أو المكان، ونوضح ذلك فيما يلي:
بدء سريان الرخصة من حيث الزمان:
من عزم على السفر، لا يخلو أمره عن الأحوال الآتية:
أ- أن يبدأ سفره من قبل طلع الفجر، وهذا لا خلاف- نعلمه- بين أهل العلم، أن الرخصة تحققت بشأنه. وله العمل بمقتضاها، من حيث إباحة الفطر له منذ بداية سفره [1] .
ب- أن يبدأ السفر بعد طلوع الفجر- بحيث لم يفارق عمران البلد إلا بعده- والحال أنه كان قد بيت نية الصيام من الليل. فيرى أكثر أهل العلم هنا، أنه يجب عليه الاستمرار في الصوم ولا تتحقق الرخصة لديه. تغليباً لجانب الإقامة على جانب السفر فإن أفطر وجب عليه قضاء يوم بدل ذلك اليوم ولم يوجبوا عليه الكفارة لتأوله. ولم يخرج عن هذا الفريق في عدم وجوب الكفارة إلا المغيرة وابن كنانة، فإنهما أوجبا عليه الكفارة.
وقد قال بهذا الرأي: مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة ومكحول والزهري ويحيى الأنصاري وإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال أحمد- في الرواية الثانية عنه- وإسحاق وداود وابن المنذر وابن حبيب- إن من بدأ سفره بعد الفجر. له الفطر منذ بدء السفر لإطلاق اسم المسافر عليه منذ هذه اللحظة [2] .(27/149)
واختلف النقل عن المزني- من أصحاب الشافعي- فنقل الشوكاني عنه: أنه أختار رأي أحمد وإسحاق. وقال بعض الشافعية: إن المزني رجع عن رأيه هذا.
وقال ابن حزم: إنه يبطل صومه منذ بدء سفره وعليه قضاؤه [3] .
مستند الفريق الأول:
لم أجد مستنداً من السنة يشهد لقول هذا الفريق بعدم جواز الفطر لمن بدأ سفره بعد طلوع الفجر.
وقد وجدت أثراً عن الحسن البصري، رواه عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول: إذا أصبح الرجل صائما في شهر رمضان ثم خرج مسافراً نهاراً. فلا يفطر ذلك اليوم إلا أن يخاف العطش على نفسه فإن تخوفه أفطر والقضاء عليه، فإن شاء بعد أفطر وإن شاء صام [4] .
واضح من سند هذا الأثر: أن هناك راويا مجهولاً بين معمر وبين الحسن. ثم فيه تعليق استمرار الصيام على عدم الخوف من العطش.
كما استدل بعض العلماء لهذا الرأي، بأن الصوم: عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر قياساً على الصلاة، فلو صلى مسافر خلف مقيم وجب عليه الإتمام [5] .
وقد قيل في الرد عليه: إن الصوم يختلف عن الصلاة، فإن الصلاة يلزم إتمامها بالنية بخلاف الصوم [6] .
أما أدلة الفريق الثاني فأهمها ما يلي:
1- ما رواه أبو داود بسنده إلى عبيد بن جبير، قال: كنت راكباً مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فرفع [7] أبو بصرة، ثم قرب غذاؤه (غداء) . قال جعفر [8] في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب؟ قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جعفر في حديثه: فأكل [9] .
قال الشوكاني: سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ، في التلخيص ورجاله ثقات [10] .(27/150)
فهذا تصريح من أبي بصرة بأن الإفطار للمسافر في اليوم الذي خرج فيه من السنة وعبارة الخطابي في الاستدلال منه: (فيه حجة لمن رأى للمقيم ذي الصيام إذا سافر من يومه أن يفطر) [11] ..
2- ما رواه البيهقي عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان، وهو يريد السفر، وقد رحلت له دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه، ثم ركب فقلت له سنة، قال: نعم. قال الترمذي: بعد أن ذكره: هذا حديث حسن [12] .
قال الشوكاني عن هذا الحديث: سكت عنه الحافظ، وفي إسناده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، وهو ضعيف، ولكن صاحب التحفة قال: لا بأس يكون عبد الله في الطريق الأولى فإنه لم يتفرد به بل تابعه محمد بن جعفر في الطريق الثانية، وهو ثقة [13] .
2- ما رواه البيهقي أيضا بسنده إلى إسحاق عن عمرو بن شرحبيل أنه كان يسافر وهو صائم فيفطر من يومه [14] .
والمختار: هو قول من يرى إباحة الفطر لمن سافر من بعد طلوع الفجر للأمور التالية:
أولا: لصحة إطلاق اسم المسافر عليه حقيقة. وقد قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقد علق سبحانه الرخصة على وجود السفر. وقد تحقق بمجرد حركته على الطريق، فينبغي أن تتعلق به أحكامه التي من بينها إباحة الفطر.
ثانيا: القول بإباحة الفطر، فيه تيسير على المسافر، والتيسير هو مناط الرخصة قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
ثالثا: أن القول بإباحة الفطر هو أقرب القولين إلى السنة، فقد نسب كل من أبي بصرة وأنس بن مالك فطره في نفس اليوم الذي سافر فيه إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... } الآية.
جـ- من عزم على السفر من الليل ونوى الفطر ولم يسافر إلا بعد طلوع الفجر:(27/151)
يرى فقهاء المالكية والشافعية والحنفية، أن الشخص المقيم إذا عزم على السفر من الليل وبيت نية الفطر حتى طلع عليه الفجر ولم يبدأ سفره إلا بعد طلوع الفجر، فإنه يعتبر مخالفاً لأحكام الصيام في السفر، إذ كان يجب عليه أن يبيت الصيام مادام لن يبدأ سفره إلا بعد طلوع الفجر.
والأثر المترتب على ذلك: القضاء فقط مع إمساك بقية اليوم. أما المالكية فيوجبون عليه القضاء والكفارة.
وجهة الفريق الأول:
يرى هذا الفريق: أن فاعل ذلك وإن كان مخطئاً لكنه متأول نظراً لوجود نية السفر لديه، فوجود هذه النية أورثه شبهة الإباحة، وهذه الشبهة تنفي عنه الكفارة.
وجهة الفريق الثاني:
يرى هذا الفريق أن هذا الشخص يعتبر مقيماً صحيحاً قد عزم على ترك الصوم واستمر على الترك حتى انتهى وقت النية وهو طلوع الفجر، وعدم معرفته بالحكم لا يؤثر في وجوب الكفارة عليه، فيكفيه العلم بوجوب الصيام على الحاضر، وبما أنه شهد بدء الصيام وهو حاضر فيترتب عليه الجزاء الذي رتبه الشارع على من ترك هذا الواجب [15] .
المختار: أرى أن مثل هذا الفعل خطأ من فاعله، لأن الأمر في الرخصة منوط - كما قلنا سابقاً- بالسفر، ولا يعطى الشخص صفة السفر حقيقة إلا إذا تحرك فعلاً في طريقه، وكونه عازماً على السفر لا يصح أن يكون مبرراً للفطر لجواز أن يعدل عن السفر بعد الفجر لسبب من الأسباب، كتحقق الغرض الذي كان سيسافر من أجله، أو وجد مانع منه، كانقطاع الطريق، أو عدم وجود ما يسافر عليه، والأسباب المانعة كثيرة، لذلك كان يجب عليه أن يبيت نية الصوم فإذا ما بدأ سفره كان له حينئذ الأخذ بالرخصة.
أما الجزاء على هذا الخطأ: فأرى- والله أعلم- أن الرأي الذي يقول بوجوب إمساك بقية اليوم- إن لم يسافر- ثم قضاء هذا اليوم بعد ذلك هو الأنسب لمثل هذا الفعل لأنه متأول فهو معذور لوجود العزم على السفر عنده.(27/152)
بدء سريان الرخصة من حيث المكان:
نقل عن الحسن البصري وعطاء، أن من عزم على السفر فإن له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج إلى طريقه، وقد حكي هذا عن أنس رضى الله عنه، فقد روى عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة. ثم ركب، قال الترمذي هذا حديث حسن (وقد تقدم هذا الحديث قريباً وتقدم ما قيل فيه) .
وقد قال ابن عبد البر- تعليقاً على هذا القول- قول الحسن قول شاذ وليس الفطر لأحد في الحضر، في نظر ولا أثر [16] .
ولكن ابن العربي صحح هذا الرأي ونسبه إلى الإمام أحمد بن حنبل [17] .
إلا أن الثابت في المغني أن المذهب الحنبلي، يرى مع أكثر الفقهاء، ضرورة مجاوزة البيوت حتى يباح الفطر [18] .
وسنعرف ما هو الحق إن شاء الله بعد عرض الرأي الثاني وأدلته فيما يلي: يرى أكثر الفقهاء: أن الفطر لمريد السفر لا يجوز إلا إذا فارق بنيان البلدة التي يقيم فيها، وذلك لما يأتي:
أ- أن الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : علقت رخصة الفطر على حصول السفر ولا يطلق على الشخص وصف مسافر إلا بعد خروجه من مباني البلدة التي يقيم فيها، فلا يقال لشخص متحرك داخل بلده- راجلاً أو راكباً- مسافر. بل يطلق عليه هذا الوصف بعد خروجه من البلدة.
ويقوي هذا القول، ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة- والقصر والفطر صنوان في الرخصة- فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر من ذي الحليفة ... فقد تقدم في حديث أنس (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) [19] .(27/153)
وهناك رأي ثالث لإسحاق بن راهويه: وهو: أن المسافر له الفطر متى تحرك في بدء سفره، قال إسحاق: إذا وضع رجله في الرحل، فله أن يفطر وحكاه عن أنس بن مالك. وقد تقدم حديث أنس المفيد لذلك قريبا.
ويمكن أن يستدل له بحديث أبي البصرة الغفاري أيضاً حيث طلب غذاءه فأكل بعد أن تحركت به السفينة وهو لا يزال بمرأى من مباني بيوت البلدة. وقد تقدم قريباً وتقدم بيان ما قيل فيه.
المختار: كل من الآراء الثلاثة له مستند قوي من السنة: فحديث بدء قصره صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة يؤيد رأي الجمهور في أن الفطر يكون بعد مجاوزة البيوت، والحديث وإن لم يكن نصا في الموضوع إلا أن القصر والفطر يشتركان في أكثر الأحكام. وحديث أنس يقوي وجهة من قال بجواز الفطر قبل الخروج من البيت وهو وإن لم يصرح فيه بذلك، إلا أنه مفهوم من السياق، لأنه مادام قد أكل بعد أن رحلت له دابته، فليس من الجائز أن يكون قد أكل في الطريق وليس في هذا الحديث دليل لإسحاق، لأن أنس قد أكل قبل أن يركب، لكن ما يشهد لإسحاق هو حديث أبى بصرة، لأن فيه: أنه قد أكل بعد أن تحركت به سفينته، وهو على مرأى من البيوت وإذا قيل: بأنه قد أكل بعيد مجاوزة البيوت أي بعد أن جاوزها بقليل- فهذا القول ليس ببعيد- لأن قول الراوي له: ألست ترى البيوت، يفهم منه، أن الأكل قد حدث قبل مجاوزة البيوت أو بعدها بقليل بحيث لم تغب البيوت عن نظرهما.
وعلى ذلك فليس هناك ما يمنع من حدوث الفطر في البيت لمريد السفر بشرط أن يكون ذلك بعد أن ينتهي من الاستعداد له وإن كان الأحوط أن يكون ذلك بعد مجاوزة البيوت. والله أعلم.
انقطاع الرخصة بإجماع المسافر الإقامة أثناء سفره:(27/154)
اتفق أهل العلم على أن المسافر إذا عزم على الإقامة في مكان ما أثناء سفره فإن حكم الرخصة ينتهي في حقه ويصير مقيماً ويجب عليه الصوم إلا أنهم اختلفوا في تقدير المدة التي يصير بها المسافر مقيماً، وفيما يلي بيان موجز بأهم الآراء ووجهة كل منها.
ا- يرى ابن حزم: أن من أجمع إقامة يوم واحد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وجب عليه أن يبيت نية الصوم.
ووجهته في ذلك: أن المسلم يلزم بالفطر إذا كان على سفر، ومتى نوى الإقامة المدة المذكورة، فيعتبر مقيماً ويلزم بالصوم، لكن إن أفطر عامداً، فقد أخطأ، إن كان جاهلاً متأولاً، وعصى: إن كان عالماً، ولا قضاء عليه- أي في الحالين- لأنه مقيم صحيح، ظن أنه مسافر [20] .
ولم يذكر ابن حزم مستندا لتحديده الإقامة بهذه المدة، كما لم يذكر سبب اختياره لهذا التحديد بالذات.
ويظهر أن الجمهور يحددون المدة بأربعة أيام كما هو الحال في قصر الصلاة في السفر وقد نص البعض على ذلك [21] على حين لم يشر إليه كثير منهم، والسكوت عن كثير من أحكام رخصة الفطر اتكالاً على ورودها في القصر؟ أمر جرى عليه أكثر الفقهاء، وقد نبهنا إلى أشياء منه.
والعلة في تحديد الجمهور المدة بأربعة أيام، واعتبارها مدة إقامة تنهي رخصة الفطر، هي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمح للمهاجرين بالبقاء في مكة بعد انتهاء النسك ثلاثة أيام، وقد أخرج البيهقي من حديث العلاء بن الحضرمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً" كما أخرجه النسائي وأبي داود في سننهما. وقد أورده مسلم بعدة ألفاظ وفي بعضها زيادة من العلاء الحضرمي: يقول في هذه الرواية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمهاجر إقامة ثلاثة أيام بعد الصدر بمكة. كأنه يقول: لا يزيد عليها" [22] .(27/155)
كما أنهم يحتجون بما فعله عمر رضي الله عنه حينما حدد لليهود والنصارى والمجوس ثلاثة أيام إذا قدموا المدينة بقصد التجارة: فقد أخرج البيهقي عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عمر "ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاث ليال يتسوقون بها ويقضون حوائجهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث" [23] .
وقالوا إن تحديد النبي صلى الله عليه وسلم البقاء للمهاجرين ثلاثة أيام بمكة ثم اقتداء عمر بن الخطاب بتحديده ثلاثة أيام لغير المسلمين، يشير إلى أن البقاء أكثر من ثلاثة أيام يزيل حكم السفر. ويصير الشخص مقيماً وأقل ما يتحقق به هذا الوصف هو البقاء أربعة أيام. ونقل مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني: أن سعيد بن المسيب يقول: من أجمع على إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة [24] .
قال مالك- تعليقا على قول سعيد بن المسيب-: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم عندنا [25] .
ويناقش هذا الاستدلال: بأن تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم للمهاجرين ثلاثة أيام للبقاء في مكة لا يتعين حمله على أن الثلاثة لا تقطع حكم السفر وأن ما زاد عليها يزيل حكمه، إذ من الجائز أن تكون الثلاثة أيام لازمة لتسوقهم وشراء ما يحتاجون إليه من زاد أو هدايا أو غير ذلك.
لكن يجاب على ذلك، بأن هذه الأشياء لازمة للمهاجر وغيره، فتخصيص المهاجر بهذا التحديد لابد فيه من حكمة، وهذه الحكمة تتمثل في أن المهاجرين ممنوعون من الإقامة في مكة، فتحديد الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ثلاثة أيام للبقاء يفهم منه أن البقاء أكثر من ذلك يقطع حكم السفر ويدخلهم في نطاق المنع وهذا هو ما يظهر من حكمة التحديد أو هو أقوى الاحتمالات الواردة عليه. والله أعلم.
وما قيل في تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم للمهاجرين: يقال أيضاً في تحديد عمر رضي الله عنه لغير المسلمين بالبقاء ثلاثة أيام بالمدينة.(27/156)
وذهب أبو حنيفة والثوري إلى تحديد المدة بخمسة عشر يوماً ونقل هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما وقد استدل هذا الفريق بقول ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمسة عشر يصلي ركعتين ركعتين" [26] .
وقد نقل عن الحافظ ابن حجر تصحيحه لهذا الحديث وتوثيقه لرجاله عند النسائي [27] .
ويناقش هذا الاستدلال بأن هذا التحديد الوارد في الحديث لم يكن مقصوداً وإنما كان ذلك أمراً اتفاقياً - فقد مكث صلى الله عليه وسلم هذه المدة حتى يطمئن إلى استقرار الأحوال في مكة عام الفتح: وكانت المدة التي استلزمها هذا الأمر هو خمسة عشر يوماً كما في هذا الحديث أو زيادة على هذه المدة كما في أحاديث أخر.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى تحديد هذه المدة بتسعة عشر يوماً، لحديث ابن عباس: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً فصلى تسعة عشر يوماً ركعتين ركعتين. قال ابن عباس فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً "قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح" [28] .(27/157)
وهذا التحديد بتسعة عشر يوماً في الواقع هو اختيار من ابن عباس رضي الله عنه وإلا فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد هذا التحديد لأن الظروف هي التي استدعت إقامته صلى الله عليه وسلم هذه المدة بمكة فكان يقصر الصلاة فيها، مع العلم بأن هذا الحديث هو إحدى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الموضوع فإلى جانب رواية الخمس عشرة التي تمسك بها أبو حنيفة، ومن معه، ورواية تسع عشرة التي تمسك بها إسحاق، هناك رواية ثالثة بسبع عشرة عند أبي داود وعن ابن عباس كذلك، ورواية رابعة عن عمران ابن حصين (شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثمانية عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين) [29] . وبالجملة: فإن عنصر القصد غير واضح في هذا الحديث والتحديد الوارد فيه، هو أمر اتفاقي، أي أنه حادثة عين وكما قيل: فإن حوادث الأعيان لا يستدل بها على عموم الأحكام.
وذهب مجد الدين بن تيمية صاحب منتقى الأخبار إلى تحديد المدة بعشرة أيام- أو بأحد عشر يوماً- المستفادة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام حتى إذا بلغ الكديد، الماء الذي بين قديد وعسفان، فلم يزل مفطراً حتى انسلخ الشهر [30] .
قال مجد الدين تعقيبا على هذا الحديث، ووجه الحجة منه: أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان هكذا جاء في حديث متفق عليه [31] .
وقد أوضح الشوكاني كيفية الاستدلال بهذا الحديث كما يلي:
الأصل في المقيم ألا يفطر لزوال مشقة السفر عنه إلا لدليل يدل على جوازه وقد دل الدليل على أن من كان مقيماً ببلد وفي عزمه السفر يفطر مثل المدة التي أفطرها صلى الله عليه وسلم بمكة وهي عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف الروايات فيقتصر على ذلك ولا يجوز الزيادة إلا بدليل [32] .(27/158)
وما قيل في التعقيب على الاستدلال الذي قال به كل من أبي حنيفة وإسحاق يقال هنا: أي أن التحديد الوارد في هذا الحديث لم يكن مقصوداً وإنما حدث اتفاقا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- حسبما جاء في هذه الرواية- أن وصل إلى مكة في اليوم التاسع عشر من رمضان وظل في مكة بقية الشهر ليرتب أمورها بعد الفتح، من تعيين حاكم لها وتسليم أصحاب وظائف الكعبة وظائفهم وغير ذلك مما يحتاج إليه في مثل هذه الحالة وقد استغرق ذلك زمناً، منه هذه المدة الباقية من رمضان.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لو كان صلى الله عليه وسلم دخل مكة قبل هذا التاريخ، أي في اليوم العاشر مثلا من رمضان؟ فهل كان سيستمر مفطراً إلى نهاية الشهر أم كان سيقطع الرخصة ويصوم بعد انتهاء مدة العشرة أيام أو الأحد عشر؟.
وأرى- والله أعلم- أن هذا الحديث يستدل به على أن الإنسان إذا نزل بمكان ما لأمر ما وفي نيته العزم على استمرار السفر ولا يدرى متى تنتهي مهمته من هذا المكان حتى يواصل سفره- فإن مثل هذا يستمر على فطره ولو قضى الشهر كله في هذا المكان.
وموضع الشاهد من الحديث على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في نيته فتح مكة والعودة إلى المدينة ولم يكن في نيته العزم على الإقامة مدة محددة بل كانت إقامته مرهونة باستقرار الأحوال في مكة فمتى استقرت الأحوال وعادت الأمور إلى طبيعتها غادر مكة إلى المدينة أو إلى مكان آخر.
ويقوي ذلك أننا لم نجد في هذا الحديث ولا في أي حديث آخر من الأحاديث الواردة التي اطلعنا عليها في هذا الموضوع قرينة يفهم منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح أو ألمح إلى عزمه على الإقامة مدة محددة في مكة في هذه الغزوة، بل بالعكس كانت هناك قرائن يستفاد منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينوي الخروج من مكة- بعد استقرار الأحوال فيها- في أقرب فرصة.(27/159)
من هذه القرائن، إزالة ما كان يجول في خواطر كثير من الأنصار بل وقد صرح بعضهم به من أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيستقر في مكة بين أهله وعشيرته بعد أن فتحها الله عليه.
ومنها: إزالة الهواجس من نفوس البقية الباقية من المكيين على شركهم والذين لا يزالون يعتقدون، أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما يريد أن يكون ملكاً عليهم، ثم من خلالهم على بقية العرب- فرحيله بسرعة عنهم بعد أن يسلم بعضهم مقاليد مدينتهم من شأنه أن يبدد هذه الهواجس ويفتح بدلاً منها نوافذ للتفكير في أمر الدعوة والداعي يصل بهم إلى الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: تلك الأنباء التي كانت ترد تباعاً عن هوازن وثقيف وعزمها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الحكمة تقضي بالخروج إليهم بسرعة قبل أن يستكملوا عددهم وعدتهم.
وهكذا نجد القرائن تفيد أن إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مدة محددة لم تكن واردة وإنما كانت الظروف تنبئ بأنه سيغادرها في أول فرصة تسنح له. وعلى ذلك فمهما أقام فهو في سفر ولو أقام شهوراً، وقد قال الترمذي في سننه "أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون" [33] .
وأخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة [34] .
كما أخرج أيضا عن نافع عن ابن عمر أنه قال أرتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر وكنا نصلي ركعتين [35] .(27/160)
كما أخرج عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، قال خرجت مع أبي وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري عام أدرج - هكذا- فوقع الوجع بالشام فأقمنا بالسرغ خمسين ليلة ودخل علينا رمضان فصام المسور وعبد الرحمن بن الأسود وأفطر سعد بن أبي وقاص وأبى أن يصوم، فقلت لسعد يا أبا إسحاق أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت بدراً والمسور يصوم وعبد الرحمن وأنت تفطر، قال سعد: إني أنا أفقه منهم [36] .
المختار: الواقع أن مجال الاختيار هنا صعب وخصوصاً بين رأي الجمهور الذي يحدد المدة بأربعة أيام وبين اختيار مجد الدين بن تيمية صاحب منتقى الأخبار، بتحديد المدة بعشرة أيام أو أحد عشر.
وعنصر الصعوبة في أن رأي الجمهور يستند إلى دليل فيه عنصر القصد لكنه بعيد عن مجال موضع النزاع وإن كان فيه رابط يربط بين الأمرين وهو أن كلا الأمرين وارد في السفر. وكلا الأمرين يتعلق بالإقامة.
أما بالنسبة لدليل ابن تيمية، فهو وارد في السفر وفي الصوم الواجب وفي الإقامة الطارئة أثناء السفر لكن ليس فيه عنصر القصد إلى التحديد وإن كان هو أقرب الأمرين إلى السنة. لذا كان هو المختار. إلا أني أرى أن الأحوط هو تبييت نية الصوم لمن أجمع إقامة أربعة أيام.
من نوى الصيام في السفر هل يباح له الفطر أثناء النهار؟
وبمعنى آخر من ترك العمل برخصة الفطر وعزم على الصيام من طلوع الفجر فهل يباح له نقض هذه النية والإفطار في بعض أجزاء النهار:
لبيان ذلك نقول:(27/161)
إذا أخذ المسلم بالعزيمة وصام من بداية سفره أو من بعض مراحل الطريق ثم بدا له في يوم ما وهو صائم أن يفطر في أثناء النهار، فقد أجاز له الشافعي وأحمد الإفطار بلا أدنى حرج عليه. وعليه أن يقضي هذا اليوم بيوم آخر بعد انتهاء السفر [37] وذلك أخذاً بحديث ابن عباس المتقدم "سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهاراً ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة".
ووجه الاستدلال من الحديث واضح، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ يومه صائماً ثم أفطر في أثناء نهار ذلك اليوم وقد جاء في بعض الأحاديث المتقدمة أن ذلك كان بعد العصر.
وقال الحنفية: لا يجوز له الفطر ابتداء ولكن لو أفطر، فلا كفارة عليه لأن السبب المبيح- من حديث الصورة- وهو السفر قائم فأورث شبهة، وبها تندفع الكفارة.
وقد أجابوا عن فطره صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي كان صائماً فيه والذي أشرنا إليه في حديث ابن عباس السابق، بأن الجائز أن يكون صلى الله عليه وسلم علم من نفسه بلغ الجهد الشديد من الصيام في هذا اليوم، إلى الحد الذي إذا وصل إليه الصائم المقيم أبيح له الفطر [38] .
وهذا تأويل بعيد لأن بعض الروايات تفيد أنه صلى الله عليه وسلم طلب من أصحابه الفطر على أن يستمر هو صائماً وقال: "إني أيسركم إني راكب، فلما أبوا نزل وشرب ما كان يريد أن يشرب". وقد تقدم هذا الحديث بكامله، وهو واضح في رده على تأويل علماء الحنفية لمدلول حديث ابن عباس.
أما المالكية: فقد حكى الزرقاني، وجوب الكفارة على من نوى الصيام في يوم سفره، ثم أفطر بعد ذلك في نفس اليوم.
وحكى ابن يونس في المسألة قولان، أحدهما بوجوب الكفارة، والآخر بوجوب القضاء فقط.(27/162)
ووجه من أوجب الكفارة، أن المسافر كان مخيراً في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وترك الرخصة، صار من أهل الصيام، وعلى ذلك فيجب عليه ما يجب على أهل الصيام من الكفارة [39] .
وقد استدل الحنفية والمالكية، بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (سورة محمد الآية رقم 33) فالمسلم الذي اختار أن يعمل عملاً من أعمال العبادة وابتدأه بالفعل، فيجب عليه أن يتمه.
لكنه قد نقل عن ابن عبد البر قوله: من احتج في هذا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك: النهي عن الرياء، كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله وإن كان هذا القول من ابن عبد البر رحمه الله ليس بلازم، إذ عموم اللفظ يتناول إبطال العمل بالرياء، كما يتناول إبطاله بنية إلغائه ونقضه، والعبرة بعموم الألفاظ في النصوص التشريعية إلا لقرينة تفيد التخصيص.
والمختار من هذه الآراء، هو رأي من يقول بجواز الفطر لمن كان عزم على الصيام من طلع الفجر سواء كان ذلك بعذر أم لا وذلك لأن الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فهو وإن صلح باعتبار عموم اللفظ إلا أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما يعتبر نصاً خاصاً وارداً في الموضع فيرفع النزاع ويكون مخصصاً للعموم المستفاد من الآية إن قلنا بشموله لمسألة البحث. والله أعلم.
احترز من عدوين هلك بهما أكثر الناس:
صاد عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله
ومفتون بدنياه ورئاسته [40]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المجموع ج6 ص20، شرح عبد الباقي على مختصر خليل ج2 ص213، دار الفكر والأم للشافعي ج2 ص87، دار الشعب بالقاهرة.
[2] المجموع ج6 ص214.(27/163)
[3] نيل الأوطار ج4 ص255، فتح القدير ج2 ص365، الأم ج2 ص87، المجموع ج6 ص265، المغني ج3 ص117 مطبعة الفجالة، الموطأ ج2 ص171 من شرح الزرقاني على خليل ج2 ص213، المحلى ج6 ص392.
[4] المصنف ج4 ص270.
[5] المغني ج3 ص270.
[6] المغني ج3 ص117.
[7] بضم الراء وكسر الفاء بالبناء للمجهول أي رفع أبو بصرة ومن معه في السفينة.
[8] هو جعفر بن مسافر أحد رواة الحديث.
[9] سنن أبي داود مطبوعة مع شرحها عون المعبود ج7 ص53.
[10] نيل الأوطار ج4 ص256.
[11] عون المعبود ج7 ص55.
[12] السنن الكبرى ج4 ص247، وسنن الترمذي ج3 ص512-513، مطبوع مع تحفة الأحوذي.
[13] نيل الأوطار ج4 ص256، وتحفة الأحوذي ج3 ص513.
[14] السنن الكبرى ج4 ص247.
[15] المجموع ج6 ص217، فتح القدير ج2 ص365، شرح الزرقاني على خليل ج2 ص212.
[16] المغني ج3 ص118، وقوله "في نظر" أي اجتهاد أو قياس، "ولا أثر"يعني دليل قولي أو فعلي مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه.
[17] نيل الأوطار ج4 ص256.
[18] المغني ج3 ص117.
[19] صحيح مسلم ج2 ص144.
[20] المحلى ج6 ص391.
[21] شرح الزرقاني على خليل ج2 ص213.
[22] صحيح مسلم ج2 ص108.
[23] السنن الكبرى ج3 ص148.
[24] السنن الكبرى ج3 ص148.
[25] السنن الكبرى ج3 ص148، بداية المجتهد ج1 ص123، تحفة الأحوذي ج3 ص113-114..
[26] النسائي ج3 ص121، إحياء التراث.
[27] تحفة الأحوذي ج3 ص113.
[28] سنن الترمذي مطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي ج3 ص115.
[29] سنن أبي داود ج4 ص96-97-98-99.
[30] منتقى الأخبار جـ 4 ص 257 مع نيل الأوطار.
[31] منتقى الأخبار المطبوع مع شرحه نيل الأوطار جـ 4 ص 257.
[32] نيل الأوطار جـ 4 ص 257.(27/164)
[33] سنن الترمذي المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي جـ 3 ص 114.
[34] السنن الكبرى جـ3 ص 152.
[35] السنن الكبرىجـ3 ص 152.
[36] السنن الكبرى جـ3 ص152، السرغ بوادي تبوك.
[37] المغني ص 118، والمجموع جـ 6 ص 214.
[38] فتح القدير للكمال جـ2 ص 365، ص 366.
[39] شرح عبد الباقي الزرقاني جـ 2 ص 214.
[40] نيل الأوطار 4 ص 290.(27/165)
يريد الله بكم اليسر
للشيخ حسن عبد الوهاب مرزوق
مدرس بالجامعة الإسلامية
اطلعت على كتاب في الصوم للأخ الشيخ محمد عبد السلام خضر، فرأيت من الفائدة أن أقدم ملخصاً عنه فيما يلي:
الصيام شرعاً هو الإمساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب بنية خالصة لله عز وجل واحتساباً لوجهه تعالى وإعداداً للنفس لتقوى به على مراقبته تعالى وعلى كبح جماح الشهوات، وترك المعاصي والمحرمات.
يقول تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
أي فرض عليكم كما فرض على المؤمنين من قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لعلكم بأداء فريضة الصيام تتربى نفوسكم وتطهر قلوبكم وتتزكى فتكونون من المتقين.
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} أي معينات محدودات تسهيلاً على المكلفين.
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي من كان مريضاً أو مسافراً فأفطر يوماً أو أكثر فواجب عليه قضاء الأيام التي أفطرها أي بعد شفائه أو استقراره ببلده. والسفر الذي يباح فيه القصر يباح فيه الفطر.
روى أحمد والشيخان أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ فقالوا: صائم. فقال: "ليس من البر الصوم في السفر".(27/166)
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أي على الذين يشق عليهم الصيام فدية طعام مسكين عن كل يوم يفطرونه من أوسط ما يطعمون به أهليهم في العادة الغالبة. لا أعلاه ولا أدناه، أكلة واحدة. والمراد من الذين يطيقونه هنا الشيوخ الضعفاء ونحوهم. فقد روى البخاري أن ابن عمر قال: هي منسوخة. وأن ابن عباس قال: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.
{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} كأن أطعم أكثر من مسكين فهو خير له لأن ثواب ذلك عائد له.
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي والصيام خير لكم لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاق الرذيلة. فقد قال أبو أسامة للنبي صلى الله عليه وسلم: "مرني بأمر آخذه عنك. قال: عليك بالصوم فإنه لا مِثْلَ له"رواه النسائي بسند صحيح.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما في الصوم من خير ومنافع.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} خص الله هذا الشهر بالصوم لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.
{هُدىً لِلنَّاس} أي هدى كاملاً للناس كافة.
{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} أي وآيات واضحات لا خفاء في حكمها.
{وَالْفُرْقَانِ} أي الذي يفرق الله به للمهتدين بعين الحق والباطل.
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من شاهد منكم هلال الشهر فليصمه.
وفي الحديث المتفق عليه "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أعيد ذكر الرخصة للمريض والمسافر في الإفطار لتأكيد هذه الرخصة لهما. ومثل المريض الحامل والمرضع والهرم.(27/167)
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي يريد الله أن يكون دينكم يسراً لا عسر فيه. وفي الحديث "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" رواه أحمد والبيهقي والطبراني وابن حبان.
وعن حمزة الأسلمي أنه قال: "يا رسول الله أجد مني قوة على الصوم في السفر فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فكما يريد الله بكم اليسر يريد سبحانه أن تكملوا لعدة بقضاء ما أفطرتم فمن لم يكملها بسبب المرض أو السفر أكملها قضاء بعده على الفور أو على التراخي.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي ما هداكم إليه من العلوم والأحكام النافعة لكم، بأن تذكروا عظمة الله وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وتأديبه لعباده المؤمنين بما اختاره لهم من التكاليف الشرعية وتفضله عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تناسب حالهم.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق.
ثم قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} .
روى الطبراني وابن أبى حاتم: أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه. فأنزل الله الآية.
{فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي أنه قريب من عباده وهو مستو فوق عرشه. وهذا لا يقتضي أن ترفع أصواتنا بالدعاء والذكر لأنه سبحانه أقرب ما يكون منا. ومثل هذا قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} .
وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} .(27/168)
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أي إذا توجه إليّ وخصني وحدي ملتجئاً إليّ في طلب حاجته بدون واسطة من خلقه.
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أي يجب أن يستجيبوا لما أمرتهم به من الإيمان والأعمال النافعة لهم، كالصيام وغيره.
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي يهتدون بالإيمان والطاعة إلى ما ينفعهم ويرفع شأنهم في الدين والدنيا.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ليلة الصيام هي الليلة التي يصبح فيها المرء صائماً، والرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.
{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} أي أن الرجل للمرأة كاللباس المباشر للجسم الملازم له، يسكن إليها وتسكن إليه.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} روى البخاري من حديث البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله الآية.
وأخرج الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: "كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد: فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سَهر عنده فأراد امرأته فقالت إني قد نمت. فظن أنها تعتل فوقع عليها. وصنع كعب مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية ومعناها أن الله قد علم أنكم ترتكبون بعض ما نهاكم عنه وحرمه عليكم من الطعام والشراب ومباشرة النساء فتاب عليكم أي فقبل توبتكم وعفا عن خطيئتكم ورخص لكم في ذلك طوال ليالي الصيام. حيث قال تعالى {فَالآنَ بَاشِرُوهُنّ} .(27/169)
{وَابْتَغُوا} أي اطلبوا بمباشرتهن ما كتب الله لكم من النسل الذي لا يتأتى إلا بإذن الله بمباشرة الزوجين لبعضهما. ومن كان عقيماً فله في استمتاعه بزوجته صدقة فضلاً عن إحصان كل منهما للآخر.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي يباح لكم الأكل والشرب ومباشرة النساء في الليل حتى يتبين لكم بياض الفجر، وقد ورد في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود. ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما. فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أن هذا يعني الليل والنهار.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي إلى غياب الشمس.
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي لا تباشروا النساء في حالة اعتكافكم لأن المباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلاً كما تبطل الصيام نهارا. ً
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} أي فلا تقربوا محارمه فتقعوا فيها فينالكم عذابه.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يبين لكم جميع أحكام دينكم في الكتاب والسنة.
بعض ما ورد في فضائل صوم رمضان:
روى أحمد والنسائي عن عرفجة في حديث عتبة بن فرقد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"في رمضان تغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة، وتصفد الشياطين. قال: وينادي فيه ملك: يا داعي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان" وأصله في البخاري.(27/170)
روى النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وأصله في البخاري.
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة. لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد".
روى البخاري (حديثاً قدسيا) عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أَو قاتله فليقل إني صائم. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه".
وروى أحمد والطبراني مرفوعاً عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه: فيشَفَعَّان".
أشياء ليس على الصائم جناح إن فعلها:
لا جناح على الصائم إن حصل ما يأتي:
الاغتسال- المضمضة عند الوضوء مع الحرص من عدم دخول الماء في الحلق- الاستياك- بلع الريق- التكحل- الأكل أو الشرب ناسياً- دخول الذباب عفواً في حلقه- ذرع القيء.
آداب الصوم:
من آداب الصوم وجوب ترك الصائم للغيبة والفحش والكذب- فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".(27/171)
وروى ابن خزيمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من الصيام الوجع والعطش"، وأخرجه أحمد والحاكم والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن أبي هريرة.
استحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور:
ويستحب تعجيل الفطر وتأخير السحور.
روى البيهقي عن عمرو بن ميمون قال:
"كان أصحاب محمد صلى الله صلى عليه وسلم أعجل الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً".
وروى مسلم عن عمرو بن العاص قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".
النهي عن الوصال:
والوصال منهي عنه، وهو مواصلة الصوم دون فطر. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال (مرتين) قيل إنك تواصل. قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من الأعمال ما تطيقون" رواه البخاري.
فإذا أراد الصائم الوصال فيكون إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر" رواه البخاري.
فضل الإفطار على التمر والماء:
ويسن الإفطار على التمر والماء. فقد روى الإمام أحمد وغيره: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمراً فليفطر على الماء فإنه طهور".
فضل إطعام الصائمين:
روى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء".
الحث على الجود ومدارسة القرآن في رمضان:
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
الحث على الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان:(27/172)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر: أي العشر الأخير من رمضان شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله"متفق عليه.
فضل صلاة القيام:
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وأخرج البخاري عن أبي سلمة قال: سألت عائشة عن صلاة النبي صلى الله وعليه وسلم في رمضان فقالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم يصلي ثلاثاً".
وفي الموطأ: أن عمر أمر أبي بن كعب وتميماً أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر.
في فضائل ليلة القدر والتماسها في العشر الأواخر:
روى البخاري في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وجاء في مسند أحمد عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر فإني قد رأيتها فنسيتها".
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إذا علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقوله فيها. قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم) .
فضائل الاعتكاف وسننه ووقته:
روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه وأنه أمر بخباء فضرب له.(27/173)
وروى البخاري أن صفية قالت: "كان رسول الله صلى عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثني ثم قمت لانقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة"، (أي الدار التي صارت بعد ذلك لأسامة بن زيد) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخْل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا"متفق عليه واللفظ للبخاري.
وروى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم وهي تصلي.
وروى الشيخان أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك".
وعن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده". (متفق عليه) .
مراجع البحث
. تفسير القرآن العظيم للحافظ أبن كثير.
. تفسير الجلالين.
. فضائل رمضان للشيخ محمد بن أحمد بن عبد السلام.
. شرح نونية ابن القيم للشيخ محمد خليل هراس.
. فقه السنة للشيخ السيد سابق.
. فقه الإسلام، شرح بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلاني، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد.(27/174)
العدد 58
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحدة الأمة هي طريق الخلاص
للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
2- أصول المفاسد في الأرض: للشيخ أبي بكر الجزائري
3- الرُّواة الذين كُنُّوا (بأبي زرعة) : للدكتور سَعدي الهاشمي
4- خَلِّص عِبادَك رَبَّنا: للدكتور إبراهيم حسن عبد الرحمن
5- خَلِّص عِبادَك رَبَّنا: للشيخ عبد الله أحمد قادري
6- السلطان الغازي - أبو الفتح محمد الثاني: للدكتور محمد حرب
7- السمع من آيات الله في أنفسنا: للدكتور فوزي أحمد سلام
8- البيئة وأثرها في حياة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها: للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
9- صلاة المسافر:
10- التبيان في أقسام القرآن: للإمام ابن قيم الجوزية
11- ظاهرة التقارض في النحو العربي (1) : للدكتور أحمد محمد عبد الله
12- مسلك القران الكريم في إثبات الوحدانية: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
13- سئل شيخ الإسلام
14- رسائل لم تحملها البريد: الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
15- مفهوم الأسماء والصفات: فضيلة الشيخ / سعد ندا
16- مسابقة القرآن الكريم الدولية
17- النقد الأدبي ومقاييسه خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلافة الراشدة
للدكتور محمد عارف محمود حسن
18- رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار:
19- قل ولا تقل: للشيخ ضياء الدين الصابوني
20- وا إسلاماه..!
21- أخبار الجامعة: إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
22- من تراثنا الشعري
23- شاطئ الأحزان: الشاعر المهاجر
24- الخَبيثَةُ أمُّ الخبَائِثِ: للشيخ عبد الفتاح عشماوي
25- الرَّسَائِلُ الحَرْبيَّة في عصْر الّدوْلة الأيوبيَّة
26- تحْريفاتُ اليَسُوعيَّين لكتُب التراث
27- ثغرَاتٌ فِي المنْهَج الثّانَوِيِّ لتدريس القران الكريم والحديث الشريف والأدب العربي
28- نظامُ الإثبات في الفِقهِ الإسلامي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(27/175)
كلمة التحرير
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}
وحدة الأمة هي طريق الخلاص
للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
رئيس التحرير
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فإن من أهداف الشريعة الإسلامية، والدعوة المحمدية جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها، وهذا ما توحي به عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة؛ فقد كان الأنبياء قبله يبعثون إلى أقوامهم خاصة، فكل نبي خاطب قومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود: من الآية61) .
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أرسل إلى الناس جميعا كما بين الله عزّ وجلّ ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ: من الآية28) .
وقد خاطب صلى الله عليه وسلم الناس بدعوته قائلا: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
كما بين لنا صلى الله عليه وسلم بعض خصائصه بقوله: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
وقد بعث صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جميعا في قوت كانت البشرية في أشد الحاجة إلى من يأخذ بيدها وينتزعها مما حل بها من ذل وهوان؛ إذ أصبحت تتخبط في أمواج من ظلمات الجهل والفساد في العقيدة والأخلاق والسلوك، فتداركها الله سبحانه بهذا النبي الكريم الرؤوف الرحيم، إذ بعثه على حين فترة من الرسل، وأنزل عليه خير الكتب، وطلب منا الإيمان به تعالى وبرسوله وبالنور الذي أنزله على رسوله فقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (التغابن:8) .(27/176)
وقد جاء في هذا النور الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليستضيء به العالم كله قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) فكان من أهداف الدين الإسلامي جمع كلمة الأمة والحفاظ على وحدتها وسلامة كيانها.
وقد بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في مجتمع كان من صفاته:
1- لا تربطه عقيدة، فكل واحد يتبع هواه فيسجد للحجر والشجر.
2- وتغير فيه القبيلة القوية على القبيلة الضعيفة فتقتل رجالها وتنهب أموالها.
3- ولا قيمة فيه للقيم والأخلاق، وإنما المقياس هو المال والجاه.
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعلاج حاسم لمشكلات هذا المجتمع بما يجب أن يسلكه كل مصلح، فقد نظر للداء ووضع له الدواء، فبدأ بإصلاح القلوب أولاً؛ لأن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب، فبدأ بالعقيدة الصحيحة أولاً.
يقول أبو الحسن الندوي في كتابه القيم (ماذا خسر العام بانحطاط المسلمين) تحت عنوان: (قُفل الطبيعة البشرية ومفتاحها) :
يقول: "لم يكن صلى الله عليه وسلم من عامة المصلحين الذين يأتون البيوت من ظهورها، أو يتسللون إليها من النوافذ، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب، فمنهم من يوفق لإزالة بعضها مؤقتا في بعض نواحي البلاد، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت الدعوة والإصلاح من بابه، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، ذلك القفل الذي أعيى فتحه جميع المصلحين في هذه الفترة، وكل من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه.
دعا الناس إلى الإيمان بالله وحده، وفض الأوثان والعبادات، والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة، وقام في القوم ينادي: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
ودعا إلى الإيمان برسالته، والإيمان بالآخرة"اه.(27/177)
أقول: فلما صفت عقيدتهم وتوجهت قلوبهم إلى الله تبارك وتعالى وحده، محققة حكمته تعالى من خلقه لعباده كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) .
وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163) .
وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم القواعد والأسس التي تقوم عليها الوحدة الإسلامية بتشريع وتوجيه من الله تبارك وتعالى، ومن تلك الأسس:
أولاً: ربط الأمة بأعمال وأقوال تشعرهم بوحدتهم؛ لا فرق بين شخص وآخر في ذلك، مثل الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فلا يدخل أحد الإسلام إلا بهما، ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.." الحديث.
فجميع المسلمين على اختلاف أجناسهم وأوطانهم ينطقون بهذه الكلمة، وهذا يدل على وحدة الأمة الإسلامية في القول والمعتقد.
ثانياً: يتجهون جميعا بصلاتهم ودعائهم إلى قبلة واحدة، هي الكعبة المشرفة.
ثالثاً: سن لهم صلاة الجمعة والجماعة خلف إمام واحد لا يختلفون عليه.
رابعاً: فرض الله على الأمة صوم شهر واحد في السنة، يصومونه جميعا امتثالا لأمر الله تعالى.
خامساً: فرض عليهم حج بيته الحرام، وساوى بينهم في شعائره.
هذه التشريعات وغيرها من شعائر الإسلام شرعت بهذه الكيفيات لتشعر الأمة الإسلامية بوحدتها وجمع كلمتها، وبذلك يستقيم أمرها ويشتد ساعدها أمام أعدائها.
وقد بين صلى الله عليه وسلم لأمته معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنته صلى الله عليه وسلم.(27/178)
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) .
والإسلام بتعاليمه السمحة وحدة متكاملة، عقيدة وعبادة ومعاملة، ولم تفلح الأمة في وقت من أوقاتها إلا حين أخذت بتعاليم هذا الدين كاملة، نسأله تعالى أن يعيد الأمة الإسلامية إلى رشدها لتأخذ تعاليم دينها من كتاب ربها وسنة نبيه الصحيحة الشارحة والموضحة لكتاب الله تعالى، الذي شرع للناس ما يصلح لهم في الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين.(27/179)
التبيان في أقسام القرآن
للإمام ابن قيم الجوزية
من روائع ما كتب ابن قيم الجوزية - رحمه الله - كتابه المسمى (التبيان في أقسام القرآن) ، نهج فيه نهجه التحليلي العلمي الدقيق الذي يتسم فيه بما أفاض الله تعالى عليه من النظر الفاحص، وعمق الفهم، وشفافية الحس، ومن طيب ما كتب في كتابه المذكور ما يلي:
والذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى الصغار السمسميات التي أحكم بها مفاصل الأصابع والتي في الحنجرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلا، فإن كانت المفاصل هي العظام فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظاما صغارا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم، وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض - كما قال الجوهري وغيره: المفصل واحد مفاصل الأعضاء - فتلك أعم من العظام، فتأمله، وان السلاميات المذكورة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة"، الحديث. فالسلامى العظم، وجمعه سلاميات، فهنا ثلاثة أمور: أعضاء، وعظام، ومفاصل، وجعل الله سبحانه العظام أصلب شيء في البدن، لتكون أسا وعمدة في البد؛ إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام، حتى القلب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهي حاملة للأعضاء، والحامل أقوى من المحمول، ولتكون وقاية وجنة أيضا، كالقحف؛ فإنه وقاية للدماغ، وعظام الصدر وقاية له، وجعلت العظام كثيرة لفوائد ومنافع عديد:
منها الحركة فإن الإنسان قد يحتاج إلى حركة بعض أجزائه دون بعض، وقد يحتاج إلى حركة جزء من عضو.
ومنها أنه لو كان على عظم واحد لكان إذا أراد أن يتحرك تحرك بجملته.(27/180)
ومنها أنه إذا أصابه آفة عمت جميع البدن، فجعلت العظام كثيرة ليكون متى نال بعضها آفة لم تسر إلى غيره من العظام مقامه في تحصيل تلك المنفعة.
ومنها تعذر المنافع التي حصلت بسبب تعدد العظام، ولولا كثرتها وتعددها لفاتت تلك المنافع.
ومنها أن من العظام ما يحتاج البدن إلى كبيره، ومنها ما يحتاج البدن إلى صغيره، ومنها ما يحتاج إلى مستطيله، ومنها ما يحتاج إلى مجوفه، ومنها ما يحتاج إلى محنيه، ومنها ما يحتاج إلى مستقيمه، ولا يحصل ذلك إلا بتعدد العظام.
ومنها بديع الصنع، وحسن التأليف والتركيب، وغير ذلك من الفوائد.
ثم شد الخالق بعضها إلى بعض بالرباطات والأسر المحكم، ثم كساها لحما، حفاظا لها ووقاية، ثم كسا اللحم جلدا صونا له.
ولما كانت الفضلات تنقسم إلى لطيفة وغليظة جعل الله للغليظة منها مجاري تنجذب إلى أسفل، ويخرج منها خروجا ظاهرا للحس، وأما اللطيفة فهي العضلات البخارية، ولما كان من شأنها أن تصعد إلى فوق وتخرج عن البدن بالتحليل جعل في العظام العليا منها منافذ يتحلل منها البخار المتصاعد، فلم تكن تلك المنافذ محسوسة؛ لئلا يضعف صوان الدماغ - وهو القحف - بوصول الأجسام المؤذية إليه، فجعل الدماغ مركبة من عظام كثيرة، ووصل بعضها ببعض بوصل يقال لها الشؤون، ومنه قولهم: فلان لم تجتمع شؤون رأسه.
ويشتمل الرأس بجملة أجزائه على تسعة وخمسين عظما، وجعل القحف مستديرا تاما في مقدمه ومؤخره وجانبيه، بمنزلة غطاء القدر، وعظامه ستة وهي: عظم اليافوخ، وعظم الجبهة، وعظم مؤخرة الرأس، والعظمان اللذان فيهما ثقبا السمع، وفي كل واحد من الصدغين عظمان مصتان.
وعظام اللحى الأعلى أربعة عشر عظما: ستة منها في محاجز العينين، واثنان للأنف واثنان تحت الأنف، وهما المثقوبان إلى الفم، واثنان في الوجنتين، واثنان تحت الشفة العليا.
وأما العظم الشبيه بالوتد فهو واحد، وهو كالقاعدة للرأس.(27/181)
وعظام اللحى الأسفل اثنان: وهما متصلان في وسط الذقن، وبينهما بنيان، ويتصلان من فوق باللحى الأعلى اتصالا مفصليا.
والأسنان اثنان وثلاثون، في كل لحى ستة عشر، أربع ثنيات، وتليها الرباعيات، ويليهما الأضراس: خمسة من هنا وخمسة من هنا، والنواجذ أول الأضراس، وهما ناجذان في كل ناحية ناجذ.
وبما نقصت النواجذ في بعض الأفراد، وكان في كل جانب أربعة أضراس.
وصدق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . فاعتبروا يا أولي الأبصار.(27/182)
ظاهرة التقارض في النحو العربي (1)
للدكتور أحمد محمد عبد الله
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية
ظاهرة التقارض في اللغة العربية مظهر من مظاهر اتساعها، ولون من ألوان شمولها؛ لأن التوسع شائع في كلام العرب، فإذا كان الترادف والاشتقاق والتضاد والاشتراك والتضمين والمشاكلة الخ.. تمثل أنواع الإحاطة والتنوع في الأسلوب العربي، فإن التقارض يعد واحدا ومن هؤلاء؛ إذ به يستطيع المتكلم أن يقلّب الكلام على وجه عدة، وعلى كل حال هو مصيب فيما يذهب إليه، بشرط أن يكون معه سند من السماع، ووجه من وجوه التوجيه الصحيحة، وهذا يؤكد أن لغتنا العربية مرنة وطيعة وليست جامدة تقف عند لون معين من ألوان التعبير.
فالتقارض يمثل نوعا من أنواع الطرافة والمُلحة في التعبير، وقد تحدث ابن هشام عنه بإيجاز شديد، وألمح عنه بإشارة عجلى في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي طبّقت شهرته الآفاق (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) .
فما التقارض عند علماء اللغة؟
تفيد مادة (قرض) عندهم معاني كثيرة، أشهرها: الإعطاء والأخذ.
قال الفيروزابادي: (القَرْض ويكسر: ما سلّفت من إساءة وإحسان، وما تعطيه لتقضاه، وأقرضه: أعطاه، واقترض منه: أخذ القرض، وهما يتقارضان الخير والشر أي يتبادلان) .
وقال الزمخشري: واستقرضته فأقرضني، وأقرضت منه كما تقول: استلفت منه، وعليه قرض وقروض، وقارضته مقارضة وقراضا: أعطيته المال مضاربة، وفلان يقارض الناس مقارضة: يلاحبهم ويواقعهم.. وهم يقارضون الثناء والزيارة.
وقال الجوهري: (القَرْض ما تعطيه من المال لتقضاه، واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني، واقترضت منه أي أخذت منه القرض، وهما يتقارضان الخير والشر) .
