يقال رصدت القوم بالخبر رصدا فأنا راصد وأرصدتهم إرصادا فأنا مرصد قال الله تعالى: {وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، ورمى الرجل على الستين وأرمى عليها إذا زاد عليها في السن، ورمل الرجل الحصير رملا وأرمله إرمالا أي نسجه وركس الله العدو وأركسه أي رده وقلبه على رأسه وراح الرجل الشيء وأراحه أي شم رائحته ورذت السماء وأرذت من الإرذاذ وهو الصغير من القطر ورعشت يد الرجل وأرعشت أي ارتعدت، وراع الطعام وأراع ريعا أي زاد، وردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه، وردحت البيت وأردحته من الردحة وهي قطعة تدخل فيه وردفت الدابة وأردفتها أي جعلت لها رفادة، ورسنت الدابة وأرسنت أي جعلت لها رسنا، ورحبت الدار وأرحبت أي اتسعت، ورفث الرجل وأرفث إذا فحش ورشح الرجل عرقا وأرشح، ورشقت في الرمي وأرشقت أي رميت، ورثّ الشيء وأرثّ أي أخلق وصار رثا، ونقول كلمني فلان فما رجعت إليه كلمة وما أرجعت إليه كلمة بمعنى واحد قال أبو عبيدة رابني الشيء بمعنى واحد، ورغثت الرجل بالرمح وأرغثته إذا طعنته به مرة بعد أخرى، ورعدت السماء وأرعدت أي جاءت برعد، ورعد الرجل وأرعد إذا أوعد وتهدد، ورعظت السهم وأرعظته أي جعلت له رعظا وهو مدخل سنخ الفصل في السهم، ويقال رعصت الريح الشجرة وأرعصتها أي نفضتها.
تقول زكنت للرجل بخير أو شر، وأزكنت ظننت، وزكى الزرع وأزكى أي ارتفع، وزهى النخل وأزهى إذا بدت فيه الحمرة والصفرة وزهم العظم وأزهم أي صار فيه مخ، وزحف الصبي وأزحف أي لم يقدر على النهوض مهزولا كان أو سمينا، وزفت العروس زفا وأزففتها إزفافا، وزلق الرجل رأسه وأزلقه أي حلقه، وزال الرجل الشيء يزيله وأزاله يزيله إذا محاه، وزهرت الأرض وأزهرت إذا كثرت زهرتها وزهرت عينه وأزهرت أي احمرت من الغضب ويقال زعفته وأزعفته إذا لحقته فقتلته مكانه.(24/443)
يقال سعد الله جُدَّه فهو مسعود وأسعده وسند الرجل في الجبل وأسند أي صعد وسكن الرجل وأسكن أي صار مسكينا، وسمح الرجل الشيء وأسمح به، وحست الرجل الشيء وأسحته إسحاتا أي استأصله وسنع البقل وأسنع إذا طال وحسن فهو سانع وسَفَنَ الرجل الباب وأسفنه إذا رده، وسملت بين القوم وأسملت أصلحت، وسمل الثوب وأسمل أي أخلق، وسقت الصداق إلى المرأة وأسقته وسرع الرجل إلى الشيء وأسرع إليه، وساس الطعام وأساس أي أكله السوس. وساست الشاة وأساست إذا صار القمل في أصول صوفها، وسنفت البعير وأسنفته إذا جعلت له سنافا وهو خيط وسير يشد به من جانبي البطان، وسريت القوم وأسريت بهم إذا سرت بهم ليلا، وسؤت بهم ظنا وأسأت به، وسفر الرجل القوم سرا وأسفرهم سرا إذا كثر فيهم السر، وسكت الرجل عن الكلام وأسكت، وسقط في كلامه وأسقط، وسلكه الطريق وأسلكه وسقيت الرجل وأسقيته قال لبيد بن أبي ربيعة:
نميرا والقبائل من هلال
سقى قومي بني نجد وأسقى
وسقف الحوض وأسقفته، وسعطه وأسعطه قال الأصمعي: تقول العرب لا آتيك ما سمّر ابنا سمير، وما أسمرا أي ما اختلف الليل والنهار، وسفرت البعير وأسفرته من السفار وهو الحديد في أنف البعير، وسحقت الريح السحاب وأسحقته أي ذهبت به، وسفت الريح التراب وأسفته أي حملته ورمت به، وسرت الدابة وأسرته.
شبرت فلانا ملا وسيعا شبرا أو شبيرا إذا أعطيته وأشبرتها مثله قال أوس بن حجر يصف درعا:
غدير جرت في متنه الريح سلسل [62]
واشبرنيها الهالكي كأنها
وشترت عين الرجل وأشترها إذا شققت جفنها الأعلى وشعبت الناقة وأشبعت إذا لم يكن لها حمل ولا لبن ويقال شغلني الرجل وأشغلني وأفصحهما شغلني.(24/444)
وشنقت الناقة وأشنقتها إذا كففتها بزمامها، وشنق الرجل القربة وأشنقها شدّ رأسها إلى عمود الخباء، وشسعت النعل وأشسعنها جعلت لها شسعا، وشمس يومنا إذا طلعت شمسه وشظظت الوعاء وأشظظته إذا جعلت فيه الشظظ، وشررت الثوب وأشررته إذا لبطته (أي نشره ليجف) وشررت الملح وأشررته إذا جففته، وشاعه الله السلام وأشاع السلام قال الشاعر:
برود الظل شاعكم السلام
ألا يا نخلة من ذات عرق
وشار الرجل العسل شورا وأشاره إشارة إذا جناه، شكرت الشجرة وأشكرت إذا بدا ورقها الصغار، وشكل الأمر على الرجل وأشكل، وشط الرجل في القوم وأشط إذا جار، وشكرت الرجل وأشكرته إذا أعطيته طعاما أو غيره، وشجاني الأمر وأشجاني.
قال أبو زيد صمت الرجل صمتا وأصمت إصماتا وصفحت الرجل عن حاجته إذا رددته، وصدني الرجل عن الأمر وأصدني عنه، وصففت السرج وأصففته جعلت له صفة، وصغى القمر وأصغى إذا مال للغروب، وصر الفرس أذنيه وأصر بأذنيه إذا أصغى بهما إلى الصوت، وصاب السهم وأصاب إذا وقع في الرمية وصاب السحاب الموضع وأصابه إذا أمطره، وصليته النار وأصليته إذا أدخلته النار، وصلت الناقة وأصلت إذا استرخى صلواها والصِّلوان مكنفا الذنب، وصرد الرجل السهم وأصرده إذا أنفذه.
يقال ضاء القمر وأضاء، وضبعت الناقة وأضبعت إذا أرادت الفحل، وضررت الرجل وأضررت به وضربت عن الشيء وأضربت عنه إذا أعرضت عنه، وضبر الفرس ضبرا وأضبر إضبارا إذا جمع قوائمه ووثب.
يقال طعت الرجل وطعته طوعا وأطعته بمعنى واحد وطاع النبت وأطاع إذا أمكن من رعيه، وطل دم الرجل وأطل إذا أهدر، وشطت السماء وأشطت إذا أمطرت مطرا ضعيفا، وطاف الرجل بالقوم إذا دار على القوم وطلع على القوم وأطلع عليهم إذا أشرف عليهم وطلع النخل وأطلع إذا ظهر طلعه ويقال طلق الرجل يده بخير وأطلقها بخير ويقال طال عليه الليل وأطال عليه إطالة بمعنى واحد وطفلت الشمس وأطفلت إذا دنت للغروب.(24/445)
وطف لك الشيء وأطف إذا سنح لك ويقال خذ ما طف لك وخذ ما أطف لك أي ما ارتفع لك وسنح.
قال أبو زيد يقال ظلفت الأثر ظلفا إذا اتبعت ما غلظ من الأرض لئلا ينص أثرك، وأظفلت الأثر مثله، ويقال ظلم الليل وأظلم إذا اشتدت ظلمته.
يقال عمر الله بك منزلك، وأعمر الله بك منزلك بمعنى واحد، وعرشت الكرم وأعرشته إذا جعلت له عريشا، ... غضبت الشيء وأغضبته إذا كسرته، وعلمت الشفة وأعلمتها إذا شققت العليا ... عذرت الغلام وأعذرته إذا ختنته، وعذر الرجل من نفسه وأعذر إذا أتى بالعذر، وعصفت الريح عصوفا وأعصفت إعصافا إذا اشتد هبوبها، وعجفت الدابة عجفا وأعجفت إعجافا إذا هزلت، وعاذت الناقة بولدها تعوذ عياذا، وأعاذت إعاذة إذا طافت ولزمته، ويقال عصدت العصيدة وأعصدتها إذا لويتها، وعصفت القارورة وأعصفتها إذا سددت رأسها بالعصاف وهو مثل الصمام ... وعننت الفرس وأعننته إذا جعلت له عنانا ... وعتم الليل وأعتم إذا ظلم، وعلفت الدابة وأعلفتها، وعاض فلانا إذا أعطاه عوضا من الشيء وأعاضه مثله ... وعقمت المرأة وأعقمت إذا كانت لا تحمل، وعثرت عليه أعثر وأعثرت وأعثر إذا وقفت منه على ما كان قد خفى عليك ... وعرت عين الرجل أعورها عورا وأعورتها إعوارا ... وعفّت الفرس وأعفّت إذا عظم بطنها وهي حامل، وعافاه الله وأعفاه بمعنى واحد ... وعكل عليه الأمر وأعكل إذا شكل ... وعمرت الشيء وأعمرته إعمارا ... وعدمت الشيء وأعدمته بمعنى واحد.
يقال غلّ الرجل الغنيمة غلولا وأغل إغلالا إذا سرق منها، وغمدت السيف وأغمدته، ويقال غسق الليل وأغسق، وغسّى وأغسّى، وغطش وأغطش وغبش وأغبش كل هذا إذا أظلم، وغُمِي على الرجل وأغمي عليه، وغبَّ اللحم وأغبَّ إذا تغير، وغرضت الناقة وأغرضتها إذا شددتها بالغوضة وهي للناقة مثل الحزام للفرس.(24/446)
وأغربت بالشيء وغربت به إذا لهجت به ولزمته، وغامت السماء وأغامت السماء وأغتمت ... وغار القوم وأغاروا أتو الغور، وغرست الشجرة وأغرستها إغراسا وغبن الرجل وأغبن الرجل إذا غشي عليه قال وكذلك إذا أحاط به الدين.
يقال فلجت على الخصم وأفلجت عليه، وفرشت الرجل فراشا وأفرشته إفراشا إذا جعلت له فراشا، وفاحت الرائحة وأفاحت وفردت النصيب وأفردته، وفند الرجل وأفند فنادا إذا كذب، وفتيت الرجل وأفتيته من الفتية، وفحش الرجل عليه وأفحش عليه، وفحلته فحلا وأفحلته إفحالا إذا أعطيته فحلا ... وما فتئت أذكره وأفتأت أذكره ويقال: فاخ الرجل يفوخ ويفيخ فيخا وأفاخ إفاخة إذا خرجت منه ريح فصوتت، وفريت التمر وأفريته إذا أفتته وكل مفت مفروت، وفسح المكان وأفسح إذا اتسع، وفتكت به وأفتكت به من الفتك، ويقال: فرقت النفساء فريقة وأفرقتها إذا أطعمتها الفريقة وهي التمر يطبخ بالحلبة، وفغر الرجل فاه وأفغره إذا فتحه ... وقال الأصمعي وأبو عبيدة فريت الشيء وأفريته إذا قطعته وفشعت الرجل وأفشعته إذا ضربته بالسوط.
يقال قبل الرجل الشيء وأقبله، وعام قابل ومقبل، وقلب الرجل في البيع وأقلبه ... وقدعته عني بالدال (المهملة) إذا أكفيته،،، وقصر الرجل عن المجد وأقصر، وقهيت عن الطعام وأقهيت عنه، وقهمت عنه أيضا إذا تركته ولم تشتهيه، وقبلت النعل وأقبلتها إذا جعلت لها قبالا، وقذعت الرجل بلساني وأقذعته إذا شتمته، وأسمعته ما يكره، وقرنت السماء وأقرنت إذا دام مطرها، وقوى الموضع وأقوى إذا خلا، وقتر الرجل على نفسه وأقتر إذا ضيق في النفقة، وقتر السرج وأقتر إذا لزم، وقعمت الرجل وأقعمته إذا قهرته، وقطع بالرجل وأقطع به، وقطرت عليه الماء وأقطرته، وقمّ الفحل الناقة وأقمها إذا لقمها وفرغ من ضرابها.(24/447)
وقبست الرجل وأقبسته، وقصّت الفرس وأقصت إذا ذهب وداقها وهو شهوتها للفحل، وقهرت الرجل وأقهرته وقصّى الرجل النسرين وأقصّه إذا ألقى عليه سكرا أو قندا، وقصرت الثوب وأقصرته إذا جعلته قصيرا، وقررت ماء في أسفل الإناء وأقررته إذا صببته، وقممت الرجل في الماء وأقممته إذا عطعطته في الماء، وقلته في البيع وأقلته وقطيت الشراب وأقطيته إذا مزجته.
يقال كن الرجل كنّا وأكنه إكنانا إذا غطاه وستره، وكئب الرجل وأكأب من الكآبة إذا حزن، وكنبت يد الرجل وأكنبت إذا غلظت من علاج شيء يعمله ... وكشفت الناقة وأكشفت إذا تابعت من النتاجين، وكمأت الرجل وأكمأته إذا أطعمته الكمأة، وكمأ الرجل شهادته وأكمأها إذا كتمها، وكرن الحمار وأكرن إذا شم البول ثم رفع رأسه، وكلأت الإبل وأكلأت إذا أكلت وكل نبت يرعى فهو كلأة.
يقال لاق الرجل الدواة وألاقها ... وقال أهل اللغة أصل هذا أن يحبس الأنفاس فيها، ولحفت الرجل الثوب وألحفته إياه ... ولمع بثوبه وألمع به إذا أشار به، ولحد عن القصد وألحد إذا مال، وكذلك لحدت الميت وألحدته جعلت له لحدا، ولحقت القوم وألحقتهم، ورووا: أن عذابك بالكافرين ملحق ولاحق، ولغط القوم وألغطوا إذا ضجوا ولم يأتوا بما يفهم، ولبدت السرج وألبدته جعلت له لبدا ولخوت الغلام وألخوته إذا أسعطته، ولاح السيف وألاح إذا برق قال الشاعر:
كأنه ضرم بالكف مقبوس
وقد ألاح بعدما هجعوا
ولاذ الطريق بالدار وألاذ بها إذا أحاط بها ... ولاذ الرجل وألاذ به إذا دار وطاف حوله، ولظ الرجل وألظه إذا ستره، ولاثنى الشيء عن وجهي وألاثنى إذا صرفني وأمر لائث ومليث، ولبدت الخف وألبدته وخف ملبود وملبد.
يقال: نعم الله به عيشنا، وأنعم بك عيشنا وقال الشاعر:
سل والمرسل الرسالة عينا
نعم الله بالرسول الذي أر(24/448)
ونصف النهار وانتصف، وأنصف، ونحد الفرس وأنحد إذا جرى عرقه من العدو، ونزف الرجل عبرته وأنزفها، ونكرت الشيء، وأنكرته، ونويت الصوم وأنويته نمن النية، ونويت التمر وأنويته إذا أكلت ما على النوى منه ورميت بالنوى، ونويت فلانا وأنويته إذا قضيت حاجته، ونحوت الجلد وأنحيته إذا كشطته، ونميت الشيء أنميه نماء إذا رفعته، وأنميته إنماء مثله، ونبت البقل نباتا وأنبت إنباتا، ونصع الرجل بالحق نصوعا وأنصع به إذا أقرى به، ونضر الله وجهه، وأنضر الله وجهك أي حسنه ونفله الله وأنفله إذا أعطاه، ونحا بصره إليه ينحوه وأنحى بصره ينحيه إذا رماه ببصره، وقال الأخفش: نتجت الناقة وأنتجت بمعنى واحد ... ويقال: نهد الرجل الهدية وأنهدها إذا أعظمها وأضخمها، ونسأ الله أجله، وأنسأ الله في أجله أي أخره، ونجمت السن وأنجمت إذا طلعت، ونسل الوبر نسولا وأنسل إنسالا إذا سقط.
يقال وفيت بالعهد وأوفيت قال الشاعر:
كما وفا بقلاص النجم حاديها
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته(24/449)
ويقال وجرت الرجل وأوجرته من الجور وهو السيوط، ووتدت الوتد أتده وأوتدته أوتده ... وقد وضح الراكب وأوضح إذا بين لك ... ووقعت بالقوم في القتال وأوقعت بهم أي أثرت فيهم بالعزيمة والقتل. ووقفت الدابة وأوقفته [63] بالألف زدته جدا، ووكف البيت وأوكف، ووجنت الرجل وأوجنت هو أن تكلمه بكلام تخيفه، وومأت وأومأت إليه، ووهن الله أمر فلان وأوهنه، ووغل الرجل في الأرض وأوغل فيها إذا أنفذ، وورس الرمث وأورس إذا اصفر والرمث ضرب من الشجر، ووضعت الناقة في السير وأوضعت إذا أسرعت فيه، ووبهت للشيء ووبهت له إذا انتهيت له وعلمت به، ووخفت الخطمى وأوخفته إذا بللته بالماء وضربته بيدك ليختلط، ووقذت الرجل أقذه قذة ووقذا، وأوقذته إيقاذا إذا تركته عليلا، ووترت الشيء إذا أفردته، ووسع الله على الرجل وأوسع عليه، ووهمت في الشيء وأوهمت، ووصب الرجل وأوصب إذا مرض، ووهطت في الشيء وأوهطته إذا ألقيته كسرته.
يقال ألفت الشيء آلفه، وآلفته وأولفه إيلافا ... ويقال أجره الله بأجره وآجره يؤجره وهو مأجور ومؤجر وكذلك أجرت المملوك وآجرته أعطيته أجرته.
وأدمت بين القوم وآدمت بينهم وأدمت الثريد وآدمته إذا خلطته باللحم، وأمرت الشيء وآمرته أي كثرته.
وعلاج هذه الأبواب في اللغة العربية أن صيغة أفعل:
1_ قد تأتي بمعنى فعل عند أهل اللغة وقد حصرنا طرفا من هذه الأفعال.
2_ وقد يكون أفعل مستقلا ويرفض [64] الثلاثي منه مثل رسل وأرسل أو يكون ثلاثيه قليلا.
3_ وقد يكون أفعل مستقلا بمعنى لأن فعل الثلاثي له معنى آخر يختلف عن معنى الرباعي وقد حصر العلماء طرفا من هذه الأفعال منهم الزجاج في كتابه فعلت وأفعلت والمعنى مختلف.
4_هذا وبعض المواد يكون ثلاثيا ولا يأتي منه أفعل عند أهل اللغة أو يكون لغة قليلة، فيختار فيه الثلاثي على أفعل.(24/450)
وقد عرضت طرفا من الأفعال التي جاءت على أفعل عند بمعنى فعل أي أن الثلاثي المجرد والمزيد بالهمزة بمعنى واحد عند أهل اللغة.
ثم بينت آراء العلماء في هذا الاستعمال، كما عرضت طرفا من الأفعال التي استعمل العلماء ثلاثيها وأختير المزيد بالهمزة على الثلاثي في الاستعمال.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذه هي الحلقة الأولى من هذا البحث. سبقتها في النشر الحلقة الثانية بعدد المجلة رقم 49 للسنة 13 بصفحة 266 سهوا، فرأينا نشر الحلقة الأولى في هذا العدد، وتليها إن شاء الله الحلقة الثالثة –فإلى هذا نلفت انتباه القراء الكرام. والله الموفق (تحرير المجلة) .
[2] هذا البحث يجمع ما تفرق من أحكام السماع والقياس والشذوذ والندور وما إليها من الأحكام اللغوية لهذه لصيغة.
[3] انظر المقتضب تحقيق العلامة الشيخ عضيمة ج 1 ص154.
[4] انظر الأفعال لابن القوطية ص 12.
[5] انظر المنصف ص 25.
[6] شرح المفصل ج 10 ص 5.
[7] شرح المفصل ج4 ص 30.
[8] أبزلفة في هبز إذا مات فجأة ولم أجد فيما بين أيدينا من كتب اللغة أبز له وهبز له وفي الأمالي أبزت له وهبزت له فهو تصحيف.
[9] انظر سيبويه ج 2 ص 233.
[10] انظر الشافية ج 1 ص 86.
[11] انظر سيبويه ج 2 ص 234 والشافية ج 1 ص 87، والأشموني ج 2 ص 125 تحقيق محي الدين.
[12] انظر سيبويه ج 2 ص 237.
[13] انظر المغني لابن هشام ص 150 ج 2 مبحث الأمور التي يصير اللازم بها متعديا.
[14] انظر البحر المحيط ج 1 ص 160.
[15] البحر المحيط ج 1 ص 198.
[16] انظر البحر المحيط ج 1 ص 372.
[17] انظر رصف المباني في شرح حروف المعاني للمالقي ص 48، 49، 50 وتحقيق الخراط.
[18] سورة طه 69.(24/451)
[19] قال في اللسان: مادة (عصا) نسب إلى معقر بن حمار أو عبد ربه السلمي أو سليم بن ثمامة وجاء في القرطبي ص 474.
[20] البيت لأبي الأسود الدؤلي وهو في ديوانه /123، والكتاب ج 1 ص 169 وثعلب /123 واللسان (عتب) الإنصاف ص 159 وابن يعيش ج 9 ص 254.
[21] البيت لعنترة وهو في ديوانه ص 214 وفي حماسة البحتري /110، انظر المرجع السابق ص 50.
[22] البيت لامرئ القيس ديوانه ص 93، الكتاب ص 489 ومعاني القرآن ج 1 ص 133 واللسان (مطا) وابن يعيش ج 5 ص 79 والمغني والأشموني وشواهد المغني ص 374.
[23] البيت للبيد ديوانه ص 93، ونوادر أبي زيد ص 213، واللسان (مجد) والخصائص ج 1 ص 370 باب في لفصيح يجتمع في كلامه لفتان فصاعدا.
[24] انظر المرجع السابق ص 151.
[25] البيت لامرئ القيس ديوانه ص 169، وطرفي عيني، غوارب الرمل: أوائله، الالأ: الشجر وكذلك الشبرق.
[26] لبيت لزهير ديوانه ص 201، والفيلق: الكتيبة وشبهها بالشراب اللون الجديد: جأواء علاها لون الصدأ والحديد شخب خروج اللبن من ضرع الناقة.
[27] الغدة عقدة بها شحم.
[28] انظر سيبويه ج 2 ص 235، والشافية ج 1 ص 88.
[29] انظر سيبويه ج 2 ص 236، والشافية ج 1 ص 89، وأدب الكاتب لابن قتيبة ص 475 قال: أركب المهر حان أن يركب، وأحصد الزرع حان أن يحصد، وأقطف الكرم حان أن يقطف وكذلك يقال أقطف القوم حان أن يقطفوا كرومهم، وأجزوا وأوجدوا وأغلوا كذلك وانتجت النخيل حان نتاجها.
[30] انظر المغني ج 2 الباب الثالث عند الكلام على تعلق الظرف والجار والمجرور بالفعل الناقص.
[31] انظر البحر المحيط ج 3 ص 83.
[32] انظر البحر المحيط ج 3 ص 83.
[33] انظر البحر ج 7 ص 335.
[34] انظر حاشية الجمل ج 3 ص 548.
[35] انظر البحر ج 8 ص 411.
[36] انظر سيبويه ج 2 ص 235، والشافية ج 1 ص 88.(24/452)
[37] انظر شرح أدب الكاتب للجواليقي ص 313، وأدب الكاتب لابن قتيبة ص 472.
[38] الخفاء من الأضداد يقال خفيت الشيء، إذا أظهرته.
[39] انظر البحر المحيط ج 6 ص 232 والعكبري ج 2 ص 63.
[40] انظر رسالة أحمد تيمور باشا في السماع والقياس ص 69 موجود بمكتبة الجامعة الإسلامية العامة.
[41] انظر سيبويه ج 2 ص 236 والشافية ج 1 ص 90.
[42] انظر البحر المحيط ج 6 ص 119، وأمالي الشجري ج 1 ص 149.
[43] انظر أدب الكاتب لابن قتيبة ص 473.
[44] انظر أمالي ابن الشجري ج 1 ص 226، وشرح أدب الكاتب ص 313.
[45] لرؤبه من أرجوزة التي أولها: وقاتم الأعماق خاوي المخترق والحديث عن حمار الوحش والخلصاء، والبرق جمع لبرقة وهي مكان فيه حجارة ورمل.
[46] الأعشى من قصيدته التي هذا البيت مطلعها وصدره: أثوى وقصر ليله ليزودا.
[47] لابن أحمر وقوله: (تحجي بآخرنا) أي تسبق إليهم باللوم.
[48] لم أعثر على نسبته وذكره ابن قتيبة في المعاني الكبير ص 521.
[49] انظر أدب الكاتب ص 472.
[50] انظر اللمع ج 2 ص 161.
[51] انظر سيبويه ج 2 ص 235، والشافية ج 1 ص 89.
[52] انظر الأشباه ج 1 ص 312 وانظر الخصائص ج 3 ص 253، ص 254 باب فيما يؤمنه علم العربية من لاعتقادات الدينية.
[53] انظر المزهر ج 2 ص 82.
[54] انظر البحر المحيط ج 8 ص 303.
[55] انظر الخصائص ج 2 ص 215 باب في نقض العادة، وانظر الأشباه ج 1 ص 338.
[56] أي سوى أذنه ونصبها للاستماع وذلك إذا جد في السير.
[57] انظر إصلاح المنطق ص 251، 311.
[58] بفتح النون من نتجت.
[59] انظر كتاب النوادر لأبي زيد بن أوس الأنصاري ص 208.
[60] انظر كتاب الأفعال ج 2 ص 162 سقى.
[61] انظر باب الراء على فعل وأفعل باتفاق معنى ج 2.(24/453)
[62] أنشده في بعض كتب اللغة وأشبرنيه وقال أنه لابن أحمر يصف سيفا
[63] انظر المزهر ج 2 وقف وأوقف وصرف وأصرف.
[64] مثل، أرسل، أعرب، وأطنب، وأسهب، وأقفر المكان، وأهملت الشيء، وأبقل، وأيفع، وأورس، ,اعشب، وأغضى الليل وأمحل البلد، وأجنه الله، وأزكمه الله، وأقره الله فهو مقرور، وأحمه الله فهو محموم، وألجم، وأسحم.(24/454)
يا رب
للدكتور عز الدين علي السيّد
كلية اللغة العربية
فلبي عليل.. منك يشفيني
وعلتي حب دنيا عنك تنئيني!
فلا تكلني لنفسي.. إنها رصد
لفاتني.. بهوى دنياي يغريني!
وبالغرائز نحو الشر يسرع بي
ومن حياض الردى بالحس يسقيني
لا أستطيع نجاة دون لطفك بي
وكيف والنفس مني نصف تكويني؟
والحسن يا رب في الآفاق منتشر
وفي المروج.. وفي زهر البساتين
شتى التصاوير.. أجناس مفوفة
بأبدع الصنع من رسم وتلوين
وفي العيون التي فاض الزلال بها
من باطن الأرض في ورد ونسرين!
وفي العيون التي يزكى الهيام بها
نار الجوى.. من وجوه الخرد العين
وفي البلابل والأغصان تحملها
نشوى.. تمايل من شدو وتلحين!
ونسمة الفجر بالريا معطرة
يمازج الوجد منها كل عرنين
وفي السماء غوان بتن في ألق
والبدر بالنور يدنو لي فيدنيني
إن عسعس الصبح خلى الأفق في خجل
لموكب الشمس مزهوا يحييني
أني وردت بعيني موردا سبحت
عيني على ضوء حسن منك يصبيني
أخاف يا رب أن أشقى بظاهره
عن باطن السر أغفو عنه يرديني!
أخاف أعشق دنيا الحسن تملكني
فلا أراك وراء الحسن تهدينيي
فلا تكلني لنفسي.. إنها سكنت
من بعد أفق السنى بيتا من الطين
يهوي بها إن يدعها اللطف مرتكسا
بلا جمال.. ولا دنيا.. ولا دين!(24/455)
في الغار
للشيخ ضياء الدين الصابوني
موجه اللغة العربية بالمعهد الثانوي
إني لأذكر كيف كان محمد
يقضي الليالي ناعم الوجدان
في الغار ينعم سابحا ومناجيا
متفكرا في روعة الأكوان
يتأمل الكون البديع نظامه
والليل ساج مفعم الأشجان
قد فر من رجس الطغاة وجورهم
والقوم قد عكفوا على الأوثان
يقضي الليالي وحده متحنثا
في الغار يستوحي هدي الديان
وتنزل الوحي العظيم بيانه
متدفقا في قلبه الظمآن
(اقرأ كتاب الله. لست بقار
اقرأ بربك خال
(اقرأ) كتاب الله لست بقارئ
اقرأ بربك خالق الإنسان
(اقرأ) وتلك مكانة لم يعطها
غير النبي المصطفى العدناني
فمضى يخف إلى خديجة زوجه
مترقبا في حيرة الوجلان
فإذا به يجد السعادة والرضا
وتقر من تطمينها العينان
تالله لا يخزيك يا علم التقى
يا واصل الأرحام والجيران
يا مسعف الفقراء في آلامها
يا مكرم الأيتام والضيفان
يا ماسح العبرات من آماقها
ومخفف الآلام والأشجان
فكأنما كلماتها في لينها
شهد، وفي التأثير سحر بيان(24/456)
في المشارق والمغارب
جنوب شرقي آسيا
الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
في شاطئ البحر:
جاء إلينا الأخ محمد فذهبنا بعد صلاة الفجر إلى شاطئ البحر واستغرق مسيرنا إليه ساعتين إلا ربعا تقريبا، وهذا البحر الذي كنا في شاطئه هو المسمى بمضيق ملقة، وهو من المحيط الهادي، وملقة اسم يطلق على ماليزيا وهذا البحر يفصل بين ماليزيا وبين سومطرة إحدى الجزر الأندونسية الغربية.
وكان البحر هادئا في هذا الوقت فقعدنا على الشاطئ والأخ محمد يثير كثيرا من الأسئلة التي كنا نحاول الإجابة عليها والمذاكرة في شأنها.
وقبيل الساعة التاسعة تحركنا إلى العاصمة، وكنت في الذهاب راكبا في المقعد الأمامي مربوطا كالسائق بحزام الأمان، لأن القانون هناك يوجب ذلك على القائد ومن بجواره وكنت متضايقا طيلة السير الذي لا يقل عن مائة كيلو وعند الرجوع قلت للشيخ عبد القوي لابد أن تكون أنت الآن في الأمام مظهرا له الإيثار وكنت أريد أن أتمتع برؤيته مربوطا لا يحرك إلا رأسه، وكنت أقول له انظر يمينا –لبعض المناظر- أو يسارا فيقول أنا مربوط.
دعوة زعيم البوذيين في داخل معبده:(24/457)
وعندما دخلنا المدينة أشير إلى المعبد بوذى وعرض علينا الأخ محمد زيارته للاطلاع. فقلت: نحن مسلمون لباسنا ينبئ الناس أننا من الجزيرة العربية وفيها الكعبة بيت الله الذي يتجه إليه ملايين المسلمين لعبادة الله الواحد وأخشى أن يكون في حضورنا إليه ما يدعو بعض الجهال إلى اعتقاد شيء لا يليق قالوا فلنقترب لنراه من الخارج ثم نعود وعندما اقتربنا شاهدنا خارج المعبد رجلا قاعدا تحت شجرة بجوار المعبد وهو يلبس مثل لباس الإحرام عندنا إلا أن ثيابه تميل إلى الصفرة وهي رقيقة فسألت من يكون هذا؟ فقالوا هذا هو السادن المعظم عند البوذيين وهو المسئول عن المعبد قلت: يجب إذن أن نبلغه دعوة التوحيد وعندما نزلنا اتجه هو إلى داخل الدير الذي نصب فيه الوثن فدخلنا بعد أن خلعنا نعالنا ترجيحا لجانب تبليغ عقيدة لا إله إلا الله وإلا فقد كنت عازما على الدخول بالنعال.
وعندما دخلنا رأينا المبنى كله قاعة واحدة من الداخل وبجانب الجدار الواقع أمام الداخل – أي في أقصى القاعة - بنيت دكة مرتفعة من الحجارة وعليها نصب التمثال الذي يرمز لبوذا والناس يدخلون وقد وضعت أمامهم أعواد الند (بخور) وملئت أحواض بتربة وكان الواحد منهم يشعل النار في عود البخور ثم يتجه إلى الوثن مشيرا إليه برأسه ويديه وفيها البخور ثم يغرز عود البخور في التربة وينصرف وبعضهم يرفع العودين في يديه فوق رأسه مشيرا بهما وبرأسه سواء إلى الوثن.(24/458)
قلت للرجل مشيرا إليه بيدي – أي السادن - تعال فجاء حتى وقف بجواري وعليه علامة الاضطراب عندما رآنا نقف وقوف المستهترين بإلهه وبعبادته رافعين رؤوسنا نحس بالعزة وقلت له – وكان يترجم بيني وبينه الأخ عبد الله باهرمز ويساعده محمد أمين - ما سبب عبادتكم لهذا الحجر ومن أين جئتم بأصل هذه العبادة؟ فقال: هذه عبادة أصلها من الهند وهو من توجيهات بوذا. قلت: ولكن هذا حجر منحوت أعطيتموه صفة الألوهية وعبدتموه من دون الله فلماذا؟ قال: لأنه يرمز لبوذا.
قلت: وبوذا هذا إله عندكم أم نبي؟ قال: نبي، قلت: أنتم إذن تعبدون رمز النبي وليس الخالق. فقال: هكذا تعاليم بوذا.
قلت: الأنبياء كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده مباشرة بدون واسطة ونهوا الناس عن عبادة غيره وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع والذي يستحق العبادة هو الله الخالق ونحن ندعوك إلى الإسلام الذي لا يوجد في الأرض دين يرضاه الله سواه. فقال: هذا صحيح ونحن نعتقد أن الإله واحد وهذه الأوثان ما هي إلا وسائط تقربنا إليه فبينت معنى لا إله إلا الله وأنها هي السبيل الوحيد للدين الحق وأنه لا يجوز عبادة غير الله بأي شكل من الأشكال وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حارب مشركي قريش الذين كانوا يقولون مثلكم ما ندعوهم إلا ليقربون إلى الله زلفى فقال هذه تعاليم بوذا، وكان يبدو عليه الخوف والوجل والعجز أمام الحجة حتى أن ريقه جف ووجهه انتقع قلت: هكذا كان أهل الشرك حجتهم على شركهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . قلنا له بعد ذلك لقد أقمنا عليك الحجة.
ثم ذهبنا إلى مطعم يقال عنه أنه إسلامي: تناولنا فيه طعام الإفطار ووجد فيه الشيخ عبد القوي بغيته فاكهة (ليتشي) إلا أنه معلب كما وجدنا فاكهة أخرى لذيذة تسمى باباي، واسمها في اليمن (عمبرود) وكنت في غاية الشوق إلى تناولها فقلت للشيخ: تلك بغيتك وهذه بغيتي.(24/459)
رجعنا إلى الفندق واتفقنا أن ننام (شوية) حسب اصطلاح الشيخ عبد القوي –وكان ذلك من الساعة الثانية عشرة ظهرا إلى أذان العصر حيث قمنا فصلينا الظهر والعصر.
لا تقف كالقرد عند القشرة:
أحضر لنا الأخ عبد الله بن سعيد باهرمز فاكهة عجيبة تسمى: (منجز) يحيط بها غلاف (قشر) يميل إلى السواد وفي أحد طرفيه –الطرف الأسفل نتوءات مصفوفة تارة تكون خمسة وتارة تكون ستة، فإذا أزيل القشر وجد بداخله حبات مصفوفة من جوانبه المختلفة بعدد النتوءات الموجودة في طرفه وهذه الحبات مستطيلة مع شيء من الاستدارة وهو التي تؤكل بعد إزالة القشرة وبداخل كل حبة نواة صغيرة تلفظ أما قشره فإنه مر.
قال الأخ عبد الله إن قردا أعطى هذه الفاكهة فذاق قشرها فوجده مرا فرمى الفاكهة فصار يضرب به المثل للإنسان الذي لا يسبر غور الأمور ولا يفكر فيها فيقال لا تكن كالقرد يرمي المنجز لمرارة قشره.
أما طرف هذه الفاكهة الأعلى – وهو الذي يكون معلقا بالشجرة فإن فيه ثلاث نتوءات أحدها كبير واثنان صغيران وتوجد إحدى الحبات في الداخل كبيرة.
اجتهاد هو أم انحراف:
التقينا في الفندق برجل سلم علينا وخاطبنا باللغة العربية عندما رآنا نلبس اللباس العربي وعندما بدأنا التعارف ظهر أنه الأستاذ يوسف كمال أحد كتاب جريدة الدعوة المصرية، وبدأ الأخ يوسف يشكو من انحراف فكر بعض من يزعمون أنهم من الدعاة إلى الإسلام الذين يتنكرون للفقه الإسلامي الذي وصل إلينا عن طريق علماء السلف الصالح.(24/460)
وقال: إن هؤلاء أحلوا عقولهم محل النصوص الإسلامية كما هو شأن المعتزلة وحذر من خطرهم على الدين الإسلامي بدعوى الاجتهاد وتحريف المفاهيم الإسلامية وحثنا على أن نبلغ علماء المملكة العربية السعودية بأن يتصدوا لهذه التيار الجارف في كثير من بلدان العالم الإسلامي، لأن كلمة علماء المملكة العربية السعودية لها وقع في نفوس كثير من المسلمين وضرب بعض الأمثلة على هذا الانحراف منها ما زعمه بعض الناس من أن المعاملات التجارية والاقتصادية ونحوها لا داعي لتقييدها بالفقه الإسلامي بحجة أن الفقهاء السابقين اجتهدوا في قضايا عصرهم ونحن يجب أن نجتهد في قضايا عصرنا دون حاجة إلى التقيد بآرائهم في ذلك.
ومنها ما زعمته طائفة أخرى من أن أخبار الآحاد في السنة لا تثبت بها عقيدة ولا شريعة وإنها كانت مجرد تجارب للرسول صلى الله عليه وسلم في قضايا معينة ولا يلزم اطراد أحكامها والتقيد بها محتجين ببعض قضايا اجتهادية حصلت من بعض الصحابة كقضاء عمر في طلاق الثلاث ونحوها قالوا: فإذا تخطى الصحابة تلك الأحكام في عهدهم دل على جواز اجتهاد من بعدهم ولو خالف هذا الاجتهاد أخبار الآحاد.
قلت: وهؤلاء المنحرفين، وأمثالهم هم بلاء على الأمة الإسلامية لأنهم يظهرون برجال دعوة ويلجون من باب مسلم به، وهو باب الاجتهاد المفتوح، لأهله لا أمثالهم من الجهلة المنتسبين إلى العلم ويلزم على آرائهم هذه أن تنبذ أغلب النصوص الإسلامية ويأتي من أراد بما يهوي من بدع وانحرافات فليحذر شباب الإسلام المتحمس لدينه من هؤلاء الجهلة، وليحذر الصالحون الذين يرغبون في تقدم الفقه الإسلامي لإيجاد الحلول للمشكلات المعاصرة، من دعوى هؤلاء فإنهم قد يكونون رسل هدم لحصوننا من داخلها.(24/461)
وجاء الأخ دخلان –الأمين المساعد لحركة الشباب الإسلامي الماليزي- وذكر لنا أن عندهم مشروع إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وإن المدرسة قائمة في مبنى أعارهم إياه بعض الصالحين، وقد بلغ عدد الطلبة الموجودين فيه أكثر من أربعمائة طالب. وهو يرغبون في شراء أرض يقيمون عليها مبنى لهذه المدرسة، ولكنهم لا يملكون ما يكفي لذلك، وأنهم يرغبون في المؤسسات الإسلامية أن تساعدهم. فقلنا لهم: لا مانع عندنا من إبلاغ المؤسسات الإسلامية الموجودة في المملكة العربية السعودية وإذا شئتم أن تكتبوا خطابات بهذا الشأن فسنحملها ونبلغ هذه المؤسسات.
إلى سنغافورة (15 /8 /1400 هجري) :
ذهب الأخ عبد الله با هرمز والابن عبد البر فحجزوا لنا على الخطوط الماليزية إلى سنغافورة، كما حجزوا لنا كذلك إلى أندونيسيا.. من سنغافورة صباح غد الأربعاء وطلب منا الأخ دخلان أن نستعد لنذهب للمركز، لأن الأخ أنور إبراهيم في انتظارنا يود مقابلتنا لأنه لانشغاله لم يستطع مقابلتنا، ومن المركز نذهب إلى المطار فذهبنا إلى المركز واتقينا بالأخ أنور، الذي قدم لنا طعام الغداء واعتذر لتقصيره –كما قال- في عدم استطاعته لقاءنا فقلنا له: أنت في جهاد ونرجو لك التوفيق.
والأخ أنور من شباب الدعوة النوادر، الذين يمنحهم الله صفات نادرة من الصبر والحماس والتأثير على الناس وإقناعهم بالدعوة والتضحية بالوقت، والقدوة الحسنة. هكذا نظنه ولا نزكي على الله أحدا.(24/462)
غادرنا المركز إلى المطار وفي الثانية والربع بعد الظهر صعدنا إلى الطائرة خطوط ماليزيا –وبعد إقلاعها (في الساعة الثانية والنصف) بثلاث وعشرين دقيقة أعلن المضيف أننا دخلنا سنغافورة فلم أرها فيما ظهر لي تختلف عن أرض ماليزيا في مونها مكسوة بالأشجار والغابات والمزارع. وكنت في هذه اللحظات أتمتع بجمال خلق الله: غابات تكسو الجبال والوهاد، وبحر تنعكس زرقته على أشعة الشمس وسحاب شديد البياض مثل قوافل يتبع بعضها بعضا وباجتماع ذلك كله أصبح ضوء الشمس يشبه غسق الفجر أو الليل المقمر.
هبطت بنا الطائرة في مطار سنغافورة في الساعة الثالثة والدقيقة السابعة- فرأينا باحة المطار وممراته وقاعاته غاية في النظافة والتنظيم والجمال.
فك الارتباط:
كان الأخ عبد الله بن سعيد باهرمز، قد فهم من الخطوط الماليزية أن نزولنا في أحد فنادق سنغافورة سيكون على حساب الخطوط المذكورة، لأن الحجز تم عن طريقها من سنغافورة إلى جاكرتا، وعندما طلب من الموظفة المختصة أن تعطيه بطاقة للفندق قالت له أنتم لا تستحقون ذلك، لأنكم حجزتم ليوم غد وكان في إمكانكم السفر اليوم لأن الرحلات موجودة –وكانت على حق في ذلك- ولكن صاحبنا باهرمز أخذ يراجع ويحاجج وبدأت الموظفة ترتفع درجة حرارتها لتدافع عن رأيها واقتربنا من الخصمين وسألت عبد الله عما يجري فأخبرني فقلت له: الحق معها وبذلك فك الارتباط والحمد لله.
وفك مثل هذا الارتباط محمود، أما غيره فأهله أدرى به.
ثم ذهبنا إلى مكان آخر أودعنا فيه عفشنا الذي لا حاجة لنا به بأجرة محدودة.
جمال المظهر:(24/463)
ركبنا سيارة أجرة صغيرة إلى داخل المدينة (سنغافورة) ، فرأينا إعلانا في مقدمة السيارة: ممنوع التدخين، وكنا رأينا ذلك في جميع الأماكن داخل قاعة المطار، فقلنا للسائق هل التدخين ممنوع في سنغافورة كلها، فقال: ممنوع في كل مرفق عام يشترك فيه عامة الناس، ويضطرون للاختلاط كالسيارات والقطارات والطائرات والسفن والأماكن العامة كالقاعات ونحوها.
قلت: يا ليت قومي يعلمون فيعملون، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، أننا نكاد نختنق في وسائل نقلنا العامة وفي قاعات مطاراتنا وفي بعض قاعات اجتماعاتنا ومحاضراتنا، ويعود الإنسان منا إلى أهله وقد انبعثت عليهم من ثيابه رائحة الدخان حتى ليشك فيه أنه أصبح من المدمنين، وأن المؤمنين لأولى بمنع هذه المضرات التي بين ضررها المختصون فأين الجهات المسئولة وأين المتجاوبون معها؟
وكان السائق مسلما يسمى موسى بن دحلان وكان لطيفا في قيادته ومعاملته.
وصلنا إلى فندق نيجارا في داخل المدينة في الساعة الرابعة والنصف أخذنا راحتنا ثم تجولنا في بعض الأسواق، ويقتضي النظام هناك أن تقفل الدكاكين في الساعة التاسعة مساء، إلا بعض الأماكن التجارية الخاصة وبحثنا عن مطعم إسلامي فلم نجد إلا بعد مشقة مطعما يقوم بإدارته والطبخ فيه بعض مسلمي الهند، وعندما رأونا استقبلونا استقبالا حارا وقدموا لنا أيضا طعاما حارا بالفلافل فشكرناهم بألسنتنا ودموعنا التي أسالها الفلفل. ثم رجعنا إلى الفندق فنمنا، ويسود مدينة سنغافورة إضافة إلى النظافة والجمال الهدوء.
إلى أندونيسيا (26 /8 /1400 هجري) :(24/464)
وفي الساعة العاشرة تحركنا من الفندق على مطار سنغافورة فتسلمنا الأثاث وأنهينا الإجراءات وأقلعت بنا طائرة الخطوط السنغافورية في الساعة الحادية عشرة والدقيقة العاشرة، وبعد الإقلاع مباشرة أطللت من النافذة –كعادتي- فرأيت البحر وقد انتشرت فيه البواخر والقوارب، ثم ظهرت بعد قليل الجزر المكسوة بالخضرة وهي منتشرة في البحر بأشكال هندسية مختلفة.
وبعد ساعة وثمان دقائق أعلن المضيف دخولنا الأراضي الأندونيسية وهي كذلك مكسوة بالخضرة إلا أنها أقل كثافة –فيما بدا لي من ماليزيا وسنغافورة كما ظهرت بعض الأنهار المتعرجة التي تكتنفها الأراضي الزراعية وتنتشر القرى التي تستظل بيوتها بالأشجار، وفي الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثالثة والعشرين هبطت بنا الطائرة في مطار جاكرتا.
فطرة الأخوة الإسلامية في صمود أمام أعدائها:
مررنا بموظف الجمرك وكان التفتيش دقيقا إلا أنه عندما رآنا بلباسنا العربي قابلنا بالترحيب ولم يمس أثاثنا فغادرنا المطار وأخذنا سيارة أجرة صغيرة لم يتسع صندوقها الذي في المؤخرة للأثاث فرص ما بقي في المقعد الأمامي بجانبه ورصنا الأربعة في المقعد الأخير، قلت للأخوة أترون لو كان هذا في إحدى مدن بلادنا يرضى قائد السيارة أن يفعل هذا مع المبالغة في أخذ المزيد من المال، وهذا القائد لا يأخذ إلا ما حكم له به عداد سيارته.
ونزلنا في فندق كرتيكا (بلازه) وكان مزدحما بالنزلاء وفيه من ينتظر غيرنا ولم يحصل على مكان ولكن صاحب الفندق عندما رآنا سألنا باللغة العربية كم غرفة تريدون –وكان عبد الله باهرمز يجادل مع الموظفين وهم يقولون له لا توجد عندنا غرف فاضية- قلنا نريد غرفتين فقال: تفضلوا وأمر الموظفين أن يهيئوا لنا حجرتين فهيئوهما بسرعة ونزلنا مطمئنين والحمد لله.(24/465)
وهذا الذي حصل في الفندق، وما حصل من موظف الجمرك في المطار يدل على أن عواطف المسلمين في الشعوب الإسلامية مؤتلفة ملتحمة ولم يفرق بينها إلا أعداء الله الذين نفخوا في أبناء الشعوب الإسلامية روح التعصب والعنصرية حتى أصبح كل شعب معزولا عن الآخر وأصبح الفرد المسلم من شعب مسلم يشعر بالغربة وبأنه أجنبي في شعب مسلم آخر ولكن فطرة الإخاء الإسلامي لا زالت موجودة إذا هبت ريح الإيمان على رماد الأعداء الذي دفنوا تلك الفطرة به ذهب هباء وبرزت فطرة الأخوة الإسلامية على رغم أنف أعداء المسلمين حية ملتهبة.
وفي المساء زارنا بعض طلبة الجامعة الإسلامية من الأندونيسيين وتذاكرنا معهم منهاج زيارتنا وضربنا بعض المواعيد مع بعض علماء أندونيسيا لزيارتهم والتشاور معهم في منهاج الزيارة.
في المجلس الأندونيسي الأعلى (27 /8 /1400 هجري)
في الساعة الحادية عشرة صباحا قمنا بزيارة المجلس الأعلى الأندونيسي للدعوة الإسلامية، فوجدنا فيه بعض الذين تخرجوا من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ورئس هذا المجلس هو الدكتور محمد ناصر رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب ماشومي سابقا (وقد حل هذا الحزب) .
ولم يكن الدكتور موجودا في هذا الوقت، وعندما علم عنا أبلغنا عن طريق موظفي مكتبه أن الموعد معه بعد العصر.
وجدنا في المكتب الدكتور محمد رشيدي عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي وعضو المجلس الفقهي في الرابطة ومساعد مدير مكتب الرابطة في جاكرتا (ومدير المكتب هو الدكتور محمد ناصر) .(24/466)
تذاكرنا نحن والدكتور رشيدي –وهو يتكلم اللغة العربية- أحوال المسلمين في أندونيسيا والجهود التي يقوم بها دعاة الإسلام هناك والجهود المضادة من أعداء الإسلام هناك، والمحاولات الجادة لتحريف معاني الإسلام وتقوية المعاني الخرافية وإيجاد طائفة باطنية وغير ذلك من الانحرافات الشخصية، وخطر المدارس النصرانية على أبناء المسلمين الذين يضطرون للدخول فيها لعدم وجود مؤسسات إسلامية تستوعبهم لقلة الإمكانات.
أظهرت أم الخبائث حقده:
وعندما رجعنا إلى الفندق (بلازه) قابلنا عند المصعد رجل أوربي كبير الجثة طويل القامة متجهم الوجه، وأخذ يتكلم كلاما يظهر منه أنه غاضب وما كنت أفهم منه إلا كلمة عرب، وهيد، وبيق، (أي رأس كبير) وكان يوجه خطابه إلي ويمس رأس الابن عبد البر فعرفت بسرعة أنه قد خلط كمية كبيرة من الخمر بمخ رأسه حتى أصبح يهذي بما لا يدري فقلت للأخوة أنه سكران، فأشاروا إلي بالسكوت، وصعد معنا إلى الطابق الذي نحن فيه وهو يرغي ويزبد، وخرجنا من المصعد فخرج معنا وهو على حالته ومشى معنا، حتى قارب باب حجرتنا، ثم رجع إلى المصعد يردد كلمة (آم - سوري) أي آسف ويذكر هوتيل أي فندق فسألت الأخوة عن كلامه فقالوا كان يقول أن العرب متكبرون رؤوسهم كبار وعند رجوعه كان يقول أنا آسف وأنا سكنت معكم في فندق واحد وسأطلب من صاحب الفندق أن يخرجكم منه، وظهر أنه كان يسكن في غير الطابق الذي نسكن نحن فيه وصعوده معنا كان بدون شعور.
28 /8 /1400 هـ:(24/467)
في الساعة السادسة إلا عشر دقائق صباحا طرق باب الحجرة فقام الشيخ عبد القوي ليفتح فقلت له محذرا: لا تفتح حتى تعرف من بالباب لأن الوقت مبكر، وكنت أخشى أن يكون الأوروبي الذي شبهته بالثور الهولندي هو الذي طرق الباب في حالة تشبه حالته في الليلة الماضية وتحفزت في نفس الوقت وراء الشيخ عبد القوي استعدادا لأي طارئ، فقال الشيخ: ((هو)) أي من فإذا هو أحد الخدم يحمل إلينا طعام الإفطار فقال له الشيخ نحن لم نطلب طعاما في هذا الوقت فأراه الورقة وفيها رقم غرفتنا فعرفنا أن الأخ عبد الله باهرمز هو الذي طلب ذلك من الليل ليجمع بين الأمرين:
الأول: إحضار الإفطار
الثاني: إيقاظنا مبكرين على موعد مع المسئولين عن المدرسة الشافعية لزيارتها في الساعة الثامنة صباحا، وكان اليوم يوم جمعة يجب أن نستعد للصلاة، بعد ذلك نقلنا أثاثنا إلى الفندق (برزونت) بعد أن تناولنا طعام الإفطار.
في الطريق إلى المدرسة الشافعية:
وفي طريقنا إلى المدرسة الشافعية مررنا بالأسواق الشعبية في جاكرتا على شاطئ البحر، وبدت شوارعها غير نظيفة ولا منظمة بخلاف ما هو الحال في الشوارع العامة والأسواق الحديثة، ومررنا بإحدى الحارات فقال عبد الله باهرمز: هنا بيت عمتي وكان مصوبا نظره إلى جهة البيت حتى ابتعدت السيارة عن المكان وكأنه بذلك يستعطفنا لإعطائه فرصة زيارتها وقد أعطيها فعلا بعد ذلك.(24/468)
ثم قال عبد الله: أرى أن تروا ميدان الجنرالات السبعة. فقلنا: وما معنى الجنرالات السبعة هؤلاء؟ قال: عندما قام الشيوعيون بالمحاولة الانقلابية قتلوا بعض العلماء وبعض الضباط وكان منهم سبعة جنرالات أخذوهم وقتلوهم ورموهم في بئر وقد بنى حولها دكة ليست مرتفعة، وإذا أراد أحد أن يصعد إلى الدكة ليرى البئر فعليه أن يخلع نعليه مبالغة في تقديس هذا المكان فرفضت أن أخلع نعلي ولم أصعد واكتفيت بمعرفة أنها بئر وهكذا فعل الشيخ عبد القوي، وأخونا عبد الله والابن عبد البر. وبجانب البئر بني جدار عال وأقيمت عليه صور الجنرالات السبعة مجسمة وهم يمدون أيديهم مشيرين بأصابعهم إلى البئر إشارة إلى أن أعداءهم وضعوهم في هذه البئر بعد أم قتلوهم ورفع على نفس الجدار الذي أقيم عليه السبعة، الشعار الذي يحمل المبادئ الخمسة: (نتشاسيلا) . وسيأتي إن شاء الله شرح هذا الشعار وبيان الهدف منه.
والصور المجسمة في أندونيسيا أمر طبيعي توجد في كل مكان وهي من آثار الوثنية التي لم تمح إلى الآن.
في المدرسة الشافعية:(24/469)
هكذا تسمى هذه للمؤسسة، إذ أطلق اسم الشافعية في أندونيسيا فهي المقصودة وهي منسوبة إلى مؤسسها الشيخ عبد الله الشافعي، وهي تشمل الإعدادية والثانوية والعالية والجامعة وبها معهد للأيتام لا يقل عددهم عن أربعمائة يتيم ويتيمة، وعدد طلبة المؤسسة كلها لا يقلون عن خمسة آلاف طالب وطالبة، وكثير منهم يسكنون في القسم الداخلي، ولها فروع في مدن أخرى، ومع الدراسة المنهجية توجد تدريبات مهنية: خياطة، تطريز، وطباعة، وصباغة، وغيرها، وكان المؤسس قد ورث أرضا واسعة من والده، فأوقف هذه الأرض لهذه المؤسسة وبنى عليها المرافق اللازمة تدريجيا ولا زال الشيخ عبد الله الشافعي يسعى للتوسع في الأرض والبناء واستيعاب أعداد كثيرة من أبناء المسلمين الذين هم في أمس الحاجة إلى الرعاية والتعليم ولا يعرف قدر جهوده وجهود أمثاله من المهتمين بإقامة المدارس والملاجئ لأبناء المسلمين إلا من رأى الجهود القوية التي يبذلها أعداء الله لإبعاد شباب المسلمين عن دينهم من المبشرين بالدين وغيرهم من داخل البلاد ومن خارجها.
وصلنا مقر هذه المؤسسة واستقبلنا المسؤولون الموجودون بها –وكانوا في أيام إجازة- وكان الاجتماع في قاعة المحاضرات بمعهد اليتامى، واليتامى موجودون كلهم في مساكن معهدهم، لأنهم مضطرون للبقاء لعدم وجود من يعيلهم وكان هؤلاء اليتامى قد اجتمعوا في القاعة، بين وبنات وغالبهم من سن السادسة عشرة فأقل، البنون في جهة، والبنات في جهة أخرى، ويلبس البنات لباسا ساترا لما عدا الوجه والكفين وكانوا عند قدومنا ينشدون بعض الأناشيد الإسلامية وهي تتضمن ترحيبا بالقادمين والظاهر أنها معدة لكل ضيف يستحق أن يحتفى به عندهم وكان الشيخ عبد الله الشافعي غائبا في مهمة وحضر نائبه واعتذر له.(24/470)
وعندما دخلنا القاعة طلبوا من الأخ عبد الله باهرمز أن يعرف الحاضرين بنا وبمهمتنا ففعل. ثم قرأ أحد الطلبة من اليتامى ما تيسر من القرآن، وهو بالإضافة إلى كونه يتيما مقعد وكانت قراءته مجودة جيدة. وقام أحد الطلبة بكلمة ترحيب وإشادة بما يقوم به المؤسس من مساعدة الأيتام، وتلته إحدى الطالبات كذلك ثم قرأت إحدى الطالبات سورة الصف من حفظها.
ثم طلب مني أن ألقي كلمة فألقيت كلمة تضمنت. تهنئة المؤسس بهذا الفضل العظيم المبارك والدعاء له بالتوفيق للمزيد من الخير والإخلاص في العمل. ودعوة أغنياء المسلمين للاقتداء به في أعمال الخير.
وتهنئة طلبة هذه المؤسسة بما يسر الله لهم من العناية ولا سيما هؤلاء الأيتام وأن عليهم أن يشكروا الله ويدعوا للمؤسس ليكافئوه على عمله وأن على الجميع شكر الله الذي لولاه ما تيسر مثل هذا العمل المبارك.