وقال الفيومي: (والقرض) ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه، والجمع قروض مثل فَلس وفلوس، وهو اسم من أقرضته المال إقراضا.. وتقارضا الثناء أثنى كل واحد على صاحبه، وقارضه من المال قراضا من باب قاتل وهو المضاربة.(27/183)
وقال ابن منظور: وقد اقرضه وقارضه مقارضة وقراضا، واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني، وأقرضت منه، أي أخذت القرض، والعرب تقول لكل من فعل إليه خيرا: قد أحسن قرضي، وقد أقرضني حسنا، ويقال للرجلين: هما يتقارضان الثناء في الخير والشر، أي يتجازيان، قال الشاعر:
نظرا يزيل مواطئ الأقدام
يتقارضون إذا التقوا في موطن
ونقل ابن منظور عن أبي زيد الأنصاري أنه قال:
وهما يتقارظان المدح إذا مدح كل منهما صاحبه، ومثله يتقارضان بالضاد، وهما يتقارضان الخير والشر، قال الشاعر:
يتقارضان ولا أخا المقتر
إن الغني أخو الغني وإنما
هذا هو التقارض بمعناه العام كما ذكرته كتب اللغة.
أما التقارض الاصطلاحي الذي نعنيه في مجال الدراسات النحوية فهو:
أن تُعطي كلمة حكما يختص بها إلى كلمة أخرى لتعامل معاملتها، كما تُعطي الكلمة الأخرى حكما يختص بها إلى الكلمة الأولى لتعامل معاملتها أيضا.
وبعبارة أخرى: الاقتراض النحوي هو تبادل الأحكام بين كلمتين بحيث تعطي كل كلمة الحكم الذي يختص بها إلى الكلمة الأخرى، سواء كانت هذه الكلمة اسما أم فعلا أم حرفا.
وقد فسّر ابن يعيش المتوفى سنة (643أورد ابن ظهير القرشي ثلاثين اسما لمكة المكرمة في كتابه (الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) ص156.) التقارض بقوله:
معنى التقارض: أن كل واحد منهما (أي الكلمتين) يستعير من الآخر حكما هو أخص به.. فأصل (غير) أن يكون وصفا، والاستثناء فيه عارض معار من (إلا) .. الخ.
وقبل ابن يعيش قال الزمخشري المتوفى سنة (538أورد ابن ظهير القرشي ثلاثين اسما لمكة المكرمة في كتابه (الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) ص156.) عند الكلام على (إلا) و (غير) :
(واعلم أن إلا وغيرا يتقارضان ما لكل منهما) .
وعلى هذا التحديد الاصطلاحي سوف نعرض الأمثلة المتنوعة للتقارض بين الألفاظ المختلفة.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أنواع كما يلي:(27/184)
الأول: التقارض بين اللفظين في الأحكام الإعرابية.
والثاني: القارض بين اللفظين في الشكل والهيئة.
والثالث: التقارض بين اللفظين في المعاني.
فالنوع الأول يتضح بما يلي:
غير - إلاّ
أ- (غير) اسم شديد الإبهام ليس بمتمكن، ملازم للإضافة، ولا يتعرف بها لشدة إبهامه؛ فإن أضيفت (غير) إلى اللفظ فإن استعمالها يكون على وجهين:
الأول - وهو الأصل في استعمالها -: أن تكون صفة للنكرة نحو قوله تعالى: {نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} (فاطر: 37) فغير صفة لـ (صالحا) .
الثاني: أن تقترض من (إلا) حكمها فتفيد (غير) الاستثناء كما تفيده (إلا) ، وبناء على ذلك تعرب (غير) إعراب الاسم التالي إلاّ في ذلك الكلام فتقول: جاء القوم غيرَ زيد، بنصب غير، وما جاءني أحدٌ غيرُ زيد، بالنصب والرفع لغير، والمثالان المتقدمان يوضحان أن غيرا عوملت معاملة (إلا) في الاستثناء، وأعربت إعراب الاسم التالي لإلاّ، يؤيد ذلك بعض القراءات المشهورة:
قال الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} (النساء: 95) .
فقد قرئ برفع (غير) إما على أنه صفة للقاعدون؛ لأنهم جنس، وإما على أنه استثناء وأبدل على حد قوله تعالى: {ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء: 66) ، ويؤيده قراءة النصب أيضا.. وانتصاب (غير) في الاستثناء عن تمام الكلام عند المغاربة كانتصاب الاسم بعد (إلا) عندهم، واختاره ابن عصفور.
ب- وأما (إلا) فهي تأتي في الأساليب على أربعة أوجه:
أحدها - وهو الأصل في استعمالها - أن تكون للاستثناء نحو قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم} (البقرة: 249) ، ونحو قوله تعالى: {ما فعلوه إلا قيل منهم} (النساء: 66) ، فقد انتصب ما بعد إلا في الآية الأولى؛ لأن الاستثناء تام موجب، وارتفع ما بعد (إلا) في الآية الثانية؛ لأن الاستثناء تام منفي.(27/185)
الثاني: أن تكون (إلا) عاطفة بمنزلة الواو، ذهب إلى هذا الأخفش والفراء وأبو عبيدة، وجعلوا من ذلك الآية الكريمة: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} (البقرة: 150) ، التقدير على رأيهم: ولا الذين ظلموا منهم، وليس قولهم هذا بمسلم.
الثالث: أن تكون (إلا) زائدة، قال بذلك الأصمعي وابن جني وابن مالك، وجعلوا من ذلك قول ذي الرُّمة:
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
حراجيج ما تنفك إلا مناخة
فإلا زائدة في البيت على رأيهم.
الرابع: أن تكون 0إلا) بمعنى (غير) - وهذا هو محل الشاهد - أي يوصف بها كما يوصف بغير، فقد وصف بإلا جمع منكر كما في قوله تعالى: {لو كان فيهما إلا الله لفسدتا} (النساء: 22) .
فلا يجوز في (إلا) هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى؛ إذ التقدير يكون حينئذ: لو كان فيهما آلة ليس فيهم الله لم تفسدا، وليس ذلك المراد، ولا من جهة اللفظ؛ لأن آلة جمع منكر في الإثبات فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه، فلو قلت: قام رجال إلا زيدا، لم يصح اتفاقا، ومقال وقوع إلا وصفا قول ذي الرمة:
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة
فإلا بغامها صفة للأصوات.
وقول لبيد:
وقع الحوادث إلا الصارم الذَّكر
لو كان غيري سليمي الدهر غَيَّره
فإلا الصارم صفة لغيري.
وقد شرط ابن الحاجب في وقوع (إلا) صفة تعذر الاستثناء بها؛ لذا جعل من الشاذ قول الشاعر:
لعمر أبيك إلا الفرقدان
وكل أخ يفارقه أخوه
أي لجواز صحة الاستثناء بإلا.
قال أبو البقاء العكبري مشيرا إلى تقارض (إلا) و (غير) :
الأصل في (إلا) الاستثناء، وقد استعملت وصفا، والأصل في (غير) أن تكون صفة وقد استعملت في الاستثناء.
وما قاله أبو البقاء يفيد صحة التقارض لحمل إحداهما على الأخرى، (فغير) حين ضمنت معنى (إلا) حملت عليها في الاستثناء كما أن (إلا) قد تحمل على (غير) فتوصف بها لما بينهما من مشابهة؛ ولذا فهم يقولون:(27/186)
(إن الأصل في (غير) أن تكون صفة مفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها ذاتا أو صفة، والأصل في (إلا) مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا أو إثباتا، فلما اجتمع ما بعد (إلا) وما بعد (غير) في معنى المغايرة حملت (إلا) على غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها نفيا أو إثباتا، وحملت (غير) على (إلا) في الاستثناء فصار ما بعدها مغايرا لما قبلها.. إلا أن حمل (غير) على (إلا) أكثر من محمل (إلا) على (غير) .
ومن هنا نفهم سرّ التقارض بين (غير) و (إلا) في بعض الأحكام المنوطة بكل منهما.
أنْ - ما
أ- (أنْ) تأتي في الأساليب على عدة أوجه: أشهرها أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للفعل المضارع نحو قوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} (البقرة: 174) ، وقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم} (الحديد: 16) ، وليس دخولها قاصرا على الفعل المضارع فقط، بل تدخل على الفعل الماضي أيضا نحو قوله تعالى: {ولولا أن منّ الله علينا} (الإسراء: 74) ، وتدخل أيضا على فعل الأمر كحكاية سيبويه: كتبت إليه بأن قمْ.
وإذا كان المشهور في (أن) نصبها للفعل المضارع فقد ذكر بعض الكوفيين وأبو عبيدة واللحياني أن بعضهم يجزم بها وأنشدوا على ذلك قول امرئ القيس:
تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا
وقول جميل بثينة:
فتتركها ثقلا عليّ كما هيا
أحاذر أن تعلم بها فتردها
فيأتنا في البيت الأول مجزوم بأن، وكذلك تعلم في البيت الثاني.
وقد تهمل (أن) في الكلام، فلا تنصب ولا تجزم، ويكون فالفعل بعدها مرفوعا، فهي بهذا تقترض هذا الحكم من (ما) ، ومثال (أن) المهملة قراءة ابن محيصن: {لمن أراد أن يتمُّ الرضاعة} (البقرة: 233) برفع الفعل المضارع (يتم) وقد اعترض على الاستدلال بالآية، بأن صله يتمون، فهو منصوب بحذف النون وحذفت الواو للساكنين، واستصحب ذلك خطا، والجمع باعتبار معنى من تكلف.
ومثال (أن) المهملة أيضا قول الشاعر:(27/187)
منّي السلام وأن لا تشعرا أحدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما
فتقرآن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون على الرغم من تقدم (أن) عليه؛ لأنها هنا مهملة.
وقد اعترض الكوفيون على الاستدلال بهذا البيت، فزعموا أنّ (أنْ) في البيت مخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل.
غير أن الصواب أنها (أن) الناصبة أهملت، حملا لها على (ما) أختها في المصدرية؛ لأن (أن) المخففة من الثقيلة غالبا ما تقع بعد علم أو ظن، وهي في البيت لم تقع بعدهما فلا محل لاعتراضهم.
ب- أما (ما) فتأتي في الأساليب مهملة، أي لا تجزم ولا تنصب، هذا هو المشهور فيها حين تدخل على الفعل المضارع، غير أنها في بعض الأحيان قد تقترض من (أن) حكم النصب للفعل المضارع، فقد رأى بعضهم أن (ما) يجوز أن تنصب الفعل المضارع حملا لها على (أن) الناصبة كما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "كما تكونوا يولى عليكم" (1) ، على أحد الروايات، ذكر ذلك ابن الحاجب، (فتكونوا) فعل مضارع منصوب بحذف النون (بما) المتقدمة عليه، والمعروف في الرواية المشهورة: "كما تكونون"، وعلى هذا فلا شاهد فيه، وقد قال بعضهم معترضا على رواية النصب: ولا حاجة إلى جعل (ما) هنا ناصبة فإن ذلك إثبات حكم لم يثبت في غير هذا المحل، بل الفعل مرفوع ونون الرفع محذوفة.
وعلى كل حال فإن تقارضهما ثابت؛ لأن كلا منهما يجوز أن تحمل على الأخرى لذا قال ابن مالك:
ما أختها حيث استحقت عملا
وبعضهم أهمل (أن) حملا على
أي: يصح في (أن) الناصبة أن تهمل حملا لها على (ما) كما يجوز في (ما) أن تعمل النصب حملا لها على (أن) لما بينهما من مشابهة من حيث أن كلا منهما حرف مصدري، وكلا منهما حرف ثاني..
إنْ - لو
أ- (إنْ) بكسر الهمزة وتسكين النون المخففة: تأتي في الأساليب على وجوه عدة منها:(27/188)
الأول: أن تكون نافية وتدخل حينئذ على الجملة الاسمية نحو قوله تعالى: {إن الكافرين إلا في غرور} (الملك: 20) وقوله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم} (المجادلة: 2} .
الثاني: أن تكون مخففة من الثقيلة فتدخل على الجملتين الاسمية والفعلية نحو قوله تعالى: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} (الزخرف:35) ، وقوله تعالى: {وإن كل لما جميع لدنيا محضرون} (يس: 32) ، وقوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة} (البقرة: 143) .
الثالث: أن تكون شرطية فتجزم فعلين: الأول يسمى فعل الشرط، والثاني جواب الشرط نحو قوله تعالى: {وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: 39) وقوله تعالى: {وإن تعودوا نعد} (الأنفال: 19) .
ويعد هذا الوجه أشهر استعمالاتها غير أنها قد تأتي في الأسلوب مفيدة معنى الشرط وهي غير جازمة مقترضة هذا الحكم من (لو) التي تفيد معنى الشرط وهي غير جازمة، ومثال (إنْ) غير الجازمة ما روي في الحديث: "فإلا تراه فإنه يراك" (1) .
ب- أما (لو) فهي تأتي في الأسلوب حرف شرط في المستقبل إلا أنها لا تجزم، هذا هو المشهور في استعمالها نحو قوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله} (النساء: 9) .
ونحو قول الشاعر:
خُلُق الكرام ولو تكون عديما
لا يلفك الراجيك إلا مظهراً
وقالوا في تعليل عدم جزمها للفعل الذي تدخل عليه:
إن ذلك بسبب غلبة دخولها على الفعل الماضي، ولو أريد بها معنى إن الشرطية، غير أن بعض العلماء ذكر أن (لو) قد تقترض من (إنْ) الشرطية حكم الجزم فتجزم الفعل المضارع، وقد أجاز ذلك جماعة في الشعر دون غيره منهم ابن الشجري نحو قول الشاعر:
لاحق الآطال نهد ذو خُصَل
لو يشأ طار به ذو ميعة
وقول الشاعر:
إحدى النساء بني ذهل بن شيبابا
تامت فؤادك لو يَحزُنْك ما صنعت
فيشأ في البيت الأول ويحزنك في البيت الثاني مجزومان بلو على سبيل اقتراض حكم الجزم من إن الشرطية لما بينهما من أوجه المشابهة.(27/189)
وربما خرّج بعضهم البيت الأول على أنه جاء على لغة من يقول: (شا - يشا) بالألف ثم أبدلت الألف همزة على حد قول بعضهم: العألم والخأتم - بالهمزة، ويؤيد هذا التخريج أنه يجوز مجيء إن الشرطية في هذا الوضع؛ لأنه إخبار عما مضى، فالمعنى: لو شاء، وهذا الخريج يقدح أيضا في الاستدلال بالحديث السابق ذكره.
وعلى الرغم من ذلك فإنه يصح تقارضهما، أي إنْ ولو، لأنّ إنْ قد تحمل على لوْ فتهمل ولا تجزم، كقراءة ابن طلحة {فإما تَرَيْن} (مريم: 26) ، بياء المخاطبة الساكنة ونون الرفع المفتوحة، وحملت كلاهما على الأخرى لأنهما يفيدان الشرط، ويتفقان في ثنائية اللفظ، لذا قال ابن مالك:
ذو حُجّة ضعَّفها من يدري
وجوز الجزم بها في الشعر
وقال ابن مالك: يحمل معنى التردد لذا وقع له كلامان في هذه المسألة:
أحدهما: يقتضي المنع مطلقا في النثر والشعر، والثاني: ظاهره موافقة ابن الشجري فيما ذهب إليه (1) .
إذا - متى
أ- من وجوه استعمال (إذا) في الأساليب ما يلي:
أولاً: أن تكون للمفاجأة، فتختص بالجملة الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال نحو قوله تعالى: {فألقاها فإذا هي حية تسعى} (طه: 20) وقوله تعالى: {إذا لهم مكر في آياتنا} (يونس: 21) .
ثانياً: أن تكون لغير المفاجأة، أي تكون ظرفا للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية عكس الفجائية، وقد اجتمعت (إذا) الفجائية و (إذا) الشرطية في قوله تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} (الروم: 25) ، فإذا الأولى ظرفية وإذا الثانية فجائية.
ويكون الفعل بعد إذا الظرفية ماضيا كثيرا ومضارعا دون ذلك، وقد اجتمعا في قول أبي ذؤيب:
وإذا ترد إلى قليل تقنع
والنفس راغبة إذا رغبتها(27/190)
والوجه الثاني أشهر ورودا في الأساليب، غير أنها في بعض الأحيان قد تجزم الفعل الذي يأتي بعدها، وذلك حملا لها على (متى) الجازمة، أي تقترض منها حكم الجزم، كقول عبد القيس:
وإذا تصبْك خصاصة فتحمل
استغن ما أغناك ربك بالغنى
فإذا في البيت جازمة للفعل (تصبك) .
وقد خص بعضهم الجزم بها في الشعر دون النثر، قال ابن مالك في الكافية:
متى وذا في النثر لم يستعملا
وشاع جزم بإذا حملا على
وقال في شرحها: وشاع في الشعر الجزم بإذا حملا على متى، وأنشد:
نارا خمدت نيرانهم لم تقد
ترفع لي خندف والله يرفع لي
لكنه جوز في التسهيل الجزم بها في النثر على قلة، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: "إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين" الحديث.
ومن هنا نتبين أنه يجوز أن تأتي إذا جازمة في الشعر والنثر، وكلاهما قليل.
ب- أما (متى) فهو اسم الشيخ يجزم فعلين: الأول فعل الشرط والثاني جوابه، هذا هو المشهور في استعمالها، كقول سحيم بن وثيل:
متى أضع العمامة تعرفوني
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
فالفعل: أضع وتعرفوني مجزومان بمتى.
وقد تجيء (متى) في الأسلوب اسم شرط وهي مهملة أي غير جازمة، مقترضة هذا الحكم من (إذا) التي تتضمن معنى الشرط ولا تجزم، فهي في هذه الحالة يحكم بها بحكم إذا، كقول عائشة رضي الله عنها: (وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس) ، فالفعل يقوم غير مجزم بمتى، وكذلك لا يسمع.
وهكذا صح تقارضهما لأن كلا منهما قد تحمل على الأخرى، ولا التفات لما ذهب إليه أبو حيان الذي منع أن تهمل (متى) حملا لها على (إذا) .
لم - لن
أ- (لم) حرف يجزم الفعل المضارع وينفيه ويقلب زمنه إلى المضي، هذا هو الأصل في استعماله نحو قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد} (الإخلاص: 3) .(27/191)
غير أن هذا الحرف قد يترك عمل الجزم للفعل المضارع إلى عمل النصب فيه مقترنا هذا الحكم من (لن) لتشابههما في النفي، فقد حكى اللحياني عن بعض العرب أنه ينصب بلم، وقد وجدنا ابن مالك يقول في شرح الكافية: زعم بعض الناس أن النصب بلم لغة اغترارا بقراءة بعض السلف: {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح: 1) بفتح الحاء، أي نصب الفعل المضارع (نشرح) بلم، وكقول الحارث بن منذر:
ايوم لم يقدر أو يوم قدر
في أيّ يومي من الموت أفرّ
بنصب الفعل يقدر بعد لم، فقد عملت (لم) النصب في الفعل بعدها.
ولم يزافق على هذا بعض العلماء فقد ذهبوا إلى أن النصب في الآية والبيت على أن الأصل: نَشرَحَن، ويقدرَن، ثم حذفت نون التوكيد الخفيفة وبقيت الفتحة دليلا عليها، وقد اعترض على هذا التوجيه بأن فيه شذوذين: توكيد المنفي بلم، وحذف النون لغير وقف ولا ساكنين.
وخرج بعضهم الفتح في الآية والبيت على أنها اتباع للفتحة قبلها أو بعدها.
ب- (لن) حرف ينصب الفعل المضارع وينفيه ويمحضه للاستقبال نحو قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسيا} (مريم: 26) ، ولا تفيد توكيد النفي ولا تأبيده خلافا لمن زعم ذلك، وقد رُدّ هذا الادعاء بأنها لو كانت للتأبيد للزم التناقض بذكر اليوم في {فلن أكلم اليوم إنسيا} والتكرار أبدا في قوله تعالى: {ولن يتمونه أبدا} (البقرة: 95) ، وأما التأبيد في {لن يخلقوا ذبابا} (الحج: 73) فلأمر خارجي لا من مقتضيات (لن) .
وتأتي (لن) للدعاء كما أتت (لا) وفاقا لجماعة منهم ابن عصفور بدليل قول الأعشى:
ـت لكم خالدا خلود الجبال
لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ
وما تقدم هو الأصل في استعمالها، وقد تخرج (لن) عن نصب المضارع إلى جزمه مقترضة هذا الحكم من (لم) كقول كثير عزة:
فلن يحل للعينين بعدك منظر
أيادي سبايا عزَّ ما كنت بعدكم
وقول أعرابي يمدح الحسين بن علي:
حَرَّك للعينين بعدك منظر
لن يخِب الآن من رجائك من(27/192)
فقد جزمت (لن) الفعل (يحل) في البيت الأول، وجزمت الفعل (يخب) في البيت الثاني.
وعلى الرغم من أن بعضهم وجّه الفعل في كل بيت على أنه محتمل للاجتزاء بالفتحة عن الألف للضرورة، فالتقارض بينهما مؤيد بالسماع؛ لوجود مشابهة بينهما، وهو النفي في كل منهما واختصاصهما بالفعل المضارع دون غيره.
ما - ليس
أ- من أوجه استعمال (ما) في الأساليب أن تكون حرفا نافيا داخلا على الجملة الاسمية، وهي في هذه الحالة تعمل عمل (ليس) على رأي الحجازيين والتهاميين والنجديين، وأهملها بنو تميم، وهو القياس؛ لعدم اختصاصها بالأسماء، ولإعمالها عند الحجازيين شروط فصلتها كتب النحو، فمثال (ما) العاملة عمل ليس نحو قوله تعالى: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31) وقوله تعالى: {ما هن أمهاتهم} (المجادلة: 2) ، وقد عملت (ما) عمل ليس لحملها عليها لمشابهتها إياها في المعنى وهو النفي، وقد ذكروا أن المثبت لإعمالها عمل (ليس) هو الاستقراء، أما إذا دخلت (ما) النافية على الجملة الفعلية فإنها لا تعمل نحو قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} (البقرة: 272) ، فما تقترض حكم ليس حين تدخل على الجملة الاسمية.
ب- أما (ليس) فهو فعل جامد لا يتصرف ناسخ من أخوات كان، ينفي الحال ويرفع المبتدأ وينصب الخبر نحو: ليس بكر عالما، هذا هو الأصل في عملها.
وقد تخرج (ليس) عن هذا الأصل فلا تعمل، أي تهمل؛ حملا لها على (ما) ، وذلك حين ينتقض خبرها بإلا بجامع المشابهة التي بينهما، فكذلك إذا انتقض خبر ليس بإلا فإنها لا تعمل، فقد اقترضت من (ما) هذا الحكم نحو قولهم: ليس الطيب إلا المسك، برفع المسك، قال ابن هشام في المثال المتقدم:
فإن بني تميم يرفعونه حملا لها على (ما) في الإهمال عند انتقاض النفي كما حمل أهل الحجاز (ما) على ليس في الإعمال عند استيفائه شروطها، حكى ذلك عنهم أبو عمرو بن العلاء.
عسى - لعلّ(27/193)
أ- (عسى) فعل ماض يفيد معنى الترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه، وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم} (البقرة: 216) .
والاسم الذي بعدها يكون مرفوعا على أنه اسم لها، ويأتي بعد ذلك الخبر المنصوب، نحو قول هدبة بن خشرم:
يكون وراءه فرج قريب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
وقول رؤبة:
لا تكثرن إني عسيت صائما
أكثرت في اللوم ملحا دائما
وقوله في المثل: عسى الغوير أبؤسا.
وقد تخرج (عسى) عن عمل الرفع والنصب على الترتيب إلى عمل النصب والرفع، فيقال: عسايَ وعساك وعساه، وقد قيل في تخريج ذلك:
إن عسى اقترضت عمل النصب والرفع على الترتيب من لعلّ.
ب- (لعلّ) حرف يفيد معنى الترجي والطمع، وقرد يرد إشفاقا، نحو قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} (الكهف: 6) ، ومعلوم أنه ينصب الاسم ويرفع الخبر كإنّ، هذا هو الأصل في عمل هذا الحرف، وقد ينصبهما على قلة، حكي عن بعض العرب: لعل أباك منطلقا، وخبر هذا الحرف الأصل فيه أن يجيء اسما صريحا كما تقدم في الآية الكريمة، وقد يخرج خبره عن كونه اسما صريحا فيجيء فعلا مضارعا مقترنا بأن، مقترضة هذا الحكم من (عسى) ، نحو قول متمم بن نويرة:
عليك من اللائي يدعنك أجدعا
لعلك يوما أن تلم ملمة
ومنه الحديث: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" (1) .
وهكذا رأينا في الأمثلة المتقدمة أن (عسى) أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر، كما أجريت (لعل) مجرى (عسى) في اقتران خبرها بأن، قال صدر الأفاضل: أجري لعل بحيث أدخل على خبرها (أن) المصدرية مجرى عسى، كما تجرى عسى مجرى لعل، وهذا على طريق المقارضة.
عسى - كاد(27/194)
أ- لقد عرفنا فيما تقدم أن الغالب في خبر (عسى) أن يقترن بأنْ المصدرية؛ لأنها من أفعال الترجي، وقد أوجب جمهور البصريين اقتران خبرها بأن، وقالوا: إن خبرها لا يجرد منها إلا لضرورة، وحينئذ يخرج خبرها من مجيئه مقترنا بأن إلى مجيئه مجردا من أن، مقترضا هذا الحكم من (كاد) التي يغلب على خبرها أن يكون مجردا من (أن) ، قال هدبة بن خشرم:
يكون وراءه فرج قريب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
ب- أما (كاد) فخبرها يأتي مجردا من أن؛ لأن المنقول عن فصحاء العرب إيقاع أن بعد عسى وإلغاؤها بعد كاد، والعلة فيه: أن كاد وضعت مقاربة الفعل ولهذا قالوا: كاد النعام يطير، لوجود جزء من الطيران فيه، وأن وضعت لتدل على تراخي الفعل ووقوعه في الزمان المستقبل، فإذا وقعت بعد كاد نافت معناها الدال على اقتراب الفعل، وحصل في الكلام ضرب من التناقض.
وليس كذلك (عسى) لأنها وضعت للتوقيع الذي يدل على وضع (أن) على مثله، فوقوع (أن) بعدها يفيد تأكيد المعنى ويزيده فضل تحقيق وقوة، وقد نطقت العرب بعدة أمثال جاء فيها خبر (كاد) مجردا من (أن) على الأصل فقالوا: كاد العروس يكون ملكا، وكاد المنتقل يكون راكبا، وكاد الحريص يكون عبدا، وكاد البيان يكون سحرا، وكاد النعام يكون طيرا، وكاد البخيل يكون كلبا، ومن القرآن الكريم قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء} (النور: 35) .
وقد يخرج خبر (كاد) عن الأصل فيأتي مقترنا بأن مقترضا هذا الحكم من (عسى) ، ومن أمثلة هذا النوع:
قوله صلى الله عليه وسلم: "كاد الفقر أن يكون كفرا" (1) ، وقول عمر رضي الله عنه:) وما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) ، وقول أنس رضي الله عنه: (فما كدنا أن نصل إلى منازلنا) ، وقول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجد ثم سجد فلم يكد أن يرفع رأسه) .
ومن النظم قول الشاعر:
لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السِّلّ
أبيتم قبول السِّلم منا فكدتم(27/195)
وليس ذلك بضرورة؛ لتمكنه من أن يقول لدى الحرب مغنون السيوف عن السل، وهكذا فإن خبر (كاد) قد يقترن بأن كما أن خبر (عسى) قد يأتي مجردا من أن، وذلك على سبيل المقارضة بينهما.
الفاعل - المفعول
أ- الأصل في الفاعل أن يأتي مرفوعا نحو قوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى} (طه: 79) ، وقد يخرج عن هذا الأصل إلى النصب، مقترضا هذا الحكم من المفعول به نحو قولهم:
خرق الثوبُ المسمارَ، وكسَر الزجاجُ الحجرَ؛ فالمسمار هو الفاعل وحقه أن يكون مرفوعا لكنه اقترض النصب من المفعول به فنصب، وكذلك الحجر.
ب- والأصل في المفعول به أن يكون منوصبا، وقد يخرج عن هذا الأصل فيصير مرفوعا؛ مقترضا هذا الحكم من الفاعل، نحو الأمثلة المتقدمة، فالثوب والزجاج مفعولان حقهما النصب ولكنهما رفعا على سبيل المقارضة، ومن أمثلة الاقتراض بينهما قول الأخطل يهجو جريرا:
نجوان أو بلغت سوءاتِهم هجرُ
مثل القنافد هداجون قد بلغت
فنجران وهجر مفعولان حقهما النصب لكنهما رفعا على سبيل الاقتراض، وسواءتهم في الأصل هي فاعل حقها الرفع لكنها نصبت على طريق التقارض أيضا، وسمع نصبهما - أي الفاعل والمفعول - نحو قول الشاعر:
الأفعوان الشجاع الشجعما
قد سالم الحياتِ منه القدما
في رواية من صب الحيات.
وسمع أيضا رفعهما - أي الفاعل والمفعول - نحو قول الشاعر:
كيف من صاد عقعقان وبومُ
إنّ من صاد عقعقا لمَشوم
الصفة المشبهة - اسم الفاعل
أ- الأفضل في مفعول الصفة المشبهة أن يكون مجرارا نحو: محمد ضامر البطنِ ومنطلق اللسانِ وحسن الخلقِ؛ لأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت واللزوم، ولهذا أصبحت مع معمولها كالكلمة الواحدة؛ فالأحسن أن تضاف إلى معمولها لكنها قد تخرج عن هذا الحكم فتنصب معمولها مقترضة هذا الحكم من اسم الفاعل الذي يعد أقوى منها في العمل، فيجوز أن تقول: زيد الحسن الوجهَ، بنصب الوجه على سبيل الاقتراض منه.(27/196)
ب- والأفضل في اسم الفاعل أن ينصب المفعول به، وذلك حين يستوفي شوط عمله إذا كان مجردا؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث، ويناسبه أن يكون مفعولا منصوبا لأنه محمول على الفعل المضارع إلا أن اسم الفاعل قد يجر مفعوله مقترضا هذا الحكم من الصفة المشبهة التي تدل على الثبوت واللزوم.
ولذا قال ابن هشام: يجوز (إعطاء الحسن الوجه حكم الضارب الرجل في النصب، وإعطاء الضارب الرجل حكم الحسن الوجه في الجر) وذلك على سبيل الاقتراض.
اسم التفضيل - أفعل في التعجب
أ- الأصل في اسم التفضيل أن يرفع الاسم الظاهر لأنه مشتق والمشتقات ترفع الظاهر والمضمر، غير أن اسم التفضيل لا يرفع الظاهر لشبهه بأفعل التعجب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة، فقد اقترض (اسم التفضيل) من أفعل التعجب هذا الحكم وهو عدم رفع الاسم الظاهر.
ب- والأصل في أفعل التعجب أن لا يصغر، لأن (أفعل التعجب) فعل والتصغير مختص بالأسماء، ومبنى والتصغير لا يدخل الأسماء المبنية إلا شذوذا غير أن أفعل التعجب قد يصغر مقترضا هذا الحكم من اسم التفضيل لأنهما متشابهان وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة. قال الشاعر:
من هؤليائكن الضال والسمر
ياما أمليح غزلانا شَدَنَّ لنا
قال الجوهري: ولم يسمع ذلك إلا في أحسن وأملح، قال ابن هشام: ولكن النحويين مع هذا قاسوه، ولم يحك ابن مالك اقتياسه إلا عن ابن كيسان وليس كذلك، قال أبو بكر بن الأنباري: ولا يقال إلا لمن صغر سنه.
النوع الثاني: التقارض بين اللفظين في الشكل والهيئة
الحال - التمييز
أ- يذهب جمهور النحاة إلى أن الأصل في الحال أن ترد في الأسلوب مشتقة من المصدر لتدل على متصف نحو: جاء بكر ضاحكا، وضربت اللص مكتوفا، وقد تجيء جامدة مقترضة هذا الجمود من التمميز لما بينهما من أوجه الشبه، ويكثر مجيئها جامدة في مواضع:
إن دلت على سعر نحو: بعه مدّا بدرهم، فمدا حال جامدة، أي بعه مُسعِّرا كل مد بدرهم.(27/197)
وإن دلت على تفاعل نحو: بعته يدا بيد، أي مناجزة، أو دلت على تشبيه نحو: كرّ زيدٌ أسداً أي مشبها للأسد؛ فيدا واسدا جامدان، وصحّ وقوعهما حالا لظهور تأولهما بمشتق كما تقدم.
وتجيء الحال جامدة إن دلّت على ترتيب كقولك: ادخلوا الدار رجلا رجلا، وقولك سار الجند رجلين رجلين، تريد مرتين.
وضابط هذا النوع: أن يذكر المجموع أولاً ثم يفصل بذكر بعضه مكررا.
وتجيء الحال جامدة إن وصفت نحو قوله تعالى: {قرآنا عربيا} (يوسف الآية 3) ، وقوله تعالى: {فتمثل لها بشرا سويا} (مريم الآية: 17) ، وكذلك إن دلت على عدد نحو قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} (الأعراف الآية 142) ، وكذلك إذا كانت الحال نوعا من صاحبها كقولك: هذا مالك ذهبا، أو يكون الحال فرعا لصاحبها نحو: هذا حديدك خاتما، وكقوله تعالى: {وتنحتون الجبال بيوتا} (الشعراء الآية 149) .
ب- والأصل في التمييز أن يكون جامدا نحو: حَسُن محمد علما، وزرعت الأرض شجرا، وعندي قفيزٌ بُرّا، وقد يترك التمييز هذا الأصل فيجيء مشتقا مقترضا هذا الحال لما بينهما من مشابهة نحو: لله دره فارسا، وحسبك به كافلا، وكفى عالما.
قال الأشموني: إن حق الحال الاشتقاق، وحق التمييز الجمود، وقد يتعاكسان، فتأتي الحال جامدة، كهذا مالك ذهبا، ويأتي التمييز مشتقا نحو: لله دره فارسا. أي يتعاكسان على سبيل الاقتراض فكل منهما يقترض هيئة الآخر لأوجه شبه بينهما.
الجمع - المثنى
أ- حق نون الجمع المذكر السالم وما لحق به في إعرابه أن تكون مفتوحة نحو قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون الآية الأولى) ، ونحو {وبشِّر الصابرين} (البقرة الآية 153) ، وقد فتحت نون الجمع طلبا للخفة من ثقل الجمع، وفرقا بينه وبين نون المثنى، لكن نون جمع المذكر السالم قد تكسر مقترضة هذا من نون المثنى، كقول جرير بن عطية:
وأنكرنا زعانف آخرينِ
عرفنا جعفرا وبني أبيه
وقول سحيم بن وثيل الرياحي:
وقد جاوزتُ حدّ الأربعينِ(27/198)
وماذا يبتغي الشعراء مني
بكسر نون (آخرين) في البيت الأول، وكذلك كسر نون (الأربعين) في البيت الثاني.
ب- وحق نون المثنى وما لحق به في الإعراب أن تكون مكسورة على الأصل في التقاء الساكنين، لكون نون المثنى قد تجيء مفتوحة مقترضة هذا من نون الجمع كقول حميد بن ثور الهلالي:
فما هي إلاّ لمحةٌ وتغيب
على أحوذيينَ استقلت عشيّة
وكقول رجل من ضَبّة:
ومنخرين أشبها ظبيانا
أعرف منها الجيد والعينانا
قال ابن مالك فيما تقدم:
فافتح وقلَّ من بكسره نَطَق
ونو مجموع وما به التحق
بعكس ذلك استعملوه فانتبه
ونون ما ثني والملحق به
---
(1) رسائل ابن كمال باشا، ط أولى، الرياض.
(2) راجع مغني اللبيب 915، 916، 917، ط بيروت.
(3) القاموس المحيط: (قرضه) ط دار الفكر، بيروت.
(4) أساس البلاغة (قرض) ط دار المعرفة، بيروت.
(5) الصحاح (قرض) ط دار الحضارة العربية، بيروت.
(6) المصباح المنير (قرضت) دار المعارف، القاهرة.
(7) لسان العرب (قرض) ط الهيئة العامة للكتاب - مصر.
(8) شرح المفصل: 2/88.
(9) المفصل: 88 ط ثانية، بيروت، والأشباه والنظائر للسيوطي: 1/138 ط أولى - القاهرة.
(10) الكتاب لسيبويه: 3/479 هارون.
(11) راجع مغني اللبيب: 309، 310.
(12) الديوان 173.
(13) نفسه: 638.
(14) الديوان: 62.
(15) الأشباه والنظائر للسيوطي: 1/75، 179، وراجع كتاب سيبويه 2/331، 335 هارون.
(16) راجع حاشية الصبان على الأشموني 2/155 ط الحلبي - القاهرة.
(17) الديوان: 153.
(18) الديوان: 234.
(19) راجع مغني اللبيب: 41، والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري: 2/563 ط رابعة - القاهرة، شرح الأشموني: 3/287.
(20) قالوا إنه حديث ضعيف، وهو في مغني اللبيب: 915، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني 2/126، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي 326.
(21) صحيح مسلم: كتاب الإيمان.(27/199)
(1) قيل إنه لامرأة حارثية، وهو في خزانة الأدب 4/521.
(2) قاله لقيط بن زرارة، المغني 357، وخرج بعضهم البيت على أن ضمة الإعراب سكنت تخفيفا، الأشموني 4/43.
(3) راجع المغني 915، 916، والأشموني وحاشية الصبان: 4، 13، 14، 43.
(4)
(5) صحيح البخاري: كتاب الصلاة.
(6) راجع مغني اللبيب 120، 121، 212، 916، وشرح الأشموني 4/13.
(7) راجع مغني اللبيب: 365، وحاشية الصبان 4/8.
(8) الديوان: 113.
(9) الديوان 1/60.
(10) راجع مغني اللبيب: 387-388 وحاشية الصبان 1/374.
(11) مجمع الأمثال: 1/477.
(12) راجع مغني اللبيب: 202.
(13) شرح ابن الناظم: 62.
(14) مغني اللبيب: 377-379، 917، 623.
(15) صحيح البخاري: كتاب الأحكام.
(16) راجع شروح سقط الزند 4/1852.
(17) راجع رسائل ابن كمال باشا: 24، 25
(18) الحديث أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: 533، 109.
(19) صحيح البخاري: 5/141، وصحيح مسلم: 1/ 438، والترمذي 1/337.
(20) صحيح البخاري: 2/36.
(21) سنن أبي داود 1/310.
(22) راجع رسائل ابن كمال باشا: 25، وشرح ابن الناظم: 59، 60، 61، والأشموني 1/258 وما بعدها.
(23) جرأهم على ذلك أمن اللبس ووضوح المعنى.
(24) راجع مغني اللبيب: 917، 918.
(25) مغني اللبيب: 918.
(26) راجع مغني اللبيب 894-918.
(27) راجع ابن عقيل: 1/627، 628، 629.
(28) راجع الأشموني: 2/170-171.
(29) راجع شرح الأشموني 1/88، 89، 90، وابن عقيل 1/66، 67، 68، 69.(27/200)
مسلك القران الكريم في إثبات الوحدانية
د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
عميد شئون المكتبات بالجامعة
ج - تذكير المخاطبين بالنعم التي أنعم الله بها عليهم:
من الأساليب التي سلكها القران الكريم لرد الفطرة إلى طبيعتها التي فطر الله الناس عليها، تذكيرهم بالنعم التي اسداها إليهم والتي يدركون بالحس أنهم لم يحدثوا منها شيئاً, وإنما الله هو الذي تفضل بها عليهم.
ثم يعقب ذلك بعرض بعض قصص الأنبياء في دعوتهم لاممهم لمثل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اخلاص العبادة لله وحده، وبيان ما حل بأولئك الذين لم يستجيبوا لدعوة أنبيائهم من العذاب، تحذيراً للمخاطبين أن ينزل بهم ما نزل بأولئك المكذبين وقد عرض القران الكريم كثيراً من ذلك في سور متعددة نذكر من ذلك نموذجين:
الأول: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: الاية 17-22)(27/201)
وبعد أن عدد الله تبارك وتعالى هذه النعم، وهي في نفس الوقت آيات واضحات ودلالات على وحدانيته سبحانه وتعالى، اتبع ذلك بذكر الأنبياء مع أممهم وبيان ما حل بالمكذبين منهم قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} (المؤمنون: الآية 31 - 3 2) .
إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: الآية 41-44) .(27/202)
وهكذا يقص الله تبارك وتعالى على هذه الأمة ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسلها فأهلكهم الله جميعاً ف أصبحوا أحاديث وكأنهم لم يوجدوا {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (القمر: الآية 41-43) .
النموذج الثاني: قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: الآية 1- 2) .
ينزه الله تبارك وتعالى تفسه عن الشركاء فهو الواحد الأحد، ليس له شريك في الملك، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: الآية 31) .
ويقرر أمر النبوة، بأنزال الملائكة بالوحي من السماء، على من اختارهم واصطفاهم من عباده {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: الآية 75) لينذروا الناس ويبينوا لهم أن الإله المعبود هو الله، وحده وأن هذه الآلهة المزعومة والشركاء المدعوين من دونه لا يملكون لنفسهم ضراً ولا نفعاً. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ …} .
ثم يتبع ذلك بالأدلة على من يستحق العبادة، تلك الأدلة التي تخاطب العقل والوجدان معاً. أدلة ملموسة محسوسة يعيشها المخاطبون يشاهدونها بأبصارهم، ويذكرونها بعقولهم منها:
1-خلق السموات التي يدرجون تحنها.
2- وخلق الرض التي يعيشون عليها.
3- وخلق المخاطبين أنفسهم، فهم الدليل والمستدل عليه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .(27/203)
4- وخلق ما به استقامة حياتهم وصلاح معاشهم
يقول الله تعالى في ذلك: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل: الآية 3-7) .
هكذا يبين الله تعالى الأدلة على وحدانيته فالموجد لجميع المخلوقات يجب أن يكون هو المعبود وحده {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ويخبر عن النقلة الهائلة بين خلق افنسان من نطفة ضعيفة حقيرة مهينة لا تكاد تكون شيئاً مذكوراً، وبين أن يصبح خصيماً مبيناً، ومن يخاصم، يخاصم خالقه الذي أوجده من العدم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: الآية 78) .
ثم يذكر الإنسان بأن من نعم الله عليه هذه المركوبات التي سخرها له، من الخيل والبغال والحمير، والني يتخذها زينة، ويشير إلى ما سيخلقه مما لا يعلمه المخاطبون في عصرهم من أنواع المركوبات، والحاملات للأثقال التي يشق عليهم حملها، والنواع المعدة للزينة {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
ثم يتبع ذكر الآيات المحسوسة والمشاهدة التي هي جزء من حياة الإنسان: ويطلب منه أن يتفكر ويتعقل هذه الآيات، ثم يذكر لعله بذلك يشكر الله الذي أوجد له هذه النعم.(27/204)
ويسرها له حتى يعبده وحده لأن الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، بخلاف الذي لا يستطيع الخلق والايجاد.
يقول الله تعالى في ذلك: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: الآية10-16)
ثم يلفت أنظار المخاطبين الغافلين عن التعقل والتبدر في هذه المشاهد، ويذكرهم بأن موجد هذه الأشياء وخالقها ومسخرها لهم هو المستحق للعبادة وحده، ويبقي سبحانه التسوية بين المعبود الحق، والمعبودات الباطلة التي لا تخلق شيئاً وذك في استفهام انكاري فيقول: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: الاية17-18) .(27/205)
ويختم هذا العرض لهذه الآيات ببيان علمه الشامل لما تكنه الصدور أو تظهره إذ لا فرق عنده سبحانه بين ماتوسوس به النفس، وبين ما تظهره فهو يعلم السر وأخفى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
ويعقب ذلك ببيان حال الآلهة من دونه، وأنهم عاجزون لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يسوغ دعاؤهم، ومنهم أموات لا يشعرون بالوقت الذي فيه يبعثون.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: الآية 20-21)
أما الإله الحق فهو واحد، لا تعدد فيه لأن الآلهة يحصل به الفساد في الكون ولا ينكر الوحدانية إلا المتكبرون الكافرون باليوم الآخر.
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (النحل: الآية 22)
فمن أسباب الإعراض عن الحق الكبر, والكبر غمط الحق، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن جزاء المتكبرين النار.
وبعد هذا العرض الموجز لهذه النماذج التي سلكها القران الكريم لاثبات الوحدانية في الألوهية، تبين أن المشركين لم يدعوا لمعبوداتهم أنها تخلق أو ترزق أو تحي أو تميت، وإنما ذلك كله لله.
وكل الذين يطلبونه منها هو التوسط لهم عند الله، فهم يدعونها ويتقربون إليها بالنذور والقرابين لتقربهم إلى الله زلفى. { ... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: الآية 3)
فما عبادتهم تلك؟ أوضحت الايات السابقة أن من عبادتهم لها:
1- دعاؤها
2- حبها والخوف منها - الاستشفاع بها.
3- والعبادة في الإسلام ليست محصورة في الصلاة والصوم وأركان الإسلام مثلاً؟ لأن الله يقول {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: الآية 56) .(27/206)
فهل يستطيع البشر أن يصلوا فلا يفتروا، وان يصوموا الدهر فلا يفطروا، ليس ذلك في استطاعتهم ولم يهيئوا لذلك. فالإنسان مركب من روح وبدن ولكل مطالبه.
وإنما معنى العبادة أوسع من ذلك وقد بينت الآية التالية شمولها وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: الآية 164-165) .
ومن هنا يتضح شمول العبادة لأنواع كثيرة من أفعال العباد يصرفها كثير من الناس لغير الله ظناً منهم أن ذلك من المور الجائزة وهي من صميم العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله ومن ذلك:
1- الدعاء:
وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه أن الدعاء عبادة. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: الآية 60) .
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} مريم: (الآية 48-49) .
فقد بين الله في الآيتين أن الدعاء عبادة, ففي الآية الأولى, قال: ادعوني … إن الذين يستكبرون عن عبادتي، فالعبادة هي الدعاء.
وقول إبراهيم: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله … فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله. فدعاء غير الله عبادة والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله.
وفي الحديث الدعاء مخ العبادة.(27/207)
ولذلك فإن المشركين كانوا يخلصون الدعاء لله في وقت الشدة, كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (يونس: الآية 22) .
يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه عقيدة المسلم ص 64 تحت عنوان: توحيد العامة وما يعلوه من غبار. ينبغي لهذه الأمة أن تكون مثلاً عالياً في إسلام الوجه لله وإفراده بالنية والعمل. بيد أننا نلحظ - آسفين - أن هناك مسالك شائعة بين الجماهير الغفيرة من المسلمين، لها دلالتها على فساد التفكير، وضلال الاتجاه واضطراب المقصد. ولا نحب أن نوارب في الكشف عن هذه العلة, فإن أي خلل في دعائم التوحيد معناه الخبل الذي يدرك موطن القيادة الفكرية في هذا الدين الحنيف.
غذ التوحيد في الإسلام حقيقة وعنوان، وساحة وأركان، وباعث وهدف ومبدأ ونهاية.
قال: " ولسنا - كذلك - ممن يحب تصيد التهم للناس، ورميهم بالشرك جزافاً, واستباحة حقوقهم ظلماً وعدواناً.
ولكننا أمام تصرفات توجب علينا النظر الطويل، والنصح الخالص والمصارحة بتعاليم الكتاب والسنة كلما وجد عنها أدنى انحراف ".
ثم يضرب الأمثلة على هذا الانحراف من واقع الأمة في هذا العصر فيقول: " لقد اهتمت حكومة انجلترا - في سبيل مكافحة الشيوعية - بالحالة الدينية في مصر! فكان مما طمأنها على إيمان المصريي: " أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا هذا العام ".(27/208)
قال: " والذين زاروا الضريح ليسوا مجهولين لدى، فطالما أوفدت رسميا لوعظهم، فكنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر بالكلام. ثم يبين حالهم ولماذا جاءوا إلى صاحب الضريح، فيقول: جاءوا للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء. ولمن النذور؟ ولمن الدعاء؟ إنه أول الأمر للسيد ".
وأوضح بعد ذلك: ان من بدهيات الإسلام الأولى، أن الطلب ووسيلته جميعاً يجب أن يكون من الله
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: الآية 5)
" إذا سألت فاسأل الله " (رواه أحمد والترمذي) .
أقول: ما ذكره الشيخ محمد الغزالي عن حال أولئك الملايين عند ضريح السيد البدوي، هو حال أكثر العالم الإسلامي في شرق الأرض وغربها، وقد شاهدت بعيني وسمعت بأذني من يطلب السيد الإدريسي - وهو متمسك بالحلة الخضراء المكسي بها الضريح داخل المسجد - الولد والشفاء من المرض، وكل ما لا يطلب إلا من الله الواحد الأحد.
إن هؤلاء إذا قلت لهم: قولوا: لا إله إلا الله. امتدت بها حناجرهم وارتفعت بها أصواتهم وقالوها أكثر من سبعين مرة. وهم مع ذلك سادرون في هذا العمل لأنهم لا يعرفون معناها، وماذا تريد منهم أن يلتزموا به أمام خالقهم عبادة وحكماً وسلوكاً.
أما الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. فمن وفقه الله، قالها وعمل بمقتضاها فلم يدع غير الله ولم يتحاكم إلى سواه.
ومن لم يوفق قال: أجعل الألهة إلهاٍ واحداً. وسل سيفه فكان الأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه. فهل إن ذلك لمجرد النطق بلفظ: لا إله إلا الله ... ! لا..(27/209)
لأن من كان في آخر لحظة من حياته كأبي طالب حين طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله ليحاج له بها عند الله، لم يقلها، فأبو جهل كان عنده يقول له: أترغب عن ملة بد المطلب فكان آخر كلامهأن قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فكان من أهل النار، وأنزل الله فيه قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: الآية 56) .
ومن هنا نداءنا إلى الأساتذة الفضلاء، وهم من قادة الفكر الإسلامي المهتمينبتوجيه شباب الأمة الإسمية إلى الخير، الشباب الذي تعلق عليه آمال الأمة في قيادتها إلى ما فيه عزها وفلاحها في الدنيا والآخرة, أن يرجعوا أولاً لدراسة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم في مكة وهي ثلاثة عشر عاماً قضاها رسول الله صلى الله من عمر الدعوة، إلى أي شيء كان يدعو الناس، وما طريقته وأسلوبه في مخاطبة الأمة الني بعث فيها.
الواقع أنه مكث تلك الفترة لاصلاح قلوب الناس وتخليصها من الشركاء المتشاكسين، دعاهم إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) ووعدهم بأنهم إن قالوها دانت لهم العرب والعجم، وكان المخاطبون يفهمون معناها، وما تضمنته من نفي واثبات.
وقد تحقق ذلك الوعد لمن قال تلك الكلمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور، الآية 55) .(27/210)
أولئك الذين رباهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم تلك التربية الفريدة في نوعها حتى عمرت قلوبهم بالإيمان، تلقوا الحكام عند نزولها بصدور رحبة وإيمان راسخ، فلبوا داعي الله قدموا نفوسهم رخيصة في سبيله، يرجون إحدى الحسنيين وإلا فما الذي حمل الصحابي الجليل أن يرمي التمرات من يده ويتقدم للقتال حين علم أن ليس بينه وبين الجنة إلا الشهادة في سبيل الله. وما الذي حمل الغامدية ان تقدم نفسها للعقوبة حين ارتكبت معصية الزناء.
أولئك طبقوا قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب: الآية 36) .
وقد استمر التمكين للمؤمنين حين بقوا على الشرط - يعبدونني لا إله إلا الله يشركون بي شيئا - إن تنصروا الله ينصركم.
أقول هذا لأدعو إلى كلمة قالها الشيخ الغزالي، عن حال هؤلاء الملايين من المسلمين الذين يتهافتون على زيارة الأضرحة مقدمين لها النذور والقرابين، يقول عن هؤلاء: ((ولو دعوا لواجب ديني لفروا نافرين، وإن كانوا أسرع إلى الخرافة من الفراش إلى النار)) .
لماذا كانوا كذلك ونحن نرى أن الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعوا للواجبات الدينية استجابوا لله ولرسوله، والناس هم الناس.
والجواب: إن قلوب أولئك نقيت من شوائب الشرك بالله فأصبحت خالصة له، لا إله إلا الله يوجد بها شركاء متشاكسون.
وفي الحديث: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجس كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
فبصلاح القلوب ملكها، وفي المثل الشائع: الناس على دين ملوكهم.(27/211)
وقد بين الشيخ الغزالي في كتابه عقيدة المسلم ص 66-67 بأن القول بأن هؤلاء الذين يهرعون إلى هذه الأضرحة يعرفون الله، ويعرفون أنه وحده مجيب كل سؤال، وباعث كل فضل، ومن دونه لا إله إلا الله يملكون من ذلك شيئاً، إت هذا الدفاع لا إله إلا الله يغني شيئاً، لأن هذه المعرفة لا إله إلا الله تصلح ولا تقبل إلا إذا صحبها إفراد الله بالدعاء والتوجه والإخلاص، فإن المشركين القدماء كانوا يعرفون الله كذلك.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يونس: الآية 31 – 32) .
ومع أنهم يقولون ((الله)) بصراحة وجلاء فلم يحسبوا بهذا القول مؤمنين، لأن الإيمان - إذا عرفت الله حقاً - ألا تعرف غيره فيما هو من شؤنه. ولذلك يستطرد القران في مخاطبة هؤلاء:
{. ..فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: الآية 31 - 32) .
إن العامة عندما يشدون الرحال إلى قبور تضم رفات بعض الناس. وعندما يهرعون بالنذور والحاجات والدعية إلى من يظنون أنهم أبواباً لله، إنما يرتكبون في حق الإسلام مآثم شنيعة. ومهما قلبنا عملهم هذا من جميع وجوهه فلن نجد فيه ما يطمئن إليه ضمير المؤمن أبداً. ومحبة الصالحين وبغض الفاسدين من شعائر الإسلام حقاً.(27/212)
ثم قال: ومظاهر الحب والبغض معروفة …. وهي مصادقة للأحياء أو منافرة، واستغفار للموتى أو لعنة. وأين من عواطف الحب والبغض هذا الذي يصطنعه المسلمون اليوم؟؟ إن الواحد منهم يصادق أفسق الناس، وقد يقطع والديه - وهم أحياء - ثم تراه مشمراً مجداً في الذهاب إلى قبر من قبور الصالحين، لا ليدعوا له ويطلب من الله أن يرحم ساكن هذا القبر، بل ليسأل صاحب هذا القبر من حاجات الدنيا والآخرة ما هو مضطر إليه وذلك ضلال مبين. اهـ.
والإسلام بصفائه ونقائه، ومنهجه الذي سلكه في المحافظة على سلامة فكر وسلوك اتباعه قطع دابر كل وسيلة تصل الإنسان بالشرك، فالبناء على قبور الصالحين قباباً واتخاذ المساجد عليها الذي كان تقليداً قديماً قضى عليه الإسلام، إذ أن ذلك من مظاهر الوثنية، فقد؟ أرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر مشرف، وأن يهدم كل صنم، فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في إضلال الناس.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته عند وفاته مما صنعته الأمم السابقة: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا لا إله إلا الله تتخذوا القبور مساجد أني أنهاكم عن ذلك ".
وكان يرفع الخمرة عن وجهة في مرض الموت ويكرر هذا الدعاء: " اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يعبد ".
يقول الشيخ الغزالي بعد ذكر هذه الأحاديث التي حذر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتباع اليهود والنصارى: " ومع هذا التحذير كله ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور فقد أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين، وتنافسوا في تشييد الأضرحة حتى أصبحت تبن على أسماء لا مسميات لها بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات. ومع ذلك فهي مزارات مشهورة ومعمورة تقصد لتفريج الكرب وشفاء المرضى وتهوين الصعاب " (1) اهـ
2) أ- الحب القلبي:(27/213)
حين نزل القران الكريم كان المخاطبون يتخذون انداداً من دون الله، حسية مثل الصنام المتخذة من الأحجار والأخشاب وغيرها، إذ كان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً. ومعنوية كالقلبية وغيرها من أوثان الجاهلية التي لا إله إلا الله يستطيع المرء الخروج عليها وان تأكد له خطا سلوكها، فقد قال قائلهم في التمسك بما عليه قبيلته ولو كان ظلماً وعدواناً.
وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
هذه الأنداد يحبها المشركون حباً يجعلهم يقدمون محبتها على محبة الله. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ…} (البقرة: الآية 165) .
فتسويتهم محبتها بمحة الله شرك أكبر، فكيف إذا قدموا حبها على حبه.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الأنعام: الآية 126) .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال " أن تجعل لله نداً وهو خلقك ".
وقد أخبر الله عن حال كثير من الناس الذين يتخذون مع الله الأنداد، كيف تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إليها في العبادة. وغلى شريعته وحدها قانوناً في الحكم، وإلى منهج الله وحده نظاماً للحياة، أما إذا ذكرت المناهج الأرضية نظاماً للحياة وشريعة في الحكم فرحوا واستبشروا يقول تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: الآية 45) .(27/214)
أما المؤمنون بالله فقد وصفهم الله بأنهم أشد حباً لله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي المؤمنون بالله أشد حباً له من حب المشركين لآلهتهم (1) . لذلك فهم يقدمون أنفسهم رخيصة في سبيله فقد باعوها له {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ…} (التوبة: الآية 111) .
ب - محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صميم الدين، ولا يؤمن أحد حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.
ومن علامات حب المؤمن للرسول الله صلى الله عليه وسلم نصر دينه بالقول والفعل والذب عن سنته, والتخلق بأخلاقه، وتقديم ما شرعه وأمر به على هوى النفس وشهواتها، وكذلك كثرة ذكره بالصلاة عليه فمن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.
ثم أن محبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته واتباعه وبذلك يستحق العبد حب الله له.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: الآية 31) .
فمن ادعى محبة الله وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب الله يكذبه.
والمطلوب من العبد ديناً أن يحبه الله ولا يحب الله عبده إلا إذا اتبع نبيه ظاهراً وباطناً، وصدقه خبراً، وأطاعه أمراً، وآثره طوعاً واختبارا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ …} (النساء: الآية 59) .
{…وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا …} (الحشر: الآية 7) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ".(27/215)
وفي رواية أنس رضي الله عنه: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " (1) .
وفي البخاري في كتاب الإيمان والنذور.. من حديث عبد الله بن هشام أن عمر عمر بن الخطاب قال: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر " (2) .
ولاشك أن حظ أصحابه الذين كانوا معه من هذا الحب كان أتم، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم من غيرهم، والناس يتفاوتون في ذلك وقد عبر بعض الصحابة عن هذا الحب المكين بأقوالهم وأفعالهم.
يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أملأ عيني منه اجلالاً له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه " (3) .
هكذا كانت محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحبونه أكثر من أنفسهم، يقتدون به ويطيعون أوامره يجتنبون ما نهى عنه.
وما نشأت البدع إلا من تقديم هوى النفس على متابعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته ولذلك سُمّي منتحلوها بأهل الأهواء.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: الآية 50) .
ولا يعصم من الهوى الإ طاعة الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
يقول ابن القيم في النونية ص 579:
فهو المطاع وأمره العالي على
أمر الورى وأوامر السلطان
وهو المقدم في محبتنا علىالـ
أهلين والأزواج والولدان
وعلى العباد جميعهم حتى على
النفس التي قد ضمها الجنبان(27/216)
فهل ما يعلمه كثي من الناس بدعوى المحبة للرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور لم يعلمها الصحابة الذين عرفنا اجلالهم وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مديح وإطراء يكون محبة.
ففي حديث عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " (1) .
ولكن ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وخشيه على أمته وقع الناس فيه.
ففي نظم البوصيري قوله:
يا اكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادى آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
فإذا كانت الدنيا وضرتها من جود الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بع ض علومه علم اللوح والقلم لأن ((من)) للتبعيض، فماذا بقي للخالق جل وعلا، والله يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ..} وقالت عائشة رضي الله عنها لمسروق كما في صحيح مسلم 1/159 ح / 781 " ومن قال إن محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أع ظم على الله الفرية، والله يقول {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} " (النمل / 65) .
فهذا الغلو والإطراء هو الذي حذر الرسول الله أمته صلى الله عليه وسلم منه. حيث قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم " وقد صار حظ أكثر هؤلاء منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه (2) .
3 - الشفعاء:
لقد سلك المشركون في اتصالهم بالله مسلك اتخاذ الوسطاء لهم عند الله.(27/217)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: الآية 18) .
تبين الآية الكريمة أن هؤلاء يعبدون آلهة لا تنفعهم ولا تضرهم في الدنيا حال عبادتهم إياها فقولهم عنها إنها تشفع لهم في المال عند الله جهل شنيع، ولذلك أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطاب المنكر عليهم.
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} كما بين لهم أن هذا زعم باطل فالشفاعة لا تكون عند الله إلا بإذنه.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة: الآية 255) .
إن اتخاذ شفعاء يخافون ويرجون ويطلب منهم أن يشفعوا لهم عند الله شرك بالله، لأن الشفاعة لا تكون عند الله إلا بإذنه. والله لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً.
وقد اتخذ كثير من الناس هذا العمل المنافي لتوحيد الله وسيلة إلى الله وأسموه توسلا بالصالحين وقد لبس إبليس وأعوانه على كثير من الناس في هذا الباب وحرمهم من حق تمتع هو به فقد قال لهم: أ- إنكم عصاة والله إنما يتقبل من المتقين، فلو ذهب الإنسان ليدعو ربه وهو متلبس بالسيئات لم يجب الله سؤاله - لذا فلا بد من واسطة مقبولة ولا تكون تلك الواسطة إلا الولي الصالح.
ب- إن هذا العمل ليس شركاً لأن النية هي معيار الحكم على الأعمال، وأنتم لم تنووا شركا.
ج- ثم إن مثل هذا العمل جائز فقد كان العلماء يتوسلون إلى الله بالأنبياء وغيرهم من الصالحين.
هذه بعض الشبه التي تلقى ليتقبل الناس مثل هذه الأعمال.(27/218)
ونرى أن نبدأ أولاً بذكر التوسل المشروع، ثم نبين بعد ذلك وجهة الرد على الشبهة التي سبق ذكرها والتي لبس بها على كثير من الناس فنقول: إن التوسل المشروع هو:
1- التوسل بالإيمان بذات الله – {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله: " اللهم اني أسألك بأنك أنت الله الذي لاإله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواٍ أحد " (1) .
2- التوسل بالعمل الصالح - كما في قصة الثلاثة الذين آواهم الغار، فانطبقت عليهم صخرة، فكل واحد منهم دعا الله بعمله الخالص الذي قدمه لله تعالى وطلب منه أن يفرج عنهم ما هم فيه وهكذا دعا الثلاثة حتى أزيحت الصخرة عنهم فخرجوا يمشون.
3- دعاء المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، ولا فرق في ذلك بين الفاضل والفضول فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب أن يدعو له، بل والمسلمون يدعون له ويطلبون له الوسيلة دائماً.
4- إذا توسمت في شخص ما أنه من أهل الصلاح والتقوى، وأحببت أن يدعو لك جاز لك ذلك فتطلب منه أن يدعو الله وأنت تؤمن على دعائه.
هذه الأنواع هي الأنواع المعروفة في هذا الباب وعمل بها سلفنا الصالح. أما تلبيس إبليس وأعوانه على الناس بأنهم عصاة والله يتقبل من المتقين فلا بد من واسطة، وهم يقولون هذا عند التوجه إلى الأضرحة والطلب من أصحابها ما لا يقدر عليه إلا الله فهذه مغالطة:
فالمشركون دعوا الله مباشرة بدون واسطة واستجاب الله دعاءهم. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (يونس الآية 23,22) .
وأبليس نفسه دعا ربه مباشرة بدون واسطة جبريل أو غيره من الملائكة ممن لم يعص الله وأجيب.(27/219)
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (الحجر: الآية 36-38) .
فكيف يجوز هذا الحق للمشركين، ولإبليس وهو رئيس العصاة وقائد الكفار إلى النار، ولا يسوغ لجمهور المسلمين العصاة أن يلجؤا إلى ربهم والله يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..} (غافر: الآية 60)
بل القر آن يدعو العصاة والذين ارتكبوا فواحش وظلموا أنفسهم أن يلجؤا إلى الله ويستغفروه مباشرة.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ..} (آل عمران: الآية 135) .
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ …} (غافر: الآية 3) .
وأما كون النية هي معيار الحكم على الأعمال.
فالجواب: إن العمل الصالح المقبول يشترط فيه شرطان:
1- النية الخالصة {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} " إنما الأعمال بالنيات ".
2- أن يكون موافقاً لما أمر به الله ورسوله. ودعاء الأموات والتقرب إليهم ممنوع شرعاً بل هو شرك بالله. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الأحقاف: الآية 5) .
والقول بأن العلماء كانوا يفعلون ذلك غي ر صحيح، فالعلماء ما كانوا يتوسلون بالموتى إ طلاقاً، فإن الصحابة رضوان الله عليهم في زمن عمر بن الخطاب حين اجدبوا طلبوا منه أن يستسقي لهم فلما فرغ من الصلاة قال: اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقنا والآن نستسقي بعم نبيك (1) قم يا عباس فادع الله لنا فقام ودعاء لهم والمسلمون يؤمنون على دعائه ومن دعائه: " اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث ".(27/220)
ولم يثبت عن الصحابة ولا التابعين ومن سلك منهجهم أنهم توسلوا بذوات الأ حياء، إنما كان توسلهم بدعائهم، كما في قصة عمر هذه مع العباس.
4 – النية والقصد:
الأعمال الصالحة المقبولة عند الله تعالى: هي ما كانت خالصة لوجهه تعالى، موافقة لشرعه.
قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
وفي الحديث: " إنما الأعمال بالنيات ".
وقد شاع عند الكثير من الناس القول بأن العمل لا ينظر إليه وإنما تعتبر النية المصاحبة له.
وهذا القول غير صحيح في الشريعة الإسلامية. وإنما العمل المقبول المثاب عليه عند الله يشترطه فيه شرطان:
1- النية الصالحة لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما العمال بالنيات ". وهذا معنى قوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . فإذا خالط هذه النية أمراً آخر بأن يعمل هذا العمل من أجل أن ينال دنيا، أو يثني عليه من يشاهده كان مرائياً. وذلك يحبط عمله هذا الذي صار فيه الرياء.
2- أن تكون صورته موافقة للشرع، وإلا كان مبتدعاً. وهذا معنى قول العلماء في العمل المقبول عند الله ((أن يكون خالصاً صواباً)) .
يقول الله تعالى في ذلك منبهاً إلى أن تكون أعمالهم التي يتقربون بها إليه تعالى خالصة له.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: الآية 15، 16) .(27/221)
قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لايظلمون نقيرا، فكل من التمس الدنيا بعمل أهل الآخرة أوف ي الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله، وهكذا روى عن مجاهد والضحاك وغير واحد، وقيل إن الآ ية نزلت في اليهود والنصارى، ولكن حكمها عام لكل من اتصف بهذا الوصف.
5- حق التشريع:
قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: تلآية 31) .
1- الاحبار جمع حبر وهم علماء اليهود.
2- الرهبان جمع راهب وهم علماء النصارى.
والرب هو الخالق المالك المتصرف في خلقه كيف يشاء. وهو المشرع لهم فهو أعلم بما يصلح حال عباده في حالهم ومآلهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . وقد وصف الله من تصدى لذلك بأنه مفتر على الله كذاب في تشريعه لأن نص التحليل والتحريم لله وحده. {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} فهذا حق له تعالى لايجوز لمخلوق أن يتقدم بين يدي الله فيشرع لعباده من دونه، ان ذلك مشاركة الله فيما هو من خصائصه واليذن يتقبلون هذا التشريع وتطمئن نفوسه إليه ويعلمون به هم مشركون بالله.(27/222)
فاتخاذ الأخبار والرهبان أرباباً هو في التشريع إذ الأحبار والرهبان مخلوقون لله كغيرهم من البشر، إلا أنهم شاركوا الله في تشريعهم لخلقه بالتحليل والتحريم الذي هو من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، يفسر هذا الحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي رواه الإمام احمد والترمذي وغيرهما حين جاء والرسول صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. قال: قلت إ نهم لم يعبدوهم. فقال: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال واحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ".
وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله تن عباس وغيرهما في تفسير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . إنهم اتبعوا فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: " استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} أي الذي اذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ (لا إله إلا الله إله الا هو سبحانه عما يشركون " (1) .
يقول سيد قطب في ظلال القرآن ج4/203 بعد أن نقل كلام ابن كثير وغيره في تفسير الآية: " ومن النص القرآني الواضح الدلالة، ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو فصل الخطاب. ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار.(27/223)
إن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القر آن وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار وا لرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم … ومع هذا فقد حكم الله - سبحانه عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها … فهذا وحده - دون الاعتقاد والشعائر يكفي لاعتبار من يفعله مشركا بالله الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
إن النص القر آني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوهم، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
إن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عبادة ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهية، ولا تقديم الشعائر التعبدية له ".
ويخلص بعد ذلك إلى القاعدة المعروفة عند المفسرين والأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب لأن القر آن تشريع عام للبشرية كلها في كل زمان ومكان.
فيقول: " إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم دينا غيره هو (الإسلام) والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله بغير إنكار منهم يثبت فيه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم لا طاقة لهم بدفعه وأ نهم لا يقرون هذا الافتئات على الله ".
---
(1) عقيدة المسلم ص 68.(27/224)
(1) ابن جرير 2/66 , طبعة ثانية 1373 هـ.
(2) خ / الإيمان – فتح الباري 1/58 ح 14 - 15.
(3) خ / الإيمان والنذور – فتح الباري ج /11/ 523 ح 632.
(4) مسلم: كتاب الإيمان 1/112 ح192.
(5) أخرجاه في الصحيحين.
(6) تيسير العزيز الحميد ص 186-187.
(7) حم 4/338 من حديث محجن بن الأذرع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وس /الدعاء 3 / 45 من حديث محجن.
(8) متفق عليه. خ /. م كتاب الذكر والدعاء / باب قصة أصحاب الغار 4/99. ح 100.
(9) خ/الاستسقاء \ باب سؤال لناس الإمام الاستسقاء إذغ قحطوا / فتح الباري2 / 494 ح1010.
(10) ابن كثير ح2 /248 – 349.(27/225)
سئل شيخ الإسلام
مفتي الأنام أوحد عصره فريد دهره: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - رحمه الله ورضي عنه - عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق أو أكل الحرام ونحو ذلك، هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا؟
فأجاب: الحمد لله: ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له، ولا يحب ذلك ولا يرضاه، ولا أمره أن ينفق منه، كقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وكقوله تعالى: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} ، ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام، بل من أنفق من الحرام فإن الله تعالى يذمه ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة، وقد قال الله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وهذا أكل المال بالباطل.
ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد". فكما أن الله كتب ما يعلمه من خير وشر وهو يثيبه على الخير ويعاقبه على الشر، فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام.(27/226)
ولهذا كل ما في الوجود واقع بمشيئة الله وقدره، كما تقع سائر الأعمال لكن لا عذر لأحد بالقدر، بل القدر يؤمن به وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر، بل لله الحجة البالغة، ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} والذين قالوا: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأما من ليس من المتقين فضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به الدنيا، ثم يعاقبه في الآخرة، كما قال عن الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم، كما قال: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وقال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام.(27/227)
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق، فإنه يعاقب على أخذ ما لم يبح له، سواء كان محرم الجنس، أو كان مستعينا به على معصية الله، ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة بل مباحة للمؤمنين، وتسمى فيئا إذا عادت إلى المؤمنين؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها، فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق والكفار يعتدون في إنفاقها، كما أنهم يعتدون في أعمالهم، فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفيء المال إلى مستحقه.
وسئل:
(2) عن الخمر والحرام: هل هو رزق الله للجهال؟ أم يأكلون ما قدر لهم؟
فأجاب: ان لفظ (الرزق) يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد وملكه إياه، ويراد به ما يتغذى به العبد.
فالأول: كقوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، فهذا الرزق هو الحلال والمملوك لا يدخل فيه الخمر والحرام.(27/228)
والثاني: كقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، والله تعالى يرزق البهائم، ولا توصف بأنها تملك، ولا أنه أباح الله ذلك لها إباحة شرعية، فإنه لا تكليف على البهائم - وكذلك الأطفال والمجانين - لكن ليس بمملوك لها وليس بمحرم عليها، وإنما المحرم (بعض) الذي يتغذى به العبد وهو من الرزق الذي علم الله أنه يتغذى به، وقدر ذلك (بخلاف) ما أباحه وملكه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
والرزق الحرام مما قدره الله، وكتبته الملائكة، وهو مما دخل تحت مشيئة الله وخلقه، وهو مع ذلك قد حرمه ونهى عنه، فلفاعله من غضبه وعقوبته ما هو أهله - والله أعلم -.
من أين تؤتون؟(27/229)
قد المنهزمون من الروم أمام المسلمين على (هرقل) وهو بإنطاكية، فدعا رجالا من عظمائهم فقال لهم: ويحكم ما هؤلاء الذين تقاتلونهم من العرب؟ أليسوا مثلكم؟ قالوا بلى! قال: أفأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن، قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون كلما لقيتموهم؟ فقال شيخ منهم: أنا أخبرك أيها الملك من أين تؤتون، قال: أخبرني، قال: إنهم إذا حملنا عليهم صبروا وإذا حملوا علينا صدقوا، وإنا نحمل عليهم فنكذب ويحملون علينا فلا نصبر، قال: ويلكم فما بالكم تصفون وهم كما تزعمون؟ قال: ما كنت أراك إلا وقد علمت من أين هذا؟ قال: من أين هو؟ قال: لأن القوم يصارعون بإيمان ويصاولون بروح لا تهزم، وإن من صميم عقيدتهم التمرن على الصبر؛ فهم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، ثم إن جمعهم واحد ليس بينهم خلاف لأنهم يوفون بالعهد ويتناصحون بينهم لا يظلمون أحدا، أما نحن فإنا نشرب الخمر ونزني ونظلم ونغصب ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض.
من كتاب سيرة (سيد ولد آدم)(27/230)
رسائل لم تحملها البريد
الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة (هل) :
هذه هي الرسالة التاسعة من رسائلي إليك، ضمنتها الصيغة الثامنة عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع، وصيغا أخرى سوف تقرئينها من بعد.
أما الصيغة الثامنة عشرة فهي: (أو لم يكف) ، وقد وردت في آيتين اثنتين من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .الآيتان (50-51) من سورة العنكبوت.
ومعنى همزة الاستفهام في هذه الصيغة: (أو لم يكفهم) الإنكار والتوبيخ.
ينكر الله سبحانه وتعالى على المشركين من قريش القائلين لولا أنزل على محمد آيات من ربه تكون حجة علينا كما جعلت الناقة لصالح والمائدة لعيسى، ينكر الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المشركين ويوبخهم أن لم يكفهم آية أنه جل وعلا قد أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الخالد الصالح على مر الزمان وفي كل مكان، فلا يلحقه بلى ولا يدركه فناء، ولا يصيبه تبديل ولا تحريف، ثم هو يتلى عليهم في كل حين، فلو كانوا ينشدون الإيمان حقا ويتلمسون أسبابه مخلصين لوجدوا فيه - كما يجد المؤمنون به - رحمة ونعمة وموعظة وذكرى.
وإعراب {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم} واضح وسهل، فالفعل المضارع في (يكفهم) مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء من آخره، و (هم) في محل نصب مفعول به.(27/231)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أن (بفتح الهمزة) من أخوات إن (بكسر الهمزة) ، وهي حرف توكيد تنصب المبتدأ على أنه اسمها وترفع الخبر على أنه خبرها، وهي أيضا حرف مصدري تؤول هي وما بعدها بمصدر، و (نا) ضمير مبني على السكون في محل نصب اسمها، وجملة (أنزلنا عليك الكتاب) في محل رفع خبرها، والمصدر المؤول من أن المصدرية وخبرها مضافا إلى اسمها في محل رفع فاعل الفعل المضارع (يكفهم) ، والتقدير: أو لم يكفهم إنزالنا عليك الكتاب.
{يُتْلَى عَلَيْهِم} (يتلى) فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره على الألف منع من ظهورها التعذر، وفي يتلى ضمير مستتر تقديره هو يعود على الكتاب وهو نائب الفاعل، و (عليهم) جار ومجرور يتعلقان بالفعل المضارع (يتلى) ، وجملة (يتلى عليهم) في محل نصب حال من الكتاب، وهي حال مقدرة أي تقع بعد إنزال الكتاب وليست مصاحبة له.
وجملة {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
الآية الثانية التي وردت فيها صيغة (أو لم يكف) هي قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الآية (53) من سورة فصلت.
هذا الاستفهام {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} للإنكار والتوبيخ:(27/232)
ينكر الله سبحانه وتعالى على المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم ويوبخهم على عدم اكتفائهم بشهادته جل وعلا على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه، فهو جل وعلا شهيد على كل شيء من أفعال عباده، وقد شهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عن ربه تبارك وتعالى، فكان ينبغي لهؤلاء المكذبين أن تكون هذه الشهادة كافية للدلالة على صدقه لو كانوا يعقلون.
وإعراب {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} سهل واضح، فالفعل المضارع (يكف) مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء من آخره، و (بربك) الباء حرف جر زائد للتوكيد، و (رب) مجرور بالباء لفظا مرفوع تقديرا على أنه فاعل (يكف) ، و {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (أنّ) من أخوات إن حرف توكيد تنصب المبتدأ على أنه اسمها وترفع الخبر على أنه خبرها، وهي أيضا حرف مصدري تؤول هي وخبرها بمصدر، والهاء من (أنه) ضمير يعود على (ربك) مبني على الضم في محل نصب اسم أن، (على كل شيء) الجار والمجرور يتعلقان بـ (شهيد) وشيء مضاف إليه، و (شهيد) خبر أن مرفوع، والمصدر المؤول من أن وخبرها مضافا إلى اسمها وتقديره: شهادته على كل شيء، هذا المصدر المؤول تابع للفظ ربك على أنه بدل منه، فيكون له محلان، فهو في محل جر بالنظر إلى لفظ (رب) المجرور، وهو في محل رفع بالنظر إلى الرفع المقدر للفظ (رب) ، ونوع هذا البدل: بدل اشتمال، وقيل بدل كل من كل.
أختي: (هل) :
أريد الآن أن أحدثك عن صيغ الاستفهام التي دخلت فيها على لم النافية الجازمة لفعل مضارع لم يأت في القرآن الكريم مجزوما بلم التالية لهمزة الاستفهام أكثر من مرة واحدة.
هاأنا ذى أقدمها إليك مرتبة بحسب ورودها في القرآن الكريم:(27/233)
الاستفهام الأول: (ألو لم تؤمن) في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية (260) من سورة البقرة.
الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} استفهام تقرير، وقد تقدم في الرسالة الأولى من هذه الرسائل أن استفهام التقرير يأتي على معنيين: على معنى الإخبار كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، أو على معنى طلب الاعتراف بما تضمنه السؤال نفيا أو إثباتا كما في قوله تعالى: لعيسى بن مريم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وأرى أن الاستفهام هنا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} للتقرير بمعنى طلب الاعتراف، وجواب إبراهيم عليه السلام بقوله: (بلى) أي قد آمنت اعتراف بما تضمنه السؤال على وجه الإثبات والإيجاب.
قد تسألين وتقولين: الله سبحانه وتعالى يعلم أن إبراهيم عليه السلام أثبت الناس إيمانا وأقواهم يقينا، ويعلم أيضا جواب إبراهيم من قبل أن يجيب إبراهيم، فما الفائدة إذن من هذا السؤال؟
الفائدة من هذا السؤال حمل إبراهيم على أن يجيب بما أجاب به فيكون ذلك إقرارا بأن سؤال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ليس ناشئا من نقص في إيمانه أو شك في قدرته تعالى على إحياء الموتى، وإنما ليعلم السامعون أن غرضه من السؤال أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأن يطمئن قلبه عيانا كما اطمأن قلبه برهانا، أو بعبارة أخرى ليضم إلى علمه الناشئ من البرهان والاستدلال علما آخر ناشئا من الحس والمشاهدة.(27/234)
قد تقولين: فهمت من الآية أن إبراهيم قد آمن بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ولكنه سأل ربه كيفية الإحياء ليطمئن قلبه ويسكن، ترى ماذا كان في قلب إبراهيم قبل أن يطمئن ويسكن؟
لم يكن في قلبه شك ولا تردد كما يبدر إلى أذهان بعض الناس، ولكن كان في قلبه قلق واضطراب من جراء تطلعه الملحّ وتشوقه الشديد إلى مشاهدة كيفية الإحياء، فحين رآها اطمأن قلبه وسكن.
وهذا شيء قد فطرت عليه النفس البشرية، فإنها إذا تطلعت إلى شيء تطلعا ملحّا ورغبت فيه رغبة شديدة لت في قلق واضطراب حتى تنال ما تصبو إليه، فإذا نالته اطمأنت وسكنت.
أختي (هل) :
أحب أن أخبرك أن أبا حيان الأندلسي قد رأى في تفسيره البحر المحيط (ج2 ص298) : أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} للتقرير بمعنى الإخبار على حد {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وعلى هذا يكون معنى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} قد آمنت.
ورأى أيضا أن (بلى) التي تقع جوابا للنفي لا جوابا للإثبات قد وقعت جوابا لهذا الاستفهام بالنظر إلى لفظه الدال على النفي لا بالنظر إلى معناه الدال على الإثبات.
وقال أيضا: إن هذا جائز قد تقرر في النحو، ويؤيده أن في كلام العرب ما يلحظ فيه اللفظ دون المعنى.
ورأي أن إجابة إبراهيم عليه السلام بقوله: (بلى) قرينة على أن هذا الاستفهام لطلب الاعتراف وليس للإخبار.
وقول أبي حيان إن (بلى) كانت جوابا للاستفهام باعتبار لفظه لا باعتبار معناه خلاف المتبادر وتكلف لا داعي إليه.(27/235)
الاستفهام الثاني: (ألم نستحوذ عليكم) في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} الآية (141) من سورة النساء.
في هذه الآية الكريمة يقول المنافقون الذين كانوا يتربصون بالمؤمنين الخير أو الشر، وينتظرون بهم ما يتجدد من ظفر لهم أو ظفر بهم، يقولون للمؤمنين - إن كان للمؤمنين فتح من الله أي نصر على الكافرين وتأييد وظفر وغنيمة -: ألم نكن معكم؛ يتوددون إليهم بهذا القول.
فهذا الاستفهام: (ألم نكن معكم) يفيد التقرير والتودد على معنى كنا معكم مساندين مظاهرين، فنصركم الله على أعدائكم، وأفاء الله عليكم فيئا من المغانم، لقد أسدينا إليكم معروفا فأسهموا لنا في الغنيمة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!.
وإن كان للكافرين نصيب من الغلبة على المؤمنين والإصابة منهم قال أولئك المنافقون أنفسهم لهؤلاء الكافرين متظاهرين لهم بالمحبة والود {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ، وهذا استفهام تقرير وتودد أيضا، أي غلبنا عليكم وكان في مكنتنا أن نقتل منكم ونأسر، ولكننا أبقينا عليكم ومنعناكم من المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم، فانصرفوا دون أن يقدروا على إيذائكم، فأسهموا لنا فيما غنمتم مقابل ما أسدينا إليكم من معروف وإحسان، فنحن نواليكم فلا نؤذيكم ولا نترك أحداً يؤذيكم.(27/236)
الاستفهام الثالث: (ألم أنهكما) في قوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} . الآيات (19-22) من سورة الأعراف.
هذا الاستفهام: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} معناه عتاب آدم وزوجه على ما صدر منهما والتنبيه على موضع ما غفلا عنه، فقد قال سبحانه وتعالى لهما: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فخالفا النهي واقتربا منها وذاقا، وقال سبحانه وتعالى يحذرهما من الشيطان {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} ، فاغترا بقول الشيطان وقبلا ما عرض عليهما حين قاسمهما إني لكما لمن الناصحين.(27/237)
والفعل المضارع في {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف من آخره، وأصله قبل الحذف (أنهى) ، و (كما) ضمير المخاطب المثنى مبني على السكون في محل نصب مفعول به، ولك أن تقول الكاف وحدها ضمير المخاطب والميم حرف عماد، أي اعتمدت عليها الألف في دلالتها على التثنية والألف حرف دال على التثنية، والحق أن هذه الأحرف الثلاثة بمجموعها تدل على المثنى المخاطب، وأن أي حرف منها لا يدل بمفرده عليه؛ ولذلك كان اعتبار الأحرف الثلاثة مجتمعة كلمة واحدة تدل على ضمير المثنى المخاطب أحق وأولى.
{عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} عن حرف جر، و (تِ) اسم إشارة للمفردة المؤنثة، وأصله (تي) ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وهما الياء من (تي) واللام الدالة على البعد، وتعرب (ت) اسم إشارة مبني على السكون على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل جر، واللام الواقعة بعد اسم الإشارة حرف يدل على بعد المشار إليه مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و (كما) حرف خطاب للمثنى مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و (الشجرة) نعت لاسم الإشارة مجرور، ويجوز أن تعرب عطف بيان.
الاستفهام الرابع: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآيتان (168-169) من سورة الأعراف.(27/238)
الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين تبين أن الله سبحانه وتعالى قد قطّع بني إسرائيل وفرقهم في بقاع الأرض، منهم الصالحون ومنهم الفاسقون الكافرون، وقد ابتلي هؤلاء الكافرين بالحسنات من صحة ورخاء، وبالسيئات من مرض وفقر وجدب، لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية.
والآية الثانية التي اشتملت على الاستفهام {أَلَمْ يُؤْخَذْ} تبين أنه جاء بعد أولئك اليهود المتقدم ذكرهم في الآية الأولى جيل سوء من نسلهم ورثوا التوراة من أسلافهم فبقيت في أيدهم يقرءونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها، ويأخذون الرشا والمكاسب الخبيثة ويقولون سيغفر لنا الله، ولن يؤاخذنا بذلك، وكان ينبغي إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما جاء فيه وألا يجزموا بالمغفرة وهو مصرون على ارتكاب المعصية، وقد جاء إصرارهم هذا من أنهم كانوا إذا أمكنتهم الرشا والمكاسب الخبيثة أخذوها غير مكترثين بالوعيد والعقاب الشديد على ارتكاب المعاصي.
ويجيء الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} يجيء مفيدا التقرير والتوبيخ: التقرير على معنى الإخبار أي قد أخذ عليهم في الكتاب - أي في التوراة - ميثاق أن لا يقولوا على الله إلا الحق والصدق، وقد كذبوا مع ذلك عليه سبحانه وتعالى، ومن تلك الأكاذيب دعواهم أن الله سيغفر لهم معاصيهم مع إصرارهم عليها، ومنها أنهم كانوا إذا جاءهم المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له به مدعين أنه كتاب الله.
وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ أيضا: يوبخهم الله سبحانه وتعالى على افترائهم وأكاذيبهم تلك التي كانوا يزعمون أنها في كتاب الله، على حين يعلمون أنها ليست فيه، فقد قرءوه كرة بعد كرة، ووقفوا على ما فيه مرة بعد مرة.(27/239)
وأكتفي من إعراب هذه الصيغة {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ} بما يلي:
(ميثاق) نائب فاعل، و (الكتاب) مضاف إليه، و (أن) حرف مصدري ينصب الفعل المضارع و (لا) نافية، و (يقولوا) مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون، والواو ضمير الجماعة فاعل مبني على السكون في محل رفع، و (على الله) جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (إلا) أداة حصر حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و (الحق) مفعول به ليقولوا، والمصدر المؤول من (أن) المصدرية والفعل الذي دخلت عليه في محل رفع عطف بيان لميثاق، وقيل بدل منه، وقيل المصدر المؤول في محل نصب مفعول من أجله على معنى لئلا يقولوا إلا الحق، وجملة {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
الاستفهام الخامس: (أفلم ييأس الذين آمنوا) في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الآية 31 من الرعد.(27/240)
هذا الاستفهام: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} يفيد الإنكار: ينكر الله سبحانه وتعالى على الذين آمنوا بالله ورسوله وبأن الله جل وعلا لو يشاء لهدى الناس جميعا ينكر عليهم أن لم يقنطوا من إيمان كفار قريش المعاندين لله ورسوله، ذلك أنه لما سأل هؤلاء الكفار المعاندين نزول آيات غير القرآن {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَة} اشتاق المؤمنون إلى هذه الآيات، وأحبوا نزولها طمعا في إيمان هؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون ولو نزلت هذه الآيات، فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} .. الآية.
أختي (هل) :
ذهب كثير من المفسرين إلى أن (ييأس) في هذا الاستفهام بمعنى يعلم، وليس هناك - فيما يبدو لي - ما يدعو إلى إخراج هذه الكلمة عن بابها وهو القنوط، ولا إلى حملها على لغة بعض قبائل العرب وجعلها بمعنى يعلم، فاستعمالها بمعنى العلم قليل جدا، بل إن الكسائي والفراء قد أنكراه.
أما إعراب هذه الصيغة {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فأكتفي منه بإعراب ما يلي:(27/241)
{أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (أنْ) مخففة من الثقيلة، وهي مصدرية تفيد التوكيد، تنصب المبتدأ على أنه اسمها وترفع الخبر على أنه خبرها، وهي حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، واسمها ضمير الشأن محذوف والتقدير أنه. و (لو) حرف يدل على انتفاء الجواب لانتفاء الشرط، والمعنى أنه تعالى لم يهد الناس جميعا لأنه لم يشأ ذلك، و (يشاء) فعل مضارع مرفوع ولفظ الجلالة (الله) فاعله، و (لهدى) اللام واقعة في جواب لو، و (هدى) فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر يعود على لفظ الجلالة (الله) ، و (الناس) مفعول به منصوب، و (جميعا) حال من الناس منصوب، وجملة {لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} جواب لولا محل لها من الإعراب، والجملة المؤلفة من لو وشرطها وجوابها في محل رفع خبر أنْ المخففة من الثقيلة، والمصدر المؤول من أن المخففة وجواب لو في محل جر بالباء المقدرة، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل (آمنوا) ، والتقدير: أفلم ييأس الذين آمنوا بهداية الله للناس جميعا لو يشاء، ويجوز أن يكون هذا المصدر المؤول في محل نصب على نزع الخافض، ومتعلق ييأس الذي هو مفعول به في المعنى محذوف لدلالة السياق عليه، والتقدير: أفلم ييأس الذين آمنوا بهداية الله للناس جميعا لو يشاء أفلم ييأسوا من إيمان هؤلاء الكافرين.
الاستفهام السادس: (أو لم ننهك عن العالمين) في قوله تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} الآيات (67-70) من سورة الحجر.
هذا الاستفهام: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} يفيد التقرير والإنكار.(27/242)
التقرير على معنى الإخبار أي قد نهيناك من قبل عن تضييف أحد من الناس، ويفيد الإنكار على معنى ما كان ينبغي لك بعد هذا أن تصيف هؤلاء وتقول لنا لا تفضحوني ولا تخزوني، وأنت الذي تعرض نفسك للفضيحة والخزي من جراء مخالفتك ما قد نهيناك عنه، وإعراب الصيغة واضح.
الاستفهام السابع: (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) في قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} الآيات (73-79) من سورة طه.
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فعون إلى جانب الطور الأيمن حيث كان موعد أن يكلم الله جل وعلا موسى، رأى موسى أن يسارع وحده مبادرا إلى الطور، واستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، وطلب منهم أن يسيروا على أثره إلى جانب الطور.(27/243)
ولما انتهى موسى عليه السلام من مناجاة ربه جل وعلا سأله سبحانه وتعالى عن سبب العجلة ومجيئه وحده دون أن يكون معه قومه، فأجاب موسى: هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى، فأخبره الله تبارك وتعالى بما كان من الفتنة من بعده في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا على ما صنعه قومه من بعده {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} .
وهذا الاستفهام: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} يفيد التقرير والتوبيخ.
التقرير على معنى الإخبار أي قد وعدكم الله تبارك وتعالى وعدا حسنا، أما التوبيخ فتوبيخ موسى لقومه على مخالفتهم ما يستوجبه هذا الوعد الحسن، وكانت هذه المخالفة بعبادتهم العجل وتصديق ما قاله السامري من أن هذا العجل هو إلههم وإله موسى على حين كان واجبا عليهم أن يقيموا على ما تركهم عليه موسى من الإيمان بالله تعالى وعبادته وحده لا شريك له.
وإعراب {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} :
(يعدكم) (يعد) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون على آخره، وهذا الفعل يأخذ مفعولين والضمير (كم) هو المفعول الأول مبني على السكون في محل نصب، أما المفعول الثاني فمحذوف، وقد اختلف العلماء في تقديره، فمنهم من قدره (أن يعطيكم التوراة) ومنهم من قدره (الوصول إلى جانب الطور اليمن) ومنهم من قدره (أن يسمعكم كلامه) ومنهم من قدره (المغفرة عمن تاب وعمل صالحا) .
(ربكم) (رب) فاعل مرفوع، و (كم) ضمير في محل جر بالإضافة، (وعدا حسنا) (وعدا) مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق، و (حسنا) صفة لهذا المصدر، ويجوّز بعضهم أن يطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني، وجملة {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} في محل نصب مفعول به لقال {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} .(27/244)
الاستفهام الثامن: (أفلم يدبروا) في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} الآية (68) من سورة المؤمنون.
وهذا الاستفهام {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} للإنكار والتوبيخ.
ينكر الله سبحانه وتعالى على المشركين ويوبخهم أن لم يتفهموا القرآن العظيم، ولم يتفكروا فيما جاء به من العبر، فيعرفوا حجج الله التي احتج بها عليهم فيه، ويعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته، فيصدقوا به وبمن جاء به.
وإعراب هذه الصيغة {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} واضح، وأصل يدبروا (يتدبروا) أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال، وهذا الإبدال جائز، وقد جاءت التاء غير مبدلة في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} (82 السناء) (24 محمد) .
الاستفهام التاسع: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} (الآيات16-22) من الشعراء.(27/245)
حين أتى موسى وهارون عليهما السلام فرعون وقالا له إنا رسول رب العالمين عرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته و {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، وهذا الاستفهام يفيد التقرير والامتنان والتحقير والتوبيخ والتعجب على معنى: قد ربيناك فينا وبي بيتنا على فراشنا مذهب كنت رضيعا حتى بلغت مبلغ الرجال، أنعمنا عليك هذه السنين الطويلة، ولكنك قابلت إحساننا إليك بتلك الفعلة التي فعلتها، فقتلت منا رجلا وكفرت بنعمتنا عليك، لقد حدث هذا كله، ثم هاأنت ذا تدعي أنك رسول رب العالمين، فيا عجبا أنى لك هذه الرسالة؟! ومتى كان ذلك؟!.
ولقد أجاب موسى عليه السلام عما تضمنه سؤال فرعون فقال:
لقد قتلت ذلك الرجل وأنا من الجاهلين بأن تلك الوكزة ستقضى عليه، لقد كان قتلي إياه خطأ وليس بالعمد.
وأما هذا العجب من أكون رسولا فإن الله ربي هو الذي وهب لي حكما وجعلني من المرسلين بعد أن خفتكم وفررت منكم أنشد النجاة والأمن.
وأما تلك النعمة التي تمنها عليّ فما كانت بالنعمة، ولمن تكون ذات يوم، وكيف تراني أعدها نعمة وأعتدها إحسانا وأنا الذي كنت أرى وأنا أعيش في بيتك، أرى قومي بني إسرائيل يلاقون على يديك ضروب التعبيد والإذلال، لقد أهنت قومي، ومن أهين قومه فقد ذل.
وأما تربية موسى في بيت فرعون - من حيث إنها حادثة واقعة لا من حيث إنها نعمة يمن بها - فقد سكت موسى عن ذكرها، وسكوته إقرار واعتراف بها.
وإعراب هذه الصيغة: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :(27/246)
(نربك) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء من آخره، والكاف ضمير المخاطب مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، (وليدا) حال من ضمير المخاطب قبله وهو الكاف، وجملة {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} في محل نصب مفعول به لقال.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (من عمرك) الجار والمجرور يتعلقان بمحذوف حال مقدم من سنين أو هما في محل نصب على الحال، و (سنين) ظرف زمان متعلق بالفعل الماضي (لبث) ، وهو منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
وجملة {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} معطوفة على {نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} فتكون داخلة في حيز الاستفهام والنفي المتقدمين، على معنى: ألم نربك فينا وليدا، أو ما لبثت فينا من عمرك سنين؟ ويجوّز بعضهم أن تكون معطوفة على {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} باعتبار معناها الخبري، أي: قد ربيناك فينا وليدا ولبثت فيها من عمرك سنين.
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (فعلتك) (فعلة) مفعول مطلق منصوب، والكاف في محل جر بالإضافة، (التي) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لـ (فعلة) و (فعلت) فعل فاعل، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، الرابط الذي يربط الصلة بالموصول ضمير محذوف والتقدير: فعلتها، (وأنت من الكافرين) الواو حالية، (أنت) ضمير مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، (من الكافرين) جار ومجرور في محل رفع خبر، أو متعلقان بمحذوف هو الخبر.
وجملة {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} في محل نصب حال، وصاحب الحال ضمير المخاطب (تَ) في فعلت الثانية، ورابطة جملة الحال بصاحبها الواو والضمير (أنت) معا.
وجملة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} معطوفة على ما عطفت عليه الجملة التي قبلها، وهي مثلها في محل نصب مفعول به لقال.(27/247)
الاستفهام العاشر: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} الآية (48) من سورة القصص.
هذا الاستفهام {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} يفيد التوبيخ والتقرير:
أما التقرير فعلى معنى الإخبار أي لقد كفر هؤلاء اليهود الذين أمروا قريشا أن يسألوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يؤتى مثل ما أوتي موسى؛ لقد كفروا هؤلاء اليهود بما أوتي موسى من قبل.
أما التوبيخ والتقريع فعلى معنى أن الله سبحانه وتعالى يوبخ هؤلاء اليهود ويقرعهم على أن يعلِّموا قريشا حجة هي أن يطلبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤتى مثل ما أوتي موسى، مع أنهم لم يؤمنوا بهذه الحجة وكفروا به من قبل، وقالوا عن التوراة والقرآن: سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وإنا بكل واحد منهما كافرون.
وإعراب هذه الصيغة: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} سهل واضح.
الاستفهام الحادي عشر: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) في قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الآية (57) من سورة القصص.
هذا استفهام معناه التقرير والتكذيب:
التقرير على معنى الإخبار، أي (قد وطأنا لهم بلدا حرّمنا على الناس سفك الدماء فيه، ومنعناهم من أن يتناولوا سكانه فيه بسوء، وأمنا على أهله أن يصيبهم به غارة أو قتل أو سباء، ورزقناهم فيه، وجعلنا الثمرات من كل أرض تجبى إليهم) .(27/248)
والتكذيب على معنى أن قولهم للرسول هو قول كاذب، وأن اعتذارهم عن اتباع الهدى هو اعتذار زائف غير قويم، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: "إننا نخشى إن اتبعنا الهدى معك أن يقصدنا العرب المشركون من حولنا بالأذى والحرب، وأن يتخطفونا من أرضنا".
وهذا قول مردود وادعاء باطل، فالله سبحانه وتعالى قد جعل لكم الحرم آمنا وأنتم على الكفر والشرك، فكيف يجعله غير آمن إذا اتبعتم الهدى والإسلام؟!.
ومن هذه الصيغة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} أكتفي بإعراب ما يلي:
(رزقا) حال من ثمرات منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، (من لدنا) من حرف جر ظرف مكان مبني على السكون في محل جر، والجار والمجرور يتعلقان بمحذوف صفة لـ (رزقا) ولدن مضاف و (أنا) مضاف إليه ضمير مبني على السكون في محل جر.
وجملة {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} في محل نصب نعت ثان لـ (حرما) .
وجملة {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
الاستفهام الثاني عشر: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الآيتان (36-37) من فاطر.(27/249)
هذا الاستفهام: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} معناه التقرير والتوبيخ:
التقرير على معنى الإخبار أي قد عمرناكم أيها الكافرون أعمارا تتمكنون فيها من التدبر واتابع الحق فالعمل الصالح لو أردتم ذلك ومنتم ممن تنفعه الذكرى، وما تركناكم لأنفسكم، بل جاء الأنبياء ينذرونكم لقاء يومكم هذا.
والتوبيخ لهم على أن لم ينتفعوا في حياتهم الدنيا بما ينجيهم من هذه النار التي يصطرخون فيها من هول العذاب، وعلى أن ضيعوا هذه الفرصة المواتية للإيمان بالرسل وللعمل الصالح، وجاءوا الآن بعد أن ذاقوا العذاب في الآخرة يطلبون الرجعى إلى دار الدنيا كي يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ويعملوا ما أمرهم به الأنبياء، ذلك رجع بعيد.
أما إعراب هذه الصيغة: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فيكفيك منه ما يلي:
(ما يتذكر فيه من تذكر) : (ما) نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب ظرف زمان متعلق بالفعل المضارع قبله وهو (نعمر) ، والتقدير: أو لم نعمركم وقتا يتذكر فيه من تذكر، (مَنْ) اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل للفعل المضارع الذي قبله وهو يتذكر، و (تذكر) فعل ماضي وفاعله ضمير مستتر يعود على مَنْ، وهذا الضمير هو الرابط الذي يربط جملة الصلة بالموصول، وجملة {يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} في محل نصب نعت لـ (ما) ، وجملة {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.(27/250)
الاستفهام الثالث عشر: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيات (54-61) من سورة ياسين.
بعد أن وصفت هذه الآيات الكريمة في يوم القيامة وما يجازى به المؤمنون من جنة ونعيم، وصفت حال الكافرين بأنهم يخاطبون بـ {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي تميزوا من المؤمنين وانفردوا أيها الكافرون بالله، فإنكم واردون غير موردهم وداخلون غير مدخلهم، ثم يقول الله سبحانه وتعالى لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وهذا استفهام معناه التقرير والتوبيخ والتقريع:
التقرير على معنى الإخبار أي قد أوصيتكم وأمرتكم في الدنيا ألا تطيعوا الشيطان فإنه لكم عدو مبين، وقد عهدت إليكم أيضا وأوصيتكم أن تعبدوني وحدي لا تشركون بي شيئاً، تفعلون ما آمركم به وتنتهون عما أنهاكم عنه، وهذا هو الدين الصحيح والصراط المستقيم.(27/251)
ويفيد هذا الاستفهام التوبيخ والتقريع أيضا: توبيخ هؤلاء الكافرين وتقريعهم على مخالفتهم لما عهده الله جل وعلا إليهم، فقد أطاعوا الشيطان فأضلهم، وأشركوا به سبحانه وتعالى وعصوه فكانوا مجرمين.
ولن أطيل عليكم في إعراب هذه الصيغة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، سوف أكتفي بإعراب ما يلي:
{أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (أن) حرف مصدري ناصب للفعل المضارع الذي بعده (لا) حرف نفي، (تعبدوا) فعل مضارع منصوب بأن المصدرية وعلامة نصبه حذف النون، وواو الجماعة فاعل ضمير مبني على السكون في محل رفع، (الشيطان) مفعول به منصوب.
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} الواو حرف عطف (أن) حرف مصدري، (اعبدوني) مؤلفة من فعل أمر مبني على حذف النون لا محل له من الإعراب، وواو الجماعة ضمير مبني على السكون في محل رفع فاعل، والنون نون الوقاية حرف مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، والياء ياء المتكلم ضمير مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
و (أن) المصدرية وما دخلت عليه في كل من الموضعين المتقدمين في تأويل مصدر، وهذا المصدر في محل نصب على نزع الخافض، وتقدير هذين المصدرين: عدم عبادتكم للشيطان (بنصب عدم) وعبادتكم إياي (بنصب عبادتكم) .
وجملة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.(27/252)
الاستفهام الرابع عشر: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الآية (16) من سورة الحديد.
هذا الاستفهام معناه الاستبطاء والعتاب والتحذير:
استبطأ الله سبحانه وتعالى من المؤمنين أن تخشع قلوبهم وتخضع وترق وتلين لذكر الله، وأن تسمع وتطيع وتنقاد لما ينزل من آيات كتاب الله، استبطأ ذلك منهم وعاتبهم عليه وحذرهم من أن يكونوا مثل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل أن يرسل محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، فطال عليهم الزمن بعد أنبيائهم، فقست قلوبهم وسكنت إلى المعاصي، وكان كثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب خارجين عن دينهم، رافضين لما جاء في كتابهم.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} :
(يأن) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء من آخره، وأصله قبل الجزم (يأني) (للذين آمنوا) اللام حرف جر، و (الذين) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل المضارع (يأن) ، (آمنوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة لا محل له من الإعراب، وواو الجماعة ضمير مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة من الفعل والفاعل صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والرابط الذي ربط جملة الصلة بالموصول هو واو الجماعة.(27/253)
{أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (أن) حرف مصدري ناصب للفعل المضارع الذي بعده، (تخشع) فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر في محل رفع فاعل للفعل المضارع (يأن) والتقدير: ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم، (قلوبهم) قلوب فاعل، وهم ضمير مبني على السكون في محل جر (لذكر الله) جار ومجرور ومضاف إليه، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل (تخشع) ، (وما نزل من الحق) الواو عاطفة و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ذكر، (ونزل) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على اسم الموصول (ما) ، (من الحق) من حرف جر وهي بيانية، والحق مجرور بمن، والجار والمجرور في محل نصب حال من (ما) وجملة (نزل من الحق) صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والرابط الضمير المستتر في نزل.(27/254)
{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} الواو عاطفة، و (لا) نافية، (يكونوا) فعل مضارع معطوف على الفعل المضارع (تخشع) المنصوب بأن والمعطوف على المنصوب منصوب وعلامة نصبه حذف النون، والواو ضمير جمع اسم يكون مبني على السكون في محل رفع، (كالذين) الكاف يجوز على رأي بعض النحاة أن تكون اسما بمعنى مثل، فهي مبنية على الفتح في محل نصب خبر يكون، والكاف مضاف والذين اسم موصول مضاف إليه مبني على الفتح في محل جر، وأما على رأي جمهور النحاة فالكاف على أصلها حرف جر والذين اسم موصول مجرور بالكاف مبني على الفتح في حل جر، والجار والمجرور في محل نصب خبر يكون، (أوتوا الكتاب) أوتوا أصلها أوتيوا (بياء مضمومة قبل واو الجماعة) ، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذف الضمة للثقل فسكنت الياء فالتقى ساكنان: الياء وواو الجماعة، فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، ثم ضمت التاء المسكورة لمناسبة واو الجماعة فصارت الكلمة أوتُوا، فهي فعل ماض مبني على الضم المقدر على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين لا محل له من الإعراب، والواو ضمير الجماعة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل، ونائب الفاعل هذا كان في الأصل هو المفعول الأول فلما بني الفعل الماضي للمجهول صار نائبا عن الفاعل، و (الكتاب) مفعول به ثان منصوب، (من قبل) من حرف جر، وقبل ظرف زمان مبني على الضم في محل جر، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل (أوتوا) ، ويكون تقدير الكلام مع تأويل المصادر: ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم لذكر الله ولما نزل من الحق عدمُ كونهم كالذين أوتوا الكتاب من قبل.