وذكرت هؤلاء اليتامى بحالة غيرهم ممن يقعون في أيدي الكفار كالنصارى وغيرهم فإنهم ينفقون عليهم ليخرجوهم من دينهم ويجعلوهم أعداء له مع ضرب بعض الأمثلة لذلك. قام بعد ذلك نائب رئيس المؤسسة فألقى كلمة ترحيب وشكر على الزيارة وأشار إلى حاجة هذه المؤسسة إلى الدعم والمساعدة لا سيما المدرسين للغة العربية والمنح الدراسية، وأشار إلى أنهم سيبعثون للجامعة المنهج لمعادلته.
ثم تجولنا بعد ذلك للاطلاع على التدريبات المهنية للبنين والبنات من خياطة وتطريز وطباعة وغيرها.
وللشيخ عبد الله الشافعي أخ يدعى: الشيخ طاهر رحيلي: أسس مثله المدرسة الطاهرية وهي شبيهة بالشافعية ولم يتيسر لنا زيارة هذه ولكننا دعونا الله للجميع بالإعانة والتوفيق ورجونا للأخوين أن يحقق الله فيهما لأبويهما: علما ينتفع به وولدا صالحا يدعو له، وأن يحقق لهما كذلك من بعدهما هذا المعنى.
في الأزهر:(24/471)
وفي الساعة العاشرة صباحا غادرنا المدرسة الشافعية إلى الأزهر وهو جامع كبير سمى بالأزهر حبا في أن يكون له ما للأزهر في مصر من أثر في العالم الإسلامي.
استقبلنا الشيخ عبد الله سالم وهو أمين عام جامعة المعهد الإسلامي، وهي مؤسسة جامعية على الطراز الإسلامي –كما يقول الشيخ عبد الله سالم- ويرأس المؤسسة الدكتور همكا، وتتكون من أقسام منها: قسم التعليم من روضة الأطفال إلى العليا التي يدخل المتخرج فيها الجامعة. وقسم الصحة ويتولى معالجة الموظفين والطلاب مجانا، ويعالج غيرهم من خارج المؤسسة بأجر رمزي، وقسم الشباب ويقوم بنشاطات رياضية وثقافية واجتماعية، وبعض نشاط الفتوة، مثل الدفاع عن النفس ونحوها.
ومن النشاطات الثقافية إلقاء محاضرة أسبوعية لطلبة الجامعات والمدارس في جاكرتا حيث يحضرها منهم ما لا يقل عن ألف طالب يلقي هذه المحاضرة بعض كبار العلماء هناك مثل الدكتور محمد ناصر والدكتور رشيدي.
ومن نشاطاتهم تعليم الموسيقى الحربية وضرب الدفوف (والأندونيسيون) مغرومون بالموسيقى والأغاني والدفوف والرقص، وقد ينسبون بعض هذه الأنشطة إلى الدين فيقولون الموسيقى الدينية ولذلك قال الشيخ عبد القوي: يخشى أن يصبح كل شيء دينا فيقال: أغنية دينية موسيقى دينية ورقص ديني وطبل ديني وهكذا.
وقسم المكتبات، ويوجد في مكتبة المؤسسة خمسة آلاف كتاب باللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الأندونيسية، ولكن رواد المكتبة قليلون.
ويتبع التعليم شعبة تعليم اللغة العربية وقد تخرج فيها اثنان وأربعون شخصا. وتدرس القراءة والكتابة صباحا ومساء للرجال والنساء وقسم الدعوة وتصدر عنه مجلة وهي نصف شهرية يوزع منها أكثر من خمسين ألف نسخة وغير ذلك من الأقسام التي لا تخرج عن النشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي والفتوة.(24/472)
وقال الشيخ عبد الله سالم إن أول ما زار المملكة العربية السعودية (سنة 59 م) وأنه قد زار المملكة سبع مرات.
دخلنا بعد ذلك هذه المذاكرة إلى المسجد الذي قام بخطبة الجمعة والصلاة بالناس الدكتور همكا وكانت الخطبة –كما فهمت من النصوص العربية التي كان يستشهد بها في صيام رمضان وفوائده وآدابه- وبعد صلاة الجمعة ألقيت كلمة كانت تعبيرا عن شعورنا بالغبطة والسرور بهذه الجموع والعواطف الإسلامية وتذكيرا للمسلمين بأن هذا الدين أمانة عندما سلمنا إياه الأباء والأجداد وإن علينا أن نؤدي هذه الأمانة ونحفظها وأنه لا عزة لنا إلا بهذا الدين وإن كل من يحاول أن يصرفنا عنه فإنه خائن ظالم علينا أن نحذره وأن كل مبدأ غير الدين الإسلامي قد جرب فكان خسارة علينا ووبالا.
أعفونا من هذه التحية:
ثم ذهبنا بعد ذلك إلى أحد المطاعم –يسمى مطعم الشرق الأوسط- وأصل أهله حضارم وعندما رأونا بملابسنا العربية قدموا لنا تحية غير مرغوبة عندنا، وما كانوا على علم بذلك، وهي أغنية عربية –قال بعضنا إنها سعودية- فطلبنا منهم أن يعفونا من هذه التحية بإيقافها. فأوقفوها فورا، وكان هذا الإيقاف دليلا على أنهم ما أرادوا إلا احترامنا، ويؤسفنا أن هذا الطلب قد لا يلبى في كثير من مطاعمنا في البلاد العربية إصرارا على المعصية وعنادا للطالب.
وكانت وجوه أصحاب المطعم وجوها عربية واضحة وإن كانت ألسنتهم أندونيسية وكانوا مسرورين جدا بوجودنا ظهر ذلك في عنايتهم بنا أكثر من غيرنا وبطلاقة وجوههم معنا.
في منزل الدكتور محمد ناصر:(24/473)
زرنا في الساعة الرابعة والنصف مساء الدكتور محمد ناصر في منزله حيث كنا على موعد معه، وكنا نتذاكر شئون الدعوة الإسلامية ووسائلها ومعوقاتها، وكيف يمكن التغلب عليها، ومما ذكره في هذا المجال ربط العلوم الكونية بالعقيدة الإسلامية في الجامعات والمعاهد المعنية بهذه العلوم، لأن هذا الربط يؤثر في نفوس الطلبة ويجعلهم أكثر إيمانا وحماسا للإسلام ثم أنهم هم الذين يتقلدون مناصب الشعوب الإسلامية، وهم الذين سيكونون خنجرا في نحور أعداء الإسلام الذين يحاولون تثبيت العلمانية في الشعوب الإسلامية عن طريق الأفكار والنظريات وعن طريق التطبيق العملي بالقوة التي مكنوا منها، ولذلك لا بد من وضع مناهج تقطع الطريق على هؤلاء الأعداء.
وذكر الدكتور محمد ناصر أن محاولة ربط العلوم بالعقيدة قد بدأت فعلا من سنة 1972 م على هيئة دورات تدريبية حيث تخصص ثلاث أيام في الأسبوع ويشتغل اليوم بأكمله من صلاة الفجر إلى الليل ثم بعد كل ستة أشهر ثلاثة أيام، ثم انتشرت الفكرة وأصبح كثير من المثقفين يطلبون المزيد فأثمر ذلك.
وممن لهم اهتمام بهذا الأمر من العلماء:
1_ الأستاذ يوسف فيصل - متخصص في العلوم الاجتماعية
2_ الأستاذ الشاذلي – تكنولوجيا
3_ دارودي شريف – طب
4_ د. فريد مفتاح – تكنولوجيا
5_ د. عبد الرحمن – الاقتصاد
6_ د. رودي – طب
وقد حرصت على كتابة أسماء هؤلاء العلماء المهتمين بهذا السبيل ليتعرف عليهم أمثالهم من زملائهم في العالم الإسلامي ويستفيد بعضهم من بعض، لعلمي بأن أمثالهم موجودون وقد كتبوا وحاضروا ولهم أثر ملموس، وعن طريق المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في أندونيسيا الذي يرأسه الدكتور محمد ناصر ونائبه الدكتور رشيدي يستطيع من أراد الاتصال بهؤلاء العلماء أن يتصل بهم.(24/474)
وقد حملن سلسلة من الكتيبات التي أعدت لطلاب المدارس حسب منهج كتبهم التي ألفت في العلوم وربطت فيها تلك العلوم بالعقيدة الإسلامية وهي من إعداد الدكتور محمد ناصر جملتها إلى الجامعة الإسلامية لدراستها وطبعها وتوزيعها في أندونيسيا إن أنكن.
وقال الدكتور محمد ناصر إن محاولات جادة قد بذلت لإنشاء مساجد في الجامعات لإقامة الصلاة فيها وربط الطلاب الأساتذة بها وإن تلك المحاولة لقيت استجابة شعبية وقد أقرت بندا في ميزانية الجامعات يدعم هذا النشاط إلا أن ذلك أغاظ من تربوا في أحضان الغرب ممن لهم صلاحيات في هذه الجامعات وهزهم هذا النشاط الإسلامي فألغوا البند الخاص بذلك. وكان طلبة المدارس الحكومية –كالأهلية- يمنحون إجازة في شهر رمضان ويستغل ذلك علماء أندونيسيا والدعاة إلى الله فيقومون بتدريس طلبة المدارس الحكومية والجامعات في المدارس والجامعات الإسلامية طيلة شهر رمضان ويفد أبناء المسلمين لتلقي العلم والدعوة من كل مكان وتمتلئ بهم تلك المؤسسات، ولكن الحاقدين على الإسلام ألغوا إجازة شهر رمضان ليحرموا طلبة هذه المدارس من تلقي العلوم الإسلامية التي لا يجدونها في مدارسهم.. وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء الطلبة يفدون إلى المساجد والمدارس في المساء الذي هو وقت راحتهم وبعد صلاة الفجر –بل وقبل صلاة الفجر كما شاهدت ذلك بنفسي في الجامع الكبير في باندونج وسيأتي ذكره إن شاء الله- وقد كان رد فعل أولياء أمور الطلبة عنيفا ضد هذا القرار الذي اعتبروه ظالما، لأنه يحول بينهم وبين تعلم أبنائهم أمور دينهم التي لا ينالونها في المدارس الحكومية..
أخطار تهدد الإسلام في هذا الشعب:(24/475)
الأول: محاولة إقناع الجيش بموالاة بعض الأحزاب التي تقف ضد الإسلام، والأصل في الجيش حسب العرف السياسي العام أن يكون محايدا يحافظ على أمن البلاد في الداخل ويرد عنها الأخطار من الخارج، كما أن الأصل في الجيش حسب العرف الإسلامي أن يعد نفسه لرفع راية الإسلام "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
الخطر الثاني: إن هنالك محاولة جادة لدعم جماعات التخريف وتعميق العقيدة الباطنية في نفوس هذه الجماعات وجعل هذه الجماعات حزبا باطنيا معترفا به ليقوي به ذوو الاتجاه العلماني في البلاد وقد شعر العلماء بهذين الخطرين ولهم مواقف يشطرون عليها أعانهم الله وهدى بهم عباده.
وهناك خطر ثالث: وهو الإبقاء على الصفة الوثنية بين الوثنيين وتشجيع ذلك بشتى الوسائل والحول بين هؤلاء الوثنيين وبين الدخول في الإسلام بأساليب شتى.
ومن الأمور التي تبشر بخير نجاح محاولة ربط الشباب بالمساجد وقد رأينا هذا عندما كنا نصلي في أي مسجد العشاء والفجر وكذلك التراويح فإن المساجد والأماكن التي تحيط بها تمتلئ بالشباب من بنين وبنات من طلبة الجامعات والمدارس وإن الشوارع المؤدية إلى المساجد لتقف فيها حركة السير لكثرة الوافدين إلى المساجد أو الخارجين منها بعد انتهاء الصلاة وكأن المدينة – جاكرتا أو غيرها - قد أعدت مظاهرة عامة خرجت من كل بيت ينادي الجميع فيها – بلسان حالهمل - بسقوط الكفر.
رأينا هذا في شهر رمضان. أما في غيره فالظاهر أن قصاد المساجد أقل وهذا مع جهل كثير من الناس بدينهم وسيأتي تعليقي على هذا فيما بعد إن شاء الله.
مع الشيخ عبد الله الشافعي (29 /8 /1400 هجري)(24/476)
في صباح هذا اليوم زارنا في الفندق الشيخ عبد الله الشافعي مؤسس المدرسة الشافعية، وشرح لنا ما تقوم به مدارسه المتعددة واعتذر لنا عن عدم حضوره أمس عندما زرنا المدرسة وألح علينا في نقل رغبته في أن تساعد الجامعة مدارس الشافعية بتخصيص منح دراسية ومدرسين للغة العربية فوعدناه أننا سنبلغ المسؤولين في الجامعة وطلبنا منه أن يبعث للجامعة الإسلامية منهج المدرسة ويطلب معادلته لأن المنح إنما تخصص بناء على المعادلة.
إفراط وتفريط (1 /9 /1400 هـ)
كان هذا اليوم هو يوم الأحد، وهو يوم إجازة في أندونيسيا. على عادة النصارى مع أن الشعب شعب مسلم ينبغي أن يأخذ يوم راحته يوم الجمعة الذي يحتاج فيه إلى الاستعداد لصلاة الجمعة.
ونحن وإن كنا لا نرى تعطيل العمل لا في يوم الجمعة ولا في غيره لأن الإسلام يحث المسلم على العمل في كل وقت وعمل المسلم عبادة لله سواء كان من الشعائر التعبدية أو من الأمور المباحة مادام يقصد به وجه ربه تعالى، والآيات القرآنية تدل على عدم تخصيص يوم الجمعة بالتعطيل –وإن كان يوم عيد يجتمع فيه المسلمون في كل أنحاء الأرض للصلاة وسماع الخطبة- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . وكان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون يوم الجمعة في مزارعهم إلى أن يحين وقت الصلاة، كما في حديث عائشة قالت: "كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق فتخرج منهم الريح فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لو أنكم تطهرتم يومكم هذا".(24/477)
فالآيات القرآنية دلت على جواز البيع والشراء إلى وقت النداء ودلت على مشروعية الابتغاء من فضل الله بعد الصلاة وهذا الحديث دل على أن الصحابة منهم من يأتي من منزله ومنهم من يأتي من العوالي. والظاهر أن المقصود من بساتينهم التي يذهبون إليها يوم الجمعة وما ذلك إلا للعمل والله أعلم.
ولكن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتبكير والاغتسال والتطيب يؤخذ منه إعطاء فرصة لمن أراد ذلك مبكرا، والمسلمون –إذا كان لابد من يوم تعطيل- أحق بيوم الجمعة وإعطاء فرصة للنصارى في بلد، هو أقلية فيه، دليل عن الانحراف عن الدين الإسلامي وموافقة أعداء الله في أعيادهم وهذه الموافقة فيها معنى الموالاة التي قد تصل إلى الكون من أهل الكفر: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
لهذا تجد المسلمون يضيقون ذرعا في بلادهم عندما يعطي حكامهم عيدا للنصارى وهو قلة تعطل فيه جميع الدوائر الحكومية والمحلات التجارية كل أسبوع وهو لا يؤدون في هذا اليوم إلا لحظات في الكنيسة قلة قليلة منهم وهم كفار وعباداتهم كفرية وبقية الوقت يقضونه في لهو ولعب أما المسلمون وهم الأغلبية فيومهم يوم عيد مشروع ويؤدون عبادة مشروعة تحتاج إلى الوقت للاستعداد قبل الصلاة ثم يحال بينهم وبين هذا العيد المشروع، يضق المسلون ذرعا بهذا الوضع وبعض البلدان قد لا يعطى المسلم فيها فرصة للصلاة إلا إذا فاتت بعض مصالحهم كأن يكون طالبا في كلية علمية كالطب والهندسة والدراسة مستمرة وقت الصلاة.. فأين إسلام هؤلاء الذين يضايقون المسلمين في أوقات عباداتهم ويحققون للكافرين مآربهم.
وهنا لابد من كلمة حق أقولها للمسلمين وأعدائهم على السواء الأصل في يوم الجمعة أن يكون يوم عمل –غير إجباري- لأن عمل الصحابة جرى على ذلك كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد سبق بعضها، ولزيادة الإيضاح أسوق هذه الأحاديث الصريحة في العمل يوم الجمعة:(24/478)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار والعرق فيخرج منهم الريح فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم هو عندي فقال: "لو أنكم تطهرتم يومكم هذا" وفي رواية كان الناس مهنة أنفسهم فكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم: "لو اغتسلتم"
وفي رواية كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاه فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم: "لو اغتسلتم يوم الجمعة" أخرجه البخاري ومسلم، وللبخاري قالت كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم فكان يكون لهم أرواح فقيل لهم: "لو اغتسلتم"وفي رواية أبي داود قالت كان الناس مهان أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم فقيل لهم: "لو اغتسلتم" [1] .
هذه الأحاديث مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْع} ، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . تدل دلالة واضحة، أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده كانوا يعملون يوم الجمعة.
وعلى هذا لا ينبغي أن يشدد على التعطيل يوم الجمعة، لإمكان الجمع بين قضاء المصالح العامة، وهي من رضا الله، وبين الاستعداد للصلاة وهذا هو ما جرى عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واضح من النصوص السابقة.
وينبغي أن يعطى المسلم الحريص على التفرغ للعبادة هذا اليوم فرصة للتنظيف والتطيب والتبكير إلى المسجد وأن توقف الوظائف العملية التي تحول بين المسلم وبين هذا الحق مثل الدراسة والتدريس والعمل في المصانع وما أشبه ذلك مما يجبر المسلم على التأخر عن التبكير وما يلزمه وإذا كان لابد من التعطيل فينبغي أن يكون يوم الجمعة لا يوم السبت ولا الأحد اللذين هما من أعياد الكافرين.(24/479)
هذا استطراد رأيت أن إيضاح هذا المعنى فيه مفيد، فأرجو من القارئ المعذرة.
في هذا اليوم –يوم الأحد الذي هو إجازة في أندونيسيا مجاراة لأعياد النصارى- ذهبنا في الساعة العاشرة والنصف للصعود في برج الاستقبال في جاكرتا والذي يمكن منه رؤية المدينة لارتفاعه وبعد أخذ البطاقات وجدنا صف الانتظار للصعود طويلا والمصعد واحد وليس واسعا مثل مصعد عمارة نيويورك فقررنا الانسحاب من هذا الصف لنرجع في وقت أقل ازدحاما ومررنا على الحجرات المحيطة بالبرج وفيها الآثار التاريخية الأندونيسية التي تحكي تاريخ أندونيسيا من عصورها الهمجية القديمة إلى عصر الاستقلال بالصور المجسمة.
ثم ذهبنا إلى شاطئ البحر، وفي طريقنا رأينا أنهارا في وسط المدينة قذرة، وروائحها كريهة، فسألنا ما هذه الأنهار القذرة التي تخترق جاكرتا العاصمة فقيل هذه هي المجاري يشق لها هذا المجرى الواسع ليصب في البحر.
لكل ساقطة لاقطة:
ومن المناظر الغريبة وجود بعض الأشخاص يستحمون في مثل هذا المجرى. رأى الشيخ عبد القوي رجلا وهو يستحم فاستغرب ذلك فقال بعض الأخوة الأندونيسيين ما أظنه يستحم ولكن يمكن أن يكون عاملا يحفر بعض المجاري الفرعية وكان ذلك فيه شيء من الاحتمال عندي ولكن بعد قليل رأينا آخر وهو في وسط هذا البحر يدلك جسمه عند ذلك قلت للأخوة لا تستغربوا فلكل ساقطة لاقطة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.
وعندما وصلنا إلى ساحل البحر وجدنا المكان أشد ازدحاما من برج جاكرتا، مع سعة الساحل، وكان أهل جاكرتا قد اجتمعوا في هذا المكان فلم نطق النزول به لما فيه من المنكر والصخب.
ركشة الأندوبيسيين:(24/480)
ومرت بنا قاطرة من العربات عددها عشر محملة بالمتنزهين ومكنتها شبيهة بمكنة الدراجة النارية إلا أنها أقوى منها قليلا قلت هذه ركشة الأندونيسيين لأن الركشة الباكستانية أو البنغالية لا تتسع لعالم الذر ولا تتسع شوارع أندونيسيا لها مع أهلها.
ثم تشاور عبد الله باهرمز مع قائد السيارة بلغتيهما وكر السائق راجعا إلى البحر من جهة أخرى بعد أن قال له عبد الله ترى مقاسي قلنا خيرا إن شاء الله إلى أين؟ فقال عبد الله ذكر السائق أن هذه الجهة التي نسير إليها الآن لا يوجد بها مرتادون لعدم وجود ظلال بها.
المواساة
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال. ومواساة بالجاه. ومواساة بالبدن والخدمة. ومواساة بالنصيحة والإرشاد. ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم. ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوى قويت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله. فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جامع الأصول (7 /327 /328) وراجع مجمع الزوائد.(24/481)
أصح البشائر في مبعث سيد الأوائل والأواخر
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
لا حاجة إلى القول بأني أحد المستمعين بأحاديث الأخ الشيخ علي الطنطاوي، التي يرسلها عن طريق المذياع قبيل صلاة العصر من كل يوم، حتى لا يكاد يفوتني أحدها إلا تحت الضرورة، فالشيخ، حفظه الله وبارك في حياته، قد أصبح منذ بدأ هذه الأحاديث أنيس الجماهير، إذ اقتحم على الناس مساكنهم ومشاغلهم، واجتذب اهتمامهم فألفوا صوته، واستعذبوا أسلوبه، الذي يمزج الجد باللعب، والعلم بالأدب، ويخالط مشاعرهم بما يتناول من مسائلهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم.. بتلك اللهجة المحببة التي يطلقها على فطرتها، فتحمل المستمع – والرائي- نفحات الغوطة ومشاهد قاسيون، وذكريات دمر وبردي من دنيا الشام، دنيا الصبا والشباب والأحلام.
والله تبارك اسمه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، هو الذي قدر التلاقي والاقتراب في نطاق الأفكار، فقد تتقارب حتى لتجمعها الوحدة، وتتباين حتى لا يتصور بينها لقاء. وطبيعي أن يرتفع منسوب هذا وذاك بالنسبة إلى أحاديث تكاد تؤلف موسوعة يتعذر تحديدها من المعلومات والمفهومات والتقريرات والفكاهات.. وعلى الرغم من كثرة نقاط التلاقي بين أفكار الأخ الطنطاوي وأفكاري، فهناك مواقف نختلف عليها وقد يبلغ بعضها حدا يقتضي الحوار، فأكتب به إليه أو يعقب في أحاديثه عليه.. وعلى هذا السنن أراني اليوم مدفوعا لمناقشة واحدة من نقاط الاختلاف التي عرض لها في بعض أحاديثه أكثر من مرة. وقد كان علي أن أثير هذه المناقشة معه من زمان، بيد أن ظروف العمل التي تستحوذ على معظم وقتي حالت دون ذلك من قبل، وإنما حفزني إليها اليوم خبر أورده ابن إسحاق في تضاعيف السيرة ومر به ابن هشام ثم العاملون في خدمتها من المحققين والناشرين دون أن يلقوا إليه بالا فيما أعلم..(24/482)
وبازاء هذا الخبر وقفت أتأمل وأفكر وأقارن، حتى انتهيت إلى القناعة بأن من الخير كتابة هذا البحث لا في شأنه وحده، بل في أهم جوانب الموضوع المتصل به، مما سبق أن أثاره في صدري حديث الأستاذ المكرر..
* أما الموضوع ففي نطاق البشائر التي تقدمت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقدمه ومبعثه والرسالة العظمى التي يحملها إلى الثقلين جميعا، فيجمع بها شمل الإنسانية التي فرقتها العصبيات، وينشر لأول مرة في تاريخ الدنيا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية.
ومهما تكن المناسبة التي دعت الأستاذ الطنطاوي إلى التعرض لهذا الموضوع، فهي لا تعدو سؤالا أورده أحد مستمعيه بغية الوقوف على جوابه بشأن ما ذكره كتاب السيرة النبوية عن المبشرات بظهور رسول الله في مختلف الروايات التاريخية. وقد رأيت الأستاذ أجزل الله مثوبته يميل صراحة إلى إنكار هذه الأخبار، ليؤكد خلو ذهن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أي علم سابق عن ترشيحه لذلك المنصب الأعلى.. وما أدري أجاء تكراره لهذه الأفكار من قبل الإذاعة التي من عادتها إعادة بعض الحلقات في مناسبات مختلفة، أم كان جوابا آخر مؤكدا على سؤال جديد في الموضوع نفسه!. وعلى أي حال فقد كان لموقفه هذا أثره في صدري كما أسلفت، لاعتقادي أنه ينطوي على إطلاق لابد من تقييده، حفاظا على الحقيقة التي نحبها جميعا، ذلك لأن قبول كل ما ورد في السيرة من هذه البشائر ضرب من الاستسلام الضرير، الذي لا تقره الرؤية الإسلامية، كما أن رفض كل ما يتعلق بهذا الجانب تحكم لا مسوغ له في منطق العلم والعقل.
وإذن ففي جوابَيْ الأستاذ حول هذه البشائر صواب لا مندوحة عن إقراره، وفيهما خطأ لا يرضى هو بالسكوت عنه، ولا يتفق مع منهجه العلمي.. ولننظر الآن في كل من الجانبين على حدة(24/483)
* إن المتتبع في وعي لروايات السيرة حول نشأة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يجد نفسه بازاء أخبار من حقها –لو صحت- أن تهيء ذهنه صلى الله عليه وسلم لاستقبال النبأ العظيم.. وفي مقدمة هذه الروايات خبر بحيرا، الذي تقدمه الرواية على أنه راهب عربي، اتخذ طريق القوافل على حدود الشام صومعة يعبد بها ربه، حتى إذا مرّ به ركب قريش، وفيه أبو طالب وابن أخيه – الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد - شدّت انتباهه ظاهرة غير مألوفة ما لبث أن تحرك لاستكشافها، فدعا القوم لطعامه، وأكد عليهم أن لا يتخلف عنه أحد منهم ومن ثم شرع في تحريه، استقراء عن طريق العلامات المميزة، واستنطاقا بالأسئلة التي طرحها على الغلام المنشود، حتى استيقن الحقيقة التي يتطلع إليها أولو العلم من أحبار يهود ورهبان النصارى.. وهنا تنتهي قصة بحيرا لدى ابن هشام وابن كثير [1] ثم يواصل الثاني حديثه عن بحيرى برواية ٌراد أبي نوح، التي تقول إن بحيرا قد أعلن قناعته بكون هذا اليتيم هو المبعوث المنتظر [2] .
ثم تأتي الرواية الأخرى عن رحلته صلى الله عليه وسلم بتجارة الطاهرة – خديجة - إلى الشام، حيث أتيح لفتاها ميسرة أن يرى ويسمع من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ما ملأ قلبه إعجابا وتقديرا.
ولا تقف الرواية عند هذا الحد، بل تضم إليه أيضا بعض المشاهد الخارقة التي أحاطت بالرفيق الكريم أثناء الرحلة، من تظليل الغمامة ورعاية الملكي له.. وإخبار راهب نصراني لمسيرة بما يفيد أن رفيقه مرشح لمقام النبوة [3] .. حتى إذا وصل ركبهما مكة ذهب مسيرة يحدث مولاته خديجة بمرتئياته ومسموعا ته، وبخاصة كلمة الراهب، فلم تتمالك أن مضت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تذكر له حديث ميسرة، فما كان من هذا إلا أن أكد لها توقعات الراهب قائلا: "لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة [4] .(24/484)
وتمضي الرواية فتعرض لنا اهتمام ورقة عقيب ذلك بخبر محمد صلى الله عليه وسلم حتى ليترجم أشواقه إلى يوم إعلانه دعوته بأبيات نثبت فيما يلي بعضها:
لججت، وكنت في الذكرى لجوجا
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود فينا
ويخصم من يكون له حجيج
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن تموجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت وكنت أكثركم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش
ولو عجت بمكتها عجيجا
ويتبع هذه الرواية أخبار أخرى عن كهنة العرب، وتشير إلى مبعث النبي الموعود، مرة بالرمز إليه، وأخرى بالتصريح عن اسمه.. وحسبنا منها جميعا معالجة الخبرين الأولين بالممكن من التدقيق في قيمتهما العلمية ومدى صلتهما بالواقع.(24/485)
* ونبدأ بخبر بحيرا. فمع اختلاف مؤرخي السيرة في شخصيته ونسبته وملته يكادون يتفقون على كونه من أحبار أهل الكتاب، قد أقام في صومعته تلك يعبد الله في معزل عن مفاسد عصره. وحين يعرضون ليوم لقائه محمدا صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب يكادون يتفقون كذلك علة تنويهه بشأنه، بعد تحققه من صفاته التي يجدها في بعض آثار الأنبياء السابقين.. ويزيد بعضهم أنه على مرأى ومسمع من أشياخ الركب (أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا سيد العالمين"وفي رواية الترمذي والبيهقي قال: "هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين.."ولما سأله هؤلاء عن مستند علمه عنه أجاب: "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي.. وإني أعرفه بخاتم النبوة بأسفل من غضروف في كتفه.."ولم يكتف بالخبر فأراهم الشجرة وهي تفيء بظلها عليه.. ثم مازال بعمه حتى رده إلى مكة حماية له من الروم –وفي رواية من يهود- وتختم هذه الرواية بأن أبا بكر بعث معه بلالا وزوده الراهب بالكعك والزيت [5] .
والذي يهمنا من حديث بحيرا هو إخباره بمستقبل محمد صلى الله عليه وسلم من حيث اصطفاء الله إياه لرسالته الخاتمة، وتوكيده ذلك بسجود الشجر والحجر له.. فهاهنا يتوقف القارئ المفكر ليتساءل عن نصيب القصة من الواقع، وبخاصة أن بحيرا لم يلق بالخبر همسا في مسمع واحد بعينعه بل أعلنه صراحة على ملأ من أفراد الركب، الذين طالبه أشياخهم بالبرهان على مدّعاه..(24/486)
وأنت حين تواجه هذا الخبر لابد لك من التساؤل ((كيف ينسى محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النبأ فيما بعد، وما بال أشياخ قريش ينسونه أيضا، فلا يتذكرونه يوم يطله عليهم بدعوة ربه؟. بل يقابلونها بالجحود والعناد، الذي يقطع بأن المعارضين قد فوجئوا بها، كما فوجئ بها محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، الذي ناء تحت ثقله أول الأمر، ثم لم يطمئن قلبه إليها إلا بعد أن ثبته الله بلطفه، وبما يسر له من عون الزوج العظيمة خديجة.
ونظرة أخيرة إلى خاتمة القصة تكشف لك واحدة أخرى من المشكلات التي لا تجد لها حلا. إذ المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في الثانية عشرة، يكبر صديقه أبا بكر بما يقارب الثلاث من السنوات، إذ كان ما بين التاسعة والعاشرة، ولم تذكر له السيرة أي صلة ببلال، الذي كان في رق أمية بن خلف حتى يوم انتقاله إلى الملك الصديق في أوائل سني البعثة.. فكيف كبر الصديق حتى قام بمسئولية الحماية لمحمد؟.. وكيف أفلت بلال من رق أمية ودخل سلطان الصديق؟.. وكيف ارتفعت سنه بغتة صار قادرا على القيام بهذه المهمة؟.. ومن أين جاء اسم الكعك إلى القصة وهو لفظ لعله لم يتطرق إلى العربية إلا بعد الفتح الإسلامي؟.
وهذه الحيرة التي تراودك بازاء القصة قد سبقنا إليها عدد من رجال الحديث الذين لم يستطيعون ردها تهيبا لسنده، ولكنهم لم يكتموا رأيهم بأن من حملها إنما حملها لغرابتها مع التوكيد على انفراد راويها الأخير بها، حتى أن ابن إسحاق نفسه لم يستطع عرضها إلا في صيغة ((الزعم التي تنم عن منتهى الشك)) [6] وكذلك فعل ابن كثير حين وجه إليها نقدا يوشك أن يكون ردا للرواية بأسرها، ومثله صنع الزرقاني في شرحه على المواهب إذ نقل تضعيف الذهبي للخبر [7] كما فعل البيهقي بقوله نقلا عن أحدهم: "ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد" [8] .
وننتقل الآن إلى القسم الثاني:(24/487)
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من سنيه، وكان رفيقه في هذه الرحلة ميسرة غلامها، ولابد أنها استغرقت طويلا من الزمن، وبذلك أتيح لمسيرة وهو العاقل الفهم –كما يلوح من خلال الرواية- أن يشهد من خلائق محمد وسمو تصرفاته أثنائذ ما يدفعه إلى الحديث عنهما لكل من يتصل به وبخاصة مولاته خديجة، التي لابد أنها أصغت إلى روايته تلك بإعجاب الكريم الفاضل يسمع أنباء إنسان بلغ القمة في عالم الفضائل، حتى ليدفعها ذلك الإعجاب إلى التفكير في الاقتران به. وسواء توسلت إلى هذه الأمنية الغالية بعرض أمرها عليه مباشرة –كرواية ابن إسحاق [9]- أو بوساطة المرأة الحكيمة نفيسة بنت علية [10] أو عن طريق أخت لخديجة في إحدى الروايات، فقد أتم الله ذلك القران السعيد الذي عم ببركته لا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل العالم الإسلامي بأجمعه حتى تقوم الساعة.
وإلى هنا والخبر طبيعي ومعقول، ولكن التوقف إنما يتأتى عند بقيته، حيث نرى خديجة رضي الله عنها مشغولة الذهن بموضوع الغمامة والملائكة وخبر النبوة، حتى لا تتمالك أن تقصد إلى ذلك الرجل الحكيم العليم ورقة بن نوفل لتتعرف تأويل تلك الظواهر، فتسمع منه البشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك باعثها الفعال على طلب الزواج منه.(24/488)
وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح لك اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبرا كهذه تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي، وهذا ما ترفضه الوقائع، التي تؤكد أن محمدا وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي، إذ فاجأة على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الورع المهيب، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان.. وحسبنا دليلا حاسما على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كليا قول ربه له تبارك اسمه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ ... } (الشورى آية 52) وهو توكيد حازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمدا صلى الله عليه وسلم قبل الوحي، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها، فلا فكرة لديه عن رسالات الله، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين: أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي ما نزل تحتها قط إلا نبي [11] والثاني أن يكون اتصال خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته صلى الله عليه وسلم ومسيرة من الشام، بل الأحرى أن يكون حصوله على إثر نزول الوحي مباشرة، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الرعب، فذهبت به إلى ابن عمها الذي اطمأن وبشره بالنبوة [12] .(24/489)
وعلى هذا التقدير يكون ثم تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة.. ولعلنا لو لأعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريبا منها:
يعود رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إثر اللحظة الهائلة التي قدر فيها لقاء جبريل (عليه السلام) إلى خديجة يرتجف من الروع، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان، حتى إذا اطمأن إلى هدوئه، أخذت سبيلها في زورة عجلي إلى ابن عمها ورقة، أعلم أهل مكة بأمر الدين، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد، ويأخذ في التسبيح: قدوس قدوس.. ثم يصرح بالبشرى: "والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا جديجة لقد جاءه الناموس الأكبر –جبريل- وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت [13] ".
وهكذا تعود خديجة (رضي الله عنها) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) بكلمة ورقة تشد بها عزيمته، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها: "والذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة [14] ". وطلبا للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك".. فأخبره (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى [15] ". ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه، فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها في ما تقدم. ثم يلقي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره، ولعله يستوضحه عما جدّ له، فيقص عليه ما رأى وما سمع، فيكرر ورقة ما قاله من قبل مؤكدا بشراه بالقسم: "والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة" [16] .(24/490)
ومما يؤكد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة وهو يقول: " زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فأخبر خديجة بأمره، وقال: "لقد خشيت على نفسي".. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها: "كلا.. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.." ويعقب ابن كثير ذلك بقوله: "فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة.."إلى نهاية الخبر.
فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة "إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة"وتؤكد رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.
ورب متسائل يقول: ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد وانصهارها عليه؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعا، فلم ير بأسا في إضافة مثلها إلى بعض أخباره.. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهوديا أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قومه: "يا معشر يهود.. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به [17] وذلك مضاهات لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجلا من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح (عليه السلام) من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم [18] .(24/491)
وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأيا معلوما في التفريق بين التاريخ والشريعة، فهم إذا رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تشددوا في التحقيق، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا إلى التساهل. وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع، وكل تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها..
* ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة الوثيقة بهذا الموضوع، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب.. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء ... ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله.. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلا:
يقول ورقة (رحمه الله) :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
فهو في هذه المقدمة يعبر عن تشوقه لأخبار محمد (صلى الله عليه وسلم) التي حركت سواكن الأشجان في صدره من أوضاع الناس الغارقين حوله في حلكات الظلام.. فهو يتطلع بلهفة إلى الموعد المنتظر.. وهي مقدمة واضحة الدلالة، على الرغم مما فيها من جفاف العبارة وتكلف الشاعرية.. ولكن هذا الانسجام لا يلبث أن يتقلقل عندما نقرأ البيت الرائع:(24/492)
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لمجرد جلوسه تحت الشجرة ... وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دسا، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته، ففي (يعوجا) محاولة لقصر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة، فضلا عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غربة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة:
بأن محمدا سيسود فينا
ويخصم من يكون له لجيجا
فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ... ) هو (وصف) في صدر البيت الثاني، وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت ... فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول.
ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطلق البحث، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ على الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السابقة لظهوره.
فأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الفضائل فقد أوضحناه مؤيدا بكل ما نملك من الحجج والبيانات، وقد بقى أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي إليه العقل والقلب من وسائل الإثبات.(24/493)
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية، وهي أن بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع الذي يصوره قول الله تبارك اسمه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... } (الروم الآية 41) . ثم قول رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) في وصف الوضع البشري أثناء بعثته: " ... إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب" [19] . إلى ساحت النور فاتضحت معالم الطريق، وتحددت المسئوليات، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقبله الأذهان.. ولذلك لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
وفي تفسير هذا الميثاق ينقل ابن كثير عن علي وابن عباس أن الله لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.(24/494)
ويقول سبحانه في التعقيب على استغفار نبيه موسى (عليه السلام) : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف 156 و157) .
وفي هاتين الآيتين يقول ابن كثير أيضا: "وهذه صفة محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم".(24/495)
ولقد والله رأينا صفاته هذه في التوراة لا تزال قائمة على الرغم من كل التحريفات التي لحقت بها، ورأيناها في إنجيل يوحنا منقولة عن لسان عيسى (عليه السلام) يبشر فيها بمبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) ويحدد صفته بالاسم، على الرغم من تلاعبهم بتغييره في الترجمة العربية، إذ جعلوه (المعزّي) بدل (أحمد) ويأبى الله إلا يفضح المزورون فيكشف الحقيقة بلسان المستشرق الإيطالي الدكتور ((نلينو)) الذي صرح للشيخ عبد الوهاب النجار بأن اسم المبشر به باليونانية وهو (الفارقليطس) يعني بالعربية الكثير الحمد.. بل لقد كشفوا هم أنفسهم عن تزويرهم هذا بما كتبوه في ذيل الصحف التي حملت البشارة من إنجيل يوحنا المطبوع بالعربية، حيث يقولون بالحرف الواحد تعقيبا على كلمة المعزي (إن لفظ المعزي ليس له في المتن الأصلي شيء من معنى الحمد. ومن فسره بالمعزي فإنما تحرف عليه المعزي الذي في الترجمات العربية..) ومجرد ذكرهم هنا لفظ الحمد دليل قاطع على اختلافهم حول ترجمة اللفظ اليوناني الأصلي، وعلى أن بينهم من ذهب إلى ربطه بمعنى (الحمد) الذي يراد استبعاده بهذه الحاشية، فكان ذلك شهادة منهم على أنفسهم بالتزوير والتحريف.. وملاحظة أخرى وهي أن في الفقرة الأخيرة إشارة صريحة إلى وجود ترجمات سابقة بالعربية أثبت فيها اللفظ المشتق من الحمد بدل (المعزي) [20] .. ولو هم انصفوا عقولهم وآثروا الحق لتركوا لبشارة المسيح أن تصل إلى آذان الناس وقلوبهم، لأنها إذ ذاك لن تكون إلا إعلانا للحقيقة التي بلغها المسيح (عليه السلام) من قبل في قوله لبني إسرائيل: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف 6)(24/496)
ولقد بلغت تلك البشريات في التوراة والإنجيل بمبعث خاتم الرسل (صلى الله عليه وسلم) حدا لم يبق معه مجال للتجاهل، حتى أصبح أولو العلم من أهل الكتاب {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة 146) . ولم يقف أمر هذه البشائر على ذوي العلم من خاصة أهل الكتاب وحدهم، بل لقد انتشرت أنباؤها في سوادهم، حتى لقد كان يهود يثرب يوعدون وثنييها من العرب بأن نبيا أطل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه فيقتلونهم قتل عاد وارم {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة 89) .
وحسبنا بهذه الشهادات الدامغة أدلة مقنعة بما أسلفناه من أن ذكر محمد (صلى الله عليه وسلم) كان محفوظا في الكتب المقدسة، وعلى ألسنة أهل العلم، الذين كانوا لا يبرحون يتوارثونه جيلا بعد جيل منذ بعث الله أول نبي وحتى تقوم الساعة.
وليست قصة سلمان (رضي الله عنه) وضربه في الأرض بحثا عن الحق وتلقيه خبر محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلاماته من أسقف عمورية، إلا واحدا من نقول الثقات بعضهم عن بعض لهذه المبشرات..
وحتى موروثات الهنود والفرس القديمة من علوم أسلافهم لم تخل من هذه المبشرات، وقد عني بالحديث عنها كثيرون من مؤرخي المسلمين كابن حزم والشهر ستاني وابن تيمية ورحمة الله الدهلوي، وفي كتاب (مطالع الأنوار) لعباس محمود العقاد نماذج وفيرة لمن شاء المزيد من أخبارها. ويقول الأخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي – الهندي - إنه معني بتأليف كتاب يحمل الكثير من بشائر الكتب الهندوسية بمحمد (صلى الله عليه وسلم) [21] .
وسأختم هذا العرض بواحدة من هذه البشائر التي لا مجال للمراء في مدلولها، وقد اخترتها من الكتاب المنسوب إلى أشعياء في مجموعة العهد القديم.(24/497)
في الإصحاح: 35/ من رؤى أشعياء يعرض هذا النبي صورة رائعة الوضوح والجلال للحدث العظيم الذي أطل على الدنيا ببعث محمد (صلى الله عليه وسلم) فيرينا معالم الخير الذي غمر الجزيرة العربية، والحضارة المثلى التي نشرها الإسلام، لا في الإنسان وده بل في كل شيء.
فلنستمع إليه يفصل مرئيا ته من وراء أكثر من ألف سنة قبل بعثة ذلك المنقذ العالمي الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين:
يقول أشعياء: "تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارا ويبتهج ابتهاجا ويرنمّ.
يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون، هو يرون مجد الرب بهاء إلهنا.
شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبوتها. قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هو ذا إلهكم. الانتقام يأتي جزاء الله هو يأتي ويخلصكم.
حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء.
في مسكن الذئاب، في مربضها دار للقصب والبَرْدِيّ.
وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم.
من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل.
لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها، بل يسلك المفديّون فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح، فرح أبديّ على رؤسهم.. ابتهاج وفرح يدر كانهم، ويهرب الحزن والتنهد [22] ".
إن أشعياء يصوغ مرئياته السعيدة هذه في أسلوب شعري يترقرق بالفرح والبهجة، فلا يتمالك أن يسكب من مشاعره على الأرض اليابسة فإذا هي تموج بمثل فرحه وبهجته.. حتى ليرى كل شيء فيها يضحك ويزهر ويغني ...
ولم كل ذلك؟ ...
لأن انقلاب خارقا قد غيّر مسيرة الحياة فاستبدلت بكآبة الشقاء والضياع هداية السماء التي ملأت الأرض بنور الله.(24/498)
ولذلك يهيب بالمظلومين: أن افتحوا قلوبكم فقد جاءكم الخلاص على قدر، فلا عدوان بعد اليوم ولا بغي ولا طغيان..
إنه انقلاب شامل يطلق المواهب كلها في جزيرة العرب، فتنشط العقول، وتتفجر منابع الحكمة على كل لسان.. وتستحيل الأرض، التي كانت حتى الأمس مرتعا للموت، جنات ترف بالأمن الذي ينعم به كل شيء من إنسان وحيوان.
يالها معجزةً أحالت مرابض الذئاب دورا للعلم فلا يكاد يرى فيها إلا القارئون والكاتبون والمعلمون!
ثم ماذا؟
ثم الحرم المقدس الذي طهره الله من كل نجس الكفر، فلا يرتاده إلا القائمون والعاكفون والركع السجود..
إليه يزحف الملبون لنداء السماء من كل حدب وصوب، ومن جوار المسجد الأقصى يفدون لتمجيد الله، الذي وهب لهم كل هذه النعم، حتى إذا قضوا حجهم، وأدّوا مناسكهم، عادوا إلى ربوعهم فرحين بما نالوا من تجلي مولاهم الحق، وقد غمرتهم السعادة بما استشعروه من مغفرته ورضوانه..
لقد قربوا الذبائح في طاعته، وأكثروا من صدقات الفداء عن كل مساءة يتوهمون أنهم أتوها، ومن أجل ذلك استحقوا أن يسميهم أشعياء (مفديي الرب) ..
ويالها بشارة من حقها أن تذكر أهل الكتاب بالعهد الذي أخذه الله عليهم أن يكونوا أول المؤمنين بالصادق الأمين. إمام النبيين، وسيد الأولين والآخرين ...
عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين..
تذييل:(24/499)
بعد الفراغ من كتابة هذا البحث شاء الله أن أقع على خبر بحيرا في (فقه السيرة) للأستاذ محمد الغزالي وأن أقف من هناك على مناقشة المحدث الفاضل الشيخ ناصر الدين الألباني لقول المؤلف: "سواء صحت قصة بحيرا أو بطلت"ثم لقوله الآخر في شأنها: "والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لمزاعم الإنجيليين في شأن المسيح"حيث يقفي الشيخ ناصر على الفقرة الأولى بقوله: "بل هي صحيحة.."ويحتج لرأيه بأن الترمذي قد أخرج الخبر من طريق أبي موسى الأشعري وعرفه بأنه (حديث حسن) ثم نقل قول الجزري بأن "ذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ"وأردف ذلك برواية البزار عن هذه الفقرة أن الذي عاد بمحمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة رجل آخر أرسله معه عمه. ومن ثم عمد إلى نفي الوضع عن الخبر في الفقرة الثانية محتجا لصحته بما أورده الإنجيليون من أخبار عن موسى (عليه السلام) مطابقة لمضمون القرآن.
وقد دافع الأستاذ الغزالي عن وجهته في الصفحة نفسها محتجا بتقرير أئمة من أهل الحديث، كالذهبي الذي يقول –في ميزان الاعتدال- "مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله: (وبعث معه أبو بكر بلالا) "وكالحافظ ابن حجر الذي ينقل قوله في (المواهب اللدنية) أن "رجاله ثقات وليس فيه سوى هذه النقطة، فيحتمل أن تكون مدرجة فيه، منقطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.."وأخيرا يورد قول ابن كثير أن من غرائب هذا الحديث كونه من مرسلات الصحابة، فهل على كل تقدير مرسل. [23]
وقد رأيت أن ألفت نظر القارئ إلى بعض الملاحظات حول هذا الحوار:
أ_ إن عمدة القائلين بصحة هذا الخبر هي ثقتهم بسنده فهو عند صيارفة الحديث من الضرب الموثوق دون ريب. ولا غبار على متنه لأنه داخل في الممكنات التي تتعلق بتكرمة الله عبده المختار (صلى الله عليه وسلم) .(24/500)
ب_ لذلك وقف نقدهم عند فقرته الأخيرة من ذكر أبي بكر وبلال (رضي الله عنهما) فأوردوا عليها بعض الاحتمالات، ومن ذلك رواية البزار بإرسال رجل آخر مكان بلال لم يذكر اسمه، ونضيف إلى ذلك الرواية الثالثة القائلة بأن الذي عاد به إلى مكة هو عمه أبو طالب [24] .
ولننظر الآن في كل من الملاحظتين على حدة:
أ_ لا خلاف على صحة السند بشهادة أولي العلم، ولعل الخلاف أن يكون مقصورا على تعيين نوع الحديث أمن المراسيل هو أم من المرفوعات؟.. والذي يطمئن إليه العقل والقلب هو ما ذهب إليه ابن كثير من القطع بإرساله، وفي هذه الحال لا يعدو كونه نوعا من الأخبار التي سمع أبو موسى (رضي الله عنه) بعض الناس يتناقلونها فحملها عنهم.. ويؤيد ذلك وقف الخبر على روايه الأخير الذي يقول فيه أحد عارفيه –كما أسلفنا- (ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد) [25] .
ب_ إن تسليم نقلة الخبر باحتمال الوهم أو الإدراج في آخره يفتح المجال للتساؤل عما إذا كان مثل ذلك قد حدث أيضا في بعض أجزائه الأخرى، ونخص بالذكر منها سجود الحجارة، وكيف كان وعلى أي سورة؟.. وليس تصور هذا بأقل غرابة من مشاهدة ميسرة للملائة في الخبر الآخر.
ج_ إعلان بحيرة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) كان على مسمع منه (صلى الله عليه وسلم) ومسمع ومشهد من أشياخ الركب، فلم طُمِس على هذا الجانب نهائيا فيما بعد، فلم يُذكر على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قط، ولم يرو عن أحد من هؤلاء الأشياخ، بل الذي حدث أن مكة كلها فوجئت بالنبأ العظيم عقيب يوم حراء العظيم؟!(25/1)
د_ لقد حدّث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكثير من إرهاصات نبوته، وجاء بعض أحاديثه في هذا الصدد أجوبة على أسئلة صحابته وفيها ما يفوق بشرى بحيرا، كشق صدره وتسليم الحجر والشجر عليه، وبعد البعثة شهد الجم الغفير من أصحابه خوارق المعجزات التي حققها الله على يديه، وقد أودع ذلك كله بطون المراجع التي بلغت أعلى درجات الصحة، فكيف أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن ذكر خبر بحيرا فلم ينقل عنه، ولم سكت صحابته الأدنون فلم يسألوه عنه، مع أنه جدير باستفساراتهم؟!!.. أليس في ذلك دليل على أن ذلك الخبر لم يكن معروفا أيامه (صلى الله عليه وسلم) وإنما تأخر ظهوره إلى ما بعد وفاته؟!
هـ- وأخيرا ليسمح لنا فضيلة الشيخ ناصر –نفع الله بعلمه- أن نذكره بأن مثله عن موافقة بعض الإنجيليين لبعض أنباء القرآن بشأن موسى (عليه السلام) غير كاف لتسويغ ذلك التشابه الغريب ما زعموه من البشريات بظهور المسيح (عليه السلام) وما ذكره كتاب السيرة من بشائر البعثة النبوية التي نحن بصددها، فالمسلم لم يصدق أخبار أهل الكتاب عن موسى (عليه السلام) لو لم يقرأها في الذكر المحفوظ، وإلا فكم من خبر لديهم لا يساوي المداد الذي كتب به، وإذن فلا وجه للمقارنة بين كتبهم التي لا يعرف أصلها ومصادرها التي أقامت للفكر البشري معالم التحقيق الفاصل بين الحق والباطل.. هذا إلى أن الخبر الذي نسبه الشيخ ناصر إلى الإنجيليين إنما هو من أسفار اليهود فلا مكان في صحف هؤلاء ولا مناسبة – فيما أذكر -.
ولعل من الخير أن نختم هذه الملاحظات بتلك الكلمة الحكيمة التي عقب بها العلامة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة – غفر الله له - على ما عرضه من أشباه تلك المرويات التي ناقشنا بعضها حيث يقول: "إننا لا يجب علينا دينا وإيمانا أن ندعن لهذه الأخبار وإن كانت من حيث السند صادقة [26] .. لأن هذه الأمور ليست جزءا مما دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الإيمان به [27] ".(25/2)
ونحن في مناقشتنا لهذه الأخبار إنما نفعل ذلك حفاظا على منهج السلف في تصفية التاريخ الإسلامي من كل خبر لا يحمل طابع الصحة الحاسمة.. وانطلاقا من هذا الاتجاه نرفع إلى أستاذنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وإلى معالي أخيه الشيخ محمد علي الحركان، وصاحبي الفضيلة الدكتور عبد الله الزايد، نائب رئيس الجامعة الإسلامية، والدكتور عبد الله التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حفظهم الله وبارك جهودهم، اقتراحا نرجو أن ينال قبولهم، وهو أن يؤلفوا مجمعا خاصا باسم (المجلس الأعلى لتصفية السيرة المطهرة) تكون مهمته أن يقدم للعالم الإسلامي كتابا في السيرة النبوية يقتصر على أصح الأخبار من تاريخ أكرم مختار، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار. وليس ذلك على هممهم العالية وإخلاصهم الكبير بعزيز، إن شاء الله..
وللأخ الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي أخيرا وافر الدعاء على ما أثاره من البواعث لإخراج هذا البحث الذي نرجو أن يكون مقبولا عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولله الحمد من قبل ومن بعد.
قرأت القرآن وفهمته
قرأت ((القرآن)) فبهرني وأصابني بنوع من الذهول الناتج عن الإعجاب الكبير بما آتى به من تعاليم وأفكار.. لقد قرأت أن كل ما في الكون يسبح لله ويسجد له كالحجارة والنبات والبحار والسماوات.. والإنسان هو الوحيد في هذا الكون قادر على أن يفكر وقادر على أن يسجد أو لا يسجد وهذا دليل على أن الله أعطى للإنسان قيمة كبيرة ومكانة عالية في الحياة.
فإذا كان الغرب يسن قانون السيطرة ويشجع على قانون الغاب فإن الإسلام يدعو إلى المحبة والتآخي والسلام والعدل والشورى
الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي
--------------------------------------------------------------------------------(25/3)
[1] انظر سيرة ابن هشام ص 183 ج 1 ط الحلبي و (والبداية والنهاية) ص 283 -284 ج 2 ط المعارف بيروت 1977.
[2] ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
[3] ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
[4] ابن هشام ج 1 ط الحلبي ص 177 -191 وابن كثير ج 2 ص 293-296.
[5] انظر البداية والنهاية: 284 و 285 ج 5. وسنن الترمذي ج 5 250 -251 ط السلفي والدلائل للبيهقي ج 1 307.
[6] ابن كثير ج 2 285. وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
[7] ابن كثير ج 2 285، وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
[8] انظر هامش ص 82 من كتاب (الفصول في اختصار سيرة الرسول) ط دار القلم بيروت.
[9] راجع الدلائل ص 309 السلفية.
[10] ابن هشام ط الحلبي ص 189 ج.1.
[11] ابن هشام ط دار الفكر ج1 205 -في الهامش- وفي (المنتخب من السنة) تذكر باسم نفسية.
[12] ابن هشام ط الحلبي ج 1 ص 188، وعبارة ابن كثير خالية من الظرف ((قط)) ج 2 ص 294، ويفسر السهيلي عبارة الراهب بقصده إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وحده وهو بعيد، وذكر الظرف المستغرق للماضي عند ابن هشام يفيد القطع بأنه لم يجلس تحت هذه الشجرة قبل محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا النبيون.
[13] ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1، وانظر ابن كثير ج 3 ص 3. والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
[14] ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر ابن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج1 /73 /74.
[15] ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
[16] ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
[17] ابن هشام ج 1 /159 ط الحلبي، وقريب من ذلك رواية الحاكم في المستدرك عن يهودي فعل هذا بعض هذا في مكة أيضا ج 2 /601 –602.
[18] راجع الفصل الثاني من إنجيل متى.
[19] من حديث طويل أخرجه مسلم.(25/4)
[20] انظر الفصل 16 من إنجيل يوحنا وحاشيته في الطبعة اليسوعية. ويلاحظ في الفقرة الأخيرة من الحاشية أن ثمة زلقة قلم وضعت كلمة (المعزي) مكان (الحمد) بقول المحشي (ومن فسره بالمعزي) يريد (ومن فسره بالحمد) حسب مفهوم السياق.
[21] الدكتور ضياء الرحمن من خريجي الجامعة الإسلامية وهو من مدرسيها، وقد كان هندوسيا فهداه الله إلى الإسلام.
[22] انظر أشعياء صح 35.
[23] فقه السيرة ط دار الكتب الحديثة 68 –69 /1976.
[24] ابن هشام ط الحلبي ج /183.
[25] ابن كثير ج 2 /285.
[26] انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .
[27] انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .(25/5)
ملاحظات:
حول كتاب عقيدة السلف والخلف (1)
للشيخ عبد القادر السّندي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فقد ناولني فضيلة عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام كتاب، بعد أن كتب رأيه على الغلاف الثاني ما نصه:
"هذا الكتاب فيه خلط وتلبيس لا ينبغي لصغار الطلبة قراءته لأن مؤلفه غير محقق، وغير مميز بين عقيدة السلف والخلف وتؤدي قراءته إلى بلبلة أفكار قارئيه لذا ننصح طلبة العلم بعدم قراءته والانصراف إلى قراءة كتب المحققين من علماء السلف الصالح وأتباعهم".