الاستفهام الخامس عشر: (ألم نهلك الأولين) في قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الآيات: (16-19) من سورة المرسلات.(27/255)
هذا الاستفهام {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} معناه التقرير والتخويف والوعيد:
التقرير على معنى الإخبار أي قد أهلكنا الأولين الذين كانوا يكذبون بالرسل قبلكم إهلاك عذاب ونكال.
والتخويف والوعيد لكفار قريش بأن الله جل وعلا سوف يهلككم بتكذيبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أهلك المكذبين بالرسل قبلكم، سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، والويل لمن يكذب بهذا الإهلاك ويجحد قدرة على ما يشاء.
وإعراب هذه الصيغة سهل واضح.
الاستفهام السادس عشر: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} الآيات (20-22) من سورة المرسلات.
هذا الاستفهام يفيد التقرير والتحقير والتخويف:
التقرير على معنى الإخبار، أي قد خلقناكم من ماء مهين.
والتحقير على معنى علام هذا التكبر والعناد والإعراض وقد خلقناكم من ماء ضعيف حقير؟!
والتخويف على معنى خلقناكم أول مرة ونحن قادرون على أن نعيد خلقكم مرة أخرى يوم القيامة، وويل يومئذ للمكذبين بهذه القدرة وللمنكرين هذه الإعادة.
وإعراب هذه الصيغة سهل واضح.
الاستفهام السابع عشر: (ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى) في قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} الآيات (1-8) من سورة الضحى.(27/256)
بعد أن وعد الله جل وعلا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم هذا الوعد الشامل الجليل {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، وهذا الاستفهام يفيد التقرير والتذكير والامتنان.
يفيد التقرير على معنى الإخبار، أي قد وجدك يتيما قد مات أبوك وأنت حمل، ثم ماتت أمك وأنت طفل صغير؛ فجعل لك مأوى تأوي إليه عند جدك عبد المطلب، ثم عند عمك أبي طالب، ووجدك ضالا {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} فهداك الله تعالى إلى ما أنت عليه، ووجدك فقيرا ذا عيال فأغناك الله تعالى عمن سواه.
ويفيد التذكير تذكير رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه النعم الثلاث التي أنعمها الله جل وعلا عليه في حال نشأته، وكانت النعمة الأولى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} وكانت الثانية {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، وكانت الثالثة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
ويفيد الامتنان الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النعم الثلاث المتقدمة، ولكنه امتنان التكريم والتعظيم وليس امتنان التحقير والإزراء كامتنان فرعون على موسى عليه السلام، {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
وإعراب هذه الصيغة سهل واضح، و (يجد) و (وجد) في هذه الصيغة بمعنى يعلم وعلم، فالفعل متعد إلى مفعولين: الكاف الضمير هو المفعول الأول، والاسم الظاهر بعده هو الاسم الثاني.
الاستفهام الثامن عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} الآيات: (1-4) من سورة الشرح.
هذا الاستفهام كالاستفهام الذي تقدم في سورة الضحى يفيد التقرير والتذكير والامتنان:(27/257)
التقرير على معنى الإخبار، أي قد شرحنا لك صدرك للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق، وليّنا لك قلبك وجعلناه وعاء للحكمة، وغفرنا لك ما تقدم من ذنبك الذي أثقل ظهرك وجهدك، ورفعنا لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وذلك قول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .
أما التذكير فتذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعم ثلاث أنعمها الله تبارك وتعالى عليه: الأولى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والثانية: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} والثالثة: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
أما الامتنان فامتنان الله جل وعلا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بهذه النعم الثلاث، وهو امتنان تكريم وتعظيم، وليس امتنان تحقير وتذميم.
وإعراب هذه الصيغة سهل واضح.
أختي العزيزة (هل) :
مع انتهاء هذه الرسالة تنتهي الكتابة عن همزة الاستفهام الداخلة على (لم) النافية الجازمة للفعل المضارع.
سوف أكتب إليك في الرسالة القادمة - إن شاء الله تعالى - عن همزة الاستفهام الداخلة على (لا) النافية لهذا الفعل.
أسأل الله - جل وعلا - أن يهب لي القدرة على أن أكتب، وأن يهب لي السداد فيما أقول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
مراجع هذه الرسالة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة - الرياض:
1- (ج7 ص43) 2- (ج7 ص298) 4- (ج4 ص280) 5- (ج4 ص416) -6 (ج5 ص391) 7- (ج5 ص492) 8- (ج6 ص268) 9- (ج6 ص413) 10- (ج7 ص123) 12- (ج7 ص126) 13- (ج7 ص316) 14- (ج7 ص343) 15- (ج8 ص222) 16- (ج8 ص405) 17- (ج8 ص486) 18- (ج487 ص) اهـ
2- تفسير أبي السعود - الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد - القاهرة:(27/258)
1- (ج7 ص43) 2- (ج8 ص19) 3- (ج1 ص256) 4- (ج3 ص221) 5- (ج3 ص288) 6- (ج5 ص22) 7- (ج5 ص85) 8- (ج6 ص35) 9- (ج6 ص143) 10- (ج6 ص238) 11- (ج7 ص17) 12- (ج7 ص19) 13- (ج7 ص154) 14- (ج7 ص157) 15- (ج8 ص208) 16- (ج9 ص170) 17- (ج9 ص172) اهـ
3- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين، الناشر: الحلبي بمصر:
1- (ج3 ص380) 2- (ج4 ص50) 3- (ج1 ص358) 4- (ج2 ص206) 5- (ج2 ص506) 6- (ج2 ص551) 7- (ج3 ص197) 8- (ج3 ص274) 9- (ج3 ص354) 10- (ج3 ص497) 11- (ج3 ص521) 12- (ج4 ص291) 13- (ج4 ص466) 14- (ج4 ص551) 15- (ج4 ص554) اهـ
4- تفسير الطبري، الناشر: الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة:
1- (ج21 ص6) 2- (ج25 ص5) 3- (ج3 ص50) 4- (ج9 ص107) 5- (ج13 ص151) 6- (ج14 ص43) 7- (ج16 ص196) 8- (ج18 ص41) 9- (ج19 ص65) 10- (ج3 ص43) 11- (ج20 ص93) 12- (ج22 ص140) 13- (ج23 ص17) 14- (ج27 ص277) 15- (ج30 ص232) اهـ
5- تفسير ابن كثير: الناشر: الحلبي بمصر:
1- (ج4 ص105) 2- (ج1 ص315) 3- (ج2 ص260) 4- (ج2 ص555) 5- (ج3 ص162) 6- (ج3 ص349) 7- (ج3 ص332) 8- (ج3 ص395) 9- (ج3 ص558) 10- (ج3 ص576) 11- (ج4 ص310) 12- (ج4 ص460) 13- (ج4 ص523) 14- (ج4 ص534) اهـ
6- الكشاف للزمخشري - الناشر الحلبي بمصر:
1- (ج3 ص209) 2- (ج2 ص73) 3- (ج2 ص128) 4- (ج2 ص360) 5- (ج2 ص395) 6- (ج3 ص108) 7- (ج4 ص64) 8- (ج4 ص203) 9- (ج4 ص264) 10- (ج4 ص266) اهـ
7- تفسير القرطبي الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة:
1- (ج15 ص375) 2- (ج3 ص300) 3- (ج9 ص319) 4- (ج13 ص03) 5- (ج19 ص159) 6- (ج20 ص96) 7- (ج20 ص104) اهـ
8- تفسير الفخر الرازي - الناشر: دار الكتب العلمية بطهران - الطبعة الثانية:
1- (ج7 ص40) 2- (ج19 ص53) 3- (ج24 ص124) 4- (ج29 ص226) 5- (ج30 ص272) 6- (ج31 ص213) اهـ(27/259)
مفهوم الأسماء والصفات
خرافة يجب تكذيبها
مفهوم الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ / سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية
يقول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَأن اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
تشمل الآيات الكريمات على ستة عشر اسما من أسماء الله الحسنى، هي:
الله - العالم - الرحمن - الرحيم - الملك - القدوس - السلام - المؤمن - المهيمن - العزيز - الجبار - المتكبر - الخالق - البارئ - المصور - الحكيم.
وقد أسلفت الكتابة في حلقات سابقة بما يسر الله لي ون بعض أسمائه:
الله - العالم - الرحمن - الرحيم - الملك - العزيز - البارئ - الحكيم..
وأحاول بحول الله وقوته - أن اكتب في هذه الحلقة شيئاً مما ييسر الله تعالى لي فهمه من معأني باقي الأسماء في الآيات الشريفات المذكورات.
وقبل أن ادخل في هذا البحث أود أن أشير إلى أول كلمة في هذه الآيات وهي قوله تعالى: (هو) ذلك أن بعض الذين شرحوا أسماء الله الحسنى، ذكروا أن هذه الكلمة أنما هي اسم من أسماء الله الحسنى، وهذا مسلك عجبت له كثيرا، لهذا أردت أن أبين خطأ هذا الفهم لقيامه على غير دليل.
(هو) ليس اسماً من أسماء الله الحسنى:
من الذين قالوا أن (هو) اسم من أسماء الله الحسنى أبو القاسم عبد الكريم القشيري [1] في كتابه(27/260)
(شرح أسماء الله الحسنى) [2] . وكأن نص ما قاله ما يأتي:
أعلم أن (هو) اسم موضوع للإشارة، وهو عند الصوفية إخبار عند نهاية التحقيق، وهو يحتاج عند أهل الظاهر [3] إلى صلة تعينه ليكون الكلام مفيداً، لأنك إذا قلت: هو ثم سكتَّ, فلا يكون الكلام مفيداً حتى تقول: هو قائم أو قاعد، أو هو حي أو هو ميت وما أشبه ذلك.
فأما عند القوم [4] فإذا قلت هو، فلا يسبق إلى قلوبهم غي ذكر الحق فيكتفون عن كل بيأن يتلونه لاستهلاكهم في حقائق القرب باستيلاء ذكر الله على أسرارهم وأنمحائهم عن شواهدهم فضلاً عن إحساسهم بمن سواه [5] ، وكأن الإمام أبو بكر بن فروك رضي الله عنه يقول: هو حرفأن هاء وواو فالهاء تخرج من آخر الحلق وهو آخر المخارج والواو تخرج من الشفة وهو اول المخارج، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه وأنتهاء كل حادث إليه وليس له ابتداء ولا أنتهاء، وهو معنى قوله سبحأنه (هو الأول والآخر) ،فقوله: (هو الأول) : إخبار عن قدمه، وقوله (الآخر) إخبار عن استحالة عدمه ". [6]
ثم قال القشيري: " وقد حكى عن بعضهم أنه قال: رأيت بعض الوالهين، فقلت ما اسمك؟ فقال: هو، قلت من أنت؟ فقال: هو، قلت: من أين جئت؟ فقال: هو، قلت: من تعني بقولك: هو؟ فقال: هو، فما سألته عن شيء إلا قال: هو. فقلت: لعلك تريد الله، قال: فصاح وخرجت روحه [7] " ثم قال القشيري: " وقال أهل الإشارة [8] : أن الله تعالى كاشف الأسرار بقوله: هو، وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء، وقيل كاشف المحبين بقوله: هو، وكاشف المُتَيَّمينَ بقوله: الله، وكاشف العلماء بقوله: أحد، وكاشف العقلاء بقوله: الصمد، وكاشف العوام بقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقيل: كاشف الخواص بإلهيته، وكاشف خاصة الخاصة بهويته … الخ " [9] .
هذا ما قاله القشيري في معنى (هو) [10] .(27/261)
وأعجب مما كتبه القشيري، ما كتبه محقق وشارح كتابه في هامشه، إذ قال:
" هو: اسم من أسماء الله، له هيبة وجلال عند أرباب الطريق والمكاشفات وأهل المشاهدة [11] . ومخرجه من باطن القلب، وله حرارة تزكي الجسد والروح، ومعناه حاضر لا يغيب، لا يشتمل عليه زمأن، ولا يحويه مكأن، منزه عن مشابهة الحوادث، قريب من عبده في أي زمأن ومكأن، الإله هو ولا إله إلا هو، إلى أن قال: هو مصدر الجلال والجمال لأهل النور الذاتي والمعنوي [12]- ثم قال: هو هو، ولا مشهود غيره [13] . ثم قال: وهو الضمير الدال على اسم الله، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " [14] .
وهكذا يبين لنا مما كتب أولئك الصوفية، أنهم يزعمون أن ضمير الغائب (هو) هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك ينادونه سبحأنه بقولهم:
(يا هو) كقول قائلهم: (فيا هو قل أنتَ أنا ويا أنا قل أنت هو)
كما تجد أولئك القوم يذكرون الله تعالى في أذكارهم وحضراتهم بهذا الضمير على أنه أحد أسمائه الحسنى سبحأنه، فنسمعهم يقولون: (هُو -هُو -هُو -هُو) ويرددون هذه الكلمة مئات المرات زاعمين أنهم يذكرون الله باسم من أسمائه الحسنى.
وقد كذبوا على الله تعالى، وسمَّوه بما لم يسمِّ به نفسه، وشرعوا له ما لم يشرعه سبحأنه، وقالوا عليه بغير علم، والله تعالى حرم ذلك فقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف آية 33) .(27/262)
وأهل السنة يؤمنون بأسماء الله الحسنى التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة، فهي توقيفية يُوقَفُ عند ما نص عليه، وقد خلصت له الأسماء السنية، فكأنت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كأن منها خليا، ولا اسماً كأن منه بريّاً، تبارك وتعالى [15] .
ومن ثم فليس لأحد - كائناً من كأن - أن يسمى الله تعالى بما لم يسمَّ به نفسه، أو يشرع غير ما شرع الله.
بعد أن أنتهت من هذا المبحث، أدخل الأن في إتمام عرض ما ييسر الله تعال لي من معأني باقي الأسماء في الآية التي صدرت بها هذه الحلقة، وذلك فيما يلي:
القُدُّس:
هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو بضم القاف (قُدُّس) على وزن (فُعُّل) وهو صيغة مبالغة من (القُدْس) وهو الطهارة. ولكن سيبويه كأن يرى أنه بالفتح (قَدُّس) على وزن (فَعُّل) لأنه ليس عنده في الكلام (فُعُّل) أصلاً. وقال ثعلب: كل اسم على (فُعُّل) فهو مفتوح الأول مثل سَفُّد وكَلُّب وسمُّ وشَبُّط وتَنُّور إلا السُّبُّح والقُدُّوس فغن الضم فيهما أكثر، وقد يُفتحأن [16] .
واسم (القُدُّس) سبحأنه متضمن لكمال طهارته من جميع صفات النقص والعيب.
· وقد ورد اسم (القُدُّس) جل وعلا في القرأن الكريم مرتين فقط [17] : مرة في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية23) ،ومرة في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة آية 1) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في معنى (القُدُّس) قوله: قال وهب بن منبه: الطاهر، وقال مجاهد وقتادة: المبارك، وقال ابن جريج: تُقَدِّسه الملائكة الكرام. [18]
وقال صاحب جامع البي ان في معنى (القُدُّوس) : الطاهر البليغ في النزاهة عن كل نقصأن [19] .(27/263)
وقال الإمام الشوكأني في معنى (القُدُّوس) : الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص.
والقُدُّوس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأوأني التي يُستخرج بها الماء، وقرأ الجمهور (القُدُّوس) بضم القاف، وقرأ، وقرأ أبو ذر وأبو السماك بفتحها، وكأن سيبويه يقول (سَبُّح قَدُّوس) بفتح أولهما. [20]
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في معنى (القُدُّوس) : المقدس من كل عيب ونقص المعظم الممجد، لأن (القُدُّوس) يدل على التنزيه من كل نقص والتعظيم لله في أوصافه وجلاله [21] .
· أقول: واسم (القُدُّوس) أفهم منه أنه من أسماء الله الحسنى الذي يدل على ابلغ الطهارة المطلقة من كافة صفات النقص لله عز وجل، إذ قد تنزه سبحأنه عن جميع النقائص ونفاها عن نفسه، فوجب على المؤمن أن ينزه خالقه جل وعلا عن كل عيب ونقص، ولا سبيل له إلى ذلك إلا بأن يثبت لله تعالى ما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى وصفات الكمال العليا، دون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن ينفي عن الله جل وعلا عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، كما أثبت السلف الصالح رضوأن الله عليهم ونفوا إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، أنطلاقاً من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11)
السُّبُوح:
وهو اسم من أسماء الله عز وجل على صيغة (فُعُّول) وهو صيغة مبالغة - ولم يرد ذكر هذا الاسم في القرأن الكريم، وأنما ورد في السنة المشرفة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه - بسنده - عن مُطرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير أن عائشة (رضي الله عنها) نبأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ك ان يقول في ركوعه وسجوده " سُّبُوح قُدُّوس ربُّ الملائكةِ والرُّوح ".(27/264)
وقد ذكر الإمام النووي أن قوله (سُّبُوح قُدُّوسٌ) بضم السين والقاف وبفتحهما والضم أفصح وأكثر، وأن المراد بالسُّبُوح القُدُّوس: المُسبُّح القُدُّس فكأنه قال: مُسَبَّح مُقَدَّسٌ رب الملائكة والروح، ومعنى سُّبُوح: المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق، قُدُّوس: المُطهر من كل ما لا يليق بالخالق.
وقال القاضي عياض أنه قيل فيه: " سُّبُوحاً قُدُّوساً على تقدير أُسِبِّح سُبُّحاً، أو أذكر، أو أعظم، أو أعبد. وأن قوله: ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ قيل: الروح ملك عظيم، وقيل: يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة والله سبحأن وتعالى أعلم " [22] .
· أقول واسم (السبوح) أفهم منه أن الله عز وجل هو المستحق وحده أن ينزه عن جميع النقائص والعيوب، إذ أنه تبارك وتعالى وحده صاحب صفات الكمال، ونعوت الجلال المطلقة التي لا حدود لها. وعلى المؤمن أن يؤمن بذلك إيمأناً كاملاً
ولو أن المؤمن آمن بأن الله سبح انه هو (السُّبُوح القُدُّوسٌ) واستقر ذلك الإيم ان خالصاً في قلبه، وبدا أثره على لس انه وجوارحه، لما فتر عن تسبيح خالقه وتنزيهه تنزيهاً كاملاً عن النقائص جميعاً، ولحرص على تطهير قلبه من الأرجاس والشركيات والدنايا، والتزم توحيد الله عز وجل، ولما صدر عن قلبه إلا العمل الخالص الطاهر، لن الأناء لا ينضح إلا بما فيه، ومن ثم يقبل الله عمله، ويدخله في رحمته ورضو انه.
السَّلاَم:
هو اسم من أسماء الله تعالى، وهو وصدر كالسلامة من سَلمَ أي بريء من العيوب 0
· وقد ورد اسم (السَّلاَم) في القرأن الكريم مرة واحدة، في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية 23) .
وقد ذكر أبو إسحاق الزجاج في معنى (السَّلاَم) : أنه هو الذي سلم من عذابه من لا يستحقه [23] .(27/265)
وذكر الإمام ابن كثير في معنى (السَّلاَم) : أي من جميع العيوب والنقائص لكمالها في ذاته وصفاته وأفعاله [24] .
وذكر صاحب جامع البيأن في معنى (السَّلاَم) : أي ذو السلامة من كل نقص [25] .
وذكر الإمام الشوكأني في معنى (السَّلاَم) : أي الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل المسِّلم على عباده في الجنة كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال: المسلم لعباده. وهو مصدر وصف به للمبالغة [26] .(27/266)
أقول واسم (السَّلاَم) سبحأنه أفهم منه أنه جل وعلا سالم من جميع صفات النقص، ومتصف بجميع صفات الكمال - وقد سلَّم (السلام) عز وجل أولياءه من المرسلين وغيرهم من العيوب، فسلَّ المرسلين منها في قوله (وسلام على المرسلين) أي أنه سبحأنه سلَّم رسله في أقوالهم: فلا يقولون على الله إلا الحق، ولا يُبَلِّغون أممهم إلا بالحق، وسلَّمهم كذلك في أعمالهم: فلا يشكرون بالله شيئاً. وكذلك يسلِّم (السَّلاَم) أولياءه غير المرسلين، فقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ} . (النمل آية 59) ، فتسلم أقوالهم وأعمالهم من كل عيب وشرك، ولهذا وصف الرسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم بما يعني ذلك: فقد أخرج الإمام مسلم بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: " مَنْ سلم المسلمون من لسأنه ويده " [27] , وسلامة اللسأن واليد آية على طهارة القلب، إذ أن القلب هو المحرم، وبصلاحه يصلح الجسد كله - كما أن (السَّلاَم) سبحأنه يهدي عباده المؤمنين سبل السلام، فقال تعالى: {جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} (المائدة آية 16) ، ويجعل تحيتهم يوم لقائه، فقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} (الأحزاب آية 44) . ويدخلهم الجنة التي سماها دار السلام، فقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (الأنعام آية 127) ، ويجعل دخولهم فيها بسَلاَم، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} (الحجر آية 46) ، ويجعل تحيتهم فيها السَّلاَم، فقال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (يونس آية 10) ، وطَيَّب لهم الإقامة فيها فلا يسمعون(27/267)
فيها إلا السَّلام، فقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} (الواقعة آية 26) .
ولا يبلغ أحد الجنة إلا إذا أسلم وجهه لله وحده، وأسلم قلبه لله دون غيره، واستمر على ذلك حتىيلقاه سبحأنه، ونجد معنى ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمأن أية 22) ، وقوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء آية 89) ، وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج آية 34) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمرأن آية 102) .
وتحقيقاً لهذه السلامة - فوق ما تضمنته هذه الآيات الكريمات وغيرها - فقد جعلها الرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكره - المتضمن لطلبها من ربه سبحأنه - دبر كل صلاة - فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه - بسنده - عن ثوب ان قال: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: " اللهمَّ أنت السَّلاَم ومنك السَّلاَم تباركتَ ذا الجلال والإكرام " وفي رواية: (ياذا الجلال والإكرام) .
اسأل الله جل وعلا أن يخلص أعمالنا لوجهه، وأن يسلم قلوبنا إليه، وأن يُثَبِّتها على دينه، وأن يختم لنا بعقيدة التوحيد ختام الإيم ان.
(يتبع)
خرافة يجب تكذيبها
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/268)
اطلعت على ما نشرته جريدة عكاظ في عددها (رقم: 5977) الصادر في يوم الاثنين الموافق 24/12/1402 هـ- ص (20) نقلا من صحيفة السياسة الكويتية عن الرجل المدعو محمد المصري الذي يزعم أنه أغ مي عليه يوم الأربعاء وظن أنه ميت ودفن يوم الأربعاء وأخرج من قبره يوم الجمعة وما أرى من العجائب والغرائب.. الخ.. ونظرا إلى كون هذه الحكاية قد تروج على بعض الناس صحتها رأيت التنبيه على بطل انها وأنها خرافة لا تروج على عاقل بل هي كذب بحت زورها من سمى نفسه محمد المصري أو غيره لأغراض خسيسة حملته على ذلك ومن المعلوم أن من يسمع كلام أهله وكلام الطبيب وكلام المشيعين لجنازته لا تخفى حياته لا على الطبيب ولا على غيره ممن ينظر إليه ويقلبه ثم كيف يكون مغمى عليه وهو يعي ويحفظ كل ما دار حوله ومن المعلوم أيضا أن سنة الله في عباده أن من جعل في محل مكتوم ضيق لا يعيش مثل هذه المدة من المعلوم شرعا أن ملكي القبر لا يأتي ان إلى الحي إذا وضع في القبر وإ نما يأتي ان إلى الميت والله سبح انه يعلم الأحياء والأموات وهو الذي يرسل الملكين إلى الميت لسؤاله ثم هذا الرجل الكذاب وصف الملكين بما يدل على أنهما رج لا ن لا ملك ان ثم الملك ان لا يخبر ان الميت لا بحسناته ولا بسيئاته وإ نما يس ألا نه عن ربه ودينه ونبيه ف إ ن أجاب جواباً صحيحاً فاز بالنعيم وإ ن أجاب بالشك عذب ثم ما ذكره بعد ذلك من ال م ناظر الغريبة إ نما قصد بذلك ترويج باطله وايهام الناس أنه من الناجين حتى يعطفوا عليه ويساعدوه بما طلب منهم أو يعطفوا عليه بدون طلب وقد يكون من قصده الشهرة بين الناس حتى يطلب في كل مك ان ليسأل عما رأى ويحصل له بعض ما يريد ومن جهله قوله (وتشاء الصدف أن ك ان أهلي قد جاؤا لزيارة قبري) ومثل هذا الكلام لا يجوز والصواب أن يقال (ويشاء الله) لأن الصدف لا مشيئة لها. والخلاصة أن هذه الحكاية موضوعة مكذوبة لا أساس لها من الصحة كما يتضح ذلك(27/269)
من سياقها وواقعها ولا ينبغي لصحفنا ولا للصحف التي تحترم نفسها أن تنشر مثل هذه الخرافات ونسأل الله أن يطهر صحفنا وصحف المسلمين من كل باطل وأن يكبت الخداعين والماكرين ويفضحهم ويكفي المسلمين شرهم وأن يوفق جميع المسلمين للفقه في دينه والثبات علي هـ إ نه سبح انه خير مسؤول. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الملقب بجمال الدين. إمام التصوف في عصره المولود عام 376هـ والمتوفى عام 465هـ.
[2] حققه وشرحه الأستاذ عبد المنعم عبد السلام الحلواني.
[3] أقول يشير القشيري بقوله: أهل الظاهر: إلى عقيدة أهل التصوف الذين يقولون إن الإسلام له وجهان: وجه ظاهر، ووجه باطن: فالوجه الظاهر هو النصوص ويسمونه الشريعة، ويسمون الذين يتمسكون بالنصوص أهل الظاهر وأهل الشريعة، والوجه الباطن هو المعاني البعيدة الخفية للنصوص التي لا يعلمها أهل الظاهر، ويسمون هذا الباطن الحقيقة، ويسمون الذين يعرفونها أهل الحقيقة وهم في نظرهم الصوفية وهذا كلام باطل لأن الإسلام ليس له ظاهر وباطن، بل إن ظاهره كباطنه، يشير إلى هذا قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ".
[4] أقول: يقصد بالقوم: الصوفية.
[5] أقول: يقصد أنهم يغيبون عن عالم الشهادة، وهذه هي عقيدة الفناء في الله، وهي من عقائد الصوفية الخبيثة الباطلة.(27/270)
[6] أقول: هذا كلام خبط لا سند له، فكم من الكلمات أولها يخرج من أقصى الحلق وآخرها يخرج من الشفتين ولا يشير إلى ابتداء ولا انتهاء مثل (هُبْ) ، و (هُفْ) وما شكل ذلك، فليس لمخارج الكلمات مُعَوَّل في المعنى، إضافة إلى ذلك فإن كلمة (هو) إنما هي ضمير يدل على الغائب, وليس اسماً، فضلاً عن أن يكون اسماً لله تعالى - ويجب أن يعلم أن أسماء الله تعالى توقيفية يوقف فيها عندما ورد النص به ولا مجال للاجتهاد فيها - ولم يرد نص في الكتاب والسنة على أن (هو) اسم من أسماء الله تعالى، وإنما ذلك من تلبيسات إبليس الني أوحى بها إلى أعوانه فيما سول لهم وأملى لهم.
[7] أقول: وهذه الحكاية فضلاً عن نسبتها إلى مجهولين بدون إسناد، فإنها نوع من خيال المبتدعة المبطلين الذين يعيشون مع الأوهام التي تنسجها لهم الشياطين.
[8] أقول: يقصد بأهل الإشارة: الصوفية.
[9] أقول: قوله كاشف بقوله (هو) ليس دليلا على أن اسمه سبحانه (هو) . بل إن (هو) ضمير يدل عليه سبحانه كما يقول تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . فهل قال أحد بأن كلمة (أنا) اسم من أسماء الله تعالى؟ ما قال بذلك أحد، بل قال الجميع: إن هذه الكلمة ضمير يدل على المتكلم - فما الفرق إذن بين الضمير المتكلم (أنا) والضمير الغائب (هو) ؟ لا إله إلا الله إله إلا الله إله إلا الله فرق بينهما في كون كل منهما ضميراً، وليس واحد منهما اسماً من أسماء الله تعالى على الإطلاق. ودليلنا في هذا عدم ورود النص في الكتاب والسنة بشيء من ذلك. والله سبحانه أعلم.
[10] شرح أسماء الله الحسنى للقشيري ص 121، 122، 123.(27/271)
[11] أقول: يقصد المحقق الشارح بأرباب الطريق والمكاشفات وأهل المشاهد: أهل الطرق الصوفية.
ذلك بأن عقيدة هؤلء الضالة الباطلة أن غاية التصوف: إنما هو الكشف والمشاهدة، بمعنى أن يكشف لأحدهم اللوح المحفظ فيقرأ فيه ما كان وما سيكون، وأن يشاهد الله تعالى فيراه رأي العين. ويقرر الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين جزء 2 ص166 أن المشاهدة تتم أثناء الخلوة إذ يقول: " الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم، فإن لم يكن له مكان مظلم، فيلف رأسه بجيبه أو يدثر بكساء أو ازار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية " - وعقيدة المشاهدة باطلة. والحق فيها ما اعتقده أهل السنة والجماعة من أن الله تعالى ادخر رؤيته سبحانه للمؤمنين في الجنة. فتكون هذه الرؤية لهم في وضوحها كما يرون القمر ليلة البدر. وتكون أعظم ما ينالون. بل أعظم من الجنة. وذلك في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس26) .والحسنى هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل. ومن ثم فرؤية الله في الدنيا لم يمكن عباده منها بل ادخرها للمؤمنين في الجنة. ومن هذا يتضح بطلان عقيدة الصوفية في المشاهدة في الدنيا.
[12] أقول: يقصد الشارع عقيدة المشاهدة الباطلة.
[13] أقول: يشير الشارح إلى عقيدة أخرى من عقائد الصوفية الزائغة وهي عقيدة وحدة الوجود. ويعنون بها أن الله حل في كل شيء. فأصبحت الموجودات كلها لا حقيقة لوجودها غير الله فكل شيء هو الله. وذلك يظهر من قول قائل الصوفية:
فيا هو قل أنت أنا
ويا أنا قل أنت هو
ما في الوجود غيرنا
أنا وهو وهو وهو
وقوله:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينه
وقول الزنديق محيى الدين بن عربي:
الربٌ عبدٌ والعبد ربٌ
يا ليت شعري من المكلف؟
إن قلت عبدٌ فذاك ربٌ(27/272)
أو قلت ربٌ أنَّي يكلف؟
وقوله كذلك:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
وما الله إلا راهب في كنيسة
وهذا الهراء معناه أن الله جَلَّ في العبد، وفي الكلب، وفي الخنزير، وفي كل شيء، وصار كل شيء في الوجود هو الله … تعالى الله عما يقول أولئك المجرمون عُلُوّا كبيراً.
[14] الرجع السابق ص 121، 122، 123.
[15] الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 42.
[16] مختار الصحاح في مادة (ق د س) .
[17] المعجم المفهرس ص 538.
[18] تفسير ابن كثير الجزء 4 ص 344.
[19] جامع البيان الجزء 2 ص 350.
[20] فتح القدير الجزء 5 ص 207.
[21] تيسير الكلام الرحمن الجزء 8 ص 107.
[22] صحيح مسلم بشرح النووي - الجزء 4 ص 203 - 205.
[23] المعجم الفهرس ص 356.
[24] تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص31.
[25] تفسير ابن كثير - الجزء 4 ص 344.
[26] جامع البيان - الجزء 2 ص 350.
[27] صحيح مسلم.(27/273)
مسابقة القرآن الكريم الدولية
شهدت مكة المكرمة في أوائل شهر جمادى الثانية عام 143هـ مسابقة القرآن الكريم الدولية الخامسة، وقد أقيمت هذه المسابقة تحت رعاية الملك فهد بن عبد العزيز حيث أناب جلالته صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز في افتتاحها في مهبط الوحي ومتنزل القرآن.
وألقى الأمير ماجد كلمة جاء فيها: "في بلد الله الحرام حيث أشرق ضياء القرآن على هذا العام فبدد الظلام، وأزال الجهل، وقضى على العصبيات التي تقوم على رابطة الدم والنسب، وكوّن القرآن من المجتمع الإسلامي إخوة متحابين روادا للبشرية في الطريق إلى الله".
وأشار سموه إلى أن بعثات المسلمين الأولى إلى شتى أنحاء العالم لم تقدم جديدا في الرقي المادي، ولا جديدا في فنون الصناعة والتجارة - ولكنها حملت (أعظم هدية وأرقى مدنية تليق بهذا الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض) .
نعم، إن الفاتحين المسلمين حملوا رسالة القرآن ومنهجه في صنع المجتمعات، وأخذوا بهذا المنهج يربون الأمم فأنقذوها مما (كنت) تعانيه من ضيق النفس والظلم وتعاسة الأيام وأعادوا لها حياة الاستقرار والكرامة والعزة.. وإذا بالمجتمعات الإسلامية يسودها الترابط والمحبة.
(ولنا.. في رسول الله أسوة حسنة وفي أصحابه قدوة، وإننا لن نستطيع أن نقدم سوى ما قدم هذا الرسول الكريم وأصحابه الأطهار.. ألا وهو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى نكون بحق خير أمة أخرجت للنا) .
وهذه المسابقة التي تقام مرة كل عام نبتت فكرتها في مهرجان تونس الذي انعقد قبل بضع سنين، وكان أن تقرر فيه إقامة مهرجان دولية ومسابقات لتلاوة كتاب الله.
وحقق (المملكة العربية السعودية) السبق في تبني هذه الفكرة في نطاق وزارة الحج والأوقاف، وأقيمت أربع مسابقات:
المسابقة الأولى عام 1399هـ (1979م)
المسابقة الثانية عام 1400هـ (1980م)
المسابقة الثالثة عام 1401هـ (1981م)(27/274)
المسابقة الرابعة عام 1402هـ (1982م) .
وكان عدد المتسابقين في الأعوام الأربعة التي مصت كبيرا، وهذا العام بلغ عدد المتسابقين (134) متسابقا يمثلون (25) دولة و (31) جمعية.
وقد قسمت المسابقة إلى خمسة فروع بحيث تستوعب الحافظين والمجودين والمرتلين والمفسرين للقرآن، وهذه الفروع هي:
1- فرع حفظ القرآن كاملا مع التجويد وتفسير الجزء الثاني، وتسابق فيه 10 أشخاص.
2- فرع حفظ القرآن كاملا مع التجويد وبه 17 شخصا.
3- فرع حفظ عشرين جزءا من القرآن مع التجويد وبه 17 شخصا.
4- فرع حفظ عشرة أجزاء من القرآن وبه 31 شخصا.
5- فرع ترتيل القرآن مع حسن الصوت وحفظ جزء واحد منه وبه 40 شخصا.
وهدفت المسابقة من هذا التوزيع شدّ الشباب للمشاركة في هذه الفروع حسب طاقة كل منهم وظروفه.
وبفضل الله تتوسع المسابقة عاما بعد عام ويزيد الإقبال عليها من كل مكان.
ووزارة الحج والأوقاف بالمملكة العربية السعودية معنية بهذا التوسع، ودعم المسابقة والقيام بكل ما يساعد على تحقيق غاياتها الخيرة.
والمأمول أن يأتي اليوم الذي يكون فيه مبنى الأمانة العامة للمسابقة حقيقة يشاهدها المسلمون كدليل جديد على رعاية حكومتنا الرشيدة لكل ما له صلة بالقرآن وتدارسه وحفظه.
والمأمول كذلك أن ينشأ قريبا معهد القراءات وعلوم القرآن رافدا من روافد المسابقة، يمدها بالمتسابقين المتدبرين لآيات الكتاب الحافظين له بحفظ الله.(27/275)
النقد الأدبي ومقاييسه خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
وعصر الخلافة الراشدة
للدكتور محمد عارف محمود حسن
المدرس في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر
لا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثه الإسلام من ثورة شاملة في جميع نواحي الحياة وجوانبها: الدينية، والسياسية، والعقلية، والاجتماعية، والأخلاقية ...
وكانت الناحية العقلية - أو الفكرية - من الجوانب التي أثر فيها الإسلام تأثيرا بالغا، وهذا يعني أن اللغة العربية التي عبر بها الإسلام عن مبادئه ومعتقداته قد تأثرت تأثرا شديدا بهذا الدين الجديد، تأثرت به أسلوبا وموضوعا، أو لفظا ومعنى، وينسحب هذا التأثر على جميع الفنون والعلوم العربية، سواء أكانت شعرا، أم نثرا، أو لغة، أو نقدا ...
ويعنينا في هذا المقام أن نعرف الآثار التي أحدثها الإسلام في النقد الأدبي، وإلى أي مدى كان تأثر النقد به؟ وما الأسس والمقاييس التي سار عليها النقد في عصر صدر الإسلام؟.
الرسول صلى الله عليه وسلم والنقد الأدبي:
الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا الدين الجديد، وحامل لواء الدعوة إليه، ولذا فمن المهم أن نتعرف على موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر، وعلى موقفه من النقد الأدبي، ودوره فيه، وأن نستعرض جوانب من نقداته صلى الله عليه وسلم، لنتعرف من خلالها على الأسس والأصول التي كان بمقتضاها ينقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر ويحكم عليه.(27/276)
على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل الشعر ولم يعلمه الله إياه، إلا أنه لم يكن يتحرج منه ويتألم بالقدر الذي يظنه كثير من الناس، بل كان يعجب له ويطرب له إعجاب وطرب العربي صاحب الذوق السليم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عربي، وقد وهبه الله من صفاء الذهن، وسلامة الذوق، والقدرة على تمييز الحسن من القبيح من الكلام - ما فاق العرب جميعا، وهو ذوو بصر بصناعة الكلام، فيعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر النابغة الجعدي، ويقول له: "لا يفضُض الله فاك"، وبلغ من استحسانه لقصيدة (بانت سعاد) أن صفح عن كعب وأعطاه بردته، واستمع إلى الخنساء واستزادها مما تقول، وتأثر تأثرا رقيقا لشعر قُتيلة بنت النضر.. [1] .
بل إن الأمر ليتعدى حد الإعجاب إلى الدعوة إليه؛ إذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وإلى هجاء المشركين الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية، فالشعر ما زال سلاحا ماضيا من الأسلحة العربية التي لا يستغني عنها صاحب دعوة.
إننا نعلم من التاريخ الإسلامي أن معركة كلامية دارت بين المسلمين والمشركين بجانب المعركة الحربية، وأن شعراء المسلمين كانوا يقفون في صف واحد أمام شعراء المشركين، كي يردوا عليهم افتراءاتهم وأباطيلهم التي كانوا يرمون بها الإسلام والمسلمين، لا سيما وأن الدعوة الإسلامية كانت بحاجة إلى من يدافع عنها ويرد عنها أعداها؛ لذلك لا نعجب إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين من أمثال حسان بن ثابت [2] ، وكعب بن مالك [3] ، وعبد الله بن رواحة [4]- إلى الدفاع عن الإسلام، وإلى الدعوة إليه، والإشادة بذكره وبمبادئه، وهجاء الكفر والكفار، ولا عجب - لكل هذا - إذ رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن الشعر، ويستنشده أصحابه ويمدح به، ويثيب عليه، بل ينقده ويصلح منه.(27/277)
أما دعوته صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهجاء المشركين فيدل عليها ما روي أنه: لما كان عام الأحزاب، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من يحمي أعراض المسلمين؟ " فقال كعب بن مالك: أنا يا رسول الله! وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله! وقال حسان: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم اهجهم أنا (يعني حسانا) فإنه سيعينك روح القدس".
وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت عبد الله بن رواحة، فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسن بن ثابت فشفى واشتفى" [5] .
وأما نقد الرسول الكريم للشعر، وإصلاحه منه، فسوف نورد الأمثلة والشواهد ما يدل عليه، ولكن قبل أن نورد هذه الأمثلة وتلك الشواهد ينبغي أن نقرر الأساس الذي قام عليه نقد الرسول للشعر، ليسهل بعد ذلك تطبيق هذا الأساس على ما سنورده من الأمثلة.
المقاييس النقدية عند الرسول صلى الله عليه وسلم:(27/278)
ينبغي أن نلاحظ أن الرسول الكريم قد جاء بدين قويم يدعو إلى الفضائل، وينهى عن الرذائل، ويدعو - قبل ذلك وبعده - إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وإذا لاحظنا ذلك علمنا أن المقاييس النقدية التي كان على أساسها يحكم الرسول على الشعر ويبني نقده وتوجيهه له - هي المقاييس والأسس الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم، من التسامح والتواضع والعدل والإحسان والخلق الحسن، وهي الأسس والمقاييس العربية التي أقرها الإسلام، كالكلام والشجاعة والنجدة وحفظ الجوار، وهذه الأسس هي أسس تتصل بالمعاني التي يجب يدور حولها الشعر، وإذا كان الرسول الكريم قد اتخذ من المعاني الإسلامية والتوجيهات الخلقية لهذا الدين مقياسا وأساسا ينقد الشعر على أساسه، ويصلح منه - فإنه صلى الله عليه وسلم قد اتخذ من القرآن الكريم - أيضا - أسلوبا ولفظا ونظما أساسا له ومنهاجا؛ لما امتاز به من سماحة في القول، وسلامة في التعبير، وطبعية في الأسلوب، وبعد عن التكلف والغلو.
ولا نعجب إذ رأينا شعراء المسلمين يتمثلون القرآن الكريم في شعرهم - على اختلاف فنونه وأغراضه - يتمثلونه معنى وموضوعا، وأسلوبا ونظما، فيبنون فخرهم ومدحهم وهجاءهم.. على أسس من المبادئ الإسلامية، والقيم الأخلاقية الرفيعة التي استحدثها الدين الإسلامي، في هذا المجتمع الجديد، وعلى دعامة من الفضائل العربية التي أقرها الإسلام، كما كانوا يتخذون من بلاغة القرآن وسحر بيانه أساسا لنظمهم ودعامة لبيانهم ...
ولعلنا نلاحظ - من خلال ما تقدم - أن هناك أساسين أو مقياسين كان على أساسهما يحكم الرسول على الشعر وينقده، هذان الأساسان أو المقياسان هما: المقياس الديني الإسلامي، والمقياس البياني.
- المقياس الديني الإسلامي:(27/279)
حينما نستعرض نقدات الرسول الكريم التي وجهها إلى الشعر والشعراء، نلاحظ أن الجوانب الدينية والمعاني الإسلامية كانت المحور الأساسي، لنقد الرسول الكريم، ولعلنا نستطيع أن نرى هذا المقياس بوضوح في النقدات الآتية:
روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق كلمةٍ قالها شاعر قول لبيد [6] : ألا كل ما خلا باطل".
ونلاحظ من هذا الحكم الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم على قولة لبيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى فيها ما يتسق مع الروح الإسلامية، ويترجم عن وحي الإسلام.
وحينما ينشده النابغة الجَعدي [7] قصيدته التي مطلعها:
خليلَيّ عُوجا ساعة وتهجَّرا
ولُوما على ما أحدَث الدهر أو ذرا [8]
يُعجب الرسول هذا الشعر، وحينما يبلغ قوله:
بلَغْنا السماءَ مجدُنا وجدودُنا
وإنا لنرجو فوقَ ذلك مَظهرا
يظهر الغضب في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول للنابغة: "إلى أين أبا ليلى؟ " فقال: إلى الجنة، فيقول الرسول - وقد اطمأن إلى أنه حين عبّر بمجد جدوده المتطاول قد انتهى إلى التطلع في ظل الإسلام إلى ما هو أعظم -: "نعم إن شاء الله".
ويمضي النابغة قائلا:
ولا خير في حِلمٍ إذا لم تكن له
بوادرُ تحمي صَفوَه أن يُكدَّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
فيزداد ارتياح الرسول الكريم إلى ما يسمع من وحي الروح الدينية، ومن التوجيه الخلقي الرشيد، ويقول له: "لا يَفضُض الله فاك" [9] .
ويطرب الرسول لشعر كعب بن زهير حين يمدحه بقصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وحين يبلغ كعب قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الهند مسلول
مهند من سيوف الهند مسلول
يصلح له الرسول قوله هذا ويجعله:
................................(27/280)
مهند من سيوف الله مسلول
ونلمح من خلال هذا النقد النبوي ما انطوى عليه من تعديل وجّه كعبا إليه، حيث الرأي الصائب والقول السديد، وهو أن سيوف الله هي التي لا تفل، ولا تنبو ظباتها، ولا تحيد عن مواطن الحق، أما غيرها من السيوف فهي تفل وتنبو وتتلثم، وهذا معنى إسلامي جميل.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على كعب بن مالك، وهو ينشد، فلما رآه كعب بدا كأنه انقبض، فقال الرسول: "ما كنتم فيه؟ " قال: كنت أنشد، فقال له: "أنشد"، فأنشد حتى أتى على قوله:
مَجالِدنا عن جِذْمِنا [10] كل فخمة
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيصح أن تقول:
مَجالِدنا عن ديننا كل فخمة؟
قال: نعم، فقال له: "فهو أحسن".
وواضح من هذا التوجيه الذي أسداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كعب أن الجلاد والقتال إنما ينبغي أن يكون عن الدين، لا عن الأصل والنسب.
2- المقياس البياني:
ونعني به قياس النتاج الأدبي، وتقويمه على أساس ما ينبغي أن يكون عليه النظم أو الكلام من جمال الأسلوب وروعة الأداء، وحسن النظم، وهو ما نسميه بالبيان والبلاغة، ويتصل بهذا المقياس، سلامة القول وسلامة التعبير والتزام الصدق، والبعد عن التكلف.
وحينما نتصفح نقدات الرسول الآتية، نجدها قائمة على هذا الأساس واضحة خير ما يكون الوضوح.(27/281)
روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر، فقال عمرو: مانع لحوزته مطاع في عشيرته، فقال الزبرقان: أما إنه قد علم أكثر مما قال، لكنه حسدني شرفي، فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته إلا ضيق العَطَن، زَمِن المروءة، لئيم الخال، حديث الغِنى، فلما رأى الإنكار في عيني الرسول بعد أن خالف قوله الآخر قوله الأول، قال: يا رسول الله! رضيتُ فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمتُ، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا، وإن من الشعر لحكمة".
وقد انطلق حكم الرسول الكريم هذا على قول عمرو بن الأهتم لما يحويه هذا القول من أسلوب جميل وأداء رائع، يأسر النفس ويفعل بها فعل السحر، ولما فيه من حكمة ومعنى حسن.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن قول طرفة بن العبد ويتمثل به، وهو قوله:
ستُبدي الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد [11]
وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في دية الجنين بغُرّة [12] ، فقال أحدهم: يا رسول الله! أأدي [13] من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يُطل [14] ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبا، واتجه إلى المتكلم، فأنكر عليه أسلوبه ومنطقه، وقال له: "أسجعا كسجع الكهان"؟!.
وما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول إلا لأن صاحبه آثر السجع المتكلف وابتعد عن سهولة الأسلوب وسلاسته، وانطلاقا من مبدأ السلامة في التعبير والسلاسة في القول، والبعد عن التكلف والغلو والتشدق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون [15] ، المتشدقون [16] ، المتفيهقون [17] "، ويقول: "إياكم والتشادق"، ويقول: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها".(27/282)
ولم يقف نفقد الرسول للشعر والنثر عند حدّ النقد العلمي الذي أوردناه منه آنفا بعض الأمثلة، بل كان الرسول كثيرا ما يتعدى ذلك إلى لون آخر من النقد، وهو النقد التوجيهي، الذي يتمثل في إرشاد الأدباء والشعراء وتوجيههم إلى ما يحسن به أدبهم، ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك الأقوال والنصائح، حتى يُعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حدّ الكمال والجمال الأدبي، من ذلك ما أوردنا آنفا من نصائح، يضاف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله وجه رجل أوجزَ في الكلام، واقتصر على حاجته".
وقوله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي [18] : "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".
ومنها قول صلى الله عليه وسلم: "لا تكّلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوهم أصلها فتظلموهم".
وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة - بما تحمل من توجيهات وإرشادات - نقدات أدبية غاية في الأهمية، فهي تدعو إلى الصدق في القول، وعدم التكلف والغلو فيه كما تدعو إلى ترك التظاهر بالبلاغة والتشادق بالفصاحة، وترك السجع المتكلف؛ لأن هذه الأمور الأخيرة المنهي عنها، قد تبهم المعنى، وتضيع الحقيقة، وقد تلبس الباطل ثوب الحق.
هذه النقدات الأدبية بشقيها: الفعلي والتوجيهي، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعراء والأدباء، والتي وقفنا على طرف منها فيما أوردنا من أمثلة - هذه النقدات تمثل تطورا لتلك المحاولات النقدية التي بدأت منذ العصر الجاهلي، وهي محاولات تعتمد على الذوق والفطرة والطبع وصحة الفهم وسعة الرواية، والخبرة المستفادة من المعارف العامة، مستظلة بروح الدين وتعالميه وآدابه، متجهة إلى اللفظ والمعنى والأسلوب والغرض.(27/283)
كما يلاحظ - أيضا - من نقد الرسول الكريم استعمال المصطلحات النقدية؛ فلأول مرة تستعمل في محيط النقد الأدبي ألفاظ تتصل بهذا الفن، لتدل على سير هذا الفن خطوات إلى الأمام، فاستعمل لأول مرة لفظ (البيان) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، ولفظ البلاغة مشتقا منه لفظ (البليغ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها" [19] ، والرسول يعني بالبليغ: الذي يتقن الصنعة بقصد تزوير القول.
ونظرة إلى الأحكام النقدية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء نرى أنها أحكام اتسمت بالعموم والإيجاز، كإعجابه بقول لبيد، وطربه لشعر النابغة الجعدي، واستحسانه لبيان عمرو بن الأهتم، وتعديله للمعاني التي أتى بها كل من كعب بن زهير، وكعب بن مالك، من تلك النقدات التي عرضناها من قبل.
كما يلاحظ القارئ أنها أحكام اتسمت بالجزئية، فنقده صلى الله عليه وسلم كان متجها إلى اللفظ أو المعنى دون غيرهما من الجوانب النقدية الأخرى، فإعجابه بقول لبيد كان متجها للمعنى، فالمعنى عند لبيد جميل وشريف لانسجامه مع الروح الإسلامية، وكذلك طربه لمعنى النابغة يجري مع غاية ما يطمح إليه المؤمن، حينما جعل نهاية مطمحه الجنة.
واستحسان الرسول لبيان عمرو بن الأهتم في قوله عن الزبرقان بن بدر راجع إلى ما يحويه من رائع اللفظ وحسن البيان، وتعديله لشعر كعب بن زهير وشعر كعب بن مالك منصرف إلى المعنى، حيث وجههما الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه المعنى من تلاق مع الروح الإسلامية، فسيوف الله أكثر اتساقا مع روح الإسلام من سيوف الهند، والمجالدة عن الدين أحسن وأفضل من المجالدة عن الأصل والنسب.(27/284)
كما أن استهجان الرسول لقول بعضهم وقد غلب عليه السجع المتكلف راجع إلى اللفظ، حيث وجهه الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه النظم من سلاسة في التعبير، وسلامة في المنطق، بعيدا عن السجع المتكلف، والتشادق المقصود، وهكذا.
الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والنقد الأدبي:
إذا ما خطونا بالنقد الأدبي - أو بالمحاولات النقدية في عصر صدر الإسلام - إلى الأمام قليلا في عصر الخلفاء الراشدين نجد أن النقد قد سار على النهج الذي ارتضاه الرسول الكريم، وسنه في نظرته إلى الشعر، وإلى ما ينبغي أن يتضمنه من معان وقيم إسلامية، وما يجب أن يكون عليه الأسلوب من سلاسة وسلامة في التعبير، وصدق في القول، وبعد عن التكلف والإغراق.
يضاف إلى هذه الأسس ما تميز به كل ناقد من موهبة شخصية، ونزعة ذاتية، وذوق فني.
ولقد لمع في مجال النقد الأدبي من الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ولذا سنقصر الحديث عليه -؛ فله في هذا المجال لمحات نقدية ونظرات أدبية ذوقية، تدل على حاسته الفنية الدقيقة، وعلى مدى فهمه للبيان العربي على أحسن ما يكون عليه الفهم، ولعلّ ما يدل على ذلك خير دلالة رأيه الذي أعلنه في الشعر والشعراء، يقول عمر:
"خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم" [20] .
ويقول - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري: "مرْ مَن قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب" [21] .
وكتب الأدب والنقد تزخر بصور وأمثلة لنقداته رضي الله عنه، تلك النقدات التي تدل على نظرة صادقة وفهم دقيق واعٍ للأدب العربي؛ ذلك لما أضافه رضي الله عنه إلى الأحكام النقدية من أسباب موضوعية مفصلة وعلل وأصول واضحة.(27/285)
ومن نقدات الخليفة عمر - رضي الله عنه - الأدبية: ما روي أنه قال ليلة لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء: قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمة، قال: وبم صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حُوشيّ [22] الكلام، ولا يعاظل [23] في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه، أليس هو الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةَ
من المجد من يسبق إليها يسوَّد
سبقت إليها كل طلق مبرَّز
سبوق إلى الغايات غير مزنّد
ولو كان حمدٌ يخلد الناس لم يمت
ولكن حمد الناس ليس بمخْلِد" [24]
والناظر في هذا النقد الفني الذي حكم به عمر رضي الله عنه على زهير بن أبي سلمى من خلال تذوقه لشعره يجد أن أساس حكمه قائم على الأساس نفسه الذي توخاه الرسول الكريم في نقده للشعر، حينما دعا إلى ترك التشادق، والبعد عن التكلف، وإلى السلاسة في التعبير وإلى الاتزام الصدق في القول، وتلك هي الأمور التي انتهجها زهير في شعره، وعلى أساسها مدحه عمر، إلا أننا نلمح في نقد عمر شيئاً جديدا لم يعهد من قبل عمر، وهو اتباع الحكم النقدي بدواعيه وأسبابه، فعمر لم يحكم على زهير بأنه أشعر الشعراء فقط، بل أتبع هذا الحكم - كما قلت - بأسبابه وعلله، وهي علل وأسباب تصبح أساسا للأحكام النقدية، وقاعدة ومعيارا يقوّم الشعر والأدب به.
وهذا الحكم النقدي وما تبعه من أسباب وعلل، أقيم على جوانب ثلاثة: جانب الألفاظ، وجانب المعاني، وجانب المنهج الذي التزم به الشاعر؛ فمن ناحية الألفاظ وصف عمر رضي الله عنه ألفاظ زهير بالسماحة والألفة وأسلوبه بالوضوح والجمال والسلاسة، والخلو من التعقيد والتركيب والتوعر.
ومن ناحية المعاني فقد وصف عمر معانيه بالصحة والصدق.
ومن ناحية منهج الشاعر فقد وصف عمر زهيرا بالتزام الحق والصدق، والاعتدال والقصد، والتباعد من الإفراط والعلو.(27/286)
ومن ذلك - أيضا - ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يكثر من ترديد بيت زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء [25]
متعجبا من علمه بالحقوق، وتفصيله بينها، واستيفائه أقسامها، وكان يقول: "لو أدركت زهيرا لوليته القضاء لمعرفته" [26] ، وأية معرفة في دائرة الحق واقتضاء الحقوق أدق من التقاء فكر زهير في جاهليته مع ما ارتضاه الإسلام قاعدة بعد ذلك، وما قرره من مبدأ: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" [27] .
واستحسان عمر لبيت زهير قائم على أساس ديني؛ لأنه - أي بيت زهير - يلتقي مع أصل من أصول التشريع الإسلامي.
وشبيه بهذا الاستحسان - في قيامه على أساس ديني - نقده لشعر سحيم عبد بني الحَسحاس حين أنشد عمر قصيدته التي مطلعها:
عُميرة ودّع إن تجهّزت غازيا
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
- وذلك بقوله: (لو كنتَ قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك) .
وهنا يضع عمر في حكمه ما تقتضيه متطلبات الدين الجديد التي تفرض على الإنسان أن يقدم الدين على كل ما عداه.
ومثله - أيضا - نقده للحطيئة حين يقول:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجدْ خير نار عندها خير موقِد [28]
وذلك بقوله: "كذب، بل تلك نار موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم" [29] .
فالشاعر هنا جانب الصدق، وزعم أن نار ممدوحه خير نار، وأنه خير موقد، وفي هذا مخالفة للحقيقة، والتزام الشاعر بالصدق في شعره مقياس نقدي سبق أن انتهجه زهير، وعلى أساسه فضله عمر على سائر الشعراء.
ومن نقدات عمر التي تدل على ذوقه وفهمه الدقيق لأساليب الشعر العربي، ما روي أن النجاشي [30] الشاعر قد هجا تميم [31] بن أبيّ بن مقبل وقومه بني العجلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب، فاستنشدهم ما قال فيهم، فقالوا: إنه يقول:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة
فعادي بني العجلان رهط ابن مقبل(27/287)
فقال عمر: إنه دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وغن كان ظالما لم يستجب له، قالوا: إنه يقول:
قُبيّلة لا يغْدِرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك! قالوا: وقد قال:
ولا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوُرّاد عن كل منهل
قال عمر: ذلك أقل للِّكاك [32] ! قالوا: وقد قال أيضا:
تعافُ الكلابُ الضاريات لحومهم
وتأكل من كعب وعوف ونهشل
فقال عمر: أجَنّ القوم موتاهم، فلم يضيعوهم! قالوا: وقد قال:
وما سًمِي العجلان إلا لقيلهم
خذ القعب واحلبْ أيها العبد واعجل [33]
فقال عمر: خير القوم خادمهم، وكلنا عبيد الله! [34] .
ولعلّ في هذا الحوار الذي دار بين رهط بني العجلان وعمر، ما يدل على مدى قدرة عمر على فهم الشعر وتذوقه وإدراك معانيه وعلمه بمراميه.
وعلى الرغم من فقه عمر وفهمه للشعر وتذوقه له على النحو الذي ذكرنا، إلا أنه بعث إلى حسان بن ثابت والحطيئة - وكان محبوسا عنده - فسألهما عن شعر النجاشي في تميم بن مقبل ورهطه، فقال حسان مثل قوله في شعر الحطيئة الذي هجا به الزبرقان بن بدر، فهدد عمر النجاشي، وقال له: إن عدت قطعت لسانك! [35] .
وفي ندب عمر الخبراء من الشعراء ما يدل على مدى إيمانه بالتخصص؛ إذ لم يكن ذلك الندب لعجزه عن البت فيما عرض عليه بل كان سنا لقاعدة رشيدة، وهي الرجوع إلى أهل الذكر في كل فن من رجاله المنقطعين له قبل القضاء فيه؛ ليكون ذلك أصح للرأي، وآكد في صواب الحكم.
وعلى الرغم من أن أحكام عمر النقدية قد اتسمت بالجزئية فاتجهت إلى الصياغة، أو المعاني، ولم يتطرق إلى جوانب أخرى في النص الأدبي.. شأن الأحكام النقدية التي سبقته إلا أننا نجد في نقد عمر شيئاً جديدا لم يألفه القارئ من قبل عمر، وهو أن نقده كان موسوما بالتعليل، ومشفوعا بذكر الدواعي والأساليب في غالبيته.(27/288)
(فعمر هو أول ناقد تعرض نصا للصياغة والمعاني، وحدد خصائص لهذه وتلك، وهو أول من أقام حكما في النقد على أصول متميزة.. فأسند رأيه في زهير إلى أمور محسّة، وأسباب قائمة) [36] .
خلاصة:
ونخلص من هذا إلى القول بأن النقد في عصر صدر الإسلام - عصر الرسول وعصر الخلافة الراشدة - قد خطا خطوات رشيدة، وترسم مناهج وطرقا أكثر تحديدا، وأوضح أحكاما من سابقتها في العصر الجاهلي، ونخلص - أيضا - إلى أن المقاييس والمعالم النقدية التي اتسم بها النقد الأدبي في هذا العصر، كانت تبدو في المقاييس والمعالم الآتية:
أولاً: مقياس الدين:
ونعني به - في إيجاز - قياس النتاج الأدبي، وميزانه وتقويمه على أساس من روح الدين وتعالميه التي جاء بها، وهذا يعني أن الناقد الأدبي كان يستحسن من النتاج الأدبي ما جاء متفقا مع الدين وروحه في بناء المجتمع الجديد، كما كان - بالطبع - يستهجن ما جاء مخالفا لهذا الدين ولروحه وآدابه.
وقد بدا هذا المقياس واضحا في نقد الرسول صلى الله عليه وسلم لشعر لبيد واستحسانه إياه، وفي إعجابه واستحسانه لشعر النابغة الجعدي، وفي تعديله لشعر كعب بن زهير، وكعب بن مالك، مما أوردناه آنفا.
كما اتضح أيضا في نقد عمر رضي الله عنه لشعر الحطيئة وسحيم وتوضيحه لما ينبغي أن يكون عليه الشعر من معنى صحيح أو شريف يلتقي مع الروح الإسلامية، ويبدو - أيضا - في استحسانه لشعر زهير ولبيته الذي بين فيه الحقوق؛ وذلك لالتقائه مع أصل من أصول التشريع الإسلامي.. إلى غير ذلك.
ثانياً: المقياس البياني:
ونعني به - أيضا - قياس النتاج الأدبي، وتقويمه على أساس ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب من سهولة في التعبير وسلاسة في الألفاظ، ووضوح في التركيب، وبعد عن التكلف والتصنع، على أساس أن التعبير المنطلق السلس أقرب إلى البلاعة والبيان من العمل المحكك المنمق.(27/289)
وقد بدا هذا المقياس واضحا في استحسان الرسول لشعر طرفة، وإعجابه الشديد بقول عمرو بن الأهتم، كما بدا - أيضا - في استهجانه صلى الله عليه وسلم للسجع المتكلف الذي أنكره على قائله.
وظهر - كذلك - في توجيهاته صلى الله عليه وسلم التي تمثلت في ذم التكلف والغلو والتشادق والتفيهق، كما اتضح هذا المقياس على نحو محدد في نقد عمر حينما أبدى رأيه في زهير في شعره.
ثالثاً: تحديد الأسباب وذكر العلل:
اتسم النقد الأدبي في هذا العصر، باتجاهه نحو الدقة في إصدار الأحكام، والوضوح في ذكر الأسباب والتفصيل في تبيان العلل، التي بمقتضاها يتم الحكم على العمل الأدبي وتقويمه، وقد رأينا هذا واضحا جليا في نقدات عمر رضي الله عنه.
رابعاً: استعمال المصطلحات النقدية:
لأول مرة تستعمل في محيط النقد الأدبي ألفاظ تتصل بهذا الفن؛ لتدل على سير هذا الفن خطوات إلى الأمام فاستعمل لأول مرة لفظ (البيان) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، ولفظ (البلاغة) مشتقا منه لفظ البليغ في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال..".
خامساً: التوجهات النقدية:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يوجه الأدباء والشعراء إلى ما يحسن به أدبهم ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك التوجيهات النقدية، حتى يعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حد الكمال الأدبي من تلك التوجيهات التي أوردنا طرفا منها آنفا.
سادسا: مقياس التخصص:(27/290)
ويتضح هذا المقايس مما سبق أن ذكرناه من استعانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحسان بن ثابت في الحكم على شعر النجاشي حين هجا تميم بن مقبل وقومه من بني العجلان، وذلك على الرغم من فهم عمر للشعر وتذوقه له، إيمانا منه بمبدأ الرجوع إلى المتخصصين في هذا الفن، فعمر يأبى أن يصدر في حكومة حول الشعر برأيه، ويستدعي من يعدهم نقادا متخصصين ويأخذ برأيهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع: تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص28 للدكتور طه أحمد إبراهيم، ط دار الحكمة بيروت.
[2] هو: حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري، شاعر جاهلي إسلامي، اختص بعد الإسلام بمدح النبي والدفاع عنه، توفي عام 54هـ.
[3] هو: كعب بن مالك الأنصاري، من الشعراء الذين كانوا ينافحون عن الإسلام والمسلمين، ويقفون أما شعراء المشركين ويهجونهم.
[4] هو: عبد الله بن رواحة، صحابي جليل، وشاعر مخضرم، كان - مع حسان بن ثابت وكعب بن مالك - أحد المنافحين عن الإسلام والرسول والمسلمين، استشهد في غزوة مؤتة العام الثامن للهجرة.
[5] حسان بن ثابت: 47، للدكتور سيد حنفي حسنين - (من سلسلة أعلام العرب) .
[6] هو: لبيد بن ربيعة العامري، من شعراء الجاهلية وفرسانهم، أدرك الإسلام وأسلم مع وفد بلاده إلى الرسول، توفي في أول خلافة معاوية.
[7] هو: عبد الله بن قيس، من جعدة بن كعب بن ربيعة، وكان يكنى أبا ليلى، وعمّر كثيرا، ومات وهو ابن مئتين وعشرين سنة.
[8] جمهرة أشعار العرب: 275، ط بيروت.
[9] الشعر والشعراء 1/295 تحقيق الأستاذ أحمد شاكر.
[10] الجذم: الأصل.
[11] يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينطق الشطر الأخير من البيت هكذا: ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
[12] الغرة: العبد أو الأمة.(27/291)
[13] أي: أدفع الدية.
[14] يطل: يهدر ويبطل.
[15] الثرثارون: هم الذين يكثرون الكلام تكلفا وخروجا عن الحق.
[16] المتشدقون: هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط ولا احتراز، وقيل: إنهم المستهزئون بالناس يلوون أشداقهم بهم وعليهم.
[17] المتفيهقون: وهم المتوسعون في الكلام والمتنطعون.
[18] هو: جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر في رمضان، وبايعه وأسلم، توفي سنة 54هـ.
[19] الباقرة: البقرة، والمعنى: أن الله يبغض البليغ الذي يفخم لسانه بالكلام ويلفه كما يلف البقرة الكلأ بلسانها لفا.
[20] البيان والتبيين 2/99، تحقيق السندوبي.
[21] العمدة: 1/10، تحقيق محيي الدين، ط بيروت.
[22] حوشي الكلام: غريبه.
[23] المعاظلة في الكلام: تصعيب الكلام وتعقيده، بأن يركب بعضه بعضا، ويتداخل حتى يثقل نطقه وسماعه.
[24] طلق: سبّاق، المزند: البخيل.
[25] يعني: يمينا، أو نفارا إلى حاكم يقطع البينات، وهو بيان وبرهان يجلو به الحق وتتضح الدعوى.
[26] خزانة الأدب: 2/182.
[27] في النقد الأدبي عند العرب: 84، للدكتور محمد طاهر درويش، ط دار المعارف - مصر.
[28] تعشو: تقصد في الظلام.
[29] الأغاني" 2/200، ط (دار الكتب المصرية) .
[30] هو: قيس بن عمرو بن مالك، من بني الحرث بن كعب، كان شاعرا هجاء، كما كان فاسقا رقيق الإسلام.
[31] هو تميم بن أبي مقبل، من بني العجلان، كان جاهليا إسلاميا، أدرك الإسلام فأسلم، وبلغ مئة وعشرين سنة.
[32] اللكاك: الزحام.
[33] القعب: القدح الضخم الغليظ الجافي.
[34] الشعر والشعراء: 1/337، 338.
[35] الشعر والشعراء: 1/338.
[36] تاريخ النقد العربي عند العرب: 31.(27/292)
رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار
انتهاء سريان الرخصة:
تنتهي رخصة الفطر بانقطاع صفة السفر عن المسافر , وذلك بدخوله إلى المكان الذي يجمع الإقامة به مدة تقطع حكم السفر كما بيناها سابقا , إذ كان دخوله إلى هذا المكان قبل طلوع الفجر , فإذا تحقق هذان الشرطان - وهما: نية الإقامة والدخول قبل الفجر - وجب عليه انشاء نية الصوم لليوم الذي يشهد طلوع فجره مقيما وهذا باتفاق اهل العلم , لأنه شهد بعضاً من الشهر صحيحاً مقيماً وقد قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
فإن علم أنه سيدخل إلى محل الإقامة بعد الفجر فلا يجب عليه أن يبيت نية الصوم بل له أن يدخل إلى دار الإقامة بنية الفطر. وهذا أيضاً باتفاق أهل العلم..
لكن الخلاف بين العلماء فيمن وصل بالفعل إلى دار الإقامة قبل الزوال وكان على نية الفطر , فالمالكية والشافعية , يجيزون له الاستمرار على الفطر بدون كراهة عند المالكية وعلى الأصح عند الشافعية.
ووجه هذا القول: أنه كان وقت إنشاء النية - وهو طلوع الفجر - مسافراً , وقد عمل بالرخصة التي تبيح له الفطر , وما دام قد انتهى وقت إنشاء النية , فمن حقه أن يستمر على فطره , وله أن يفعل كل ما يفعله المفطر من أكل وجماع وغير ذلك , إلا أن الشافعية استحبوا له ألا يظهر الفطر عند من يجهل عذره حتى لا يهتم ويعاقب …
ورواية مرجوحة عند أحمد؟ يمنع مثل هذا الشخص من الجماع أثناء فطره هذا..
أما الحنيفية؟ فقد أوجبوا على من وصل إلى دار إقامته قبل الزوال: أن يمسك بقية يومه؟
ووجهتهم على هذا القول؟ أن هذا الشخص قد انقطعت عنه الرخصة بوصوله إلى دار إقامته في وقت يصح فيه إنشاء نية الصوم وهو ما قبل الزوال , لذلك وجب عليه إنشاء نية الصوم [1] .
مبنى كل من الرأيين:(27/293)
اعتبار علماء الحنفية أن وقت إنشاء نية الصوم لا ينتهي بطلوع الفجر بل يستمر إلى ما قبل الزوال؟ إنما يرجع لحديث عائشة رضي الله عنها " دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلت: لا. قال: فإني صائم , ثم أتانا يوماً آخر , فقلت يا رسول الله أهدى لنا حيس , فقال: " أرينه فلقد أصبحت صائما " فأكل " [2] .
لكن الفرق شايع بين إنشاء النية في صوم واجب كرمضان وبين إنشائها في صوم التطوع , فإن النية في صيام رمضان يجب أن تكون من طلوع الفجر وتستمر إلى غروب الشمس قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقر: الآية 187) . فأوجب تعالى الإمساك للصوم من طلوع الفجر.
وبما أن صيام رمضان واجب فإن الإمساك من طلوع الفجر فيه واجب..
وهذا بخلاف صوم التطوع؟ فإنه مبني على المسامحة , فقد سئل مجاهد عن المعنى المراد من حديث عائشة رضي الله عنها فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها رواه مسلم في صحيحه , وقد جاء هذا القول مرفوعاً متصلا بحديث عائشة المتقدم عند النسائي عن طريق مجاهد أيضاً [3] ..
أما القول بأن النية في صيام رمضان لا بد أن تكون من طلوع الفجر فهو يتمشى مع صريح القران الكريم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} - ومع ما جاء في الحديث الشريف من رواية حفصة رضي الله عنها " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " [4] قال صاحب التحفة: وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين , وقال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري , وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات , وصحح البخاري والنسائي وقفه على ابن عمر. [5](27/294)
لكن ما قاله صاحب التحفة عن موقف النسائي من هذا الحديث؟ يحتاج إل وقفة: فقد أورد النسائي أربع روايات متصلة مرفوعة عن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم , ثم أورد له ست روايات عن ابن عمر عن حفصة , ثم رواية عن حفصة وعائشة برواية ابن شهاب عنهما ثم أورد له روايتين عن ابن عمر [6] فلا أدري لماذا اختار أن يعبر عن موقف النسائي من الحديث: بأنه اختار صحة الوقف على ابن عمر مع كل هذه الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن حفصة؟
وقال الترمذي تعليقاً على الحديث السابق , وإنما معنى هذا عند بعض أهل العلم لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر في رمضان , أو في صيام نذر , إذا لم ينوه من الليل لم يجزه [7] .
لذلك كله أقول: إن المختار: هو رأي هذا الفريق الذي يرى ضرورة إجماع النية على الصيام من طلوع الفجر , فإذا ما وصل المسافر بعد طلوع الفجر إلى دار الإقامة فلا يجب عليه الإمساك بقية يومه , بل له ان يستمر مفطرا حنى انتهاء هذا اليوم الذي وصل فيه , كما أن له إن يفطر على ما شاء مما أحله الله له والله أعلم.
بيان الآثار المترتبة على الأخذ بهذه الرخصة:
اتفق أهـ ل العلم على أن المسافر إذا اجتمعت لديه شروط الأخذ بالرخصة - حسب ما بيناه سابقا - وأفطر تبعا , فإنه يجب عليه قضاء الأيام التي أفطر فيها , إلا أنهم اختلفوا في عدد من المسائل المتعلقة بذلك …
وفيما يلي بيان بأهم المسائل المختلف فيها وآرائهم حولها ومستند كل رأي , بيان مدى قربه أو بعده من السنة المطهرة. ونعقد لذلك عدداً من المطالب نبدؤها بالمطلب الأول فنقول:
هل يجب التتابع في قضاء الأيام الني أفطرها في سفره:
اختلف أهل العلم في وجوب التتابع في قضاء الأيام التي أفطرها المسلم أثناء سفره عملا بالرخصة. على فريقين:(27/295)
الفريق الأول: يرى وجوب التتابع في القضاء. وقد حكى هذا الرأي , عن ابن عمر وعائشة والحسن البصري وعروة ابن الزبير والنخ عي وداود الظاهري..
وقد نقل عن داود قوله: هو - أي التتابع - واجب غير شرط , بمعنى أن تاركه يأثم لكن مع ذلك يعتد بما صامه شرعا [8] ..
وأهم الأدلة التي استدل بها لهذا الفريق ما يلي:
1- عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه " [9] .
وقد نوقش هذا الاستدلال , بما نقله البيهقي عن يحيى بن معين والنسائي والدارقطني من تضعيفهم لعبد الرحمن بن إبراهيم أحد رجال هذا الحديث [10] ..
وقد رد على هذه المناقشة بما نقل عن بعض أصحاب الحديث من توثيقهم لعبد الرحمن هذا , فقد وثقه البخاري في تاريخه كما وثقه ابن معين. ونقل عن أحمد بن حنبل , أنه قال: لا بأس به , وقال أب وزرعة: لا بأس به أحاديث مستقيمة , وع ن الدارقطني , أنه وثقه في هذا الحديث وقال ابن عدي: لم يتبين في حديثه ورواياته حديث منكر فأذكره به , وقال ابن القطان: هو مختلف فيه والحديث من روايته حسن [11] . وأخيراً قال فيه الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ متقن [12] .
2- عن عائشة رضي الله عنها , قالت: نزلت {فعدة من أيام أخر متتابعات} فسقطت متتابعات [13] ..
فهذا اللفظ (متتابعات) الذي نزل متعلقا بأيام أخر يوضح الحالة التي ينبغي أن يكون عليها قضاء هذه الأيام الأخر وهي: أن يكون القضاء متتابعا..
ولكن يناقش هذا الاستدلال بأن السند الذي روى به هذا القول عن عائشة رضي الله عنها , وهو عبد الرزاق , عن ابن جريح , عن ابن شهاب , وعن عروة , روى به أيضا تأويل قولها " سقطت ": بأنها تريد: نسخت. لا يصح له تأويل وغير ذلك. [14](27/296)
ويرد على هذه المناقشة , بأن النسخ قد يكون نسخا للتلاوة مع بقاء الحكم , وقد يكون النسخ للتلاوة والحكم معا , وليس في هذه الرواية ما يدل على إرادة أحد هذين الأمرين.
3- ما روى من قول علي رضي الله عنه: من أن " قضاء رمضان متتابعا " [15] .
ويناقش هذا , بأنه من رواية الحارث الأعور , وهو ضعيف بل وروى عن طريقه أيضاً عن علي رضي الله عنه " أنه كان لا يرى به متفرقا بأسا " [16] .
4- مشابهة القضاء للأداء: أي بما أن الأداء لا يصح الا متتابعا , فالقضاء كذلك , إذ لا فرق بين الأداء والقضاء , كما هو في قضاء الصلاة..
ويناقش هذا الاستدلال , بالفرق بين الأمر الصادر من المشروع بالأداء وبين الأمر الصادر بالقضاء , حيث جاء الأمر بالأداء مقرونا ببيان تحديد الوقت الذي يجب فيه الصيام تحديدا واضحا. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
أما الأمر الصادر بالقضاء فقد جاء بصيغة النكرة الواقعة في سياق الإثبات قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . وهذه الأيام الأخر مطلقة.فيجوز القضاء في أي وقت مفرقا أو متتابعا..
كما أنه يفارق الصلاة؟ لأن الصلاة ملاحظ فيها دائما , في الأداء والقضاء قوله صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي ".
كما أن الصلاة إذا تركها المرء عددا قليلا من الأوقات كخمس أوقات فأقل فكثير من الفقهاء يوجب الترتيب بينها , أما أكثر من ذلك فلا , وهذا موضع مختلف فيه بين الفقهاء.
الفريق الثاني:(27/297)
نقل عدم وجود التتابع عن عدد كبير من الصحابة والتابعين والفقهاء , منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأنس وأبة هريرة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. [17]
أهم الأدلة التي استدل بها لهذا الفريق ما يلي:
1- قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وقد أوضحنا وجه الدلالة من هذه الآية قريبا ويتخلص في: أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بقضاء أيام الفطر بسبب المرض والسفر في أيام أخر بعد انتهاء رمضان دون قيد..
ويرد على هذا الاستدلال , بما جاء من قول عائشة - رضي الله عنها - السابق من أن هذه الاية كانت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقط لفظ متتابعات..
ويجاب , بأن السقوط , قد فسر بالنسخ , والنسخ محتمل لنسخ الحكم والتلاوة معا ولنسخ التلاوة دون الحكم , ومعلوم أن الدليل إذا تطرق غليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وعل ذلك فبقيت الآية محكمة , وقد فهمها الصحابة على هذا النحو:
أ – فقد سئل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عن قضاء رمضان , فقال: إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه فأحصى العدة واصنع ما شئت [18] ..
ب - وسئل معاذ بن جبل رضي الله عنه عن قضاء رمضان , فقال: أحصي العدة وصم كيف شئت. وقد نقل مثل هذا القول وبهذا اللفظ عن ابن محيريز [19] ..
ج - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: يقضيه متفرقا , فإن الله قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [20] .
د - وعن أنس بن مالك , أنه كان لا يرى به بأسا ويقول: إنما قال الله {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [21] ونقل مثل هذا القول عن ابن عباس [22] ..(27/298)
قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} ..
حيث جاء أسلوب المطالبة بالأداء مغاير لأسلوب المطالبة بالقضاء , فالداء قد حدد فيه زمن الصوم تحديدا كاملا , أما في جانب القضاء , فاكتفى في المر به بذكر المماثلة في العدد بين الأيام الي أفطر فيها والأيام التي سيقضيها بدلا عنها , دون أن يحدد وقت معين لقضاء هذه الأيام..
قد يقال: أن أمر القضاء وان جاء مطلقا في الآية وفإن حديث أبي هريرة قد قيد هذا الاطلاق..
فيجاب بأن ما قيل في سند هذا الحديث حتى مع ترجيح جانب الصحة فيه يجعله غير صالح لتقييد مطلق الكتاب..
المختار: هو قول من يرى عدم وجوب التتابع , لأن الأمر في الرخص مبني على التخفيف والمسامحة , ةلأن فهم الصحابة للآية والذي اتضح من استدلالهم بها على عمومها , أقوى من الاحتمالات الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها الا أن الأفضل هو التتابع - كما يقول الجمهور - للجمع بين الأدلة من جهة , وللمسارعة في اسقاط الواجب وإبراء الذمة من جهة أخرى.
والله أعلم.
هل يجوز للمسافر الصوم في قضاء لرمضان سابق عليه؟
يرى ابن حزم للمسافر في شهر رمضان جواز الصيام أثناء سفره قضاء لأيام كانت عليه من رمضان السابق [23] ..
وجهة ابن حزم في الجواز:
يقول ابن حزم: إ ن الله سبحانه وتعالى: منع المسلم المسافر من صيام رمضان أثناء سفره , ولكن لم يمنعه من أي صيام آخر غير هذا الشهر , سواء كان هذا الصيام - الآخر - نذرا أو تطوعا أو قضاء لرمضان سابق عليه وهذا فلا مانع من صيا رمضان السابق , للمسافر خلال رمضان الذي يسافر فيه ولقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذه الأيام الأخر لم يحدد لها وقت فيجوز آداؤها في كل وقت [24] ..
من يرى عدم الجواز:(27/299)
يرى أكثر الفقهاء عدم جواز قضاء رمضان السابق للمسافر خلال سفره في رمضان التالي له. وقد حكى ابن المنذر هذا الرأي عن سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق وأبي ثور , كما أنه رأى مالك والشافعي وجمهور الفقهاء [25] ..
ولم يذكر مستند لأصحاب هذا الرأي لكني وجدت أثرا منقولا عن عطاء , في رجل أفطر رمضان ثم أقام ولم يقضه حتى ألقاه رمضان المقبل مسافرا , أيفطر إن شاء , قال نعم , ثم يطعم ثلاثين مسكينا ثلاثين مدا [26] ..
لكن من الواضح: أن عطاء هنا , أجاز الفطر ولكنه لم عن صيامه قضاء عن رمضان السابق , كما يقول المجيز فليس فيه ما يفيد المنع..
إلا أننا حينما نلاحظ الحكمة من رخصة الفطر للمسافر , وهي تخفيف المعاناة التي يجدها المسافر خلال سفره , ثم نلاحظ أن الأخذ بهذه الرخصة ليس محتما - كما أوضحنا ذلك سابقا - كانت النتيجة: أن من كانت لديه قدرة على تحمل مشقة السفر , أو كانت ظروف سفره تساعد على تخفيف هذه المشقة إلى قدر المحتمل عادة، كان الأولى به , هو صيام الفرض الحاضر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فقد ثبت مما تقدم أنهم كانوا يصومون خلال شهر رمضان وأن هذا الصيام كان عن رمضان الحاضر الذي يكونون فيه , وأما الادعاء بأنهم كانوا يصومون تطوعا أو نذرا أو قضاء لرمضان سابق عليهم فهي دعوى جاءت على خلاف الأصل وعلى مدعيها إقامة الدليل على إثباتها..
ومجمل القول في هذه المسالة , أن القول بجواز قضاء رمضان السابق للمسافر خلال شهر رمضان التالي له في أثناء سفره فيه , هذا القول قد يتفق مع مذهب ابن حزم الذي يمنع المسافر من الصيام خلال سفره في شهر رمضان..(27/300)
أما عند الجمهور الذين يجيزون الفطر والصوم للمسافر خلال شهر رمضان بل ويعتبرون الصيام أفضل لمن قوى عليه - لحديث أبي سعيد المتقدم وغيره مما أسلفنا - فهذا العمل فيه مخالفة عندهم لما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث لم يثبت ذلك عن أحد منهم بالرغم من كثرة أسفارهم. كما أن ابن حزم مع كثرة استيعابه وجمعه للسنن والآثار لم يستطع ايراد سنة واحدة أو أثر واحد يدلل به على ما ذهب إليه , كل ما في المر أنه بنى على رأيه في هذه المسألة على الأصل الذي تثبت به من قبل وهو حرمة الصيام على المسافر
خلال شهر رمضان. ولما وجد كثرة النصوص التي تثبت صيام النبي صلى الله عليه وسلم وصيام أصحابه , قام بثنى عنان كل هذه النصوص ,على أن الصيام الثابت فيها لم يكن عن رمضان الحاضر , بل كان عن غيره , من نذر أو تطوع أو قضائه لرمضان السابق وهكذا. غفر الله لنا وله..
هل يجب ال إ طعام على من فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر؟
أكثر أهل العلم على أن المسافر الذي أخذ بالرخصة فأفطر في سفره خلال شهر رمضان - كله أو بعضه - ثم استمر في سفره - أو شغل عنه بمرض ونحوه من الأعذار القاهرة - حتى أدركه رمضان الثاني , ف إ نه لا يجب عليه ال إ طعام وإنما يلزمه بعد انتهاء سفره أو الشفاء من مرضه أن يقضي رمضان السابق ثم التالي له بالترتيب.
وقد نقل هذا الرأي عن طاوس والحسن البصري والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي ومالك وإسحاق وأحمد وأبي حنيفة والمزني ودواد …
وقد اختار هذا الرأي البيهقي واستدل له بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [27] ..
وقد حكى عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وقتادة , أن مثل هذا الشخص: يصوم رمضان الحاضر عن الحاضر ويفي عن الغائب ب إ طعام كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه [28] .(27/301)
ولم أجد مستندا لهذا القول. وعموم قوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يرد عليه: إ ذ عموم الآية يوجب القضاء في أيام أخر ولم يعين وقتاً لهذه الأيام الأخر فهي تشمل العمر كله …
أما من أقام بعد انتهاء سفره ولم يقض الأيام التي أفطرها خلال سفره حتى أدركه رمضان الآخر , فجمهور الفقهاء على أنه يجب عليه حينما يقضي هذه الأيام - من رمضان السابق - أن يطعم مع كل يوم مسكينا وقد قال بذلك: ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحاق إ لا أن الثوري: قال بوجوب مدين عن كل يوم. وقد نقلت بذلك نصوص كثيرة من الصحابة والتابعين في المصنف والسنن الكبرى [29] ..
والحكمة من قول وجوب الإطعام؟ أن مثل هذا الشخص يعتبر مفرطا في القضاء في الأيام التي يجب عليه القضاء فيها والتي تنتهي بنهاية شهر شعبان التالي له أو هي ما بين الرمضانين , لذلك استحق أن يجازي بإطعام كل يوم مسكينا مع القضاء بالصيام …
ويرى الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود: أن عليه القضاء بالصيام فقط ولا فدية عليه [30] .. وقد نقل عن داود قوله في هذا الصدد: من أوجب الفدية على كل من أخر ليس معه حجة من كتاب ولا سنة ولا إجماع [31] .
وهو كما قال: إلا أنه يقال أيضاً: أن من نفى وجوب الفدية عليه ليس له مستند من كتاب أو سنة أو إجماع؟.
أما العموم المستفاد من قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فهو يفيد جواز القضاء في أي أيام أخر قبل رمضان التالي أو بعده ليس إلا. أما الطعام فهو أمر زائد على القضاء فلا تثنيه الآية ولا تنفيه..(27/302)
وإذا تساوى القولان من هذه الناحية؟ ف إ نه ينظر إلى الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم, إذ هم قريبو العهد بالتنزيل وأدرى بمواقع النصوص. فقد روى البيهقي بسنده إل ى ابن عباس رضي الله عنهما في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر؟ قال يصوم هذا ويطعم عن ذاك كل يوم مسكينا ويقضيه..
كما روى أيضا بسنده إلى أبي هريرة: أنه قال: في رجل تتابع عليه رمضانان ففرط فيما بينهما , يصوم الذي حضر ويقضي الآخر ويطعم لكل يوم مسكينا [32] …
والواقع أن الموقف الذي اتخذه جمهور الفقهاء هنا بالتفرقة بين شخصين: أحدهما شغل عن القضاء بالسفر أو المرض حتى أدركه رمضان الآخر فجعلوه معذورا يكتفي منه بالقضاء فقط. والآخر الذي كانت لديه فسحة من الوقت ولم ينتهزها وفرط في القضاء ولم يهتم بالإسراع لأداء الواجب الذي شغلت به ذمته حتى وافاه رمضان الآخر , فأوجبه عليه الإطعام مع القضاء لرمضان الأول. هذا الموقف يتفق مع النصوص الشرعية ولا يتعارض معها , وهو وإن لم يكن فيه نص صريح في الموضوع لكن نصوص الشريعة متوافرة في التفرقة بين المحسن والمسىء وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن منع زكاة ماله: " إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل … " الحديث [33] .
الحكم فيمن شغل عن القضاء حتى مات
من سافر وأخذ بالرخصة فأفطر ولم يقض ما عليه حنى مات: له حالتان:
الحالة الأول: من اتصل عذره بالموت:
المسافر الذي أخذ بالرخصة فأفطر واستمر في سفره حتى مات أو عاد من سفره ولكن لم تتح له الفرصة للقضاء فاستمر مشغولا بالمرض أو غيره حتى مات , فيرى أهل العلم بما يشبه الاجماع , أنه لا شئ عليه ولا يصام عنه ولا يطعم , لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا َّ وُسْعَهَا} (البقرة: الآية 286) .(27/303)
كما أنه شبيه بالحج , فمن لم يستطع أداء الحج من وقت بلوغه حتى مات فلا ش يء عليه س [34] .وقد نقل عن طاوس وقتادة , أنه يطعم عن كل يوم مسكين لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم.
ولكن رد عليهما , بأن الشيخ الهرم عامر الذمة بخلاف الميت الذي تنتهى ذمته بالموت عند أكثر الفقهاء , كما أن الشيخ الهرم من أهل العبادات بخلاف الميت الذي تنقطع أهليته بالموت [35] .
الحالة الثانية: من فرط بترك القضاء حتى مات:
إذا عاد المسافر من سفره صحيحا واستمر كذلك ولم يحدث له مانع يمنعه من القضاء حتى أدركه الموت , فقد قال عدد كبير من الصحابة والتابعين والفقهاء , أنه يطعم عنه عن كل يوم مُدٌّ من طعام من غالب قوت البلد. وممن قال بذلك , ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبو عبيد وابن علية والخزرجى ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري والليث والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه.
إلا أن الحنفية يشترطون أن يوصى بالإطعام عنه قبل موته ولم يشترط باقي الأئمة ذلك , لأن الإطعام عنه يعتبر عبادة والعبادة لا بد فيها من النية , ولذلك يخرج الإطعام عنه من ثلث ماله [36] .
أما بقية الفقهاء فيعتبرونه من اتلحقوق المالية المتعلقة بديون العباد فلذا جازت فيها النيابة.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عباس والثوري , أنه يطعم عنه عن كل يوم مُدان [37] .
وقد احتج لهذا الفريق الذي يرى الإطعام على من فرط حتى مات بما يلي:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يموت وعليه رمضان ولم يقض: قال: " يطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر " [38] .
قال البيهقي - بعد سرده لهذا الحديث - هذا خطأ من وجهين:
أحدهما: رفعه الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول ابن عمر.
والآخر: قوله نصف صاع وإنما قال ابن عمر: مدا من حطة [39] .(27/304)
وقد نقل النووي كلام البيهقي هذا واحتج به [40] .
لكن صاحب الجوهر النقي تعقب كلام في تضعيف هذا الحديث وقال: إ ن البيهقي فهم: أن محمدا , الذي روى عنه أشعث هو ابن أبي ليلى. وكذا صرح به الترمذي. وقد أخرج ابن ماجه هذا الحديث في سننه بسند صحيح عن أشعث عن محمد بن سيرين عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. ثم قال: فإن صح هذا فقد تابع ابن سيرين ابن أبي ليلى , فلقائل: أن يمنع الدعوى بوقف هذا الحديث على ابن عمر رضي الله عنهما [41] .
ورواية ابن ماجة التي أشار إليها صاحب الجوهر النقي , جاءت بلفظ: " من مات وعليه شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين " [42] .
وقد نقل السندي تعليقا للمزي في الأطراف جاء فيه: قوله - يشير إلى ابن ماجه - عن محمد بن سيرين: وهم , فإن الترمذي: رواه ولم ينسبه ثم قال الترمذي. وهو عندي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى [43] .
ولا أدري هل المزي هو الواهم في نسبته ابن ماجه إلى الوهم , حيث اعتمد على تصريح الترمذي , بأن روايته للحديث عن طريق محمد بن عبد الرحمن ن فاعتبر أن كل طرقه تدور عليه وأن من روى خلاف ذلك , يعتبر واهما.
وقد يكون الأمر على خلاف ذلك , بأن يكون ابن ماجه رواه عن طريق محمد بن سيرين , فيكون متابعا , وقد قال ابن ماجه قد وهم في نسبته إلى محمد بن سيرين. والله أعلم بالصواب.
2- عن عبادة بن نسى رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مرض في رمضان فلم يزل مريضا حتى مات لم يطعم عنه وان صح فلم يقضه حتى مات أطعم عنه " [44] .
هذا الحديث في سنده ابن أرطأة وهو مدلس , فلا يصلح للاحتجاج به.
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح قال في الرجل المريض في رمضان فلا يزال مريضا حتى يموت , قال: ليس عليه شىء فإن صح فلم يصم حتى مات أطعم عنه كل يوم نصف صاع من حنطة [45] .(27/305)
4- روى ال إ طعام بسند صحيح عن عمر بن الخطاب والزهري والحسن والنخعي وعطاء [46] .
أن الشخص المفرط في القضاء حتى مات مثله مثل الشيخ الفاني الذي عجز عن الصيام في آخر عمره فإنه يجب في حقه ال إ طعام ويسقط عنه الصوم وإنما جازت المماثلة هنا لأن قضاء الصيام عن التراخي باتفاق أكثر الفقهاء ما عدا داود. الا أن بعضهم يوجب الفدية في حالة التفريط وبعضهم لا يوجبها [47] .
مقدار الفدية:
الفدية عند أبي حنيفة والثوري - ونقل أيضا عن ابن عباس -: مدان من البر أو أربعة من الشعير أو التمر [48] .
أما الفدية عند أكثر الفقهاء , فهي مد من الطعام من غالب قوت أهل البلد , وسواء كان التأخير لعام أو لعامين , وهناك وجه عند الشافعية , أنه يجب دفع مُدَّيْنِ عن كل يوم, اذا كان قد مضى عليه رمضانان , وصححه المتاخرون منهم [49] .
أما الفرق الثاني: فيرى: أن من فرط في قضاء الصيام , فإنه يصام عنه سواء قام بذلك وليه عنه أو استأجر من يصوم عنه أو قام أجنبي بالصيام عنه من تلقاء نفسه.
وقد قال بذلك: طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور وداود , وهو قول الشافعي في مذهبه القديم , وهو أصح القولين عنه عند محققي الشافعية [50] .
وقد استدل لهذا الفريق بما يلي:
1- حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه صيام , صام عنه وليه " [51] .
وقد ضعف بعض العلماء هذا الحديث بما روى عن عمارة بن عمير ع ن امرأة عن عائشة في امرأة ماتت وعليها الصوم , قالت: يطعم عنها وروى عنها من وجه آخر عن عائشة أنها قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم [52] .
وقد أجاب البيهقي , بأن ما ذكر لا يوجب ضعفا في الحديث , فمن يجوز الصيام عن الميت يجوز الإطعام عنه , وفيما روى عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر [53] .(27/306)
وقد عقب صاحب الجوهر على دعوى البيهقي في قوله: وفيما روى عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر , فقال قد صح ذلك عنها , ثم ذكر ما جاء عند أبي جعفر الطحاوي بسنده إلى عمرة بنت عبد الرحمن قالت: قلت لعائشة أن أمي توفيت وعليها صيام رمضان أيصلح أن أقضي عنها , فقالت: لا ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك , ثم قال: هذا سند صحيح [54] .
وقد قال بعض أهل العلم إذا أفتى الصحابي بغير ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالعبرة بروايته لا بفتواه. وعلى ذلك فإرشاد عائشة رضي الله عنها إلى الإطعام بدلا عن الصيام أو نهيها عن الصيام وأمرها بالإطعام لا يؤثر على صحة الحديث. وعلى قوة الاحتجاج به.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها , فقال: " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها. قال: نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى " [55] .
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: " أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فقال: " أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضيه؟ " قالت: نعم. قال: " فدين الله أحق بالقضاء " [56] .
وقد ضعف بعض العلماء هذا الحديث , بما رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه [57] .
وبما رواه البيهقي بسنده إلى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ابن عباس في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان وصيام شهر نذر. وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس ورواية أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في صيام شهر رمضان أطعم عنه وفي النذر قضى عنه وليه.
ثم قال البيهقي: وفي نسبة ذلك إلى ابن عباس نظر [58] .(27/307)
وقد أجاب صاحب الجوهر , على تشكك البيهقي حول نسبة الإطعام إلى ابن عباس بدلا من الصيام , بما رواه النسائي في سننه.. عن عطاء عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد , ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة. ثم قال: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين خلا ابن عبد الأعلى فإنه على شرط مسلم [59] .
ومن جهة أخرى , فإن الشافعي , قد اعتذر عن العمل بحديث ابن عباس الوارد في القضاء بالصيام عن الميت , وقال: إ نه أشبه ألا يكون محفوظا. وذلك لأن الزهري قد حدث عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: نذرا ولم يسمه [60] . مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس.فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس يغير ما في حديث عبيد الله , أشبه ألا يكون محفوظا , فإن قيل أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس وقيل نعم [61] ..
فقد أجيب عن ذلك بأن الظاهر تعدد القصة , أي أن القصة التي سئل فيها صلى الله عليه وسلم عن الصوم تصريحا , غير قصة سعد بن عبادة التي سأل فيها عن المنذر مطلقا.ويتأيد ذلك بحديث عائشة في الصحيحين والذي أوردنا في صدر أدلة هذا الفريق.
3- عن بريدة قال: بينا أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة , فقالت: يا رسول الله: إني تصدقت على أبي بجارية , وأنها ماتت. فقال: وجب أجرك وردها عليك بالميراث. قالت: يا رسول الله , انه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: " صومي عنها ". قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: " حجي عنها " [62] .
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة ركبت البحر فنذرت إ ن نجاها الله أن تصوم شهرا فنجاها الله سبحانه وتعالى , فل تصم حتى ماتت , فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها " ورجاله رجال الصحيح [63] .(27/308)
أما الفريق الثالث: فيرى أن من مات وعليه صيام وقد فرط فيه , فإنه يصام عنه النذر ويطعم عن صيام رمضان.
وقد قال بهذا الرأي: أحمد وإسحاق ونقل عن ابن عباس [64] .
ومن أهم الأدلة استند إليها هذا الفريق:
1- ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعيه صيام صام عنه وليه " وقد أشرنا من قبل إلى أنه مروى في الصحيحين. إلا أن موضع الشاهد هنا: أن أبا داود بعد أن ذكر هذا الحديث في سننه عقبه بقوله: هذا في النذر وهو قول أحمد بن حنبل [65] .
وهذا القول منه , تخصيص لعموم الحديث حتى يتفق مدلوله مع الأدلة الأخرى التي نص فيها على أن الميت إ ن كان عليه صيام نذر صام عنه وليه والأصل في النصوص الشرعية العامة أنها تبق ى على عمومها حنى تقوم قرينة تفيد التخصيص.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله , إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها , فقال: " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال: نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى " وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه الرواية متفق عليها بين الشيخين بنفس اللفظ.
أما رواية ابن عباس الثانية " أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إ ن أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال: " أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم. قال: " فدين الله أحق بالقضاء ".(27/309)
وهذه الرواية جاءت في صحيح مسلم بهذا اللفظ إلا أنها عند البخاري - تعليقا - إ ن أمي ماتت وعليها صوم نذر " [66] وفي السنن الكبرى للبيهقي: عن ابن عباس: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: أن أمي ماتت وعليها نذر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقضه عنها " [67] . والشاهد هنا , أن رواية البخاري , جاءت مبينة لنوع الصوم الذي كان يسأل عنه: وقد أمر بقضائه , وهو صوم النذر أي أن هذه الرواية بينت الإجمال الموجود في الرواية الأولى عند كل من البخاري ومسلم وأيضا الرواية عند مسلم.
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصح " ولم يصم " أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء , وإ ن نذر (وإ ن نذر نذرا) (وإ ن كان عليه نذر) قضى عنه وليه [68] وقد أشرنا من قبل إلى هذا القول المنسوب إلى ابن عباس وإلى أن هذا النقل صحيح عنه , وأوضح أنه موقوف عليه.(27/310)
المختار:هو رأي الفريق الثالث: الذي يرى , أن من مات وعليه صيام من رمضان فإنه يطعم عنه. أما ان كان عليه صيام نذر فإنه يقضيه عنه وليه , وذلك لأنه رواية البخاري التي نص فيها على النذر وكذلك الرواية التي أخرجها البيهقي في قصة سعد بن عبادة وهي صريحة في السؤال عن صيام النذر , ثم ما روى ابن عباس وعائشة في هذا السبيل كل ذلك يعتبر مبينا للإجمال الموجود في حديث بريدة , كما أنه بهذا الرأي يمكن الجمع بين كل الدلة الواردة في الموضوع , والجمع بين الدلة والعمل بها كلها أولى من العمل ببعضها وإهدار بعضها الآخر. كما أنه بهذا القول , يمكن تفادي ما يترتب على القول الثاني: من دخول النيابة في صيام شهر رمضان وهو عبادة بدنية محضة واجبة من الشارع بخلاف النذر فقد أوجبه العبد على نفسه فصار بمنزلة الدين الذي استدانه والدين تدخله النيابة. ولهذا قال ابن القيم عن هذا الأي: وهذا أعدل القوال وعليه يدل كلام الصحابة وبهذا يزول الإشكال [69] . والله أعلم.
النتائج
1- لكل مسافر حق الأخذ برخصة الفطر في السفر سواء شهد بداية الشهر مقيما أو حاضرا.
2- مقدار المسافة التي تتحقق بها رخصة الفطر هي أربعة برد وتقدر الآن بأربعة وثمانين كيلو مترا.
3- الفطر في السفر رخصة يجوز الأخذ بها ويجوز تركها والصيام عملا بالعزيمة.
4- الأفضل الفطر لمن يشق عليه الصيام أما من لم يشق عليه فالأفضل في حقه الصيام.
5- تتحقق رخصة الفطر في كل سفر إلا سفر المعصية ما لم يتب المسافر منها فإن تاب تحققت في حقه.
6- يبدأ العمل بالرخصة متى تحقق وصف السفر بالشخص مريد السفر , فمن حقه الفطر قبيل تحركه من دار إقامته إذا كان قد أخذ أهبته للسفر وان كان الأحوط أن يتم ذلك بعد مغادرة البيوت.(27/311)
7- من أجمع على إقامة عشرة أيام وجب عليه تبييت نية الصوم وإ ن كان الأحوط تبييت هذه النية لمن أجمع على إقامة أربعة أيام.
8- من أخذ بالعزيمة وصام في سفره , فله حق الفطر أخذ بالرخصة في أي وقت شاء.
9- تنتهي الرخصة إذا وصل المسافر إلى دار إقامته قبيل طلوع الفجر حيث يجب عليه إنشاء نية الصوم فإن وصل بعد طلوع الفجر فإنه يستمر على فطره إلى نهاية اليوم.
10- من أخذ بالرخصة وافطر فإنه يجب عليه القضاء فيما بين رمضان الذي سافر فيه إلى رمضان التالي سواء كان القضاء مفرقا أو متتابعا وان كان القضاء متتابعا أفضل.
11- من أخذ بالرخصة وأفطر في سفره فلا يحق له الصيام بنية القضاء عن أيام سابقة عليه من رمضان الفائت.
12- من شغل عن قضاء ما عليه من رمضان حتى وافاه رمضان التالي , فإنه يقضيه بعد انتهاء رمضان الحاضر ولا فدية عليه أما من لم يشغل عن القضاء وفرط فيه حتى وافاه رمضان التالي له فإنه يلزم بالفدية مع كل يوم يقضيه عن رمضان السابق.
13- من شغل عن القضاء حنى مات فإن اتصل عذره بالموت فلا شئ عليه ومن فرط في القضاء فإن كان عليه صيام نذر صام عنه وليه وان كان عن رمضان أطعم عنه عن كل يوم مد من طعام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فتح القدير ج2 ص 365 والمجموع ج ص 215 شرح الزرقاني على خليل ج ص 214.
[2] صحيح مسلم ج 3 ص 16.
[3] صحيح مسلم ج 3 ص 159 والنسائي ج 4 ص 193 طبعة احياء التراث ببيروت.
[4] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ج 3 ص 426.
[5] تحفة الأحوذي ج 3 ص 426.
[6] سنن النسائي ج 4 ص 196 , 197 , 189.
[7] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ج 3 ص 427.
[8] السنن الكبرى ج 4 ص 259. المجموع ج 6 ص 158.(27/312)
[9] السنن الكبرى ج 4 ص 259.
[10] السنن الكبرى ج 4 ص 259.
[11] الجوهر النقي ج 4 ص 259 على هامش السنن الكبرى.
[12] تقريب التهذيب ج 1 ص 471 دار المعرفة - بيروت.
[13] السنن الكبرى ج 4 ص 258.
[14] السنن الكبرى ج 4 ص 258.
[15] السنن الكبرى ج 4 ص 259.
[16] السنن الكبرى ج 4 ص 260.
[17] المغني ج 3 ص 158 والزرقاني علي خليل ج 2 ص 215 وفتح القدير ج 2ص 354. والمجموع ج 6 ص 326.
[18] السنن الكبرى ج 4 ص 258.
[19] السنن الكبرى ج 4 ص 258 ج 4 ص 244.
[20] السنن الكبرى ج 4 ص 258 والمصنف ج 4 ص 243.
[21] السنن الكبرى ج 4 ص 258 والمصنف ج 4 ص 243.
[22] صحيح البخاري ج 11 ص 53 مع عمدة القارىء.
[23] المجموع ج 6 ص 260 المحلى ج 6 ص 391.
[24] المحلى ج 6 ص 391.
[25] المجموع ج 6 ص 337 , شرح الرزقاني على مختصر خليل ج 2 ص 215.
[26] المصنف ج 4 ص 241.
[27] السنن الكبرى ج 4 ص 253. المجموع ج 6 ص 336 والمصنف ج 4 ص 234 ص 236. الزرقاني على مختصر خليل ج 2 ص 216.
[28] المجموع ج 6 ص 336. والمصنف ج 4 ص 235.
[29] المجموع ج 6 ص 336. الزرقاني عن خليل ج 2 ص 216. والمصنف ج 4 ص 234 , 236 , 237. والسنن الكبرى ج 4 ص 253.
[30] صحيح البخاري ج 11 ص 54 مع عمدة القارىء. المجموع ج 6 ص 336. فتح القدير ج 2 ص 354. السنن الكبرى ج 4 ص 253.
[31] الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج 4 ص 252.
[32] السنن الكبرى ج 4 ص 253.
[33] سنن أبي داود مطبوعة مع شرحها عون المعبود ج 4 ص 453 والسنن الكبرى ج 4 ص 104..
[34] المجموع ج 6 ص 341 , 343 , والزرقاني على مختصر خليل ج 2 ص 216.
[35] المجموع ج 6 ص 343.
[36] فتح القدير للكمال ج 2 ص 358.(27/313)
[37] المجموع ج 6 ص 343 , والزرقاني على مختصر خليل ج 2 ص 216 , والسنن الكبرى ج 4 ص 254.