قلت: هذا هو نص الكلمة التي وقع تحتها فضيلة العميد، فكأنه طلب إليّ حفظه الله تعالى تفصيل ما أجمله في كلمته والإطناب (في) ما اختصره إظهارا للحق وتبيينا للواقع الأليم الذي وقع فيه صاحب الكتاب من الخلط والتلبيس، إما بعدم علمه فهو أهون في نظري وإما عنادا فهو أفظع وأشنع كما قال الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وأنا أحسن الظن به فأقول إنه غير مميز كما حكم عليه فضيلة العميد في كلمته. وأما إذا كان عالما ثم قام بهذه العملية الشنيعة في هذا الكتاب الذي أسماه (هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله تعالى، وصفاته، والجواب الصحيح لما وقع فيه الخلاف من الفروع بين الداعين للسلفية وأتباع المذاهب الأربعة الإسلامية) فهذه التسمية الطويلة للكتاب المذكور بهذه الصفة وبهذا الأسلوب فيه دلالة واضحة على عدم علم صاحبه فضلا عما أورده فيه من النقل غير المسند كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى ثم هو لا يفرق بين العصا والحية وبين الأرض والسماء وبين الظلام الدامس والنور الوهاج.(25/6)
وقد فكرت كثيرا –بعد الدعاء من الباري جل وعلا لهذا الأخ الكريم- في كيفية المناقشة معه وقد عرفت حاله تماما أثناء إلقاء نظرتي على كتابه هذا مع ما قاله فضيلة العميد في كلمته. ولست أبالي بما يقول في حق السلف رحمهم الله تعالى بأنهم حشوية ما دام جعل عقيدة السلف والخلف واحدة لا فرق بينهما في نظره أبدا، مع أن الذين أوجدوا هذه العقيدة الخلفية أول مرة وتكلموا فيها قالوا: "إن عقيدة السلف أسلم وعقيدتنا أعلم وأحكم"، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا من كان بعيدا عن العلم في هذا الموضوع بالذات ولقد عجبت من الأخ وذلك في عنوان كتابه إذ جعل عقيدة السلف الصالح ذاتا وصفة وعبادة لله تعالى كعقيدة الخلف التي اضطرت فيها أصحابها الأولون (اضطرابا شديدا وانقسموا) إلى طوائف عديدة ونحل مختلفة وملل متنوعة بعضهم أقرب إلى عقيدة السلف (الصالح) رحمهم الله تعالى.
ولم نسمع ولم نر أحدا أنه أنكر هذه الحقيقة الناصعة ممن سبقه سبقا علميا وزمانيا. فهذا الشيخ محمد زاهد الكوثري الذي حمل لواء التعطيل في الزمن الأخير والذي لم يترك كتابا من كتب السلف إلا وقد علق عليه إثباتا لهذه العقيدة الخلفية ودفاعا عنها واستماتة في سبيلها ونكاية بعلماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم رضي الله تعالى عنهم. إلى أن قام العلامة المحدث الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني في كتابه النافع البارع: (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) وقد نشره وأنفق عليه ناصر السنة المحمدية الشيخ محمد نصيف رحمه الله تعالى ووزعه في سبيل الله تعالى على طلبة العلم. وإني أرى في هذا المقام أن أتعرض لهذه الفتنة ومن هم أصحابها الأولون ثم انتشارها في صفوف الذين لم تتمكن العقيدة الصحيحة الصافية من قلوبهم.(25/7)
تلك العقيدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد وقت قصير من طلوع الصبح الصادق الذي أعطى للكائنات كلها –فضلا عن الإنسانية- ثقافة جديدة وحياة حرة كريمة، ومحبة إيمانية مثالية ونظاما رفيعا ومنهاجا مستقيما وأخوة صادقة عظيمة وعقيدة صافية نقية وسياسة حكيمة قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16) . هذا المعنى الذي أشار إليه القرآن الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين تركز في قلوب هؤلاء الذين مجدهم الله تعالى في كتابه الكريم وعظم شأنهم وذلك في قوله الحكيم في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29)
ما أعظم هذه التزكية في صورة رائعة مثالية من رب العزة والجلال في حق هؤلاء النخبة المختارة الذين فهموا هذه الشريعة الإسلامية الغراء عقيدة وعبادة ومعاملة، وسلوكا، وأدبا، ونظاما وغيرها من المعاني. السامية.(25/8)
ثم تأتي زمرة فاسقة من اليهود والنصارى لكي تشوه هذه الحقيقة الناصعة البيضاء التي يقول عنها عليه الصلاة والسلام في حديثه المبارك الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه وذلك بإسناد حسن. قال الإمام أحمد [1] حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية –يعني ابن صالح- عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت من العيون ووجلتا منها القلوب قلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف حيثما انقيد انقاد".
وللحديث شواهد كثيرة منها ما أخرجه ابن ماجه [2] في المقدمة من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وفيه: "وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء" قال أبو الدرداء: صدق، والله رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا، والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء.
قلت: وكيف لا؟ وقد قال جل وعلا في كتابه الحكيم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} (المائدة: 3) .
وسوف يأتي تفسير هذه الآية الكريمة في نهاية الموضوع إن شاء الله تثبيتا لعقيدة السلف الصالح وتأييدا لها.(25/9)
وأما الآن فإني أثبت هنا إثباتا علميا إن شاء الله تعالى إن هذا العنوان الذي عنون به هذا الأخ الكريم كتابه بقوله: "هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله والجواب الصحيح لما وقع فيه الخلاف من الفروع بين الداعين للسلفية وأتباع المذاهب الأربعة الإسلامية" (هو) عنوان غير صحيح. لأن عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين فإنها مبنية على أسس ثلاثة:
(1) تنزيه الله من مشابهة الخلق.
(2) الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة وعدم التعرض لنفيها وعدم التهجم على الله بنفي ما أثبته لنفسه.
(3) قطع الطمع عن إدراك الكيفية.
كما ذكر ذلك [3] عمدة المتأخرين العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله نقلا عن المصادر الأصلية كما سوف يأتي بعض تفصيله إن شاء الله.(25/10)
وأما عقيدة الخلف فإنها مبنية على التأويل والتحريف والتعطيل والتشبيه كما حكى ذلك العلامة سعد الدين التفازاني في شرح العقائد النسفية وهو كتاب يدرس في أغلب مدارس الهند والباكستان وغيرها في مادة التوحيد وأصل الكتاب للعلامة الشيخ عمر بن محمد بن أحمد النسفي الحنفي قال العلامة التفازاني ما نصه: "وقد كانت الأوائل من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرب العهد بزمانه، ولقلة الوقائع والاختلافات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين العلمين –الكتاب والسنة- وترتيبهما أبوابا وفصولا وتقرير مقاصدهما فروعا وأصولا إلى أن حدثت الفتن بين المسلمين وغلب البغي على أئمة الدين وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت الفتاوى والوقعات والرجوع إلى العلماء في المهمات فاشتغلوا بالنظر والاجتهاد والاستدلال والاستنباط وتمهيد القواعد"انتهى ثم قال في موضع آخر معتذرا للخلف عما أقدموا عليه من إيجاد هذه العقيدة الخلفية قال: "القوم الذين كانوا يناظرهم الخلف ما كانوا يقبلون الأدلة النقلية ولا ينقادون لها فذلك اضطر علماء الخلف إلى الأدلة العقلية [4] " انتهى.
نقل هذا كله الشيخ صالح بن أحمد رحمه الله تعالى في كتابه تحكيم الناظر [5] وكان شرح العقائد عندي في يوم من الأيام وكنت قد درسته على يد بعض المشايخ بباكستان ثم أحرقته فيما بعد ولو كنت تركته لنقلت منه نصوصا كثيرة.
قلت: هذا نص كلام العلامة التفازاني شارح العقيدة النسفية وهو يعترف اعترافا لا يشوبه أدنى شك بأن هذه العقيدة الخلفية أوجدها علماء الخلف لكي يناظروا بها من كان يرفض الأدلة النقلية من الخلف ولذلك نقل عن المتأخرين الذين أوجدوا هذه العقيدة الخلفية العلمية حسب زعمهم: (أن عقيدة الخلف أسلم وعقيدتنا أعلم وأحكم) كما نقله عنهم شارح العقيدة الطحاوية حيث قال رحمه الله تعالى:(25/11)
"نبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والأخروية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها لذلك صار كلام المتأخرين كثيرا، قليل البركة بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليل كثير البركة، لا كما يقول ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم وإن طريقتنا أحكم وأعلم [6] " انتهى
وهكذا نقل عنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني النابلسي المتوفى سنة 1188 هجري في شرحه (لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية) على منظومته التي سماها: (الدرة المضية في عقيدة أهل الفرقة الناجية) إذ قال رحمه الله تعالى:
"مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور وأهله هم الفرقة الناجية والطائفة المرحومة التي هي بكل خير فائزة ولكل مكرمة راجية من الشفاعة والورود على الحوض ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدور والإيمان بالقدر والتسليم لما جاءت به النصوص فمن المحال أن يكون المخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه ممن لا يقدر السلف ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها، من (أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) وهؤلاء إنما أتوا من حيث طنوا أن طريقة السلف هي مجرد استخراج معاني النصوص المعروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات فذها الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهور.
وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين: الجهل في طريقة السلف في كذبهم عليهم، والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم) [7] اهـ.(25/12)
قلت: والشاهد في هذا الكلام واضح بين أنه نقل عن ضلال المتكلمين مقالتهم في التفريق بين طريقة السلف والخلف مع أن هذا الرجل الذي أخطأ في وضع عنوان كتابه لم يفرق بين عقيدة السلف والخلف فضلا عما في كتابه من الحقائق غير ثابتة على أئمة الحديث وعلى غيرهم من جهابذة المتكلمين والفلاسفة الذين لا يرضون عن عمله هذا لأنه قال على الفريقين وآذاهما في وقت واحد، أرجو له الهداية والعودة الحميدة إلى طريق الصواب، والحق والإنصاف.
إني: حسب الوعد الذي قطعته على نفسي أرغب أن أتعرض لهذه الفتنة السوداء والنكسة الشنعاء وذلك في ضوء البحث العلمي، إيضاحا للحق وبيانا للواقع ودعوة إلى ما كان عليه الأولون من منهج رفيع ودستور عظيم مع التعرض لتاريخ بعض رجل هذه الحادثة الأليمة والواقعة الخطيرة أعني الاعتزال، ثم الذين وقفوا في سدها ودفعها دفعا قويا وسدا منيعا من أئمة الحديث والسنة رحمهم الله تعالى ثم التعرض لبعض نقول هذا الكتاب المردود عليه بأنها مقولة على أصحابها بغير علم وكشفا لحقيقة هذا المؤلف الجديد وتنبيها وتحذيرا للأخوة الطلبة الذين هم في حاجة ثقافة قوية، وحضارة إسلامية عظيمة، ألا يقرؤوا مثل هذه الكتب وما أكثرها اليوم في الأسواق. قبل تمكنهم من الحصول على الرصيد الحافل من العلم الصحيح والعقيدة الصافية النقية، وذلك بدراستهم علوم الكتاب والسنة وأصول دراستهما من أفواه أهل العلم المتمكنين منه دراية ورواية.
1_ الجعد بن درهم:
نعم: أول فتنة شنعاء في هذا الباب تأويل صفات الباري جل وعلا وتعطيلها أو تحريفها أو إنكارها بالكلية قام بها رجل يسمى: الجعد بن درهم. قال الإمام الذهبي في ميزانه:
"عداده في التابعين"ثم قال: "مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر" [8] .(25/13)
وقال الحافظ في لسان الميزان: "وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة منها: أنه جعل في قارورة ترابا وماء فاستحال دودا أو هواما فقال: أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمد فقال: ليقل كم هو؟ وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره. فبلغه ذلك فرجع" [9] انتهى.
وذكره العلامة الإمام أبو سعد عبد الكريم السمعاني في الأنساب في نسبة الجعدي إذ قال: "وجماعة نسبوا إلى رأي الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة وقع إلى الجزيرة وأخذ برأيه جماعة وكان الوالي بها إذ ذاك مروان بن محمد، فلما جاءت الخراسانية نسبوه إليه شنعة عليه. ثم قال: وقتل الجعد بن درهم خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد الملك" [10] .
وهكذا قال الإمام عز الدين بن الأثير في تهذيب الأنساب نقلا عن السمعاني في هذه النسبة [11] .
وقال العلامة الديار بكري صاحب (الخميس) : "وكان مروان هذا يعرف بالجعدي نسبة إلى مؤدبه وأستاذه جعد بن درهم وكان زنديقا" [12] انتهى.
قلت: وقد ساق الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280 هجري إسناده في كتابه البارع النافع المفيد: (الرد على الجهمية) هكذا في قتل هذا الزنديق: حدثنا القاسم بن محمد البغدادي ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده حبيب بن أبي حبيب قال: "خطبنا خالد بن عبد الله القسي يوم العيد الأضحى فقال: أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم فإني مضح بالجعد بن درهم أنه زعم أن الله تبارك وتعالى لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علوا كثيرا ثم نزله فذبحه.(25/14)
ثم ساق إسناد آخر بقوله: حدثنا هشام بن منصور البغدادي المكفوف ثنا أحمد بن سليمان الباهلي ثنا خلف بن خليفة الأشجعي قال: "أتي خالد بن عبد القسي برجل قد عارض القرآن فقال: قال الله في كتابه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} . وقلت أنا: ما هو أحسن منه إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل سافه وكافر، فضرب خالد عنقه وصلبه فمر به خلف بن خليفة وهو مصلوب فضرب بيده على خشبة فقال: إنا أعطيناك العمود فصل لربك على عود فأنا ضامن لك أن لا تعود"انتهى [13]
قلت: هذا ثابت عن خالد بن عبد الله القسي الذي كان عاملا لهشام بن عبد الملك وكان ذلك في سنة 118 هجري في واسط، وقال ابن قتيبة هكذا [14] .
2_ أبو محرز جهم بن صفوان:
وتبه في غيه وضلاله جهم بن صفوان أبو محرز، قال الإمام الذهبي في ميزانه: "السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهمية هلك في زمان صغار التابعين وما علمته روى شيئا لكنه زرع شرا عظيما"انتهى [15] .
وقال الحافظ في لسانه: "وكان قتل جهم بن صفوان سنة ثمان وعشرين ومائة وسببه أنه كان يقضي في عسكر الحارث بن شريح الخارج على أمراء خراسان فقبض عليه نصر بن سيار فقال له: استبني. فقال: لو ملأت هذا الملأ كواكب وأنزلت إلي عيسى بن مريم ما نجوت، ولم كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك ولا تقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت، وأمر بقتله، وكان جهم من موالي بني راسب وكتب للحارث"انتهى [16] .(25/15)
قلت: وقد عقد الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه عنوانا وهو: (باب الإحتجاج في إكفار الجهمية) ثم قال رحمه الله تعالى: "ناظرني رجل ببغداد منافخا عن هؤلاء الجهمية فقال لي: بأي حجة تكفرون هؤلاء الجهمية وقد نهي عن إكفار أهل القبلة؟ بكتاب ناطق تكفرونهم أم بأثر أم بإجماع؟ فقلت: ما الجهمية عندنا من أهل القبلة وما نكفرهم إلا بكتاب مسطور وأثر مأثور وكفر مشهور: أما الكتاب: فما أخبر الله تعالى عن مشركي قريش من تكذيبهم بالقرآن فكان من أشد ما أخبر عنهم من التكذيب أنهم قالوا هو مخلوق كما قالت الجهمية سواء، قال الوحيد: وهو الوليد بن المغيرة المخزومي: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} وهذا قول جهم إن هذا إلا مخلوق وكذلك قول من يقول بقوله، وقول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} و {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} و {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} معناهم في جميع ذلك ومعنى جهم بن صفوان في قوله يرجعان إلى أنه مخلوق ليس بينهما فيه من البون كغرز إبرة ولا كقيس شعرة. فبهذا نكفرهم كما أكفر الله به أئمتهم من قريش، وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} إذا قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} لأن كل إفك وتقول وسحر واختلاق وقول البشر، كله لا شك في أنه مخلوق. فاتفق من الكفر بين الوليد بن المغيرة وجهم ابن صفوان: الكلمة والمراد في القرآن أنه مخلوق فهذا الكتاب الناطق في إكفارهم.(25/16)
وأما الأثر فيه: فما حدثنا سليمان بن حرب عن حماد بن يزيد وجرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى بقوم من الزنادقة فحرقهم بلغ ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: أما أنا فلو كنت لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"ولما حرقتهم لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" زاد سليمان في حديث جرير: فبلغ عليا ما قال ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهنات.
قال أبو سعيد: فرأينا هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفرا، وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته فيما بلغنا عن هؤلاء الزنادقة الذين قتلهم علي عليه السلام وحرقهم فمضت السنة من علي وابن عباس رضي الله عنهما في قتل الزنادقة لما أنها كفر عندهما وأنهم عندهما ممن بدل دين الله وتأوّلا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجب على رجل قتل في قول يقوله حتى يكون قوله ذلك كفرا. ولا يجب فيما دون الكفر قتل إلا عقوبة فقط فذاك الكتاب في إكفارهم وهذا الأثر"انتهى.
قال السندي عفا الله عنه: "أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أبو سعيد بإسناده عن شيخه سليمان بن حرب فهو حديث أخرجه الإمام البخاري في الجامع الصحيح في كتاب الجهاد باب رقم (149) وهو بعنوان (باب لا يعذب بعذاب الله) عن شيخه علي بن عبد الله المديني. وأخرجه أيضا في كتابه استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب رقم (2) وهو بعنوان (حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم) أخرجه عن شيخه أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي وأخرجه أيضا الإمام أبو داود والترمذي والنسائي في سننهم وكذا ابن ماجه والإمام أحمد في مسنده في عدة مواضع.(25/17)
فالقائل بخلق القرآن في نظر السلف رحمهم الله مبدل دينه كما أثبت ذلك أبو سعيد رحمه الله تعالى من استدلاله بآيات من الكتاب الحكيم ثم قال أبو سعيد رحمه الله تعالى:
"ونكفرهم أيضا بكفر مشهور وهو تكذيبهم بنص الكتاب، أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه ولم يسمع موسى نفس كلام الله إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال: {ِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْك} فقال له موسى في دعواهم –صدقت ثم أتى فرعون يدعوه أن يجيب إلى ربوبية مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم، فما فرق بين موسى وفرعون في مذهبهم في الكفر إذا فأي كفر بأوضح من هذا؟
وقال الله تبارك وتعالى: {ِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} .
وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط قولا وكلاما كن فكان ولا يقوله أبدا ولم يخرج منه كلاما قط ولا يخرج، ولا يقدر على الكلام في دعواهم، فالصم بدعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام، فأي كفر بأوضح من هذا؟(25/18)
وقال الله تبارك وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} و {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} قال هؤلاء: ليس لله يد وما خلق آدم بيديه إنما يداه نعمتاه أو رزقاه، فادعوا في يدي الله أوحش ممال ادعته اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وقالت الجهمية يد الله مخلوقة، لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها، وذاك محال في كلام العرب فضلا أن يكون كفرا. لأنه يستحيل أن يقال: خلق آدم بنعمته، ويستحيل أن يقال في قول الله تبارك وتعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} بنعمتك الخير، لأن الخير نفسه هو النعم نفسها. ومستحيل أن يقال في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} نعمة الله فوق أيديهم، وإنما ذكرناها هنا اليد مع ذكر الأيدي في المبايعة بالأيدي فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} .
ويستحيل أن يقال: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نعمتاه فكأن ليس له إلا نعمتان مبسوطتان. لا تحصى نعمه ولا تستدرك، فلذلك قلنا: إن هذا التأويل محال من الكلام فضلا عن أن يكون كفرا" [17] انتهى.
قلت: ما أوضح هذا الكلام حجة وبرهانا وما أبينه في هذا الموقف الخطير الذي ضل فيه أقدام المتأخرين تقليدا لهؤلاء الأشرار الذين أثاروا هذه الشكوك والأوهام نحو هذه الحقيقة الناصعة والحجة القوية الباهرة من إثبات الباري سبحانه وتعالى على وجه يليق بجلاله وكماله فهذا الشيخ محمد زاهد الكوثري الذي سبقت الإشارة إليه يقول في مقالاته الكبرى ما نصه:(25/19)
"بدعة الصوتية حول القرآن"ثم قال: "والواقع أن القرآن في اللوح وفي لسان جبريل عليه السلام وفي لسان النبي صلى الله عليه وسلم وألسنة سائر التالين وقلوبهم وألواحهم مخلوق حادث محدث ضرورة ومن ينكر ذلك يكون مسفسطا ساقطا من مرتبة الخطاب"ثم يقول: "وهذا تتبين شهادة ابن تيمية في حق العلماء وليس عنده سوى ألفاظ مرصوصة لا إفادة تحتها في بحوثه الشاذة كلها، وغير المفيد لا يعد كلاما، ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث [18] " انتهى.
وسوف يأتي الرد على هذا الكلام القبيح فيما بعد في موضعه إن شاء الله تعالى.
3_ واصل بن عطاء البصري:
والرجل الثالث من هؤلاء الذين هم رأس الكفر: واصل بن عطاء البصري الغزال المتكلم.
قال الذهبي في ميزانه: "البليغ، المتشدق الذي كان يثلغ بالراء فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه، سمع من الحسن البصري وغيره قال أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر".
قال الإمام الذهبي – وبقوله قلت -: "كان من أجلاء المعتزلة، ولد سنة ثمانين بالمدينة، ومما قيل فيه.
ويجعل البر قمحا في تصرفه
وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا في القول يجعله
فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر
وله من التصانيف: كتاب المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب معاني القرآن وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل ويقول: إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلم شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة" [19] انتهى.
قلت: هذا الزنديق ترجم له ياقوت الحموي في معجم الأدباء ترجمة طويلة وجاء فيها:
"وكان واصل في أول أمره يجلس إلى الحسن البصري فلما ظهر الاختلاف، وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقال جماعة بإيمانهم، خرج واصل عن الفريقين وقال بمنزلة بين المنزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه فاعتزل عنه وتبعه عمرو بن عبيد، ومن ثم سموا وجماعتهم المعتزلة" [20] .(25/20)
ثم قال ياقوت: "وله من التصانيف: معاني القرآن، وكتاب التوبة، وكتاب الخطب في التوحيد، وكتاب المنزلة بين المنزلتين"ثم ذكر بقية الكتب التي صنفها هذا الزنديق في الاعتزال ونفي الصفات وطعنه في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما شاهدت ذلك من كلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بأنه لا يقبل شهادة علي وعائشة وطلحة على باقة بقل.
وهذا من أقبح الكفر وأشنعه.
وترجم له القاضي أبو العباس شمس الدين أبو بكر بن خلكان في وفيات الأعيان ترجمة مفصلة وفيها أخبار زندقته وكفره وانحرافه [21] .
وترجم له العلامة السمعاني في الأنساب في نسبة المعتزلي فأجاد فيها وأفاد أن الإمام قتادة بن دعامة السدوسي التابعي المعروف هو الذي سماهم المعتزلة.
وقال الحافظ في لسانه بعد إيراد كلام الإمام الذهبي من الميزان: "وقال المسعودي هو قديم المعتزلة وشيخها، وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وكنيته أبو حذيفة".
قال الحافظ: "كان بشار الشاعر صديق أبي حذيفة واصل وكان مدح خطبته التي نزع منها الراء ثم رجع عنه لما دان بالرجعة وكفر جميع الأمة لأنهم لم يتابعوا عليا فسئل عن علي فقال: وما شر الثلاثة أم عمرو. قلت: وما أظن إلا وهما في حق واصل" [22] انتهى.
قلت: كأن الحافظ في هذا الكلام يقول: إن المسعودي وبشار بن برد الشاعر لم يقبل منهما هذا الشيء الوارد في حق علي رضي الله عنه لأنهما موصوفان بالتشيع والله تعالى أعلم بالصواب.
فإن هذا ومن قبله من أئمة الكفر والضلال هم الذين لهم هذه الجهود الخبيثة والمساعي الخسيسة في إبطال هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية النقية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [23](25/21)
قال العلامة أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هجري في كتابه (الأوائل) : "أول من صنف في الكلام أبو حذيفة واصل بن عطاء"ثم قال بعد هذا العنوان مباشرة: لم يعرف في الإسلام كتاب كتب على أصناف الملحدين وعلى طبقات الخوارج وعلى غالية الشيعة والمشايعين في قول الحشوية قبل كتب واصل بن عطاء، وكل أصل نجده في أيدي العلماء في الكلام، والأحكام فإنما هو منه ثم قال: "وهو أول من سمى معتزليا" [24] انتهى.
قلت: هو أول من ألف وصنف في الإلحاد والكفر في هذا الباب بالتفصيل مع أن له سلفا كما تقدم في هذا الانحراف الخطير.
ولهذا ترجم له الشيخ محمد بن إسحاق بن النديم المتوفى سنة 346 هجري في الفهرست قال: "المقالة الخامسة وهي خمسة فنون في الكلام والمتكلمين:
الفن الأول: في ابتداء أمر الكلام والمتكلمين من المعتزلة والمرجئة وأسماء كتبهم".
ثم ترجم لهذا الزنديق ترجمة مختصرة ومناظرته مع تلميذه الضال عمرو بن عبيد وانتصاره وغلبته على عمر بن عبيد الذي يأتي في ترجمته فيما بعد.
ثم قال: "وأخباره كثيرة وكانت ولادته في سنة 80 للهجرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوفى في سنة 131 هـ" [25] .
هذه هي سلسلة الإلحاد والزندقة لعبت دورا هاما في إفساد العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
4_ عمرو بن عبيد بن باب:
ثم جاء بعد هذا الزنديق الضال عمرو بن عبيد بن باب، أبو عثمان البصري المعتزلي القدري مع زهده وتألهه.
قال الإمام الذهبي في ميزانه: "روى عن الحسن وأبي قلابة وعنه الحمادان، وعبد الوارث، ويحي القطان، وعبد الوهاب الثقفي، وعلي بن عاصم. وولاؤه لبني تميم، وكان من شرط الحجاج.(25/22)
قال الشافعي عن سفيان أن عمرو بن عبيد سئل عن مسألة فأجاب فيها وقال: هذا من رأي الحسن، فقال له رجل: إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا؟ قال: إنما قلت هذا من رأي الحسن – يريد نفسه -.
قال الإمام الذهبي: "ابن عون عن ثابت البناني قال: رأيت عمرو بن عبيد في المنام وهو يحك آية من المصحف، فقلت: أما تتقي الله. قال: إني أبدل مكانها خيرا منها".
ورواه محمد بن المثنى عن عبد الرحمن بن جبلة عن ثابت بن حزم القطعي حدثنا عاصم الأحول قال: "جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه، فقلت لا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض، فقال: يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع فينبغي أن يذكر حتى يحذر. فجئت مغتما فقمت فرأيت عمرو بن عبيد يحك آية من المصحف فقلت له سبحان الله قال: إني سأعيدها، فقلت: أعدها قال: لا أستطيع". رواه هدبة بن خالد عنه.
قال ابن معين: "لا يكتب حديثه". وقال النسائي: "متروك الحديث"، وقال أيوب ويونس: "يكذب"، وقال حميد: "كان يكذب على الحسن". وقال ابن حبان: "كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة"قال: "وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا"وقال الدارقطني وغيره: "ضعيف".
ثم قال الإمام الذهبي: "يحي عن حميد الطويل عن عمرو بن النضر قال: سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء وأنا عنده فأجاب فيه، فقلت: ليس هكذا يقول أصحابنا، فقال: ومن أصحابك؟ لا أبا لك. قلت: أيوب ويونس وابن عون، والتيمي، قال: أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء".
قال السندي: "أيوب هو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني أبو بكر البصري"قال الحافظ نقلا عن جملة كبيرة من أئمة الحديث: "ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد من الطبقة الخامسة مات سنة 131 هجري وهو من رجال الكتب الستة" [26] .(25/23)
ويونس هو: يونس بن ميسرة بن حلبس بمهملتين في طرفيه وموحدة وزن جعفر، وقد ينسب إلى جده، قال الحافظ نقلا عن نقاد الحديث وحماته، ثقة عابد معمر من الطبقة الثالثة توفى سنة 132 هجري وهو من رجال السنن الثلاثة: أبي داود والترمذي وابن ماجه." [27]
وابن عون هو: عبد الله بن عون بن أرطبا أبو عون البصري، قال الحافظ نقلا عن جهابذة أهل الحديث من عاصروا ابن عون: "ثقة ثبت فاضل من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، من الطبقة السادسة مات سنة 150 هجري وهو من رجال الجماعة" [28] .
والتيمي هو: سليمان بن طرخان التيمي، أبو المعتمر البصري نزل في تيم فنسب إليهم. قال الحافظ نقلا عن حماة السنة ونقادها ممن عاصروه: "ثقة، ثبت من الطبقة الرابعة مات سنة 143 هجري وهو ابن سبع وتسعين سنة وهو من رجال الجماعة [29] .
فقول هذا الزنديق الملحد في حق هؤلاء النقاد الأثبات الذين وقفوا في وجه زندقته وانحرافه، وكفره مدافعين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قول زائغ وباطل لا يلتفت إليه بحال من الأحوال إلا ممن كان على شاكلته في الانحراف والزيغ والضلال والإلحاد والكفر والعياذ بالله تعالى.
ثم قال الإمام الذهبي في ميزانه: "الفلاس سمعت يحي يقول: قلت لعمرو بن عبيد كيف حديث الحسن عن سمرة في السكتتين؟ فقال: ما نصنع بسمرة قبح الله سمرة".
قال السندي: "قبح الله عمرو بن عبيد فإنه يسب سمرة بن جندب بن هلال الفزاري رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ في الإصابة: "وكان شديدا على الخوارج فكانوا يطعنون عليه، وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه" [30] .
وقال الحافظ في التهذيب: "وكان شديدا على الحرورية فهم ومن قاربهم يطعنون عليه، وكان عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله".(25/24)
وقال ابن سعد في طبقاته الكبرى: "هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغزا معه وله حلف في الأنصار وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة ثم نزل البصرة بعد ذلك فاختلط بها ثم أتى الكوفة فاشترى بها دورا في بني أسد بالكناسة وله بقية، وعقب. ثم ذكر بإسناده قصة وفاته رضي الله تعالى عنه [31] ".
وقال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة: "هو حليف الأنصار وله رواية كثيرة –أي عن النبي صلى الله عليه وسلم-" [32] انتهى.
قلت: له شرف الصحبة فلا يجوز سبه وشتمه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
أخرج الإمام البخاري في الجامع الصحيح وكذا مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي في سننيهما والإمام أحمد في مسنده، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" انتهى.
وقد تكلم الحافظ في الفتح [33] على هذه الرواية كلاما جيدا مفيدا يتعلق براوي الحديث إذ عزاها إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بدل أبي سعيد هكذا قال خلف وأبو مسعود الدمشقي والحافظ أبو علي الجياني الأندلسي وغيرهم ثم هكذا نقل عن الإمام المزي رحمه الله تعالى.
الشاهد من هذا الحديث إن هذا الرجل بجهله وحماقته قد سب سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه مع أن السب من أكبر الكبائر خصوصا في حق من اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر رسالته في الأفاق، فقبح الله عمرو بن عبيد الباب وعامله بما يستحقه، ثم قال الإمام الذهبي في ميزانه: "محمود بن غيلان، قلت لأبي داود إنك لا تروي عن عبد الوارث قال: وكيف أروي عن رجل يزعم أن عمرو بن عبيد خير من أيوب ويونس وابن عون؟(25/25)
سهم بن عبد الحميد قال: مات ابن يونس بن عبيد فعزاه الناس، فأتاه عمرو فقال: إن أباك كان أصلك وأن ابنك كان فرعك وأن امرأ قد ذهب أصله وفرعه لحري أن يقل بقاؤه.
قال الفلاس: عمرو متروك صاحب بدعة، قد روى عنه شعبة حديثين وحدث عنه الثوري بأحاديث. قال: سمعت عبد الله بن مسلمة الحضرمي يقول: سمعت عمرو بن عبيد يقول: لو شهد عندي علي وطلحة، والزبير وعثمان على شراك نعل ما أجزت شهادتهم [34] ".
قال السندي: "هذا كفر بكتاب الله تعالى وإلحاد وزندقة، وقد عدلهم ربهم جل وعلا في كتابه فأي تعديل أعظم وأوثق من تعديل رب الجلال سبحانه وتعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه الحكيم في عدة مواضع في آياته وسوره فالله درهم رضي الله تعالى عنهم".
ثم قا ل الإمام الذهبي: "قال مؤمل بن هشام: سمعت ابن علية يقول: أول من تكلم في الاعتزال واصل بن عطاء الغزالي، ودخل معه في ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به وزوجه أخته وقال لها: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة"انتهى. قلت: خليفة للشيطان وأتباعه.
ثم أطال الإمام الذهبي في ترجمة هذا الفاسق الفاجر نقلا عن أئمة الحديث الكبار، فيها من البلايا والكفر الذي يقشعر منه الجلد ويضطرب منه القلب، ويفسد به الضمير.
قال الإمام الذهبي: عبيد الله بن معاذ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن عبيد يقول: وذكر الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: لم سمعت الأعمش يقول لكذبته، ولم سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله ما قبلته، ولو سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا" [35] انتهى.
قلت: إن صح هذا فهو كفر صريح والإسناد المساق رجاله كلهم ثقات والعلم عند الله تعالى.(25/26)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المسند: (4 /126) وابن ماجه (رقم 43) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.
[2] ابن ماجه في السنن رقم (5) .
[3] انظر رسالته (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات) ص (25) وهي من مطبوعات الجامعة الإسلامية سنة 1395 هجري.
[4] شرح العقائد النسفية: ص.11
[5] تحكيم الناظر: ص 73.
[6] تحكيم الناظر: ص 27 -29 طبعة سنة 1370 هجري.
[7] لوامع الأنوار البهية: ج (1 /25) .
[8] ميزان الاعتدال: 399 /1.
[9] لسان الميزان: 105 /2.
[10] الأنساب للسمعاني: 287 /3.
[11] اللباب في تهذيب الأنساب: 282 /1.
[12] تاريخ الخميس: 183 /2.
[13] الرد على الجهمية للإمام الدارمي: ص 97.
[14] المعارف لابن قتيبة: ص 174.
[15] ميزان الاعتدال: 1 /426.
[16] لسان الميزان: 2 /142.
[17] كتاب الرد على الجهمية: ص 93 -95 المطبوع في ليدن سنة 1960 م.
[18] مقالات الكوثري: ص 27 -28.
[19] ميزان الاعتدال: 4 /329.
[20] معجم الأدباء: 243 –247 /9.
[21] وفيات الأعيان: 6 /7 -11.
[22] لسان الميزان: 6 /215.
[23] انظر مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصبهاني: ص 293.
[24] الأوائل: ص 298 -300.
[25] الفهرست: ص 251.
[26] تقريب التهذيب: 1 /89.
[27] المرجع السابق: 2 /386.
[28] المرجع السابق: 1 /439.
[29] المرجع السابق: 1 /326.
[30] الإصابة: 2 /78 -79.
[31] طبقالت ابن سعد: 7 /49 -50.
[32] تجريد أسماء الصحابة: 1 /239.
[33] الفتح: 7 /35.
[34] ميزان الاعتدال: 3 /275.
[35] ميزان الاعتدال: 3 /278.(25/27)
إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن
للشيخ مصطفى الوراق إبراهيم
مدرس بالمعهد الثانوي
الحمد لله نحمده ونستعينه ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فإن الإيمان ((بالملائكة)) إيمان غيبي ذلك لأنهم عالم غير مرئي، والإيمان بالجن إيمان غيبي، لأنهم عالم غير مرئي أيضا، والتصديق بالغيب كله إنما يقوم على قاعدة متينة ثابتة، تلك القاعدة هي الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكل من استقرت نفسه على الإيمان صدّق –ولا ريب- بكل الغيبيات، ذلك لأن التصديق بالغيب شعبة من شعب الإيمان.(25/28)
قال الله تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وقال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . وفي القديم أنكر أهل الاعتزال وجود الجن مع أن عالم الجن ثابت لا شك فيه بإخبار الله سبحانه عنه، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة ديانتهم وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم"ثم أورد القرطبي بعض الآيات الدالة على وجود الجن والشياطين كآية البقرة {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} وقال في آخر كلامه: "وسورة الجن تقضي بذلك"أما في عصرنا هذا فإن معظم المنكرين للجن من المفتونين بالحضارة المادية، ولم يضف هؤلاء دليلا جديدا يجعل الناس يفتنون (بقضية) إنكار الجن، ولذلك فإن مما يثير أشد الأسف أن يكون الدكتور محمد البهي حاملا للواء المنكرين (للجن) في هذا العصر متوهما أنه سيعطي قضية الباطل شيئا من القوة –بما له من مكانة علمية- أو مخيلا أنه سيبث في كيانها الميت روحا من الحياة، وهيهات. لأن الحق يعرف قبل الرجال وبمعزل عن بريق الألوان والأصباغ. ولقد أعد الدكتور محمد البهي تفسيرا للقرآن أسماه بالتفسير الموضوعي وحمل على كاهله فيما حمل أن يصحح –حسب زعمه - اعتقاد المسلمين في الجن وكأن المسلمين – منذ الصدر الأول - كانوا في ضلال الاعتقاد لإيمانهم بالجن، ومضى عليهم أربعمائة سنة بعد الألف وأجيالهم ترسف في ظلمات الجهالة! فماذا جدّ في عالم الموضوعية مما ينفذ أمره ولا يرد دليله وقوله حتى تحمس الدكتور بل وتجرأ ليظهر بوجه الإنكار القبيح؟!(25/29)
وقبل أن نحكم على كلام الدكتور بما يستحقه من حق أو باطل يسحن –بحكم الموضوعية - أن نعرض رأيه بأمانة كما كتبه في تفسيره، يقول الدكتور في تفسير سورة الفرقان صفحة 4 وهو يحدد معنى عالمية الرسالة الإسلامية: "وقد يميل بعض المفسرين إلى أن العالمية في رسالة القرآن بين الشعوب والأقوام، ولا بين الأجيال والمجتمعات مع اختلاف اللغات واختلاف الزمان ومكان. بل هي العالمية بين ((الجن)) والإنس ...
وقد آن الأوان أن يفهم المتصدي لتفسير القرآن أن لفظ الجن كما ورد في القرآن قصد به غير المعهود للإنسان، وأطلقه القرآن مرة على فريقين من الناس لم يكونوا معهودين للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجالس المؤمنين في مكة، وورد هذا الإطلاق في سورة الأحقاف 29، 30 في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم} وهذا النفر في رأي الدكتور هو فريق من الأوس والخزرج، واستدل على زعمه بما جاء في الآية من ذكر للتوراة والأوس والخزرج كانوا على صلة باليهود. ثم يقول الدكتور في صفحة 5 من تفسيره لسورة الفرقان: "كما أطلق القرآن لفظ الجن مرة أخرى على الملائكة في سورة الصافات 158 في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فالسياق قبل وبعد يحدد أن الجنة هنا هم الملائكة الذين ادعى مشركوا قريش أنهم بنات الله في قوله تعالى في السورة نفسها 149 -150: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وفيما عدا هذين الموضعين فلفظ الجن مفهوم لغوي لا يقصد منه(25/30)
سوى غير المعهود للإنسان شريرا أو خيّرا ماهرا أو غير ماهر"انتهى كلامه.
وقبل أن نتعرض لتأويل الدكتور (الحاسم) للفظ الجن نذكر ما تعارفت عليه لغة العرب من مدلولات كلمة (الجن) ومادتها، فقد عرف العرب جنّ الليل إذا أظلم، وأجنّ الشيء في صدره، أكنه. والجنة: البستان والجان: جنس من الحيات، والجن: عالم من المخلوقات العالقة لا تدركه حواس الإنسان، والجِنة جماعة الجن، والجنة الملائكة لاختفائهم عن الأبصار، والجُنة بضم الجيم: السترة والوقاية، كما عرفت اللغة الجنين والجنون والمجنون. إذن فمن مفاهيم (اللغة) للجن أنهم عالم لا يدرك بحاسة البصر ولا بغيرها من الحواس [1] وهذا ما تقوله كتب اللغة باتفاق تام، وقد أوضح القرآن بعض اعتقادات العرب في الجن وانتقد ما فيها من باطل، وأرشد إلى الحق، فمن ذلك ما جاء في سبب نزول الآية {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا بواد ليلا استعاذوا بسيد الوادي من شر سفهائه [2] ، وكان العربي يطلق صوته بهذه الاستعاذة وهو يخاطب عالما غير منظور مستعيذا بزعيمه من شر سفهائه كما يستجير الغريب النازل بقبيلة من العرب بسيد القبيلة طالبا حمايته. ويحسن بعد هذا أن نأخذ في الرد على (نظرية) الدكتور في الجن يقول:(25/31)
في الموضع الأول: "إن الجن ورد في آية الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} بمعنى فريق من الناس غير معهود للرسول صلى الله عليه وسلم فهل يصح أن يسمى الإنسان من يقابلهم لأول مرة جنا؟ وإذا كان هذا الإطلاق سائغا فلماذا لم نجده في كلام العرب وأشعارهم؟ وكيف يكون الفريق المذكور من الأوس والخزرج وهما القبيلتان المعروفتان المشهورتان في جزيرة العرب وخارجها ومع ذلك يصح أن يطلق على وفدهما لفظ الجن؟ ولماذا لم يطلق على غيرهما من وفود العرب الذين التقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم للإسلام مع أن هذه الوفود لم تكن في مستوى الأوس والخزرج مكانة ولا شهرة؟! على أن تفسير الدكتور ((للجن)) في هذه الآية لا يقره المفسرون الأقدمون ولا المحدثون فكيف يكون تأويله وحده هو الصحيح، ويكون تأويل كل المفسرين باطلا؟ فالمراد بالجن هنا عالم المخلوقات التي لا نراها والتي حدثنا عنها الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة. وهذا المعنى للجن مما تعارفت عليه لغة العرب بل وعقائدهم، فعلام يستند الدكتور في نفيه لوجود الجن؟ أعلى أنه لا يراهم؟ وهل تعتبر الرؤيا دليلا حاسما على وجود الشيء أو عدمه؟ وهل يقر الدكتور ((بموضوعية)) هذا المنهج القائم على إنكار وجود كل ما لا يرى والدكتور في تفسيره يعترف بوجود الملائكة فهل رأى الدكتور يوما واحدا منهم؟ أما الموضع الثاني والذي يقول غيه الدكتور: إن المراد بالجنة – بكسر الجيم - في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} الملائكة فإن كثيرا من المفسرين يوافقونه على ما ذهب إليه ولكن تأويل كلمة الجن هنا بالملائكة لا يمنع أن تأتي في آية أخرى بمعنى آخر.(25/32)
ويأتي بعد هذا الادعاء الأكبر في قول الدكتور: "فيما عدا هذين الموضعين فلفظ الجن مفهوم لغوي لا يقصد منه غير المعهود للإنسان شريرا كان أو خيرا ماهرا أو غير ماهر"يأتي هذا الادعاء ليكون المعمول الهدام الذي يقضي على الموضوعية من أساسها إذ كيف يطلق الدكتور مثل هذا الحكم العام دون استقراء تفصيلي لكل آية ورد فيها ذكر الجن؟ ودون أن يتأكد –مع الاستقراء- أن المعنى الذي ادعاه هو المعنى الوحيد المتعين. وسأورد في هذا الرد بعض الآيات والأحاديث النبوية وسأثبت أن ما قصد بلفظ الجن فيها هو العالم غير المرئي فما رأى الدكتور هل سيكون ((تفسيره)) في هذه الحالة سليما وموضوعيا إن المرء ليحار فيما يعنيه الدكتور بالموضوعية في تفسيره! هل يعني بها تفسيرا لا يخضع للسنة –وهي البيان للقرآن- ولا يهتم بتأويل السلف من الصحابة والتابعين وهم حفظة السنة؟! وأي موضوعية هذه؟ أم يريد بها أن يكون التفسير قادرا على مواجهة ((المادية)) ترجمة للشعار الذي كتبه في صدر تفسيره (القرآن في مواجهة المادية) وهل تكون مواجهة المادية بالاعتراف بها وإنكار كل الغيبيات غير المدركة بالحواس؟ وهل تكون هذه مواجهة أم خضوعا وانسياقا وراء المادية؟
القرآن يخاطب الجن كما يخاطب الإنس:(25/33)
ولقد ورد لفظ الجن كثيرا في القرآن، وإن وروده بهذه الكثرة مما يستدعي انتباه المتأمل لآيات الكتاب. وفي كثير من الآيات يأتي لفظ الجن في مقابلة لفظ الإنس أو يأتي الخطاب لكل منهما يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} فمن هما الثقلان إن لم يكونا نوعين مختلفين هما الإنس والجن؟ ويقول الله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وسنتحدث عن هذه الآية فيما يأتي ولكن نلفت النظر هنا إلى ما في الآية من الحديث عن النوعين ومادة كل منهما التي خلق منها، وفي سورة الرحمن نفسها يقول الله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} فهل يعني القرآن من الجن هنا إنسا غير معهود؟ هذا مع أن الذي يوجه الخطاب هنا هو الله نفسه فكيف يمكن أن يكون الجن عالما غير معهود لخالقه؟! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ألا يوافقني الدكتور على استحالة تأويله هنا؟! وأي فائدة لذكر جماعة غير معهودة من الإنس مع أن لفظ الإنس يشمل كل الإنس مهما اختلفت صفاتهم؟
الأدلة العقلية لا تنفي وجود الجن بل تثبت وجودهم:(25/34)
ويصل الدكتور في جرأته في إنكار الجن ونفي وجودهم إلى حد الصراحة الواضحة في مناقشته لهذا الموضوع فيقول في تفسير سورة الجن صفحة 22: "وافتراض أن هناك عالما ثالثا يتميز عن عالم الملائكة وعالم الإنس ويتقابل تماما مع أي منهما هو عالم الجن يحتم مثل هذه الأسئلة مم خلق هذا العالم؟ فإذا كان الجواب أنه من نار لقوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} فيسأل بعد ذلك مم خلقت الملائكة وعالمها تماما يقابل عالم الجن على هذا الافتراض فإذا كان الجواب إن الملائكة خلقت من (نور) كما يقال يسأل الآن ما هو الفرق بين النار والنور؟ أليست الشمس نارا ملتهبة، ومع ذلك تشع النور؟ وأليس النور عرضا ومظهرا للنار؟ وأليست النار منبعا للنور" انتهى كلامه، ونقول ردا على مناقشة الدكتور:
أولا: من الذي افترض ((أن هناك عالما ثالثا)) هم عالم الجن؟ إن هذا العالم ذكره الله في كتابه وتحدث عن خلقه وإن من الغريب أن يتكلم الدكتور عن الافتراض وهو نفسه يورد في مناقشته آية من كتاب الله تحدد المادة التي خلق الله منها الجن {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} .(25/35)
ثانيا: أن مسألة خلق الجن ليست مسألة افتراضية حتى يحيطها الدكتور بهذا الركام من الأسئلة التي تنبعث من ظلمات الشك بل والإنكار، وإنما هي مسألة حددها القرآن بوضوح تام يقول الله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ثم يأتي بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فيزيد المسألة تأكيدا ويكشف عن أصل كل واحد من العوالم الثلاثة الإنس – الملائكة - الجن في حديثه الذي يقول فيه: "خلقت الملائكة من نور. وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" [3] رواه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، فما رأي الدكتور في هذا الحديث وهو في غاية الوضوح، ولا أحسبه يقبل شيئا من التأويل الغريب الذي جنح إليه الدكتور في تفسيره لمعنى ((الجن)) وإنني أستبعد أن يكون الدكتور جاهلا بهذا الحديث، وحتى لو سلمنا باتحاد أصل الملائكة والجن حسب رأيه فإننا نقول: ليس في اتحاد أصل عالمي الملائكة والجن مع اختلاف طبائعهما ومواصفاتهما أي غرابة حتى يثير الدكتور الدخان حول نار الجن ونور الملائكة بتساؤله ما الفرق بين النار والنور؟ راميا بذلك إلى إثبات أن الأصل الواحد لا يمكن أن ينشأ عنه نوعان مختلفان متجاهلا أو متغافلا عن حقيقة هامة هي أن الأصل سواء أكان النور أو النار لا فعالية له من ذاته في الخلق والإيجاد وإنما يكون الخلق منه بقدرة الله وكلمته ((كن فيكون)) إذن فما دام الأمر بيد الله سبحانه وتعالى فإن مناقشة ((كيفية)) الخلق لنوع أو نوعين لا تنتج إلا العبث، ولا تفضي إلا إلى فساد الفكر وضعف الإيمان بقدرة الله على خلق ما يشاء ومما يشاء كيفما يشاء.(25/36)
ولماذا لم يستغرب الدكتور اتحاد الأصل الذي كان منه الإنسان وهو نوع له مميزاته ومواصفاته ثم كان منه الحيوان فكلاهما من ماء وطين يقول الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم لننظر إلى اختلاف عالم الحيوان عن عالم الزواحف عن الأسماك عن الطير في الخصائص والمميزات واختلاف أحد هذه العوالم عن عالم الإنسان الذي يتحد مع كل هذه العوالم في أصل مادة خلقه فهل يسوغ لنا أن ننكر ((وجود)) بعض هذه العوالم نظريا لأن الأصل لا ينبغي أن يكون إلا لواحد منها لا يتعداه. بل إن في عالم الإنسان ما يجعلنا نقف مبهورين أمام إبداع القدرة الخلاقة عندما نتأمل اختلاف خلق آدم عن خلق أبنائه ثم عن خلق واحد متميز من أبنائه وهو سيدنا عيسى عليه الصلاة السلام. ولكن هذا لا يثير الاستغراب الذي يؤدي للشك أو للإنكار بل بالعكس فإنه يلمس في النفس أعمق مشاعر الإيمان التي يحركها إدراكنا لإبداع القدرة الإلهية. فما لعنصر ولا لمادة معينة فعالية ذاتية في خلق كائن أو إفراز نوع ولكن الإيجاد لكل الأنواع – بقطع النظر عن أصل المادة التي خلقت منها- إنما يكون بقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون. ولا أحسب الدكتور محمد البهي يجهل هذا ولكني أخشى أن يكون إنكاره للجن انسياقا وراء بريق الجديد وإن كان زائفا أو إحياء لانحراف الفكر القديم ولو كان باليا.(25/37)
وفي القديم أنكر الجن بعض الفلاسفة قال الإمام القرطبي: "وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله وافتراء.. والقرآن والسنة ترد عليهم"كما أنكر الجن في عصرنا هذا – بعض الفرق الضالة كالقاديانية [4] الذين ادعى زعيمهم الرسالة- ولهم أصحاب بالسودان يسيرون على نهجهم فهل يود الدكتور أن يدعم رأي هذه الجماعة الضالة وما أحسبه – وهو الذي عرفناه داعية للحق- يرضى أن يكون سندا لأهل الضلال. مرة أخرى نؤكد أن الكتاب والسنة يدلان دلالة واضحة على وجود عالم الجن بل ويحددان له كثيرا من السمات يقول الأستاذ العالم سيد قطب في تفسير الظلال صفحة 312 تفسير سورة الجن: "فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا كما يصفون أنفسهم هنا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} وإنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} وإنهم لا يعلمون الغيب ولم يعد لهم صلة بالسماء {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ويقول في ص. فحة 313 من تفسير سورة الجن: "هذا –بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي خلق منها كيان الجن والمادة التي خلق منها كيان الإنسان في قوله: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيّب تثبت وجوده وتحدد الكثير من خصائصه، وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير العالقة عن ذلك الخلق. وتدع تصور المسلم عنه(25/38)
واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة، ومن التعسف والإنكار الجامح كذلك! ".
السنة الصحيحة تثبت وجود الجن:
جاء في كتب السنة الصحيحة أحاديث تثبت الجن وتؤكد إيمانهم بالإسلام ولا أدري لماذا لم يتعرض لها الدكتور مع أنه من أبجديات ((الموضوعية)) أن يعرض الباحث كل ما يخالف وجهة نظره بدقة وأمانة ثم يتعرض لما فيه بالرد والتعليق. وإنني لأتساءل هل من الموضوعية إهمال السنة وهي البيان للقرآن بل والمصدر الثاني للإسلام عقيدة وشريعة؟!
وأول ما أعرض من الأحاديث التي تثبت وجود عالم الجن الحديث الذي رواه الشيخان في قوله تعالى:: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} أن هذا النفر كان من جن نصيبين أو نينوى، فما رأي الدكتور في كلمة ((جن)) هنا هل يراها تقبل تأويله المبتدع؟
ثانيا: ما رأي الدكتور في الحديث الذي أوردناه في الصفحات السابقة والذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أصل المادة التي خلق الله منها الجن كما حدد أصل الملائكة والإنس؟ هل لدى الدكتور مطعن في سنده؟ أم عنده له غريب التأويل ما يخرجه عن صريح معناه؟ ولماذا لم يتعرض له الدكتور في تفسيره الموضوعي؟(25/39)
ثالثا: ما رأى الدكتور في رواية ابن عباس التي رواها البخاري ومسلم في سبب نزول قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} والرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه قول الجن والحديث طويل. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن" [5] .(25/40)
ولا بأس من إيراد تعليق الأستاذ سيد قطب عليه يقول: "وهي أن رواية ابن عباس –قاطعة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم - إنما علم بالحادث عن طريق الوحي وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم"إلى أن يقول: "ويقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن" {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهل يمكن في رأي الدكتور أن يختفي شخص الإنسان بحيث يكون قريبا منك ومواجها لك ثم لا تراه عينك؟!
رابعا: ماذا يفعل الدكتور في رواية مسلم التي جاء فيها وسألوه – صلى الله عليه وسلم- الزاد. أي سأله الجن زادا لهم. فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" [6] فهل يرى الدكتور في هذا طعاما للإنس؟ وما رأي الدكتور في قوله صلى الله عليه وسلم: "أوفر ما يكون لحما"؟ أو ليس هذا الكلام واضحا في أنه يحدد طعام عالم آخر وهو عالم الجن الذي ينكره الدكتور والذي يثبته الحديث بل ويثبت له دوابا لها طعامها الخاص.
شطط يقود إلى شطط:(25/41)
لقد ساق الدكتور شططه في أمر الجن إلى شطط في تفسيره لأمور أخرى وردت في سورة (النمل) وذلك حتى تتسق المعاني مع المعنى الذي ذهب إليه الدكتور في تفسير الجن بأنهم إنس غير معهودين فماذا قال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} (النمل 38 -42) .(25/42)
وهذه الآيات الكريمة بينات واضحات ومن الكلام المستساغ فيها أن يقول المرء إن الشرح والتفسير لا يزيدها إلى قليلا. ولكن الدكتور أخذ على نفسه أن يدخلنا في معميات تأويله حتما عليه حتى يتمكن من تنسيق معاني الآيات مع ما ذهب إليه – مسبقا - من تحريف في معنى ((الجن)) فما دام العفريت من الجن يعني – لديه - (واحد من الأقوياء واسع الحيلة شديد الدهاء من غير الظاهرين في ملأ سليمان عليه الصلاة والسلام) ما دام الجن يفسر عنده بالإنسان غير معهود فكيف يكون معنى عرش الملك كما هو لابد إذن أن يتغير معنى العرش إلى معنى يفتن الدكتور في ابتكاره واختراعه فماذا يكون العرش الذي طلب سليمان عليه السلام من أصحاب الرأي عنده الإتيان به وعلى وجه السرعة؟ إنه لا يعدو لدى الدكتور أن يكون خريطة ترسم لمملكة سبأ ولندع عبارة الدكتور تكشف عن المراد بالعرش يقول: "وطلب – إلى أصحاب الرأي عنده - وضع خريطة تصور مملكة بلقيس كي يستعد لغزوها طلب وضع هذه الخريطة وأن تكون جاهزة عنده قبل أن يأتيه الرد منها على رسالته الثانية بالخضوع والقبول"انتهى كلامه. وإذا كان المراد بعرش بلقيس خريطة يقوم برسمها مهندس فما معنى اهتمام سيدنا سليمان بسرعة الإتيان بهذا الرسم قبل أن تأتيه بلقيس وقومها مسلمين؟! وأي إعجاز ستلمسه بلقيس في صورة لعرش تستمتع هي بالفعل بالجلوس عليه؟! وهل تبهر الصورة من يستمتع بحقيقة الشيء المصوّر؟ إن الذي سيبهرها حقا هو أن تجد أمامها عرشها الذي خلفته وراءها بذاته أن تجده قد سبقها إلى سليمان دون علم منها أو إرادة، هذا هو الشيء الخارق المعجز ولذلك كانت دهشتها واضحة فيما حكاه الله عنها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} .(25/43)
ويحق لنا أن نتساءل أيضا عن سر التسابق – في اختصار الزمن - بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب أي معنى لهذا التسابق لو كان الأمر المطلوب لا يعدو أن يكون ((خريطة)) ترسم. ثم ما معنى (القوة) والأمانة اللتين وصف بهما العفريت نفسه في قوله تعالى حكاية عنه: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} فهل يحتاج ((رسم)) الخرائط إلى قوة عظيمة وصيانة ومحافظة ((حتى لا تقع خطوط الرسم وتنكسر الزوايا والمنحنيات)) ؟ لو كان ((العرش)) خريطة كما يزعم الدكتور لكان المناسب أن يقول هذا العفريت وإني لرسام ماهر أو مهندس بارع أو ذكي لماح أو دكتور ... في علم الخرائط. ثم إن التسابق في اختصار الزمن كان أمرا حاسما في الدلالة على أن المراد ((العرش)) ذاته لا صورة له ولا لمملكة سبأ فقد كان بين زمن انفضاض الاجتماع وزمن ارتداد الطرف فرق كبير في اختصار المدة ومن الواضح أن زمن ارتداد الطرف زمن يسير جدا وهو أقل بكثير من الزمن الذي حدده العفريت بانفضاض الاجتماع.(25/44)
ولهذا كان الإعجاز في انتقال العرش من سبأ بهذه السرعة المذهلة واستقراره أمام سليمان عليه السلام ومازال أصحاب الرأي عنده مما دعا سليمان عليه الصلاة والسلام إلى الاعتراف بفضل ربه واعتبار هذا الفضل العظيم اختبارا من الله له أيشكر أم يكفر وقد شكر ولله الحمد، قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وهذه المعاني كلها واضحة لمن تدبر آيات النمل فماذا تقول ((موضوعية)) الدكتور فيها إنه يقول عن الذي عنده علم من الكتاب: "وعد أن يحضره في أقصر مدة ممكنة وهي ما يعبر عنه بارتداد الطرف"فيخيل إليك أنه يريد أن هذه المدة أسرع من مدة ((انفضاض الاجتماع)) ولكن الدكتور يفاجئك بعكس ما تظن عندما يقول: "فالأمر يحتاج إلى تحضير ودقة فيه وليس من السهولة بحيث يؤتى به قبل انفضاض الاجتماع"يعني هذا بوضوح أن مدة انفضاض الاجتماع أقصر من المدة التي يرتد فيها الطرف حتى قبل أن يرتد!.(25/45)
وهكذا يقلب الدكتور المعاني قلبا وبصورة مدهشة وكأنها السحر فيحول مدة ارتداد الطرف إلى زمن أطول وأكثر تراخيا من مدة انعقاد الاجتماع وإلى حين انفضاضه! وقد قلت – فيما سبق - معنى العرش إلى خريطة مرسومة لمملكة سبأ ومن الحق أن نسأل الدكتور من أي كتاب من كتب اللغة أتى بهذا المعنى المبتكر للعرش؟ أم أن الاستعمال مجازي؟ وإذا كان مجازيا فما العلاقة؟ وهل ظهر للدكتور كيف أن سياق الكلام يأبى ويرفض تأويله الجديد للعرش؟ ونلاحظ هنا أنه يخاطب جماعة مع أن الذي تصدى لرسم الخريطة كان واحدا معينا وهو الذي عنده علم من الكتاب، ألا ينبه هذا الدكتور إلى ما في تأويله من خطأ ظاهر؟! ولم طلب سليمان عليه السلام تغيير معالم خريطة هامة كهذه، وكيف سيستعين بها بعد هذا التغيير؟ أليس المناسب في مثل هذه الحالة أن يحفظ هذه الخريطة في مكان آمن شأن الأوراق السرية الهامة التي لا يفرط فيها القائد المحنك؟ ولماذا عرض هذه الخريطة – وهي سر من أسراره الحربية - على بلقيس ملة أعدائه فور حضورها؟ وكيف يعرضها عليها مهما كان السبب قبل أن يستيقن من استسلامها لا سيما وقد ظهر له ما تتمتع به من حيلة ودهاء، إن هذا التأول فوق أنه لا يستند على إثارة من علم تأويل لا يقبله العقل ولا يكون عناء وتكلفا جشمنا إياه الدكتور ليؤيد تفسيره الموضوعي الذي ينادي بإنكار وجود الجن.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع اللسان مادة (جنن) والقاموس المحيط الجزء الرابع الطبعة الثانية المطبعة الحسينية المصرية صفحة 210 -211. والصحاح للجوهري الجزء الخامس دار الملايين صفحة 2093. ومختار الصحاح للرازي الطبعة الأولى دار الكتاب العربي مادة جنن صفحة 113 -114.