[38] السنن الكبرى ج 4 ص 204. وسنن الترمذي , ولفظه عنده: من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا ج 3 ص 405 مع شرحه تحفة الأحوذي.
[39] السنن الكبرى ج 4 ص 254.
[40] المجموع ج 4 ص 254.
[41] الجوهر النقي على السنن الكبرى ج 4 ص 2654.
[42] سنن ابن ماجه ج 1 ص 534.
[43] حاشية السندي على ابن ماجة ج 1 ص 534. وسنن الترمذي ج 3 ص 407 مع شرحه تحفة الأحوذي.
[44] المصنف ج 4 ص 237.
[45] المصنف ج 4 ص 237.
[46] المصنف ج 4 ص 237 , 239
[47] فتح القدير ج 2 ص 354.
[48] فتح القدير ج 2 ص 357.
[49] المجموع ج 6 ص 342.
[50] المغني ج 3 ص 152. المجموع ج 6 ص 343. السنن الكبرى ج 4 ص 255. المصنف ج 4 ص 239.
[51] صحيح مسلم ج 3 ص 155. صحيح البخاري ج 11 ص 58 مع شرحه عمدة القارىء.
[52] السنن الكبرى ج 4 ص 257.
[53] السنن الكبرى ج 4 ص 257.
[54] الجوهر النقي ج 4 ص 257 على السنن الكبرى. ومشكل الآثار للطحاوي ج 3 ص 42 طبعة الهند
[55] صحيح مسلم ج 3 ص 156. صحيح البخاري مع شرحه عمدة القارىء ج 11 ص 61.
[56] صحيح مسلم ج 3 ص 155 وأشار إليه البخاري ج 11 ص 64 مع شرحه عمدة القرىء إلاأنه قد جاء في هده الرواية عند البخاري وفي السنن الكبر بلفظ " وعليها صوم نذر " السنن الكبرى ج 4 ص 256 والبخاري ج11 ص 64 مع شرحه عمدة القارىء.
[57] السنن الكبرى ج 4 ص 257.
[58] السنن الكبرى ج 4 ص 257.
[59] الجوهر النقي ج 4 ص 257 على السنن الكبرى ج 4 ص 257 , ومشكل الآثار للطحاوي ج 3 ص 141.(27/314)
[60] يشير بذلك إلى حديث ابن عباس " إ ن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إ ن أمي ماتت وعليها نذر. فقال: " اقضه عنها ". السنن الكبرى ج 4 ص 256.
[61] السنن الكبرى ج 4 ص 256. الام ج 2 ص 90 طبعة الشعب.
[62] صحيح مسلم ج 3 ص 156.
[63] السنن الكبرى ج 4 ص 256 , ومشكل الآثار للطحاوي ج 3 ص 140 طبعة الهند.
[64] المغني ج 3 ص 152. والمجموع ج 6 ص 343. والسنن الكبرى ج 4 ص 255.
[65] سنن أبي داود ج 7 ص 40 , 41 مع شرحه عون المعبود.
[66] صحيح البخاري ج 11 ص 64 مع شرحه عمدة القارىء.
[67] السنن الكبرى ج 4 ص 256.
[68] سنن أبي داود مع شرحها عون المعبود ج 7 ص 36.
[69] من تعليقه على سنن أبي داود ج 7 ص 37 مع شرحها عون المعبود.(27/315)
قل ولا تقل
للشيخ ضياء الدين الصابوني
الموجه التربوي للغة العربية بالجامعة الإسلامية
1- سَقَط
سِقْط المتاع
السقَط: بفتحتين رديء المتاع.
والسَّقط أيضا الخطأ في الكتابة والحساب.
قال الشاعر قطري بن الفجاءة:
وما في الموت خير في حياة
إذا ما عُدّ من سقط المتاع
والسقط - بالتحريك -: ما أسقط من الشيء، وما لا خير فيه، ج أسقاط. اهـ القاموس 2 ص580.
2- فُوَّهة:
فَوْهة
فُوّهة الوادي - فُوَّهة البركان.
وأفواه الأزقة والأنهار واحدتها: فوهة: بتشديد الواو.
يقال: اقعد على فوّهة الطريق.
3- في الوقت نفسه
في نفس الوقت
كلمة نفس من التوكيد المعنوي تأتي بعد المؤكد، فمن الخطأ الشائع أن تقول: جاء في نفس الوقت، وإنما تقول: في الوقت نفسه.
4- جاء الناس كافة
جاء الكافة، أو كافة الناس
كافة لا تستعمل إلا مجردة من أل والإضافة منصوبة على الحال.
قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} .
ولا يقال: جاء الكافة لأنه لا يدخلها أل، ولا تضاف. اهـ قاموس 2/197.
وجاء الناس كافة: منصوب على الحال. اهـ مصباح 536.
5- عَنان: بالفتح
عِنان السماء.
بلغ عنان السماء: أي ما ظهر منه إذا ما نظرت إليها.
والعنان كالسحاب: وزنا ومعنى، الواحدة (عنانة) بالهاء، وبالكسر: اللجام الذي تمسك به الدابة: جمع أعنة.
يقال: جاءنا نبأ من عِنانه: إذا قضى وطره.
"وهمت الفتنة أن تنطلق بغير عِنان في طريق لا تُعرف عقباه"عبقرية الصديق ص29.
6- الأكْفَاء.
الأكِفاء.
الأكفاء: جمع كف، وهو المثيل والنظير.
تقول: فلان من الأكفاء النابهين، ومثله الأكفياء.
والمصدر الكفاءة: بالفتح والمد.(27/316)
أما قولهم: الأكفّاء بالتشديد فجمع كفيف، وهو الفاقد البصر، وهذا خطأ شائع، تسمعه في الإذاعة والتلفاز (الرائي) كثيرا.
ومعهد النور يخرّج الأكفّاء الأكفياء.
7- شَعاعا: بالفتح
نفسه شُعاعا.
شَعاع - بالفتح -: تفرق الدم وغيره، يقال: دم شعاع.
طارت نفسه شَعاعاً ذهبت متفرقة في كل وجهة.
قال قطري بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شَعاعا
من الأبطال ويحك لن تُراعي
وذهبت نفسه أو قلبه شَعاعا: تفرقت هممها وآراؤها فلا تتجه لأمر جزم.
وذهبوا شَعاعا: متفرقين.
8- أفاض في الحديث.
أفاض الحديث
هذا الفعل لا يستعمل متعديا، وإنما يقال: أفاض الناس من عرفات، وأفاضوا في الحديث: اندفعوا فيه، وفي القرآن الكريم: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} ، وفاض الخير يفيض (واستفاض) أي شاع، وهو حديث (مستفيض) أي منتشر بين الناس، ولا تقل (مستفاض) .
9- المَصِيف
المَصْيَف.
المصيف: مكان الإقامة في الصيف، ج مصائف.
والمصطاف: المصيف، مكان الاصطياف، المكان الذي تصيف فيه.
قال الصمة القشيري:
بنفس تلك الأرض ما أطيب الربا
وما أحسن المصطاف والتربّعا!
وقال الأمير عبد الله الفيصل:
أين المصيف وأيام به سلفت
وأين يا طير أحبابي وخلاني؟
والطائف: مصيف مكة، و (أبها) مصيف جميل.
لله أيام بأبها حلوة
موّت بنا كنسائم الأسحار
10- طَوال
طيلة.
قل: طَوال الدهر: مدى الدهر وطوله، وفي القاموس: الطَّوال: كسحاب: مدى الدهر.
الطيلة - بالكسر - العمر، نقول: أطال طيلتك: أي عمرك.
قال الشاعر الأندلسي ابن خفاجة يصف جبلا:
وقور على ظهر الفلاة كأنه
طَوال الليالي مفْكِر في العواقب
11- سِداد: بالكسر
سَداد ثغر.
سِداد القارورة والثَّغر: موضع المخافة بالكسر ليس غير.(27/317)
كل موضع قريب من أرض الأرض يسمى (ثغرا) كأنه مأخوذ من الثُّغرة وهي الفرجة في الحائط (معجم البلدان) .
قال الشاعر العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسِداد ثغْر
والسَّداد: بالفتح: الصواب وزنا ومعنى.
وأما سِداد القارورة والثغر فبالكسر فقط، وسِداد من عوز وعيش: لما يسدّ به الخَلة. القاموس ج2 ص538.
قصة النضر مع المأمون:
حدّث النضر بن شُميل قال:
كنتُ أدخل على المأمون في سمره، فدخلت عليه في ليلة، فدار الحديث على ذكر النساء، فقال المأمون: حدّث هشام عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سَداد من عوز" (فأورده بفتح السين) ، قلت: صدق يا أمير المؤمنين هشا؛ حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن عليّ كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سِداد من عوز". وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال:
يا نضر كيف قلت: سِداد؟
فقلت: نعم؛ لأن السَّداد هنا لحن.
قال: أو تلحنني؟
قلت: إنما لحن هشام، وكان لحانا، فتبع أمير المؤمنين لفظه.
قال: فما الفرق بينهما؟
قلت: السداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل، وبالكسر: البُلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سِداد.
قال: أو تعرف العرب ذلك؟
قلت: نعم، هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسِداد ثغْر
قال المأمون: قبح الله من لا أدب له.
وأطرق مليا ثم قال: ما حالك يا نضر؟
قلت: أريضة لي بمرو وأتصابّها وأتمزرها (أشرب صبابتها) .
قال: أفلا أفيدك مالا معها؟
قلت: إني إلى ذلك لمحتاج.
قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال:
كيف تقول في الأمر من أن يترب الكتاب؟ قلت: أتربْه.
قال: فمن الطين؟ قلت: طنْه.(27/318)
قال: فما هو؟ قلت: مَطين [1] .
قال: هذه أحسن من الأولى.
ثم قال: يا غلام تبلّغ به إلى الفضل به سهل.
قال: فلما قرأ الفضل الكتاب، قال: يا نضر إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرته ولم أكذبه.
قال: لحّنتَ أمير المؤمنين، قلت: كلا! إنما لحن هشام.
ثم أمر لي الفضل من خاصة ماله بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين ألفاً بحرف استفيد مني.
فتأمل يا أخي عنايتهم باللغة وحرصهم عليها؛ لأنها لغة القرآن، وتصور أدب النضر الذي قال: إنما حلن هشام، ولم ينسب اللحن للخليفة، وهذا غاية في الذوق والأدب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] طان كتابه: ختمه بالطين، فهو (مطين) اسم مفعول.(27/319)
أصول المفاسد في الأرض
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قال تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33) .
وبعد.
فإن أصول المفاسد في الأرض الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة، وهي:
1-2- الفواحش الظاهرة، والباطنة.
3- الإثم.
4- البغي بغير الحق.
5- الشرك بالله.
6- القول على الله تعالى بدون علم.
إن الفساد في الأرض عامته ناشئ عن هذه المفاسد الستة التي تضمنتها هذه الآية المباركة الكريمة، ومن هنا كان على المصلحين أن يبتدئوا دعوتهم الإصلاحية بمحاربة هذه المفاسد الستة والقضاء عليها؛ فإن هم نجحوا في ذلك فقد نجحوا فيما عداه، والله المستعان.
شرح الآية:
بين يدي تفسير هذه الآية ينبغي أن يُعلم أمران: الأول أن التشريع بمعنى وضع قوانين يكمل بها الإنسان ويسعد عليها في بدنه وروحه وفي كلتا حياته الأولى والآخرة؛ هذا التشريع خاص بالله تبارك وتعالى وحق له دون غيره؛ لأنه رب الإنسان والعليم بما يضره وما ينفعه، ويدخل ضمن التشريع التحليل والتحريم؛ فليس من حق أحد غير الله تعالى أن يحرم على الإنسان أو يحلل له؛ إذ هذا من شأن الرب المربي، ومن مقتضيات التربية الشاملة للروح والجسد.(27/320)
ومن هنا أنكر الله تعالى على المشركين ما حللوا أو حرموا من الأنعام ركوبا وأكلا وانتفاعا، والزينة من اللباس وغيرها لبسا وتجملا، فقال تعالى منكرا عليهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ؟ وهو الأمر الثاني، وقد تضمن سبب نزول هذه الآية فساعد على فهم معناها والحمد لله.
إنه لما أنكر تعالى على أهل الجاهلية ما حرموه بدون علم، وهو نافع غير ضار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم ما حرمه تعالى على عباده لما فيه من الضرر والشر والفساد، فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ..} الخ لا ما حرمتموه أنتم بأهوائكم بدون علم.
وصيغة القصر الدال عليها حرف (إنما) لا تعني أن الله تعالى لم يحرم غير ما ذكر بعدها، وإنما تعني أن ما حرمه المشركون ليس حراما وإنما الحرام ما حرمه الله تعالى، كما أنه بالنظر إلى أن ما حرمه تعالى في هذه الآية يعتبر أصولا للمفاسد يدخل تحتها كل فساد وشر، كان كأنما المحرم كله محصور في هذه المحرمات الستة، فهذا وجه القصر في الآية.
شرح الكلمات:
- {حَرَّمَ} : يقال حرم الشيء يحرمه إذا حضره ومنعه فلم يأذن فيه.
- {الْفَوَاحِشَ} : جمع فاحشة، وهو الفعلة أو الخصلة الذميمة القبيحة التي اشتد فحشها وقبح، وأعظم الفواحش: فاحشة الزنا واللواط، وقريب منها البخل، وسؤال غير المحتاج للتكثر.
- {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : أي فهي محرمة سواء ما فعل منها سرا أو جهرا، خفية أو علانية.(27/321)
- {الإِثْمَ} : كل ضار فاسد من اعتقاد أو قول أو عمل، فمتى وجدت في الشيء صفة الضر أو الفساد فهو إثم، وقد يكون الشيء ضارا غير فاسد كالإسراف في الأكل والشرب، وقد يكون فاسدا غير ضار كالتبذير للمال، وقد يكون ضارا وفاسد في آن واحد كالغيبة والنميمة وكثير من المحرمات، كالسرقة والخيانة وخلف الوعد والغش والحسد والرياء والكبر مثلا.
- {الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : الاعتداء على الغير، وذلك بمجاوزة المرء حقه إلى حق غيره، أو ما هو له إلى ما هو لغيره من سائر الحقوق والأمتعة والمنافع.
وهو بمعنى الظلم؛ إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه والبغي منه، إلا أن الظلم لا يقيد بلفظ (بغير الحق) كما قيد البغي به؛ إذ لا ظلم يكون بحق بخلاف الاعتداء فقد يكون بحق، كمن اعتدى على إنسان بأخذ ماله؛ فإن له أن يعتدي عليه بأخذ ما أخذ منه قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
- {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} : أي تجعلوا له شركاء من الخلق تعبدونهم معه أو دونه، وذلك بدعائهم والذبح والنذر لهم، وتعظيمهم بالحلف بهم، والرغبة فيهم والرهبة منهم، أو بطاعتهم بقبول ما يشرعون لكم من تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم.
- {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} : السلطان الحجة والبرهان، التي يذعن لها الإنسان ويسلم بالحق من أجلها.(27/322)
ولا يدل هذا القيد في تحريم الشرك أن الله تعالى قد يأذن في الشرك به أو يأمر به، فينزل بذلك قرآنا يتلى فيشرك به عندئذ، لا، لا! وإنما هذا من باب فرض المحال؛ لأن الشرك من أبطل الباطل وأمحل المحال، فكيف ينزل الله تعالى حجة تبيحه، أو سلطانا يجيزه به، وإنما هو من باب التنزل مع الخصم فقط، أي: لو كان الله تعالى قد أذن في الشرك لما عبنا عليكم شرككم ولما أنكرناه عليكم، وعلى سبيل المثال نقول: إنه لما أذن الله تعالى في تقبيل الحجر الأسود بالكعبة قبله الموحدون ولم ينكر عليهم؛ لأن الله تعالى أذن فيه، وهذا سر الإتيان بقيد: ما لم ينزل به سلطانا؛ إذ العبادات أغلبها غير معقولة المعنى، وإنما تفعل بأمر الله تعالى بها وإذنه فيها، فإذا كان هناك حجة من كتاب أو سنة على قول أو عمل صح قوله أو عمله وإن تصور بصورة الشرك لوجود الإذن فيه، وقيام الحجة عليه.
- {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} : القول على الله هو الكذب عليه عزّ وجلّ، بنسبة شيء إليه هو بريء منه، فكل من قال: قال الله تعالى كذا، أو حرم كذا، أو لله تعالى كذا، أو صفة الله تعالى كذا، أو كره الله كذا أو أحب كذا، والله عزّ وجلّ لم يقل ولم يحرم، ولم يكن له ذلك ولم تكن تلك صفته، ولم يكره ولم يحب ما نسب إليه كرهه أو محبته؛ فقد قال على الله تعالى ما لم يعلم، وكذب على الله عزّ وجلّ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟
معنى الآية الكريمة:(27/323)
لما ادعى المشركون تحريم بعض ما أحل الله عزّ وجلّ لعباده من الزينة، والطيبات من الرزق أنكر الله تعالى ذلك عليهم، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم مبينا ما حرم الله تعالى على عباده من المعتقدات والأفعال والأقوال لضررها وفسادها، وهي سائر الفواحش: وهي كل ما قبح واشتد قبحه من اعتقاد الباطل وقوله وفعله كالكفر والكذب والزنا، وكل قبيح فاحش القبح، وسواء في ذلك ما أعلنه فاعله أو ستره وأخفاه، والإثم: وهو كل ما كان فاسدا ضارا من اعتقاد أو قول أو عمل فيندرج تحته كل ما حرم الله تعالى من المعتقدات الباطلة والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة، والبغي: هو الاعتداء على الناس في أجسامهم أو أعراضهم أو أموالهم، بغير حق يسوغ ذلك الاعتداء ويجوزه.
والشرك بالله تعالى: وهو اعتقاد وجود من يكون مثل الله تعالى، أو يشبهه في ذاته أو صفاته أو أفعاله، كما هو - أي الشرك بالله تعالى - عبادة غير الله تعالى معه بأن يدعو من يعتقد أنه يجلب له نفعا أو يدفع عنه شرا، أو يستغيث به عند الشدة، أو يستعيذ به عند الخوف، أو يتقرب إليه بذبح أو نذر أو ركوع أو سجود، أو يعظمه بحلف أو بطاعة في غير طاعة الله تعالى بأن يحل له الحرام فيحله، أو يحرم عليه الحلال فيحرمه إلى غير ذلك من صرف العبادات له.
والقول على الله تعالى بدون علم بأن ينسب إلى الله تعالى ما نفاه عن نفسه من الزوجة والولد والشريك، أو ينسب إلى الله تعالى قولا لم يقله، أو عمل لم يعمله أو يصفه بصفة لم يكن تعالى متصفا بها، ومن ذلك أن ينسب إليه شرعا لم يشرعه، أو تحريم شيء لم يحرمه، أو تحليل شيء لم يحلله.(27/324)
وكل هذا يدخل تحت الكذب على الله تعالى، ومن أكبر أنواع الظلم حتى إنه لا يوجد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، قال تعالى في غير آية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ؟ والاستفهام هنا للإنكار والنفي معا، أي ينكر تعالى نافيا أن يكون هناك بين الناس من هو أشد ظلما ممن يكذب على الله عزّ وجلّ.
هداية الآية:
إن لكل آية من كتاب الله تعالى وإن قصرت هداية خاصة بها تحملها لأهل الإيمان والتقوى، وهداية هذه الآية المباركة الكريمة تتلخص فيما يلي:
1- التحريم والتحليل ووضع الشرائع التي يكمل بها الإنسان ويسعد عليها من حق الله تعالى، وليس من حق أي أحد، والرسول وإن حرم أو حلل فإنما يحرم ويحلل بإذن ربه تعالى.
2- بيان أصول المفاسد وأمهات الذنوب: هي الكذب على الله تعالى، والشرك به عزّ وجلّ، والبغي بغير الحق، والإثم وعلى رأسه الخمر وسائر المخدرات، والفواحش وعلى رأسها فاحشتي الزنا واللواط.
والدعوة إلى ترك هذه المفاسد ومقاومتها، وتطهير المجتمع الإسلامي والإنساني منها إذ لا فلاح معها ولا فوز في الدنيا ولا في الآخرة والعياذ بالله تعالى.
3- الدعوة إلى أن تحل محل هذه المفاسد أصول الإصلاح المضادة لها، وهي التوحيد بعبادة الله تعالى وحده بحيث لا يبقى أي مظهر من مظاهر الشرك بين الناس فتتحد القلوب وتتحد الأعمال والغايات والأهداف، وتسير البشرية إلى كمالها التي خلقت مستعدة له، وإلى سعادتها التي ما برحت تنشدها طوال الحياة.
كما هي الاستقامة على طاعة الله ورسوله فعلا وتركا، أداء للواجبات والسنن واجتنابا للمحرمات والمكروهات، إلى جانب إقامة الحدود، ورفع علم الجهاد رفرافا عاليا، وغازية تخرج وأخرى تعود إلى أن يعبد الله وحده دون من سواه، ويتم تحرر الناس كل الناس من جور السلطان وعسف الطغيان وعبادة الشيطان، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله!!.(27/325)
ما في الآية من أحكام:
لقد تضمنت الآية الكريمة حكما شرعيا واحدا، وهو تحريم الفواحش والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله تعالى والقول على الله بدون علم، وهي أصول المفاسد كلها.
هذا، وإن واجب المسلم - كي تتم استقامته على منهاج الله فيكمل ويسعد - أن يتعلم ويُعلّم ويدعو إلى ذلك بقوله وعمله، وهذا هو جهاد النفس، الذي هو فرض عين على كل فرد من أفراد أمة الإسلام، وليس في استطاعة الفرد المسلم أن يبلغ الكمال إلا عليه، كما ليس في إمكان أمة الإسلام أن تنهض من كبوتها وتتخلص من محنتها إلا بالتزام هذا المبدأ، مبدأ جهاد النفس بالعلم والتعلم والدعوة إلى ذلك.
وأنت أيها القارئ الكريم وقد عرفت ضرورة الالتزام بمبدأ العلم والتعليم والدعوة، فهل يراك ربك تعالى بعد علمك هذا ناهضا بهذا الواجب قائما بهذا الجهاد إزاء نفسك؟ اللهم حقق لي وله ذلك؛ إنك على كل شيء قدير.(27/326)
وا إسلاماه..!
وصلت الرسالة التالية من سيدة يعمل زوجها في العاصمة الإندونيسية جاكارتا.
ونقدم الرسالة كما هي بعد حذف الفقرة الأولى وهي المتضمنة السلامات والتحيات:
التحقت بنتي بالمدرسة الباكستانية.. وهي المدرسة المسلمة الوحيدة هنا لتعليم الأجانب اللغة الإنجليزية؛ لأن الحكومة هنا لم تصرح بفتح مدارس إسلامية كثيرة، ولكنها أعطت تصريحا بفتح ألفي مدرسة تبشيرية للدمسيكو التابع للفاتيكان، رغما عن أن عدد سكان إندونيسيا حوالي 120 مليون نسمة، 95% منهم مسلمون، و5% ديانات أخرى منها البوذية وهي الأغلبية، ومنهم عبدة النار وحوالي 1% منهم مسيحيون.
ولا تتخيلي هنا شرطا من شروط إنشاء هذه المدارس هو أن تكون الإدارة وهيئة التدريس من المسيحيين التابعين للكنيسة، والصليب معلق فوق كل سبورة في كل فصل لتثبت صورة التبشير وبشدة.
وهنا - في جاكارتا - وبسهولة شديدة يشترون الناس إما بالأرز حيث ترتفع نسبة البطالة وخاصة أن الأمطار هذا العام لم تهطل..
وتمر إندونيسيا بموسم جفاف شديد، وهذا الأمر غير معتاد في هذا الوقت من السنة حيث كانت تهطل الأمطار مرتين أو ثلاثا في اليوم، ولمدد تصل في الغالب ما بين ساعتين وثلاث ساعات في المرة الواحدة.. والزرع يجف من قلة المطر وشدة حرارة الجو والشمس حارقة، يعني الناس يمرون بمحنة وحملات بلا رحمة لشراء النفوس.. تجدين الشخص مثلا منهم يحمل ورقة فيما يشبه بالبطاقة الشخصية ولكنها تصريح له للخروج من محافظته إلى المنطقة التي يرغب الانتقال إليها..
تجدين ديانته مدونة كالآتي (مسلم - مسيحي – كاثوليك) وهذا دليل على الضغط الذي يواجهه..(27/327)
لا يوجد رزق في مقابل وعود بعمل في شركة للبترول ومال وفير أو أن يتغاضوا عن طفل من أطفالهم مقابل تعليمه وإعطائه الأرز الكافي لحياته، حيث هو عماد حياتهم هنا يأكلونه ثلاث مرات يوميا، وفي مقابل هذا العطاء والعلاج المجاني حيث هنا العلاج باهظ ولا تجد مستشفيات مجانية لغير القادرين، وطبعا القادرون هنا فقط الجنس الصيني أي الصينيون الذين استقروا هنا وأصبحوا من الثراء بحيث يمسكون بزمام البلاد في أيديهم وجميعهم مسيحيون، أما الإندونيسي فهو فقير مقهور حتى الذي يحظى بقدر من المال فهو مسكين أمام الأخطبوط الصيني الذي يستطيع أن يمحقه ويعلن تفليسه في دقائق؛ لأن زمام التجارة والاقتصاد هنا في يد الصينيين، نجدين الشخص منهم يمتلك ثلاثة قصور في أنحاء متفرقة وسيارات وخدما وحشما.. ويحولون أموالهم على الفور للخارج خشية ثورة الشعب عليهم.. ولا توجد هنا شغالة مسيحية كلهن مسلمات فقط، وتتفشى الأمراض الخليقة حيث يأمر صاحب المنزل الخادمة بأن تقيم في نفس غرفة الخادم أو السائق أو جميعهم في غرفة واحدة.. وإذا رفضت تطرد ويقفل أمامها باب الرزق.. وأما إغراء الهدايا والأموال التي تغدق في سبيل تنصيرهم يضعف إيمان البعض.. وأي ضعف.. فليغفر الله لهم ويرحمهم ويعز الإسلام والمسلمين.
ونحن هنا نحاول مقاومة هذا ببث روح الإسلام وإحيائه في نفوس الناس الذين نخالطهم، والله في عوننا جميعا
(الرياض)
تعليق:
هذه رسالة تحمل أخبارا تتقطع لها نياط القلوب أسى وحسرة، وإلى الله عزّ وجلّ وحده اللجأ والضراعة من خالص قلوبنا أن يجمع شتات المسلمين ويوحد شملهم ويربط على قلوبهم ليدحروا أعداء الله ويعلو كلمة الحق خفاقة في دروب العالمين.
(مجلة الجامعة الإسلامية)(27/328)
أخبار الجامعة
إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
الندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة
استضافت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ندوة عمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة في اللقاء الرابع لأعمال هذه الندوة، وذلك في المدة من يوم الاثنين 26 ربيع الأول 1403هـ إلى يوم الخميس 29 ربيع الأول 1403هـ.
وجاءت ندوة عمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة التي بدأت أو لقاءاتها في جامعة الملك عبد العزيز بجدة في المدة من 28 إلى 30 من المحرم 1400هاستجابة طبيعية لإدراك أهمية الدور التربوي لعمادات شؤون الطلاب وأهميته في إعداد الطالب الجامعي، وتوالت أعمال هذه الندوة عبر السنوات فكان اللقاء الثاني في جامعة البترول والمعادن بالظهران في المدة من 15 إلى 17 صفر 1401هوكان اللقاء الثالث في جامعة الملك سعود بالرياض في الفترة من 22 إلى 26 ربيع الأول 1402هوكان اللقاء الرابع لهذه الندوة في الجامعة الإسلامية هذا العام من 26 إلى 29 ربيع الأول 1403هاستكمالا لما بدأته في أول لقاءاتها في جامعة الملك عبد العزيز.
وقائع الندوة الرابعة:
كان موضوع (الإسكان الطلابي: الواقع والتطلعات) هو الموضوع الذي حددته الندوة للبحث في اللقاء الرابع الذي تم في الجامعة الإسلامية.
حفل الافتتاح:(27/329)
بحضور سعادة الدكتور محمود محمد سفر وكيل وزارة التعليم العالي نائبا عن معالي الوزير الشيخ حسن آل الشيخ، وتحت رعاية سعادة الشيخ سعد الناصر السديري وكيل إمارة المدينة المنورة أقيم حفل الافتتاح للندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة مساء يوم الخميس 26 ربيع الأول 1403هفي قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية، وحضر الحفل معالي الدكتور راشد الراجح مدير جامعة أم القرى، وفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة الإسلامية، ووفود من عمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة تضم العمداء ووكلاءهم وعددا من العاملين في عمادات شؤون الطلاب.
بدأ الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم بعدها ألقى الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة الإسلامية الكلمة التالية:
كلمة الجامعة الإسلامية للدكتور عبد الله الصالح العبيد/ نائب رئيس الجامعة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سعادة الشيخ سعد الناصر السديري وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة.
معالي الشيخ راشد الراجح مدير جامعة أم القرى.
سعادة الدكتور محمود سفر وكيل وزارة التعليم العالي.
الإخوة عمداء شؤون الطلاب بجامعات المملكة.
أيها الإخوة الحضور.
أرحب بكم في هذه الجامعة، وفي هذه الأرض الطبية، وأشكر لكم هذه المشاركة.. وإذا كان لي كلمة في هذه المناسبة فإنها لا تختلف عما سمعه الكثير منا في الندوات التي عقدت في كل من جامعة الملك عبد العزيز وجامعة البترول والمعادن وجامعة الملك سعود، إلا أن للمكان الذي نجتمع فيه وللمدينة التي نعيش في رحابها هذا اليوم شيئاً يستحق منا الوقفة والتعليق.(27/330)
أيها الإخوة نعيش اليوم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعود بنا الذكريات إلى تلك الأيام الأولى حينما احتضنت هذه المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقامت بعد ذلك بنشر دعوته.
في هذه الرحلة الذهنية نتذكر المجتمع الأول للمدينة فنتذكر الصُّفة وأهل الصفة الذين يمكن أن يكونوا أول مجتمع طلابي أو سكن جماعي في تاريخ التربية الإسلامية، من ذلك المكان انطلقت الدعوة الأولى، من ذلك المكان حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على أكتاف أولئك الرجال قامت دعوة الإسلام فانتشرت في أرجاء المعمورة أناس التقوا من كل حدب وصوب لينهلوا من المعرفة القرآنية، ومن تربية الرسول صلى الله عليه وسلم أخذوا ما يسّر الله لهم فانطلقوا بذلك إلى أرجاء الأرض فمكن الله لهم، ونحن نعيش الآن على تلك الذكريات.
وفي هذا اللقاء نجتمع في الجامعة الإسلامية؛ هذه اليد البيضاء التي أسدتها المملكة العربية السعودية للعالم الإسلامي، فالتقى بها المسلمون من كل جانب لينهلوا من المعرفة، حيث العقيدة الصافية، والسلوك الإسلامي المستقيم، ليعودوا إلى قومهم - إن شاء الله - مبشرين بالخير، ومنذرين من الشر، ولا تختلف الجامعة الإسلامية عن غيرها من جامعات المملكة في التعامل مع الطلاب إلا أنها تعطي عناية أكثر نتيجة للخلفيات المتباينة التي يأتي منها هؤلاء الطلاب.
ونرجو أن يكون في هذه اللقاء ما يعيننا في هذه الجامعة على أن نسير بها السيرة المثلى، وأن تحقق - من خلالها - حكومتنا - وعلى رأسها جلالة الملك وفقه الله ورجال الدولة المخلصون - ما يصبون إليه من رفعة الإسلام وإعزاز المسلمين.(27/331)
ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أشكر لتلك الجامعات التي استضافت هذه الندوة في المرات السابقة، وأستميحكم العذر عن أي تقصير حصل أو يحصل في هذه الندوة إلا أن الجامعة تضع بين أيديكم ما توصلت إليه من برنامج يمكن أن يكون مسودّة عمل، وهو قابل للتعديل فيما ترون أنه يحتاج إلى تعديل.
أيها الإخوة: أشكركم، وأتمنى لكم التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة عميد شؤون الطلاب بجامعة الملك سعود
ثم ألقى سعادة الدكتور محمد ناصر الوهيبي عميد شؤون الطلاب بجامعة الملك سعود والأمين العام السابق للندوة الثالثة الكلمة التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وبعد:
فإني أمقت الإطالة، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فأنا كما قال أخي مقدم البرنامج (الأمين العام السابق) للندوة، وأحمد الله على أن الأمانة ستنتقل إلى أيد أمينة في رحاب طيبة الطيبة، وكما كان الشأن لنا مع ندوتين سابقتين - أولاهما في جامعة والثانية في جامعة البترول والمعادن - نجد من الضرورة أن نبين للإخوة أن هذه الندوات لم تأت من فراغ، بل إنها جاءت نتيجة لبذل في الجهد والوقت والمال؛ إذ كانت عمادات شؤون الطلاب قد أخذت على عاتقها النهوض بما من شأنه توفير الرعاية للطلاب والطالبات.
وقد تحقق لنا من خلال اللقاءات المتعددة أن نحدد الأهداف المرجوة من إقامة تلك الندوات نذكرها على سبيل الإيجاز:
1- تبادل الأفكار والخبرات حول العمل في المجالات الطلابية.
2- تحقيق التعاون في مجالات الأنشطة وتبادل الزيارات.
3- التعرف على مشكلات العمل واقتراح الحلول المناسبة لمواجهتها.
4- تعدد اللقاءات بين المسؤولين في المعمادات للوصول إلى منهج مشترك.
5- الحرص على توحيد اللوائح والهياكل التنظيمية بين العمادات لنصل إلى ما نريده من خير للطلاب في ظل عقيدتنا الإسلامية.(27/332)
وكما قلت فإن الندوة الثالثة التي تشرفت بأمانتها كانت امتدادا طبيعيا لندوتين رائدتين: الندوة الأولى ونظمتها جامعة الملك عبد العزيز، والندوة الثانية ونظمتها جامعة البترول والمعادن.
لقد تحقق الكير من الإنجازات ليس فقط في مجال التوصيات، وإنما أيضا في مجال الأنطشة المشتركة وتبادل الخبرات، ورفع مستوى الأداء وتحقيق الكثير في مجال الرعاية والخدمات، وقبل كل هذا وبعده فقد أخذت العمادات مكانتها الجديدة بها على كل المستويات.
وفي جامعة الملك سعود التي عقدت فيها الندوة الثالثة كانت هناك التوصية الخاصة بتوحيد الهياكل التنظيمية واللوائح، وبخصوص هذه التوصية:
فقد تم إنجاز مشروعات لوائح محددة منها:
أ- اللائحة الموحدة لعمادات شؤون الطلاب.
ب- لائحة الهيكل النتظيمي.
ج- لائحة الإسكان الطلابي.
د- لائحة تشغيل الطلاب.
هـ- لائحة تأديب الطلاب.
وبشأن التوصية الخاصة بالوضع الوظيفي والمعاملة المالية للعاملين بالعمادات، وتنفيذ برامج تدريبية لهم:
شكلت لجنة تضم سعادة وكيل وزارة التعليم العالي وعمداء شؤون الطلاب، ورفعت توصياتها لمعالي وزير التعليم العالي:
أ- توفير الإمكانات البشرية والمالية لقطاع الرعاية الطلابية، وإعطاؤه أولوية على باقي القطاعات.
ب- تعزيز البند 254 الخاص بالنشاط الثقافي والرياضي وتعميمه على جميع الجامعات.
ج- إصدار الإدارة العليا للجامعات توجيهاتها للكليات والمعاهد للتعاون مع عمادات شؤون الطلاب والمشاركة في أنشطتها لتحقيق رسالة الجامعة التربوية والتعليمية.
د- تقديم مكافأة مادية ومعنوية لكل عضو هيئة تدريس يشارك في النشاط الطلابي مع تخفيف العبء الأكاديمي عنه بما يناسب مع مسؤوليته في النشاط.
هـ- معاملة العاملين في الأنشطة والرعاية الطلابية في الجامعات معاملة زملائهم في الرئاسة العامة لرعاية الشباب من حيث البدلات.(27/333)
و قيام تنسيق بين وزارة التعليم العالي وديوان الخدمة المدنية ومعهد الإدارة العامة لتدريب العاملين مع إيجاد حواز لهم.
ز- قيام معالي وزير التعليم العالي باستصدار توجيه من المقام السامي إلى وزارة المالية يدعم ميزانيات عمادات شؤون الطلاب والتجاوب مع طلباتها.
- وفي مجال التوصيف الوظيفي للعاملين بعمادات شؤون الطلاب ويشمل مسميات الظائف والمراتب ووجبات كل وظيفة والشروط الواجب توافرها فيمن يشغل الوظيفة، ورفع هذا التوصيف إلى ديوان الخدمة المدينة والجهات المسؤولة لإقراره.
في مجال هذه التوصية الخاصة بالتوصيفك كلَّف الأمين العام للندوة لجنةً من الأساتذة المتخصصين في الإدارة العامة بكلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود بإعداد دراسة حول الموضوع، وقد قامت اللجنة بالدراسة المطلوبة وقدمت تقريرها إلى الأمين العام الذي رفعه بدوره إلى أصحاب السعادة عمداء شؤون الطلاب مع استمارة التوصيف المقترحة.
وفي حالة الموافقة على خطة العمل فإن الأمر يحتاج إلى قرابة العام، وإلى تعاون كل العمادات مع توفير الإمكانات لتوفير المطلوب.
وفي مجال الإعداد للندوة الرابعة فقد التقت كلمة الأمانة العامة على أن يكون الموضوع الرئيسي (الإسكان الطلابي: الواقع والتطلعات) تأكيدا لدور الرعاية الطلابية في تكوين شخصية الطالب الجامعي.
ويطيب لي باسم الأمانة العامة للندوة لعمادات شؤون الطلاب أن أشكر أصحاب المعالي مديري الجامعات، وأشكر لمعالي وزير التعليم العالي الذي أناب عن معاليه سعادة الدكتور محمود محمد سفر، وأتمنى أن يكون - كما عودنا - همزة وصل بيننا وبين معاليه، وأشكر أيضا أصحاب السعادة وكلاء الجامعات وعمداء شؤون الطلاب لرعاية كريمة قدموها، ولتعاون كريم أظهروه، كما يطيب لي أن أشكر إخواني العاملين بعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة، فقد كان لتعاونهم أثره الكريم في إنجازه ما تحقق.(27/334)
ويطيب لي باسم الأمانة للندوة الثالثة أن أشكر الجامعة الإسلامية ممثلة في معالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب الرئيس على كريم تفضله بأن جعل الندوة حرية التصرف في البرنامج، فأكثر الله خيره، ونَعِده بأن نكون أمناء على هذا البرنامج، وأشكر لسعادة أخي عميد شؤون الطلاب والإخوة العاملين بالعمادة لاستضافتهم الكريمة للندوة الرابعة التي شرفها الله أن تكون في رحاب مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأتمنى أن نوفق دائما أبدا للوصول إلى الأمثل، ونعاهد الله أن نكون أمناء على ما استرعانا الله إياه.
هدية جامعة الملك سعود إلى الجامعة الإسلامية
وختم سعادته كلمته بتقديم هدية تذكارية للجامعة الإسلامية وقدمها بقوله:
إن جامعة الملك سعود احتفلت في العام بمرور خمسة وعشرين عاما على إنشائها، وقد اختارت معلما حضاريا من معالمها، وهو برج مدينة الرياض، ويسعد عمادة شؤون الطلاب بجامعة الملك سعود أن تقدم للجامعة الإسلامية ليشعرنا فقط بذكرى حضورنا لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأشكر مرة أخرى جميع الحضور، وأتمنى أن نحظى بتأييدهم: سعادة الشيخ سعد السديري وكل الحضور، ونعلق الآمال على الله وعليهم أن لا يبخلوا علينا بالتوجيه وبالمؤازرة بالنسبة للسؤولين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة عمادة شؤون الطلاب بالجامعة الإسلامية لفضيلة الشيخ عرض الشهري عميد شؤون الطلاب بالجامعة
ألقى فضيلة الشيخ عوض الشهري عميد شؤون الطلاب بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الكلمة التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم.. سعادة وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة، أصحاب الفضيلة والسعادة، أيها الحفل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.(27/335)
فإنها فرصة سعيدة تتاح لنا في الجامعة الإسلامية إذ نلتقي بالإخوة المربين القائمين على شؤون الطلاب في جامعاتنا السعودية، فأخلا وسهلا ومرحبا بكم جميعا، وحياكم الله في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم معهد النور ومأرز الإيمان، وأشكر الله سبحانه الذي يسر هذا الاجتماع الذي أرجو أن يجعل من ثماره كل خير ونفع لجامعاتنا وأبنائها الطلاب.
أيها الإخوة الأفاضل: لا يخفى عليكم أن البشرية اليوم تعاني من أزمات هذا العصر، والتي تزداد تعقيدا وإرهاقا يوما بعد يوم؛ لأن الكر الذي يشكل الإنسان المعاصر يقوم على حضارات تحمل في أسها عناصر التحطيم والفناء، والمنهج التربوي العالمي بمعطياته الجاهلية يعيش بإنسان هذا العصر في حلقة مفرغة، يذهب حياته وجهده في الضياع، ويدمر في كيانه أمنه الذاتي مما يجعل المسؤولية الملقاة على كواهل المربين وأهل الفكر في جامعاتنا مسؤولية جسيمة، إنها مسؤولية إعادة المركب الذي تقاذفته الرياح والأمواج إلى شاطئ الأمن والسلام.
أيها الإخوة: إن عملية الإشراف على الطلاب تتطلب أمرين لا يجوز التفريط في أحدهما:
الأمر الأول: العمل على توفير كل ما يريح الطالب، ويهيئ له الجو المناسب لتحصيله العلمي من سكن وغذاء ورعاية ونشاط، وأعتقد أن جامعاتنا خطت فيه خطوات إيجابية، والتفكير في تطويره واستمراره مستمر ومتواصل.
الأمر الثاني: وهو ما ينبغي أن يكون محل العناية الفائقة من الجامعات بصفة عامة، ومن عمادات شؤون الطلاب بصفة خاصة - وهو كذلك إن شاء الله - وهو الجانب التربوي والثقافي المتصل بالنواحي الروحية والعلمية، ووضع الخطط الناجحة والبرامج المعطاءة في سبيل إعداد الطالب إعداداً يجعله صاحب رسالة ورجل دعوة متبصرا بالنور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وتجعله في الوقت نفسه متطهر الفكر والضمير من كل ما يدنسه.(27/336)
وهذا الأمر من الخطورة بمكان، وهو ما حدا بالإخوة في عمادات شؤون الطلاب أن يعملوا على الالتقاء في مثل هذا الاجتماع حتى توحد الجهود وتكرس في سبيل الوصول بشباب جامعاتنا إلى الأهداف المرجوة منهم إن شاء الله خاصة، وأن شباب هذه البلاد وشباب الجامعات مستهدفون من الشرق والغرب بفضل ما يحظون به ويلقونه من رعاية وتربية سليمة.
وكل الإخوة بفضل الله يدركون أن السبيل الوحيد إلى ذلك إنما هو التربية وفق شريعتنا الغراء التي تقوم على النور الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، ثم غرس هذا النور في نفوس هؤلاء الشباب حتى يعطى لحياتهم وسعيهم جدوى، وكدحهم في الطلب أملا ورغبة في الخير.
هذا وختاما أتوجه بالشكر لمقام وزارة التعليم العالي التي تشجع على إقامة مثل هذه الندوة، ولمديري الجامعات الذين يولون هذه الندوة كل عناية وتقدير، داعيا الله سبحانه أن يكلل جهود الجميع بالنجاح، وأن يجعلنا عند حسن ظنهم.
وأتقدم بأسمى آيات الشكر لسعادة وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة؛ فجزاه الله خيرا.
كما أتقدم بالشكر لكل من شارك في هذه الندوة أو أعد لها، وأخص بالذكر الإخوة الأفاضل عمداء ومسئولي شؤون الطلاب في جامعاتنا، والذين يبذلون جهودا مضنية لتوفير كل أسباب الرعاية والراحة لأبنائهم الطلاب، فجزى الله الجميع الخير وسدّد خطانا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة سعادة وكيل وزارة التعليم العالي
ثم ألقى سعادة وكيل وزارة التعليم العالي الدكتور محمود محمد سفر الكلمة التالية في حفل افتتاح الندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب في الجامعة الإسلامية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد العرب والعجم.
أيها الإخوة الأعزاء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:(27/337)
إنه لمن دواعي سروري وغبطتي أن أكون بينكم في هذا اللقاء الذي كواحد من سلسلة لقاءات ممتدة أثمرت بحمد الله وسوف تثمر - بإذن الله - مزيدا من الإنجازات في مسيرة جامعاتنا الفتية، تلك الإنجازات التي تأتي متناسقة ومتكاملة مع الجهد البارز اللامحدود لحكومة جلالة الملك المعظم في سبيل العناية بالإنسان الذي هو أغلى وأعز ثرواتنا، والذي نبدأ به جميع خططنا ونصل به إلى طموحاتنا وإليه تنتهي تلك الخطط والطموحات.
وخصوصية عناية عمادات شؤون الطلاب برعاية الطالب خلال دراسته الجامعية - عقائديا وتربويا واجتماعيا وثقافيا، في المسكن والفصل والمكتبة إنما يضع عليها عبئا ضخما ومسؤولية كبيرة لا أشك أنكم كعمداء لهذا القطاع الهام تستشعرونها على القيام بها بكل ما تملكون من طاقة، وما يتوفر لكم من إمكانيات.. وهي مسؤولية كبيرة لأنها تتعلق برعاية وتنمية تلك الثروة البشرية اللامحدودة والتي إذا ما أحسن إعدادها وتعليمها ورعايتها فإنها ستكون بإذن الله وقوته زادا لمسيرة الخير والنماء وقوة دفع لها على طريق الحق والرشاد.
أيها الإخوة الزملاء عمداء شؤون الطلاب:
إن مسئوليتكم كبيرة لأنها تتولى رعاية النشء، والعناية به في أدق مراحل عمره، تلك المرحلة الحرجة التي تتبلور فيها شخصيته ويتم فيها تكوينه العلمي والثقافي والاجتماعي ليخرج لمجتمعه إنسانا مسلما ملتزما متخصصا ومؤهلا ليواجه الحياة ومعتركها بإيمان وعلم وعزم وتصميم.
من هنا أيضا كان المحتم والضروري أن تتكامل في تلك المرحلة كل من الأنشطة الصفية والأنشطة اللاصفية وأن يمتزج التكوين العلمي مع التكوين الاجتماعي والثقافي والرياضي لبناء إنسان متزن وملتزم مدعم بقيم الحق والخير ومسلح بسلاح العلم النافع والإيمان الصافي، ومؤهل لقيادة تطور مجتمعه وتطوير أمته التي تتطلع إليه بأمل وشوق.
أيها الإخوة الزملاء:(27/338)
إن الموضوع الذي تجتمعون من أجله هو (الإسكان) وهو موضوع ذو أهمية خاصة وأبعاد كبيرة، فبعد نجاح تجربة الإسكان الجامعي في جامعاتنا اتسعت دائرته وتشعبت قضاياه وتكونت لدى المسؤولين عنه حصيلة كبيرة من الخبرة والممارسة، وطرحه بجميع أبعاده على طاولة البحث والنقاش بتخصيص هذه الندوة جاء في الوقت المناسب، وله دلالته الإيجابية بدون شك؛ لأن تبادل الخبرة بين الجامعات في أمر الإسكان الجامعي والتشاور في ما قد يعترضه من قضايا لهو بدارة جيدة تعبر عن طموحاتكم للوصول بهذه الخدمة إلى المستوى الذي نتطلع إليه لأن الفترة التي يقضيها الطلاب في الإسكان الجامعي خلال الدراسة تترك أثرها في حياتهم وتظل ملتصقة بأذهانهم بعد تخرجهم بما تحمله من ذكريات ومواقف.
إن اجتماعنا أيها الإخوة اليوم إنما هو تعبير صادق وأكيد عن مدى إصرار جامعاتنا المتنامي والمتجدد والنابغ من رغبة حكومة الملك المعظم على توفير الرعاية وأسباب الطمأنينة لشباب الجامعات بنوعيه، وهي فرصة مناسبة لمراجعة كافة التجارب والنظر فيما وصلنا إليه وما نطمح في الوصول إليه.
وإني لعلى ثقة ويقين من أن استمرار هذه اللقاءات وامتدادها كفيل بأن يصل بحول الله بالخدمات الطلابية إلى المستوى الذي تتطلعون إليه، وتحلمون به، ولن يتحقق ذلك إلا بالعزم والإخلاص والمثابرة التي وهبها الله لكم.
وإني إذ أدعو الله أن يتمم أعمال ندوتكم هذه بالنجاح والسؤدد، أسأله وهو العلي القدير لكم التوفيق والسداد في كافة ما تخططون له وتعلمون على تنفيذه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة
ثم كانت الكلمة التالية لسعادة الشيخ سعد الناصر السديري وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة ألقاها في حفل الافتتاح للندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة:
بسم الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله ومن والاه..(27/339)
أيها الإخوة الأعزاء أرحب بكم أجمل ترحيب بالمدينة المنورة مثوى المصطفى صلى الله عليه وسلم.. أرحب بكم في رحاب الجامعة الإسلامية: هذه الجامعة التي نفتخر بها، وتعد من منارات العلم التي وفقت حكومتنا الرشيدة بإنشائها في هذا البلد الطاهر بالذات؛ لخدمة الدين الإسلامي، ولتكون منارا لأبناء الأمة الإسلامية، يعبون منها العلم النافع ويتفقهون في دينهم لينشروه في أصقاع المعمورة.
أيها الإخوة نحيي اجتماعكم هذا المبارك فأنتم تساهمون بإقامة وصقل القاعدة من الكفاءات الوطنية في مختلف التخصصات التي يبنى عليها مستقبل بلادنا الزاهر، إن الجامعات السعودية خطت خطوات كبيرة وتساوت إن لم تكن قد تجاوزت بعض الجامعات العربية التي سبقتها، ومحل الفخر أن الكفاءات السعودية التي حصلت على الشهادات العليا أصبحت تشكل نسبة كبيرة في هيئة التدريس.
وهذا ناتج من التخطيط السليم؛ فقد بدأ هذا التخطيط منذ إنشاء أول وزارة للمعارف كان وزيرها جلالة الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله، فقد بدأ يخطط لهذه النهضة العلمية الجبارة التي وصلت إليها بلادنا الغالية، وسوف تزداد نموا وشموخا في المستقبل.
أيها الإخوة على هممكم ونشاطكم ومثابرتكم يكون النهج المستقبلي للعلم النافع من إطار دستور هذه البلاد؛ الشريعة الإسلامية، ومن قيمنا المتوازنة التي سيكون نجاحنا مضمون ما دمنا نسير في مضمار ذلك، سدد الله خطاكم وجعل المولى التوفيق حليفكم، والله يرعاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
أعمال الندوة:
بعد الانتهاء من حفل الافتتاح في مساء اليوم الأول الاثنين والذي عرضنا وقائعه والكلمات التي قيلت فيه توجّه المشاركون في أعمال هذه الندوة لحضور حفل العشاء الذي أقامته الجامعة الإسلامية تكريما لهم.(27/340)
وفي الأيام التالية تابعت الندوة أعمالها إذ كونت أربع لجان عمل تابعت أعمالها للبحث في الموضوع الذي خصص لها، وكان تشكيل اللجان على الوجه التالي:
1- اللجنة الأولى لدراسة أهداف وأسس الإسكان الطلابي.
2- اللجنة الثانية لدراسة واقع الإسكان الطلابي وتطلعاته
3- اللجنة الثانية لدراسة أثر الإسكان في بناء شخصية الطالب.
4- اللجنة الرابعة لدراسة إسكان المتزوجين.
وتابعت هذه اللجان أعمالها في جلسات صباحية ومسائية على امتداد يومي الثلاثاء والأربعاء.
واختتمت اللجان أعمالها في حفل ختامي تكريمي في تمام الساعة العاشرة من مساء يوم الأربعاء، سبقه اجتماع موسع للجنة الصياغة التي كتبت التوصيات التي أصدرتها الندوة الرابعة بعد مناقشتها وإقرارها.
وقد استهل حفل الاختتام بتلاوة آيات من الذكر الحكيم ثم أعقبها كلمة شكر وتقدير للمشاركين في أعمال هذه الندوة ألقاها فضيلة الشيخ عوض الشهري عميد شؤون الطلاب بالجامعة الإسلامية، ثم ألقى سعادة الدكتور محمد ناصر الوهيبي عميد شؤون الطلاب بجامعة الملك سعود والأمين السابق للندوة كلمة المشاركين في هذه الندوة، ثم قرأ سعادة الدكتور خالد العجيمي عميد شؤون الطلاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ قرأ التوصيات التي انتهت إليها الندوة في لقائها الرابع.
ثم كانت كلمة ختامية للدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بهذه المناسبة، ذكر فيها العمداء الذين أسسوا لهذه الندوة والذين يمارسون هذه المهام ولوكلائهم وعمدائهم، وأكد على أهمية الدور الذي تقوم به عمادات شؤون الطلاب في مجال رعاية الطلاب وتربيتهم وتوجيههم التوجيه التربوي الإسلامي القويم.(27/341)
ثم ألقى فضيلة الشيخ صالح بن سعود العلي مدير المعهد العالي للدعوة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلمة بهذه المناسبة، أشاد فيها بالدور الهام الذي تقوم به عمادات شؤون الطلاب في جامعات المملكة، كما شكر الجامعة الإسلامية على ما لقيه المشاركون في الندوة من كرم الضيافة الذي لا يستطيع التعبير أن يوفيه حقه مستشهدا بقول المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وفي الختام قدمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هدية ثقافية للجامعة الإسلامية، وهي عبارة عن مجموعة من مطبوعات جامعة الإمام.