[2] ابن كثير في تفسير سورة الجن والطبري أيضا.(25/46)
[3] مختصر ابن كثير الجزء الثالث الطبعة الأولى صفحة 417.
[4] شرح الألباني 0للعقيدة الطحاوية) صفحة 24.
[5] أخرجه البخاري في التفسير وفي الصلاة والترمذي والنسائي في التفسير.
[6] مختصر تفسير ابن كثير اختصار وتحقيق الشيخ محمد علي الصابوني الجزء الثالث، الطبعة الأولى صفحة 324 -325.(25/47)
عوض الوراثة في الطّب
للدكتور فكري السيّد
طبيب العيون بالجامعة
يتكون الجسم البشري من عدة أجهزة مختلفة متخصصة (مثل الجهاز التنفسي، والجهاز الهضمي، والجهاز التناسلي، إلى غير ذلك من الأجهزة) وكل جهاز من تلك الأجهزة يتركب من مجموعة من الأعضاء، وكل عضو يتكون من مجموعة أنسجة تؤدي مهمة واحدة، وكل نسيج يتشكل من مجموعة خلايا تقوم بعمل معين.
والخلية: هي حجر الأساس في بناء الإنسان، وهي تتكون –في إيجاز شديد- من مادة سائلة (تسمى السيتوبلازم) يغلفها غشاء رقيق ينظم دخول وخروج المواد المختلفة، ويوجد بداخل هذه المادة السائلة أهم شيء في الخلية وهو ما يسمى بالنواة حيث يكمن فيها سر الحياة للخلية، فلا يمكن أن تعيش الخلية بدون النواة.
وقد بدأ العلماء في دراسة نواة الخلية فوجدوا فيها أجساما غريبة ذات أشكال ثابتة، تتلون بالأصباغ بشدة فسموها (الصبغيات) ... ومع متابعة الأبحاث وجدوا أن جميع الصفات الوراثية تكمن في هذه (الصبغيات) وتنتقل من الأباء إلى الأبناء والأحفاد من خلالها. بمعنى أن كل ما يتعلق بالوراثة يكمن في الصبغيات التي في نواة الخلية وهي تشكل خريطة عامة لجسم الإنسان كله من طول القامة، وقسمات الوجه، ولون الشعر، والعينين وفتحة العينين، وأهداب الأجفان، وشكل الأصابع والأظافر، وشكل المشية، وتشكيل العظام والعضلات، إلى آخر ذلك فيما يتعلق بكل صغيرة وكبيرة بهذا الكائن الحي.(25/48)
وهنا يجب أن نتوقف قليلا أمام ما يقوله بعض السطحيين من أن العلم الحديث قد توصل إلى معرفة نوع الجنين وهو في بطن أمه، ويفهمون أن هذا من الغيب الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَام} وعلم الأرحام لا يقتصر على معرفة ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، إنما يحتوي على آلاف الغيبيات التي تتعلق بهذا الكائن، وبكل خلية من خلاياه وبكل صفة من صفاته. فالصبغيات التي في أي خلية من خلايا الإنسان تحتوي على المورثات، وتحمل أكثر من عشرة آلاف مورثة، كل واحدة تختص بشيء معين في الجسم، هذه تختص بالمشية، وثانية تختص باللون، وثالثة تختص بالشعر، ورابعة تختص بطبيعة الإنسان، وخامسة تختص بعقل وذكاء الإنسان، وسادسة ... وألف ... وألفان ... إن علم الأرحام عالم مستقل بذاته أكبر من أن تحتويه العقول وتكتشفه الأفهام.
ومع ظهور علم الوراثة فتحت بذلك أمام العلم الحديث أبواب واسعة لدراسة أمراض المستقبل، وسلط الضوء على احتمالات الجيل الجديد، وما يجب التخطيط نحو هذا الجيل القادم حتى يأتي قويا متجدد النشاط والحيوية، وخاصة أن العلم يقول بأن أمراض الوراثة في الأطفال تكاد تقارب نصف عدد مرض الأطفال في المستشفيات الجامعية.
فالوراثة تشكل هذا المستقبل وترسم معالمه سواء كان صحة أم مرضا.
ومن هنا فإنه عندما نريد أن نتخذ قرار الزواج فلا بد أن نقف طويلا لندرس عوامل الوراثة لأن زواج الأقارب يساعد على كثير من الأمراض ويضاعف من بعضها، كذلك فإنها قد تكون من زوجين من غير الأقارب. لأنه كما عرفنا أن الصفات الوراثية جميعها تكمن في كل خلية من خلايا الإنسان. كذلك فإن البويضة (في المرأة) هي خلية تحتوي على كل صفات الأم وبالمثل فإن الحيوان المنوي (في الرجل) هو خلية تحتوي على كل صفات الأب، ومنهما يتكون إنسان المستقبل حاملا صفات الأب والأم بنسب متفاوتة.
والأمراض المتعلقة بذلك تنقسم إلى:(25/49)
أولا: أمراض خَلْقية:
وهي تنشأ من بعض الاختلافات التي تحدث عند تكوين الجنين، وليس لها علاقة بالمميزات الوراثية في الأب والأم.
وتحدث في طفل واحد، ولا خوف من تكرار المرض في حمل آخر.
ولكي نستوعب ذلك فيجب أولا معرفة أن عدد (الصبغيات) في كل نواة هو 46 (أي 23 زوج) وشكل كل واحد منها في الغالب مثل () ومرتبة في مجموعات بنظام معين.
فماذا يحدث لو حدثت زيادة أو نقص في واحد من هذه الصبغيات؟ إن الأثر يمون على مستوى الجسم كله.
وسنضرب على ذلك مثالا بالصبغي رقم 21 (أي الزوج رقم 21) :
(أ) حالة زيادة صبغي واحد ينتج عن ذلك تشوهات لا حصر لها، فيصبح منظر الطفل شديد الشبه بالسمة المنغولية: معتوها، والعينان منحرفتان، والرؤية تكون ضعيفة، واللسان يتدلى ويكبر، والأذنان تكونان مشوهتين، والقامة قصيرة، والقدرة على التمييز مختلفة، والقلب به إصابات كبيرة مثل وجود فتحات في جدار القلب، والأمعاء فيها نقص (Doudenum atresia) فيصعب النمو، والأطراف تكون مرتخية، ... ،...، وكل هذا بسبب زيادة صبغي واحد ...
ما أحرانا أن نتأمل رحمة الله الواسعة التي تغمرنا من كل جانب ونتذكر أنه سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وأنه يفعل ما يريد. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام /18)
(ب) حالة نقص صبغي واحد (أي يصبح أحاديا) : لا يمكن أن تستمر الحياة ويحدث الإجهاض. فالزيادة والنقص يحدث كل منهما آثارا عجيبة، وسبحان الخالق، إن كل شيء عنده بمقدار. وصدق الله العظيم: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران /6) .
(ج) حالة عدم الزيادة وعدم النقص: ولكن يفقد أحد الأذرع من الزوج 21: فإن هذا يؤدي إلى نوع خاص من سرطان الدم.(25/50)
وعندما يستشعر الإنسان ذلك فإنه مهما شكر الله تعالى، فإنه لن يوفي الله حقه الذي أخرجه إلى الوجود بهذه الصورة السوية {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار /8) {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (غافر /64) .
ومن أمثلة الأمراض الخلقية وأشهرها استسقاء المخ؛ ذلك أننا نجد الطفل الرضيع له رأس كبير نتيجة وجود سائل زائد يتكون في المخ، ويستمر تكوينه وتخزينه بحيث يستمر رأس الرضيع في الكبر، وهذا له علاج جراحي بسيط، إذا شخصت حالة الطفل مبكرا قبل أن يتأثر المخ بتأثيرات كبيرة، أما في حالة صغر حجم رأس الجنين، وبالتالي صغر المخ بداخل الرأس فإن ذلك يكون بسب نقص أو عدم تكوين بعض أجزاء المخ، وللأسف لم يوجد في الطلب إلى الآن طريقة لإعادة الجزء المفقود.
ثانيا: أمراض وجدت نتيجة بيئية عوامل بيئية حديثة:
بسبب هذه العوامل يحدث تلف غير مرئي في الصفات الصبغية لخلايا المبيض أو الخصية وقد يحدث في تكوين الحيوان المنوي أو البويضة.
ومن أمثلة تلك العوامل: الإشاعات الذرية، وتلوث البيئة، وميكروبات يمكن أن تحتل الجهاز الصبغي للخلية مثل الفيروسات، أو بعض الأدوية المتداولة.
وهذا يمكن تلافيه بالابتعاد عن الملوثات البيئية، والعلاج النووي، والأدوية التي لها تأثير مباشر على الأجسام الصبغية للخلية مثل بعض أدوية المهدئات، كذلك يجب استخدام التحصينات ضد بعض الفيروسات. كطعم الحصبة الألمانية وبالذات للبنات (قبل زواجهن) ، لأن الأم الحامل إذا أصيبت بالحصبة الألمانية خلال الأشهر الثلاثة من الحمل فإن ذلك يؤدي إلى حدوث العديد من التشوهات عند الجنين، والتخلف في الذكاء عند الطفل بعد الولادة، وعتامة عدسة عينيه، وصمم بأذنيه، وتشوهات بقلبه.(25/51)
ثالثا: أمراض وراثية:
وهي أمراض موجودة في جسم الأب أو الأم، وتنتقل خلال البويضة (من الأم) أو الحيوان المنوي (من الرجل) كإحدى الصفات الوراثية إلى الأولاد.
وقد عرف الأطباء وعلماء الوراثة أن بعض الصفات لعديد من الأمراض الوراثية تكون كامنة (غير ظاهرة) فيكون الإنسان الحامل لتلك الصفة الوراثية طبيعي المظهر وخال لنفس الصفة الوراثية الكامنة: فإن هناك احتمالا كبيرا أن تظهر أعراض الأمراض الوراثية عند بعض أطفالهما.
وقد تظهر أعراض المرض الوراثي في خلال أسابيع أو شهور بعد الولادة، أو بعد عدة سنوات على حسب نوع المرض الوراثي الذي سينتج عن زواج القريبين.
مفهوم خاطئ:
وهناك مفهوم خاطئ وهو أن الأمراض الوراثية يتعذر أو يستحيل علاجها، ولكن الحقيقة أن غالبية الأمراض الوراثية يسهل علاجها إذا شخصت مبكرا، وأعطى العلاج المناسب لها.
وقد أصبح من الممكن تشخيص أكثر من مائة وراثي أثناء الحمل ووصف علاجها، ولكن العلاج يستلزم فترات طويلة قد تصل إلى سنوات ... وعلى سبيل المثال: مريض النزف الوراثي يتعاطى جرعات منظمة من مركبات الدم الناقصة ... ،.... أو يتعاطى هرمون النمو لتلافي حدوث قصر القامة ... ،... أو بتعاطي الهرمونات اللازمة للنمو في أثناء فترات النمو.
ومن أمراض القلب الوراثية:
تصلب الشرايين وما يصحبها من مضاعفات خطيرة مثل الذبحة الصدرية وانسداد الشريان التاجي وارتفاع الضغط – والتشوهات الخلقية - مثل وجود ضيق في بعض صمامات القلب، لكنه نظرا للتقدم السريع في جراحة القلب فقد أمكن علاج كثير من هذه التشوهات بالجراحة، ويمكن شفاء المريض منها.
ومن أمراض الدم الوراثية:
بعض أنواع الأنيميا 0فقر الدم) الوراثي، وكذلك أمراض سيولة الدم المختلفة (الهيموفيايا) .
مرض السكر والوراثة:(25/52)
وهناك أشخاص لديهم استعداد وراثي للإصابة بمرض السكر، إلا أن هناك عوامل تسبب ظهور هذا المرض عندهم منها زيادة الوزن والإكثار من المواد السكرية.
ولذلك ننصح هؤلاء بعدم زيادة وزنهم، والإقلال من المواد النشوية أو السكرية، أو بمعنى آخر (كما يقول الأطباء) يعملون صداقة مع مرض السكر أي يستعملون الحيطة، أما إذا أهملوا فإن المرض يكون طريقه إليهم سهلا ويصاب كل جزء في الجسم.
أمراض الوراثة في العظام:
منها الخلع الخلقي (خلع مفصل الفخذ) والتواء القدم أو القدمين (يسمى بالقدم المخلبية) ويصعب المشي عليها، وقصر الطول، وقصر الأطراف، والأورام الغضروفية، وتضخم العظام، والتهاب العظم المفصلي، وأورام المفاصل (مثل مرض الروماتويد ويمكن علاجه إذا كشف مبكرا) .
وهناك أمراض عصبية وراثية مثل الصرع، والتشنجات، والشلل العصبي الوراثي، والتخلف العقلي.
وهناك أمراض عضوية وراثية مثل شلل العضلات الوراثي.
كذلك العديد من الأمراض الجلدية، وأمراض الغدد، إلى آخر تلك الأمراض التي تصاب بها أجهزة الجسم المختلفة.
ماذا يحدث إذا لم تعرف فصيلة دم كل من الأب والأم؟
يجب تحليل دم الأم لمعرفة ما يسمى بPH هل هو إيجابي أم سلبي.
وهو مهم جدا في حالات الحمل والولادة.
فإذا كانت الأم من النوع الإيجابي: فلا خلاف على الإطلاق –إذ أنه في معظم النساء إيجابي (85%) .(25/53)
أما إذا كانت الأم من النوع السلبي: فيجب هنا أن يكون الحذر.. ويجب تحليل دم الزوج، فإذا كان الزوج سلبيا مثل الأم فلا خلاف، أما إذا كان إيجابيا PH والأم سلبيا PH كان دم الجنين إيجابيا، وبهذا يكون دم الجنين غريبا عن الأم فتبدأ في تكوين أجسام مضادة لتهاجم هذا الدم الغريب ... وفي العادة يكون الطفل الأول سالما لأنه يخرج إلى الحياة قبل أن تكون الأجسام المضادة موجودة في دم الأم، وفي انتظار الهجوم في أي وقت تحمل فيه الأم ... وكلما حملت أكثر يحدث الإجهاض، وتزداد الأجسام المضادة أكثر ... والعلاج يكون أولا بالوقاية، وذلك بإجراء التحاليل قبل الزواج أو قبل الوضع، وكذلك إعطاء المرأة التي ولدت مصلا وقائيا للأجسام المضادة التي تتكون بعد 24 ساعة من حدوث الولادة أو من حدوث الإجهاض ... أما اللائى ضاعت منهن هذه الفرصة وامتلأت أجسامهن بالأجسام المضادة، فقد توصل الطب إلى نوع معقد من العلاج يحتاج إلى عناية بالغة ووسائل مختلفة منها نقل دم الجنين وهو داخل الرحم ... والمجال في هذا واسع ومتشعب، لكن اكتفينا بهذا الإيجاز الشديد لتوضيح أهمية الفحص، ومتابعة الطبيب، حتى لا يخرج النسل هزيلا ضعيفا ...
الوراثة وبعض أمراض العيون:
أولا: أمراض القرنية:
(أ) القرنية المخروطية:
وهي مرض خلقي يظهر غالبا من البلوغ، ويزداد بصورة تدريجية حتى تصبح القرنية كما لو كانت قمعا. وتعالج الصور البسيطة بالنظارات العادية.
وتستجيب الحالات الشديدة منه للعدسات اللاصقة، وإلا فإنه يمكن علاجها بعملية ترقيع القرنية.
(ب) القرنية الكروية:
وهي مرض وراثي عائلي، ويظهر في الأطفال، وغالبا ما يصاحبه ازدياد في طول واعوجاج أصابع اليدين (وتسمى الأصابع العنكبوتية)
وهذا يحدث دائما في الذكور حيث يزداد تحدب القرنية ازديادا منتظما على جميع محاورها مع كبر في قطرها.
(ج) التهاب القرنية المتخلل:(25/54)
ويظهر عادة على الأطفال بين سن الخامسة حتى الخامسة عشرة، والذين يولدون لأبوين أحدهما مصاب بمرض الزهري.
ويتميز هذا المرض بعتامات شديدة تغطي كل القرنية مع غزوها بالأوعية الدموية مما يؤدي إلى ضعف شديد في الإبصار.
ثانيا: أمراض العدسة البلورية:
1_ وهي فقدان شفافية العدسة، فتصبح معتمة، وهو ما يسمى بالكتاركتا الخَلْقية وتعالج بالتدخل الجراحي.
2_ أو عدم ثبوت العدسة في مكانها الطبيعي، وهو ما يعرف بانخلاع العدسة، وذلك نتيجة ضعف وتمزق في جزء من رباط العدسة مما يتبعه جذب من الناحية السلبية للرباط. فإذا كانت قوة الإبصار تكفي صاحبها، فلا داعي للتدخل الجراحي، وإلا فتستخرج تلك العدسة بعملية جراحية.
ثالثا: أمراض الشبكية:
1_ وهو مرض العشى الليلي الذي يبدأ في الطفولة، ثم ينتهي بضعف شديد في وسط العمر، إلى أن يحدث ضمور في العصب البصري.
2_ والبلاهة المصحوبة بالعمي، وغالبا ما يموت صاحبه بعد عامين أو أكثر. ولم يعرف له علاج حتى الآن.
3_ وتغيرات حيوية في المخ، يبدأ ذلك عند سن السادسة أو الثامنة حيث يظهر الارتعاش وتيبس العضلات بجانب ضعف الإبصار. ولم يعرف له علاج حتى الآن.
4_ وأورام عدسية الشكل تصيب الشبكية والعصب البصري.
5_ وعمي الألوان: وهو نوعان إما مكتسب وإما خَلْقي.
وعمي الألوان الخلقي نوعان:
أ_ عمي الألوان الكامل، وهذا نادر جدا، ويرى صاحبه جميع الألوان باللون الرمادي.
ب_ عمي الألوان الجزئي: وهو الأكثر انتشارا.
وهو مرض وراثي تحمله الأنثى لولدها الذكر بدون أن تتأثر هي به غالبا. والمصاب بهذا المرض إما لا يجيد تمييز اللون الأحمر، وإما لا يجيد تمييز حوالي 4% بينما في الإناث 4 %. ولم يعرف له علاج حتى الآن.
رابعا: انكسار العين:
أ_ طول النظر:(25/55)
مرض خلقي تركيبي، للوراثة أثر كبير فيه، وإذا ترك بدون علاج فإن صاحبه يعاني من صداع شديد حول عينيه، وخصوصا عند القراءة لمدة طويلة، وفي نفس الوقت يكون عرضة لحول حقيقي في إحدى العينين. وهذا المرض يعالج باستعمال النظارات.
ب_ قصر النظر:
وللوراثة شأن كبير فيه، ويظهر في سن مبكرة، وقد كان هذا المرض يفسر خطأ بأن سببه كثرة إجهاد العين والقراءة أثناء الاسترخاء على الظهر، ولكن ثبت بالدليل القاطع أن ذلك ليس من الحقيقة.
وتعالج الحالات البسيطة باستعمال نظارة، أما الحالات المتوسطة والشديدة فباستعمال العدسات اللاصقة، أما الحالات الشديدة جدا فهناك بعض الأبحاث الدالة على نجاح بعض العمليات لتحسينها.
ومن ذلك نجد أن معظم الأمراض الخلقية والوراثية في العين (باستثناء أمراض الشبكية) أصبحت قابلة للعلاج والتحسن ... ولذلك يجب على الأم أو الأب الانتباه إلى عيني ولديهما منذ اللحظة الأولى لولادته: هل لون عينيه غريب؟ هل حجمهما أكبر من المعتاد؟ هل تتحركان حركة بندولية باستمرار؟ هل تساعدان الطفل في مشيته؟ وإذا لاحظا شيئا غريبا فلا بد من عرضه على الطبيب قبل أن يفوت الأوان كذلك يجب إجراء فحص دوري لعين الطفل وخصوصا في سنوات المدرسة ولو مرة على الأقل كل سنة حتى ولو بدا أن عينيه طبيعيتان.
فائدة: يجب على الذين يشرعون في الزواج من الجنسين، الذهاب للفحص الشامل قبل إتمام الزواج، لأن الزواج أبوين مصابين بمرض واحد (مثل قصر النظر) ينتج عنه نسبة من الأطفال المصابين بنفس المرض أعلى كثيرا جدا من نفس النسبة لو أن كلا منهما تزوج بآخر سليم النظر.(25/56)
وفي ختام حديثنا يمكن أن نقول لكل من يريد أن يتزوج عليه أن لا ينسى المستقبل الصحي للأبناء، ولذلك يحسن أولا أن يزور الطبيب قبل أن يقف أمام المأذون. حتى نستطيع أن نعد العضو النافع ونهيئته للقيام بأعباء المسؤولية وتكاليف الحياة، وأن نرى زهرات حياتنا وفلذات أكبادنا بخير حالة. وعلى قدر الجهد المبذول والعزيمة الصادقة يتحقق الخير والفلاح، وتكتمل جوانب التربية السليمة التي تشمل التربية الإيمانية، والتربية الخلقية، والتربية الجسمية، والتربية العقلية، والتربية النفسية، والتربية الاجتماعية.
نسأل الله تعالى أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ويجعله الوارث منا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.(25/57)
حكم الاحتفال بالموالد
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد اطلعت على كلمة نشرتها جريدة المدينة بعددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 28 /12 /1401 هجري مضمونها أن الأخ جمال محمد القاضي رأى في برنامج أبناء الإسلام الذي يبث من التلفاز السعودي حلقة تشتمل على الاحتفال بعيد الميلاد. ويسأل جمال هل عيد الميلاد يجيزه الإسلام.. الخ.(25/58)
والجواب: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين عيدين يجتمعون فيهما للذكر والصلاة، وهما عيد الفطر والأضحى بدلا من أعياد الجاهلية وشرع أعيادا تشتمل على أنواع من الذكر والعبادة كيوم الجمعة ويوم عرفة وأيام التشريق، ولم يشرع لنا سبحانه وتعالى عيدا للميلاد لا ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم، فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك والحذر منه، وإنكاره على من فعله وعدم نشر أو بث ما يشجع على ذلك أو يوهم إباحته في الإذاعة أو الصحافة أو التلفاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وفي لفظ شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال:"فمن؟ ".(25/59)
وفي هذا المعنى أحاديث أخرى كلها تدل على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها، وأشرف الخلق وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته، ولم يحتفل به أصحابه بعده رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أو مولد غيره خيرا لسبقنا إليه أولئك الأخيار، ولعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحثهم عليه أو فعله بنفسه، فلما لم يقع شيء من ذلك علمنا أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الذين التي يجب تركها والحذر منها امتثالا لأمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعض أهل العلم أن أول من أحدث الاحتفال بالموالد هم الشيعة الفاطميون في المائة الرابعة ثم تبعهم بعض المنتسبين إلى السنة في هذه البدعة جهلا وتقليدا لهم ولليهود والنصارى، ثم انتشرت هذه البدعة في الناس، والواجب على علماء المسلمين بيان حكم الله في هذه البدع وإنكارها والتحذير منها، لما يترتب على وجودها من الفساد الكبير وانتشار البدع واختفاء السنن، ولما في ذلك من التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة الذين يعتادون مثل هذه الاحتفالات، وقد كتب أهل العلم في ذلك قديما وحديثا، وبينوا حكم الله في هذه البدع فجزاهم الله خيرا، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.(25/60)
وهذه الكلمة الموجزة أردنا بها التنبيه للقراء على هذه البدعة ليكونوا على بينة وقد كتبت في ذلك كتابة مطلوبة نشرت في الصحف المحلية وغيرها غير مرة، ولا ريب أن الواجب على المسئولين في حكومتنا وفي وزارة الإعلام بوجه أخص وعلى جميع المسئولين في الدول الإسلامية منع نشر هذه البدع والدعوة إليها أو نشر ما يوهم الناس إباحتها أداء لواجب النصح لله ولعباده، وقياما بما أوجب الله من إنكار المنكر، ومساهمة في إصلاح أوضاع المسلمين وتطهيرها مما يخالف الشرع المطهر. والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للتمسك بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والحذر من كل ما يخالفهما، وأن يصلح قادتهم ويوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده ومحاربة ما خالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.(25/61)
حكم رواة الحديث
الذين سكت عنهم أئمة الجرح والتعديل
للشيخ عداب الحمش
نظرة في كتب أئمة الجرح والتعديل المعنيين:
لن أذهب في هذا المبحث بعيدا، ولن أستعرض كل كتب الجرح والتعديل، وإنما أقتصر على الكتب التي أعتبر الشيخ سكوت أصحابها توثيقا للراوي. فأبين منهج صاحبها_ إن كان قد حدد لنفسه منهجا، وإلا تلمست ذلك بنفسي مستمدا العون من الله تبارك وتعالى.
1_ كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري [1] :
إن الناظر في كتاب التاريخ الكبير للبخاري - اليوم - يجده قليل الجدوى بالنسبة للحكم على الرجال، إذا ما قورن بميزان الاعتدال أو تهذيب التهذيب، أو التقريب وغيرها. وما ذلك إلا لأن طلبة العلم اليوم يستقون معلوماتهم عن الرجال والرواة من خلال ما دون وكتب، بينما كان طلبة العلم في عصر البخاري يعتمدون في معرفة أحوال الرجال على المشافهة والسماع. وما حفظوه في الحل والترحال، ولم يكن الكتاب إلا لإثارة الذاكرة واستيقاظها إذا غفلت.
يؤيد ما ذكرت قول الخطيب البغدادي في تاريخه: " فكتاب التاريخ الكبير لأمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من هذه الكتب التي عنيت بتراجم الرجال، وقد اتبع فيه البخاري طريقة الإيجاز, وروي عن البخاري بإسناده أنه قال: "قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب" [2] .
ولا يخفى أن هذا الإيجاز غرضه تسهيل الحفظ على طلاب العلم، وحين العرض على الشيخ المؤلف يحدثهم بحال كل راو من جرح أو تعديل فيحفظون ذلك أو يكتبونه على حواشي دفاترهم.(25/62)
فالجواب إذن أن ننظر إلى كتاب (التاريخ) على أنه من أوائل المصنفات التي وصلتنا في الرجال وكل من جاء بعد البخاري فقد اعتمد على كتابه, وتتبع أحوال رجاله، ونسق بعض تراجمه ونحو ذلك، ولقد كان للتاريخ الكبير قيمة علمية كبرى في عصره، فقد أسند الخطيب إليه أنه قال: "لو نشر بعض إسنادي! هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب التاريخ ولا عرفوه".
وأسند إليه أيضا قوله: "أخذ إسحاق بن راهويه كتاب التاريخ الذي صنفت، فأدخله على عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله بن طاهر فتعجب منه وقال: لست أفهم تصنيفه" [3] وهذا ليس كبيرا على كتاب البخاري إذا استحضرنا ما فيه من علوم وأسانيد وتذكرنا العصر الذي كتب فيه. وليس بكثير على مثل الإمام البخاري الذي يقول فيه تلميذه الإمام الترمذي:
"لم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل البخاري" [4] .
ومن تتبعي لكثير من رجال (التاريخ) يمكنني أن أعطي صورة موجزة عن منهج البخاري في تاريخه تتلخص في النقاط التالية:
1_ لقد رتب الإمام البخاري تاريخه على حروف المعجم (أ، ب، ت، ث) كما رتب هؤلاء على أسماء آبائهم مرتبين على الترتيب الأبجدي -كما قال في مقدمة كتابه - إلا أنه قدم من اسمه (محمد) على سائر الأسماء لشرف هذا الاسم الكريم.
2_ ابتدأ بذكر ترجمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى آدم عليه السلام بعد أن قدم لذلك بمقدمة بين فيها فضل قريش على الناس. وذكر شيئا من صفاته صلى الله عليه وسلم، ومدة بعثته وذكر كيف بدأ التاريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب ثم ذكر تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
3_ وخطته: أنه يذكر أسماء الصحابة ثم التابعين ثم من بعدهم في كل حرف من الحروف.(25/63)
4_ وتراجم البخاري لرجاله تتراوح بين الطول والقصر فبينا نجده يترجم لأحد الرجال بسطر واحد كما في ترجمته لمحمد بن عبد الله بن أسيد [5] ومحمد بن عبد الرحمن بن فورة، ومحمد بن عمرو اليافعي وغيرهم، إذا به يترجم لعبد الرحمن بن عبد الله بن مالك الأنصاري [6] بأكثر من عشر صفحات.
5_ غالب تراجم البخاري يذكر فيها (اسم الراوي واسم أبيه وجده وكنيته ونسبته إلى القبيلة أو البلدة أو كليهما، وقلما يطيل في الأنساب، ويذكر بعض شيوخ وتلاميذ صاحب الترجمة، وقد يذكر جميع الشيوخ والتلاميذ إذا كان الراوي من المقلين وغير المعروفين بطلب العلم ليتميز حاله. كما يذكر نموذجا من رواياته أو أكثر [7] (..ولا يقدم البخاري معلومات وافية عن أحوال الراوي، وإن ذكر أحيانا الصفات الجسمية والخلقية والعقلية للرواة ... ) [8] .
6_ ويستعمل البخاري ألفاظ الجرح والتعديل، ويلاحظ تورعه عن استعمال ألفاظ حادة في الجرح، فغالبا ما يقول: فيه نظر، يخالف في بعض حديثه، وأشد ما يقول: منكر الحديث. وكذلك لا يبالغ في ألفاظ التوثيق، بل يكتفي بقول: ثقة، أو حسن الحديث، أو يسكت عن الرجل [9] .
7_ وقد يسكت البخاري عن الراوي وما أكثر ما يسكت:
1_ فقد يسكت عن أئمة الثقات حيث ترجم للإمام الشافعي [10] بسطرين وسكت عليه كما سكت عن الإمام [11] أحمد بن حنبل، وأحمد بن أشكاب وأحمد بن منيع وغيرهم.
2_ وقد يسكت عن أناس مشهورين بالضعف أو النكارة كسكوته عن محمد بن أشعث بن قيس الكندي [12] ، ومحمد بن إبراهيم اليشكري وغيرهما.
3_ وقد يسكت عن أناس مجاهيل كسكوته عن: محمد بن إسماعيل الباهلي [13] ومحمد بن إبراهيم بن عبد الله الهاشمي [14] . وإبراهيم بن إسحاق [15] عن الوليد بن أبي الوليد، وإبراهيم بن إسحاق عن طلحة بن كيسان وغيرهم.
4_ وقد يسكت البخاري عن أناس لم يعرفهم، حتى إنه لم يفرق بين أسمائهم، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:(25/64)
1_ ترجم البخاري [16] لمحمد بن قيس الأسدي الكوفي، وذكر عنه عدة طرق ثم قال: وقال يحي بن آدم: حدثنا أبو بكر النهشلي عن محمد بن قيس عن حبيب عن أبي ثابت عن طاووس في العتق. ثم قال: فلا أدري هو الأسدي أم لا؟.
2_ وترجم لمحمد [17] بن قيس عن أبي الحكم البجلي ثم ترجم لمحمد بن قيس المكي وختم ترجمته بقوله: "فلا أدري أهو الأول أم لا".
3_ وترجم لمحمد [18] بن كليب بن جابر المديني يروي عن محمود ومحمد ابني جابر. ثم قال: "وعن موسى بن شيبة عن محمود بن كليب عن محمد بن جابر عن جابر....ثم قال: فلا أدري: هذا أخوه أم لا؟ ".
4_ وترجم لإبراهيم [19] بن حنظلة عن أبيه روى عنه ابن المبارك. ثم قال في نهاية ترجمته "إن لم يكن يعني إبراهيم بن حنظلة غبن أبي سفيان فلا أدري من هو؟ ".
5_ وترجم لإسماعيل [20] بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي ثم ترجم لإسماعيل بن إبراهيم بن أبي ربيعة. وختم ترجمته بقوله: "إن لم يكن هذا الأول فلا أدري؟ ".
فيتضح من الأمثلة وأمثالها أن في التاريخ الكبير رجالا لم يتيقن البخاري حالهم، بل هو أحيانا غير متأكد من أعيانهم. وهذا يفسر قوله الذي أوردناه في صدر هذا البحث "قلّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة".
فهناك أسماء ليس لها قصص عند البخاري. فلا يمنع أن تكون القصة عنده دلالة على المعرفة.
2_ كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم [21] :
إن كتاب (الجرح والتعديل) من أجود المصنفات في علم الرجال في العصر القديم ولا أريد أن أفصل منهج ابن أبي حاتم فيه، وإن كان لزاما أن أعرف به بكلمة وجيزة.(25/65)
لقد استفاد ابن أبي حاتم من كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري، فاستوعب في كتابه رجاله ثم ذهب يسأل أباه وأبا زرعة الرازيين عن رأيهما في كل راو من هؤلاء الرواة، وكان الرجل ذا خبرة واسعة في هذا الشأن إلا أنه كان يتلمس آراء مشاهير النقاد ليتخلص من التبعة. ويؤيد ما قلته هذا شيئان:
1_ الأول ما ذكره هو في المقدمة [22] فقال: "وقصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل في كتابنا هذا إلى العارفين به العالمين له متأخرا بعد متقدم إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة. رحمهما الله، ولم نحك عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به".
2_ ما ذكره الذهبي [23] عن محمد بن مهرويه قال: "سمعت ابن الجنيد قال: سمعت يحي بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة!! قال محمد بن مهرويه: فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه وسقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية".
إلا أن ابن أبي حاتم الذي عرف أقوال النقاد المتمرسين وغيرهم، قد كون لنفسه منهجا في الرجال، وعرف موضع كل رجل في سلم الجرح والتعديل، وكان يختار للراوي من هذه الأقوال الكثيرة فيه ما هو الأليق بحاله، حتى وإن نسب هذا القول لأبيه أو أبي زرعة أو غيرهما. فانظر إليه وهو يقول:
"ونظرنا في اختلاف أقوال الأئمة في المسؤولين عنهم، فحذفنا تناقض قول كل واحد منهم، وألحقنا بكل مسؤول ما لاق به وأشبهه من جوابهم".(25/66)
ولقد اتبع ابن أبي حاتم الاختصار في التراجم، فهو يذكر اسم الراوي واسم أبيه وينسبه ويكنيه غالبا، ويُعرِّف ببلده، يذكر بعض من روى عنهم، وبعض من رووا عنه ثم يعقب ذلك بالجرح أو التعديل إلا إذا كان الراوي غير مشهور فيذكر جميع من روى عنهم أو رووا عنه ليتحدد موقع الراوي فإذا لم يعرف حال الرجل سكت عليه ولم يبين حاله. وقد قال ذلك عن نفسه بصريح العبارة فاستمع إليه في قوله [24] : "على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى".
فهذه الفقرة من قول ابن أبي حاتم تشتمل على النقاط التالية:
1_أن في الكتاب أسماء رواة لم يتكلم عليهم بجرح أو تعديل.
2_أنه كتب هذه الأسماء ليستوعب كل رواة الحديث.
3_أنه يأمل أن يتعرف إلى الجرح أو التعديل في كل راو ممن سكت عنه.
4_أنه إن عرف ذلك فسوف يلحقه بصاحبه. وهذا بين من قوله: "فنحن ملحقوها _أي ألفاظ الجرح والتعديل_ بهم أي الرواة المسكوت عنهم_ من بعد ... "
وهذا يدلنا أيضا على أن ابن أبي حاتم قد ذكر أناسا في كتابه لا يعرف حالهم فسكت عنهم آملا أن يتعرف عليهم فيما بعد. ولكن لبى نداء ربه قبل أن يصل فيهم إلى شيء.
وللشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله_ كلمة طيبة في هذا المقام يحسن الرجوع إليها [25] وسأذكرها في مكانها من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
3_كتاب الثقات لابن حبان [26]
لقد حدد ابن حبان في مقدمة [27] كتابه منهجه في الرجال فقال:(25/67)
"فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس ... "إلى أن قال: "وإنما أذكر الشيخ بعد الشيخ وقد ضعفه بعض أئمتنا ووثقه بعضهم، فمن صح عندي أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب (الفصل بين النقلة) أدخلته في هذا الكتاب لأنه يجوز الاحتجاج بخبره. فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل، لأن العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده، إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم".
ولا يخفى أن قول ابن حبان "العدل من يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل"يبين أن كل رجل غير معلوم بجرح فهو عدل!! مقبول الرواية.
قال ابن حجر [28] : "وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب والجمهور على خلافه. وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات".
وإليك أقوال بعض الأئمة في رواية مجهول الحال أو (المستور) بتعبير البعض قال الإمام جلال الدين المحلي في شرح جمع الجوامع [29] : "وتفرع على شرط العدالة ما ذكره بقوله: فلا يقبل المجهول باطنا، وهو المستور لانتفاء تحقق الشرط خلافا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي في قولهم بقبوله اكتفاء بظن حصول الشرط، فإنه يظن من عدالته في الظاهر عدالته في الباطن. وقال إمام الحرمين: يوقف عن القبول والرد إلى أن يظهر حاله بالبحث عنه".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "لا يقبل الخبر إلا ممن تعرف عدالته". وقال أبو حنيفة: "إذا عرف إسلامه جاز قبول روايته".(25/68)
قلنا: هو أن كل خبر لا يقبل من الفاسق، لم يقبل من مجهول الحال كالشهادة، ولأنا لو جوزنا قبول الأخبار ممن جهلت عدالته ويوجد ضمن هؤلاء المجهولين كثير من أهل البدع والأهواء لم يبق أحد من أهل البدع إلا روى ما يوافق بدعته، فتتسع البدع ويكثر الفساد وهذا لا يجوز.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي شهد عنده الهلال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ "قال: نعم، وأمر بالصوم، ولم يسأل عن عدالته.
والجواب هو أنه يحتمل أن يكون قد عرف عدالته فلم يسأل عنها [30] .
قالوا: ولأن الأصل في المسلم العدالة، فوجب أن يحمل الأمر عليه.
قلنا: لا نسلم بل الأصل في الصبيان عدم العدالة لعلة التحصيل والعقل، وبعد البلوغ يحتمل أن يكون عدلا ويحتمل أن يكون فاسقا، فوجب التوقف فيه حتى نعلم باطن الحال.
ولأن هذا يبطل بالشهادة، فإنها لا تقبل من المجهول وإن كان الأصل في الناس العدالة فسقط ما قالوا [31]
وقال القرافي المالكي: "وقال أبو حنيفة يقبل قول المجهول، وخالفه الجمهور في ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "يحمل هذا العلم من خلف عدوله". فلولا أن العدالة شرط، لبطلت حكمة هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذ. إلى أن قال: ولو نقل عن بعض قضاة الزمان أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته حمل على أنه ثبتت عدالته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لا سيما وهو يقول: "إذا شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا انسكوا"فتصريحه عليه الصلاة والسلام بالعدالة يأبى قبول المجهول" [32] .
وقال ابن النجار الحنبلي: "لا تقبل رواية مجهول العدالة عند الأكثر منهم الإمام أحمد رضي الله عنه وأصحابه والمالكية والشافعية".(25/69)
وعن أحمد رواية ثانية، تقبل وفاقا لأبي حنيفة رضي الله عنه وأكثر أصحابه وابن فورك وسليم الرازي والمحب الطبري. ومن أصحابنا الطفي ... وإطلاق القبول عن أبي حنيفة وأصحابه نقله كثير من العلماء [33] .
وقال ابن مفلح في أصوله: "وقالت الحنفية إن رده جميعهم لم يقبل، وإن اختلفوا فيه قبل، وإن لم يرد ولم يقبل جاز قبوله لظاهر عدالة المسلم ولم يجب. وجوز القضاء بظاهر العدالة أمّا اليوم فتعتبر التزكية لغلبة الفسق".
نقل البرماوي عن صاحب (البديع) [34] وغيره من الحنفية أن أبا حنيفة إنما قبل ذلك في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التزكية لغلبة الفسق" [35] .
هذه أقوال علماء المذاهب من الحنفية فلننظر ماذا يقول الحنفية أنفسهم في هذا اصدد؟.
وقال ابن همام: "ومثله أي الفاسق المستور وهو من لم تعرف عدالته ولا فسقه في الصحيح فخبره ليس بحجة حتى تظهر عدالته وروى الحسن عن أبي حنيفة كالعدل في الأخبار بنجاسة الماء وطهارته ورواية الأخبار".
ثم قال: "مجهول الحال وهو المستور غير مقبول، وعن أبي حنيفة في غير الظاهر من الرواية عنه قبوله ما لم يره السلف - وجهها أي هذه الرواية - ظهور العدالة بالتزامه الإسلام ... ودفع وجهها بأن الغالب أظهر وهو الفسق في هذه الأزمنة فيرد خبره به أي بهذا الغالب ما لم تثبت العدالة نغير التزامه بالإسلام.
وقد ينفصل القائل بهذه الرواية بأن الغلبة للفسق في غير رواة الحديث ولا سيما في الماضين ويدفع هذا بأن كون الغلبة في غير رواة الحديث إنما هو في المعروفين منهم لا في المجهولين منهم؟.(25/70)
والاستدلال لظاهر الرواية بأن الفسق سبب التثبت قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فإذا انتفى الفسق انتفى وجوب التثبت وانتفاؤه أي الفسق لا يتحقق إلا بالتزكية، ما لم ينتف الفسق تبقى شبهته وهي ملحقة بأصلها. وجعل الشارع الاستدلال لغير ظاهر الرواية ولا معنى له كما لا يخفى [36] انتهى.
فالإمام أبو حنيفة في ظاهر الرواية يذهب مذهب الجمهور، والرواية الأخرى مرجوحة ومعلوم أنه إذا جاءت عن أبي حنيفة روايتان إحداهما في ظاهر الرواية والأخرى من طريق أخرى كانت طريق ظاهر الرواية هي المعتبرة عند الحنفية. ولذلك عاب أمير بادشاه الاستدلال لغير ظاهر الرواية؟! فقال: "لا معنى له؟! "على أن كثيرا من الحنفية يقتصر على ذكر الرواية المرجوحة؟ [37] .
هذه آراء بعض الأصوليين من أتباع الأئمة الأربعة. وقد ذكر نحوا من ذلك كله أئمة علوم الحديث ورجح ابن حجر التوقف في أمر مستور الحال فقال: "والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال ويطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة في استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين، ونحوه قال ابن الصلاح فيمن جرح بجرح غير مفسر [38] وقد ذكر المذاهب كلها الملا علي القارئ في شرح النخبة ثم قال: "ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس عن البحث عنها بأن يروى مجهولا، ثم يدخل في غمار الناس ويعز العثور عليه فهي مسألة اجتهادية عندي.
والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يجب الانكفاف، وانقلبت الإباحة كراهية. كذا ذكره السخاوي [39] ".
ولقد لخص لنا الأمير الصنعاني حكم رواية المجهول فقال: "قال المحدثون: في قبول رواية المجهول خلاف وهو أي المجهول على ثلاثة أقسام:
1_ مجهول العين.
2_ ومجهول الحال ظاهرا وباطنا.
2_ ومجهول الحال باطنا.
(1) الأول مجهول العين: وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد.(25/71)
(2) والثاني مجهول الحال ظاهرا وباطنا مع كونه معروف العين. وفي قبول روايته ثلاثة أقوال:
أ_ أنه لا يقبل، حكاه ابن الصلاح وزين الدين العراقي عن الجماهير وذلك لأن تحقيق العدالة في الراوي شرط، ومن جهلت عدالته لا تقبل روايته.
ب_ يقبل مجهول العدالة ظاهرا وباطنا لأن معرفة عينه برواية اثنين عنه أغنت عن معرفة عدالته.
ج_ التفصيل وهو أنه إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا.
(3) الثالث: مجهول العدالة باطنا، والعدالة الباطنة هي ما يرجع إلى تزكية المزكين فهذا يحتج به من رد القسمين الأولين، وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي لأن الأخبار مبينة على حسن الظن بالراوي. قال ابن الصلاح: "يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي الأخير في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة الذين تقادم عهدهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم"انتهى.
ومما سبق يتضح لنا أن المستور هو من علمت عدالته ظاهرا دون علم عدالة الباطن بالتزكية من المعدلين، أما مجهول العدالة ظاهرا وباطنا فهو مجهول الحال وهو غير المستور على الصحيح أو قل إن مجهول الحال أعم من المستور. إذ كل مستور مجهول الحال، وليس كل مجهول الحال مستورا. فبينهما خصوص وعموم.
هذه الكتب الثلاثة هي أهم ما يخصنا في هذا البحث لأن كل من جاء بعد أصحابها اعتمد عليها. وسوف أشير باختصار إلى منهج كل من ابن حجر والذهبي في الجزئية التي تخص بحثنا فقط عند مناقشة دعوى الشيخ عليهم!!.
--------------------------------------------------------------------------------(25/72)
[1] هو شيخ الإسلام وإمام الحفاظ محمد بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي_مولاهم_ البخاري صاحب الصحيح والتواريخ الثلاثة، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد وغير ذلك، وشهرته بكتابه (الجامع الصحيح) وهو أصح كتب السنة على الإطلاق، ولد البخاري عام أربعة وتسعين ومائة وتوفى سنة ست وخمسين ومائتين رحمه الله تعالى. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 2/556 وطبقات الحفاظ للسيوطي 248.
[2] تاريخ بغداد 2/7.
[3] تاريخ بغداد 2/7.
[4] ما سبق 2/27.
[5] انظر التاريخ الكبير 1/136, 160، 194.
[6] انظر ترجمته في التاريخ الكبير 5/303-314 وقد دلنا على هذه الترجمة الدكتور العمري فجزاه الله خيرا.
[7] هذا إذا ذكر للراوي روايات ولكنه كثيرا ما يهمل هذه الناحية.
[8] بحوث في تاريخ السنة المشرفة للدكتور العمري ص10.
[9] ما سبق: 110.
[10] التاريخ الكبير 1/42.
[11] التاريخ 2/4-7.
[12] التاريخ 1/22-26.
[13] التاريخ 1/23.
[14] التاريخ 1/26-27.
[15] ما سبق 2/273.
[16] التاريخ الكبير 1/210.
[17] ما سبق 1/213-214.
[18] ما سبق 1/219.
[19] التاريخ الكبير 1/283.
[20] ما سبق 1/339.
[21] هو الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي ولد سنة 240 وارتحل به أبوه فأدرك الأسانيد العالية وله الجرح والتعديل وعلل الحديث. وصنف في الفقه واختلاف الصحابة وكان بحرا في العلوم. توفى سنة 327 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 2/229-232.
[22] مقدمة الجرح والتعديل 2/38.
[23] تذكرة الحفاظ 2/231.
[24] المقدمة 2/38.
[25] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/311-313 وانظر ص32 من هذا البحث.(25/73)
[26] هو الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد الحنظلي التميمي البستي صاحب التصانيف صنف ((الأنواع والتقاسيم)) الشهير (بصحيح ابن حبان) و (الثقات) ومشاهير علماء الأمصار و (المجروحين) وغير ذلك. توفى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ 2/922.
[27] الثقات لابن حبان 11-13 مقتطفات.
[28] لسان الميزان 1/14.
[29] شرح المحلى على جمع الجوامع 2/150 ط مصطفى الحلبي الثانية.
[30] والذي يبدو لي أن الجواب قاصر. وربما كان الجواب الصحيح أن يقال: لقد حدث أنس بن مالك والبراء وعلي بن أبي طالب وغيرهم أنهم كانوا لا يكذبون ولا يعرفون الكذب. فالصحابة كلهم غير متهمين في حديثهم. ومن ثم فإن الصحابة كلهم عدول باتفاق أهل السنة بخلاف التابعين فمن بعدهم فليس لهم هذا الوصف على العموم. ومن ثم فإن العرب الجاهليين كانوا يحاربون رسول الله ولم يطلب منهم إلا شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله بادئ الأمر. ولكنهم كانوا يعلمون ماذا تعنيه كلمة التوحيد فمن آمن منهم إنما آمن على ما يعلم بمقتضاها ومضمونها. وإنه التجرد الكامل والتلقي الصحيح عن رسول الله. وهذا أمر غير متحقق في العصور التي عاصرت الفتن والأهواء وإن كان موجودا لدى البعض.
[31] التبصرة في أصول الفقه 337 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو ط دار الفكر سنة 1400.
[32] شرح تنقيح الفصول 364 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد طبعة الكليات الأزهرية.
[33] انظر على سبيل المثال شرح المحلى على جمع الجوامع 2/150 والتبصرة ص337 المدخل لابن بدران ص93 وتيسير التحرير 3/48 وغيرها.
[34] البديع كتاب في أصول الفقه الحنفي واسمه (بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام لأحمد الساعاتي الحنفي) المتوفى سنة 694. انظر حاشية شرح الكوكب المنير2/413.(25/74)
[35] شرح الكوكب المنير لابن النجار الحنبلي. تحقيق الأستاذين. د. محمد الزحيلي ود. نزيه حماد ط. مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى- مكة المكرمة.
[36] انظر تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/48 ط الحلبي.
[37] انظر على سبيل المثال كشف الأسرار على البزدوي 2/386 فما بعدها.
[38] نزهة النظر لابن حجر ص50.
[39] شرح نزهة النظر لملا علي القارى ص155. وانظر التقييد والإيضاح ص145 فما بعده. وانظر الكفاية للخطيب. البغدادي ص149 ط مطبعة السعادة مصر.(25/75)
كتاب عن المدينة المنورة
في ثلاثة أجزاء وبمجلد واحد كان قد ظهر كتاب (المدينة المنورة وأول بلدية في الإسلام) وهو كما أشير إلى غلافه (عرض تاريخي موجز للمدينة المنورة وشرح مفصل لتاريخ بلديتها) وقد اشترك في تأليفه كل من أمين (المدينة المنورة) الأستاذ صدقة حسن خاشقجي والأستاذ محمد عبد الجليل النمر، وهو من مؤلفات ومطبوعات الأمانة هنا، وهذا يعني أن للأمانة نشاطا ثقافيا وإصدار بعض المؤلفات المتخصصة، مما يذكرنا هنا بالمكتب الثقافي لهذه البلدية، والذي آمل أن يتعرف عليه الناس أهالي وزائرون ويطلعوا على نشاطاته في هذا الحقل الإعلامي أو التوعية على الدور الذي يقوم به من أجل تاريخ وتراث المدينة المنورة المحبوبة بالذات..
ونعود إلى الكتاب الذي تم إخراجه بالمستوى اللائق لهذه البلدة المقدسة، ونعرف في الجزء الأول سجلا تاريخيا للفترات الثلاث عن (المدينة المنورة بين ماضيها وحاضرها) .
1_ من عهد النبي نوح إلى عهد إبراهيم عليهما السلام.
2_ من عهد الخليل وإلى عهد رسالة الإسلام.
3_ من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى عصرنا الحاضر، والأخيرة هذه أطول فترات التاريخ حيث استوعب الحديث عنها بتفصيل، ثم يجئ فصل (المدينة المنورة بعد الراشدين) مرورا بالعهدين الأموي والعباسي وإلى العهد العثماني ثم إلى أخبار الأحداث الثلاثة التي مرت على المدينة من بناء أسوارها إلى نار الحجاز وحريق المسجد النبوي والحريق الذي وقع حديثا وإلى محاولة سرقة الجسد الشريف على عهد السلطان نور الدين زنكي الصالح، بعد ذلك يتناول الحديث عن (المدينة المنورة في العهد السعودي الزاهر) اليوم حيث تمت فيه إزالة المباني المتلاصقة القديمة وافتتحت الشوارع والميادين الحديثة وأجريت التنظيمات كحتمية للتطور الذي تشهده بلادنا من أقصاها إلى أقصاها.(25/76)
وبعد عرض شائق وبالصورة الملونة عن المساجد الأثرية العديدة يأتي الحديث عن الآبار المأثورة كذلك وعن المناظر الطبيعية الجميلة هنا وعن المناطق العريقة وما يمكن أن يكون بعضها أماكن سياحية، وفي الجزء الثاني من الكتاب (صفحات من التاريخ الإسلامي منذ أنشئت في المدينة أول بلدية باسم دار الحسبة) على عهد الخليفة ابن الخطاب رضوان الله عليه، وهكذا يتواصل الحديث عبر المسيرة الزمنية عن البلديات المتعاقبة وتطورها وأعمالها وفروعها ومشاريعها حتى أسماء من تولوا رئاستها، ثم يأتي الجزء الأخير ليستكمل الحديث عن الدوائر الحكومية والهيئات الأهلية التي تؤدي خدمات للمدينة، ثم دليل الزائر.. كل ذلك مؤيد بالعديد من الصور المقنعة كتاريخ وثائقي لا يقل عن دور الكلمة المكتوبة، وتحية خالصة للكتاب ولمؤلفيه.
(عن جريدة المدينة المنورة)
بالإسلام نحيا وللإسلام نموت
"يا بني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين، وإذا واجهتك يا بني في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين ملجأ، يا بني أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك ولا بمالك.. إياك إياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بني إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين وبالجهاد يعم نور ديننا الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله. يا بني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أشخاص. فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت".
من وصية السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية إلى ولده أورخان(25/77)
رسالة المدينة المنورة
المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
بدأت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة استعدادها لتنظيم المؤتمر الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة الذي سينعقد في –كانون الثاني (يناير) من العام المقبل.
وفي إطار هذه الاستعدادات أصدر الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد، نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قرارا بتشكيل أمانة عامة للمؤتمر برئاسة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام ورئيس مجلس شؤون الدعوة في الجامعة، وعضوية تسعة أشخاص من مسئولي وأساتذة الجامعة. وقد باشرت الأمانة العامة للمؤتمر أعمالها فور تشكيلها وانبثقت عنها لجنتان فرعيتان إحداهما لدراسة ما قامت به الجامعة الإسلامية لتنفيذ توصيات المؤتمر العالمي الأول للدعوة الذي انعقد في مقرها بالمدينة المنورة في (شباط) فبراير من عام 1977، والثانية لمتابعة ما قامت به الجهات الخارجية المعنية لتنفيذ ما يخصها من قرارات المؤتمر الأول.
وتسلمت أمانة المؤتمر تقريرا بشأن توصيات المؤتمر الأول والردود التي تسلمتها الجامعة الإسلامية من مختلف الجهات بشأن هذه التوصيات..وبعد دراسة التقرير قررت الأمانة إرسال خطابات إلى بعض هذه الجهات خاصة تلك التي توجه إليها المؤتمر السابق ببعض التوصيات المحددة.. ومن هذه الجهات رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ورئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السعودية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وإلى الجامعات الإسلامية ووزارات الأوقاف والإعلام والتربية والتعليم في البلاد العربية والإسلامية.(25/78)
وسوف تخصص أمانة المؤتمر الثاني جلساتها القادمة لتحديد الموضوعات الأساسية التي تتناولها بحوث المؤتمر ووضع إطار عام لهذه البحوث، بالإضافة إلى وضع خطة للمؤتمر وتشكيل لجانه المختلفة وترشيح بعض الشخصيات البارزة من المفكرين والدعاة الإسلاميين لتوجيه الدعوات لهم للاشتراك في المؤتمر.
وأوصلت الأمانة العامة بأن تراعي الأشياء التالية في اختيار الموضوعات الرئيسية للمؤتمر:
1_ أن يتناول الموضوع قضية كبرى من القضايا التي تهم العالم الإسلامي، لا سيما في حياته المعاصرة.
2_ أن يكون مرتبطا بالدعوة الإسلامية.
3_ وأن يكون ذا جوانب تتسع لبحوث مثل هذا المؤتمر العالمي ودراسته ومناقشاته وتوصياته.
وبعد مداولات مكثفة تقرر أن يكون الموضوع الرئيسي للمؤتمر العام المقبل هو: (سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المؤتمر الثاني يعتبر امتدادا لمؤتمر الدعوة الأول الذي انعقد بمبنى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1977 وناقش موضوع الدعوة الإسلامية من خمس زوايا هي: إعداد الدعاة، ومشكلات الدعوة والدعاة، وسائل الإعلام وعلاقاتها بالدعوة الإسلامية، الدعوة والاتجاهات المضادة للدعوة الإسلامية، ومنهج الدعوة وأساليبها ووسائلها.
وسوف يعقد المؤتمر الثاني برئاسة الأمير فهد بن عبد العزيز، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء السعودي، والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(المسلمون)
حل مشكلة القوى العاملة لا يتم بتشغيل المرأة
المطلوب تقليص التضخم الوظيفي ورفع الإنتاجية واستعمال التقنية الحديثة(25/79)
غالبا ما تثار قضية نقص القوى العاملة في المملكة العربية السعودية ويثير معها بعض الصحفيين وغير المتخصصين موضوع تشغيل المرأة (النصف الآخر للمجتمع) كحل لهذه المشكلة.. وفات على هؤلاء بأن المشكلة هي أعمق مما يتصورون.. وأن النصف الأول من المجتمع (الرجال) أصلا غير مستغلون كما تبين الدراسات الإدارية والبيانات الإحصائية حيث من الواضح بأن هناك تضخما وظيفيا داخل جميع الأجهزة الحكومية بحيث تشكل بطالة مقنعة لا تنتج (خدمات أو سلع) وإنما تحمل الاقتصاد الوطني أعباء مالية لمرتباتهم وهذا مظهر من مظاهر البيروقراطية الحكومية.
ولقد بين الدكتور إبراهيم العواجي وكيل وزارة الداخلية في ندوة التضخم الوظيفي المنعقد في معهد الإدارة (26 -29 ربيع الثاني 1402 هجري) بأن (أقصى عدد يعمله الموظف السعودي) خلال يوم واحد هو أربع ساعات واثنتي عشرة دقيقة وأدنى حد يبذله الموظف خلال اليوم خمسة وثلاثين دقيقة.. وأن أقصى حد يعمله الموظف خلال أسبوع عمل هو إحدى وعشرين ساعة وأدنى حد هو ساعتين لكامل الأسبوع) ص 15 بمعنى أن متوسط الوقت الذي يعمله الموظف السعودي هو ساعة وثمانية وأربعون دقيقة أي بنسبة مئوية قدرها 26% من وقت العمل اليومي بمعنى أن هناك 74% من الوقت ضائع غير مستغل من وقت العمل والذي يكلف الدولة ملايين الريالات شهريا دون أن يقابل ذلك أي إنتاج.(25/80)
لذلك فهناك متسع كبير جدا لرفع إنتاجية موظفي الدولة وتوجيه الفائض من العمالة الحكومة إلى قطاعات أكثر إنتاجية.. وبالرغم من أهمية ذلك الموضوع.. وعلاقته بالتنمية واستغلال الموارد البشرية المتاحة إلا أنه لم يحظ باهتمام الصحافة والمفكرين والمحللين بعكس موضوع عمل المرأة الذي شغل ويشغل صفحات كثيرة من الصحف اليومية علما بأن تجارب الدول العربية في مجال تشغيل المرأة لم تحل مشكلة انخفاض إنتاجية اقتصاد هذه الدول.. فعلى سبيل المثال ذكر الدكتور عبد المجيد العبد رئيس مؤسسة التنمية الإنتاجية بجمهورية مصر العربية في الندوة المذكورة بأن المصريين يمضون 44% من وقتهم وهم نائمون و36% منه وهم يشاهدون التلفزيون و16% منه في الانتقال وأربعة من المائة في العمل)) .
كذلك تبين من استجواب عينة من السعوديين بأن متوسط ما يقضيه السعوديون من وقتهم اليومي هو 45% وهم نائمون و18% من وقتهم وهم يشاهدون التلفاز والفيديو و10% من وقتهم وهم يعملون و7% في الانتقال و20% في أمور أخرى (راحة –قراءة –تسويق..) وهذا يبين أن الفرد السعودي يقضي فقط عشرة في المائة (10%) من وقته اليومي في العمل بمعنى أن هناك مجالا ومتسعا لزيادة إنتاجية المواطن السعودي حتى نقلل من استقدام الأيدي الأجنبية ونعطي لذلك أهمية أكبر من إثارة موضوع تشغيل المرأة السعودية داخل منزلها يعتبر عملا منتجا واقتصاديا ويعود على المجتمع السعودي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بناتج كبير.(25/81)
فالذين يقولون إن عدد السكان السعوديين محدود وأن تشغيل النساء السعوديات في أعمال إدارية في القطاع العام والخاص سوف يحل هذه المشكلة يعوزهم إثبات ذلك. فإن الدول العربية التي سبقتنا لم تثبت هذا الغرض حيث إن عمل المرأة في الكويت مثلا يتطلب منها استقدام خادمة ومربية عوضا عنها في منزلها وبالتالي لم تعمل المرأة فيجب على هذه الأسرة أن تستقدم امرأتين لسد دور المرأة في منزلها وبالتالي فإننا لم نحل المشكلة وإنما زدنا الطلب على الأيدي العاملة الأجنبية إضافة إلى ما يسببه استقدام المربيات والخادمات من مشاكل نفسية لتربية الأطفال ومشاكل اجتماعية في المجتمع.
د. إبراهيم الفضيلي
(جريدة المدينة)
الضغط اليهودي في أمريكا
كتب السناتور جيمس أبو رزق مقالا نشر في مجلة – بنتهاور- جاء فيه أن سياسية الولايات المتحدة بشأن الشرق الأوسط توجهها عمليا تل أبيب وأشار السناتور إلى أن العميل الرئيسي لتل أبيب في الولايات المتحدة هو قوى الضغط الموالية لإسرائيل التي تتلقى الأوامر من إسرائيل ومن ثم تقوم بنشرها بمختلف الطرق بما في ذلك على شكل رسائل إعلامية ومقالات صحفية وغيرها في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأن قوى الضغط الموالية لإسرائيل ذات التنظيم العالي والمعاملة على الدوام غالبا ما تستخدم التخويف السياسي إذا لم تنفع الأساليب الأخرى، وقال سناتور إن أسوأ أنواع الإرهاب الذهني تتعرض لها تلك الشخصيات السياسية الأمريكية ومن ضمنها أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين يتجرءون على وضع سياسة –إسرائيل- موضع الشك فيبدأ هؤلاء الأشخاص بالحصول على العديد من الرسائل والبرقيات الموعز بها والتي تعبر عن الاحتجاج والحقد كما ويتصلون بهم تلفونيا باستمرار ويصل الأمر حتى إلى التهديد.
وكالة تاس(25/82)
ماذا يحدث للمسلمين في فطاني
رغم التقلبات السياسية المستمرة في تايلاند وتبدل الحكومات وتغيير الوزارات من وقت لآخر إلا أن سياسة الاستعمار البوذي نحو الشعب الفطاني المسلم لم تتغير، كلها متفقة على "اغتيال الشخصية الفطانية المسلمة" وإذابتها في المجتمع البوذي، وذلك عن طريق سياسة التصفية الجسدية للزعماء الفطانيين والدعاة المخلصين والعلماء البارزين عن طريق الاغتيال والقتل والحرق في البراميل والتمثيل بجثثهم ورمي جثثهم في بئر متروك، وكم من مدرسة إسلامية أقفلت أو تكاد أن تقفل بسبب اغتيال مديرها أو مدرسيها على يد فرقة الاغتيالات أو بسبب طرد مديرها أو بعض المدرسين فيها من قبل السلطة التايلاندية البوذية. ومع بداية هذه السنة أرسلت الحكومة التايلندية ما لا يقل عن ثلاثة وخمسين ألفا من أفراد القوات البرية والبحرية والكموندوز وفرقة الاغتيالات إلى القرى والمدن الفطانية وأخذوا يجوبون القرى والمدن لا لحفظ الأمن وإنما لينشروا في الأرض الفطانية الفساد ويهلكون الحرث والنسل من اغتيالات وقتل ونهب وانتهاك لحرمات البيوت المسلمة وهتك أعراض النساء المسلمات والفتيات المؤمنات. وسنورد فيما يلي بعضا من تلك التطورات السياسية والاضطهادات والأحداث الدموية التي تحدث هناك كل يوم وكل ساعة:
1_ جرائم فرقة الاغتيالات الاستثنائية رقم 23:
قامت الحكومة التايلاندية الاستعمارية في أوائل هذا العام بإرسال ما يقال "بقوات العمل الاستثنائية رقم 23"فرقة الاغتيالات الاستثنائية إلى مختلف القرى والمدن الفطانية ووضعت هذه القوات تحت الجنرال ناخوم فرومجاي قائد الشرطة في المناطق الجنوبية.
ففي ولاية فطاني وضعت فرقة من هذه القوات تحت الضابط سوجات –وهو ضابط معروف بجرائمه وبعدائه للإسلام- فقامت هذه الفرقة تحت قيادة هذا الضابط بارتكاب جرائم لا تحصى ونذكر على سبيل المثال ما يلي:(25/83)
1_ قاموا بإطلاق الرصاصات على الأخ "عبد الرحمن جارقكريان"بينما هو خارج من المسجد الجامع بفطاني بعد اختتام احتفال ديني فأصابته في فخذيه وفي بطنه وقعت هذه الجريمة في 16 يناير 1981 م.
2_ قاموا بقتل الداعية الإسلامي الشيخ "محمد لطيف حسن"المبعوث من قبل دار الإفتاء بالسعودية وطرحوا جثته في بئر متروك. وقع هذا الحادث في 31 يناير 1981 م.
3_ قاموا باغتيال الأستاذ انجئ حسين السكرتير لمجلس الشئون الإسلامية بولاية فطاني بينما هو يتوضأ لأداء صلاة الظهر ارتكبت هذه الجريمة في 15 مارس 1981 م.
وهناك اغتيالات أخرى لا حصر لها تقع بين حين وآخر في ولاية فطاني وفي الولايات الأخرى.
2_ تهديد وإهانة وتشريد العلماء البارزين:
قامت السلطات التايلاندية باستجواب عدد من العلماء في مراكز الشرطة ووجهت إليهم إهانات تمس شرف الدين الإسلامي بجانب مضايقات وتهديدات أخرى، فاضطر كثير منهم إلى اللجوء إلى خارج البلاد ومنهم:
1_ الأستاذ الحاج أحمد عبد المجيد مدير المدرسة المجيدية بنافرادوا ولاية فطاني.
وبقي كثير منهم في فطاني مضطهدين ومهانين من قبل السلطة التايلاندية إذ أحيانا توجه إليهم اتهامات إيواء المجاهدين في مدارسهم وأخرى بنشر التعاليم التي تسبب قيام ثورة شعبية عارمة ضد التايلانديين.
3_ إهانة الدين الإسلامي:
حاولت الحكومة التايلاندية إدخال الضلالات والشبهات إلى تعاليم الإسلام السمحة وذلك بنشر التأويلات والتفسيرات الخاطئة بواسطة الأشرطة المسجلة المختلطة بأقوال العلماء البارزين وبواسطة الكتب المقررة في المدارس الحكومية وفي الترجمة التايلاندية للقرآن الكريم ومن هذه الضلالات:(25/84)
1_ استخدام الآية القرآنية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} وتفسر {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} في هذه الآية بالحكومة البوذية، فيجب على الفطانيين طاعة المسئولين في الحكومة البوذية فإن لم يطيعوا الحكومة البوذية التايلاندية فإنهم يعتبرون عصاه ومتمردين ويجب حربهم وهم مغضوب عليهم من الله سبحانه وتعالى.
_وتقول هذه النشرات والأشرطة إن الدين البوذي والدين الإسلامي سواء بسواء لوجود بعض مبادئ وتعاليم مشتركة.
_إن كلمة "الكفار"الموجودة في القرآن الكريم لا تنطبق على الكفار البوذيين التايلانديين الآن وإنما هم الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط!!
_إن الجهاد ضد الكفار ليس واجبا الآن، وإنما كان الجهاد واجبا على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
وهناك ضلالات أخرى تقوم الحكومة التايلاندية بنشرها بين المواطنين الفطانيين
4_ منع المسلمين من العمل في المناطق الجبلية:
قامت السلطة التايلاندية الاستعمارية بمنع القرويين المسلمين من الذهاب إلى أماكن أعمالهم في مناطق مزارع مطاطهم الواقعة على سفوح الجبال وفي الأماكن القريبة من الجبال لأنهم يتهمون القرويين المسلمين بقيام الاتصالات بالمجاهدين الفطانيين وإرسال التموين إليهم وإعطاء المعلومات عن تحركات القوات المسلحة التايلاندية فاضطرت ألوف من شعبنا إلى اللجوء إلى خارج البلاد للعمل.
والغرض الحقيقي من هذه السياسة القمعية هو تجويع الشعب الفطاني وخاصة الطبقة الفقيرة منهم وتضعيفهم اقتصاديا وإذا أضعف الشعب الفطاني اقتصاديا –حسب رأيهم سهل للتايلانديين تضعيف معنوية الشعب الفطاني فلا يساندون الكفاح المسلح الذي يقوم به الفطانيون الآن ولكن وإلى الآن لم تتحقق أغراض الحكومة التايلاندية في تضعيف معنوية الشعب الفطاني بطريق التجويع والضغط الاقتصادي.(25/85)
5_إرسال الفرقة الاغتيالية إلى ماليزيا:
قامت الحكومة التايلاندية في أوائل هذا العام بإرسال عدد كبير من رجال الاستخبارات والشرطة إلى ما وراء الحدود التايلاندية الماليزية ليقوموا حسب زعمهم بجمع المعلومات عن تحركات ونشاطات وأماكن التجاء المجاهدين الفطانيين في ماليزيا وقاموا أيضا وراء أعمالهم الرسمية باختطاف عدد كبير من الفطانيين الموجودين في ماليزيا وقتلهم على الأراضي التايلاندية المجاورة لماليزيا حتى لا تقوم ماليزيا بإرسال الاحتجاجات إلى الحكومة التايلاندية مما يسبب سوء التفاهم بين هاتين الدولتين الصديقتين.
وقامت أيضا بإرسال رجال فرقة الاغتيالات والنهب إلى ماليزيا وخاصة القرى المجاورة للحدود التايلاندية فقاموا باغتيال الماليزيين ونهب بيوتهم وهتك البنات الماليزيات وسرقة سيارتهن ودراجتهن النارية والغرض الحقيقي من إرسال مثل هؤلاء الرجال إلى ماليزيا هو خلق الشعور بالكراهية بين الماليزيين تجاه الفطانيين الموجودين في فطاني وخاصة المجاهدين منهم ولم لن تتحقق هذه الأغراض الحاقدة من قبل التايلانديين لأن الماليزيين هم إخوان في الدين والدم واللغة للفطانيين وسيكونون إخوانا لهم في الكفاح والنضال ضد المستعمرين التايلانديين.
إننا باسم جبهة التحرير الوطنية الفطانية ندعو المسلمين في كل مكان على اختلاف مستواهم حكومة وشعبا، أفرادا وتنظيمات، والشعوب المحبة للعدالة والحرية في العالم كله ليحاولوا ويعملوا للضغط على الحكومة التايلاندية لتتوقف عن تطبيق تلك السياسات القمعية وارتكاب تلك الجرائم البشعة اللا إنسانية والاضطهادات التعسفية ضد الشعب الفطاني المسلم المجاهد.
(رئيس جبهة التحرير الوطنية الفطانية)
(عن جريدة المدينة المنورة)
هذه أخلاقنا(25/86)
"ويظهر أن أخلاق صلاح الدين، وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى أن نفرا من الفرسان المسيحيين، قد بلغ من قوة انجذابهم إليه، أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية فارس إنكليزي من فرسان المعبد يدعى "روبرت أوف سانت ألباس"عام 1185 م واعتنق الإسلام ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين، وبعد عامين غزا صلاح الدين "فلسطين"وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة "حطين"وكان جوي ملك بيت المقدس بين الأسرى.
وحدث في مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه، وفروا إلى معسكر صلاح الدين بمحض إرادتهم"
من كتاب: "الدعوة إلى الإسلام"للسير توماس أرنولد(25/87)
أخبار الجامعة
برقية شكر جوابية
من جلالة الملك إلى نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بعث جلالة الملك المفدى خالد بن عبد العزيز برقية جوابية إلى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هذا نصها:
"سعادة نائب رئيس الجامعة الإسلامية.. المدينة
نشكركم وكافة منسوبي الجامعة الإسلامية على شعوركم الطيب. وتمنياتكم المخلصة. ونسأل الله أن يديم على الجميع نعمة الصحة والعافية. تحياتي"
وكان فضيلة الدكتور الزايد قد أبرق إلى جلالته سائلا الله العلي القدير، الشفاء العاجل لجلالته، وأن يديم عليه نعمة الصحة والعافية لمواصلة مسيرة الخير والبناء لشعب المملكة ولكافة المسلمين في جميع أنحاء الأرض.
وزير التربية والتعليم الصومالي في زيارة الجامعة الإسلامية(25/88)
وصل المدينة المنورة معالي السيد آدم محمد علي وزير التربية والتعليم الصومالي وبرفقته السيد حسين محمد مدير إدارة التخطيط بوزارة التربية والتعليم والسيد يوسف آدم حسن رئيس قسم العلاقات العربية والدولية بوزارة التربية والتعليم الصومالي، وفور وصول معاليه إلى المدينة المنورة وزيارة الحرم النبوي توجه إلى زيارة الجامعة الإسلامية في نطاق زيارته الحالية للمملكة، وقد استقبله فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة وتحدث فضيلة الدكتور الزايد في هذه المقابلة مع الوزير الصومالي ومرافقيه عن فرحة المسلمين في المملكة العربية السعودية بما نشر عن عودة الحرف العربي واللغة العربية إلى نظام التعليم الصومالي لما يمثله موقع الصومال من أهمية استراتيجية في حماية ثغور الإسلام في القرن الأفريقي، وتحدث الوزير الصومالي عن صمود الشعب الإسلامي في الصومال وقدرته على مقاومة الإلحاد وحركات التبشير الاستعمارية النشطة في القارة الإفريقية، وقد عجزت كل المحاولات الإلحادية عن التأثير في الشعب الصومالي المسلم الذي يعيش أنواعا من الصراعات. وتحدث الوزير عن سعي حكومة الصومال وجهودها في توحيد ثقافة أهل الصومال، وعلى قمة هذه الجهود العمل على تعريب التعليم في كل المراحل، وتحدث عن الخطوات الإيجابية التي اتخذت في هذا المجال في تطوير المناهج وإعداد المدرسين وتدريب الموظفين وتعليم الكبار.(25/89)
وقد أشاد فضيلة الدكتور عبد الله الزايد بهذه الحركة الإيجابية في تعريب التعليم والثقافة في الصومال الشقيق، ودعا إلى فهم الظروف المحيطة بالشعب الصومالي حتى يؤدي ذلك إلى مشاركة هذا الشعب المسلم في قضاياه بفعالية، وقال فضيلته: إننا نأمل في استمرارية صمود الصومال أمام التحديات الجائرة حتى تكون النتائج التي يحققها هذا الشعب المسلم أفضل. والمسلمون يكنون للشعب الصومالي المحبة والتقدير لأنه جزء من هذه الأمة، وكرر فضيلة الدكتور الزايد رجاءه في أن تمضي دولة الصومال في عملية التعريب قدما.
وقد وعد فضيلة الدكتور الزايد بأن الجامعة إيمانا منها بأهمية الجهود المبذولة للتعريب سوف تمنح الصومال بعضا من المدرسين، وكذلك سوف تزيد من المنح الدراسية للطلبة الصوماليين في كليات الجامعة –كما وعد بالنظر في منح دراسية للصوماليين في الدراسات العليا في الجامعة وزيادة نسبة الصوماليين في الدراسات العليا، وقد قام معالي الوزير بزيارة لمستوصف الجامعة الذي يشمل على كافة التخصصات الطبية كما زار المطبعة ورافقه فضيلة الدكتور الزايد، وقد استمع الوزير لشرح واف عن الخدمات الطبية التي يؤديها المستوصف للطلبة والأساتذة والزوار، وأثنى على ما زود به هذا المستوصف من أحدث الأجهزة الطبية والأقسام الطبية المتكاملة، كما أثنى على ما شاهده من أحدث آلات الطباعة في مطبعة الجامعة.
وقد صرح في نهاية زيارته بأنه سر سرورا عظيما بما رآه في الجامعة الإسلامية من مرافق وخدمات وأشاد باهتمام المملكة التي تمد الجامعة بما يمكنها من تقديم تلك الخدمات المثالية لطلابها وأساتذتها من خدمات صحية واجتماعية، كما أثنى بما سمعه عن التخطيط لمستقبل الجامعة، وشكر معاليه فضيلة الدكتور الزايد نائب رئيس الجامعة وأساتذتها وكل المسئولين فيها.
معالي وزير التخطيط في ندوة الجامعة الإسلامية(25/90)
في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التقى معالي وزير التخطيط هشام ناظر مساء يوم الأحد 22 ربيع الأول 1402 هجري في ندوة مفتوحة مع عدد كبير من أعيان وعلماء ومفكري المدينة المنورة وعدد كبير من طلاب الجامعة الإسلامية ومنسوبيها. في أمسية دعا إليها النادي الأدبي بالمدينة للتعرف على مدى الجهد الذي تقوم به وزارة التخطيط في تطبيق الخطة الخمسية الثالثة والعوامل التي أدت إلى نجاح الخطتين الأولى والثانية.
نحو إعلام إسلامي:
صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز
يفتح قسم الإعلام بكلية الدعوة وأصول الدين
افتتح صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة ظهر يوم الأحد الموافق غرة ربيع الأول 1402 هجري قسم الإعلام بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية.
وقد بدأ الحفل بتلاوة آيات من الذكر الحكيم. ثم ألقى صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن كلمة جاء فيها: "إنه لشرف عظيم أن أحضر معكم افتتاح هذا القسم الهام. فالإعلام في بعض الدول خصوصا تلك التي تستخدمه في الشر يعدّ سلاحا ذا حدين. وإن وجدود قسم للإعلام الإسلامي في هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية هو صمام الأمان الذي نأمل أن يقوم بدوره الكامل"وقال سموه: "إن الإسلام هو دين الحب والأخوة والعدل والسماحة ويجب علينا مؤازرة هذا القسم، وأن ندفع به إلى الأمام".(25/91)
بعد ذلك ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة كلمة رحب فيها بسمو الأمير عبد المحسن على تشريفه افتتاح هذا القسم الذي كان الباعث على إيجاده بالجامعة هو ما تسديه المملكة من عطاء لنشر قضايا الإسلام وعلى كل المستويات وبكافة أنواع الدعم، وهذه الجامعة ما هي إلا استجابة لآمال الأمة الإسلامية. وأوضح فضيلته دور هذه البلاد في نشر الفكر الإسلامي منذ غربت شمس الإسلام عن أوروبا والشرق. وانحسر ظله إلا في بقايا من جزيرة العرب، حتى قيض الله له المجدد وشيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وآزرته النخبة والصفوة من أبناء آل سعود على يد المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود. وسارت المسيرة على هدى، واستمر الخلف يأخذ من السلف هذا العهد، وقال: "لقد رأيت الجامعة أن تسعى إلى ما يحقق آمال المسلمين لأننا نواجه صراعا يتخذ أشكالا متعددة. والإعلام أحد أدواته، والإعلام الموجود الآن يخادع على حساب المثل والقيم. والصحيح هو الإعلام الإسلامي الذي هو في حقيقته إنساني.
وركز فضيلته على القول: بأن المفكرين الإسلاميين هم الواجهة التي تقابل الرأي بالرأي. ومن هنا أتى قسم للإعلام في هذه الجامعة الإسلامية بالدور المرسوم له.
وأشار فضيلته إلى أن الإعلام في الوقت الحاضر أصبح له من الأهمية ما جعله في مقدمة العلوم الأخرى وخاصة إذا كان إعلاما إسلاميا يركز على دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما جاء فيهما من توجيه وتوعية إسلامية صحيحة.
وأضاف فضيلته: إن المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية وافق على إنشاء هذا القسم وصدرت موافقة صاحب السمو الملكي فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء الأعلى للجامعة بالموافقة على إنشاء هذا القسم.(25/92)
وقال الدكتور الزايد في كلمته: "إن هناك فكرة في أن يكون هذا القسم نواة لكلية الإعلام في المستقبل. وفي نهاية كلمته شكر فضيلته: جلالة الملك المعظم على الدعم المباشر وغير المباشر الذي تجده الجامعة من جلالته وحرص صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة على أن تؤدي الجامعة رسالتها السامية".
ثم ألقى الدكتور أحمد عطية الغامدي عميد كلية الدعوة وأصول الدين كلمة ذكر فيها قصة إنشاء قسم الإعلام بكلية الدعوة عندما اتخذ المجلس الأعلى للجامعة في جلسته العاشرة عام 1400 هجري قرارا بإنشائه. ومن ذلك الوقت بدأت الترتيبات وشكلت عدة لجان بتوجيه من نائب رئيس الجامعة لوضع خطط الدراسة ومناهج المواد وشروط القبول وغير ذلك.
وأوضح أن الهدف من إنشاء هذا القسم عدو أمور منها: الإسهام في أداء الواجب عن الأمة الإسلامية في مجال الإعلام. وإعداد رجل الإعلام الإسلامي وتأهيله علميا وثقافيا وسلوكيا. وتزويده بأحدث الأساليب والنظريات والأسس العلمية. وتلبية احتياجات العالم الإسلامي من المتخصصين في هذا المجال، وخدمة الدعوة الإسلامية بوسائل الإعلام، وتدريب الدارسين تدريبا علميا وعمليا على فهم وممارسة كل وسيلة من وسائل الإعلام والكشف عن كنوز تراثنا في مجال الإعلام والتوجيه والعمل على إحيائها وإخراجها في إطار توجيهات الإسلام وهديه. وغرس الاعتزاز بها واستفادة أجيالها المسلمة منها، وكشف مخاطر الغزو الفكري والنفسي والدعاية المضادة. والعمل على رفع كفاءة الدارسين لمواجهتها ودحضها والرد عليها، وقد كانت هذه هي الأهداف من وراء إنشاء هذا القسم الذي التحق به حتى الآن ثلاثة وأربعون طالبا ينتمون إلى خمس وعشرين جنسية من أبناء العالم الإسلامي".(25/93)
بعد ذلك ألقى الدكتور إبراهيم إمام رئيس قسم الإعلام كلمة أعضاء هيئة التدريس وأوضح فيها ما يلقاه العالم الإسلامي من إعلام موجه وضرورة مواجهته بإعلام إسلامي واضح.. ثم ألقى أحد طلاب قسم الإعلام كلمة الطلاب، كما ألقى الشيخ محمد المجذوب قصيدة استعرض خلالها معايشته للجامعة الإسلامية منذ عشرين عاما ومتابعته لنموها المتزايد في كل عام.
بعد ذلك قام سمو الأمير عبد المحسن بتوزيع البطاقات على طلبة القسم وقص شريط المكتبة وشريط قسم الإعلام حيث حضر سموه جانبا من درس تحدث فيه المحاضر عن دور القمر الصناعي العربي المزمع إطلاقه.
وقد حضر الحفل الشيخ سعد ناصر السديري وكيل إمارة منطقة المدينة المنورة وأمين المدينة المنورة الشيخ صدقة خاشقجي ورجال التعليم في منطقة المدينة المنورة وكبار المسئولين من مدنيين وعسكريين.
زيادة المقبولين في الجامعة الإسلامية هذا العام
بدأت الدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هذا العام بعد انتهاء الحج مباشرة. وانتظمت فيها الدراسة منذ اليوم الأول حيث اكتمل عدد المدرسين، وتواجد الطلبة، واتخذت كافة الإجراءات اللازمة لبداية عام دراسي ناجح بإذن الله.
وقد شهدت الجامعة زيادة ملموسة في الأعداد المقبولة من الطلاب فقد صرح فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة لمندوب جريدة الرياض بأنه قد تم منح 1200 طالب من أبناء العالم الإسلامي منحا دراسية هذا العام بالجامعة موزعة على جميع الأقطار الإسلامية بالإضافة إلى تسجيل 300 ثلاثمائة طالب بدل الطلبة الذين أنهوا دراستهم العام الماضي، وبذلك أصبح عدد الطلاب من أبناء الأمة الإسلامية الذين تم قبولهم هذا العام 1500 طالب.
وبذلك يزيد عدد طلاب الجامعة عن سبعة آلاف طالب ينتظمون في خمس كليات وقسم الدراسات العليا والمعهد الثانوي والمعهد المتوسط وداري الحديث المدنية والمكية.(25/94)
الجامعة الإسلامية تتعاون مع المركز الإسلامي في ميونخ
زار المملكة العربية السعودية في شهر صفر 1402 هجري وفد يمثل المركز الإسلامي بمدينة ميونخ بألمانيا الغربية يضم كلا من السيد إبراهيم درومش الداعية في المركز الإسلامي بميونخ بجنوب ألمانيا والسيد عيسى كوتشي الأستاذ بالمعهد العالي الإسلامي في ((أبارباخ)) القريبة من مدينة ((هايد لبرج)) وفي حديث أجرته معهما جريدة عكاظ السعودية ونشرته في عددها الصادر يوم الأحد 17 صفر 1402 هجري قال السيد درموش في معرض حديثه عم شئون الدعوة الإسلامية في ألمانيا ومساندة المملكة العربية السعودية للعاملين فيها قال:
"لقد كان أول اتصال لنا بالنسبة للملكة مع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. فقد زارنا نائب رئيس الجامعة الدكتور عبد الله الزايد في أغسطس الماضي. وتعرّف على نشاط المركز الإسلامي في ميونخ، كما تعرف على النشاطات الإسلامية الأخرى في جنوب ألمانيا. وكانت هذه أول زيارة. وعندما عندما عرضنا على الدكتور الزايد مشاريعنا الخاصة بتطوير الدعوة الإسلامية في ألمانيا شجعنا وتحمس لمشاريعنا. وقال: إن المسلمين بحاجة الآن لمثل هذه المشاريع. وإن على المسلمين أن يقفوا دائما صفا واحدا. ثم اقترح علينا أن نزور المملكة لعرض أفكلرنا وشرح المشاكل التي تعترضنا لتنفيذ هذه الأفكار"وقال: "إننا طلبنا من الجامعة الإسلامية أن تدعم المركز بالمدرسين والدعاة الأكفاء كي يحقق المعهد أهدافه الإسلامية النبيلة".
طلاب قسم الإعلام بالجامعة الإسلامية يزورون المؤسسات الإعلامية بالمملكة(25/95)
في إطار الجولات التي يقوم بها قسم الإعلام في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للتعرف على المؤسسات الصحفية ودور النشر. قام طلاب هذا القسم يوم الاثنين 9 من ربيع الأول بزيارة ميدانية لمؤسسة تهامة للإعلان والعلاقات العامة وأبحاث التسويق وترأس هذا الوفد الإعلامي الدكتور أحمد عطية الغامدي عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية وبرفقته الدكتور إبراهيم إمام رئيس قسم الإعلام بالكلية. وقد التقى بهم سعادة الأستاذ فخري حسين عزى المستشار لتهامة، والمشرف على إدارة النشر وقدم إيضاحا كاملا عن دور تهامة في النشر وأجاب على أسئلة الطلاب وخاصة حول الكتاب السعودي. كما قام الوفد بجولة على القسم الفني (عربي – انجليزي) والذي يتم فيه طبخ الإعلان وإظهاره بالصورة المطلوبة واطلعوا على مراحل الإعلان وكيف يصل إلى الصحف بالصورة التي يراها الجميع.(25/96)
حول حديث الذباب
للشيخ أمين محمد سالم
المعهد العالي للدعوة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله جل وعلا، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فهذا بحث أقدمه في شرح حديث الذباب، راجيا من الله تعالى أن يكون معيني فيه مشكورا، وعملي فيه مقبولا، والله أسأل أن ينفع به من اطلع عليه، إنه نعم المولى ونعم النصير.
النص النبوي الشريف:
حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم عُبيد ابن حُنين مولى بني زريق عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه ثم ليطرحه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء" [1] وفي الرواية الثانية:
"إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء" [2] [3] .
سند الحديث:
الراوي الأول: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم أبو رجاء البغلاني، وبغلان من قرى بلخ. قال ابن عدي: اسمه يحي وقتيبة لقب. وقال ابن منده: اسمه علي. وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. ولد سنة ثمان وأربعين أو خمسين ومائة، وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثمائة وثمانية أحاديث ومسلم ستمائة وثمانية وستين حديثا، ومات لليلتين خلتا من شعبان سنة أربعين ومائتين، وقيل سنة واحد وأربعين والله أعلم [4] .(25/97)
الراوي الثاني: إسماعيل بن جعفر بت أبي كثير الأنصاري الزرقي مولاهم أبو إسحاق القاري، روى له الجماعة، قال أحمد وأبو زرعة والنسائي: ثقة.
وقال ابن معين: ثقة وهو أثبت من ابن أبي حازم والدراوردي وأبي ضمرة، وهو صاحب الخمسمائة حديث التي سمعها منه الناس، قال الخليلي في الإرشاد كان ثقة شارك مالكا في أكثر شيوخه، مات ببغداد سنة مائة وثمانين للهجرة [5] .
الراوي الثالث: عتبة بن مسلم التميمي مولاهم المدني، وهو ابن أبي عتبة، ذكره ابن حبان في الثقات [6]
الراوي الرابع: عبيد بن حنين المدني أبو عبد الله مولى آل زيد بن الخطاب ويقال مولى بني زريق. قال ابن سعد: كان ثقة وليس كثير الحديث، قال الواقدي وغيره مات سنة خمس ومائة وهو ابن سبعين سنة، وذكر في التقريب وله خمس وسبعون سنة والصواب أنه عاش أكثر من ذلك كما قال المزي: وكان في الكمال وهو ابن تسعين سنة وأورد في ذلك قصة حفظه لسورة الأعراف [7] .(25/98)
الراوي الخامس: الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه الدوسي اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحافظ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا، والمشهور أنه عبد الرحمن بن صخر، ولقب بأبي هريرة لأجل هرة كان يحمل أولادها قال عمرو بن علي: كان ومقدمه وإسلامه عام خيبر، وكانت خيبر في المحرم سنة سبع، وقال الأعرج عن أبي هريرة إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول: "إني كنت امرؤا مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا فقال من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني، فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ثم قبضتها إلي، فالذي نفسي بيده ما نسيت منه شيئا بعد"رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الزهري عن الأعرج ... وهو من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ من كل من يروي الحديث في عصره لم يأت عن أحد من الصحابة كلهم ما جاء عنه.
قال هشام بن عروة: مات أبو هريرة وعائشة سنة سبع وخمسين ومن فضائله: ما رواه النسائي في العالم من السنن أن رجلا جاء إلى زيد بن ثابت فسأله عن شيء فقال له زيد: عليك أبا هريرة فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكره إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فسكتنا فقال: "عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحبي وأسألك علما لا ينسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمين، فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله تعالى علما لا ينسى، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي".(25/99)
استعمله عمر رضي الله تعالى عنه على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل فأبى، وتأمر على المدينة غير مرة في أيام معاوية رضي الله عنه [8] .
من روى هذا الحديث: من الصحابة أربعة هم: أبو هريرة، وأبو سعيد، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
من أخرج هذا الحديث: أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي، وابن حبان، والبزار، والطبراني، والبيهقي.
شرح الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب" في بعض الروايات "إذا سقط الذباب" والذبابُ: بضم المعجمة وموحدتين وتخفيف. قال أبو هلال العسكري: الذباب واحد، وجمعه ذبّان كغربان، والعامة تقول: ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة، وهو خطأ، وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ، وقال الجوهري: الذباب واحده ذبابة ولا تقل: ذبانة، ونقل في المحكم عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ، وحكى سيبويه الجمع ((ذُبَّ)) وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد، وسمي الذباب ذبابا لكثرة حركته واضطرابه وقيل لأنه كلما ذُبَّ آب، وهو يتوالد من المستقذرات والمزابل ويتوالد بكثرة وقال المختصون بعلم الأحياء إن الذبابة تبيض خمسمائة بيضة.
وأخرج أبو يعلى مرفوعا عن ابن عمر: عُمرُ الذباب أربعون ليلة والذباب كله في النار إلا النحل، وسنده لا بأس به.
قال الحافظ: كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب أهل النار به.
وقال الجوهري: يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب.(25/100)
وقال أفلاطون: الذباب أحرص الأشياء حتى إنه يلقى نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه، ويتولد من العفونة، ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها والجفن يصقل الحدقة، فالذبابة تصقل بيديها، فلا تزال تمسك عينيها، ومن عجيب أمره أن رجيعه إذا وقع على الثوب الأسود ابيضّ وبالعكس، وهو من أكثر الطيور سفادا [9] ربما بقي عامة اليوم على الأنثى.
ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي شيء خلق الذباب؟ قال مذلة للملوك وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة [10] .
وقال أبو محمد المالقي: ذباب الناس يتولد من الزبل، وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع.
قوله صلى الله عليه وسلم: "في شراب أحدكم" رواه البخاري في كتاب بدء الخلق بهذا اللفظ وذكره في كتاب الطب " ... في إناء أحدكم" ووقع في حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان "إذا وقع في الطعام" والتعبير بالإناء أشمل كذا وقع في حديث أنس عند البزار [11] .
قال صاحب العمدة في ذكر رواية "في شراب أحدكم" هو شامل لكل مائع وعند ابن ماجه من حديث أبي سعيد "فإذا وقع في الطعام" وعند أبي داود من حديث أبي هريرة "فإذا وقع في إناء أحدكم" والإناء يكون فيه كل شيء من مأكول ومشروب [12] . قال ابن حجر:
قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغمسه" وفي رواية "فامقلوه" قال ابن حجر: هذا أمر إرشاد لمقابلة الداء بالدواء وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه وكذا ذكره صاحب عمدة القاري.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ليطرحه" في رواية سليمان بن بلال "ثم لينزعه" وقد وقع في رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة أنه حدثه قال:(25/101)
"كنا عند أنس فوقع ذباب في إناء فقام أنس بإصبعه فغمسه في ذلك الإناء ثلاثا ثم قال: بسم الله، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك"أخرجه البزار ورجاله ثقات، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة فقال عن أبي هريرة ورجحها أبو حاتم، وأما الدارقطني فقال: الطريقان محتملان.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن في إحدى جناحيه" في رواية أبي داود "فإن في أحد" والجناح يذكر ويؤنث، وجزم الصنعاني بأنه لا يؤنث وصوب رواية (أحد) وهو حقيقة في الطائر، ويقال لغيره على سبيل المجاز كما في قول الله الكريم: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ووقع في رواية أبي داود وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، قال ابن حجر: ولم يقع لي في شيء من الطرق بتعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء والمناسبة في ذلك ظاهرة، وفي حديث أبي سعيد المذكور أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء، ويستفاد من هذه الرواية تفسير الدواء الواقع في حديث الذباب وأن المراد به السم فيستغني عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح فقال: إن في اللفظ مجاز وهو كون الدواء في أحد الجناحين، فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن في أحد جناحيه سبب داء، وإما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له، قالا آخر يحتمل أن يكون الداء ما يرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع.(25/102)
وخير تفسير للدواء هو ما هو ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه_ عند ابن ماجه مرفوعا "فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء" فالداء هو السم، وهو الجراثيم التي يحملها الذباب في أطراف أرجله وخرطومه وهي جراثيم الأمراض كالتيفوئيد والكوليرا والديزنتاريا كما هو معروف لدى الأطباء اليوم [13] .
قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الآخر شفاء" في رواية "والأخرى شفاء" وفي رواية "فإن في أحد جناحيه داء، والآخر دواء" والدواء هو سبب الشفاء بإذن الله تعالى.
قال ابن حجر: في رواية أبي ذر "وفي الأخرى" وفي نسخة "والأخرى" بحذف حرف الجر وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال "في إحدى جناحيه داء والآخر شفاء". واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش، وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء وعطف الآخر على الأحد وعطف شفاء على داء وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول: إن حرف الجر حذف وبقى العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى "وفي الأخرى شفاء" ويجوز رفع شفاء على الاستئناف.
وفي هذا الحديث مسألتان: المسألة الأولى فقهية، والمسألة الثانية طبية ولعل في بحثنا هذا ما فيه الرد على بعض المستغربين من أبناء المسلمين حيال هذا الحديث الذي هو من أعلام النبوة [14] .
المسألة الأولى:
استدل بهذا الحديث على أن الماء لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه، ووجه الاستدلال كما قال البيهقي عن الشافعي: إنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد.(25/103)
وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته، فقد يغمس برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة، وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم.
قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمتنع أن يستنبط منه حكم آخر، بأن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمر محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا، فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم لكنه فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها.
واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخرى فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى به، وهذه مستنبطة، أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، وهي منصوصة وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره، فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة. انتهى.
وقال ابن القيم عن هذا الحديث: هو دليل ظاهر الدلالة جدا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله وهو غمسه في الطعام، وهو يموت في ذلك لا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجسه لكان أمر بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم أمر بإصلاحه.(25/104)
ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ الحكم يعم بعموم علته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.... [15]
فمما سبق يتضح أن الذباب وأمثاله مما لا دم له سائل إذا وقع في الماء فإنه لا ينجسه على مذهب جمهور العلماء.
المسألة الثانية:
هي الأمر الطبي في هذا الحديث:
قلت: في هذا الحديث أمران من أعلام النبوة لم يكتشفهما المتقدمون من المسلمين وإنما اكتشفتا في العصر الحاضر.
الأولى: أن في الذباب داء لأمراض معينة ينقلها إلى الناس ممن كان عنده الاستعداد وبتقدير من الله تعالى وقضائه انتقل إليه ومن لا فلا.
الثانية: أن في الذباب دواء لتلك الأمراض التي يحمل أصولها، فإذا أتى الدواء الذي يحمله الذباب على الداء الذي يحمله قضى عليه بإذن الله ولم يصب الإنسان بأذى ما يحمل من الداء.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهاتين المعجزتين قبل أن يكشف المجهر الذي يكبر ملايين المرات، ولا يعرف هذا إلا من مشكاة النبوة.
وإذا كان الطب الحديث قد أجمع على المسألة الأولى، وهي حمل الذباب الجراثيم، فإنه بدأ يسلم في المسألة الثانية أيضا، وإن كان لا يزال بعض المغرورين بالمادة لم يصدقوا ويسلموا بهذا الحديث، والحامل لهم - والعلم عند الله - الحقد والضغينة أن يسبق الإسلام العلم الحديث بأخبار علمية، باكتشافات حديثة، وكل هذا جهل والعياذ بالله.
قال الإمام الخطابي: تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال وكيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه؟ حتى يقدم جناح الداء ويؤخر جناح الشفاء وما ألجأه إلى ذلك؟.(25/105)
قال الخطابي: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة وقد ألف الله بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان، وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها لأوان حاجتها، وأن تكسر الحبة بصفين لئلا تستنبت. لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر.
وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسّل من أعلاها، وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر.
وقبل ذكر ما قاله الطب قديما وحديثا عن الذباب لابد من ذكر بعض الأمور الهامة.
إن قدماء الصين كانوا يجعلون براغيث البقر سفوفا فتقوم مقام التطعيم ضد الجدري، إن لسع العقرب يداوى بجزء منها، وذلك بأن يوضع على موضع القرص جزء من العقرب مع قليل من الزيت - بطريقة خاصة - فيخف الألم ثم يزول.
ما اعتاده الهنود قديما حتى أيام قليلة من تعرضهم للأفاعي عنوة، اتقاء من قرص الأفعى وآلام سمه، فيكون بمثابة مناعة لهم.
إن النحلة تخرج من بطنها شرابا نافعا وهو العسل ويكمن في إبرتها السم الناقع، فكيف جمعت بين النقيضين.
يحضر لقاح من الأفاعي والحشرات السامة، يحقن به لديغ العقرب، أو الأفعى بل وينفع في تخفيف لآلم السرطان أيضا.
إن عالم الجراثيم والاكتشافات الحديثة فيه قلبت موازين الطب وغيرت كثيرا من الفرضيات والنظريات القديمة فيه، فقد استخرج من مواد مستقذرة أدوية حيوية قلبت فن المعالجة رأسا على عقب ((فالبنسلسن)) مثلا استخرج من طفيليات العفن ((والستربتومايسين)) من جراثيم تراب المقابر.(25/106)
إن بكتيريا ((دودرلين باسلص)) توجد في مهبل المرأة، وظيفته إفراز مادة حمضية تحفظ المنطقة من مهاجمة البكتيريا الضارة، وتموت هذه البكتيريا عند نزول دم الحيض، لذا يصبح الضرر بالغا، وتكون المنطقة معرضة لخطر البكتيريا الضارة، وهذا مصداق قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
ومثله بكتيريا التخمر الموجودة في الأمعاء عند الإنسان وظيفتها الثانوية إفراز مادة فيتامين (ب) المركب، وفي حالة موت هذه البكتيريا بسبب أحد العقاقير لابد من إعطاء فيتامين (ب) المركب ليحل محل المنتج داخل الأمعاء.
أقوال الأطباء المسلمون:
قال ابن القيم: قال أبو عبيد ((امقلوه)) اغمسوه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء، يقال للرجلين. هما يتماقلان إذا تغاطسا في الماء.
واعلم أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية، بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء. فيغمس كله في الطعام والشراب، فيقابل المادة السمية، المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة.
ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق. وأنه يؤيد بوحي إلهي خارج عن قوى البشرية.
وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب نفع منعه نفعا بينا وسكنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء وإذا دلك به الورم الذي يخرج من شعر العين المسمى ((شعرة)) بعد قطع رؤوس الذباب أبرأه [16] .(25/107)
وقال أبو محمد الماقلي: "إن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع [17] ". هذا بعض ما قاله علماء المسلمين القدامى، علما بأنه لا يوجد عندهم أجهزة حديثة للاستكشاف، وإنما هو التصديق والتجربة والمشاهدة.
وأما الاكتشافات الحديثة، فقد ذكر مجدي كيرلس جرجي في مقاله ((الحشرات المظلومة)) . وهناك حشرات ذات منافع طبية ففي الحرب العالمية الأولى، لاحظ الأطباء أن الجنود ذوي الجروح العميقة، الذين تركوا بالميدان لمدة ما، حتى ينقلوا إلى المستشفى، قد شفيت جروحهم والتأمت بسرعة عجيبة، وفي مدة أقل من تلك التي استلزمتها جروح من نقلوا إلى المستشفى مباشرة، وقد وجد الأطباء أن جروح الجنود الذين تركوا بالميدان تحتوي على يرقات بعض أنواع الذباب الأزرق، وقد وجد أن هذه اليرقات تأكل النسيج المتقيح في الجرح، وتقتل البكتيريا المتسببة في القيح والصديد، وقد استخرجت مادة ((الألانثوين)) من اليرقات السالفة الذكر، واستخدمت كمرهم رخيص ملطف للخراريج، والقروح، والحروق، والأورام أخيرا عرف التركيب الكيميائي لمادة ((الألانثوين)) وحضرت صناعيا وهي الآن بمخازن الأدوية، والكاتب كما هو ظاهر من اسمه ليس مسلما [18] .
وأما الاكتشافات العلمية الجديدة: فنجد أن الدكتورين: محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين [19] يقولان:
_تمسك بعض الأطباء بالناحية الصحية وكذّبوا الحديث، وكنا نود أن يُفهم الحديث على أسس ثلاثة:
1_ عدم التعرض لصحة الحديث. فهذا من اختصاص فقهاء الحديث والعلماء، الذين درسوا العلم والحديث، وكيف يستبعدون الأحاديث الموضوعة والمكذوبة.
2_ محاولة البحث العلمي، بافتراض صحة الحديث. للوصول إلى حقائق أنبأنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} .(25/108)
3_ عدم الخوض في موضوع مادة الحديث قبل الرجوع إلى المراجع العلمية الكافية عن الحشرات وعن طفيليات الحشرات، ثم قالا:
جاء في المراجع العلمية:
1_ في عام 1871م اكتشف البروفيسور ((بريفلد)) من جامعة ((هالة)) بألمانيا الشرقية أن ذبابة المنزل مصاحبة بطفيلي من جنس ((الطفيليات_ الفطريات الأشنيه)) وقد تعمق البروفيسور في دراسة دورة حياته، فعرف أنه يعيش داخل بطن الذبابة في الجزء الدهني بشكل خلايا مستديرة تنمو، فتصبح مستطيلة الشكل، وتخرج من فتحات أو مفاصل حلقات بطن الذبابة للخارج، وبهذا فإنها تعيد دورة حياتها التناسلية.
بيد أن بذور الفطر عند تجمعها داخل الخلية يزداد الضغط الداخلي فيها إلى حد معين ينفجر معه جدار الخلية، فتنطلق بذور الفطر بقوة شديدة ولمسافة تصل إلى 200سم خارجها على هيئة رذاذ، مصحوبا بسائل الخلية وهذا ما نشاهده إذا أمعنا النظر في ذبابة ميتة على لوح زجاج أو شباك فنرى بذور الفطر حول الذبابة، ونرى أماكن انفجار الخلايا من بطن الذبابة ولو فحصناها تحت الميكريسكوب لرأينا شكلها المستطيل.
2_ في عام 1945م أعلن أستاذ الفطريات المشهور ((لانجيرون)) أن هذا الفطر الذي يعيش دائما في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيه ((أنزيم)) خاص، يحلل جزءا من جراثيم المرض المحمول بواسطة الذبابة.
3_ في عام 1947م تمكن العالم ((موفيتش)) من عزل مواد حيوية مضادة، من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة، ووجدها ذات مفعول قوي ضد جراثيم ((غرام السالبة)) مثل ((التيفوئيد)) و ((الديسانتريا)) وما يشبهها وإن غراما واحدا من هذه المادة المعزولة يمكن أن يحفظ ((1000)) لتر من الحليب المتلوث بهذه الجراثيم.(25/109)
_في عام 1948م تمكن فريق من العلماء الانكليز ((بريان، وكوتسي، وهمينغ، وجيغرس، ومالحجوان)) من عزل مادة مضادة حيوية، من فطريات تنتمي لنفس عائلة فطريات الذبابة أسموها ((كولتيزين)) وتؤثر في جراثيم ((غرام السالبة)) ((كالديسانتريا، والتيفوئيد)) .
_ أكد ذلك مجموعتا ((آرنشتين، وكوك)) الإنجليزية و ((روليوس)) السويسرية بعزلهما لنفس المضاد الحيوي من فطريات الذباب في الأعوام (47_1950م) وهذه المادة أسموها ((جافاسين)) وتقتل جراثيم ((غرام السالبة والموجبة)) كالتيفوئيد والدسنتاريا.
_ وقد أكدت مجموعتان: إنكليزية ((كوتش، وفارمر)) وسويسرية ((جرمان، وروث ماتلنجر، وبلاتز)) عام 1949م، ذلك بعزل مادة مضادة حيوية، من فطر الذباب، اسمها ((إنياثين)) من نفس القوة والتأثير على جراثيم ((غرام الوجبة والسالبة)) كالكوليرا والزهار والتيفوئيد.
ويستطرد الدكتوران محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين فيقولان:
لم تدخل هذه المواد المضادة للحيوية بعد الاستعمال الطبي (1378هـ) ولكنها فقط من العجائب العلمية لسبب واحد، وهو أنها بدخولها بكميات كبيرة في الجسم قد تؤدي إلى حدوث بعض المضاعفات، بينما قوتها شديدة جدا وتفوق جميع المضادات الحيوية المستعملة في علاج الأمراض المختلفة.
قلت: ومن الطبيعي في فن العلاج، أن ما يكتشف من أدوية جديدة، تجري عليها تجارب كثيرة لسنوات عدة، ومراحل مختلفة، ليعرف مدى قابليتها، وكمية الجرعة منها، إلا أن المهم في الموضوع هو فاعليته وشدة تأثيره وقوته بحيث فاق جميع المضادات الحيوية الموجودة والمستعملة حتى عام (1378هـ) .
وأما بالنسبة للحديث وصحته فهو مروي بنحو ثمان وعشرين طريقا، ولا يوجد في طريق من هذه الطرق رجل ضعيف، إنما كلهم ثقات أئمة [20] .(25/110)
هذا الحديث فيه معجزتان الأولى تم اكتشافها والتأكد من صحتها ووجودها وهي حما الذباب الجراثيم وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بالداء والثانية وهي التي عبر عنها صلى الله عليه وسلم بالشفاء، بالداء وقد بينت ما اكتشفه الطب الحديث حتى عام 1378هـ مما يبرهن على صحة ووجود هذه المعجزة الخارقة التي تبرهن على صدق قائلها وأنها خارجة من مشكاة النبوة وليست من قبيل التخرص والهوى.
إن الخبر إذا جاء يحمل في طياته عنصرين غريبين غيبيين، ثم جاء تصديق أحدهما تصديقا جازما، فالعاقل المنصف ينتظر تصديق الآخر وتحققه، ولا يسرع إلى تكذيب الخبر أو استنكاره، وكيف يكذب أو يستنكر وقد جاء ما يؤيد بعضه فضلا عما جاء ما يؤيد الاثنين، وما ذكرته من مخترعات واكتشافات كاف لذي العقل السليم أن يصدق الحديث ويصدق من جاء به وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
إن الذباب ملوث بالجراثيم المرضية كالكوليرا والتيفوئيد والديسانتريا التي يحملها من المجاري والفضلات وبراز المرضى وتكون هذه الجراثيم على أطراف أرجله وخرطومه كما يقول الأطباء، فإذا وقع الذباب على الطعام أو في الشراب، فإنه يقف على أرجله ويمد خرطومه، وإذا تبرز لوث الغذاء كذلك، فلو تركت أو ذبت، بقيت الميكروبات المرضية التي أصابت الغذاء أو الشراب فيهما. وهذا أمر طبيعي مسلم لا يختلف فيه الناس.(25/111)
فدلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على القضاء على هذه الميكروبات المرضية، واستئصالها قبل أن تستفحل، وذلك بأن تضغط على الذباب حتى يقع كله في الطعام أو الشراب، وهذا معنى قوله: "فامقلوه"وسبب ذلك أن هذه الفطريات التي تفرز المواد المضادة للحيوية، والتي تقضي على الجراثيم ((غرام السالبة والموجبة)) التي يحملها هو على أرجله وخرطومه - توجد على بطن الذبابة ولا تنطلق مع سائل الخلية المستطيلة إلا بعد أن يزيد الضغط عليها فتنفجر وتندفع البذور والسائل الذي يقضي على الميكروبات المرضية - كما مرّ في الاكتشافات العلمية الحديثة.
وإذا كانت الذبابة لا ينفجر الجزء الدهني منها إنما يخرج من ثنايا الطبقات المكونة للجزء الدهني هذا السائل الذي يحمل هذه المواد المضادة للحيوية.
إن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الذباب، إنما كان من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا بوحي، وقد اكتشفت في هذا العصر.
والخبر إذا نقل بطريق يغلب على الظن صدقه، فإنه لا يكون من الأمور المحسوسة بالمشاهدة، فعلى العاقل التريث وعدم التسرع في الإنكار حتى لا يقع في التناقض عند بيان صدقه ومطابقته للواقع.
ولكن الذين غلب عليهم التقليد الأعمى من أصحاب النفوس المريضة لا يهمهم أن يقعوا في التناقض بقدر ما يهمهم الطعن في السنة، ولكن الله الذي تكفل بحفظ دينه يحبط ألاعيب هؤلاء ويحفظ السنة كما يحفظ القرآن.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري كتاب الطب: باب إذا وقع الذباب في الإناء
[2] كتاب بدء الخلق: باب إذا وقع الذباب في إناء أحدكم....
[3] وكتاب الأطعمة.
[4] تهذيب التهذيب لابن حجر.
[5] تهذيب التهذيب لابن حجر.(25/112)
[6] تهذيب التهذيب لابن حجر.
[7] تهذيب التهذيب لابن حجر.
[8] تهذيب التهذيب لابن حجر.
[9] من سفد الذكر على الأنثى.
[10] فتح الباري توزيع دار الإفتاء الجزء العاشرصفحة250.
[11] فتح الباري ج10 ص251.
[12] عمدة القاري للقسطلاني ج5 ص315 كتاب بدء الخلق.
[13] فتح الباري.
[14] من مذكرة للشيخ الدكتور خليل ملا خاطرص47
[15] مذكرة السنة الثانية لمعهد دعوة العالي في مادة الحديث لعام 1400هـ للشيخ ملا خاطر ص47.
[16] الطب النبوي 88- 89 وزاد المعاد3/99-100.
[17] فتح الباري 10/251.
[18] جريدة الأهرام الصادر في 20/7/1952م.
[19] مجلة الأزهر عدد رجب سنة 1378هـ ومجلة ((المكروبيولوجيا)) بسويسرا عام 1950م.
[20] انظر مجموع الحديث باب حديث الذباب.(25/113)
مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله
للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
عميد شئون المكتبات بالجامعة
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
أ_ التمهيد.
ب_ المباحث.
المبحث الأول: دليل الخلق ويشمل:
أ_ خلق السماء.
ب_ خلق الأرض.
المبحث الثاني: دليل العناية.
المبحث الثالث: دليل النظام.
المبحث الرابع: مسلك المتكلمين والفلاسفة في إثبات وجود الله.