توصيات الندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة
أعلنت الندوة الرابعة لعمادات شؤون الطلاب بجامعات المملكة التوصيات والقرارات بعد اجتماع اللجان الفرعية المختصة بالنظر في الموضوعات، وقد استملت هذه التوصيات على:
أ- توصيات عامة.
ب- وتوصيات اللجان الأربعة الفرعية على النحو التالي:
أولاً: التوصيات العامة:
1- تشكيل مكتب دائم لمتابعة توصيات ندوات عمادات شؤون الطلاب والعمل على تنفيذها، وتضع له الأمانة العامة للندوة لائحته التنفيذية.
2- الأخذ بعين الاعتبار ما انتهت إليه الأمانة العامة للندوة الثالثة من مشروعات لتوحيد اللوائح والهياكل التنظيمية في عمادات شؤون الطلاب.
3- قيام الأمانة العامة بتشكيل لجنة لبحث الإسكان الطلابي في المدن الجامعية بجامعات المملكة؛ للتوصل إلى تحقيق أفضل السبل لتطبيق ما جاء في توصيات هذه اللقاء.
4- قيام الأمانة العامة بترتيب برنامج لتبادل الزيارات والخبرات للمسؤولين والعاملين بعمادات شؤون الطلاب.
5- قيام الأمانة العامة للندوة بالتنسيق مع ديوان الخدمة المدنية ووزارة المالية لتصنيف كادر خصوصي موحد لمن يقومون بالإشراف على الوحدات السكنية مع توحيد المعاملة المالية لهم.(27/342)
6- توحيد جهاز التعليم الجامعي للطالبات والإشراف على رعايتهن في جهة موحدة توفر لها الطاقات والإمكانيات المناسبة، وذلك في ضوء معاينة عمادات شؤون الطلاب لمشكلات إسكان الطالبات.
7- عقد لقاء خاص للأخوات المسؤولات عن شؤون الطالبات بجامعات المملكة، ذلك لدراسة شؤون الطالبات، ورفع توصياتهن للأمانة العامة للندوة لاتخاذ ما تراه بشأنها.
8- التأكيد على الأمانة العامة بالاستمرار في تنفيذ توصيات اللقاءات الثلاثة السابقة وتذليل الصعوبات التي تعترض ذلك.
9- توجيه الشكر لجامعة الملك سعود وعمادة شؤون الطلاب فيها للنهوض بأعباء الندوة الثالثة ومتابعة توصياتها.
10- توجيه الشكر للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وعمادة شؤون الطلاب فيها لاستضافتهم الكريمة، وحسن إعدادهم للندوة في رحاب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11- قبول الدعوة الموجهة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاستضافة اللقاء الخامس بها، وتقديم الشكر على هذه المبادرة لمعالي مدير الجامعة وسعادة عميد شؤون طلابها.
12- إسناد مهام الأمانة العامة للندوة لعمادة شؤون الطلاب بالجامعة الإسلامية، ويكون عميد شؤون الطلاب بها أمينا عاما لحين اللقاء الخامس، وتتمنى الندوة للأمانة العامة كل توفيق في مهمتها.
13- رفع توصيات هذا اللقاء إلى معالي وزير التعليم العالي والرئيس الأعلى للجامعات وإلى أصحاب المعالي مديري الجامعات وإلى الجهات ذات العلاقة.
ثانياً: توصيات اللجان الفرعية
(توصيات اللجنة الأولى) : أهداف وأسس الإسكان الطلابي
أ- أهداف الإسكان:
1- تحقيق مجتمع إسلامي متكامل لأبنائنا الطلاب، وترسخ فيه عقيدة الإسلام، وتسود فيه قيمه الرفيعة، وتذوب فيه الحواجز العرقية والإقليمية.
2- بناء شخصية الطالب وتدريبه على تحمل المسؤولية والأعمال القيادية، وتعويده على الانضباط.(27/343)
3- تدريب الطلاب على المشاركة والاندماج في حياة اجتماعية سليمة تؤهلهم لخدمة دينهم ومجتمعهم.
4- التعرف على مشكلات الطلاب والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها.
5- تأمين الإقامة المريحة للطلاب وتهيئة المناخ الملائم لهم لزيادة تحصيلهم العلمي.
6- توفير الرعاية الصحية والنفسية للطلاب والعناية ببرامج الترويح الهادفة لهم.
ب- أسس الإسكان الطلابي:
1- مباني الإسكان ومرافقه
أ) إنشاء مدن جامعية تتوفر فيها كافة الأسس السليمة التي تحقق أهداف الإسكان الطلابي.
ب) الاهتمام بتوفير المرافق الأساسية في المدن الجامعية (المساجد - الأندية الثقافية - الملاعب - مراكز الهوايات - السوق التجارية) .. فذ يعين على تحقيق دور الإسكان في بناء الشخصية المتكاملة للطالب.
2- الإشراف والتوجيه:
أ) توفير العدد الكافي من المشرفين المتخصصين في مجالات الرعاية الطلابية.
ب) الاستعانة بالموجهين الأكفاء الذين يتوفر لديهم الاستعداد على توجيه الطلاب ومعايشتهم وبخاصة الطلاب الوافدين.
ج) إتاحة الفرصة لمشاركة الطلاب في أعمال الإشراف والإدارة.
3- الرعاية الطلابية:
الاهتمام بتوفير الرعاية والأنشطة الطلابية اجتماعية، وثقافية، ورياضية، وترويحية؛ لتحقيق الأهداف التربوية وتنمية المواهب وتقويم السلوك.
(اللجنة الثانية) واقع الإسكان الطلابي وتطلعاته:
1- مشاركة المسؤولين في العمادات في جميع مراحل التخطيط للمدن السكنية للطلاب.
2- الإسراع في إقامة المدن الجامعية المتكاملة بجميع الجامعات تحقيقا لتوصيات الندوات السابقة.
3- مراعاة ألا تزيد أدوار الوحدات السكنية عن ثلاثة أدوار، وألا يزيد ساكنوها عن مائة طالب، مع توفير عوامل السلامة والأمان.(27/344)
4- الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمدن الجامعية بتوفير المرافق الأساسية (المساجد- المكتبات- المطاعم- صالات الترويح- الأندية الثقافية- مركز الهوايات- مواقف السيارات- المراكز التجارية) .
5- اتباع نظام الجناح أو الشقة في إسكان الطلاب، بحيث تضم الشقة ثلاث أو أربع أو خمس غرف تحقق الاستقلال في النوم مع الخدمات المشتركة (صالة للمذاكرة، المرافق) .
6- مراعاة ألا يزيد عدد الطلاب الذين يشرف عليهم المشرف الاجتماعي بالوحدة السكنية أثناء مناوبته عن مائة طالب.
(اللجنة الثالثة) أثر الإسكان في بناء شخصية الطالب:
1- الحرص على رسالة المسجد التربوية في المدن الجامعية، وارتباط الطلاب به بحسن اختيار الأئمة لإقامة الجمعة والجماعة والعناية بالقرآن الكريم (تلاوة، وتجويدا، وحفظا) ، والسنة المطهرة وسائر العلوم الإسلامية.
2- تنظيم برامج تدريبية لتكوين القيادات الطلابية وتحقيق مشاركة الطلاب في إدارة مدنهم الجامعية ووحداتهم السكنية، مع إيجاد الحوافز عن طريق نظام تشغيل الطلاب.
3- التأكيد على أهمية الدور التربوي الذي ينهض به المشرف في مجتمع الإسكان الجامعي باعتباره دورا مماثلا للدور الذي يجب أن تنهض به الأسرة، مع تهيئة الظروف المعينة للمشرف على تأدية رسالته.
4- تنسيق الأنشطة بالإسكان الجامعي ضمن خطة النشاط العامة بما يتفق مع طبيعة الإقامة بالإسكان.
5- تأكيد ما سبقت التوصية به من العناية باختيار المشرفين المؤهلين الذين تكون لديهم الخبرة والقدرة على التوجيه والعطاء من خلال الإدارة البصيرة والقدوة الحسنة، ومعالجة ما قد يظهر من سلبيات وسط التجمع الطلابي.
6- وضع ضوابط سلوكية من خلال لوائح ونظم الإسكان ترعى السلوك القويم وتحافظ على سلامة المظهر العام، كما تتناول وسائل تأديبية لردع المخالفين.
(اللجنة الرابعة) إسكان المتزوجين:(27/345)
1- اعتبار إسكان الطلاب المتزوجين هدفا تسعى إليه العمادات تحقيقا للاستقرار النفسي للطلاب وتشجيعا لهم على الزواج المبكر.
2- ضرورة اشتمال كل المخططات العامة للمدن الجامعية على مساكن للطلاب المتزوجين تضم المنشآت الضرورية (المسجد - المدرسة الابتدائية - العيادة الطبية) .
3- توفير الإشراف والرعاية المتكاملة للطلاب وأسرهم.
4- صرف بدل تغذية للطلاب المتزوجين لا يقل عن خمسمائة ريال شهريا.
5- زيادة بدب السن للطالب المتزوج إلى 000ر18 ريال سنويا.
6- تسهيل إجراءات استقدام زوجات طلاب المنح وتيسير إجراءات صرف إعانة السكن لهم.
قرار بالتشكيل الجديد للمجلس العلمي للجامعة الإسلامية وتعريف بصلاحياته وإنجازاته ومشروعاته المستقبلية
صدر مؤخرا قرار من فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالتشكيل الجديد للمجلس العلمي للجامعة، وقد أسندت رئاسة هذا المجلس إلى صاحب الفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد، وهو أقدم أستاذ في الجامعة الإسلامية، وذو كفاءة علمية نادرة وخبرة واسعة في شؤون البحث العلمي في مختلف مجالات الدراسات الإسلامية والعربية، وتولى فضيلته منصب نائب رئيس الجامعة فترة من الزمن، وقد ضم المجلس في ظل هذا التشكيل الجديد كلاً من أصحاب الفضيلة:
1- فضيلة الدكتور عبد العزيز القاري عميد كلية القرآن.
2- فضيلة الدكتور أحمد عطية الغامدي عميد كلية الدعوة وأصول الدين.
3- فضيلة الدكتور أكرم ضياء العمري الأستاذ بقسم الدراسات العليا.
4- فضيلة الدكتور ربيع بن هادي مدخلي الأستاذ المساعد بكلية الحديث.
5- فضيلة الدكتور عبد العظيم الشناوي الأستاذ بكلية اللغة العربية.
6- فضيلة الدكتور عبد الله الغنيمان الأستاذ المشارك في الجامعة.(27/346)
هذا المجلس العلمي أحد المجالس المتخصصة، وقد أنشئ بموجب نص المادة 30 من نظام الجامعة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/70 في 7/8/1395هـ.
وقد حددت اللائحة اختصاصاته فيما يلي:
1- وضع السياسة التي يسير عليها المجلس في إعداد البحوث العلمية والتأليف والترجمة وتجميع التراث الإسلامي وتوفير العناية بحفظه وتحقيقه ونشره.
2- تنظيم القيام بهذه الأعمال وتوجيهها بما يحقق أهداف الجامعة منها، والإشراف عليها ووضع قواعد تشجيعها وإعداد الخطط والبرامج لتنفيذها ومتابعتها وتيسير سيل التنفيذ.
3- اقتراح إنشاء مراكز البحث العلمي والتنسيق بينها والإشراف عليها ومتابعة جهودها وتوجيهها.
4- تنظيم الصلة مع مراكز البحوث المختلفة خارج الجامعة والتعاون معها في المجالات العلمية في إطار أهداف الجامعة.
5- تحديد المكافآت التشجيعية والتقديرية على الأعمال العلمية.
6- نشر ما يرى نشره من بحوث ومؤلفات وكتب مترجمة وإصدار المجلات التي تخدم أغراضه.
7- التوصية بإنشاء الجمعيات العلمية ومتاحف التراث الإسلامي والتنسيق بينها.
8- التوصية بأن تبتني الجامعة عقد مؤتمرات علمية محلية أو إقليمية أو عالمية، والمشاركة في تنظيمها وأعمالها.
9- وضع القواعد المنظمة لاتصال أعضاء هيئة التدريس بالجامعة ومن في حكمهم بالهيئات والمؤسسات العلمية لتشجيعهم على ذلك، ولتنظيم مشاركتهم في المؤتمرات والندوات العلمية داخل المملكة وخارجها.
10- اقتراح الميزانية السنوية للمجلس.
11- تقديم تقرير سنوي شامل عن أعمال المجلس إلى رئيس الجامعة في موعد لا يتجاوز الشهر الثاني من انتهاء العام الدراسي.
أعم إنجازات السابقة للمجلس العلمي:
بدأ المجلس أعماله بعد استكماله تشكيله وتحديد اختصاصاته منذ عام 1399/1400هوتمت له خلال المدة الوجيز الإنجازات الآتية:(27/347)
- في مجال البحوث العلمية والتأليف بلغ عدد الكتب والرسائل التي نظر فيها المجلس نحوا من أربعين كتابا ورسالة ونشرة قدمها أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وغيرهم، وأجاز منها ما رآه موافقا للمستوى المطلوب في ضوء المقاييس العلمية الجامعية.
وقد تم طبع الكتب والرسائل العلمية الآتية:
1- أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لمحمد بن الحسن بن زبالة، المتوفى عام 199هـ.
2- الضعفاء، لأبي زرعة الرازي.
3- البيهقي وموقفه من الإلهيات.
4- كتاب الإيمان لابن مندة.
5- مرويات غزوة بني المصطلق.
وقد أحال المجلس الكتب الآتية للطبع، وهي:
1- كتاب الطبقات لابن سعد، قطعة كبيرة متعلقة بتراجم أهل المدينة تنشر لأول مرة.
2- سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني.
وهناك سبعة كتب أخرى تحت الطبع.
وقرر إحالة بعض ما وصله من كتب ومؤلفات لعدد من الخبراء المختصين لدراستها وكتابة تقارير عن صلاحيتها للنشر من حيث اتصافها بالأصالة والابتكار، وتحقيقها لأهداف الجامعة أو عد صلاحيتها.
ومن انجازات المجلس العلمي في دوراته السابقة دراسة التقويم القمري الموحد الذي أعدته لجنة انعقدت في استنبول.
كما أوصت باستخدام الحرف العربي في كتابة اللغات الإفريقية بناء على المذكرة الواردة إلى الجامعة الإسلامية من رابطة العالم الإسلامي، وكلف المجلس بتقديم دراسة حول هذا الموضوع.
كما قرر البدء في تحقيق مخطوط إتحاف المهرة بأطراف العشرة، للحافظ ابن حجر العسقلاني.
هذا، والمأمول من المجلس العلمي - بعون الله وتوفيقه - بعد صدور القرار بتشكيله الجيد أن يحقق كثيرا من الإنجازات في مجال البحث العلمي سواء في مجال التأليف أو التحقيق أو الترجمة مما يعمل على تزويد المكتبة العربية الإسلامية بروائع الذخائر في مختلف مجالات المعرفة التي تخدم رسالة الإسلام.(27/348)
إنشاء شبكة تلفزيونية مغلقة في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية
يجري العمل حاليا في تركيب شبكة تلفزيونية حديثة مغلقة في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث من المتوقع أن تقوم هذه الشبكة بعد الانتهاء من تجهيزها بتسجيل جميع أوجه النشاط المختلفة والتي تتم داخل القاعة من عقد الندوات، وإلقاء المحاضرات، وإقامة المحاضرات ومناقشة الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه.
ويمكن عن طريق هذه الشبكة إعادة عرض المواد المسجلة عن هذه النشاطات على طلبة الجامعة وزوارها.
هذا ويقوم المركز الدولي للإلكترونيات بتركيب أجهزة هذه الشبكة كما يقوم نفس المركز بأعمال الصيانة لإدارة هذه الشبكة لمدة عام تتم خلاله عملية وإعداد الفنيين اللازمين لإدارة وصيانة وتشغيل هذه الشبكة من داخل الجامعة.
نشاط علمي وثقافي
شهدت قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة نشاطا علميا وثقافيا متعدد الجوانب في خدمة أهداف الجامعة وتحقيق رسالتها.
ففي مجال النشاط العلمي نوقشت خلال هذه الفترة مجموعة كبيرة من الرسائل العلمية من قسم الدراسات العليا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه ومن ذلك:
1- رسالة ماجستير موضوعها: تأثير القرآن في دراسة اللغة العربية في القرون الثلاثة الأولى، قدمها الطالب السعودي الجنسية عبد الرحمن محمد سعد الحجيلي، ونوقشت يوم الاثنين 1/1/1403هـ.
2- رسالة ماجستير موضوعها: منهج لتصنيف موسوعة حديثية، قدمها الطالب عبد القادر أحمد عبد القادر، مصري الجنسية، ونوقشت يوم 10/1/1403هـ.
3- رسالة ماجستير موضوعها: فواتح السور في القرآن الكريم، قدمها الطالب فاروق حسين محمد أمين، مصري الجنسية، ونوقشت يوم 11/1 /1403هـ.
4- رسالة ماجستير موضوعها: أحكام الغنيمة والفيء في الشريعة الإسلامية، قدمها الطالب عواض هلال العمري، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 13/1/1403هـ.(27/349)
5- رسالة ماجستير موضوعها: أحاديث الهجرة، جمع ودراسة وتحقيق، قدمها الطالب سليمان بن علي السعود، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 17/1/1403هـ.
6- رسالة ماجستير موضوعها: سعيد بن جبير ومروياته في التفسير، قدمها الطالب محمد أيوب محمد يوسف، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 23/1/1403هـ.
7- رسالة دكتوراه موضوعها: الحكم ذو الكفاية، قدمها الطالب عبد الله عمر محمد الأمين الشنقيطي، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 18/1/1403هـ.
8- رسالة ماجستير موضوعها: المطلق والمقيد وأثرهما في اختلاف الأحكام، قدمها الطالب حمد حمدي الصاعدي، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 24/1/1403هـ.
9- رسالة ماجستير موضوعها: أحكام العدة في الفقه الإسلامي، قدمها الطالب سامي محمد حسن ديولي، سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 27/1/1403هـ.
10- رسالة ماجستير موضوعها: الإجماع حقيقته وحجيته وإمكانه، قدمها الطالب قواز بن فراغ المحمادي سعودي الجنسية، ونوقشت يوم 10/2/1403.
11- رسالة ماجستير موضوعها: الدعوة الإسلامية في مواجهة التبشير في إندونيسيا، قدمها الطالب مسعدي سلطاني إندونيسي الجنسة، ونوقشت يوم 24/1403هـ.
12- رسالة ماجستير موضوعها: (دور العلماء والدعوة الإسلامية في نيجيريا في العصر الحاضر) قدمها الطالب عبد الحفيظ أحمد قلورنشو، ونوقشت يوم 1/3/1403هـ.
680 منحة دراسية هذا العام
تم في هذا العام اعتماد وقبول 680 طالبا من جميع أقطار العالم الإسلامي والأقليات المسلمة في بعض الدول غير الإسلامية في الجامعة الإسلامية للعام الجامعي 1402هـ/1403هـ.
ويأتي ذلك في إطار جهود الجامعة المستمرة لنشر الدعوة الإسلامية في جميع أقطار العالم وفتح المجال أمام أبناء المسلمين لتلقي تعاليم الإسلام.
صياغة الشيخ محمود محمد سالم(27/350)
من تراثنا الشعري
قال حسان بن ثابت يرثي النبي صلى الله عليه وسلم
ما بال عيني لا تنام كأنما
كُحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهديّ أصبح ثاويا
يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
جَنبي يقيك الترب لهفي ليتني
غيِّبت قبلك في بقيع الغرقد
أأقيك بعدك بالمدينة بينهم
يا لهف نفسي ليتني لم أولد
بأبي وأمي من شهدت وفاته
في يوم الاثنين النبي المهتدي
فظللت بعد وفاته متلدِّدا
يا ليتني صبِّحت سمّ الأسود
أو حل أمر الله فينا عاجلا
من يومنا في رَوحة أو في غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا
محضا ضرائبه كريم المحتد
يا بِكر آمنة المبارك ذكره
ولدتك محصنة بسعد الأسعد
نورا أضاء على البرية كلها
من يهد للنور المبارك يعتد
يا رب فاجمعنا معا ونبينا
في جنة تنبي عيون الحُسّد
في جنة الفردوس واكتبها لنا
يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد(27/351)
شاطئ الأحزان
الشاعر المهاجر
رتّل البحر للشواطي لحونه
فسرى الوجد هينمات حنونَه
والمويجات تحضن الرمل نوشى
ليس فيها مجانة أو رعونة
يسمعُ الليل خاشعا وشوشات
لم تكر سباته أو سكونه
والنجيمات خفقها كفؤادي
وهي للأرض والسموات زينه
والقُمير الخجول يغضي حياء
قدرة الله أبدعت عرجونه
إيه يا بحر أين أهلوك راحوا
لا شرع ملوح لا سفينه
غير سرب القطا يتهادى
من خدين مهاجرا أو خدينه
تتنادى وهدأة الليل فيها
يمرح الشوق والأماني الدفينه
أيها الطائر المغنّي سلاما
وادن مني وخذ حياتي رهينه
أبلغ الأهل شقوتي واغترابي
عن عذابي وعن دموعي السخينه
شردتنا إلى البلايا خئون
ذات غدر وأمّة ملعونه
أمة قد طغت وعاثت فسادا
أمعنت خسة وفاحت عفونه
أمة الغدر همها قتل شيخ
ذبح أم بطفلها مقرونه
والكعوب الغلاظ داست عليه
والنضال الحداد حزّت وتينه
منذ موسى ومنذ هارون كانت
يشهد الله والبرايا خئونه
أفرغت حقدها بظلم علينا
طائرات غدارة مجنونه
تنشر الرعب في قلوب الضحايا
تزرع السّهد في العيون الأمينه
رب طفل تناوشته الشظايا
أو كعاب مهيضة مكنونه
عرضها صادر للطواغيت نهبا
بعد أن كان الحَصان المصونه
أمتي لم تزل على القدس تبكي
مثل أنثى ضعيفة مسكينه
أمتي لم تزل على الشوك تحبو
وهي باللهو دائما مفتونه
تطلب العدل من قلوب شحاح
ملؤها الحقد والأذى والضغينه
(ريجنٌ) (بيجنٌ) ككل حقود
أي سلم لديهم يعطونه؟
يؤخذ القدس عنوة واقتدارا
مثلما الليث راح يحمي عرينه
ليس تجديه سابغات القوافي
أو شعار مجوّف يلقونه
أو مقال يُعربد الحرف فيه
من يراع شَبَاته مسنونه
خدروه بجفنة من وعود
ثم راحوا عشية يبكونه(27/352)
والعدو اللئيم يبدي رضاه
(والحبيب) البغيض يبدي شجونه
ثم حاروا بدفنه في فلاة
قد كفيناك يا حبيب المئونه
تذرع الشرق تنشر العدل فيه
خطوات كريمة ميمونه
تأمر الشاة والسكاكين كثر
وبالتأني وبالتزام المرونه
أنت صُغت النشيد عذبا شجيا
ثم ابدعت في الدجى تلحينه
والعزيز العزيز منا مطيع
فلتبادر ولا تخف ما دونه
والطريق الطويل أمسى قصيرا
والتواقيع أصبحت مضمونه
ليس يجدي وقد سهرنا الليالي
مسجد القدس أن نعدّ أنينه
ليس بالدمع يدقع الظلم عنه
أو يعيد اللغو الغبي سنينه
بل بحرب نوحد الله فيها
ينصر الله في الملمات دينه(27/353)
الخَبيثَةُ أمُّ الخبَائِثِ
للشيخ عبد الفتاح عشماوي
المدرس في كلية الحديث الشريف
مما لا شك فيه أن سعادة الإنسان مرتبطة بعقله. والعقل من الإنسان كالقطب من الرحى أو الشمس من الكون أو الروح من الجسد.
به يعرف الخير من الشر والضار من النافع والهدى من الضلال، وبه رفع الله شأن الإنسان. ففضله وكرمه على كثير من خلقه. خاطبه وكلفه واستخلفه في الأرض وجعله مسئولاً أمامه عما يأتي: وعما يذر.
وحفظاً لهذه النعمة الكبرى حرم الله عليه أن يندفع مع شهوته الفاسدة إلى تناول ما يفسد تلك النعمة أو يضعفها. فيحرم من آثار الطيبة وينزل عن المكانة السامية التي وضعه الله فيها.
ومن أجل ذلك حرم الله عليه الخمر.
التدرج في تحريمها:
وقد كان الناس يشربون الخمر حتى هاجر الرسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فكثر سؤال المسلمين عنها وعن لعب الميسر لما كانوا يرون من شرورهما ومفاسدهما. فأنزل الله عز وجل:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} سورة البقرة آية 219.
أي أن في تعاطيهما ذنباً كبيرا. لما فيهما من الأضرار والمفاسد الجسدية والدينية. وأن فيهما كذلك منافع للناس. وهذه المنافع مادية وهي الربح بالاتجار في الخمر وكسب المال دون عناء في الميسر. ومع ذلك فإن الإثم أرجح من المنافع فيهما. وفي هذا ترجيح لجانب التحريم وليس تحريماً قاطعاً، وتسابق الكثير إلى تركها اكتفاء بترجيح المعنى للترك.
ثم نزل بعد ذلك التحريم القاطع أثناء الصلاة تدرجاً مع الناس الذين ألفوها وعدوه جزءاً من حياتهم قال الله (سبحانه وتعالى) :(27/354)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} سورة النساء آية 43.
وكان سبب نزول هذه الآية أن رجل صلى وهو سكران فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ..} إلى آخر السورة بدون ذكر النفي. وكان ذلك تمهيداً للبت في أمرها، ثم نزل حكم الله بتحريمها نهائياً. قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} سورة المائدة: آية 90- 91.
فقال عمر رضي الله عنه: " انتهينا يا رب، فقد كان هو صاحب هذه الدعوة المجابة ".
وقد احتوت الآية على جملة من أساليب التحريم القوية القاطعة.
فأولاً: نظمت الخمر مع مظاهر الشرك في توحيد الله وعبادته وهي الأنصاب. والأزلام في سلك واحد.
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} .
ثانياً: وصفت الجميع بأنه (رجس) واستخدمت كلمة (إنما) الدالة على أنه لا صفة لها سوى الرجسية. وبتتبع كلمة (رجس) في القران الكريم لم نجدها إلا عنوانا على ما اشتد قبحه وعظم عند الله جُرمه.
قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان} .
{فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} .
{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} .
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .(27/355)
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} .
وهكذا اندرج شرب الخمر مع الكفر والكافرين وعبادة الأوثان تحت كلمة (رجس) .
ثالثاً: وصفت الآية الخمر بأنها من عمل الشيطان وهو كناية في اللسان العربي وفي الأسلوب القرآني على غاية الفحش ونهاية الشر.
رابعاً: أمرت الآية باجتنابه ومعناه أن تكون الخمر في جانب والمؤمن في جانب ناء منها بحيث لا يقربها فضلاً عن أن يتصل بها فضلاً عن أن يتناولها.
خامسا: علقت الآية على اجتنابه رجاء الفلاح. والفلاح يتضمن السلامة من الخسران والحصول على خيري الدنيا والآخرة وأرشد ذلك إلى أن الاقتراب من الخمر يوقع في الخسران العام المطلق.
سادساً: أرشدت الآية إلى أثره السيئ في علاقة الناس بعضهم مع بعض، بقطع الصلات. ويعد لسفك الدماء. وانتهاك الحرمات التي عظمها الله.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} .
سابعاً: سجلت الآية أن من آثار الخمر بعد هذا الضرر الاجتماعي ضرراً آخر روحياً يقطع صلة الإنسان بربه. وينزع من نفسه تذكر عظمة الله عن طريق مراقبته بالصلاة الخاشعة. وتذكر جماله وجلاله، وذلك بما يترك في القلب من قسوة وفي النفس من دنس.
{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .
وأخيراً تختم الآية هذه الجهات كلها بهذا الاستفهام التقريعي الدال على غاية التهديد.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . أي انتهوا وإلا، فعقاب ماحِق لمن لم ينته.
تلك أساليب التحريم التي تضمنتها آية الخمر وأنه لفي الواحد منها ما يملأ قلب المؤمن بربه رهبة من غضبه إذا ما حدثته نفسه أن يقترب من الخمر بما يلوث من نتنه، وهذه الآية آخرها ما نزل في حكم الخمر وهي قاضية بتحريمها تحريماً مُرْهِباً.
وأخرج عبد الله بن حميد عن عطاء قال:(27/356)
أول ما نزل من تحريم الخمر: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها، وقال الآخرون: لا خير في شيء فيه إثم.
ثم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .
فقال بعض الناس: نشربها ونجلس في بيوتنا. وقال آخرون: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين. فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فنهاهم فانتهوا. وكان هذا التحريم بعد غزوة الأحزاب.
وعن قتادة: " أن الله حرم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب وكانت غزوة الأحزاب سنة أربع أو خمس هجرية ".
وذكر ابن إسحاق أن التحريم كان في غزوة بني النضير وكانت سنة أربع هجرية على الراجح.
تشديد الإسلام في تحريم الخمر:
وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الإسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها. وما من شك في أن أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها ولا سيما العقل.
وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له. فالقتل والعدوان والفحش وإفشاء الأسرار وخيانة الأوطان من آثاره.
وهذا الشر يصل إلى نفس الإنسان وإلى أصدقائه وجيرانه وإلى كل من يسوقه حظه التعس إلى الاقتراب منه.(27/357)
فعن علي كرم الله وجهه: أنه كان مع عمه حمزة وكان له شارفان (ناقتان مسنتان) أراد أن يجمع عليهما الإذخِر. وهو نبات طيب الرائحة - مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة رضي الله عنها - عند إرادة البناء بها -.
وكان عمه حمزة يشرب الخمر مع بعض الأنصار ومعه قينة تغنيه فأنشدت شعراً حثته به على نحر الناقتين. وأخذ أطايبهما ليأكل منها. فثار حمزة وقطع أسنمتها وأخذ من كبديهما فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل النبي صلى الله عليه وسلم. على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة. فتغيظ عليه
وطفق يلومه - وكان حمزة ثملا احمرت عيناه. فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه: " وهل أنتم إلا عبيد لأبي ".
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل. نكص على عقبيه القهقرى وخرج هو ومن معه.
هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها وتفقده وعيه ولهذا أطلق عليها الشرع أم الخبائث.
ومما يروى من آثار الخمر. أن قيس بن عاصم المنقري كان شراباً لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه. وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران. وسب أبويه ورأى القمر فتكلم بشيء وأعطى الخمار كثيرا من ماله فلما أفاق أخبر بذلك وحرمها على نفسه وفيها يقول:
رأيت الخمر صالحة وفيها
خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا
ولا أشفى بها أبداً سقيما
ولا أعطى بها ثمنا حياتي
ولا أدعو لها أبداً نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها
وتجنبهم بها الأمر العظيما
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:
" الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر. ومن شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته ".
- رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو. وكذا من حديث ابن عباس بلفظ – " من شربها وقع على أمه ".(27/358)
وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها ولعن بتعاطيها وكل من له صلة واعتبره خارجاً عن الإيمان.
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشترى له " رواه ابن ماجة والترمذي. وقال حديث غريب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وجعل جزاء من يتناولها في الدنيا أن يحرم منها في الآخرة لأنه استعجل سيئا فجوزي بالحرمان منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة ".
السنة والإجماع في تحريم الخمر:
جاء في السنة النبوية تأكيد تحريم الخمر عينا بأحاديث عديدة ثابتة.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم " حرّمت الخمر بعينها والسَّمرُ من كل شراب " ويروى " لعينها " ويروى " بعينها قليلها وكثيرها " [1]
وقوله عليه الصلاة والسلام: " من شرب الخمر فاجلدوه ".
ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر.
وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على تحريما. وبذلك استقرت الحرمة حكماً للخمر في الإسلام وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة. ومن لوازم ذلك أن من استحلها وأنكر حرمتها يكون خارجاً من الإسلام.
وإن من يتناولها طائعاً مختاراً مقراً بحرمتها يكون فاسقا عن أمر الله. خارجاً على حدوده عاصياً لأحكامه.
ولا خلاف في هذا لأحد من ذوي الفهم في النصوص والأحكام سةاء أخذت شرباً أو بطرق آخر.(27/359)
وبعد هذا كله ما زلنا نجد بعض الناس يقولون بأنه لم يرد نص صريح في تحريم الخمر فلم يأت: حرمت عليكم الخمر. كما جاء في القران: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
ونقول لهؤلاء: إن تحريم الخمر في القران تحريم قاطع لا شك فيه ولا يصح الجدال حوله بل إن قول الله سبحانه {فَاجْتَنِبُوهُ} أقوى وأبلغ واشد تحريماً مما لو قال سبحانه وتعالى: حرمت عليكم الخمر، بل إنه حرم حملها والجلوس على مائدة يتناول فيها الخمر. والجلوس مع من يتناولها. والاقتراب منها بأي شكل كان.
يلاحظ مثلاً ومنذ بدء الخليقة أن الحق سبحانه حين قال لآدم كل من كل شيء في الجنة ولا تأكل من هذه الشجرة.
قال لآدم وحواء وهو يأمرهم بالامتناع عن الأكل من الشجرة المحرمة {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} لم يقل لهما: لا تأكلان من هذه الشجرة وإنما قال لا تقربا هذه الشجرة.
ما الفرق بين أن يقول سبحانه وتعالى لا تأكل من هذه الشجرة. وأن يقول لا تقربا هذه الشجرة؟
فكأن محارم الله يجب أن يبتعد عنها وعن نطاقها. لا تقترب أبداً لأن القرب منها قد يغري الإنسان بها قد تفتح باب الشيطان في الإنسان فيقع في المعصية.
إذن لا تقربا هذه الشجرة أبلغ وأشد في الإحتياط من لا تأكلا منها، لأنه، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال: لا تأكلا، لكان من الممكن أن يذهب الإنسان إلى الشجرة ويجلس بجوارها ويتغزل في محاسنها وينظر إلى ثمارها بحسرة ولكنه لا يأكل منها وحينئذ لا يكون مخالفاً لأمر الله، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجنب البشر ذلك الذي يقربهم من المعصية وتفتح في نفوسهم باب الشيطان.
ومن هنا حين قال لآدم وحواء لا تقربا هذه الشجرة كان يعني لا تقربا منها ابدأ - لأن القرب منها بداية المعصية وفتح الباب أمام هوى النفس وإغراء الشيطان، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.(27/360)
ولذلك يلاحظ في القران أن كل شيء محرم يقول الله سبحانه وتعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} لكن في المحللات يقول: {فَلا تَعْتَدُوهَا} تتجاوزوها.
ونقول لمن يردد أن الخمر لم يرد فيها نص تحريمي كما حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير نقول لهم: إنكم لم تفهموا مدلولات اللغة ولا مدلولات القران الكريم.
فالاجتناب أقوى من التحريم بدليل أن الاجتناب جاء في قمة العقيدة قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} فكلمة اجتناب هنا في ماذا؟.
في قمة الأيمان وقمة العقيدة. فهل معنى ذلك أن عبادة الشيطان غير محرمة بل مكروهة؟.
وأن عبادة الأصنام غير محرمة بل مكروهة؟.
إن الاجتناب أقوى من التحريم. وإلا لم يكن الله سبحانه وتعالى ليستخدم هذا اللفظ في قمة العبادات وفي قمة الايمان.
فقول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُو هـ} معناه أنه ممنوع على المسلم أن يوجد مع الخمر في أي مكان أو مع أناس يشربونه أو يحمله لمن يشربه. أو يتاجر فيه ويتخذه وسيلة للرزق.
فالذين يقولون إن الخمر لم تحرم في كتاب الله. قوم يجهلون أساليب التحريم في كتاب الله وفي سنة رسوله. بل هناك من يحاول طمس الحقائق عن طريق الخداع وإلباس الحق بالباطل كيداً للمسلمين. وانتزاعاً لهم من دينهم وطمساً لشعائرهم وتحريضاً لهم على اقتحام محرمات الله باسم الفهم والرأي. وما مقصدهم في الحقيقة إلا الكيد للإسلام وإلا الخديعة للمسلمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه " رواه أحمد وابن ماجه وقال تشرب مكان (تستحل) .
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها " رواه ابن ماجه: نيل الأوطار جـ 8 ص 203.(27/361)
فهؤلاء الذين تكلم عنهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم يستحلون أو يشربون الخمر باسم غير اسم الخمر فكأنهم يتحايلون على تحريم الخمر بتسميتها باسم آخر.
ما هي الخمر: سأتعرض لتعريف الخمر في اللغة وتعريفها في الكيمياء وتعريفها في الفقه الإسلامي.
تعريفها اللغوي: الخمر في اللغة تذكر وتؤنث فيقال: هي الخمر وأنكر بعضهم التذكير. وقال إن الخمر مؤنثة فقط.
والخمر هو ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل والتخمير التغطية. يقال خمر وجهه. وخمر إناءه أي غطاها.
والمخامرة أيضاً المخالطة. وقال ابن الأعرابي: " وسميت الخمر خمراً لأنها تركت فاختمرت. واختمارها تغير ريحها ".
وقيل سميت بذلك لمخامرتها العقل. ويقال: خمرة وخمر وخمور. مثل: تمرة وتمر وتمور.
تعريف الخمر في الكيمياء [2] : الخمر هي الشربة التي بها كمية من الكحول - والكحول أو الوْل في أصل اللغة العربية هو ما ينشأ عنه بعد شرب الخمر صداع وسكر لأنه يغتال العقل.
وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن خمر الجنة هذه الصفة فقال تعالى {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} والغول (الكحول) هو اسم عام يطلق على جملة من المركبات الكيماوي لها خصائص متشابهة ومكونة من ذرات (الهيدروجين) و (الكربون) (الفحم) وآخرها مجموعة (هيدرو كسيلية) أي ذرتي (أوكسجين) و (هايدروجين) وهذه المركبات تدعى: ((الغولات – أو (الأغوال) جمع غَوْل. ومنها الكحول المثيلى.
ولما كان الكحول الأثيلي أكثرها شيوعاً واستعمالاً اصطلح العلماء على تخصيصه باسم الكحول. وهو روح الخمر. والأسبرتو الذي يستخدم للوقود يحتوي في العادة على الكحول المثيلي السام، إذ تضيفه الحكومات عمداً حتى لا يشرب، ولذا كان شرب السبرتو مميتاً في أغلب الحالات على الفور. بينما شرب الخمر مميت على المدى الطويل.(27/362)
وتتكون الكحول في الخمر بواسطة (أنزيمات) خمائر – تقوم بتحويل المواد السكرية الموجودة في الفواكه مثل العنب والرطب والتين.
والمواد النشوية الموجودة في الشعير والذرة والحنطة إلى كحول أثيلي وذلك بعمليات بطيئة متتابعة.
وقد كانت هذه الطريقة تستعمل منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا للحصول على الخمور. وبهذه الطريقة يمكن الحصول على جميع أنواع المشروبات المخمرة بمفهومها القديم مثل (الجعّة) وغيرها.
أو بمفهومها الحديث مثل الشيلي والشامبانيا وغيرهما. وفي العصر الحاضر تزرع هذه الخميرة في المختبرات وتضاف إلى الفواكه بكميات ومقادير محسوبة وتوضعه في درجة حرارة ملائمة حتى تسرع عملية التخمر الذاتي.
وهكذا يتحول السكر إلى كحول أثيلي وثاني أكسيد كربون وماء.
تعريف الخمر في الفقه الإسلامي:
(هو كل ما أسكر سواء كان عصيراً أو نقيعاً من العنب أو ومن غيره مطبوخاً أو غير مطبوخ) .
والمعلوم أن كل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمراً، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه فما كان مسكراً من أي نوع من الأنواع فهو خمر شرعاً. ويأخذ حكمه. يستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الأشياء إذ أن ذلك كله خمر محرم لضرره الخاص والعام. ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة ولا يقاعه العداوة والبغضاء بين الناس.
والشارع لا يفرق بين شرابين كلاهما مسكر ولو اختلف أصلهما، فيبيح القليل من صنف ويحرم القليل من صنف آخر، بل يسوى بينهما – وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما فإنه كذلك قد حرم القليل من الآخر، وقد جاءت النصوص صريحة لا تحتمل التأويل.
فقد روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر. وكل خمر حرام ".(27/363)
وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما بعد. أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل ".
هذا الذي قاله أمير المؤمنين. وهو القول الفصل لأنه أعرف باللغة وأعلم بالشرع. ولم ينقل أن أحداً من الصحابة خالفه فيما ذهب إليه.
وروى مسلم عن جابر: أن رجلاً من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له (المزر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسكر هو؟ " قال نعم فقال صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام … إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ". قالوا يا رسول الله: وما طينة الخبال؟
قال: " عرق أهل النار " أو قال: " عصارة أهل النار ".
وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال:
قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعها باليمن (البتع) وهو من العسل حين يشتد – (والمزر) وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم بخواتيمه. قال: " كل مسكر حرام ".
هذا هو رأي جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين.
وهذه أنواع الخمور التي كانت توجد أساساً فهل يقتصر التحريم على هذه الأنواع الخمسة فقط أم أن هناك أنواعاً مستحدثة وأسماء جديدة؟ !!!.
أهم الأنواع التي استحدثت من الخمر: هناك مثلاً (البراندي) (والوسكي) (والروم) (والليكبر) ، وغيرها. وتبلغ نسبة الكحول فيها من 40 % إلى 60 % وتبلغ النسبة في (الجن) و (الهولاندي) و (الجنيفا) من 33 % إلى 40 % وهناك أيضاً أصنافاً أخرى مثل (البورت) و (الشرى) و (الماديرا) وتحتوي على 15 % إلى 25 %.(27/364)
وتحتوي الخمور الخفيفة مثل (الكلارت) و (الهوك) و (الشامبانيا) و (البرجاندي) على 10 % إلى 15 %.
وأنواع البيرة الخفيفة على 2 % إلى 9 % مثل (الأيل) و (البورتر) و (الاستوت) و (الميونيخ) وغيرها.
كما أن هناك أصنافاً أخرى تحتوي على نفس النسب الأخيرة مثل (البوظة) والقصب المتخمر وغيرهما [3] .
سر تحريم الخمر: عندما قرر الإسلام حرمة الخمر وعقوبة شاربها لم ينظر إلى أنها سائل يشرب. وإنما نظر إلى الأثر الذي تحدثه في شاربها من زوال العقل الذي يفسد عليه إنسانيته ويسلبه مكانة التكريم التي منحه الله إياها. ويفسد عليه أيضاً ما يحب أن يكون بينه وبين الناس من صلات المحبة والصفاء ويطوع له مع هذا انتهاك الأعراض وقتل النفس ويعكر عليه صفو المعرفة بالله الناشئة عن مراقبته وتذكر عظمته.
وذلك عنوان أضرارها الروحية والاجتماعية التي حرمت لأجلها كما تضمنها وأشار إليها بأساليب التحريم المتعددة القوية قوله تعالى من سورة المائدة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
وقد كشف الوحي الإنساني في ضوء هذا الوحي الإلهي الكريم أن للخمر مع هذه الأضرار أضراراً أخرى أجمع عليها الأطباء المتخصصون في أمراض الكبد والمعدة والقلب وسائر الأجهزة.
وقد ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية من باريس في شهر مايو 1956 م أن معهد الإحصاء الفرنسي أذاع في 25 من مايو سنة 1958 م أن الخمور بدأت من الفرنسيين أكثر مما لا يقتل مرض السل.(27/365)
وقال المعهد أن 17,400 فرنسي ماتوا في العام الماضي من الخمر بينما لم يمت سوى 12,000 بالسل هذا التقرير رسمي عماده معهد الإحصاء القومي في فرنسا لضحايا كل من الخمر والسل.
وحسْب الذين يميلون إلى الخمر أو يحاولون خديعة الناس عن حكمها في الإسلام أن يعرفوا ذلك ليتبين لهم كيف يرحمهم الله الحكيم بتحريم الخمر وكيف يصورها لهم بأنها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وأي رجس بعد هذا؟ !!!.
وهذا كله فوق ما يحدثه شربها من الأضرار الاقتصادية التي تذهب بأموال شاربها سفهاً بغير علم إلى خزائن الذين اصطنعوها وصدروها وتفننوا في سبيل الإعلان عنها والإغراء بها. وفوق ما تحدثه من الأضرار الأدبية في الذهاب بالحشيمة والوقار واحترام الأهل والأبناء والأصدقاء. وفوق التوارث لرجسيتها بين الآباء والأبناء والأحفاد. ولهذا كله حرم الإسلام الخمر.
وقد نشرت مجلة التمدن الإسلامي ملخصاً لأضرار الخمر بقلم الدكتور عبد الوهاب خليل. يتحدث فيه عن أضرار الخمر النفسية والبدنية والخليقة وما يترتب عليها من آثار سيئة.
فقالت … " وإذا سألنا جميع العلماء سواء علماء الدين أو الطب أو الأخلاق أو الاجتماع أو الاقتصاد وأخذنا رأيهم في تعاطي المسكرات لكان جواب الكل واحداً:
وهو منع تعاطيها منعاً باتاً لنها ضرراً فادحاً ".
فعلماء الدين يقولون: إنها محرمة وما حرمت إلا أنها أم الخبائث.
وعلماء الطب يقولون: إنها من أعظم الأخطار التي تهدد نوع البشر لا بما تورثه مباشرة من الأضرار السامة فحسب بل بعواقبها الوخيمة أيضاً.
إذ أنها تمهد السبيل لخطر لا يقل ضرراً عنها، ألا وهو السل.
والخمر توهن الجسم وتجعله أضعف مقاومة وجلداً في كثير من الأمراض مطلقاً. لأنها تؤثر في جميع أجهزة البدن وخاصة في الكبد.(27/366)
وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الأسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام لا لمستعملها فقط بل وفي أعقابه من بعده.
فهي إذن علة الشقاء والبؤس. وهي جرثومة الإفلاس والمسكنة والمذلة. وما نزلت بقوم إلا أودت بهم مادة ومعنى بدناً وروحاً جسماً وعقلاً.
وعلماء الأخلاق يقولون: لكي يكون الإنسان محافظاً على الرزانة والعفة والشرف والنخوة والمروءة. يلزم عدم تناول شيء يضيع به هذه الصفات الحميدة.
وعلماء الاجتماع يقولون: لكي يكون المجتمع الإنساني على غاية من النظام والترتيب يلزم عدم تعكيره بأعمال تخل بهذا النظام وعندها تصبح الفوضى سائدة. والفوضى تخلق التفرقة. والتفرقة تفيد الأعداء المتربصين.
وعلماء الاقتصاد يقولون: إن كل درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن وكل درهم نصرفه لمضرتنا فهو خسارة علينا وعلى وطننا. فكيف بهذه الملايين من الأموال التي تذهب سدى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها وتؤخرنا مالياً وتذهب بمروءتنا وتدمر مجتمعنا.
فعلى هذا الأساس نرى أن العقل يأمرنا بعدم تعاطي الخمر، لأن العقل يجب أن يعي الخير الذي يأمر الله به، وإذا أرادت الحكومة أي حكومة أخذ رأي العلماء الخبيرين في هذا المضمار فقد كفيناها مؤونة التعب في هذه السبيل وأتيناها بالجواب بدون أن تتكبد مشقة أو تصرف قرشاً واحداً. إذ جميع العقلاء متفقون على ضررها. والحكومات من الشعوب والشعوب تريد من حكوماتها رفع الضرر عنها والأذى فهي مسئولة عن رعيتها.
ويمنع المسكرات يغدوا أفراد الأمة أقوياء البنية صحيحي الجسم أقويا العزيمة ذوي عقل ناضج، وهذه من أهم الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الصحي في المجتمع كله، وكذلك هي الدعامة الأولى لصلابة البناء الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي، فتنعدم أو تقل الجرائم وكل ما يثير الاضطرابات.(27/367)
وبعدها تصبح السجون خالية تتحول إلى دور يستفاد منها بشتى الإصلاحات الاجتماعية.
هذه هي الحضارة والمدنية. وهذا هو الرقي والوعي وهذا هو المعيار والميزان لرقي الأمم. أن تشترك وتتعاون على رفع الضرر والأذى، وفتح باب العمل الجدي المنتج الواسع.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. انتهى.
هذه الأضرار الآنفة ثبتت ثبوتاً لا مجال فيه لشك أو ارتياب مما حمل كثيراً من الدول الواعية على محاربة تعاطي الخمر وغيرها من المسكرات وكان في مقدمة من حاول ذلك من الدول أريكا وروسيا أكبر دولتين ماديتين في العالم.
فقد نشر في كتاب: (تنقيحات) للسيد أبو الأعلى المودودي ما يلي:
" منعت حكومة أمريكا الخمر وطاردتها في بلادها واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة. كالمجلات والمحاضرات والصور والسينما لتهجين شربها وبيان مضارها ومفاسدها وكذا روسيا ودولاً أخرى كثيرة ليست مسلمة.
ويقدرون ما أنفقت أمريكا في الدعاية ضد الخمر بما يزيد عن 60 مليون دولار وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة زمت تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاماً لا يقل عن 250 مليون دولار.
وقد أعدم فيها 300 نفس وسجن 532‘335 نفس وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيهاً وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيهاً.
ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراماً بالخمر وعناداً في تعاطيها حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 م إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في بلادها إباحة مطلقة " انتهى.
إن أمريكا قد عجزت عجزاً تاماً عن تحريم الخمر بالرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها.(27/368)
ولكن الإسلام الذي ربى الأمة على أساس من الدين وغرس في نفوس أفرادها غراس الإيمان الحق وأحيا ضميرها بالتعاليم الصالحة والأسوة الحسنة. لم يصنع شيئاً من ذلك ولم يتكلف مثل هذا الجهد ولكنها كلمة قيلت من الله سبحانه وتعالى استجابت لها النفوس استجابة مطلقة.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
" ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ. إ ني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: في بيتنا إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ فقلنا: لا فقال: إن الخمر قد حرمت فقال: يا أنس أرق هذه القلال. قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل ". هكذا يصنع الإيمان بأهله.
تأثير الخمر على جسم الإنسان: إن صحة الأجسام وجمالها ونضرتها من الأمور التي وجه الإسلام إليها عناية فائقة واعتبرها من صميم رسالته. ولن يكون الشخص راجحاً في ميزان الإسلام محترم الجانب إلا إذا حافظ على جسمه وعقله وصانه عن كل ما يفسده.
ويقظة العقل مرتبطة بسلامة الجسد، وقد قيل: العقل السليم في الجسم السليم.
ولذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن الابتعاد عن كل ما فيه إفساد للجسم أو للعقل، قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ومما لاشك فيه أن الخمر تؤدي بشاربه إلى الهلاك المؤكد الذي أثبتته وقائع الأيام.
فمن المعلوم أن جميع السوائل المسكرة تحتوي على نسبة معينة من الكحول كما أسلفنا ترتفع وتنخفض بالنسبة لنوع السائل. فمثلاً كأس البيرة الواحد فيه من 3 – 8 % وكاس الوسكي يحتوي على نسبة 50 % من الكحول. وكأس الشمبانيا يحتوي على نسبة 20 % من الكحول. وكأس الشيرى أو اليورت يحتوي على نسبة 20 % من الكحول [4] .(27/369)
ومن المعلوم كذلك أن نسبة الكحول كلما ارتفعت نسبتها في الشراب كلما كان تأثيره السيئ على الأجهزة التي يحتويها الجسم أكثر ضرراً وأشد فتكا.
ومن المعلوم كذلك أن الذي يؤثر في أجهزة جسم الإنسان هو الكحول لذا يسمى بروح الخمر، ولهذا كما سبق يسمى في اللغة العربية بالغول لأنه يغتال العقول بل ويفتك بها.
لذا فإن الله عز وجل لما ذكر عباده المخلصين الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم وصور لهم النعيم الذي سيلقونه في إعطائه في الدار الآخرة كان من ضمن ما يتنعمون أن يطاف عليهم بخمر لذة للشاربين لأنها منقادة من الغول المجلب للصداع المنغص المكدر حقيقة للنفوس. قال تعالى:
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [5] .
ومن الدراسات الكيميائية اتضح أنه يفتك كذلك بكثير من أجهزة الجسم ولكن تأثيره المباشر والفوري يظهر أول ما يظهر على العقول.
ولما كان الكحول هو روح الخمر كما ذكر وقد أجريت دراسات علمية معملية على مدى تأثير الكحول على أجهزة جسم الإنسان. وثبت يقيناً أن للكحول وبالتالي للخمور آثار فتاكة بك أجزاء جسم الإنسان، وإن كان نسبة الضرر التي تصيب كل جزء تتفاوت عن غيرها.
ٍمن أجل هذا سأتحدث عن بعض الأضرار التي تلحق الإنسان من جراء تناوله هذه السموم.
تأثير الكحول على الجهاز العصبي للإنسان:
((أهم تأثير للكحول تخديره لخلايا المخ جميعاً. ولكن أهم الخلايا التي تصاب هي خلايا القشرة وهي الخلايا المتحكمة في الإرادة أو ما نعبر عنه بكلمة العقل)) .(27/370)
والعقل هو القوة التي خلقها الله للإنسان يستطيع بواسطتها أن يميز بين الأشياء لذا فإن الطفل تتكون عنده بالتدرج مجموعة من الموانع الأخلاقية بالتربية فالطفل يتبول، ويتغوط دون أي مانع. فإذا بلغ سن لا إله إلا التمييز ثم التكليف فإنه لا يمارس الأفعال التي كان يمارسها وهو صغير.