تمهيد:
معرفة الله والإقرار بوجوده غريزة فطرية في الإنسان، إذ كل واحد من بني آدم يقر بوجود الخالق ويعترف به، أما ما يظهر على بعض الملحدين من الكفر بالله والاستهزاء بمن دعاهم إلى عبادته، فإن ذلك لا يعني الكفر المطلق المبني على اليقين الكامل، وإنما هو انحراف في الطبيعة الإنسانية، وتحويل للغريزة الفطرية المتجهة إلى الخالق الحق إلى عبادة المخلوقات الأخرى، ولذا فإننا نجد ذلك الملحد يستعمل سبل المغالطات والتفسيرات الخاطئة للأشياء تضليلا وتمويها على السذج من أتباعه، وقد صور لنا القرآن الكريم قصة أكبر مغالط ملحد بلسانه غير جازم بقلبه، ذلك المغالط هو فرعون الذي استخف قومه فأطاعوه، فحينما جاءه موسى عليه السلام بالبينات والهدى ودعاه إلى عبادة رب الأرض والسماء، ورب العالمين جميعا، كما أمره الله تبارك وتعالى بقوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء /16) .(25/114)
استكبر فرعون، وجحد رب العالمين، بل ادعى أنه لا يعلم لقومه إلها غيره قال تعالى على لسانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء /23) ، وقد أخبر المولى جل وعلا عنه أن ذلك الإنكار الصادر منه مغالطة بلسانه، وأنه غير مطابق للحقيقة المستقرة في نفسه، قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطبا فرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء /102) فالانحراف والميل عن الخط السوي أمر طارئ على البشرية، وذلك حين فساد الفطرة [1] . لأن البرهان على وجود الخالق حقيقة محسوسة وأمر واضح غاية الوضوح إذ الإنسان يعيش، ويحيا في هذا الكون، فيشاهد في نفسه، وفي الأشياء من حوله تغيرا مستمرا، إذ تنعدم أشياء وتوجد أخرى كما يشاهد دقة وتنظيما [2] في كل ما يرى ويلمس فيصل من هذا عن طريق الإدراك الحسي إلى أن لهذه الأشياء موجدا أوجدها ومنسقا لسيرها وحركاتها أراد ذلك منها، وهذا أمر طبيعي جدا غير بعيد عن فهم أي إنسان مهما كان إدراكه، فإذا شاهد الإنسان بيتا منظما ومنسقا أو سمع صوتا، أو أحس بضربة سوط، ولم ير الضارب أو الباني أو صاحب الصوت فإنه يوقن أن لهذا البيت بانيا، وأن هذا الصوت صادر عن شيء سواء أكان رجلا أو حيوانا، أم آلة، وأن تلك الضربة حدثت من ضارب، فكان وجود الشيء الذي نتج عنه بناء البيت، أو ظهور الصوت، أو حدوث الضرب أمرا قطعيا عند من شاهد البيت أو سمع الصوت أو أحس بالضرب، إذ قام البرهان الحسي على وجوده، فالاعتقاد بوجود سبب أوجد هذه الظواهر أمر مسلم به عند العقلاء.(25/115)
فكذلك الإنسان يشاهد تغير الأشياء الموجودة فتنعدم أشياء ويحدث غيرها كما أنه يرى النظام البديع في العالم، والدقة المتناهية في سير بعض المخلوقات وترتيب حركاتها وضبط مواعيدها، فيدرك أن هذا الإبداع وذلك النظام وذاك التغيير لا يمكن أن يحدث من نفس تلك الأشياء، لأنها عاجزة عن إيجاده، كما أنها عاجزة عن دفعه كل ذلك يدعو إلى الإيمان بوجود خالق لهذه الموجودات، قائم بتدبيرها، منظم لها.
ومن هنا نرى أن وجود هذا الخالق الذي دل عليه وجود هذه الأشياء من الأمور القطعية، الذي يدل عليه الدليل الحسي، يشهد لذلك قول ذلك الأعرابي القائل: "البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، وليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج أفلا تدل على الصانع الخبير [3] فقد أدرك هذا الأعرابي بفطرته السليمة التي فطره الله عليها أن هذه المخلوقات العظيمة التي تسير بانتظام وإحكام، ليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل، لا يمكن أن تحدث إلا بمحدث، وأن لا تسير بهذا النظام المتقن إلا بمقدر مختار، ولذلك جاءت براهين القرآن الكريم لافتة النظر إلى ما يقع عليه حس الإنسان للاستدلال بذلك على وجود الخالق ثم عبادته وحده كقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية /17) .
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق /5 -7) ، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} (الطور /35 -36) .(25/116)
وهكذا نرى أن قضية الخلق والإيجاد وإن كانت قضية جافة على الصعيد الفلسفي، فهي بدهية على الصعيد الحسي لا تحتاج إلى برهان، لأنها من ضرورات الفطرة ولذا فإن القرآن الكريم يطرحها على المخاطبين كقضية مسلمة لا تحتاج إلى استدلال، ولا تحتمل الجدل والمماراة، انظر إلى قوله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق /1) ، والخطاب وإن كان موجها إليه فهو لأمته جميعا، والمخاطبون حين نزول القرآن يعرفون ربهم الذي خلقهم كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت /61) ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (الزخرف /87) . وإنما كان انحرافهم في العبادة فيجعلون مع الله آلهة أخرى يعتقدون فيها النفع والضر، كما قال تعالى حكاية عنهم في إنكارهم على محمد صلى الله عليه وسلم دعوته إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وترك عبادة الآلهة المزعومة: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص /5) ، وإن وجد في ذلك الوقت قلة ممن فسدت فطرتهم إلى أن اعتقدوا أن التأثير في الحياة والممات إنما هو من الدهر، قال تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْر} (الجاثية /24) ، ولكن الله تبارك وتعالى بين أن قولهم هذا قول بلا علم، وإنا هو مبني على الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} (الجاثية /24) ، كما طالبهم بالدليل على اعتقادهم الفاسد ودعواهم الباطلة، وهي قولهم: إنهم خلقوا من غير شيء فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور(25/117)
/35) .
ولما كان القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، والرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب خاتم الرسل، والدين الإسلامي خاتم الأديان، ولن يقبل من أحد التدين بسواه كم قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} (آل عمران /19) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران /85) ، كان لابد أن يشتمل هذا الكتاب على الحجج والبراهين القاطعة التي تقمع شبهة كل منحرف أو معاند في كل زمان ومكان. وكذلك كان. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام /38) . فإذا قامت للإلحاد دولة في أي عصر من العصور وأنشأت له مناهج وأعدت له مدارس لتعليم الناس الإلحاد، وأنه لا إله والحياة مادة، وجد في القرآن الكريم الأدلة القاطعة التي تبين للعقلاء أن للمادة إلها، وأن الحياة من صنع هذا الإله {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم /10) .
وإليك أدلة القرآن القاطعة التي تدحض شبه المنحرفين عن صراط الله المستقيم.
أدلة القرآن
أولا: دليل الخلق:(25/118)
ودليل الخلق والإبداع الذي يعرضه القرآن بالأساليب المختلفة والطرق المتعددة شامل لجميع مخلوقات الله كلها، العظيم منها والحقير، وقد بين القرآن الكريم في تلك المخلوقات مظاهر قدرة الله وعظيم حكته وواسع رحمته، كما أوضح فيها أن القادر على الخلق هو الرب، وهو المعبود، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة /22) ، بل إنه بقضية الخلق تحدى المشركين، الذين اتخذوا آلهة معبودة من دون الله أن يدعوا هذه الآلهة لتخلق أقل موجود وأحقره فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج /73) بل بين أنه لو سلبهم الذباب شيئا مما بأيديهم لما استطاعوا إنقاذه منه، ولو اجتمعوا له، وكفى بذلك عجزا، فقال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج /73) .
وقد تجلت آية الخلق والإبداع في أضخم مجالي الوجود، وهما خلق السماوات والأرض، وفي أعظم الظواهر الناشئة عن ذلك الخلق، كالظلمة، والنور يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة على خلقه السماوات والأرض قرارا لعباده وعلى أن جعل الظلمات والنور منفعة لهم في ليلهم ونهارهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام /1) ، أي ومع هذه العناية واللطف بهم كفر به بعض عباده فجعلوا له شريكا وعدلا [4] .
خلق السماء:(25/119)
وقد تحدث القرآن الكريم عن خلق السماء فبين أنها جرم خلقه الله تعالى وبناه ورفعه، وأنها محكمة في صنعها ليس فيها خلل ولا تصدع مرفوعة بأمر خالقها محفوظة بقدرته، وأنها آية من آيات الله الكبرى المعروضة على الأنظار المصاحبة للواقع المشهود للنظر فيها بعين البصيرة لا بالبصر المجرد، حتى يأخذ المخاطب منها الدليل على وجود خالقها ومتقن صنعها، يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق/6) ، ويقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ, الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران /190,191) ، فتأملهم في خلق السماوات والأرض وما اشتملتا عليه من آيات دالة على قدرة موجدها، أدى ثمرته المطلوبة كما رسمته الآية الكريمة إذ رتبت النتائج على مقدمات التفكر دون فاصل بينهما، فتفكرهم دعاهم إلى ذكره تعالى في كل حالة من حالاتهم، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ما علموا أن هذه المخلوقات لا يمكن أن توجد عبثا، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} فنقلهم ذلك التفكر الواعي في هذا الكون وفي بديع صنعه إلى الإيمان بالله وبما وراء هذا العالم المشاهد وهذه الحياة الحاضرة ولذلك طلبوا من ربهم وخالقهم وقايتهم من عذاب النار، خوفا من الخزي والعار {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية: "هذه هي طريقة المنهج الرباني في التوجيه للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله، إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله [5](25/120)
كما ذم المعرضين عنها، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (الأنبياء/32) ، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف /105) .
أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الكبير، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات، في ليلها ونهارها، من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي سخرها وسيرها [6] .
كما أوضح القرآن أن الله هو الممسك لهذه السماوات، والحافظ لها من الزوال مع عظمها وعظم ما فيها بغير عمد تعتمد عليها، بل بقدرته تعالى العظيمة التي يفعل ما يشاء لطفا بعباده ورحمة بهم وليس لغيره من الكائنات قدرة على ذلك يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر /41) .
ويقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (الرعد /2) .
ويقول تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان /10) .
هذا ما أشار إليه القرآن الكريم عن حفظ الله تعالى لهذه الأحجام الهائلة بهذا التوازن العجيب، الذي يدركه الحس ويؤيده العقل والواقع.
أما العلم فيقول: إن هذا الإمساك يحصل بقوة الجاذبية التي شاهد العلماء آثارها وعرفوا قوانينها التي لم يعرفوا بعد أسرارها.(25/121)
يقول الشيخ نديم الجسر: والحق ما قالوا فالجاذبية حق وقوانينها المحسوبة المتزنة المتناسبة المحكمة الدقيقة حق، ولكن هل يكون القانون الدقيق المحكم أثرا من آثار المصادفة العمياء؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [7] .
هذا وقد تحدث ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) عن آيات الله الدالة على وجوده وقدرته وحكمته، في خلقه السماوات وإبداع صنعها، وما هي عليه من سعة وعظم خلق وحسن بناء، كما بين أنها أجمع للعجائب الدالة على وجود خالقها من كل المخلوقات الأخرى بل إنه لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات، فقال: فالأرض والبحار والهواء وكل ما تحت السماوات بالإضافة إلى السماوات كقطرة في بحر ولهذا قلّ أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها.
إما إخبارا عن عظمتها وسعتها [8] . وإما إقساما بها. وإما إرشادا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها. وإما دعاء إلى النظر فيها.
وإما استدلالا منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة.
وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته وأنه الله الذي لا إله إلا هو.
وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام بنائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته.(25/122)
وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها، فكم من قسم في القرآن بها كقوله والسماء والطارق، والسماء ذات البروج والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنجم إذا هوى، فلا أقسم بالخنس والنجم الثاقب، فلم يقسم بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر، وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه، وكل ما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به أكثر من غيره ولهذا يعظم هذا القسم كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ, وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [9] .
ويقول سيد قطب في ظلال القرآن:
"ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل الذي يدركونه بعيونهم المجردة، ومن ثم قال لهم: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} . فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به. نصيبا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون، وإن كنا نحن أيضا لا نعلم إلا القليل من عظمة مواقع النجوم، وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة المحدودة المناظر، يقول لنا إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى ... هي مجموعة المجردة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية تبلغ ألف مليون نجم" [10] .
ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر أو يصطدم بكوكب آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد، وبعيد جدا، إن لم يكن مستحيلا [11] .(25/123)
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع اخوته قد وضع هناك بحكمة وتقدير.
2_خلق الأرض:
ولما كانت طريقة القرآن التي سلكها لبناء العقيدة أن يأخذ الشاهد على وجود الخالق ووحدانيته من مألوفات البشر وحوادثهم المشاهدة المتكررة ليؤكد العقيدة ويثبت قواعدها، بذلك التصور الكامل للوجود كله فلذلك نجده يلفت نظر الإنسان المقصود بتلك الهداية إلى آيات الله العظيمة في خلقه الأرض وما أودع فيها من آيات، والتي إذا تأمل فيها الناظر بفكره وعقله، علم أنها من أعظم آيات فاطرها كما قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (الذاريات /20) فقد خلقها الله فراشا ومهادا وذللها لعباده فيسر لهم فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم وجعل لهم فيها السبل ليتمكنوا من التنقل فيها لقضاء حوائجهم وتصرفاتهم، كما أرساها بالجبال لئلا تميد بهم [12] فتضطرب حياتهم، ودحاها فمدها وبسطها ووسع أكنافها فجعلها كفاتا للعالم، أحياء وأمواتا [13] .
وقد أكثر الله تعالى من ذكرها في كتابه ودعا الناس إلى النظر إليها والتفكر في خلقها وفيما أودعه فيها من آيات وما بث فيها من خيرات، وذكرهم بما في هذا الخلق من دلائل القصد والحكمة، وبين أنه هو الخالق لذلك كله، وليس لمن اتخذوهم آلهة من دونه قدرة على ذلك يقول تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (لقمان /10،11) .(25/124)
فقد بين سبحانه في هذه الآية قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض كما بين أنه هو الرازق لجميع مخلوقاته، وإذا كان الخلق كله إليه، ولا رازق لأحد سواه، فعبادة المشركين لهذه الأصنام التي ليس لها من الأمر شيء ظلم واعتداء على حق خالقهم، إذ يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر سواه وأي جهل وعمى أوضح من ذلك [14] . كما حثهم على النظر فيها فقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية /17 _20) .
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء /7 _8) .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} . (طه /53 _54) .
{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل /71) .(25/125)
إن من يتأمل في هذه الآيات يلمس منها أن طريقة القرآن لتكوين العقيدة وتثبيتها هي مخاطبة الفطرة البشرية بما هو في متناول كل فرد من المواد الأولية، إذ من هذه المشاهدات التي يراها الإنسان يبني القرآن العقيدة وسنكتفي مما تضمنته الأرض من آيات دالة على وجود خالقها ومبدع صنعها ووحدانيته بنماذج من الآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر فيها وهي مكررة أمامه، في كل لحظة من لحظات حياته، وهو غافل لا يلقي لذلك بالا، ولو تأمل فيها كما دعاه خالقه لكفاه آية على وجود خالقه ووحدانيته جل شأنه، فمن تلك النماذج:
أولا: قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ, أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً, وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (عبس /23_32) .
فطعام الإنسان ألصق شيء بحياته اليومية، هل نظر فيه؟ وهل نظر في مراحله التي مر بها حتى أصبح في متناول يده؟ وما دوره هو في إنشائه؟ .
هذه الآيات تدعو الإنسان إلى النظر في طعامه، هذا الأمر الضروري المكرر الذي أصبح ليسره وإلفه غير منظور إلى دلالته على القدرة التي أبدعته ويسرته، ثم ترسم له خطوات سير طعامه مرحلة بعد أخرى ليرى هل له فيها من يد؟ ثم تصل به إلى القدرة الإلهية التي تجعل من الشيء الواحد أنواعا مختلفة، إذ أن التربة الواحدة قد سقيت بماء واحد ومع ذلك أنبتت تلك الأنواع المختلفة من الحبوب والفواكه والثمار.
فالخطوة الأولى:
صب الماء على الأرض وكل إنسان يعرف نزول المطر من السماء لا فرق بين إنسان وآخر فساكن القرية والمدينة كل منهما يعرف ذلك كما يعرفه ساكن الكوخ في الصحراء فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان.
أما الخطوة الثانية:(25/126)
فهي شق الأرض بالنبات الطالع منها، فكما يشاهد الإنسان المطر النازل من السماء على الأرض، فكذلك يشاهد الأرض وهي تنشق عن النبات الصاعد منها فتأتي بخيراتها المختلفة الأنواع، والألوان والطعوم، من الحبوب والكروم والنخيل والفواكه الدالة على القدرة الإلهية التي جعلت من هذه التربة الواحدة والماء الواحد تلك الأنواع المتباينة في الشكل والحجم واللون والطعم والخواص.
يوضح ذلك ويبينه ما في النموذج التالي من الآيات:
ثانيا: وهو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد /2،3) .(25/127)
يخبر سبحانه وتعالى، عن قدرته في خلق الأرض وأنه هو الذي مدها وبسطها لعباده فجعلها متسعة ممتدة، كما بين أن من دلائل وجوده ورحمته بعباده أن جعل في الأرض رواسي، جبالا ترسيها، وتحفظها لئلا تميد بأهلها فلا تستقر حياتهم كما جعل في هذه الأرض أنهارا وجداول وعيونا جارية في وديانها لتسقي الناس والحيوان والزروع وكل ما تنبت الأرض من الثمرات، ومن آياته أن جعل فيها من كل الثمرات صنفين اثنين، أي من كل شكل صنفان كما يقول ابن كثير [15] أو (من كل زوجين اثنين) أي أن النبات يتألف من ذكر وأنثى [16] كما ينقل سيد قطب ونديم جسر، ثم يخبر تعالى بأن من آياته الدالة على قدرته تقلب الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر، إذ يغطي الليل النهار بظلمته، ليستريح الناس ويهدؤوا ثم يخلفه النهار بنوره ليبتغي الناس من فضله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (القصص/73) . وقد ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في آلاء الله وحكمته ودلائله لأنه لا يدرك تلك الآيات إلا من أعمل فكره فيها.
أما الآية التالية فقد شملت أنواعا من الآيات الدالة على الوجود الإلهي وهي آيات تحرك الحس والشعور بما تضمنته من دلائل حسية وعقلية ووحدانية، يقول تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} .
فالأمر المحسوس المشهود للناس أن هذه الأرض التي يعيشون عليها فيها أماكن يتصل بعضها ببعض ومع هذا الاتصال فهي مختلفة الطبيعة فمنها السوداء الجيدة التربة ومنها السبخة، ومنها الرملية، ومنها الصخرية، مع أن الاتصالات والتأثيرات الخارجية في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير [17] .(25/128)
ولذلك توجد في هذه القطع المتجاورات من الأرض بساتين وحدائق فيها العنب والزرع والنخيل والصنوان [18] المتماثل وغير المتماثل وتلك الأصناف المختلفة تكون في القطعة الواحدة من تلك الأرض وهي تسقى بماء واحد، ومع ذلك يأتي الخلاف الكبير في ثمارها، فمنها الحلو ومنها المر، كما أنها تأتي مختلفة الألوان والأحجام فمنها الأحمر ومنها الأصفر، ومنها الأبيض، ومنها الكبير ومنها الصغير، فمن الذي أعطى كل مخلوق في هذه القطعة شكله ولونه غير القدرة الإلهية التي منحت الحلو حلاوته وأعطت الحامض طعمه، إذ لو كان الأمر أمر طبيعة وأنه ينشأ عن طبيعة الأشياء لما وجد هذا الاختلاف الواسع، إن في ذلك آيات لمن كان واعيا، بل إن هذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته وإرادته فاوت بين الأشياء ونوع بينها ولذلك ختمت الآية بالإشارة إلى أن تلك الأمور المختلفة الناتجة عن شيء واحد آيات لقوم يعقلون حجج الله وآياته في مخلوقاته.
ثالثا_ النموذج الثالث:
يقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ, أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ, أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ, لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ, أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ, أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ, نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة/63-74) .(25/129)
في الأنموذجين السابقين أوضحت الآيات قدرة الله وعظيم حكمته وواسع رحمته إذ جعل هذا الكون مهيئا لعباده سهلا لسيرهم فيه وتقلباتهم في أرجائه فالأرض ممهدة مفروشة مثبتة بالرواسي، قد فتح لهم فيها السبل وشق لهم فيها الأنهار والعيون وأجرى عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فأنبت لهم في هذه الأرض كل الثمرات، وبين لهم في ذلك عموم قدرته المبدعة التي تغاير بين الأشياء الناتجة عن المصدر الواحد والطبيعة الواحدة، ودعاهم إلى النظر والتفكر في ذلك إذ أن تلك الآيات الغريبة العجيبة داعية لإعمال الفكر والعقل كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنه لا يستفيد منها إلا من أعمل فكره وعقله.
وهذا النموذج من الآيات هو أيضا يقرر الحقيقة السابقة ولكن بأسلوب وطريقة أخرى، فإن القرآن الكريم وهو يدعو لإثبات قضية واحدة، هي قضية العقيدة التي استغرقت من القرآن أكثره، لم تأتي دعوته مكررة، وإنما قد غاير في التعبير والأسلوب، وكان ذلك من دلائل إعجازه.(25/130)
وقد تضمنت هذه الآيات أمورا محسوسة مشاهدة، بل هي ألصق الأشياء بحياة المخاطبين، الزرع والماء، والنار، فأي إنسان في أي بيئة لم تدخل هذه الأمور في مشاهدته {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} احتجاج بما يباشرونه بأنفسهم من حرث الأرض وإلقاء البذور التي خلقها الله فيها، إذ يوجه لهم هذا الخطاب بصورة الاستفهام التقريري عن دورهم في إثبات تلك البذور وحفظها إلى أن تؤتي ثمارها {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي تنبتونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الذين فعلنا ذلك بقدرتنا وإرادتنا، أما أنتم فلم يكن لكم من عمل في ذلك إلا الحرث وهو شق الأرض وإلقاء البذور فيها، فذلك هو دوركم في هذا الزرع الذي فيه طعامكم والذي به قوام حياتكم ثم بعد ذلك تتركونه ليد القدرة المبدعة، فهي التي تنشئه، إذ تأخذ الحبة والبذرة طريقها فتسير سير الخبير العارف بمسالك الطريق، إلى الهدف المرسوم الذي قدر لها خالقها {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} إن ذلك من صنعنا وبإرادتنا إذ لم شئنا {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} قبل أن يأتي ثماره ولو وقع ذلك لظلتم تفكهون في المقالة أي تُلَونون الحديث فتارة تقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} وتارة تقولون {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [19] .
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ, أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ, لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} .(25/131)
ذلك أن الماء أصل من أصول الحياة ويحتاج إليه كل حي كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاء} (النور/45) وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء /30) . من الذي أنشأ هذا الماء فكون عناصره، من الذي أنزله من السحاب عذبا تشربونه وتسقون منه أنعامكم وزروعكم؟ وقد خصه الله تعالى بوصف من أهم منافعه المتعلقة به وهو الشرب {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أم نحن الذين أنزلناه من تلك المزن وهو السحاب المسخر بين السماء والأرض بقدرتنا وجعلناه عذبا زلالا مستساغ الطعم بمشيئتنا فلم شئنا لجعلناه أجاجا، مالحا لا يستساغ طعمه غير صالح للشرب ولا لإنبات الزرع، فهلا تشكرون الله الذي أنعم عليكم بإنزاله المطر عذبا زلالا.
يقول سيد قطب: "والمخاطبون ابتداء بهذا القرآن كان الماء النازل من السحاب في صورته المباشرة مادة حياتهم وموضع احتفالاتهم ... ولم تنقص قيمة الماء بتقدم الإنسان الحضاري، بل لعلها تضاعفت.
والذين يشتغلون بالعلم ويحاولون تفسير نشأة الماء الأولى أشد شعورا بقيمة هذا الحدث من سواهم، فهو مادة اهتمام للبدائي في الصحراء وللعالم المشتغل بالأبحاث سواء [20] .
والنار أمس الأشياء بحياة الإنسان اليومية، فلا تقوم أمور الناس إلا بها وهي التي يوريها الإنسان ويقدحها فيستخرجها من أصلها، أهو الذي أنشأ شجرتها المودعة فيها؟.
أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها، أم نحن الذين أنشأناها لطفا بكم إذ لا تقوم حياتكم إلا بها، كما جعلناها تذكرة لكم بنار الآخرة، ليحاسب كل إنسان نفسه، إذ لا طاقة له بهذه النار التي هي جزء من سبعين جزءا من نار جهنم كما جاء ذلك عن المصطفى [21] صلى الله عليه وسلم، وكما جعلنا النار تذكرة لكم بنار الآخرة، جعلناها أيضا متاعا للمقوين أي المسافرين لأنهم في أمس الحاجة إليها من المقيمين.(25/132)
وبعد هذا العرض لهذه الدلائل الإيمانية الدالة على وجود الخالق جل وعلا الميسر فهمها وإدراكها للمخاطبين بها في كل بيئة وعلى كل مستوى، إذ إنه خطاب للفطرة البشرية، ممن يعلم خصائصها يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة لأمته فيأمره بتسبيح ربه العظيم الذي أنشأ الوجود كله بقدرته وحفظه بمشيئته {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
(3) خلق الإنسان:
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات /20،21) .
وكما بين القرآن للإنسان دوره في إنبات الزرع الذي به قوام حياته وأنه لا يتجاوز إلقاء البذر في الأرض، ثم يتخلى عنه، ليتولى إنباته وحفظه العليم القدير، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة /63،64) .
كذلك بين له دوره في سبب وجود الجنين، وأنه لا يتجاوز أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة ثم ينقطع عملهما، ثم تتولى بعد ذلك القدرة المبدعة العمل وحدها، في تخليق هذا الماء المهين الذي لو ترك لحظة لتقلبات الجو لفسد وأنتن، يقول تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ, أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة /58 59) .(25/133)
فهذه حقيقة يعلمها المخاطب من نفسه، ومن مشاهداته لأبناء جنسه فلا يستطيع ردها، وخَلْقُ الإنسان من أعظم الآيات الدالة على وجود الباري سبحانه وتعالى وعلى عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه، ولما كان خلق الإنسان من أوضح الآيات والأدلة على وجود الخالق القادر، وكان خلقه وإيجاده من أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، فقد دعا الله تعالى عباده إلى التفكير والنظر بعين البصيرة في مبدأ خلقهم، في أطوار هذا الخلق ومراحله التي مروا بها إلى أن أصبحوا بشرا ينتشرون، يقول تعالى ذكره: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (الطارق /5) . ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} (الحج /5) .
ويقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون /12_14) .(25/134)
إن المتأمل في هذه الآيات التي جاء فيها تكرار لفظ النطفة التي تكون منها هذا الإنسان ونشأ عنها، يتبين له أن قصد الشارع جل وعلا من هذا التعبير هو لفت نظر المخاطب إلى القدرة المبدعة، قدرة الله تعالى التي جعلت من هذه النطفة، أو جزيء منها بشرا سويا، مخالفا ومباينا كل المباينة لتلك النطفة المهينة، ولولا هذا البيان الرائع الذي ساقه الله في القرآن الكريم، موضحا هذه النشأة لما صدق إنسان أن وجوده بهذه الهيئة، وهذا الشكل والقّدّ، مزودا بالسمع والبصر، والعقل والأعضاء والجوارح التي تتفق مع مصالحه، من الحركة والقيام، والمشي والقعود، وغير ذلك فإن كل ذلك وجد من هذه النطفة، كما أنه كان من المستبعد أن يتصور إنسان أن هذه النخلة قد وجدت من هذه النواة لولا وجودها المشاهد فعلا.
ونعود إلى الآية الكريمة التي شرحت أطوار هذه النطفة، إلى أن صارت بشرا ناطقا، لنرى فيها صنعة الخالق العليم القادر الحكيم، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون /12_14)
فقد أشارت الآية إلى أصل الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، إذ كان خلقه من طين، كما تحدث عن ذلك الكتاب العزيز، أما نسله فقد جعله الباري جل وعلا من تلك النطفة التي خلقها، وهيأ لها الأسباب الموصلة لها إلى مستقرها، ذلك القرار المكين.(25/135)
يقول ابن القيم: "فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف لو مرت بها ساعة أي لحظة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها ...
وكيف قدر اجتماع ذينك المائين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا، لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء إلى علقة حمراء مباينة للنطفة، ثم جعلها مضغة لحم، مباينة للعلقة في شكلها ولونها وحقيقتها، ثم تحويل تلك المضغة عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة كل المباينة في الشكل والهيئة، والقدر والملمس، ثم كيف قسمت تلك النطفة الحمراء إلى تلك الأجزاء المتشابهة، وبالمقدار المناسب لكل عضو، ثم اتجاه كل جزء أو خلية إلى مكانها المناسب في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها، فمنها ما يتجه لإنشاء العظام كل في محله، وعلى قدره الذي قدر أن يكون عليه، فمنها الصغير، والكبير، والطويل، والقصير، والمنحني، والمستدير، والعريض، والمصمت، والمجوف، فهي مختلفة الأشكال والأحجام، وذلك حسب اختلاف المنافع المنوطة بها، ثم شد تلك العظام وربط بعضها ببعض برباط قوي محكم بحيث لا يسقط عضو من آخر" [22] {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} (الإنسان /28) .(25/136)
ومنها ما يتجه لتكوين الأسنان، فلا يتجه إلا القدر المناسب لتكوين سن أو ضرس، لأن شكل الأسنان غير شكل الأضراس، نظرا لاختلاف منافعها، من طحن، وقطع، وزينة، ومنها ما يتجه إلى عمل العين، فلا يتجه إلا القدر الكافي لإنشائها، ثم إلى المكان المعد لتركيبها، ووجودها فلا تتجه خلية العين، إلى الظهر، أو البطن، أو القدم، وهكذا كل جزء أو خلية من تلك النطفة يتجه إلى إنشاء العضو الذي قدر له تكوينه، من أذن، أو لسان، أو حاسة شم، أو غير ذلك من أعضاء الجسم، وأعقد ذلك وأصعبه في نظر الإنسان التخصصات المتصلة بالجهاز الداخلي، كالقلب، والمعدة، والكبد، والطحال، والرئة، والمثانة، والأمعاء ... والمدهش حقا اتجاه المقدار المناسب للعضو المراد تكوينه، فلا زيادة ولا نقصان، ثم اتجاه ذلك الجزء أو الخلية إلى المكان الذي قدر أن يكون فيه ذلك العضو، فلا يخطئه ولا يتعداه، والسؤال هو: من الذي هدى هذه النطفة إلى القيام بهذه الأعمال التي تعجز المتخصصين في علم الحياة؟؟.
هل لديها القدرة الكافية على تخليق هذا الإنسان؟ وإذا كان كذلك، فكيف بعد أن تكون إنسانا سميعا بصيرا عاقلا، يعجز هذا الإنسان عن خلق بعوضة أو ذبابة؟؟.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (لقمان /11) .
في ظلمات ثلاث: والأعجب من ذلك أن هذا الخلق المعقد، والتركيب المشتبكة فيه الأعضاء بعضها ببعض يتم في ظلمات ثلاث كما عنه القرآن الكريم، وبين أن القادر على ذلك هو الرب الذي ينبغي أن يُعبد وحده، فلا إله غيره، ولا رب سواه إذ الإنسان لا يملك من أمر هذا الوجود شيئا.(25/137)
يقول تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر /6) .
فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، قدرته المطلقة، على خلق هذا العالم كله من نفس واحدة، وهي نفس آدم عليه السلام، ثم خلق منها زوجها وهي حواء، واستمرار الخلق المتواصل بعد ذلك كان من ذكر وأنثى إلا عيسى عليه السلام، فقد كان من أم بلا أب، فالآية تشير إلى القدرة التي إذا أرادت الشيء قالت له كن فيكون بسبب وبغير سبب، فالله خالق الأسباب، ومسبباتها، ولذا فإن الآية السابقة من سورة الواقعة بينت دور البشر في ذلك الخلق، وأنه لا يتجاوز ذلك الالتقاء بين الرجل والمرأة، فيختلط الماءان أمشاجا، ثم يتركانه في تلك اللحظة للقدرة التي تخط الخطة لتكوين الجنين من تلك النطفة في الظلمات الثلاث، التي هي ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وظلمة البطن، وفي تلك الظلمات الثلاث يتم ذلك الخلق العجيب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران /6) .
والخلق بعد الخلق الذي تشير إليه الآية الكريمة، هو خلقه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما ... كما بينته الآيتان من سورة الحج والمؤمنون، ثم إنشاؤه بعد تلك الأطوار خلقا آخر مباينا للخلق الأول، مباينة تامة فما أبعد النقلة الهائلة بين النطفة والإنسان الذي صوره ربه فأبعده وجعله في أحسن تقويم.(25/138)
يقول مؤلف كتاب (إيثار الحق على الخلق) : "وقد جمع الله تعالى ذكره دلالتي الأنفس والآفاق في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت /53) . وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين، عالمين، ناطقين، سامعين، مبصرين، مدركين، بعد أن لم نكن شيئا، وأن أول وجودنا كان نطفة مهينة مستوية الأجزاء والطبيعة، غاية الاستواء، بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها نغير صانع حكيم، ما يختلف أجناسا، وأنواعا، وأشخاصا، أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (النور /45) .
وأما الأنواع: فنبه عليها بقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} (القيامة /37-39) .
وأما الأشخاص: فبقوله تعالى: {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ, مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ, مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ, ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} (عبس /17_20) .
وبيانه أنه خلق من نطفة مستوية الطبيعة، فكيف يكون منها ما يبصر، ومنها ما يسمع، ومنها ما يطعم ومنها ما يشم، ومنها الصلب ومنها الرخو.(25/139)
ونعلم أنها قد تغيرت بنا الأحوال، وتنقلت بنا الأطوار، تنقلا عجيبا، فكنا نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم لحما ودما، ثم عظاما صلبة، متفرقة في ذلك اللحم والدم تقويهما، وعصبا رابطة بيت تلك العظام صالحة لذلك الربط، مما فيها من القوة والمتانة، ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح، مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر /6) [23] .
وبعد فهذا هو حديث القرآن عن خلق الإنسان من تلك النطفة، في تلك الظلمات الثلاث، فماذا يقول العلم عن ذلك؟.
الحقيقة إننا في هذا البحث لا نريد إيراد نظريات نفسر بها القرآن الكريم، ذلك لأن النظريات، أمور بنيت على التقدير والتخمين، فلم يكن لها أصل ثابت تعتمد عليه، ولذا فهي تنقض اليوم ما قررته بالأمس وقد تنقض غدا ما قررته اليوم، والقرآن كلام الله الحق الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو حق بإنزال الله إياه، كما قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء /105) .
ولذا فإننا سنقتصر على ما ورد ذكره في كتاب الله تعالى ففيه الكفاية، لهداية البشرية.
وكل قول يقال، ويحمل به كتاب الله فالخطأ الناتج عن ذلك، هو من عقم فهم ذلك القائل وتفسيره، أما القرآن فحق ثابت، وسيتسع لكل حقيقة علمية ثابتة لا تتغير، إذ أنه الكتاب الذي لا تُبلى جدته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
--------------------------------------------------------------------------------(25/140)
[1] وما قررناه من أن الإقرار بوجود الخالق أمر فطري، وهو الأصل الذي نشأ عليه الإنسان وأن الانحراف أمر طارئ على الإنسانية، وذلك حين فساد الفطرة، هو ما قرره الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين ج1 ص93 و94 مطبعة شركة دار الكتب العربية الكبرى بمصر) وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة وحكاه عن الجمهور ج2 ص202 تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم مطبعة المدني القاهرة سنة 1382هـ-1962م) وابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، تحقيق محمد سيد كيلاني الطبعة الأخيرة سنة 1381هـ1961م) ج2 ص152.
[2] يقول كلودم: "هاشاوي مستشار هندسي، ومصمم العقل الإلكتروني للجمعية العلمية لدراسة الملاحة الجوية بمدينة لانجلي فيلد، أخصائي الآلات الكهربية والطبيعية للقياس تحت عنوان –المبدع الأعظم- قال: أما من حيث الأسباب الفكرية التي تدعوني إلى الإيمان بالله، فإنني أحب أن لأبدأ بذكر الحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها..وهي أن التصميم يحتاج إلى مصمم. وقد دعم هذا السبب القوي من أسباب إيماني بالله ما أقوم به من الأعمال الهندسية فبعد اشتغالي سنوات عديدة في عمل تصميمات لأجهزة وأدوات كهربية، ازداد تقديري لكل تصميم أو إبداع أينما وجدته، وعلى ذلك فإنه مما لا يتفق مع العقل والمنطق أن يكون ذلك التصميم البديع للعالم من حولنا إلا من إبداع إله أعظم لا نهاية لتدبيره وإبداعه.. حقيقة أن هذه طريق قديمة من طرق الاستدلال على وجود الله ولكن العلوم الحديثة قد جعلتها أشد بيانا وأقوى حجة منها في أي وقت مضى أهـ من كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان ص89 الطبعة الثالثة سنة 1968م.
[3] أحمد الهاشمي، جواهر الأدب من خطبة قيس بن ساعدة ج 2ص 19 الطبعة التاسعة عشر سنة 1379 هـ والجاحظ، البيان والتبيين ج 1ص 163 طبعة سنة 1968 م.
[4] ابن كثير (التفسير2/123) .(25/141)
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن ج4ص194.
[6] ابن كثير (التفسير ج3ص178) .
[7] نديم الجسر، قصة الإيمان 311 الطبعة الثالثة سنة 1389هـ 1969م.
[8] يقول تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} الذاريات آية47. فقد تحدثت هذه الآية الكريمة عن سعة السماء وما اكتشفه العلم اليوم عن السماء وأبعادها لم يكن يخطر على قلب بشر، وقد أثبت العلم تلك السعة بما يعرف عند العلماء بالسنين الضوئية والتي اتفق العلماء فيها على أن الضوء يقطع في الثانية 186ألف ميل أي إنه يقطع في الدقيقة 11مليون و160 ألف ميل وفي السنة الواحدة من سنينا يقطع ستة ملايين مليون ميل أو ستة آلاف مليار تقريبا وعلى هذا التقدير نفهم معنى قولهم إن نجما ما يبعد عنا كذا سنة ضوئية اه. قصة الإيمان، لنديم الجسرص304.
[9] ابن القيم (مفتاح دار السعادة ج1ص196و197 بتصرف الناشر مكتب الرياض مكتبة الرياض الحديثة.
[10] سيد قطب في ظلال القرآن ج 7ص 143،144.
[11] سيد قطب في ظلال القرآن ج 7 ص7 144 نقر عن كتاب الله والعلم الحديث ص 33.
[12] يقول ابن كثير وقوله: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا بمقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والدلالات ولهذا قال: {أن تميد بهم} أي لئلا تميد بهم ا. هـ. تفسير ابن كثير ج3ص177.
[13] ابن القيم (مفتاح دار السعادة) ج1ص199.
[14] ابن كثير (التفسير ج3ص443) .
[15] ابن كثير: (التفسيرج2ص500) .(25/142)
[16] يقول سيد قطب: "قوله {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} يتضمن هذا المشهد من مشاهد الأرض حقيقة لم تعرف للبشرية من طريق علمهم وبحثهم إلا قريبا. وهي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى حتى النباتات التي كان مظنونا أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة أو متفرقة في العود. وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى أسرار الخلق. بعد تملى ظواهره ا. هـ. ظلال القرآن ج 5ص 71-72، قلت: ولعل الذي يعنيه من اكتشاف التذكير والتأنيث في عمود البنات، وإلا فالأصل معروف قديما كما في قصة تأبير النخل، وفي قصة الإيمان لنديم الجسر ص 377، 378،
[17] الفخر الرازي "التفسير الكبير ج19ص7".
[18] الصنوان: هي الأصول المجتمعة في نبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار (تفسير ابن كثيرج2ص500 قال: وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه الصنوان: أي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان: المتفرقات. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغير واحد، وهو قول الزمخشري في الكشاف ج2ص349، وفي المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
[19] ابن كثير (التفسير ج4ص296) .
[20] سيد قطب (في ظلال القرآن) ج7ص142.
[21] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم، جزء من سبعين جزء من نار جهنم" قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها". رواه مسلم باب في شدة حر جهنم ج4ص2184 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.
[22] لبن القيم (مفتاح دار السعادة ج1ص187-189) بتصرف.
[23] ابن الوزير، إيثار الحق على الخلق ج1ص44، 45 مطبة الآداب والمؤيد بمصر القاهرة سنة 1318هـ.(25/143)
مفهوم الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
في الحلقات الست الماضية يسر الله تعالى لي الكتابة في بعض ما وفقني إليه من معاني مجموعة من الأسماء الحسنى بلغت إحدى وأربعين اسما. وفي هذه الحلقة أبدا في بيان ما أرجو الله سبحانه أن يلهمني فيه رشدي من توضيح مفهوم اسم (الحميد) جل ذكره.
الحميد:
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعيل) وهو صيغة مبالغة تدل على المبالغة في الحمد والكثرة فيه.
و (الحميد) بمعنى (المحمود) . فهو سبحانه المستحق للحمد بكل أنواعه، لا مستحق له سواه.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على وجه التعظيم والتبجيل، وهو يقترن بتعظيم المنعم لإنعامه على الحامد وعلى غيره والألف واللام للاستغراق، ومعناه أن جميع أنواع المحامد لله تعالى. ومن أسمائه تعالى (الحميد) أي المحمود.
ومن قول الإمام ابن القيم في نونيته:
وهو الحميد فكل حمد واقع
أو كان مفروضا مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظيره
من غير ما عد ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده
كل المحامد وصف ذي الإحسان
وإثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله، ونعوت
جلاله، إذ من عُدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق.
وغايته أنه محمود من كل وجه، ولا يكون محموداً من كل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها، فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبه.(25/144)
والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله. وهو لا يكون إلا ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال. وهي أمور وجودية، فإن الأمور العدمية المحضة لا مدح فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد. فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود.
وأهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين، ما في قلوبهم من محبة الله لا يماثل فيها غيرها، ولهذا فإن الرب محمود أولا حمدا مطلقا على كل أفعاله، وحمده تعالى على أفعاله أشير إليه في مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} (الأنعام آية 1) ، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر آية 1) ، وهو سبحانه محمود ثانيا على إحسانه إلى الحامد، وهذا حمد الشكر، وقد أشير إليه في مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف آية 43) ، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون آية 28) .(25/145)
والحمد ضد الذم، والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، ولا يكون حمد المحمود إلا مع محبته، ولا ذم المذموم إلا مع بغضه. والله سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة. ولا تكون عبادة إلا إذا اقترنت بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا إذا اقترن بحب المحمود. والله جل وعلا هو المعبود، وهو المحمود ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين: تحميده، وتوحيده، وكان أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله [1] .
وقد ورد اسم (الحميد) سبحانه في القرآن الكريم سبع عشر مرة:
منها عشر مرات اقترن باسم (الغنيّ) سبحانه [2] .
وذلك في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة آية267) .
ومعنى الآية على ما ذكره الحافظ ابن كثير عن ابن عباس: أن الله أمر المؤمنين بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ونهاهم أن يقصدوا الإنفاق من الخبيث الذي لو أعطوه ما أخذوه إلا أن يتغاضوا فيه، فالله غني عن إنفاقهم، وغني عن جميع خلقه، واسع العطاء، وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا رب سواه [3] .(25/146)
والمعنى على ما ذكره الإمام الشوكاني: أن الله أمر المؤمنين أن ينفقوا من جيد كسبهم ومختاره، وهو الحلال، وكذلك من طيبات ما أخرج سبحانه لهم من الأرض من نباتات ومعادن وركاز، ولا يقصدوا المال الرديء الخبيث لينفقوا منه، فهم أنفسهم يرفضون قبوله في تعاملهم، إلا تساهلا ورضى ببعض الحق [4] ، فالله غني عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين وعن طاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لنفعهم ومحض فضله وكرمه عليهم، ومع كمال غناه وسعة عطاياه، فهو (الحميد) فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام، والحميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، والحميد في صفاته لأن صفاته كلها محاسن وكمالات لا يبلغ العباد كنهها ولا يدركون وصفها [5] . والمعنى على قول صاحب صفوة التفاسير أن الله سبحانه غني عن نفقاتهم حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء [6] .
واقترن اسم (الحميد) باسم الغني (الغني) سبحانه كذلك في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (النساء آية131) .
ومعنى هذه الآية: على ما ذكره الحافظ ابن كثير أن الله تعالى مالك السماوات والأرض، وأنه الحاكم فيهما، وأنه وصى المؤمنين، بما وصى به الذين أوتوا الكتاب من قبلهم من تقوى الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وأنهم لم كفروا فإنه سبحانه غني عن عباده، حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه [7] .(25/147)
والمعنى عند الإمام الشوكاني تقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته، وقد أمر الذين أوتوا الكتاب والمؤمنين فيما أنزل عليهم من الكتب بأن يتقوا الله، فإنهم إن يكفروا فإن الله غني عنهم إن يشأ يذهبهم ويأت بقوم آخرين لا يكونون أمثالهم، والله سبحانه غني عن خلقه، حميد أي مستحمد إليهم [8] .
وقد ساق الشيخ السعدي (رحمه الله) للآية معاني نفيسة، فذكر أن الله تعالى يخبر عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا. فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب.(25/148)
ولهذا قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بأن تتركوا تقوى الله وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئا، ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له، خاضعون لأمره، ولهذا رتب على ذلك قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} له الجود الكامل، والإحسان الشامل، الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق، ولا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم فسأل كل واحد منهم ما بلغت أمانيه، ما نقص من ملكه شيئا، ذلك بأنه جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام، وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون. ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لم كان فيه نقص بوجه من الوجوه لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة، ولا ولدا، ولا شريكا في ملكه، ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه. ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه، وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم، ومنّ عليهم بلطفه وهداهم.
وأما (الحميد) فهو من أسماء الله تعالى الجليلة، الدال على أنه المستحق لكل حمد، ومحبة، وثناء، وإكرام، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال.
وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين (الغني الحميد) ، فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وله كمال من حمده، وله كمال من اقتران أحدهما بالآخر [9] .(25/149)
وذكر صاحب صفوة التفاسير أن المعنى هو أن {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي ملكا وخلقا وعبيدا، وأنه سبحانه وصى الأولين والآخرين وأمرهم أجمعين بامتثال الأمر والطاعة، ووصاهم جميعا بتقوى الله وطاعته، وإن يكفروا فلا يضره تعالى كفرهم، لأنه مستغن عن العباد، وهو المالك لما في السماوات والأرض، فهو غني عن خلقه، محمود في ذاته، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين [10] .
فالحمد لله أولا وآخر، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكواشف الجلية: ص11، 12 ببعض تصرف.
[2] المعجم المفهرس.
[3] تفسير القرآن الكريم الجزء الأول ص320، 321
[4] فتح القدير الجزء الأول ص289
[5] تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص159
[6] صفوة التفاسير الجزء الأول ص 170
[7] تفسير القرآن الكريم الجزء الأول ص564
[8] فتح القدير الجزء الأول ص523.
[9] تيسير الكريم الرحمن –الجزء الثاني ص89
[10] صفوة التفاسير المجلد الأول ص309(25/150)
الرّاغب الأصفهاني وموقفه من الفرق الإسلامية
للدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي
أستاذ بكلية اللغة العربية بالجامعة
مقدمة:
إن من يبحث في حياة أبي القاسم، الحسين بن مفضل المعروف بالراغب الأصفهاني [1] ، وفي جهوده المختلفة في اللغة والأدب وفي موقفه من الفرق وعلماء الكلام يجد عنتا شديدا. فبينا هو يرى أن معجمه في مفردات ألفاظ القرآن لم يستغن عنه مفسر أم معجمي جاء بعده، ويلحظ أن كتابه في ((محاضرات الأدباء)) لا يجهله أديب، وبينا هو يطالع قول بعضهم من أن أبا حامد الغزالي (505 هجري) كان يعجب بكتابه ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) ويستحسنه لنفاسته؛ [2] إذا هو لا يكاد يجد له ترجمة في كتب الطبقات والتراجم [3] !!
وربما نتج عن هذا أن الرجل لم ينل حظه من الدراسة والكشف في الأبحاث المعاصرة، فلم تقرر له دراسة مستقلة بل لم تعن به الدراسات التي تناولت آداب العصر العباسي وأدباءه [4] .
أما المشكلة الثانية التي تجابه المتصدي للكشف عن آثاره هذا الرجل وأثره فهي تحديد عصره وذكر تاريخ وفاته وشيء عن نشأته. فكل مل قيل عنه لا يعدو ذكر ميلاده في أصفهان واختلافه إلى بغداد، وأنه إمام في اللغة الأدب والتفسير وأنه مات عام 502هجري.
وقد رجح لي أنه قد توفى قبل هذا التاريخ بقرن كامل من الزمان!!! وهو فرق ليس باليسير في معرفة رجال التراث.
وقد وقفت على جهود ومخطوطات للراغب في اللغة والأدب والتفسير والتربية والسلوك والموقف من الفرق الإسلامية وعلماء الكلام تستحق أن أفرد لكل منها بحثا مستقلا. وها أنا أحاول هنا أن أرصد جهوده في الفرق والله الموفق.
موقفه من الفرق الإسلامية(25/151)
إن انتماء الراغب الأصفهاني إلى إحدى الفرق الإسلامية لم يكن واضحا، لذا نحاول أن نوضح هذا الانتماء عن طريق محاولة بسط موقفه من كل هذه الفرق. ولعل مما يسهل الوصول إلى هذا الهدف وصف آثار الراغب ذات العلاقة بالعقيدة والفرق الفكرية والسياسية.
آثاره:
لقد اطلعت على ثلاث مخطوطات له في هذا الصدد، هي رسالة في الواحد الأحد [5] ورسالة في تحقيق البيان [6] ورسالة في الاعتقاد [7] . وقد يجد الباحث أنه كان ينفذ بين الحين والحين أحينا لموضوع العقيدة والفرق في كتابيه المنشورين والمشهورين في موضوع الأخلاق والسلوك وأعني الذريعة إلى مكارم الشريعة، وتفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين.
ففي الرسالة الأولى، وتقع في ست ورقات، وأراد الراغب أن يميز بين معنى كل من لفظي واحد وأحد، لما كان يدور على ألسنة الناس من جدل وكلام في موضوع التوحيد. وكان يحجم في بعض الأحيان عن إتمام ما يخطر بباله لئلا يظل غامضا فيصبح سبب فتنة بين العوام، ولعل الراغب في هذه الرسالة يثبت قدما راسخة في اللغة وفي الدين.(25/152)
وأما رسالة ((تحقيق البيان في تأويل القرآن)) فقد ذكرها الراغب في مقدمة أحد كتبه، وذكر بروكلمان [8] أنها موجودة في إحدى مكتبات مشهد بإيران. فطلبتها من هناك فأرسلها لي صديق. وهي تقع في 169 ورقة وقد فقد منها سبع عشرة ورقة من بدايتها، فلم نجد المقدمة ولم نجد الفصول الثلاثة الأولى وجزءا من الرابع الذي يبدو أنه قصره على الحديث عن الملائكة وفيه معها أحاديث عن الجن والشياطين والعفاريت والمردة وعن السحر، وقد قصر الفصل الخامس على كتاب الله الكريم وعلى علومه وعلى ما نشأ حوله من كلام الفرق وبسط في قول المعتزلة في مخلوقيته وبين أنه لا يراها مناسبة. أما الفصل السادس فقد أداره حول موضوع القدر والقضاء وحكمة الله منهما وما نشأ فيهما لدى الفرق من أقاويل. وفي الفصل الأخير تناول موضوعات في الإيمان والإسلام والوعد والوعيد. وإنه ليبدو أن الرسالة تهدف إلى التعرض لموضوعات الإيمان في العقيدة الإسلامية وإثباتها من وجوه العقل والنقل واللغة. وكثيرا ما كان يرد فيها على الفرق ويأتي بآراء أهل السنة والجماعة.
أما الرسالة الثالثة فقد عقد لها عنوان رسالة في الاعتقاد، وهي تقع في 35 ورقة، ذكر في مقدمتها أنه قد صنفها للتفصيل في الاعتقادات التي تحكم للمرء بالإيمان أو بالكفر، وقد تعرض للكفر والإيمان قبل الإسلام بذكر الديانات السماوية وذكر غيرها من الديانات التي أتى بها بشر وابتعدوا عن التوحيد، ثم تعرض بتفصيل أكثر لجميع الفرق الإسلامية، من داخل الشرع، وبين أخطاء كل فرقة من هذه الفرق، بأدلة مستنبطة من كتاب الله، ثم انتصر بوضوح لآراء أهل السنة والجماعة.(25/153)
نحاول بعد هذا الوصف الموجز لآثاره الراغب في العقيدة أن نقف على موقفه من الفرق وعلماء الكلام. فقد ذكر البيهقي، الذي كان أول من ذكره، "أنه من حكماء الإسلام" [9] أي أنه من رجال الفكر الإسلامي الذين رسخت لديهم أصول هذا الفكر الديني، وأضاف البيهقي "وكان حظه من المعقولات أكثر" [10] أي أن الرجل كان يصغي لصوت العقل في تثبيت أركان الإيمان إضافة إلى ما يستخدم من أدلة نقلية فيه، وفيها إشارة إلى غلبة الجانب العقلي في الدراسات الدينية.
ثم إننا نجد النص التالي لدى جلال الدين السيوطي "وقد كان في ظني أن الراغب معتزلي حتى رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي (794) ....ذكر الإمام فخر الدين الرازي (606) .... أن أبا القاسم من أئمة السنة...."وهو قول لا نستطيع إلا أن نحترمه، ثم يضيف السيوطي: "وهي فائدة حسنة، فإن كثيرا من الناس يظنونه معتزلي [11] ". أفهل يكون هذا التعليق ردا على ما ورد في حديث البيهقي من تغليب الجانب العقلي لدى الراغب؟ ربما كان كذلك ولكنه لا يكفي في إصدار حكم.
وترد إشارة ثالثة في هذا الصدد، فيقول الخوانساري في ((روضات الجنان)) ، وهو من مصنفي الشيعة: "إن الراغب كان من الشافعية"وهذا حكم واضح أما سببه فـ"كما أستفيد لنا من فقه محاضراته" [12] ويعني مناقشة الأمور الفقهية في كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء المعروف للراغب. غير أن هذا المصنف لا يلبث أن يورد حكما آخر غير مطمئن إليه فيقول عن الراغب: "وفي بعض الكتب أنه اختلف في تشيعه"ولعل هذا المصنف قد كان يتوخى الموضوعية فلم يفد من هذا الاختلاف فيحاول أن ينسب للراغب اتجاه التشيع.
ومع ذلك كله فإن هذه الأقوال تظل بحاجة إلى براهين أقوى لتوضيح هوية الراغب الفكرية بين الفرق. وهذه قد لا تتأتى إلا من آثار الراغب نفسه.
الفرق غير الناجية:(25/154)
إن الأمر سيطول لو أشرنا إلى كل رأي رآه الراغب في أشهر الفرق التي عاصرها من مرجئة وقدرية ومعتزلة وخوارج وشيعة، فكثيرا ما كان يعلق على مفردات آرائهم ومواقفهم بآراء ومواقف تلتقي، إذا ما قورنت، بآراء أهل السنة والجماعة [13] ولكننا نكتفي، لضيق المجال، بنصوص محددة يرد فيها على هذه الفرق بوضوح لا يدع مجالا للنقاش. إنه يقول: "الفرق المبتدعة الذين هم كالأصول للفرق الاثنين والسبعين سبعة [14] المشبهة ونفاه الصفات والقدرية والمرجئة والخوارج والمخلوقية والمتشيعة....."ولا يخفى ما في كلمة ((المبتدعة)) من إدانة واتهام بالابتداع وهو الاختلاق والإتيان بالبدع، كما لا يخفى إشارته للفرق الاثنتين والسبعين من حديث الرسول الكريم المشهور بتعدد الفرق وأن واحدة منها فقط هي التي على صواب الجادة. أما لفظ المتشيعة فهي أيضا واضحة الاتهام بالتكلف والتصنع. وبعد ماعدا هذه الفرق وسلكها في تهمة الابتداع بين السبب الذي وقعت كل من هذه الفرق في الخطأ وفي البدعة..... فالمشبهة ضلت في ذات الله ونفاه الصفات ضلت في صفات الله والقدرية في أفعاله والخوارج في الوعيد والمرجئة في الإيمان والمخلوقية في القرآن والمتشيعة في الإمامة" [15] .
الفرقة الناجية:
ولكي نختصر الطريق أيضا، طريق الوصول إلى ما استقر عليه الراغب، بعد تخطيئته لهذه الفرق جميعا نعرض النص التالي من المخطوطة نفسها: "والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة الذين اقتدوا بالصحابة، فمعلوم أن الله تعالى رضي عنهم حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ومعلوم أنه لم يرض عنهم إلا بعد صحة اعتقادهم وصدق مقالهم وصلاح أفعالهم" [16] .(25/155)
يتبين لنا من هذا النص أن صاحب المفردات لا يرى في غير أهل السنة والجماعة صلاحا والتزاما بما عليه صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهاهنا يصح أن نتساءل إذن، عن أسباب ما قيل من أن فريقا من الناس كانوا يعتقدون بأنه معتزلي، وما قيل مرة أخرى من أنه قد اختلف في تشيعه.
هل هو معتزلي:
أما عن الأولى فربما كان سببها ما تردد من أن الراغب من الحكماء في الإسلام، والحكمة قد تقترن في نظر بعض الناس بالفلسفة، وليست مواقف الناس منها في عصر الإسلام جميعها تنبئ بالرضا [17] ، أما قول القائل: "إن حظ الراغب من المعقولان أكثر" [18] فربما وجدنا تفسيرا له في أنه يعتبر الوحي هو السبيل الأول للإيمان بالله ثم يعتبر العقل السبيل الثاني، وهكذا حتى يأتلف منهما الإيمان الكامل"إنه يقول: "العقل قائد والدين مسدد ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرا واجتماعهما كما قال تعالى: "نور على نور" [19] . وفي مكان آخر يقول: "العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده" [20] . وفي ثالث يقول: "إن العقل بنفسه قليل الغناء " [21] أي إنه لا يكفي لهداية البشرية. وقد مر بنا رأيه الصريح في تخطيء المعتزلة حينما سماهم المخلوقية.
هل هو متشيع؟(25/156)
أما الثانية فلعل مردها إلى ما يبدي من تعاطف في ذكر ألقاب الخليفة الراشدي الرابع وذكر أسرته وأبنائه. لقد كثر دعاؤه له برضى الله عنه وكثر تسميته له بأمير المؤمنين وكذلك أبناؤه وأهل بيته. ولم يبد مثل هذا التعاطف عند ذكر سائر الخلفاء الراشدين. ولأول وهلة يخطر في بال القارئ اتهامه بالتشيع. ولكن هذا الاتهام لا يثبت أن يتزلزل إذا ما ذكرنا النص السابق الذي يضع الشيعة أو المتشيعة على حد قوله، في الفرق غير الناجية، ولزيادة التأكيد نضع للراغب، في هذا الصدد، نصا آخر يقول: "مما يجب أن يكون عليه كافة أهل السنة من الأصول الواجبة على كل مسلم.... أن يعتقد في الإمامة أن الله وعد المؤمنين أن يجعل منهم خلقا مخصوصين، وعد الله تعالى بها بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، وذلك يقتضي أن كل من تولى أمر المسلمين بعد، كان خليفة.... فيجب أن يقطع بصحة من تولاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويفوض أمورهم إلى الله تعالى، ويصحح أحكامهم وعقولهم ويوجب إظهارها عنهم لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يخص (أي لم يخص أحدا دون غيره بالملك) وقوله عليه السلام: "اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي مجد ع" [22] . (يريد أنه علينا أن نمتثل لما قال الله تعالى في تلك الآية الكريمة والرسول عليه السلام، في هذا الحديث) .
وبإزاء نفي التشيع عن الراغب فإننا لا نستطيع أن ننفي من قلبه حب آل البيت، وهو فيما يبدو مقيم على حبهم من جهة الوجدان، ولكنه لا يلتقي مع ما يقول الشيعة في الإمامة والوصايا وغيرها. وهذا أمر لا يستحيل حدوثه، فلقد كان الكميت بن زيد الشاعر شاعر الهاشميات في حب آل البيت لكنه لم يقل بما يقولون في الإمامة، وها نحن أولاء نرى الناس في أقطار عربية وإسلامية يتعلقون بالحسن والحسين والسيدة زينب دون أن يدينوا بأقوال الشيعة في الإمامة.(25/157)
هذا كله فيما يتصل بموقف الراغب من الفرق السياسية كالشيعة والدينية الفكرية كالمرجئة والمعتزلة. إما فيما يتصل بأثر الراغب في الفكر الديني فإننا لا نكاد نجد له ذكرا في فكر من نغلب أنهما كانا معاصريه، ونعني بهما ابن مسكويه (421) وأبي حيان التوحيدي (428) . وقد ذكر هو الأول أكثر من مرة. لكننا نكرر هنا ما كثر قوله من أن أبا حامد الغزالي كان يستحسن كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب ويستصحبه لنفاسته [23] . وهو أمر ربما استطعنا فيه الإشارة إلى بعض الأمثلة مما تأثره حجة الإسلام من هذا الكتاب.
بينه وبين الغزالي:
فبعد أن يقسم الغزالي العلوم العقلية إلى ضرورية لا يدري من أين حصلت، ومكتسبة وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال (ويسميها الراغب غريزية ومستفادة) ، بعد هذا يورد الأبيات الشعرية التالية لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
العقل عقلان
مطبوع ومسموع [24]
فلا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
وكان الراغب قد أورد أيضا هذه الأبيات ونسبها إلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب، ثم يقول أبو حامد: والأول (عن العقل المطبوع) هو المراد بقوله، صلى الله عليه وسلم لعلي: "ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل"والثاني هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك" [25] .
أما عبارة الراغب فهي: "وإلى الأول أشار النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله لعلي رضي الله عنه: "إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأبواب البر فتقرب أنت إليه بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفى عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة" [26] . أليس بين هذين الخبرين قرابة ما؟.(25/158)
ثم يقول أبو حامد: "إن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة. وهي كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس" [27] .أما عبارة الراغب فهي: "وقد تقدم أن البدن بمنزلة فرس والنفس بمنزلة راكبه، وضرر عمى الراكب نفسه أشد عليه من عمى فرسه" [28] . يبدوا أنه من المرجح أن التأثر والتأثير واضح هنا.
وقد وقعدت على مثال ثالث صريح نقله أبو حامد، على الأغلب، من كتاب الذريعة للراغب إلى مصنفه الكبير إحياء علوم الدين" [29] . وزاد أن نقل فقرات أربعا في هذا الباب إلى ذلك المصنف من ذلك المرجع.
وإن أبا حامد ليتصرف في نقله، كما رأينا، فيضيف أو يختصر، ولكنه يضل مع هذا تأثرا واضحا يسوغ ما قيل من استحسانه لهذا الكتاب واستصحابه له.
وإنني مع شعوري أن العلاقة الفكرية بين الغزالي والراغب الأصفهاني لم تزل بحاجة إلى المزيد من البحث والاستقصاء [30] . إلا أنني أشعر أن الراغب لا يقل إن لم يفق سائر المفكرين الذين أرخوا للفكر الإسلامي وللفرق الإسلامية من أمثال الشهرستاني وابن حزم وأبي الحسن الأشعري والفخر الرازي [31] . يبدو ذلك في مخطوطته ((رسالة في الاعتقاد)) أعان الله على تحقيقها، ومخطوطة ((تحقيق البيان في تأويل القرآن)) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع بروكلمان 1/269 والإعلام 2/279 ومعجم المؤلفين 4/59.
[2] بغية الوعاة 396 وكشف الظنون 1/530.
[3] فلم يترجم له معجم الأدباء ووفيات الأعيان وسير أعلام النبلاء وتاريخ بغداد مثلا.
[4] مثل أبحاث أحمد أمين وزكي مبارك وآدم ميتز وكتب تاريخ الأدب العربي.
[5] رقم 3654 بمكتبة أسعد أفندي بالسليمانية /استنبول.
[6] رقم 5697 بمكتبة العتبات المقدسة الرضوية: بمشهد (كتاب خانة استانه قدسي رضوى) .(25/159)
[7] رقم 382/2 مكتبة سعيد علي باشا / بالسليمانية /استنبول.
[8] المجلد الثالث، في تاريخ الأدب العربي، المبسط، ص55.
[9] تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق محمد كرد علي، دمشق 1946 ص112، 113.
[10] تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق كرد علي، دمشق 1946 ص 112،113.
[11] بغية الدعاة في طبقات اللغويين والنحاة، الخانجي، 1326، ص396.
[12] روضات الجنان، طبع إيران، 3/197.
[13] فقد رد على المرجئة في مخطوطة تحقيق البيان ص80 ورسالة في الاعتقاد ورقة 0، وعلى المعتزلة في الأولى ص111 وفي الثانية ص0، وفي تحقيق البيان يرد على قول المعتزلة بخلق القرآن ويورد سبب هذه الفتنة وما كان لليهود من أثر في تأسيسها "وقد حكى أن أول من حدث هذه المسألة حدثت بالكوفة من جهة بنان بن سمعان الرافضي، وكان قاصا حسن لأقاصيص أخبار اليهود ولتخصصه بهم وقيل هو الذي أوقع الشبهة بين الناس"، الصفحة16.
[14] يريد الحديث الشريف القائل: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين (وقيل اثنتين وسبعين) فرقة، الناجية منها واحدة والباقون هلكى. قيل ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل ومن أهل السنة والجماعة؟ قال ما أنا عليه اليوم وصحابتي"الشهرستاني، الملل والنحل 1/8.
[15] مخطوطة رسالة في الاعتقاد رقم 382 مكتبة سعيد علي باشا، السليمانية، استنبول.
[16] المصدر السابق.
[17] الشيخ مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلام ص 86.
[18] البيهقي، تاريخ حكماء الإسلام تحقيق محمد كرد عاى، دمشق 1946 ص112.
[19] الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب مكتبة الكليات الأزهرية 1973، ص99.
[20] المصدر السابق ص 64.
[21] تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، للراغب، طبع حلب، بلا تاريخ، ص 64.
[22] مخطوط رسالة في الاعتقاد، مكتبة سعيد على باشا رقم 382، السلسمانية، استانبول.(25/160)
[23] حاجي خليفة في كشف الظنون 1/530.
[24] هكذا ورد البيت ولعل صوابه: فإن العقل عقلان فمطبوع ومسموع.
[25] إحياء علوم الدين. لجنة الثقافة الإسلامية، القاهرة، 1357، 8 /29.
[26] الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب، مكتبة الكليات الأزهرية،1973 ص75.
[27] إحياء علوم الدين 8 /29.
[28] الذريعة إلى مكارم الشريعة ص76.
[29] إحياء علوم الدين 8 /31.
[30] فقد لاحظ الدكتور محمد يوسف موسى، في كتابه تاريخ الأخلاق ص194 وهامش 195 أن الغزالي قد أخذ في كتابه معارج القدس ط1،1346 ص53 59 61، من تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين للراغب طبعة حلب ص64 65.
[31] للأشعري مقالات الإسلاميين وللرازي اعتقادات فرق المسلمين تحقيق د: علي سامي النشار.(25/161)
بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتب في التقويم القطري بإملاء فضيلة الشيخ عبد الله ابن إبراهيم الأنصاري صفحة 95_96 حول المواقيت للوافدين إلى مكة بنية الحج أو العمرة فألفيته قد أصاب في مواضع وأخطأ في مواضع خطأ كبيرا، فرأيت أن من النصح لله ولعباده التنبيه على المواضع التي أخطأ فيها راجيا بعد اطلاعه على ذلك توبته عما أخطأ فيه ورجوعه إلى الحق لأن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة وهو خير من التمادي في الباطل بل هو واجب لا يجوز تركه لأن الحق واجب الاتباع فأقول:
أولا: ذكر وفقه الله في الفقرة الثالثة من كلمته ما نصه: "القاصدون عن طريق الجو لأداء الحج والعمرة إذا كانت النية منهم الإقامة بجدة ولو يوما واحدا ينطبق عليهم حكم المقيمين بجدة والنازلين بها فلهم أن يحرموا من جدة"انتهى. وهذا كلام باطل وخطأ ظاهر مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في المواقيت ومخالف لكلام أهل العلم في هذا الباب ومخالف لما ذكره هو نفسه في الفقرة الأولى من كلمته المشار إليها آنفا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لمريدي الحج والعمرة من سائر الأمصار ولم يجعل جدة ميقاتا لمن توجه إلى مكة من سائر الأمصار والأقاليم وهذا يعم الوافدين إليها من طريق البر أو البحر أو الجو.(25/162)
والقول بأن الوافد من طريق الجو لم يمر عليها قول باطل لا أساس له من الصحة لأن الوافد من طريق الجو لابد أن يمر قطعا بالمواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أو على ما يسامتها فيلزمه الإحرام منها وإذا اشتبه عليه ذلك لزمه أن يحرم في الموضع الذي يتيقن أنه محاذيا أو قبلها حتى لا يجاوزها بغير إحرام ومن المعلوم أن الإحرام قبل المواقيت صحيح وإنما الخلاف في كراهته وعدمها ومن أحرم قبلها احتياطا خوفا من مجاوزتها بغير إحرام فلا كراهة في حقه أما تجاوزها بغير إحرام فهو محرم بالإجماع في حق كل مكلف أراد حجا أو عمرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه لما وقت المواقيت: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة"ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن" وهذا اللفظ عند أهل العلم خبر بمعنى الأمر فلا تجوز مخالفته وقد ورد في بعض الروايات بلفظ الأمر وذلك بلفظ "ليهل"والقول بأن من أراد الإقامة بجدة يوما أو ساعات من الوافدين إلى مكة من طريق جدة له حكم سكان جدة في جواز الإحرام منها، قول لا أصل له ولا أعلم به قائلا من أهل العلم فالواجب على من يوقع عن الله ويفتي عباده في الأحكام الشرعية أن يتثبت فيما يقول وأن يتقي الله في ذلك لأن القول على الله بغير علم خطره عظيم وعواقبه وخيمة. وقد جعل الله سبحانه القول عليه بلا علم في أعلى مراتب التحريم لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . وأخبر سبحانه في آية أخرى أن ذلك مما يأمر به الشيطان فقال سبحانه في سورة البقرة: {وَلا(25/163)
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وعلى مقتضى هذا القول الباطل لو أراد من توجه من المدينة إلى مكة بنية الحج والعمرة أن يقيم بجدة ساعات جاز له أن يؤخر إحرامه إليها، وهكذا من توجه من نجد أو الطائف إلى مكة بنية الحج أو العمرة وأراد الإقامة في لزيمة أو الشرائع يوما أو ساعات جاز له أن يتجاوز قرنا غير محرم ويكون له حكم سكان لزيمة أو الشرائع. وهذا قول لا يخفى بطلانه على من تأمل النصوص وكلام أهل العلم والله المستعان.(25/164)
ثانيا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري في الفقرة الخامسة ما نصه: "يجوز لمن يقصد أداء العمرة أن يتجه إلى التنعيم فيحرم منها حيث أنها الميقات الشرعي" انتهى. وهذه العبارة فيها إجمال وإطلاق فإن كان أراد بها سكان مكة والمقيمين بها فصحيح ولكن يؤخذ عليه قوله أن التنعيم هو الميقات الشرعي فليس الأمر كذلك بل الحل كله ميقات لأهل مكة والمقيمين بها فلو أحرموا من الجعرانة أو غيرها من الحل فلا حرج وكانوا بذلك محرمين من ميقات شرعي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لما أرادت العمرة، وكونها أحرمت من التنعيم لا يوجب ذلك أن يكون هو الميقات الشرعي وإنما يدل على الاستحباب كما قاله بعض أهل العلم لأن في بعض الروايات من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن يعمّرها من التنعيم وذلك والله أعلم لكونه أقرب الحل إلى مكة جمعا بين الروايات، أما إن أراد بهذه العبارة أن كل من أراد العمرة له أن يحرم من التنعيم ولو كان في جهة أخرى من الحل فليس بصحيح لأن كل من كان في جهة من الجهات خارج الحرم ودون المواقيت فإن ميقاته من أهله للحج والعمرة جميعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه: "ومن كان دون ذلك "يعني دون المواقيت "فمهله من أهله "وفي لفظ:"فمهله من حيث أنشأ "وقد أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة عام الفتح لما فرغ من تقسيم غنائم حنين فلم يذهب إلى التنعيم والله ولي التوفيق.(25/165)
ثالثا: ذكر الشيخ عبد الله في الفقرة السادسة والسابعة ما نصه: "لا حجة لمن يقول بأن القاصد إلى جدة بالطائرة يمر بالميقات لأنه لا يمر بأي ميقات من المواقيت بل هو هائم أو طائر في الجو ولم ينزل إلا بجدة ونص الحديث "ولمن مر بهن"ولا يعتبر من كان طائرا بالهواء بأنه مار بأي ميقات انتهى كلامه. وهذا القول غير صحيح وقد مضى الرد عليه آنفا وقد سبق الشيخ عبد الله الأنصاري إلى هذا الخطأ الشيخ عبد بن زيد آل محمود في مقال وزعه زعم فيه أن الوافد من طريق الجو أو البحر إلى مكة لا يمر على المواقيت وزعم أن ميقاته جدة وقد أخطأ في ذلك كما أخطأ الشيخ عبد الله الأنصاري فالله يغفر لهما جميعا وقد كتب مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ردا على الشيخ عبد بن زيد آل محمود في زعمه أن جدة ميقاتا للوافدين إلى مكة من الحجاج، والعمار من طريق الجو أو البحر ونشر الرد في وقته وقد أصاب المجلس في ذلك وأدى واجب النصح لله ولعباده ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم من ينكر الخطأ والمنكر ويبين الصواب والحق. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأل الله أن يغفر لنا جميعا وأن يمنحنا وسائر إخواننا إصابة الحق في القول والعمل والرجوع إلى الصواب إذا وضح دليله إنه خير مسؤول.
رابعا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري هداه الله في الفقرة الثامنة والتاسعة ما نصه: "على من يريد مواصلة سيره إلى مكة لأداء نسكه أن يجهز إحرامه من آخر مطار يقوم منه وينوي قبل جدة بمقدار عشرين دقيقة إذا كان قصده مواصلة السير بدون توقف أو إقامة في جدة أما الذي يقيم في جدة ولو لساعات يجوز له أن يحرم من جدة إن شاء الله وينطبق عليه حكم ساكن جدة"انتهى كلامه.(25/166)
وقد سبق أن هذا التفصيل والتحديد لا أساس له من الصحة وأن الواجب على من أراد الحج أو العمرة من الوافدين إلى مكة من طريق الجو أو البحر الإحرام بالنسك الذي أرادوا من حج أو عمرة إذا حاذوا الميقات الذي في طريقهم أو سامتوه ولا يجوز لهم تأخير الإحرام ولو نووا الإقامة بها يوما أو ساعات فإن شكوا في المحاذاة لزمهم الإحرام من المكان الذي يتيقنون فيه احتياطا للواجب وإنما الكراهة عند بعض أهل العلم في حق من أحرم قبل الميقات بدون عذر شرعي وأسأل الله أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم وأن يوفقنا وجميع علماء المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل وأن يعيذنا جميعا من القول عليه بلا علم إنه سميع قريب. ولواجب النصح للمسلمين جرى تحريره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
العظمة الحقيقية
كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير!
حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا. أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا أو أذكى منهم عقلا لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا ... لقد اخترنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!
إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح الحماسة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقا.. إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد. هو العظمة الحقيقية!(25/167)
رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار
الدكتور أحمد طه ريان
أستاذ مساعد بجامعة الأزهر
وإتماما لما سبق نشره في حلقتين سابقتين في موضوع (رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليه من آثار) بسوق هذه الحلقة الثالثة فيما يلي:
رأي جمهور الفقهاء:
يرى جمهور الفقهاء وهو عدا من ذكرنا في الرأي السابق أن الفطر في السفر خلال شهر رمضان رخصة يجوز الأخذ بها ويجوز تركها والصيام عملا بالعزيمة..
وأهم الأدلة التي استند إليها هذا الفريق ما يلي:
الأول: قوله تعالى: {.. وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. الآية وقد تقدم أن تقرير الآية على رأي هذا الفريق: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر..
كما سبقت الإشارة إلى أن الفريق الأول: يرى أن هذا التقرير من شأنه تخصيص الآية، وليس خناك دليل على التخصيص، بل يجب أن تبقى الآية عامة كما جاءت، وقد سبق الرد عليه مفصلا..
الثاني: حديث ابن عباس المتقدم في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح حتى بلغ الكديد ثم أفطر. ثم قول ابن عباس تعليقا عليه: "لقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر"..
وجه الدلالة فيه من وجهين:
الوجه الأول: أن رسول الله ابتدأ السفر صائما واستمر كذلك حتى لم يبق من انتهاء الرحلة إلا مرحلتين، فلو لم يكن الصوم في السفر جائزا لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول سفره حتى بلوغه عسفان أو ما حولها..
الوجه الثاني: أن السفر كان ديدنه صلى الله عليه وسلم قبل هذه الرحلة وبعدها: ففي حديث أبي الدرداء المتقدم "..وما منا من أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة" [1] ..(25/168)
وما قيل، من أن فطره في هذه الغزوة، كان ناسخا لجواز الصيام في السفر قبل ذلك.. استنادا إلى ما قيل: من أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر، فغير مسلم. وقد تقدم الرد عليه مفصلا..
وما جاء من حديث أبي سعيد..من قوله: "ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" [2] واضح في حدوث الصوم بعد هذه الواقعة منه صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه مع اطلاعه عليهم وهم صائمون، وهو ما يستفاد من ذكر لفظ ((مع)) في الحديث.
كما هو واضح في بيان أن الفطر الذي حدث منه صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة؟ إنما هو من قبيل أخذه بالرخصة، وليس من قبيل نسخ الجواز.
الدليل الثالث: بيانه صلى الله عليه وسلم أن الفطر في السفر رخصة، وأن الرخصة يجوز الأخذ بها ويجوز تركها والأخذ بالعزيمة، وذلك في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي المتقدم.. حيث جاء فيه "..هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" [3] .
ولقد جاء في رواية لهذا الحديث أخرجها الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وأبي داود وسكت عنها عن طريق حمزة بن محمد بن حمزة حفيد السائل تبين أن السؤال كان عن صيام شهر رمضان في السفر، إذ جاء فيه "قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر، يعني شهر رمضان وأنا أجد القوة، وأنا شاب، وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أؤخره فيكون دينا أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر، قال: أي ذلك شئت يا حمزة" [4] . .
فهذا الحديث يوضح أن السؤال كان عن صيام شهر رمضان وهو وإن كان ابن حزم وابن حبان، قد ضعفا رواية حمزة بن محمد بن حمزة [5] . إلا أن له شاهدا من حديث حمزة بن عمرو المخرج في الصحيحين وغيرهما..(25/169)
وأما على رأي من يقول: إن سؤال حمزة كان عن صيام التطوع فإنه ليس في الحديث ما يشير إلى تخصيص السؤال بذلك
وعلى فرض أن السؤال كان في صيام التطوع؟ فإن العبرة برد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاء بصيغة عامة تشمل جميع أنواع الصيام سواء كان صيام فرض أو تطوع.
وحتى لو كانت الإجابة تخصص بنوع السؤال وهذا على افتراض أن السؤال كان عن صيام التطوع، فإن هذا الحكم يشمل صيام شهر رمضان من باب أولى، لأنه إذا تكبد الإنسان صيام التطوع في السفر وليس عليه في تركه شيء فإن تكبده الصيام الواجب من باب أولى، لأنه إن تركه سيكون دينا عليه..
وقد نوقش هذا الحديث، بأن الرخصة المشار إليها فيه قد خرجت من باب التخيير للعبد، إلى وجوب الالتزام بها، إذ جاء في نهاية الحديث "ليس البر أن تصوموا في السفر" زيادة توجب قبولها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" [6]
يجاب عن ذلك، بأنه جاء في صحيح مسلم ما يفيد أن هذه الزيادة غير محفوظة، إذ قال شعبة: "وكان يبلغني عن يحي بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث ليس البر.. الخ وفي هذا الإسناد أنه قال: عليكم برخصة الله الذي رخص لكم. قال: فلما سألته لم يحفظه [7] .
وعلى فرض صحة هذه الزيادة، فإنه يجاب عنها بأن الأمر هنا خاص بمثل هذا الرجل الذي ترك الرخصة وفضل عليها إهلاك نفسه أو بمن ترك الرخصة رغبة عنها. ((والله أعلم)) .
الدليل الرابع:
عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على من كان يصوم في سفره معه، فقد جاء في حديث أبي سعيد قوله: "كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره" [8] .
ومعلوم أن القصد: من ذكر ما يفيد المعية هنا وإيراد: يعاب بصيغة، البناء للمجهول: تأكيد اطلاع الرسول عليه الصلاة والسلام على حالهم وأنه مع ذلك لم يعب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره..(25/170)
ثم إن ذكر أبي سعيد هذا الحديث بلفظ كنا نشعر، بأن ذلك الحال كان دائما، حتى وفاته صلى الله عليه وسلم لأنه صرح بهذا القول بعد وفاته عليه الصلاة والسلام..
الدليل الخامس: فهم الصحابة رضي الله عنهم رخصة الفطر في السفر وأنها تعني الإباحة لا الوجوب واستمرارهم على هذا الفهم، سواء في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته، فمن ذلك:
حدي ث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض.. " [9] .
وحديث أبي خالد الأحمر عن حميد قال خرجت فصمت فقالوا لي أعد قال: قلت: "إن أنسا أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، فلقيت ابن أبي مليكة، فأخبرني عن عائشة رضي الله عنها بمثله" [10] .
الدليل السادس: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، فقال: أحسنت يا عائشة" رواه الدارقطني وقال هذا إسناد حسن وأخرجه النسائي ولم يذكر فيه: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان ((وجاء في نهايته)) لفظ "وما عاب علي" [11] . ونقله النووي في المجموع واحتج به [12] .(25/171)
وقد ضعف العلماء هذا الحديث: لأن في إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها، وقد قال ابن حبان في العلاء بن زهير: أولا أنه ثقة. ثم تناقض فيه بعد ذلك فقال: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات. وقال ابن حزم: مجهول وقال ابن معين: ثقة وقال عبد الحق: إنه ثقة مشهور والحديث الذي رواه في القصر صحيح، ورجح الذهبي توثيق ابن معين له وأما عبد الرحمن بن الأسود، فقد اختلف في سماعه منها، فقال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق. قال الحافظ ابن حجر: وهو كما قال، ففي تاريخ البخاري وغيرها ما يشهد لذلك. وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير لم يسمع منها, وادعى ابن أبي شيبة الطحاوي ثبوت سماعه منها.
فظهر من أقوال رجال الجرح والتعديل: أن الحديث لا بأس به من جهة السند لأن العبرة كما قال الذهبي: بتوثيق ابن معين للعلاء بن زهير.
كما ثبت سماع عبد الرحمن بن الأسود من عائشة، إذ جاء في تاريخ البخاري أنه كان يدخل عليها وهو صغير دون استئذان فلما احتلم استأذن فعرفت صوته فقالت يا عدو نفسه؟ أفعلتها. قال: نعم يا أمتاه قالت ادخل [13] .
وقال البعض: إن حديث عائشة هذا فيه نكارة من جهة المتن، إذ فيه أن عائشة خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان مع أن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ليس منها في رمضان شيء..
وقد أجيب عن ذلك: بأن هذه العمرة لعلها حدثت في شوال وكان الخروج إليها في رمضان في غزوة الفتح [14] والله أعلم بالصواب.
ونكتفي بهذا القدر من الأدلة المأخوذة من السنة على رأي الجمهور في جواز الأمرين، الصوم والفطر في السفر خلال شهر رمضان.
أما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فكثيرة نكتفي بأمثلة عنها:(25/172)
أ_ ما رواه البيهقي بسنده إلى أبي الفيض، قال: كنت في غزوة الشام فخطب مسلمة ابن عبد الملك، فقال: من صام رمضان في السفر فليقضه، فسألت أبا قرصافة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو صمت ثم صمت حتى عد عشرا لم أقضه" [15] . .
ب_ ما نقله صاحب الفتح عن الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة: سألت أنس ابن مالك عن الصوم في السفر فقال: "لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال: قلت له فأين هذه الآية {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع وأما اليوم فنرتحل شباعا وننزل على شبع"
قال الحافظ ابن حجر تعقيبا على ذلك: "أشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم" [16]
وأقول: إن أمر أنس لغلامه بالصوم، من أوضح الأدلة على جواز الصيام في السفر في شهر رمضان، لأن أنس أكثر الصحابة التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة بشأنه..
ج_ ما أخرجه البيهقي بسنده إلى ابن سيرين عن عثمان بن أبي العاص قال: "الصوم في السفر أحب إلي"كما روي عن ابن مسعود بمعناه [17] .
أما ما روي عن التابعين:
فقد روى النسائي عن حميد بن مسعدة عن سفيان عن العوام بن حوشب قال قلت لمجاهد: الصوم في السفر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر" [18] .
كما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: "إذا أهل الرجل رمضان في أهله وصام منه أيام ثم سافر فإن شاء صام وإن شاء أفطر" [19] ..
الرأي المختار:
بعد هذا العرض الموجز لأهم الأدلة التي استدل بها الفريقان، وما أثير حولها من المناقشات، نرى أن المختار هو رأي الفريق الثاني وأنه أقربها للسنة المحكمة وذلك لما يلي:(25/173)
أ_ إن العمل بالرأي الأول: يقتضي طرح العمل بكثير من النصوص الصحيحة الثابتة التي تفيد أن الفطر في سفر رمضان رخصة يترك العمل بها لاختيار المسلم، بخلاف العمل بالرأي الثاني فإنه يقتضي العمل بكل النصوص وذلك بإمكان الجمع بين أدلة الفريقين. والجمع بين الأدلة والعمل بها كلها واجب ما أمكن..
ب_إن القول بوجوب الفطر في السفر قد يكون فيه مشقة لمن كان دائم السفر كالسائقين والمضيفين في الطائرات وكل العاملين في مجال المواصلات من سيارات وطائرات وسفن وغيرها إذ هؤلاء وأمثالهم لو ألزموا بالفطر في سفرهم خلال رمضان لصار صوم الشهر دينا ثابتا يتراكم عليهم عاما بعد عام بل ربما يموتون وعليهم صيام سنين، وقد وضح ذلك من خلال قصة حمزة بن عمرو الأسلمي..
ج_ في هذا العصر وبعد التقدم الكبير في وسائل المواصلات والذي جعل السفر الآن لدى قطاعات كبيرة من المسلمين أقرب للمتعة منه إلى المشقة التي شرع الفطر من أجلها. فإن المسلم قد يرى الصائم أيسر عنده من الفطر، أولا: لعدم إحساسه بالمشقة التي تضعفه عن تحمل الصيام..، وثانيا: لأن الفطر سيترتب عليه أن تظل هذه الأيام دينا في رقبته ويطالب بقضائها بعد انتهاء السفر.. والله أعلم..
أيهما الأفضل: الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة؟
بعد أن بينا بوضوح حكم الصوم والفطر للمسافر خلال شهر رمضان وهو جواز الأمرين. نبين الآن، مدى هذا الجواز بالنسبة للشخص القادر على الصيام بدون ضرر عليه، وبمعنى أوضح، هل هذا الجواز يقف عند حده الأدنى، أي أن الصوم والفطر يستويان في الفضل بدون زيادة لأحدهما على الآخر فيه، أو أن أحدهما أكثر فضلا من الآخر، فينبغي المصير إليه، ندبا أو استحبابا؟ لبيان ذلك نقول:
من يرى أفضلية الصوم عن الفطر:(25/174)
نقلت أفضلية الصوم عن الفطر للمسافر القادر على الصوم بدون مشقة عن عدد كبير من الصحابة والتابعين وفقهاء الإسلام، نذكر منهم على سبيل المثال:
من الصحابة: حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص، وابن مسعود، وأبو قرصافة.
ومن التابعين: عروة بن الزبير، والأسود بن يزيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث، وسعيد بن جبير، والنخعي، والفضيل بن عياض
ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبو ثور، وآخرون [20] .
من أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:
1_ حديث أبي الدرداء المتقدم وفيه "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة" [21] .
فإدامة الرسول صلى الله عليه وسلم الصيام في السفر مع وجود الرخصة في الفطر، والتي أخذ بها أصحابه رضي الله عنهم، إرشاد إلى أفضلية الصيام لمن قدر عليه بدون ضرر.
ويناقش هذا الاستدلال، بأن السفر المشار إليه في هذا الحديث، كان قبل غزوة الفتح التي ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فيها واستمر على الفطر في السفر بعدها، لحديث: "إنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم"والعبرة بما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته..
وإنما قلنا إن هذا السفر كان قبل غزوة الفتح، لأن عبد الله بن رواحة، قتل في مؤتة وكان ذلك قبل غزوة الفتح، وإن كانتا في سنة واحدة كما يذكر ذلك كثير من أصحاب المغازي. ويجاب عن هذه المناقشة، بأنه يكفي في ثبوت الاستدلال: وجود الرخصة في الفطر التي أخذ بها كل الأصحاب ما عدا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.(25/175)
كما ثبت من خلال دراستنا للمسألة السابقة، أن فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، إنما كان عملا بالرخصة تشجيعا لأصحابه على الفطر بعد أن تردد أكثرهم فيه لما يرون من صيامه صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذلك واضحا في رواية لحديث جابر بن عبد الله عن طريق قتيبة بن سعيد عن الدراوردي عن جعفر "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر" [22] .
2_ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدم وقد جاء فيه: "..لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" [23] .
يشير تصريح أبي سعيد باستئناف الصيام بعد غزوة الفتح، إلى أن الفطر في هذه الغزوة كان لظروف معينة، وهي شدة الحر وشعور الناس بمشقة الصيام، ثم للتقوى استعدادا لملاقاة الأعداء وأخيرا لإزالة الأحجام والتردد عن بعض النفوس التي توقفت عن الأخذ بالرخصة لعدم أخذه صلى الله عليه وسلم بها واستمرار صيامه. أما بعد أن زالت هذه الظروف أو تغير أكثرها فإنهم رجعوا إلى الصيام في السفر، وما ذلك إلا لأفضليته على الفطر فيه..
3_حديث عائشة رضي الله عنها "قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال لها صلى الله عليه وسلم أحسنت يا عائشة" وقد تقدم الحديث وما قيل فيه..
4_ وقد أشار بعض العلماء هنا إلى دليل عقلي، مؤداه: إذا كان ولا بد من الصيام، أداء في رمضان أو قضاء في غيره، فأداؤه في رمضان أفضل من قضائه في غيره وذلك لأفضلية الأداء على القضاء بصفة عامة ولأن رمضان أفضل الوقتين، وحتى لا تشتغل ذمته به فترة من الوقت ولا يدري ما يطرأ عليه فيها [24] .
من يرى أفضلية الفطر على الصيام:
من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر. ومن التابعين: ابن المسيب، والشعبي و. ومن الفقهاء: الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون المالكي..
من أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:(25/176)
1_ حديث جابر المتقدم وفيه: "..ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له: بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة"..
فإن فطره صلى الله عليه وسلم بمرأى من الناس ثم وصفه بعد ذلك للصائمين، بالعصاة، يشعر بأفضلية الفطر عن الصوم في السفر
ويناقش هذا الاستدلال بأن فطره صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة بالذات وبمرأى من الناس كان لظروف خاصة بها وقد أشرنا إليها قريبا أما وصف الصائمين بالعصاة فإنما كان للمخالفة في تنفيذ أمر الفطر الذي أصدره صلى الله عليه وسلم والذي أوضحه حديث أبي سعيد رضي الله عنه "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر فقال؟ إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا وكانت عزمة فأفطرنا" [25] .
2_ حديث جابر بن عبد الله أيضا "ليس البر أن تصوموا في السفر" فنفى الرسول عليه الصلاة والسلام البر عن الصيام في السفر يريد أن الفطر أفضل منه.
ويناقش هذا الاستدلال بأن الصوم المنفي عنه البر: هو الذي يقوم به شخص لا يقدر عليه، وبالتالي يؤدي إلى إتلافه، فمثل هذا يكون الفطر في حقه أفضل. وليس المراد نفي البر عن عموم الصوم في السفر..
3_ حديث ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" [26] ..
فالفطر كان هو أحدث الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتباعه فيه أفضل من الصيام..
ويناقش، بأن فطره في هذه الغزوة كان لأسباب خاصة أوضحناها قريبا كما سلفت الإشارة إلى أن عبارة "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..الخ" مدرجة في الحديث من كلام ابن شهاب..(25/177)
4_ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"..
فتحسينه صلى الله عليه وسلم لجانب الفطر، واكتفاؤه بنفي الجناح عن الصوم، إشارة واضحة إلى أفضلية الفطر على الصوم..
وقد نوقش هذا الاستدلال، بأن التحسين هو بالنسبة لمن كان لا يتيسر له الصيام بحيث يشعر معه بمشقة أو ضرر، فمثل هذا الفطر في حقه حسن. أما من كان يحتمله مع شيء من المشقة، ومع ذلك ترك الرخصة وصام فإنه لا جناح عليه..
5_ ما جاء في حديث جابر "ليس البر أن تصوموا في السفر" من زيادة عن طريق يحي بن أبي كثير بلفظ: "عليكم برخصة الله الذي رخص لكم".
فهذا الأمر وإن لم يكن مقتضيا للوجوب، لكنه يعتبر إرشادا واضحا من الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أفضلية الأخذ بالرخصة التي تقتضي الفطر. وعليه فيكون الفطر أفضل من الصيام.
ويناقش هذا الاستدلال، بما قلنا سابقا نقلا عن الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه، من أن هذه الزيادة غير محفوظة.
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة، بأن هذه الزيادة قد رواها النسائي عن طريق الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير أيضا بلفظ "وعليكم برخصة الله الذي رخص لكم فاقبلوها" [27] وقد قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل، كما رواها ابن حزم واحتج بها [28] فالله أعلم بالصواب.
من يرى أن أيسر الأمرين أفضلهما:
نسب إلى مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة القول: بأن الأفضل من الصيام أو الفطر هو الأيسر والأسهل، أي أن من وجد لديه قوة على الصيام ولم يتضرر منه، فإن الصيام في حقه أفضل.
ومن كان يشق عليه أو يترتب عليه ضرر منه، فإن الفطر في حقه أفضل. وقد اختار هذا القول ابن المنذر [29] .
ومن أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:(25/178)
1_ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فذلك حسن" [30] .
واضح من الحديث: أن كلا الأمرين وصف بالحسن لكونه يتناسب مع حال فاعله.
2_ عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له، فقال اشربوا أيها الناس، قال: فأبوا، قال: إني لست مثلكم إني أيسركم، إني راكب، فأبوا فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب"رواه أحمد في مسنده [31] .
فقد علل صلى الله عليه وسلم امتناعه عن الفطر أولا بكون الصيام كان ميسرا له كما علل أمره لهم بالفطر بوجود المشقة لديهم.
وإنما خالف ما يناسب حاله وأفطر مثلهم لإزالة ترددهم عن الفطر الذي كان يناسب حالتهم وذلك من قبيل رأفته ورحمته بأمته صلى الله عليه وسلم.
3_ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [32] .
فقد علل الله سبحانه وتعالى رخصة الفطر بالتيسير على المسلمين. وعليه: فمن كان الفطر أيسر له؟ فإن الأفضل له الفطر عملا بالرخصة، ومن كان الصوم أيسر له، فإن الأفضل له الصيام.
من يرى أفضلية الصوم إذا خلا من الآفات المحبطة لفضله:
ذهب بعض العلماء إلى أن الصوم أولى في السفر إذا لم تصحبه لآفة من الآفات المحبطة لفضله كالرياء والعجب والسمعة وقيام الناس على خدمته وإلا فإن خشي دخول شيء عليه من هذه الآفات فإن الفطر في حقه أولى [33] .(25/179)
وقد استدل لهذا الرأي الذي لم يعرف من قال به من الفقهاء القدامى وإن كان قد حظي باختيار الشوكاني صاحب نيل الأوطار وقد استدل له بما يلي:
أ_ عن أنس رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوام وقال المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر" [34] .
ب_ نقل صاحب الفتح ما رواه الطبري عن طريق مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا سافرت فلا تصم فإنك إن تصم، قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم فلا تزال يذهب أجرك " [35] .
فحديث أنس وأثر ابن عمر واضحان في دلالتهما على تأثير هذه الآفات على الصيام لكن من الممكن السلامة من ذلك: إذا خدم الإنسان نفسه وقام بما يجب عليه من المشاركة في الخدمات العامة للرفقة المسافرين معه وأخلص نيته في صيامه.
المختار من هذه الأقوال:
أرى أن الرأي الذي يذهب إلى أن أيسر الأمرين هو أفضلهما: هو الأولى بالاختيار لما يلي:
أ_ أنه يترتب على الأخذ بهذا الرأي تحقق الحكمة التي جاء الترخيص في الفطر من أجلها، وهي اليسارة والسهولة. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
ب_ يتجلى تحقق هذه الحكمة من مطابقة هذا الرأي لطبائع الناس واختلاف قدراتهم، فمنهم من يتيسر له الصوم ولا يرى فيه كلفة أو مشقة، بل ربما كان يرى فيه راحته وصحته فطلب الفطر من مثل هذا فيه مشقة له، ومنهم من لا يتيسر له الصوم إلا إذا كان مقيما مستريحا لا يقوم بأي عمل أو يقوم بأعمال يسيرة غير مجهدة وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم البر عن صوم مثل هذا في السفر.(25/180)
ج_ المعيار في هذا الرأي، فيه مرونة حيث وكّل أمر الفطر أو الصوم إلى شعور الشخص نفسه، إذ هو المكلف وهو أمين نفسه، والتكليف أمانة، فإن وجد من نفسه القوة والقدرة على تحمل الصيام دون مشقة أو مشقة معتادة صام وإلا فلا.
د_ وأخيرا فإن هذا الرأي يتناسب مع ظروف المواصلات في هذا العصر وتنوعها فمن الناس من يتيسر له سبل مواصلات مريحة تخفف عنه كثيرا من معاناة السفر، فمثل هذا يكون الصوم أيسر له.
ومنهم من لم تتيسر له سبل مواصلات أصلا أو تتيسر له مواصلات مرهقة ومجهدة فمثل هذا يكون الفطر أيسر له.
ويجاب على استدلال الجمهور القائلين بأفضلية الصوم مطلقا لمن أطاقه بأن استمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصوم، ربما كان هو الأيسر بالنسبة له، وكان يأمر أصحابه بالأخذ بالرخصة لأنه كان يرى أن الفطر هو الأيسر بالنسبة لهم، وحديث أحمد المتقدم من أوضح الأمثلة على ذلك حيث جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم مبينا الحكمة من رغبته في استمرار صومه وأمره لهم بالفطر.. "إني لست مثلكم؟ إني أيسركم؟ إني راكب، فأبوا فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه، فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب".
أما أدلة الفريق الذي يرى أفضلية الفطر مطلقا فقد أجيب عنها في مواضعها فلا حاجة إلى إعادتها مرة أخرى.
أما القول الذي يرى أفضلية الصوم إذا لم تصحبه آفة تحبطه؟ فيمكن أن نضيف إلى ما قلناه سابقا، إن هذه الآفات من الرياء والسمعة ونحوهما، أمور قلبية أي أن مدارها على نية الإنسان وقصده فإذا جرد الإنسان نيته، وكان صومه خالصا لله، فلا يضره ما قيل عنه.(25/181)
وأما قيام الغير بخدمته، فلا يخلو حال الصائم من أحد أمرين: إما أن يكون قادرا على خدمة نفسه والمشاركة بجهد فعال مع بقية رفاقه في الرحلة مع صومه، فينبغي له ألا يسمح للغير بالقيام بهذه الأعمال نيابة عنه. وإما ألا يكون قادرا على ذلك مع الصوم فينبغي له الفطر أخذا بالرخصة.
وعلى ذلك: فيمكن القول: بأن الفريق الذي كان مصاحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صائما وعجز عن القيام بالأعمال التي قام بها المفطرون، فإنه قد خالف مقتضى الرخصة، حيث ترك الأخذ بها مع أنه كان من أهلها، لذلك استحق المفطرون الأجر دونهم..
والله أعلم
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم ج3ص145.
[2] صحيح مسلم ج3ص144.
[3] صحيح مسلم ج3ص145.
[4] أبو داود ج 7ص 40 مطبوع مع شرحه عون المعبود والسنن الكبرى ج 4 ص 241 والمستدرك ج1 ص 433.
[5] تهذيب التهذيب ج3ص32 دار صادر بيروت قال ابن حجر: ضعفه ابن حزم وقال عنه ابن حبان مجهول ولم أجد فيه كلاما لأحد المتقدمين. تهذيب التهذيب.
[6] النسائي ج4ص176 المحلى ج6ص384.
[7] صحيح مسلم ج3ص142.
[8] صحيح مسلم ج3ص143.
[9] صحيح مسلم ج3ص143.
[10] صحيح مسلم ج 3 ص 143.
[11] النسائي ج3ص122 ومنتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار ج3ص230.
[12] المجموع ج6ص218.
[13] التاريخ الكبير للبخاري ج5ص63 دار الكتب العلمية بيروت، وتهذيب التهذيب ج8ص180 مطبعة دار المعارف الهندية. والميزان للذهبي ج3ص101 طبعة دار المعرفة ببيروت.
[14] نيل الأوطار ج3ص231.
[15] السنن الكبرى ج4ص244.
[16] فتح الباري ج5ص87.
[17] السنن الكبرى ج4ص245.
[18] سنن النسائي ج4ص184 من المجتبى.
[19] المصنف ج4ص269.(25/182)
[20] السنن الكبرى للبيهقي ج4ص244، 245 وفتح القدير ج2ص351 مصطفى الحلبي، والمجموع ج2ص219، نيل الأوطار ج4ص252، شرح عبد الباقي الزرقاني على مختصر خليل ج2ص197.
[21] صحيح مسلم ج3ص145.
[22] صحيح مسلم ج3ص142.
[23] صحيح مسلم ج3ص144.
[24] أشار إلى هذا الدليل باختصار شديد صاحب فتح القدير ج2ص351 وقد قمنا بتوضيحه وشرحه.
[25] صحيح مسلم ج3ص144.
[26] صحيح مسلم ج3ص141.
[27] النسائي ج4ص176 من المجتبى.
[28] المحلى ج6ص384’ نيل الأوطار ج4ص252.
[29] نيل الأوطار ج4ص252 والمجموع ج6ص219.
[30] صحيح مسلم ج3ص143.
[31] نيل الأوطار ج4ص254.
[32] سورة البقرة الآية رقم 185 وإنما أخرنا الاستدلال بهذه الآية الكريمة لأن الاستدلال بها غير مباشر بخلاف الحديثين قبلها فإنهما نص في الموضوع.
[33] فتح الباري ج5ص86 ونيل الأوطار ج4ص253.
[34] صحيح مسلم ج3ص144.
[35] فتح الباري ج5ص86.(25/183)
العدد 54
فهرس المحتويات
1-كلمة التحرير: لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
2- فاجتنبوه لعلكم تفلحون: للشيخ أبي بكر الجزائري
3- المسكرات والمخدرات وموقف الشريعة الإسلامية منها: للدكتور أحمد علي الأزرق
4- الخمر جماعُ الإثمِ: للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
5- مكافحة المُخدَّراتِ واجبٌ ديني وطني إنساني: للواء جميل محمد الميمان
6- المخدَّرات أخطرُ مُعوَّقاتِ التنمِيةِ: للدكتور إبراهيم إمام
7- عِتَابٌ من الكبدْ: للشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري والدكتور أحمد مصطفى زهرة
8- سبيلُ الدَّعوة الإسلاميَّةِ للوقايةِ من المسكِراَت والمخدّرات: للدكتور جمعة الخولي
9- المسْكرات مِنَ النَّاحيَةِ النفسيَّة: للدكتور ملك غلام مرتضى
10- المُسْكرُ والمُخَدَّرُ جنَايةٌ على العقلِ: للشيخ سعد ندا
11- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام: بقلم: أحمد محمد جمال
12- دورُ الأدبِ في مكافحة الخمر بين الجاهليّة والإسلام: للشيخ محمود محمد سالم
13- السكران: للشيخ محمد المجذوب
14- قَاتِلٌ.... وَنَشتَريهِ!! : للشيخ محمد رجب حميدو
15- يَا ضحَايَا الكيف ... : للشيخ يوسف الهمذاني الشافعي
16- أَيُّها المدَخِنُ ... : للشيخ محمد المجذوب
17- نظرات الطب الحديث في المسكِراتِ والمُخدَّراتِ: للدكتور إسماعيل صبحي حافظ
18- وقفة مع طب الفم والأسنان وعلاقته بالكحول والإدمان: للدكتور أحمد كرات
19- الخمْرُ وتَأثيرها على العيُونِ: للدكتور فكري السيَّد عوض
20- التَّسمُّمُ الكُحُولّي: للصيدلي حمدي إبراهيم علي إبراهيم
21- التدخين والمسكرات
22- أخبار الجامعة - في سبيل الدعوة إلى الله: إعداد: الشيخ محمود سالم
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(25/184)
كلمة التحرير
لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
أما بعد. فإن الخير والشر ضدان لا يجتمعان، والخير حق والشر باطل، وهما في الضدية في صراع لا يهدأ، وتصير الغلبة لأحدهما على الآخر دوليك، وإنما تحصل هذه الغلبة على أيدي البشر أنفسهم لكن الحق يمتاز بالغلبة على الباطل بأن الله تبارك وتعالى يكون مع أهله ما صدقوا معه، فلا يخضع النصر للقوة المادية بالمقاييس البشري، بخلاف الباطل فإنه لابد لتفوقه من أمرين: القوة المادية الكاسحة وغفلة أهل الحق عن الأخذ بما أمر به الله من الأسباب الإيمانية والقوة المادية التي أمر الله عباده أن يهيئوا لأعدائهم بالإعداد لهم بحسب الاستطاعة.
وبهذه المقدمة يتبين أن واقع المسلمين اليوم مع أعدائهم إنما هو محصلة لهذين السببين.
وما حصل من خلل في بنية المجتمع البشري إنما المسؤول عنه غيبة الإسلام عن حكم واقعهم.
إن الإسلام لا يقر الظلم بجميع صوره وأشكاله يمارس ضد أحد، فالظلم حرام سواء كان ذلك بطريق مباشر أو بغير طريق مباشر، ومن أجل ذلك تأسست الحدود الشرعية لمنع الظلم وكبح جناح الظالمين الذين يزاولون الظلم ضد أمن البشرية في دينها وفي كيانها وفي عقولها وفي كل ما يتصل بحياتها.(25/185)
ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى خمر الخمر تحريما قاطعا بحيث لا يقرب الإنسان حماها، لأنها فضلا عن إصابتها العقل – مناط الإدراك في الإنسان – بالشلل بحيث يعيش منقادا لغيره عديم الإرادة كالحيوان، فإنها توقع العداوة والبغضاء بين الذين سقطوا في تعاطيها، وتصدهم عن الله صدا كبيرا، يقول جل ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
وبينت السنة النبوية المطهرة العقوبة الواجبة التي يستحقها من يشرب الخمر حماية لعقول الأمة وتجنيباً للعلل والأسقام عن الفتك بصحة أجسامها وأخلاقها بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من ساهم في إبراز الخمر إلى حيز الوجود وإعدادها لتكون في متناول الشاربين، فلعن عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها، ومعنى هذا أن كل من يسهم بنصيب في تيسير أمر تعاطيها تنسحب عليه لعنة الله التي تتضمن طرده من رحمته.
وإن أخطر من ينالهم شر هذه الخمر المتوهج، إنما هو الشباب الذي تعلق عليه الأمة عريض أمالها وتعهد إليه فيما بعد جسام مسؤولياتها، إذا لو أن الخمر ملكت عليه نفسه وأصرت لبه وتمكنت من قلبه لأفسدت عليه حياته وقوضت عليه أركانه ومن ثم ضاعت ما كانت الأمة تأمله فيه من خير.
ويلحق بالخمر في حكمها وآثارها الخطيرة كافة المخدرات والمفترات ومشتقاتهما من بيرة وحشيش وأفيون وكوكايين وقات وما شاكل ذلك بأي اسم وبأي لون مما يعد من أكبر المعاول في تدمير صرح الأمة والقضاء على كيانها.(25/186)
والله تبارك وتعالى حين كلف المكلفين خاطب فيهم العقل الواعي، فإذا أهلك هذا العقل فبأي شيء يعي الإنسان ويعقل عن الله؟ ألا إنه يصير في تلك الحال كالحيوان الأدنى {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .
ويجب أن يعلم أن إقامة الحد واجب الدولة الإسلامية، ولا ريب أنه يجب على العلماء والمفكرين بيان شرع الله في الحل والحرمة المتعلقين بحياة الناس مما تكفل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بإيضاح أحكامها وإنما مؤتمر مكافحة المخدرات والمسكرات التي تقيمه الجامعة الإسلامية في 27/5/1402هـ إن شاء الله بالتعاون مع مقام وزارة الداخلية إنما هو تكريس لأفكار العلماء والباحثين المسلمين وغيرهم في بيان حكم الله في هذه الجرثومة الضارة للعقل والبدن وإقتصاد الأمة وأخلاقها والكشف عن هذا الخطر الداهم الذي يجعل من أفراد الأمة دمى لا روح فيها ولا حياة، فيسهل حينئذ على أعداء الله من اليهود والنصارى والملاحدة وأعوانهم أن يملكوهم ويلتهموا ثرواتهم ويسخروهم كالآلات في خدماتهم ويشكلوهم أشكالا منوعة حسب ما يريدون مع الإستفادة بالاستشهاد بما توصل إليه إنسان هذا القرن بما هيأ الله له من وسائل التقنية (والتكنلوجيا) في تقرير حقائق هذه المسكرات والمخدرات، عسى أن يكون في ذلك مساهمة نافعة يفيئ بها الإنسان المنهمك في تناول هذه الأوبئة إلى رشده ويعرف موضع الخطر ويدرك عمق الهاوية التي يتردى فيها من ينزلق إلى حمأة هذه الرذيلة، فلعله أن يرعوي، ويقلع عن مقارفة هذه الجريمة التي تنطلق منها الجرائم جميعا.(25/187)
وإذا كانت الجامعة الإسلامية تقيم هذا المؤتمر فإنها إنما تؤدي واجباً هو من طبيعة وظيفتها في الدعوة والتبصير، فقد حدد نظامها الأساسي أنها مؤسسة علمية ودعوية كذلك وأن عليها أن تتخذ كافة الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الهدف على هدي من الكتاب والسنة، وهي في ذلك تتأسى بالداعي الأول، إمام الهدى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أمره ربّه أن يعلن على العالمين منهج دعوته بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
بيد أنها بما تشتمل عليه من قدرة بشرية وإمكانات معنوية ومادية مؤهلة للقيام بهذا الواجب أصلاً، الذي يعد من صميم ما نيط بها لتقوم به نحو العالم الإسلامي خاصة، ونحو العالم بأسره عامة، فرسالة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إنما هي للناس جميعاً {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، وما كانت كذلك إلا رحمة لهم لاستنقاذهم من وهدات الضلال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
هذا وقد دعت الجامعة لحضور هذا المؤتمر الهام حشدا من العلماء والمفكرين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي الذين نهلوا من علوم الشريعة، وجمعوا من خبرات الحياة ما يمكنهم من الإسهام في التوجيه في هذا المؤتمر، ليتوفر للبحث الذي يقوم عليه المؤتمر ما يجعله جديراً بالوفاء بكل مقومات البيان والإقناع بإذن الله عز وجل.(25/188)
وإنني بهذه المناسبة لأتقدم بالشكر لله عز وجل ثم لقادة هذه المملكة المسلمة، فقد توفر على أيديهم للمسلمين في كل مكان كل أسباب التمكين والنماء لجامعتهم الإسلامية، ولا نستطيع أن نفيهم حقهم كفاء ما قدموا للمسلمين في هذه الجامعة العتيدة سوى الدعاء بأن يديم الله على هذه البلاد عزها وأمنها في ظل عقيد الإسلام وشريعته بقيادة جلالة الملك المعظم وصاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الأعلى للجامعة الإسلامية حفظهما الله وأيدهما ونصر بهما الحق وأهله.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.(25/189)
المُسْكرُ والمُخَدَّرُ جنَايةٌ على العقلِ
للشيخ سعد ندا
المدرس بكلية الحديث الشريف بالجامعة
العقل جوهرة يتميز بها الإنسان عن الحيوان، وهو مناط الإدراك فيه، فبه يفرق بين الخير والشر، ويميز به الخبيث من الطيب، ومن ثم حرص الإسلام أعظم الحرص على المحافظة عليه، وجعله محل التكاليف الشرعية، إذ قد أسقطها عمن فقده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم " (رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر) .
وحين نستقرئ آيات القرآن الكريم نجد أن الإشارة إلى العقل قد تكررت في صيغ مختلفة _ تسعاً وأربعين مرة [1]_ ورد فيها الاستفهام التقريعي التوبيخي بصيغة "أفلا تعقلون؟ "خمس عشرة مرة [2] في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة آية 44) .
وكذلك في الآيات رقم 76 البقرة، 65 آل عمران، 32 الأنعام، 169 الأعراف، 16 يونس، 51 هود، 109 يوسف، 10 الأنبياء، 67 الأنبياء، 80 المؤمنون، 60 القصص، 62، 68 يونس، 138 الصافات [3] .
والاستفهام بقوله جل وعلا "أفلا تعقلون؟ "يوبخ أولئك المخاطبين، لأن الله منحهم قولا تدرك، ومع ذلك أبوا إلا أن يطمسوها طمساً تعطل به ولا تستعمل فيما أعدَّها الله تعالى له، فبدلوا هذه النعمة الجليلة التي أنعم الله بها عليهم كفراً، فلم ينتفعوا بها شيئا.(25/190)
وسوف يدركون هذه الحقيقة في الدار الآخرة فيقولون وهم يتلظون بالنار، كما أشار إليهم الله تعالى في قوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك آية 10) فهؤلاء أعطاهم الله أسماعاً، وأعطاهم عقولاً، ولكنهم لم يستعملوا أسماعهم ولا عقولهم في إدراك الحق الذي أنزله الله تعالى، فكانوا بمثابة الذين انعدمت أسماعهم وعقولهم ولم تغن عنهم شيئا.
* وجاءت الإشارة إلى العقل بصيغة "لعلكم تعقلون "ثماني مرات [4] وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة آية 73) ، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة آية 242) ، وكذلك في الآيات رقم 151 الأنعام، 2 يوسف، 61 النور، 67 غافر، 3 الزخرف، 17 الحديد [5] .
وفي هذه الصيغة يتبين أن ما سبقها علة لكي يعقل الإنسان ويتدبر، ليفهم عن الله عز وجل ما يلفته إليه.
* وجاءت الإشارة كذلك إلى العقل بصيغة "لا يعقلون "إحدى عشرة مرة [6] في قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة آية 170) ، وفي قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (البقرة آية 171) ، وفي الآيات رقم 58 المائدة، 103 المائدة، 22 الأنفال، 42 يونس، 100 يونس، 63 العنكبوت، 43 الزمر، 4 الحجرات، 14 الحشر [7] .