ووظيفة الكحول هي التأثير على هذه القوة فيصبح مرة أخرى لا يتحرج من فعل ما كان يفعله صغيراً أو ما يماثله. ويفقد الإنسان قوة التحكم فيما يأتي من أفعال. وحتى فيما ينطق به من كلمات. إذا سكر هذى وإذا هذى افترى.
ويفقد القدرة على الأعمال التي تحتاج إلى دقة كالطباعة أو قيادة السيارات بل وتختل الموازين الزمنية والمكانية. فلا يستطيع السائق المخمور أن يتحكم في السرعة وتفادى الحوادث. لذا فإن جميع الدول تحرم قيادة السيارات تحت تأثير الخمر وتشدد العقوبة حينئذ على المخمور.
وقد أثبتت الفحوص الكثيرة أن الكفاءة والمقدرة لدى الشخص المتعاطي تنخفض بمجرد شرب الكحول حتى ولو كان متعوداً عليها ولو كانت الكمية ضئيلة.
ويؤثر الكحول على دقة النظر والقدرة على السمع الجيد وعلى الشم والطعم وعلى توازن العضلات. وكذلك فإن الشخص المتعاطي لا يستطيع أن يتخذ القرار فضلاً عن القرار السريع والمناسب. ومهما كانت الكمية المتعاطاه ضئيلة [6] .
يقول الدكتور سيدني كاى. في كتابه (علم السموم) [7] .
" إن الخمر هي السبب المباشر وغير المباشر في المئة من مجموع حالات الوفاة التي يفحصها بمعمل الطب الشرعي بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة ".(27/371)
((وقد أقيمت في مدينة مانسشتر بانجلترا تجربة على أمر سائقي الاتوبيسات هناك وأعطى كل واحد منهم كمية قليلة من الخمر ثم سمح له بقيادة الاتوبيسات تحت الاختبار. ورغم الثقة الزائدة التي كانت تبدو على السائقين. إلا أن أخطاءهم كانت مروعة ومرعبة وستؤدي إلى كوارث خطيرة)) ولا يوجد شك في أن الخمر هي السبب الأ ول في حوادث السيارات والطائرات.
وما لا يقل عن خمسين في المائة من جميع حوادث السيارات. وللأسف فإن تقارير البوليس أقل من هذه النسبة وذلك لأن إثبات حالة السكر البين ليست يسيرة وبخاصة إذا كانت الكمية المتعاطاة قليلة فلا تظهر آثارها كاملة ولا ترتفع نسبة الدم إلى الحد الذي يمنعه القانون.
فالقوانين في أوربا وأمريكا تعاقب على شرب الخمر وقيادة السيارات إذا كانت النسبة مئة مليجراماً في كل مئة سنتي من الدم [8] .
الخمر والجلد:
يعتقد الناس المدمنين أن الخمر عامل من عوامل التدفئة وأنها كذلك تزيد من قوة الإنسان ونشاطه لذا فإن شارب الخمر تتورد خدوده ويكاد الدم المتدفق في وجهه أن يتدفق من وجنتيه ظل الناس على هذا الإعتقاد حنى الآن وكثير من الأطباء كذلك. أما القليل الذي يتابع الحركة العلمية للطب فقد زال عنه هذا الاعتقاد بناء على الاكتشافات الحديثة التي تقوم على التحاليل العلمية المعملية.
وقد ثبت أن الاحساس بالدفء إحساس كاذب حقيقة وذلك لأن تناول الكحول يسبب توسعاً في الأوعية الدموية للجلد نتيجة شلل مؤقت بالمركز الدموي الحركي في النخاع المستطيل.
وتزداد كمية الماء في الدم مما يترتب عليه احتقان وجه الشارب وتحمر وجناته وتحتقن الملتحمة في عينيه، فيحس الشخص بالدفء بعد تناول الكحول.
وفي حقيقة الأمر قد فقد جسمه حرارته لذا فإن الشارب قد يموت فعلاً من البرد وهو شاعر بالدفء.(27/372)
((ورغم أن الكحول تؤدي إلى تمدد الأوعية الدموية التي في الجلد وفي الجسم عامة إلا أنها لا توسع الأوعية التاجية التي تغذي القلب)) .
وهذه حقيقة مجهولة كذلك حتى عند كثير من الأطباء إلى عهد قريب. ولكن منجزات الطب الحديثة قد كشفت عن زيف هذا الاعتقاد واتضح الآن أن الأطباء الذين يصفون الخمر لمرضى ضيق الشرايين التاجية على أمل أن يحسن ذلك من الدورة التاجية. مخطئون بل إن الطب الحديث أثبت عكس ذلك فقد أثبت أن الخمر تتسبب في تصلب الشرايين التاجية للقلب ويؤدي هذا إلى الذبحات الصدرية وكذلك إلى جلطة القلب)) [9] فالخمر حقيقة داء وليست بدواء.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} .
لذا فإن أهل اليمن حينما جاء وفد منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستفتوه في شرب الخمر في الشتاء لشدة البرودة آنذاك فلم يفتهم بذلك.
وكذلك فقد روى أحمد عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض نعالج بها عملاً شديداً وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا فقال عليه الصلاة والسلام: هل يسكر؟ قلت نعم، قال: فاجتنبوه. قالت: الناس غير تاركيه. فقال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم " [10] .
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوافق على شرب الخمر مع دعوى أن شربها يستعان به على العمل وعلى البرد. وإن الطب الحديث يثبت للناس كافة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بعد مضي ألف عام وأربع مئة عام. وهو صلى الله عليه وسلم الصادق حقاً المصدق من أتباعه منذ بداية رسالته وحتى قيام الساعة.(27/373)
ولسنا نحن المسلمين. في حاجة إلى أن يكون الطب الحديث أو القديم موافقا أو مخالفا. ولكن نقول ذلك لمن ران على قلوبهم، أو علت أعينهم غشاوة فقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم متى صح عنه فهو الحق فإذا خالفه قول أو بحث في زمن من الأزمنة فهو الجهل، وإذا وافقه علم أو بحث صُدِّق البحث بقول الرسول بالبحث. وهذ قاعدة يسير عليها أهل العلم والإيمان.
الخمر والجنس:
يظن الكثير أن الخمر تزيد من القدرة الجنسية، وهذا ظن خاطئ، ولكن الخمر تخدر المناطق المخية العلياء. ولهذا فإن الحياء والأخلاق الكريمة تذهب مع ذهاب انضباط عقل السكران، وهي حقيقة تزيد الرغبة في الجنس وفي بداية الشرب نجعل الشارب يرتكب جرائم جنسية شاذة، فالوازع الأخلاقي غير موجود والتفكير في العواقب يصبح مشلولاً شللاً تاما ًبعد تناول الخمر.
((والاستمرار في شرب الخمر يؤدي إلى ضعف بل فقدان القدرة على الوظيفة الجنسية تماماً. بل إن الإكثار من شرب الخمر غالباً ما يؤدي إلى العمى الكامل، ويؤدي في كثير من الحالات التي لم يتمكن من إنقاذها إلى الموت الحقيقي. وتوجد كذلك في الخمور التي من نوع (الإبسنت) مادة تسبب الصرع والتشنجات وهذه المادة تسمى (الثوجون) وما أكثر ما تسبب هذه الخمور من أمراض عواقبها وخيمة)) .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "هي داء وليست بدواء".
الخمر والجنين:
أكد بحث الدكتور جيمس فرياس، من جامعة فلوريدا أذيع في اليوم التاسع من شهر مارس 1977م - أن إفراط السيدات في تناول الخمور أثناء الحمل يؤدي في 50% من الحالات إلى ولادة طفل متخلف عقليا، بينما يؤدي في 30% من الحالات إلى ولادة طفل مشوه.
وأكد الطبيب الأمريكي أن التجارب أثبتت أن هذه التشوهات تنجم عن عامل موجود في المشروبات الكحولية نفسها.(27/374)
ومن ناحية أخرى أثبتت آخر الإحصائيات أن عدد النساء الأمريكيات اللاتي يدمن الخمر بلغ نصف عدد المدمنين عموما في الولايات المتحدة الذي يبلغ 10 ملايين شخص [11] .
وقد نشرت مجلة لواء الإسلام الصادر في القاهرة في شهر جمادى الأولى سنة 1367هـ 12 من مارس 1948م العدد التاسع:
يقول الدكتور محمد فخر الدين السبكي، صاحب البحث:
سأبدأ الآن بالتحدث عن أضرار الخمر الصحية وأقسمها إلى قسمين:
أولاً: تأثير جرعة واحدة.
وثانيا: تأثير الإدمان.
فأولا: ماذا يحصل لمن يشرب جرعة واحدة من الخمر؟
إن تأثير هذه الجرعة يختلف تبعا لعوامل كثيرة، منها سن الشخص ونوع الخمر، ودرجة نقاوتها من المراد الغريبة والكمية المشروبة، وكون المعدة خالية أو مملوءة بالطعام، وحالة الشخص الصحية، ودرجة حرارة الجو، وغير ذلك، كما أن التأثير أيضا يختلف تبعا لكون الشخص مدمنا أو غير مدمن.
فالتأثير يزداد كلما كان الشارب صغير السن، وتبعا لدرجة تركيز الكحول في الخمر؛ فجرعة من الويسكي الذي يحوي 35% من الكحول يكون لها تأثير أقوى بالطبع من نفس الجرعة من النبيذ الذي يحوي نحو 15% من الكحول.
ويختلف التأثير أيضا تبعا لما تحتويه الخمر من مواد غريبة، وأخصها الكحول المثيلي الذي قد تسبب جرعة واحدة منه فقد البصر بالكلية.
كما يزداد تأثير الخمر سرعة واحدة إذا كانت المعدة خالية من الطعام.
كما أن تأثيرها يكون أسوأ إذا كان الشخص مصابا بأمراض خاصة.
وكذا إذا كانت درجة حرارة الجو منخفضة، أو كان الشخص غير متعود على الشرب.
وأودّ أن أذكر هنا أن تأثير الخمر لا يتوقف على السُّكر؛ إذ أن هذا التأثير يبدأ بمجرد وصول عشرة جرامات من الكحول إلى الدم للشخص البالغ، وهذا القدر يوجد في كأس واحدة من (الويسكي) أو (الكنياك) .(27/375)
وقد لا يصل بالشخص إلى درجة السكر، ولكن على كل حال له أثر ملموس في حالة الشخص الجسمية والعقلية.
ومما يذكر لهذه المناسبة أن الشخص إذا فحص في هذه الحالة نجد أن درجة إدراكه وتقديره قد تغيرت فعلا؛ فهو مثلا إذا كتب على الآلة الكاتبة زادت أخطاؤه عن المعتاد، وإذا قاد السيارة لم يتبع بالضبط قوانين المرور، ومع ذلك فهو نفسه لا يدرك أن حالته قد تغيرت، وهذا ليس غريبا بالنسبة له؛ فقلما نجد سكرانا يعترف أن عقله قد اختل، حتى وإن سار في الطريق عريانا أم الناس كما حدث كثيرا، بل إن السكيرين المدمنين قلما يعترفون أن عقلهم غاب مرة واحدة، حتى وإن كان غائبا ففلا وهو يقولون ذلك.
وعند وصول الخمر إلى المعدة تحدث عند غير المتعود عليها احتقانا فيها قد يسبب غثيانا أو قيئا، وإذا كانت الجرعة كبيرة سببت التهابا في المعدة وعسر هضم يمتد إلى بضعة أيام.
وبمجرد سريان الخمر في الجسم تسبب شعورا بالامتلاء في المخ مع شيء من الدوار أو الصداع، كما يسبب الكحول اتساعا في الأوعية الدموية التي بالجلد؛ فيجري فيه دم أكثر من المعتاد مما يسبب شعورا بالدفء، ولو أن درجة حرارة الشخص تكون في الواقع أقل من المعتاد.
والجرعة الواحدة من الخمر تحدث شيئاً من الارتفاع في ضغط الدم، وهذا الارتفاع وحده قد لا يكون له ضرر كبير، ولكن يتضاعف إذا كان الشخص مرتفع الضغط من نفسه، ثم إذا كانت كمية الخمر كافية لأن تحدث هيجانا يزيد في الضغط لدرجة ينفجر معها شريان في المخ يسبب شللا قد ينجو منه الشخص جزئيا أو لا ينجو كلية؛ إذ المعلوم أن الشخص الذي ضغطه الدموي مرتفع يجب أن يلتزم الهدوء في حياته؛ لأن أي هيجان يزيد في ارتفاع الضغط يعرضه لانفجار شرياني، والسكران لا يمكنه أن يضبط عواطفه وبالتالي لا يمكنه لنفسه هذا الهدوء.
ثانياً: تأثير الإدمان على الخمر:(27/376)
من المعروف عن الخمر أن الذي يشرب كأسا واحدة منها يكون عنده ميل لشرب ثانية وثالثة، حتى إذا تعود عليها بعض الشيء أصبح لا يمكنه أن يفارقها طويلا؛ فيحصل له تسمم من الكحول مزمن تنتج عنه حالة مرضية في جميع أعضاء الجسم المهمة.
وإن من يبحث كتب الطب يتولاه العجب عندما يقرأ باب مسببات الأمراض المختلفة؛ إذ يجد للخمر نصيب الأسد في ذلك، ولا عجب إذا كان لها الأثر الأكبر في ارتكاب الجرائم وانتهاك الحرمات، وخراب البيوت وإفساد الأخلاق؛ فلماذا لا يكون لها الأثر أيضا في إفساد أعضاء الجسم المختلفة وإصابتها بأمراض أو تعريضها للإصابة بأخرى.
يكفي أن نقول إن الإدمان على الخمر من أكبر أسباب تصلب الشرايين.
نحن نعلم أن الشرايين هي التي يجري فيها الدم إلى خلايا الجسم المختلفة يحمل إليها عوامل الحياة.
فتصلب الشرايين أولاً يضيقها فيقل ما يجري فيها من الدم، ويقل تبعا لذلك ما يصل لأنسجة الجسم من غذاء، وتصبح الشرايين غير مطاطة كما يجب، فعند انقباض القبض أو عند زيادة الضغط الدموي لأي سبب - كانفعال نفسي أو إجهاد جسماني - لا تلين الشرايين المتصلبة أماكم الضغط المتزايد بل يقاوم، وكثيرا ما تؤدي هذه المقارنة إلى انفجار أحد الشرايين، وكثيرا ما يكون الشريان في المخ فيحدث شللا، إما أن يترك الشخص عليلا بعد ذلك، وإما أن ينقله إلى الدار الآخرة فورا.
ليشكو ظلم الإنسان لنفسه وكفرانه بأثمن نعم الله، وهما الدين والصحة.
وإذا كان تصلب الشرايين يؤثر في تغذية أعضاء الجسم المختلفة فإن أهم هذه الأعضاء هو القلب، وفساد أوعيته يعرضه للذبحة الصدرية التي كثيرا ما تكون سببا في تنغيص عيش صاحبها.(27/377)
كما أن ضيق شرايين المخ يسبب ضعف الذاكرة، ويقلل من مقدرة الشخص على الإنتاج الذهني، ولا يقل كثيرا في الخطر عن تصلب الشرايين، تعرض خلايا الجسم المختلفة للتشحم، والتشحم هنا معناه تحول المادة الزلالية الحيوية للخلايا إلى نقط دهنية، وفي هذا فقدان لفائدتها الأصلية، وأهم الأعضاء التي تتأثر لذلك هو القلب أيضا.
ونحن نعلم أن القلب عبارة عن عضلة تشتغل كطلمبة كابسة ماصة؛ ينقبض فيخرج منه الدم، ثم يرتخي فيدخل فيه الدم، وهذا يستلزم قوة عضلاته ومتانتها.
فإذا تحولت الخلايا العضلية إلى دهن ضعف القلب وأصبح غير قابل لتحمل المجهود العادي، وعرضه للهبوط مع ما يتبع ذلك من شرح عام في الجسم، وجملة عوارض أخرى تنتهي بالشخص إلى الوفاة.
هناك عضو آخر ذو أهمية كبيرة وسريع التأثير بالكحول، وهو الكبد.
والكبد يقوم في الجسم بوظائف كثيرة.
فهو أولاً مخزن كبير تمر فيه الأوعية الدموية الآتية من الأمعاء، وتحمل الغذاء بعد هضمه وامتصاصه، فيأخذ منها الزائد عن استهلاك الجسم الوقتي من المواد النشوية ويخزنه ليخرج بعد ذلك تدريجيا وقت الحاجة.
كذلك يقوم الكبد بصنع الصفراء وإفرازها في الأمعاء لتساعد على الهضم.
وفي السكيرين يحصل عادة تليف في الكبد، أي تكاثر الأنسجة الليفية العديمة القيمة تكاثرا كبيرا على حساب خلايا الكبد المفيدة، وتكون نتيجة ذلك:
أولاً: فقدان جزء كبير من منافع الكبد.
ثانياً: ضغط الأنسجة الليفية على الأوردة القادمة من المعدة والأمعاء، وهذا يعوق سريان الدم فيها بسهولة إلى القلب، وينتج عن هذا بالتالي رشح مصل الدم في البطن وامتلاؤها بهذا السائل، فتكبر ويصبح الشخص كالمرأة الحامل، إلا أن هذه تحمل في بطنها جنينا من صنع الله، وذاك في بطنه أدرانا وأمراضا من صنع الشيطان.(27/378)
كما يحدث من معاكسة جريان الدم في الكد أن أوردة المعدة والأمعاء تتمدد وقد تنفجر وينتج من ذلك نزيف له أثره وخطره، ولعلكم تعلمون أن تمدد الأوردة في الجزء الأخير من الأمعاء هو ما يسمى (بالبواسير) ، والبواسير هذه التي هي إحدى هدايا الإدمان في الخمر لها من الأثقال والآلام ما يجعلها غنية عن التعريف، ويكفي أن تسأل عنها مريضا بهذا ليحدثنا عنها حديث المجرب الخبير.
ويحدث تليف الكبد أعراضا أخرى كثيرة، كتضخم الطحال، وتجمع مائي في الصدر، والتهاب في الكليتين، وغير ذلك مما لا يتسع المجال للتحدث عنه بالتفصيل.
والآن فلننتقل إلى عضو آخر ذي أهمية كبرى، وهو: الكليتان.
وقبل أن نتحدث عن تأثير الخمر على الكليتين أودّ أن أذكر شيئاً عن وظيفة هذا العضو الثمين في الجسم.
ذلك أن الدم عندما يمر فيهما تعمل خلاياهما على فرزه بما أوتيت من دقة في الحساسية، فتأخذ منه المواد الضارة التي تخرج في البول، وتبقى فيه المواد المفيدة التي يحتاج إليها الجسم.
والإدمان على الخمر يسبب في الكليتين التهابا حادا أو مزمنا، وتكون نتيجته اختلال وظيفة الكلية، فينزل في البول زلال الدم، وهو مادة غذائية ثمينة يجهد الجسم نفسه في هضمها بالأمعاء ثم امتصاصها في الدم، وبدلا من أن ينتفع الجسم منها في بناء خلايا جديدة تنزل في البول فتضيع سدى، وفي الوقت نفسه تبقى في الدم بعض المواد الضارة وأخصها (البولينا) .
وهذه إذا كثرت تسبب تسمما بوليا وخيم العاقبة، هذا فضلا عما يسببه التهاب الكليتين أيضا من حدوث ورم عام بالجسم، وضعف في البصر وارتفاع في ضغط الدم مع ما ينتج عن هذه الأعراض نفسها من أخطاء.. انتهى.
هذه صورة جلية واضحة لبعض أضرار الخمر التي بينها لنا أحد رجال الطب العباقرة، الذي لمسها عن تجربة من الواقع العملي والتحليلي لصرعى أم الخبائث.(27/379)
ويصر بعض الناس مع علمهم بحرمتها وأضرارها على تناولها؛ يقتلون أنفسهم بأيديهم، ويلقون بها في التهلكة دنيا وأخرى، دون خوف أو حياء من الذي يعلم السر وأخفى.
ويتضح لنا مما تقدم حكمة تحريم الخمر، وأن الله تبارك وتعالى لم يحرم شيئاً إلا لما يحتوي عليه من أضرار بالغة تؤدي بحياة الإنسان وكرامته.
حكم التداوي بالخمر:
أخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا أن النبي r قال لرجلين: "أيكما أطَبّ؟ " قالا: يا رسول الله وفي الطب خير؟ قال: "أنزَلَنا الداء الذي أنزل الدواء" [12] .
وفي صحيح البخاري قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
ولمسلم عن جابر رفعه: "لكل داء د واء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى".
ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه: "إن الله جعل لكل داء دواء؛ فتداووا ولا تتداووا بحرام".
من جملة هذه الأحاديث يعلم أن التداوي مطلوب شرعا، وأن الداء والدواء من قدر الله عزّ وجلّ، وعلى حد سواء.
وإذا كان التداوي مطلوبا فهل هو مطلوب بكل ما يظن أنه دواء، وسواء أكان هذا الدواء حلالا أم حراما؟
أما كون التداوي مطلوبا بدواء هو حلال فهذا أمر لا مرية فيه بمقتضى هذه الأحاديث التي تقدمت.
أما التداوي بمحرم فهذا ما يحتاج الأمر فيه إلى تفصيل.
فعن وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء". رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء؛ فتتداووا ولا تتداووا بحرام". رواه أبو داود.(27/380)
وقال ابن مسعود في المسكر: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". ذكره البخاري.
وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث؛ يعني السم". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي.
وهل الخمر إلا سم، كما أوضح الطب الحديث في التفصيل الذي أوردناه آنفا؟.
والناظر في هذه الأحاديث يجد التصريح بأن الخمر ليست بدواء، بل إن الأمر لا يقف عند هذا الحد ولكن جاوزه إلى التصريح كذلك بأنها داء.
إذن يحرم التداوي بها كما يحرم شربها، وكذلك سائر الأمور النجسة أو المحرمة.
وإلى هذا ذهب الجمهور الراسخ من أهل العلم.
ويقول الشيخ أبو زهرة في كتابه (العقوبة) ص185:
إن الخمر محرم لغيبته، فلا يباح ولو للتداوي؛ لأن الخمر لا تتعين طريقا للعلاج حيث غيرها من الدواء الطاهر يفي بالغرض، وما قال طبيب منذ نشأ الطب إلى اليوم أن في الخمر فائدة طبية لا توجد في غيرها.
وحقيقة فإن من يقرأ رأي الطب الحديث - الذي يقوم على البحث والاختبارات المعملية والاكتشافات العلمية - يرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم قال فيها كلمة الحق؛ كيف لا وهو الذي ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
يقول الدكتور أوبرلوس، رئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن، في أكبر وأشهر مرجع طبي بريطاني - مرجع برايس الطبي -: " إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يديه كل من يتصور أنه يهرب من مشاكله.
ولذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها، إن جرعة واحدة من الكحول تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود، وقد تؤدي إلى الغيبوبة.
أما شاربو الخمر المدمنون فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون " [13] .(27/381)
وقد كان يعتقد قديما وإلى عهد قريب أن الخمر لها منافع طبية، ولكن الاكتشافات العلمية بينت أن هذا الاعتقاد وهم لا نصيب له من الصحة، وصدقت هذه الاكتشافات أنها حقا داء وليست بدواء [14] ، وبما شهدت به الأعداء كما يقولون.
ومنافع الخمر كلها موهومة؛ لأن هذه المنافع إما مادية بالنسبة لمن يبيعها ويتجر فيها فردا كان أو شركة أو دولة؛ فإن ما يعود إلى المجتمع أفدح وأعظم بكثير من هذا الكسب المادي، فالخسارة المؤكدة هي الخراب السلوكي والصحي مما لا يمكن أن يعوضه مال مهما بلغ.
أو منافع طبية وصناعية، وكلها أمر موهوم؛ فالواقعون في أسرها يعتقدون أنها تفتح الشهية، وعلى هذا الاعتقاد الكاذب استعملت قديما وحديثا في أغلب بلاد العالم تحت تأثير هذا المعتقد، فهي تفتح الشهية أول الأمر لأنها تزيد من إفراز حامض المعدة (كلور الماء) .
ولكنها بعد فترة تسبب التهاب المعدة الذي يترتب عليه بالتجربة المؤكدة فقدان الشهية، وكثيرا ما يعقبه القيء المتكرر، وآخرها سرطان المريء [15] .
وبعد، فإن من يتتبع موضوع التداوي بالمحرم يجد أن المتفيهقين الذين أباحوه بحجة الاضطرار لم يفهموا مطلقا معنى الاضطرار الدافع لاستعمال المحرم، فالاضطرار هو التيقن من هلاك النفس بانعدام ما يؤكل أو يشرب، فيصبح إنقاذا وقتيا من الفناء أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، ولا يأثم بذلك، ولا حد يقام عليه عندئذ، وكذا إذا فعله جهلا أو بالشبهة التي تدرأ الحدود، إذاً فلا يجوز مطلقا التداوي بها؛ لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"، ولقوله في الخمر كما أسلفنا: "إنه ليس بدواء ولكنه داء"، فهل بعد قول الرسول وما ثبت به قوله الشريف من تجارب الواقع مجال لتقول بإباحة التداوي بالخمر؟
ننتقل بعد هذا العرض إلى بيان بعض الأحكام التي تتعلق بالخمر، والتي بينها الفقهاء، حتى يكون للناس حجة بعد هذا.(27/382)
أولاً: حكم من أنكر تحريم الخمر:
معلوم أنه لا خلاف بين العلماء في أن المتخذ من عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد يكون خمرا، أما المتخذ من غير ذلك من المسكرات فهو محل خلاف بينهم، وهذا الاختلاف له أثره في الحكم بتكفير مستحل الخمر المتخذ من عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد وقذف بالزبد؛ لإجماعهم على تحريمه وتسميته خمرا حقيقة وشرعا، وثبوت تحريمها بالدليل القطعي.
أما غيرها فيما اختلف العلماء في تسميتها خمرا وإن اتفق على حرمته؛ فإنه لا يحكم بكفر مستحلها وإنما يحكم بفسقه، وإن كان يستحق العقاب بالشرب عندهم.
انظر إلى قول الشافعي في شرح المنهاج [16] : " وحقيقة الخمر المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد، وتحريم غيرها بنصوص دلت على ذلك، ولكن لا يكفر مستحل قدر لا يسكر من غيره للخلاف فيه، أي من حيث الجنس لحل قليله على قول الجماعة، أما المسكر بالفعل فهو حرام إجماعا كما حكاه الحنفية فضلا عن غيرهم، بخلاف مستحله من عصير العنب الصرف الذي لم يطبخ ولو قطره؛ لنه مجمع عليه ". انتهى.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها". رواه ابن ماجه [17] .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه". رواه أحمد وابن ماجه وقال: "تشرب" مكان "تستحل".
ومن هذا يتضح أن من استحل الخمر بعد تحريمها الذي تعددت نصوصه من الكتاب والسنة والإجماع - مهما تنوعت طرقه وقويت أساليبه وانتشر أمره انتشارا فاحشا بما في ذلك بلاد الإسلام - فهو مرتد عن دينه؛ لإنكاره معلوما من الدين بالضرورة.
ثانياً: تحريم بيع الخمر:(27/383)
من سنة الإسلام في الأحكام أنه إذا حرم شيئاً حرم ما يكون ذريعة إليه، ومن هنا حرم الإسلام بيع الخمر والانتفاع بثمنها، كما يحرم تمليكها وتملكها بسائر أسباب الملك، ولو لم يكن هؤلاء جميعا من شاربيها.
وقد ذكر ذلك صريحا في المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهو السنة الصحيحة التي بلغت بمجموعها حد التواتر، وانعقد عليه المصدر الثالث، وهو الإجماع، وبذلك كان بيع الخمر باطلا عند جميع الأئمة، ولا يترتب عليه ملكها للمشتري، ولا ملك ثمنها للبائع، وكان ثمنها أكلا للأموال بالباطل، أي: بوسيلة محرمة غير مشروعة في ديننا إطلاقا.
وقد روى ذلك مسلم في صحيحه بقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا؛ فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به"، وما لبثوا إلا يسيرا حتى قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية - يريد {إِنَّمَا الْخَمْرُ..} وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبع"، فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسكبوها.
وكذلك ما رواه أحمد والنسائي: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يوم الفتح - برواية ابن حجر - فقال له: "أما علمت أن الله حرمها؟ " فأقبل الرجل على غلامه وقال له: اذهب فبعها، وكأنّ الرجل فهم أن التحريم قاصر على شربها، فقال له الرسول صلوات الله عليه: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"، فأفرغت في البطحاء.
ثالثاً: تحريم إهدائها والانتفاع بذاتها:
وكما حرم الله بيعها على المسلم حرم عليه أيضا إهداءها إلى غير المسلم، وقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من أحدهم بعد أن بين حرمة بيعها أفلا أكارم لها اليهود؟ فقال: "إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود".(27/384)
ومن هذا الحكم - وهو حرمة بيعها والانتفاع بثمنها - تقررت حرمة الانتفاع بذاتها على أي نحو من أنحاء الانتفاع؛ من طريق الخلط بغيرها، أو عن طريق الاستغلال، فيحرم أن تدخل في الطعام بأي قدر كان، أو تصفيف الشعر بها كما تفعله بعض السيدات، ويحرم تقديمها على موائد المسلمين مجاملة لغير المسلم، أو بيعها في الفنادق للسياح، كما تفعل وزارت السياحة في معظم البلاد العربية والإسلامية، باسم ترويج السياحة وزيادة الدخل القومي مما حرم الله، وهو في الحقيقة نقص وخراب وليس زيادة، كما يحرم أيضا (الجمارك عليها) .
فكل ما يأتي عن طريق الخمر حرام لا مرية في حرمته، ولا يحل الانتفاع به في أي وجه من الوجوه، كالإعلان عنها على الجدران وفي الصحف كما في كثير من بلاد المسلمين أيضا مع بالغ الأسف، والأشد أسفا أن بعض الدول التي يدين أهلها بالإسلام وينتمون للعروبة، ويتكلمون العربية لغة القرآن الذي حرمت آياته الخمر، تتخذ من الخمر مصدرا من مصادر إنتاجها بمصانع الخمر عندها، وتقوم بتصديرها لشتى الدول، ومن عملائها دول مسلمة أيضا، وأصبح تبعا لذلك شرب الخمر مباحا للجميع، والقانون يحمي السكارى إذا تعرض لهم أحد غيور على دينه.
رابعاً: إهدار قيمتها:
ومن خلال حرمة بيعها وحرمة الانتفاع بها أيضا سقوط تقوّمها في حق المسلم، بمعنى أنها لا تضمن بالإتلاف.
ومما يجب معرفته هنا: أن حق إتلافها إنما أعطاه الإسلام للحاكم خاصة، ولم يعط شيئاً منه للأفراد، حسماً للخصومات ودفنا للفتن، وبذلك كان للحاكم حق تعزير الأفراد الذين يبيعونها، مهما بلغ التعزير، حتى إن عمر رضي الله عنه كان يحرق على الخمارين بيوتهم، قطعا لمادة الإفساد، ومحافظة على الشخصية الإسلامية التي أعز بها المجتمع المؤمن في عصره الزاهر العظيم.
عقوبة شارب الخمر:(27/385)
وكما قرر الإسلام حق إتلاف الخمر وما يتصل به، قرر أيضا عقوبة شاربها، وقصرها على الحاكم كذلك، وقد أجمعت الأمة سلفا وخلفا على مشروعية العقاب لشارب الخمر، وعلى أنه حق واجب على الحاكم المسلم، وقد ثبت ذلك بالمصدر الثاني من مصادر التشريع، وهو السنة كما أسلفنا.
ومن ذلك ما روى مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أت ى برجل قد شرب الخمر، فجلد بجريدتين نحو الأربعين"، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس بعد انتشار شربها بانتشار الفتح الإسلامي واختلاف المسلمين بغيرهم، فقيل له: أخف الحدود ثمانون في كتاب الله؛ إشارة إلى حد القذف، فجعل عمر الحد ثمانين، وكان صاحب هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ووافقت عليه الجماعة، وأصبح تشريعا منذ اليوم.
ومن ذلك ما روى أحمد والبخاري عن السائب بن زيد قال: كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمْرة أبو بكر، وصدْر من إمارة عمر، فنتقدم إليه فنضربه بأيدينا ونعلنا وأرديتنا، حتى إذا عَقّوا فيها وفسدوا جلد عمر ثمانين.
بهذا أجمعت الأمة على تقرر عقوبة شارب الخمر، ولا نعلم خلافا في تقرر المبدأ، وإنما الخلاف في قدرها، وكيفيتها، وآلتها، وبذلك كانت نوعا من التعزير الذي يلزم به الحاكم.
وقد انتقل به عمر إلى الزيادة والمضاعفة نظرا لاختلاف أحوال الناس، وعملا على أن تؤتي العقوبة الغرض منها، وهي الردع والزجر، وتطهير المجتمع الإسلامي من مادة الدمار هذه.
وقد بلغ الاعتداد بعقوبة شرب الخمر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يقف بها عند خصوص الشارب، بل أقام حدها على من شهد مجلس الشراب وإن لم يشرب.(27/386)
وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا، وقد كان صائما لله ولم يشرب معهم، فقال: به ابدءوا؛ أما سمعتم الله يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} الآية 140 من سورة النساء.
وعلى هذا القياس يصبح كل حاكم ومحكوم في الرقعة العربية والإسلامية شريكا مع السكارى ولو لم يسكر معهم، ما داموا قد أباحوا ذلك أو ارتضوه أو سكتوا عنه، وإقامة الحد عليهم أولى وأبْدَأ، بنص الآية التي نفذها الحاكم الحازم عمر بن عبد العزيز، فلم يأخذوا أنفسهم ولم يأخذوا على يد الظالم.
ولئن كانت الحدود الإسلامية الآن عندهم معطلة، لمّا أوقفوا حكم الله الذي أحكم لعباده، وراحوا ينفذون حكم أعدائه، فلينتظروا قارعة تحيق بهم لا محالة، طال يومهم معها أو قصر، تكون نهاية لما هم فيه من شتات الأمر وشقاء الحكم.
وآخرتهم أدهى وأسوأ؛ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ} .
وقد فعلوا الثلاثة: نسيان الله، والإسراف في معصيته، وعدم تنفيذ آياته؛ فاستحقوا ما في هذه الآية من حكم الله عليهم، وعندئذ يعلمون أن الحرب التي أعلنوها على الله ورسوله في بلادهم المنسوبة كذبا إلى الإسلام، والخمر التي أباحوها صناعة وتجارة وشرابا هي من أعتى جوانب هذه الحرب، قد طحنتهم يوما برحاها وفي الآخرة يصطلون بلظاها.(27/387)
ويبقى دين الله سامقا شامخا، يذل كل طاغوت كل عنيد، إن لم يفيقوا من سكرهم الذي طال مداه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اللفظ الأول رواه العقيلي عن على وأعله بمحمد بن الفرات. ورواه النسائي والبزار والطبراني والدارقطني وأبو نعيم عن ابن عباس موقوفاً: (مجمع الزوائد 5 / 53) .
[2] كتاب الخمر بين الطب والفقه ص 16.
[3] نقل هذا من تقرير طبي عالمي.
[4] كتاب الخمر بين الطب والفقه ص 34.
[5] الصافات 41 – 47.
[6] كتاب الخمر بين الطب والفقه. ص 39 – 41.
[7] نقلاً عن كتاب الخمر بين الطب والفقه ص 42.
[8] نفس المصدر.
[9] كتاب الخمر بين الطب والفقه ص 46.
[10] السياسة الشرعية لابن تيمية ص 64: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص 117.
[11] جريدة الأخبار المصرية، الخميس 10 مارس 1977 العدد 7716 السنة الخامسة والعشرون.
[12] فتح الباري ج10 ص134، نيل الأوطار ج8 س225، زاد المعاد لابن القيم ص2.
[13] كتاب الخمر بين الطب والفقه ص21.
[14] نفس المرجع.
[15] كتاب (الخمر بين الطب والفقه) ص22.
[16] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج8/ص11، نيل الأوطار ج8 ص193، فتح الباري ج10 ص51.
[17] نيل الأوطار ج10 ص51.(27/388)
الرَّسَائِلُ الحَرْبيَّة في عصْر الّدوْلة الأيوبيَّة
ثلاث رسائل إلى الملك العادل عن انتصار الأسطول المصري في البحر الأحمر:
أرسل السلطان صلاح الدين رسالة بقلم القاضي الفاضل إلى أخيه الملك العادل أبي بكر , بشأن انتصار الأطول المصري بقيادة أميره حسام الدين لؤلؤ على الأسطول الصليبي , الذي جرؤ فعبر مياه البحر الأحمر , قاصدا مهاجمة مدينتي مكة والمدينة , وذلك في شوال سنة 578 هـ = فبراير 1183 م.
تبتدأ هذه الرسالة هكذا: "وصل كتابك المؤرخ بخامس ذي القعدة المسفر عن المسفر من الأخبار , المتبسم عن المتبسم من الآثار , وهي نعمة تضمنت نعما , ونصرة جعلت الحرم حرما , وكفاية ما كان الله ليؤخر معجزة نبيه _ صلى الله عليه وسلم _ بتأخيرها , وعجيبة من عجائب البحر التي يتحدث عن تسييرها وتسخيرها " [1] .
وقد راعى القاضي الفاضل في هذه المقدمة الالتزام بالجناس والسجع كعادته.
ثم يقول: "وما كان لؤلؤ فيها إلا سهما أصاب وحمد مسدده , وسيفا قطع وشكر مجرده … ركب السبيلين: براً وبحراً , وامتطى السابقين: مركبا وظهرا , وخطا فأوسع الخطو , وغزا فأنجح الغزو [2] " وهو يبدى إعجابه بالبسالة الحربية والتضحية المالية التي بذلها المسلمون.
ثم يتحدث عما يفعله مع الأسارى في هذه المعركة , فيقول: " وأما هؤلاء الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها , وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها , ولا بد من تطهير الأرض من أرجاسهم , والهواء من انفاسهم , بحيث لا يعود منهم مخبر يدل الكفار على عورات المسلمين" [3]
وفي هذه الرسالة يحذر المسلمين بعد هذا الانتصار الباهر من مكر الصليبيين وغدرهم , وهنا يحل حديثنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ".. ويقول: "ان اللدغة الأولى تكفي لمن له في النظر تفقه ".(27/389)
ثم يرسل إليه كتاباً ثانياً , والذي بين أيدينا منه قطعة فيها تهنئة بالظفر , ثم يأمره بالإسراع بقتل الأسارى , ليتعظ غيرهم بما نالهم , فليس في قتل هؤلاء الكفار مراجعة , ولا للشرع في إبقائهم فسحة , ولا في استبقاء واحد منهم مصلحة [4] . فالله قد أباح قتلهم لغدرهم , أن الغرض من ذلك تهديد غيرهم , فالجرم الذي اقترفوه كبير , لولا لطف الله العلي القدير.
ويلحق هذا الكتاب بثالث , ويستعجله فيه بضرورة القضاء عليهم ونصه "قد تكرر القول في معنى أسارى بحر الحجاز , فلا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [5] , ولا توردهم بعد ماء البحر إلا نارا , فأقلهم إذا بقى جنى الأمر الأصعب ’, ومتى لم تعجل الراحة منهم , وعدت العاقبة بالأشق الأتعب " [6]
وتنفيذ لأوامر السلطان صلاح الدين , تولى الصوفية والفقهاء قتلهم [7] جميعا, وهذه الرسائل الثلاث في قصرها تشبه البرقيات في عصرنا الحالي , كما أنها تدل على حنكة عسكرية من السلطان صلاح الدين القائد المظفر , إذ يرى ضرورة القضاء على هؤلاء الأسارى ’ شارحا في إيجار الدواعي التي من أجلها يأمر بالقضاء عليهم , وألا يستثنى من هذا الحكم أحدا منهم.
وقد اهتم المؤرخون بالاحتفاظ بالرسالة الأولى كاملة تقريباً , أما الرسالتان التاليتان , فقد احتفظوا بقطعتين منهما.
وكان لهذه السرعة وهذا الإيجار أثرهما في أسلوب هذه الرسائل , فالمقدمة في الكتاب الأول قصيرة , وأرجح أن مقدمة الكتابين التاليين كانت تنهج نفس السبيل , ولم تسهب الرسالة الأولى في وصف سير المعركة , وكذلك بالنسبة لوصف الأسارى والانتصار عليهم , وطلب السلطان صلاح الدين القضاء عليهم.(27/390)
وفي الكتابين التاليين في القطعتين الباقيتين عبارات قصيرة. تنصب كلها على الهدف المباشر وهو التخلص من الا ساري في كلمات قليلة واضحة. ولم تلجا القاضي الفاضل فيها إلى إستعارة أو كناية. فالوقت لا يسمح بذلك. هذا تخلاف ما سنجده في كتبه إلى الخليفة في هذا الموضوع.
كتابان إلى الخليفة في بغداد بشأن الموقعة السابقة:
في كتاب الروضتين قطعتان من رسالتين. أرسلهما السلطان صلاح الدين إلى الخليفة في بغداد. بشان انتصار الأسطول المصري في البحر الأحمر.سنة 578هـ=1183م. والذي قد سبق أن كاتب أخاه العادل عنه.
في القطعة الأولى: يذكر السلطان صلاح الدين للخليفة تفصيلات المعركة الحربية. ويكشف عن مخططات العدو الغادر. وما لحقه من هزيمة منكرة: (كان الفرنج قد ركبوا من الأمر تكراً، وافتضوا من البحر بكراً. وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز. واثخنوا وأوغلوا في البلاد) [8]
فقد قطع ارناط غابات إقليم الكرك وأكثر نخيل العريش. وحمله إلى حصن الكرك.
وعهد إلى دير الرهبان بصنع بعض المراكب [9] . كما عهد إلى صليبي عسقلان بصنع البعض الآخر، حتى توافر لديه خمس سفن حربية كبيرة. وعدد كبير من المراكب الخفيفة. ونقلها جميعها مفككة على جمال البدويين إلى الساحل بعد أن أغراهم بالمال [10] . ثم ركب المراكب ودهنها باللون الأسود وشحنها بالرجال وآلات القتال [11] وأقف منها مركبين على جزيرة قلعة أيلية، تمنع أهلها استقاء الماء ومضى الباقون في مراكبهم إلى عيذاب [12] . وفي لبر سير ارناط عسكره إلى تبوك ليحول دون وصول أي مدد عسكري يطلبه نائب القلعة من الشام أو مصر
واتخذ أرناط سبيله في البحر سلباً ونهباً حتى وصل إلى عيذاب. وربما وصلت حملته جنوباً إلى باب المندب حتى عدن [13] .(27/391)
واشتدت مخافة المسلمين على مقدساتهم الدينية. خاصةً لما أحدثه الصليبيون في طريقهم من حوادث شنيعة.
فقد أحرق الصليبيون نحو ستة عشر مركباً للمسلمين. وأذوا عند عيذاب مركباً يأتي بالحجاج من جدة، ومركبين آخرين كانا مقبلين بتجار وبضائع من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ساحل عيذاب. كانت معدة لمسيرة مكة والمدينة، هذا فضلاً عن حوادث القتل والأسر والتنكيل والإرهاب التي ارتكبوها في البر والبحر [14] .
وكان الأخ سيف الدين بمصر، قد عمر مراكب، وفرقها على الفرقتين، وأمرها ان تطوى وراءهم الشقتين [15]
فقد بعث السلطان صلاح الدين إلى أخيه ونائبه بصر الملك العادل ابي بكر بن أيوب بتعمير الأسطول في مصر والإسكندرية. وقام العادل على تنفيذ تعليمات السلطان صلاح الدين خير مقام. فسافر إلى السويس بعد أن عهد إلى قائد الأسطول الشيخ حسام الدين لؤلؤ بحل المراكب مفككة على الجمال إلى تلك المدينة. وهناك أشرف على تركيبها في رمضان 578 هـ= يناير سنة1183 م وتعميرها بالرجال ذوي التجربة في شئون البحر وبخاصة المغاربة منهم.
ثم ي أتي وصف المعركة، فقد فرق لؤلؤ الأسطول إلى فرقتين. فصارت الأولى إلى قلعة أيلة’ واسولت على مراكب العدو برمتها، وقتلت اكثر مقاتلاتها إلا من تعلق بهضبة من الهضاب، أو دخل في شعب من الشعاب، وأولئك اقتفى العربان آثارهم، والتزموا إحضارهم، فلم ينج منهم الا القليل.
أما الفرقة الثانية فذهبت إلى عيذاب، وأطلقت المأسورين من المسلمين، وردت عليهم ما سلب منهم، ولم تجد الصليبيين هناك، ثم رجع لؤلؤ إلى رابغ، وأدرك بعض الصليبيين معتصمين بساحل الحوراء [16] , وكان عددهم ثلاثمائة ونيف رجل , انضم إليهم عدة من العربان , وعندما لحقهم لؤلؤ فرت العربان خوفا من سطوته , والتجأ الصليبيون إلى رأس جبل صعب المرتقى , وركب عشرة من المسلمين ورائهم خيل العرب [17] , يقتنصونهم أسرى وقتلى.(27/392)
وما زال لؤلؤ وأتباعه يتبعونه ليل نهار , حتى أدركهم بعد خمسة أيام على مسافة يوم من المدينة فأسلموا أنفسهم له , وعاد بهم لؤلؤ إلى مصر وفي أرجلهم القيود [18] .
وتدور القطعة الثانية حول وصف سير المعركة الحربية , وتنقلها من بلد إلى بلد , وهي تتعقب الأسطول الصليبي , موقعة به الهزيمة الواحدة تلو الأخرى.
تمتاز المكتبات إلى الخليفة بالطول بخلاف مكاتباته في هذا الشأن لأخيه الملك العادل , فالقطعتان اللتان بين أيدينا يجنح فيهما القاضي الفاضل إلى تفصيل الأمور , ويلجأ إلى المحسنات البديعية وعلى قمتها الاستعارة والكناية.
ويحلل كذلك الناحية النفسية للمسلمين تجاه هذه الحملة الغادرة , فيقول: "واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب بل أهل القبلة لما أومض إليهم من خلل العواقب , وما ظن المسلمون إلا أنها الساعة , وقد نشر مطوى منشور بساطها. وانتظر غضب الله لفناء بيته المحرم , ومقام خليله الأكرم , وتراث أنبيائه الأقدم , وضريح نبيه الأعظم _ صلى الله عليه وسلم _ ورجو أن تشحذ البصائر آية كآية هذا البيت , إذ قصده أصحاب الفيل , ووكلوا إلى الله الأمر , وكان حسبهم ونعم الوكيل " [19] .
وهو كما نرى يلجأ إلى القران الكريم وإلى الصور الدينية ليرسم لنا انتصار المسلمين بعون الله في معاركهم الحربية , وهاهو يختم هذه الفقرة بقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} (الزمر: آية 71) . يكنى بذلك عن قهر المسلمين لأعدائهم الصليبيين قتلا وأسراً.
رسالة تهنئة بفتح عسقلان [20] :(27/393)
أرسل القاضي الفاضل هذه الرسالة إلى حسام الدين بن لاجين [21] , وهو يستهل الرسالة بآية يشكر فيها ربه 0, على ما أنعم به من فتح هذه المدينة , وعلى أنها خلت من مشركيها وكفارها , الذين كانوا يحتلونها , فقد نصبت أعلام الإسلام على أبراجها وأسوارها, وكبر المكبرون والمؤذنون في أقطار أرجائها , وزالت سمة الصلبان عن جهاتها وأنحائها , ورحل الناقوس عن فنائها , وعوض جامعها منها بمنبره [22] .
فقد اجتمع السلطان صلاح الدين بأخيه الملك العادل وولده العزيز عثمان على عسقلان في 16 جمادى الآخرة 583 هـ = 1187 م , وضرب عليها الحصار , حتى سلمت يوم 25 جمادى الآخر = 7 سبتمبر , وخرج أهلها بأموالهم سالمين إلى بيت المقدس , بعد حصار دام أربعة عشر يوما [23] .
ويشبه القاضي الفاضل فتحها على يد السلطان صلاح الدين , بفتحها على يد عمر بن الخطاب أمير المؤمنين , فإنه لما دنت منها جيوش الإسلام الناصرية , فر الصليبيون فرار النمل خوفا وفزعا , ولجأوا إلى الانحصار خلف الجدار , فماذا حدث؟ ويقول: نصبنا عليهم حينئذ آلات القتال , وأذقناهم من طعم الطعن الشديد الوبال , وأنزلنا عليهم غاشية [24] من عذاب الله لا تسترك ولا تستقال. [25]
ثم أخذت جنود الملمين تثقب في عقبتها حتى هدمت وانمحت , وخربت الأبراج , واستباحت الحصن الذي كان حصينا , وطالما أعجز الأيام والأنام قهره.
وهنا يلجأ الصليبيون إلى المصالحة وطلب الأمان , ويقبل المسلمون الصلح صيانة للمدينة من تخريب الناهبين , وحفظا لأبناء المسلمين.
وكعادة القاضي الفاضل في رسائله عن الانتصارات الحربية يمدح الإسلام والمسلمين المنتصرين , ويذم الكفر والصليبيين المنهزمين , ويجنح إلى الاستعارة كقوله: "فما زالت سهامها تركع , وأحجارها تسجد " [26] .(27/394)
كما أنه يلجأ إلى إثبات تواريخ تحرك الجيش والانتصارات التي يحرزها مثل قوله: "وجملة الأمر أن النزول عليها كان عشية الأحد السادس عشرة جمادى الآخرة.
ونصبت الآلات يوم الثلاثاء ثامن عشرة , ووقوع نقوب الباشورة الكبرى يوم الأربعاء تاسع عشرة. وتسلم المدينة ونصب الأعلام عليها يوم السبت التاسع والعشرين [27] منها ".
وهذا يضيف إلى الرسالة أهمية تاريخية , ونلاحظ أنه تخلى عن السجع ليثبت هذه التواريخ.
وبعد هذا يقول: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [28] . وهو يقتبس من القران الكريم ليضفي على رسالته قوة الإيمان وجمال الأسلوب.
الرسائل عن فتح القدس:
صدرت الرسائل عن فتح القدس , سواء قبل الفتح أو بعده، إذ أن المعركة التي خاضها المسلمون لفتح القدس , والتي تعرف بموقعة حطين المشهورة , تعد الموقعة الفاصلة , التي انتصر فيها السلطان صلاح الدين على الصليبيين.
وقد أرسل السلطان صلاح الدين إلى بعض إخوانه , وهو يجمع الجموع , ويحشد الحشود في سنة 582 هـ = 1187 م , استعداد لهذه الموقعة , جاء فيها: "كتبت هذه المكاتبة من جسر الخشب ظاهر دمشق , وقد زود السلطان أعز الله أنصاره للغزاة إلى بلاد الكفر , في عسكر فيه عساكر , وفي جمع البادي فيه كأنه حاضر , وفي حشد يتجاوز أن يحمله الناظر , إلى أن يحمله الخاطر , وقد نهضت به همة لا يرجى غير الله لانهاضها , وحجبت به عزمة الله المسؤول في حسم عوارض اعتراضها , وباع الله نفسا يستمتع أهل افسلم بصفتها , ويذهب الله الشرك بهيبتها " [29] .(27/395)
هذه الرسالة لم تصلنا كاملة , وهذه القطعة التي بين أيدينا جاء في نهايتها دعاء للقاضي الفاضل بأن تكون موقعة القدس الفاصلة في المعارك الدائرة بين المسلمين والصليبيين , وأن يستريح النفوس بهذا النصر.
ويرسل السلطان صلاح الدين في سنة 583 هـ = 1188 م رسالى إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله يبشره بهذا الانتصار الرائع.
وهذه الرسالة تعد أهم الرسائل الديوانية في عصر الدولة الأيوبية , لأنها تحمل البشرى إلى الخليفة العباسي بفتح القدس , الذي كان لفتحه رنة فرح في العالم الإسلامي كله.
ولفتت هذه الرسالة نظر الباحثين في العصر الحديث , فاستشهدوا بها في كتاباتهم عن العصر الأيوبي , وعن أساليب الكتابة فيه , فمنهم الدكتور شوقي ضيف الذي يصف هذه الرسالة بأنها أروع أثر أدبي عنى القاضي الفاضل به وبتدبيجه [30] . ومنهم الدكتور عبد اللطيف حمزة الذي تناول موضوع الرسالة بالتفصيل وركز تحليله بأنها تشتمل على وصف الحرب وآلاته وخاصة المنجنيقات , ثم ما ترتب عن هذه الموقعة من آثار , كما أنه اهتم بإظهار الصور البلاغية فيها [31] , وكذلك ركز الأستاذ أنيس المقدسي على شرح أسلوب القاضي الفاضل من الناحية البلاغية [32] .
يصف القاضي الفاضل العدو في هذه الرسالة بأنه في خوف وفزع , وسلاحه أصبح بلا جدوى , سيفه كالعصا , وصرعت عدده وكان الأكثر عددا وحصى , وكلت حملاته , وعثرت قدمه , والقاضي الفاضل يشخص ضعف أسلحته , فالسيف قد نام جفنه , والرماح جدعت أنوفها , فتطهرت الأرض المقدسة من رجسهم , وأصبحت بيوت المشركين متهدمة , وأصبحت نيوبهم متكسرة , وقد أجمعت جيوشهم على تسليم البلاد , وأذعنوا لكل ما طمع المسلمون فيه من شروط , فلم تنجهم سيوفهم , ولا وسعتهم دورهم وأفنيتهم , وضربت عليهم الذلة والمسكنة.(27/396)