وقد نعى الله تعالى على من عناهم في هذه الآيات أنهم لا يستعملون عقولهم بل عطلوها تماما فلم يستفيدوا بوجودها لديهم، فكأنها منعدمة لا قيام لها فيهم، ومن ثم لم يفهموا ولم يدركوا عن الله شيئا.(25/191)
* وجاءت الإشارة كذلك إلى العقل بصيغة "يعقلون "ثماني مرات [8] ، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة آية 64) .
ونرى في هذه الصيغة أن الله تعالى ساق قبلها آيات كونية بثها في أرجاء الكون، أو عبرا من صور الناس، ثم يجعل هذه الآيات محلا لتسليط العقل عليها للتدبر والاعتبار لمن استخدم عقله للاستفادة مما لفت إليه تبارك وتعالى.
وقد كررت هذه الصيغة في الآيات رقم 4 الرعد، 12، 67 النحل، 44 الفرقان، 35 العنكبوت، 24 الروم، 28 الروم، 5 الجاثية [9] .
* وجاءت الإشارة إلى العقل بصيغة "إن كنتم تعقلون "مرتين [10] الآية الأولى هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران آية 118) _ ومعنى (إن كنتم تعقلون) هنا أي إن كنتم عقلاء، وهذا على سبيل الهزَّ والتحريك للنفوس كقولك: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ الناس. وقال ابن جرير: المعنى: إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه [11] .(25/192)
والآية الثانية: هي قوله تعالى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء الآية 28) ومعنى (إن كنتم تعقلون) هنا: أي إن كان عندكم عقول لأدركتم أن شروق الشمس وغروبها في المغرب _ وهو أمر يبصره العاقل والجاهل _ أمر لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين [12] .
* وجاءت الإشارة إلى العقل بصيغة (عقلوه) مرة واحدة [13] في قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة آية 75) والمراد أن اليهود غيروا آيات التوراة بالتبديل والتأويل بعد أن عقلوها أي بعد أن أدركوها بعقولهم أي فهموها وعرفوها [14] .
* وجاءت الإشارة إلى العقل بصيغة (يعقلها) مرة واحدة [15] في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت آية 43) ، والمراد أن الأمثال التي يبينها الله للناس في القرآن الكريم لتقريبها إلى أذهانهم لا يدركها ولا يفهمها إلا العالمون الراسخون الذين يعقلون عن الله عز وجل مراده [16] .
* أقول: هذه لمحة موجزة عن الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم. وإذا كانت الإشارة إلى العقل قد تكررت بهذا العدد الوفير، فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية العظمى للعقل لأنه مناط الإدراك في الإنسان، ومحل التكاليف الشرعية التي كلفه الله تعالى بها.
وإذا كان العقل بهذه المثابة، وله هذه المكانة، وهذه الأهمية، فقد أمر الشارع بالمحافظة عليه ضمن الكليات الخمس (الدين _ والنفس _ والعقل _ والمال _ والنسل) التي بحفظها يجمع الخير لحياة الإنسان.(25/193)
ومن ثم فإن اعتداء الإنسان عليه لتعطيله ووقف عمله، يُعدُّ جريمة يرتكبها الإنسان على بعض نفسه، وعلى إحدى كلياته وهو العقل، دون أن يجْرم هذا العقل في حق صاحبه شيئا، وعلى ذلك يستحق هذا المعتدي أن يعاقب تأديباً له على إجرامه. وحين ننظر إلى المسكرات والمخدرات التي يتعاطاها الإنسان نجد أنها من صور الاعتداء البشعة على عقله، لأنها تخامره وتخالطه، فتذهب وعيه، وتبدد إدراكه، ويصبح صاحبه المعتدي على نفسه، كالحيوان أو أضل، لا يفرق بين الخير والشر، لأن أداة التفريق قد أفسدت وعطلت، وانعدمت فيها قدرة التمييز.
والسكر بالخمر يخامر العقل، ويتخلل جوانبه، فيفسده، والتخدير بالمخدر يشل العقل، ويوقف عمله.
فهل لعاقل أن يقدم _ باختياره _ على تعطيل آلة غاية في الدقة وهي عقله تسجل له الماضي تسجيلاً دقيقا، وتساير له الحاضر مسايرة منتظمة، وتتصور له المستقبل تصوراً معقولا؟ هل لعاقل أن يفسد مثل هذه الآلة في روعة دقتها؟ وقد فطرها على هذا الإبداع الفريد الخلاق العظيم؟
إن الذي يقدم على إفساد عقله يدل بفعله هذا على أنه مستغن عن عقله، وليس في حاجة إليه، وأنه يريد أن يكون هكذا بدون عقل كالحيوان الذي لا يميز، أو كالجماد الذي لا يدرك مما حوله شيئا.(25/194)
وبين يدي هذه الصورة البشعة تتضح وقفة الشرع الحاسمة في منع هذا الاعتداء على العقل بالأمر الجازم بعدم قربان حمى المسكر ولا الاقتراب منه، فقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (المائدة آية 90 _ 92) ، وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات هي جزم قاطع بتحريم الخمر _ وكل مسكر خمر _ واستدلوا على التحريم القاطع بما يأتي:
1 _ تصدير الآيات بلفظ (إنما) وهي تدل على التخصيص والحصر.
2 _ قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وهي (الأنصاب) .
3 _ جعل الخمر والميسر رجسا أي نجسا _ مثل قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} .
4 _ جعل الخمر والميسر من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت.
5 _ الأمر بالاجتناب _ أقول: والاجتناب معناه أن يكون المؤمن في جانب، والمأمور باجتنابه في جانب آخر، ومفهوم هذا أنه لا يأتي قريبا من حماه.
6 _ جعل الاجتناب من الفلاح. ومفهوم المخالفة أن عدم الاجتناب خيبة وخسارة.
7 _ ناتج الوقوع في الخمر والميسر التعادي والتباغض بين الواقعين فيهما، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.(25/195)
8 _ قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهو استفهام تقريع وتوبيخ، فيه زجر بليغ يؤكد التحريم. لهذا لما سمع عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: (انتهينا) .
9 _ قوله تعالى بعد هذا الاستفهام {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} .
وهذا الأمر وإن كان أمراً مطلقاً، فإن المجيء به في هذا الموضع يفيد تأكيد التحريم، وقوله تعالى (احذروا) أي احذروا مخالفة الله ورسوله فيما جاء عنهما.
10 _ قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، معناه: إن أعرضتم عن الامتثال، فقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم، ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم، وفي هذا من الرجز ما لا يقدرُ قدره ولا يبلغ مداه [17] .
والخمر يأخذ حكمه كل مسكر بأي اسم كان، فقد روى البخاري _ بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شراب أسكر فهو حرام ".
* شبهة أولى وردها:
أقول: وقد يعترض بعضهم بأنه يشرب زجاجة من الخمر أو النبيذ أو البيرة ولا يسكر، ويبني على ذلك أنه يصير _ بعدم إسكاره _ غير محرم. والجواب عن ذلك: أن هذه النظرة قاصرة جاهلة، لأن هذا الذي يشرب زجاجة واحدة فلا يسكر، لو أنه شرب زجاجتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا فإنه يسكر قطعا، وما دام أنه قد سكر من كمية كثيرة، فإن أقل كمية تكون محرمة. فقد أخرج الترمذي وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام " [18] .
ومن ثم فإن أي شراب يسكر الكثير منه، يكون القليل منه حراما، وحكم القليل حكم الكثير.
* شبهة ثانية وردها:
أقول: وقد يعترض البعض بأن المخدرات لم يرد في القرآن النهي عنها، وكذلك الدخان لم يرد النهي عنه كذلك.(25/196)
وهذا الاعتراض مردود على صاحبه لما يأتي:
أ _ المخدرات: تتخلل العقل وتخدره، بل إنها تشله وتذهبه تماما إذا كثرت الكمية المتناولة، وما دام أنها خامرت العقل وأذهبته، فإن حكمها حكم الخمر، وتكون حراما.
فقد أخرج الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسكر حرام ".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة ".
رواه البخاري ومسلم (في باب الأشربة) ، وغيرهما.
ومن ثم فإن الحشيش والأفيون والهروين والقات وغير ذلك مما يذهب العقل كليا أو جزئيا حرام قطعا، حكمه حكم الخمر.
ب _ أما الدخان: فهو وإن كان غير مسكر إلا أنه مفتر للجسم، والمفتر هو ما يرخي الجسم، ويضعف الجفون، ويكسر الطرف. وهو منهي عنه شرعاً.
فعن أم سلمة _ زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم _ رضي الله تعالى عنها قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفتِر " [19] .
وبعض الناس يفتون بكراهية الدخان، ولكنه _ فيما يبدو لي _ أنه حرام للأدلة الآتية:
أن الله تعالى قال في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف آية 157) .(25/197)
أقول: والمأكولات والمشروبات في نظر الإسلام إما طيبة وإما خبيثة، والطيبات حلال، والخبيثة حرام.
ونحن إذا سألنا شارب الدخان: هل هو خبيث أو طيب؟ ما وجد جوابا إلا أن يقول: إنه خبيث. ما يختلف في هذا الجواب عاقلان.
حقاً إن الدخان خبيث:
1 _ خبيث لأنه يفسد الأسنان فيحطم أساسها وشكلها.
2 _ خبيث لأنه يضر الفم وينشر فيه الالتهابات الخبيثة.
3 _ خبيث لأنه يضر بالحلق فينشر فيه التقرحات المتنوعة.
4 _ خبيث لأنه يفسد الجهاز التنفسي.
5 _ خبيث لأنه يفسد الجهاز الهضمي.
6 _ خبيث لأنه يفسد الجهاز الدموي.
7 _ خبيث لأنه يفسد الجهاز العصبي.
8 _ خبيث لأنه يؤثر في محتويات الرأس فيفسد التفكير ويضعف الإدراك.
9 _ خبيث لأنه يؤدي إلى أمراض خطيرة أعظمها السرطان والعياذ بالله.
10 _ وفوق ذلك فهو خبيث لأنه يؤدي إلى قتل النفس وإهلاكها وقد أمرنا الله تعالى بأن لا نقتل أنفسنا، فقال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} (النساء آية 29) ، كما أمرنا بأن لا نهلك أنفسنا فقال سبحانه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة آية 195) . وسواء قتل الإنسان نفسه حالا أو على مراحل، كمن يمسك السكين ويطعن نفسه طعنة واحدة قاتلة، أو من يطعن نفسه عدة طعنات في مواضع مختلفة من جسمه ثم في النهاية تكون الطعنة القاتلة، فإن النتيجة أنه قاتل لنفسه. وشارب الدخان مثله في قتل نفسه كمن يطعن نفسه عدة طعنات مرة في ساقه ومرة في ذراعه، ومرة في يده ومرة في قدمه، والطعنه الأخيرة في صميم قلبه. فهو على أي الأحوال قاتل لنفسه، وملقٍ بها إلى التهلكة.
11 _ فضلا عن ذلك فإن الدخان خبيث لإتلافه المال، فهذا الذي يشتري علبة الدخان بريال مثلا ويحرقها كأنه أشعل في الريال وأحرقه _ وقد نهينا عن إضاعة المال وإتلافه.(25/198)
12 _ زيادة على ما ذكرت فإن الدخان خبيث في رائحته، فنتن رائحته التي تنبعث من فم المدخن خبيثة للغاية. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد منع آكل البصل والثوم والكراث _ وهذه شجرات غير محرمة _ من قربان المسجد واعتزاله لخبث رائحتها، فما بالنا بمدخن الدخان ورائحته أشد نتنا وأكثر خبثاً، مما ينبغي معه أن يعتزل المسجد ويمنع من دخوله؟
وبناء على ما ذكرت فإنه يبدو لي أن الدخان حرام قطعاً لأنه من الخبائث، والخبائث كلها (محرمة) وليست مكروهة كما يزعم بعض الذين لا يعلمون.
خطورة المسكرات والمخدرات على الفرد والأمة:
بعد هذه العجالة، أحب أن أتساءل، لأبرز مدى خطورة المسكرات والمخدرات على الفرد والأمة.
هب أن حريقا شب في منزل مجاور لك، وأحسست بلهبه، فعجلت إلى جيرانك لتنبههم إلى شبوب الحريق واندلاعه في منزلهم، فوجدت أفراد المنزل سكارى، ففتح أحدهم لك بابه ثم أغلقه في وجهك، والنار تشتعل في داخل المنزل _ فماذا تكون النتيجة.؟
النتيجة أن النار تلتهم المنزل بما فيه من السكارى، فلا تبق على أحد منهم ولا تذر.
وبالمثل لو أن حريقا هائلا شب في منازل الأمة، وحاولت أن تنبه إليهم أفرادها، فإذا هم جميعا سكارى؟ فماذا تكون النتيجة.؟
النتيجة أيضا أن الحريق يقضي على الأمة بأسرها لا يبقى منها على شيء.
وهكذا إذا سكرت العقول وتخدرت، تعطلت، وشُلت، فزحفت عليها زواحف الشر والطغيان، فأهلكتها وقضت عليها، وأفرادها لا يدرون ولا يحسون، بل يتحركون كالأنعام حركات آلية، عديمة الإدراك، يلقون حتفهم بأظلافهم.
إن الأمر جد خطير، وينبغي أن يوضع لتلك المبيدات حد من أولى الأمر في كل دولة، فالله يزع بالسلطان مالا يزعُ بالقرآن.
اللهم أرشدنا إلى الحق، وخذ بنواصينا وقلوبنا إليه، إنك جواد كريم، وأنت ولينا وأنت نعم النصير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(25/199)
زيادة نسبة الأمراض بسبب التدخين
أهم الأمراض التي تزيد نسبتها في التدخين هي سرطان الرئة، أمراض الشرايين الإكليلية، أمراض تضيق الشرايين، سرطان الشفة واللسان والفم والحنجرة واللهاة والمرئ والمثانة والقرحة والإنثي عشرية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المعجم المفهرس.
[2] المرجع السابق.
[3] المرجع السابق.
[4] المعجم المفهرس.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق.
[8] المرجع السابق.
[9] المعجم المفهرس.
[10] المعجم المفهرس.
[11] صفوة التفسير المجلد الأول ص
[12] المرجع السابق المجلد الثاني 377.
[13] المعجم المفهرس.
[14] صفوة التفسير المجلد الأول ص 7.
[15] المعجم المفهرس.
[16] صفوة التفسير.
[17] فتح القدير الجزء الثاني ص 73 _ 74 _ ببعض تصرف.
[18] رواه الترمذي في الأشربة باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، ورواه أبو داود في الأشربة باب النهي عن المسكر: ورجال إسناده ثقات، وحسنه الترمذي.
[19] أخرجه أبو داود في الأشربة باب (النهي عن المسكر) وفي سنده ضعف. وقد حسنه الحافظ في الفتح _ انظر: جامع الأصول ج5 ص 93.(25/200)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
وجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام
بقلم: أحمد محمد جمال
جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام.. التي منحت لسماحة العلامة المجاهد بقلمه ولسانه الشيخ عبد العزيز بن باز – كانت تحية طيبة لسماحته من لجنة الجائزة، وإشعاراً للمجتمع الإسلامي بإدراك اللجنة الموقرة لمقام سماحته الكبير، مقام العلم النافع، والعمل الرائع، مقام الجهاد بالقلم واللسان والمال، مقام الناصح الأمين، الذي يعلن كلمة الحق، بين أيدي الرعاة والرعية، وبين الخاصة والعامة.
* أجل.. إن الشيخ عبد العزيز فريد في ميدانه علما وعملا، ونادر في مقامه جهادا بالقلم واللسان والمال..
كل أيامه في بيته، وفي مقر عمله – مشغولة بالزوار من طلاب الحاجات، وحملة المشكلات، وطارحي المسائل، وهو بينهم يقضي لهذا حاجته، ويحل لذلك مشكلته، ويجيب الآخر على مسألته، ويبذل للرابع شفاعته ليقبل في معهد أو كلية، أو ليعطي عونا ماليا لبناء مسجد، أو إنشاء مدرسة، أو إقامة مركز للدعوة الإسلامية.
وزوار سماحته متعددو الجنسيات، مختلفو الألوان والأوطان.. من البلاد العربية، ومن إفريقيا وآسيا، ومن أمريكا وأوروبا – لم يجدوا بابا غير بابه مفتوحا، ولا صدرا غير صدره متسعا لاستقبالهم، والترحيب بهم، ثم إمدادهم بما يريدون من عون مادي، أو فتوى دينية، أو شفاعة لدى مسؤول كبير لقضاء حاجة من حاجات الدنيا الكثيرة.
* ثم هو لا يسمع بمنكر يحدث في جماعة أو مجتمع، أو حتى من فرد صغير أو كبير – إلا سارع فكتب لولاة الأمر ينبه إلى مخاطر هذا المنكر، ويوجه إلى ضرورة القضاء عليه لئلا يفشو فيزداد وباؤه في المجتمع، فتسوء العاقبة والمصير.(25/201)
وإلى جانب ذلك: المؤلفات والأحاديث والمقالات عبر الصحف والمجلات والإذاعة: تعليما وتذكيرا، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وتوجيها إلى الخير، ودحضا للباطل، وانتصارا للحق.
والمؤتمرات والندوات العلمية والدينية لا تخلو من محاضراته وأحاديثه القيمة.. مذكرا بماضي الإسلام، مطالبا بالعودة إلى سيرة السلف الصالح، وقبل ذلك العودة إلى كتاب الله الكريم، وسنة رسوله الرءوف الرحيم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
* إن جائزة الملك فيصل – رحمه الله – التي منحت لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ليست إلا مجرد تذكير بجهاده العلمي والاجتماعي والديني رمزاً لتقديره، والتعريف بمقامه الجليل.
وسماحته – أمده الله بعونه وتوفيقه – يمثل علماء السلف الصالح.. الذين كانوا يجمعون إلى العلم العمل، وإلى الجاه التقوى، وإلى السلطة الشفاعة الحسنة لأصحاب الحاجات، وحملة المشكلات، وذوي المظالم.
ولو كان علماؤنا – في كل منطقة من مناطق المملكة الخمس – على مثل علم الشيخ عبد العزيز بن باز وعمله.. لكان المجتمع السعودي اليوم – طولا وعرضا – غير ما نرى.. في مجالات الثقافة والتعليم والتربية، والسلوك الاجتماعي، والعلاقات العامة بين السادة والعامة.
وبعد.. فهذه تحية سريعة لسماحة العالم العامل، الناصح الأمين: الشيخ عبد العزيز، وأهم منها أنني أسأل الله مخلصا أن يمده بعونه وتوفيقه وتيسيره، ويجزيه على ما يبذل من علم ونصيحة أعظم الجزاء وأكرمه.(25/202)
دورُ الأدبِ
في مكافحة الخمر بين الجاهليّة والإسلام
للشيخ محمود محمد سالم
المحاضر بكلية اللغة العربية بالجامعة
ابتليت الأمم قديمها وحديثها في الشرق والغرب بآفة الخمر يحرك بها الشيطان في نفوس البشر نوازع الشر، ودوافع الفساد، ليضلهم عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويوقع بينهم بسببها العداوة والبغضاء، ذلك أنها تغتال العقل الإنساني الذي فضل الله به الإنسان على سائر مخلوقاته، فتسلبه الحكمة والرشاد، وتحرمه القدرة على التدبر والتفكير، ثم ما تلبث بعد اغتيال العقل والفضل أن تفتك بقوة الجسم والنفس، فتترك شاربها مسلوب الإرادة، مشلول القدرة، سقطاً لا نفع فيه. ويصبح مذموماً مدحوراً، تكرهه الأرض كما تلعنه السماء.
- وقد شاع شرب الخمر في جاهلية العرب، واقترن بها في حياتهم كثير من الرذائل مثل استباحة النساء، ولعب الميسر أو القمار، مما فرض على مُقارفي هذه الرذائل حرصهم على جمع المال. لا يبالون من أين أتاهم من حرام أو حلال، فانتشر بينهم الربا والبغاء واستحلال الدماء والأموال من نهب الغارات، وما يجري فيها من انتهاك الأعراض والحرمات، وأقتات وأثْرى على ذيوع هذه الرذائل بعض الطبقات الطفيلية في ذلك المجتمع الجاهلي، فانتشرت الحانات، وصاحبات الرايات الحمر اللواتي يوفرن اللذائذ الرخيصة، والمتع التافهة لأولئك المخمورين التافهين الذين لا وزن لهم ولا قيمة في مجال القوة والفضائل.
أدب الإسلام في حرب هذه الرذائل:(25/203)
وحين أراد الله بهذه الأمة خيراً بنزول الإسلام فيها حارب هذه الآفات والرذائل في حياة الفرد والجماعة، فشدد عليها النكير، ووضع لها العقاب الصارم الرادع ليجعل من هذه الأمة قوة بناءة قادرة على حمل رسالة الله إلى الناس كافة، فقد وصف الله الخمر في القرآن بأنها رجس ومن عمل الشيطان، ونهى رسول صلى الله عليه وسلم عنها، ولعن عاصرها ومعتصرها وشاربها، وجعل لشاربها حداً أربعين جلدة، وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه، وحين رأى عمر رضي الله عنه بعض العرب ما يزال يتورط في شربها جعل حدَّها ثمانين جلدة بعد أن استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أخف الحدود ثمانون جلدة [1] .
الأدب العربي وآفة الخمر:
ويجد الباحثون في تاريخ الأدب العربي دوراً بارزاً للأدب وبخاصة الشعر في انتشار آفة الخمر، والولع بها وذلك بما صوروه في شعرهم من النشوة واللذة التي تصاحب شربها ومن جمال المجالس التي تضم الندمان، وقد أحاطت بهم صور من الترف في لذيذ المطاعم والمشارب، ونعيم الملك وأبهة السلطان.
ذلك أن كثيراً من شعراء العرب الجاهليين الذين اشتهروا بشعر الخمر، كانوا ينتجعون ملوك الحيرة والغساسنة، فيلقون عندهم صنوفا من التكريم والعطاء ما يطلق ألسنتهم بالمدح والثناء، وتصوير ما يحيط بهم من ألوان المتعة وصنوف البهاء.
ومع وفرة النصوص الأدبية التي تشيد بالخمر في وصف محاسنها والإعجاب بنشوتها قديما وحديثا، فإن الباحث لا يعدم أن يجد النصوص الكثيرة التي تذمها وتزري بشاربيها، وتصور مضارها ومفاسدها وتبرز خطرها على العقل والدين.
الشعر الجاهلي وحرب الخمر:(25/204)
ففي الشعر الجاهلي نجد نصوصاً كثيرة. وإن كانت متناثرة – تصور ما أحدثته الخمر بشاربيها، وما نالت من كرامتهم، وما تعرضوا له بسببها من مهانة واحتقار، فطرفة بن العبد – وهو من أشهر واصفيها والمولعين بها والمدمنين عليها – يصور في معلقته ما ناله بسببها من تحامي عشيرته له، وإبعاده عنها حتى اجتنب منهم، وعزل البعير الأجرب الذي يعزل عن الإبل الصحاح حتى لا يصيبها بعداوه، وذلك حيث يقول:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإتلافي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
ومع شيوعها في الجاهلية وفقدان الوازع الديني الذي يحرمها لم يكن معاقروها مثلا أعلى يحتذي به بين الرجال، ولا كانوا قدوة صالحة بين الناس، لأنهم ساقطو الهمة لا يرجيهم الناس لدفع ضرر أو جلب منفعة، وذلك ما يصوره قول أحد شعراء الجاهلية:
وليس فتى الفتيان من جلُّ همه
صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا
لضر عدو أو لنفع صديق
وواضح من هذا النص أن المثل الأعلى للفتوة والرجولة هو الشجاع القادر على منازلة الأعداء، الكريم القادر على نفع الأصدقاء، وليس المثل الأعلى للرجال ذلك المدمن على الشراب في صباحه ومسائه، فهو منعدم المروءة، ساقط الهمة، لا يرجى في حرب ولا سلم لأنه جعل همه هواه.(25/205)
وفي سير شعراء الجاهلية ما يقدم لنا دليلا على أن الذين أولعوا بها واشتهروا بها بين قومهم وذويهم كانوا يدمنونها في مرحلة من مراحل طيش الشباب، وعرامة الفتوة، ألهاهم الغنى والترف عن التعلق بمعالي الأمور، وعن الانشغال بجلائل الأعمال، ففي حياة امرئ القيس لمحات دالة على أن انغماسه في اللذات وانهماكه في اللهو والشراب كان في الفترة الأولى من حياته وقد طرده أبوه حجر الكندي الذي كان ملكا على بني أسد، وبلغه مقتل أبيه وهو في مجلس شرابه، وقال قولته المشهورة التي صارت مثلاً: ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيراً اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً ". وكان ذلك الحادث فاصلاً بين عهدين وحداً بين مرحلتين في حياته.
وقد مدح زهير بن أبي سلمى حصن بن حذيفة الفزاري، فكان مما امتدح من فضائله أنه لا يشرب الخمر، ولا يهلك فيها ماله وإنما يذهب بماله كثرة عطاياه للمحتاجين، وذلك حيث يقول:
أخي ثقة لا تهلك الخمرُ مالهُ
ولكنه قد يهلك المال نائله [2]
من حرموا الخمر في الجاهلية:
وحرصت أمهات كتب الأدب العربي [3] على أن تفرد أبواباً وفصولاً تذكر فيها من حرموا الخمر في الجاهلية تكرماً وصيانة لأنفسهم، وتورد قصصهم وأشعارهم التي تصور ذهابها للعقل والمال، وزرايتها بمروءة ذوي المروءة، وذهابها بالنخوة والنجدة.
وممن اشتهروا بتحريم الخمر في الجاهلية عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان، ومن شعره في ذم الخمر وبيان ضررها على العقل والمال، وتحريمها على نفسه ما دام حياً قوله:
سآلة للفتى ما ليس في يده
ذهابة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
حتى يُفرَّق تربُ القبر أوصال
مورثة القوم أضغانا بلا إحن
مُزْرِيةٌ بالفتى ذي النجدة الحالي [4](25/206)
وممن اشتهروا بتحريم الخمر على أنفسهم في جاهليتهم قبل إسلامهم قيس بن عاصم المنقري الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيد أهل الوبر [5] ، ومما روى في سبب تحريمه الخمر في جاهليته أن تاجر خمر في الجاهلية كان يأتيه فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده، فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته أو أخته، وتناول قرنها، فلما أصبح سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة فأخبر بالقصة فحرم الخمر على نفسه، كما روى أنه شرب ذات ليلة فجعل يتناول القمر، ويقول والله لا أبرح حتى أُنزله. ثم يثب الوثبة ويقع على وجهه، فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا فاخبروه بالقصة فقال والله لا أشربها أبداً [6] .
ومن المشهور قول قيس بن عاصم في تحريمه الخمر في جاهليته وتصوير أخطارها:
لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً
لسالبةٍ مالي ومذهبةٍ عقلي
وتاركتي من الضعاف قواهم
ومورثتي حرب الصديق بلا نبل [7]
وروى له ما يصور قصته مع التاجر وهو قوله:
من تاجرٍ فاجرٍ جاء الإله به
كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانية تركت
صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال [8]
وقالوا: حرم صفوان بن أمية بن محرث الكناني الخمر على نفسه في الجاهلية وروى عنه قوله:
رأيت الخمر مَنْقُصَةً وفيها
مناقبُ تفسد الرجل الكريما
فلا – والله – أشربها في حياتي
ولا أشفي بها أبداً سقيما [9]
وهي – حتى عند الجاهليين – أم الخبائث – ترتبط بكثير من الرذائل والفواحش فهي دافعة إلى الزنا، وداعية إلى لعب الميسر، وممن صور هذا الارتباط الوثيق بين هذه الرذائل التي أصلها الخمر الشاعر الجاهلي المشهور: عفيف بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس، ومما روى عنه في ذلك قوله:
وقائلةٍ: هلُمَّ إلى التصابي
فقلت: عففت عما تعلمينا(25/207)
وَودَّعْتُ القِداحَ وقد أراني
بها في الدَّهر مشغوفاً رهينا
وحرَّمت الخمور عليَّ حتى
أكون بقعر ملحود دفينا
وقوله:
فلا والله لا أْلفى وشرباً
أُنازعُهم شراباً ما حييتُ
أبى لي ذاكَ آباءٌ كرام
وأخوالٌ بِعِزَّهمُ رُبيتُ [10]
وممن حرمها في الجاهلية عبد الله بن جدعان وكان سيداً جواداً من سادات قريش من بني تميم. وروى في سبب تحريمه الخمر أنه شرب يوماً مع أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر الجاهلي المشهور، فضربه على عينه، فأصبحت عين أمية مُخْضَرَّةً يُخاف عليها الذهاب، فقال له عبد الله: ما بال عينك؟ فسكت، فألحَّ عليه، فقال: أوَلَسْتَ ضاربها بالأمس؟ فقال: أو بلغ مني الشرابُ ما أبلغ معه إلى هذا الحد، ثم دفع إلى أمية عشرة آلاف درهم. وقال: الخمر عليَّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبداً، وهو القائل:
شربت الخمر حتى قال صحبي
ألستُ عن السَّفاهِ بِمُسْتَفيق
وحتى ما أوَسَّدُ في مبيتٍ
أنام به سوى التُّرْب السحيق
وحتى أَغْلقَ الحانُوتَ صحبي
وآنَسْتُ الهوانَ من الصديق [11]
قال أبو الفرج وهو يورد قصة عبد الله بن جدعان وتحريمه الخمر على نفسه في الجاهلية "إنه ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كتاب عمدة الأحكام للإمام تقي الدين المقدسي في باب حد الخمر.
[2] شرح ديوان زهير صنعة أبي العباس أحمد بن يحي ثعلب. ط الهيئة العامة للكتاب بمصر ص 141.
[3] مثل كتاب العقد الفريد الجزء السادس وأمالي القالي الجزء الأول والمستطرف للأبشيهي وكتاب الأشربة لابن قتيبة، والإصابة لابن حجر في تراجم كثير من الصحابة.
[4] أمالي القالي ج1 ص 207.(25/208)
[5] الإصابة لابن حجر ج3 ص 253 رقم 7194.
[6] المستطرف للأبشيهي ج2 ص 161.
[7] أمالي القالي ج1 ص 208.
[8] البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص 31.
[9] العقد الفريد ج6 ص 346 – ويروي في بعض المصادر: "رأيت الخمر صالحة ""ولا أسقي بها أبدا نديما ".
[10]- خزانة الأدب للبغدادي تحقيق هارون ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ج 5 ص 330.
[11]- الأغاني أبي الفرج الأصفهاني ط دار الكتب ج 8 ص 332 ومجموعة المعاني ط الجوائب ص 198.(25/209)
السكران
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة
عندما يقع بصرنا على شيء يسترعى الانتباه نلاحظ أنه يترك صورته ماثلة في خيالنا بعض الوقت، وأكثر ما يكون ذلك حين نغلق أعيننا عقب رؤيته فإذا هو منطبع على خلفية البصر بكل ما يميزه إلا تفصيلات الملامح. على أن بعض هذه المرئيات طويلة الأجل، فلا تكاد تفارق الذاكرة إلا ريثما تعود.؟. ومن أبرزها في أعماق نفسي صورة ذلك الكهل الأروادي التي ما زالت مخيلتي تحتفظ بها منذ خمس وستين سنة في وضوح يباين ما يتركه غيرها من الصورة العابرة.
ها أنا ذا أنظر إليه من خلال ركام الذكريات، وأوشك أن أميز كل ظاهرة في هيكله الضئيل الذي ما أحسبه يتجاوز صورة ابن الرومي، الذي يحدد حجم شخصه بقوله:
أنا من خفّ واستدقَّ فما يُثقل
أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء
وقد عُبِئ هذا الهيكل في سروال صغير متوسط السعة، أحاط أعلاه بأسفل قميص متواضع من أرخص الأقمشة، وبرز فوقه ذلك الوجه الأسمر المنمنم، الذي استقرت عليه سمة غامضة يضيع تحديدها بين العبوس والابتسام، وتُطل من خلالها عينان لطيفتان لا أستطيع تحديد رؤيتهما لأنه قلما يوجههما إلى أحد من الناس.. حتى اسمه لا يخلص من ذلك الغموض، فهو في علمنا نحن الصغار على الأقل يوسف، أما من أمه وأبوه وأسرته فوراء مدركاتنا المحدودة. وما أحسب أحداً حتى من الكبار يُلِمُّ من تعريفه بغير هذا الاسم، ولا من هُويته بغير تلك الصفة المشتقة من صناعته اليومية (الكعَّاك) .
* كان المنزل الذي يسكنه أشبه بغار صغير مستطيل لا يتخلله الضوء إلا من مدخله الذي لا يتسع لأكثر من اثنين بمثل حجمه، ففيه يبيت ويأكل ويصنع الكعك، الذي يطوف به أسواقَ طرطوس وأزقتها عصر كل يومٍ وهو ينادي بصوته الأجش الهزيل.
كعك سخن.... سخن يا كعك(25/210)
ولقد ألفت منظر ذلك الكهل الأروادي إذ لا أكاد أفقد رؤيته في أي يوم، فإذا غدوت إلى حانوت والدي أو رحت منه إلى البيت، عبرت به فأقف قليلا مقابل مدخله أتطلع إلى يديه وهما تمارسان عمل الكعك، وبنفسي رغبة في أن أسرق هذه الصنعة لأعلمها والدتي، التي كانت قليلة الخبرة بصناعة الطعام، وبخاصة المشوقات التي لا تعرف منها سوى رصف الحمص على وجه العجين المرسل إلى المخبز، حيث تُغير النار من طعمه فتجعله أقرب القضامة، وكانت تلك هي المكافأة المغرية التي تُحبِب إلي حمل أقراص الخبز إلى الفرن، لآخذ بحظي منها في كل نوبة.؟.
وكان لهدوء ذلك الكهل الأروادي أثره في تطلعي إلى عمله، إذ قلما يضيق صدره بمشهد الصغار أمام مصنعه فلا ينفرهم كما يفعل أكثر الرجال الآخرين، وبخاصة ذلك النجار الأخرس الذي ما أن يكاد يرى إنساناً يحك رأسه حتى يثب نحوه مُعْملاً به كفيه، وهو يرسل مثل مواء الهر المهتاج. وأكثر ما يقع عدوانه على الصغار الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
وكان لهدوئه كذلك وبعده عن العنف أثر آخر في نفسي إذ كنت كثيرا ما أستشعر الأسى عليه فأتساءل: أليس لهذا الكعَّاك من أم أو أب؟ أليس له من زوج تنفض عنه غبار الوحشة؟. وكيف يستطيع العيش مع هذا الظلام الرهيب الذي يحتشد في جوف هذا الغار، ولاسيما حين يستحكم الليل؟! .(25/211)
* وأعود إلى حانوت والدي كشأني بعد كل عصر لأقرأ عليه ما تلقيته من دروس اليوم في المدرسة التركية، وألتقي الكعاك الكهل في الطريق، وهو يحمل فوق رأسه ذلك الطبق المصنوع من قش الحنطة، وقد نُضدت عليه أطواق الكعك المحمار، وانتشر من خلاله الأريج المحرك للرغبة، وجعلتْ حبوب السمسم تلتمع على جوانبه كالعيون الصغيرة تطل عليك ضاحكة من كل مكان.. وعلى دأب الرجل يعرج على حانوتنا ليضع لي الكعكة التي لابد منها ويُردفُها بالصرة الممتعة التي تحتوي مسحوق السُّماق الشهي، فيأخذ ثمنها القطعة النحاسية الصغيرة، ثم يمضي لغايته دون أن ينبس ببنت شفة، وأمضي أنا في قضم كعكتي في نهم مهذب، ومن ثم أفرغ للتدرب على تحسين الخط بمشاكلة القاعدة التي يكتبها لي والدي برسمه الأنيق، وقلما تتجاوز الأبيات الثلاثة التي تركت طابعها عميقاً في حياتي وجاهدت طويلا للتحرر من إيحائها:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فطاب الأنسُ لي ونما السرورُ
وأدَّبني الزمان فلا أبالي
هُجرت فلا أزار ولا أزور
ولستُ بسائلٍ ما دمتُ حياً
أسار الجيشُ أم ركب الأميرُ
ويتابع الكعاك مسيرته ويستمر صوته في نغمه المتشابهة: (كعك سخن… سخن يا كعك) .(25/212)
وما هي إلا ساعة أو بعضها حتى يخفت ذلك الصوت، لأن الكعك كله قد أتت عليه أيدي المشترين حتى لم يبق منه شيء.. ومن ثم تبدأ المرحلة الجديدة من يوميات صاحبه في موعدها، الذي قلما يعدو مطلع الساعة الأخيرة من النهار، وإذا هو مقبل من أعماق الحي الجنوبي المغلق على سكانه من النصارى، وقد سمّر بصره في الأرض كالكلب الذي استحكم فيه السُّعار ففقد خاصة الانتباه، وأخذ طريقه كالسهم الذي لا يلوي على شيء ولا يسلم من إصابته شيء صادفه، إلا أنه يختلف عنه في اضطراب مسيرته، فهو يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ويحرك يديه في استرخاء كأنه يدفع عن نفسه شيئا يخشاه… وما هي سوى خطوات حتى يحدق به العفاريت الصغار وهم يهتفون:
السكران.. السكران… الله يلعن السكران.
ولكن الكعاك لا يُغير وجهته ولا يرد على الهتاف بكلمة، بل يستمر في انطلاقته المترنحة، على حين يتنامى موكب الهتافين من حوله، ويأخذ الصياح في التعالي، ثم يقبل الفارغون من هنا وهناك ليزيدوا في كثافة الموكب، ولا يكتفون بالهتاف يزفونه به، بل إن صمته ليغريهم بالمزيد من إيذائه، فهم يرمونه بالحصى، وبالأتربة، وبالأوساخ يجمعونها من قمامة الطريق، ولا يَضنُّ عليه بعضهم بالنعل يقذفه به، وبالبصاق يلطخ به رأسه ووجهه، فلا يملك إلا أن يضاعف من تحركه ابتغاء الخلاص، ولكن أنَّى له الخلاص وقد أحيط به من كل جانب، وما كان له أن يستمر في صمته فإذا هو يعمد إلى الصياح بصوت متشنج لا يفهم منه سوى زعيق الاستغاثة ولا من مغيث.
وهكذا يتواصل خط السير بالمسكين إلى أن يجد نفسه على شاطئ البحر فلا يتمالك أن يقذف فيه بجسده المنهوك، ولكن مشّيعيه يأبون أن يكفوا عنه عبثهم، فإذا هم يرجمونه بالحجارة، ثم لا يدعونه حتى يبعد عن مرمى أيديهم، وتحول بينه وبينهم طلائع العتمة فيفترقون عنه وهم يتصايحون: السكران… السكران… الله يلعن السكران.(25/213)
وبذلك تنتهي المرحلة الثانية من يوميات الكعاك ليستأنف مسيرته الجديدة المزدوجة في يومه التالي.
* وتكر الأيام والسنون ويسجل الزمن عامة التاسع عشر بعد المئة التاسعة والألف، ويكبر العفاريت الصغار ويتغير واقع الناس بعد زوال شمس الخلافة وانتشار ظلمات الاحتلال الفرنسي لديار الشام، ويغيب وجه السكران الوحيد الذي كان الملهاة اليومية لأولئك الأشقياء في طرطوس، فلا يعلم أحد منا مصيره ولا يدري من أمر هويته شيئاً غير الذي عرفناه من قبل.
ومن ذلك العهد دخل الناس مرحلة جديدة من الحياة فقد جاء جنود غورو، المتحدي لقبر صلاح الدين، بالسكر والأرز والأمتعة التي ما كان الناس ليحملوا بها أثناء سني الحرب، وكان أبرز هداياهم لذلك البلد وإخوته البنطال وربطة الرقبة (الكرافات) وألوان الخمور التي لم تعرفها طرطوس من قبل، إذ لم ينقص سوى أشهر قليلة على ذلك الاحتلال حتى شرعت حوانيت الخمارين تطل برأسها هنا وهناك، بعد أن كانت الخمور أيام الكعاك من الأسرار التي لا يعرف مزظانها، ولا يقدم على تناولها إلا المغامرون بأنفسهم وإنسانياتهم.. وتستمر الأحداث في التطور فإذا الحشيش والأفيون والكوكائين وما إليها من ضروب المخدرات تأخذ سبيلها إلى أبناء الأعيان الذين وافتهم الحظوظ بالمزيد من المال، فراحوا يشترون به أصناف المتع التافهة والمدمرة، ويجرون إلى مزالقهم الآخرين من الشباب الذين فُرغوا مثلهم من كل وعي إسلامي، وسلبوا كل شعور بالمسئولية، فأصبحوا وليس لهم من صفات الأحياء إلا أنهم يأكلون ويدخنون ويسكرون ويحششون ولا يستحيون أن يتسكعوا في الشوارع وهم متعتَعون ومقهقهون.
إلا من رحم الله ... وقليل ما هم.(25/214)
قَاتِلٌ.... وَنَشتَريهِ!!
للشيخ محمد رجب حميدو
المدرسة الفيصلية المتوسطة – أبها
مدخنة تمشي على أرجل
يحذيك من دخانه القاتل
من قَطِران التّبغ أسنانُهُ
صفراءُ ذاتُ منظرٍ هائلِ
ورأسُهُ مشتعلٌ شيبُهُ
ناهيكَ عن هيكله الناحلِ
سعالُه حشرجةٌ مرةٌ
وأنفُه كالجدولِ السائلِ
لفافَةٌ تذيبه مثلما
يذيبها في زمنٍ عاجل
لا كان من يسعى إلى حتفه
بظلفه، أو عاش للباطل
فمنْ بلاياها وأدوائها
ما لم يَعُدْ يخفى على عاقِل
كالسُّم والسلَّ وآلامِهِ
وكل داءٍ بالفتى نازلِ
كم تتلفُ الأمةُ من مالها
في نزوةِ الأحمقِ والثاملِ
لو أنفقتْ في العلمِ ما أحْرَقَتْ
لم يبق بين الشعبِ من جاهلِ
أو كان في البرّ وأبوابهِ
ما وقعتْ عينٌ على عائلِ
لكنهُ التقليدُ قد جرَّناَ
إلى إتباع سَنَنٍ مائلِ
ومحنةٍ عمياءَ من شرَّها
لماَّ نَزَلَّ في شُغُلٍ شاغلِ
قد حار أهل الرشد في أمرها
واختلط الحابل بالنابلِ
لِفاَفَةٌ لَفَّتْ بأكفانها
قوافلاً من جيلها الهازلِ
أَنصارُها في الفتكِ (نرجيلةٌ)
و (بيبة) ، و (جوزة الخامل)
أربعةٌ تغتالُ أجسادَنا
تحت دخانِ لِيلِها اللاَّئلِ
كم من أبٍ مدخنٍ قاتلٍ
أبناءهُ ومجرمٍ غافلِ
وكم جنينٍ موتُهُ كائنٌ
من عادةِ التدخينِ للحاملِ
والأمُّ تسقي سُمَّ ما دخنتْ
رضيعَها من ثديِها الحافلِ
لِفافَةٌ من بعض إجرامهَا
إفسادُهَا للصالِح الفاضلِ
كأنَّها والنارُ في رأسِها
كنايةٌ عن شرَّها الماثلِ
وكل ما يأتيك عن ضُرّها
فرملةٌ من معظم الساحلِ
ولا يرى المتعةَ في شربِها
إلا وريثُ الحُمْقِ عن باقلِ(25/215)
يَا ضحَايَا الكيف ...
للشيخ يوسف الهمذاني الشافعي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
أَمِن الدنيا وغَرَّته رؤاها
وأبى إلا التردي في هواها
فإذا النور أراه زيفها
حطم المصباح كبراً وسفاها
ومضى يَخْبِطِ في عشوائها
ضَيَّع النور فأعماه دجاها
وإذا العقلِ تولى نوره
أضحت الدنيا ظلاماً ومتاها
أي نور بعد هذا يُرتَجَى
أي هَدْيٍ يُبلغ النفس هداها
هذه الدنيا كفينا شرها
كم أناس أسكرتهم بطلاها
كم حديث تكتم النفس إذا
فضحته الخمر شاهت ثم شاها
كم فِعالٍ قُبَّحَتْ تَأنَفُها
رُفِعَ الستر بها واسوأتاها
حرمات قد أبيحت جهرة
لم تجد من وازع يحمي حماها
أين عهدٌ توثق النفس به
وأماناتٌ أضيعت لهواها
أي مسخ يسخر الناس به
شاءه الله كريما فأباها
ضاق بالنعمةٌ والفضل كما
ضاق إبليس فأرداه شقاها
جعلوا الخمر دواء سفها
هل ترى الأنفس في حَتْفٍ شِفاها
كل يوم تخرج الدنيا لنا
مُلهيات تفقد النفس هداها
نفث الشيطان فيها كيده
فهي سم ليس ينجو من حساها
وترى الأفواج تهوى نحوها
ويباري كهلها فيها فتاها
أمَّل المفتون فيها سَلْوةً
ما الذي يُسليه عن مُرَّ شقاها
وترى الشيخ على شيشته
أو على السيجار لا يسلو هواها
إنها الدنيا أضلت أهلها
فتمادوا كلهم يبغي رضاها
ما لهم همٌّ سوى أن ينهلوا
عللا من لهوها أو من جناها
إنه داء الأولى قد جعلوا
من هواهم ومن (الكيف) إلها
لا يبالون بشيء بعدها
ضُبطَ الأمر أو انحلت عراها
وعلى التدخين كم من أمة
أقبلت من سمه تحسو رداها
فقد الناس إذن وَعْي الهدي
لم يعد من وازع.. من يتناهى.؟
كلما ازداد هوى شعب ذو سعة
زاد بُعْداً عن هدى الله وتاها(25/216)
فالعلاج الدين هل من صحوة
يا ضحايا الكيف ينجيكم هداها.؟!(25/217)
أَيُّها المدَخِنُ ...
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
يا من يُريدُ دَمارَ ويَهْوى
الموتَ منتحراً بلا سكين
لا تيأسنَّ فإن مثلَك واجدٌ
كل الذي يرجوه في التدخين
وبفضلِ جهلِك قد غدوتَ لصانعي
تلك السمومِ السودِ خيرَ مُعين
تحبوهمُ المالَ الذي لولاه لم
يجدوا السبيلَ لِكيدِ هذا الدين
وتخون حق الله في الجسد الذي
لا يستبيح أذاه غيرُ خئون
فاهنأ بما حققتَ للأعداء من
نصر وللشيطان من تمكين
ما كان إبليسٌ ليدرك غايةً
لولا غباوةُ حزبه المأفون
وبمن ينالُ مُناه إن هو لم يَجدْ
عوناً بكل مضلَّل مفتون!(25/218)
نظرات الطب الحديث في المسكِراتِ والمُخدَّراتِ
للدكتور إسماعيل صبحي حافظ
طبيب باطني بالجامعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فأقدم في هذا الموضوع ما توصل إليه الطب الحديث من كتاب هاريسون لعام 1980م (نظرات في المسكرات والمخدرات) حيث أصبح الطب ينقض بعض نظرياته السابقة التي يقول فيها ببعض الفوائد، مع أننا نحن المسلمين نصدق ونؤمن بما قاله أصدق القائلين سبحانه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} صدق الله العظيم في جميع ما قاله جل شأنه.
ونحن كذلك نؤمن بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر".
ولنا وقفة في هذا المجال حيث يجب علينا نحن المسلمين أن لا ننخدع بما يظهر به علينا العلم الحديث أحياناً من بعض الفوائد للأشياء المحرمة، حيث ما يقولونه اليوم، ينقصونه بعد فترة من الزمن، وما يكون لديهم اليوم حقيقة علمية ذات فوائد خفيت عنهم مضارها، تنكشف لهم مضارها في يوم آخر.
فالمشكلات الرئيسية في المجتمع الحديث تنصب على المسكرات والمخدرات، وإنما المشكلة النفسية الرئيسية هي: لماذا يستمر الإنسان على تعاطي هذه المواد مع علمه التام بما تسبب من أذى وضرر؟.
والمشكلة الطبية هي ما تولده من أمراض.
والمشكلة الاجتماعية هي ما تتضمنه من تأثير سيء على الفرد والأسرة والمجتمع والعالم بأسره.
والعدد الحقيقي لمدمني الخمر في الولايات المتحدة (10) مليون.
وعدد شاربي الخمر في الولايات المتحدة (60) مليون.
وفي بريطانيا يوجد مليون مدمن خمر.
وفي فرنسا يوجد 4 مليون مدمن خمر.(25/219)
وبالاستقراء يمكن إدراك ما يحدثه الكحول من دمار ونقص في الإنتاج وما يسببه من حوادث وجرائم، وأمراض عقلية وجسمية، وما ينجم عنه من تفكك عائلي.
"الكحول "أو الخمر:
ثبت في الطب الحديث أن الكحول الأثيلي هو الجزء الفعال في الخمر في جميع أشكاله فكل شراب يحوي الكحول الأثيلي أو الكحول المثيلي له صفة الإسكار وإن تفاوتت النسبة حيث إن بعضها يحوي 60% وبعضها الآخر يحوي 4% فكلها مواد مسكرة.
وقد ثبت أن البيرة والمشروبات الأخرى لا تعتبر ذات قيمة غذائية.
نظرات في التأثيرات الفيزيولوجية والنفسية للخمر:
1 – قالوا سابقا إن للخمر فوائد في توسيع شرايين وأوعية القلب ثم ثبت بأن الخمر تنكس ألياف العضلة القلبية بتثبيط خمائري، وتحدث الجلطة القلبية بشكل مباشر وغير مباشر.
2 – وقالوا سابقا إن الخمر تدفئ الجسم ثم أثبت الطب الحديث بأنها توسع الأوعية المحيطية، وشعور الإنسان بالحرارة الخارجية يكون على حساب امتصاص الحرارة المركزية، وقد يحدث الموت المفاجئ في المناطق الباردة.؟
3 – وقالوا إن الخمر يزيد الشهية ثم أثبت الطب اليوم أن الخمر يزيد الإفراز المخاطي بالمعدة وينبه أعضاء الذوق الإنتهائية، ومنه يثبط إفراز الحمض الضروري للهضم فيحدث عسر الهضم والتهاب حاد بالمعدة.
4 – والتأثير المنعش في حالات التعب ظاهرة فيها الرحمة وباطنها فيه العذاب، حيث إن هذا التأثير من شعور دماغي، ولكن على حساب العضلات المجهدة المنهكة.
5 – وأثبت الطب الحديث بأن الخمر تحدث إما نقصاً في سكر الدم أو الداء السكري وذلك بإصابة أماكن تولد الفليكوجين. وقد يحدث الحماض اللاكتائي حيث يتأكسد الكحول الإثيلي وبتحولات كيماوية يحدث الحماض.(25/220)
6 – والرأي الحديث يقول بأن الكحول مثبط للجملة العصبية وليس منشطا.؟ وبعض التأثيرات الظاهرة من التنبيه تعود لتثبيط بعض النوى تحت القشرية من الثرثرة والفعالية الشديدة. حيث يبدأ تثبيط القشر الدماغي. ويؤثر الكحول عكسياً على كل أشكال الأداء الحركي ووضعية الوقوف وضبط الكلام، وحركات العين.
ويقلل الكحول من كفاءات الأعمال العقلية، وينقص قوة الانتباه والتركيز، ويقلل من ملكات المحاكمة والتمييز، ويفقد القدرة على التفكير والتعقل بوضوح.
نظرات في الأمراض الناتجة عن الخمر:
أصبح ما ينتج عن الخمر من أمراض:
1 – التهاب المعدة ومنه عسر الهضم والألم الدائم بعد الطعام.
2 – تليف الكبد وهو سبب للموت المحقق.
3 – التهاب البنكرياس وهو سبب كذلك للموت المحقق.
4 – فقر الدم.
5 – مرض القلب الكحولي وهو سبب للموت المحقق.
6 – الذبحة الصدرية وتؤدي إلى الوفاة.
7 – السبات وفقد الوعي الكامل الذي يؤدي إلى الوفاة.
8 – التهاب الأعصاب وألم الأطراف المستمر.
9 – الخبل العقلي والشلل التشنجي.
نظرات الطب الحديث في الأخطار الناتجة عن شرب الخمر:
1 – التحلل الأخلاقي والجنون.
2 – انتشار الجرائم الجنسية وتفشي الشذوذ الجنسي بأنواعه المختلفة.؟
3 – انتشار الأمراض الجنسية كالسيلان والزهري خاصة في البلاد الغربية من مخلفات الإدمان المفرط.
4 – إيجاد الاستعداد الوراثي للإدمان حيث إن بذرة الإدمان تنمو بسرعة في تربة الإدمان العائلي.
5 – الخمر سبب مباشر وغير مباشر في 50% من حالات الوفاة في معمل الطب الشرعي في إحدى الولايات الأمريكية.
6 – فقد القدرات الدقيقة على الحكم والملاحظة والانتباه لدى السائق والطيار والبحار نتيجة تناول الخمر مما يعرضه وغيره للموت المحقق عند شربه قبل العمل أو أثناءه.(25/221)
7 – البطالة فيصبح المدمن عالة على غيره هو وأسرته.
8 – نقص الإنتاج والدخل القومي.
9 – قد يحدث سلوك مخرب غير معقول بسبب تناول كمية صغيرة من الكحول تغري بالشرب وتؤدي إلى الاستعداد للتحسس بالكحول بما يعرف بالحالة الزورية الكحولية الحادة فيقتل الكحولي بدون أن يشعر بأنه قام بهذا الفعل.
فهل هناك بعد ذلك شك في أن "ما أسكر كثيره فقليله حرام "؟ .
نظرات الطب الحديث في معالجة الإدمان وشرب الخمر:
طالعنا الطب الحديث بأن أساس المعالجة الناجعة للإدمان على شرب الخمر هو الانقطاع الكامل المطلق عن الشرب، الذي يمثل عملياً الحل الوحيد الدائم. ومن المتفق عليه طبياً أن أي محاولة لكبح عادة الشرب بالتقليل أو بالتدرج أو بالمناسبات ستفشل إذا استمر المريض على الشرب.
وهكذا فلن يكون هنالك لا حاضراً ولا ماضياً ولا مستقبلاً أفضل مما قاله الله سبحانه {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} .
وهل هناك أفضل علاج من قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
يقرأ منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فيقول الصحابة رضي الله عنهم: ربنا انتهينا.
وقد فشلت وسائل الإعلام في أمريكا الشمالية - في إبعاد الناس عن الخمر رغم ما كفلت الحملة الإعلامية عام 1920م من أموال بلغت حوالي 65 مليوناً من الدولارات، ورغم قانون منع المسكرات الذي يجعل عقوبة السكر السجن والغرامة من عام 1920 حتى 1936م ولم يُجْدِ هذا كله شيئاً - والذي يجدي فعلاً هو الوازع الديني يوجده هذا الإسلام العظيم.(25/222)
وقد فكرت جمعية الكحوليين المغفلين (AA) في أمريكا الشمالية وهي تتكون من الكحوليين السابقين الذين تركوا الكحول - وقدمت الأسس التي ترشد المدمن إلى الإقلاع عن الشرب – ولكن دون فائدة - والحقيقة أن الامتناع الكامل عن الشرب إنما يكون بالاستعانة بالله ثم الجم في ترك الشرب نهائياً.
نظرات في طرق مكافحة الخمر الوقائية:
1 – تدريس أضرار الخمر الطبية حيث يجب أن تكون جزءاً من المواد الدراسية التي يدرسها الطالب في الابتدائي والثانوي والجامعات.
2 – عرض أفلام تلفزيونية طبية عن أضرار الخمر.
3 – إلقاء محاضرات إذاعية قصيرة يشرح في كل محاضرة منها مرض من الأمراض التي تنتج عن شرب الخمر.
4 – عرض لقطات قصيرة وصغيرة عن كل ضرر من الأضرار الناتجة عن شرب الخمر.
5 – تزويد خطباء المساجد أو مدرسي العلوم الشرعية ببعض المعلومات الطبية لإضافتها على النواحي الشرعية عن أضرار الخمر ليكون وقعها في المسامع أفضل وأقوى.
6 – التدقيق في بعض المشروبات المستخرجة من التفاح والشعير المستوردة من الخارج، والتحقق من أنها غير مسكرة.
7 – عدم التساهل في بيع الكولونيا والعطورات التي تحوي الكحول لأن بعض ضعاف النفوس يشربونها بقصد السكر.
8 – إعداد جهاز مقياس الشرب يحمله شرطي المرور ليعرف السائق المخمور وذلك بهواء الزفير من السائق، فيمنع السكران من القيادة.
9 – يجب أن تعرض على الناس النتائج الطبية والاجتماعية السيئة التي تنجم عن الشرب المستمر، كما يُفَهَّم الناس أن الشرب باعتدال لا يمكن أن يتحقق لأسباب منها مثلا مرض السكر، فمريض السكر لا يستطيع الامتناع عن المواد السكرية.
10 – القيام بطرق شخصية تقدمها المستشفيات والمراكز الخاصة كأن تبغض الخمر لشاربيها مستعملة أدوية مقيئة.(25/223)
11 – الاستعانة بالطب النفسي لإقناع المريض بالمنطق والمحاكمة بأن الامتناع عن الشرب أفضل من السكر المقيئ.
"المخدرات "
1 – إن أكثر المدمنين من الشباب والأحداث المنحرفين الذين يعيشون في الأوساط الفقيرة وفي المدن الكبيرة.
ويبدأ تعاطي المخدرات في سن المراهقة بين 17 – 18 سنةً وثلثا المدمنين للمخدرات هم ممن دون 21 عاماً. والسبب الرئيسي هو معاشرة المدمنين، واستعمال الأدوية لغرض دوائي.
2 – يجب ملاحظة الأدوية التي لها تأثير مخدر، خاصة الأدوية التي تستعمل لأمراض عضوية. فمثلا دواء لوموثيل للإسهال له خاصة مشابهة للأفيون.
3 – يلاحظ أن 90% من المدمنين على الأفيون يشاركون في عمليات إجرامية.
4 – الاستعمال الدائم والذاتي لمتعاطي المخدرات هو أنه تطلب زيادة الجرعة ليحصل على نفس الشعور من الهيمنة والسعادة والتيه بعد استعماله الجرعة البدئية.
5 – المريض المدمن يحاول إخفاء إدمانه عن طبيبه.
6 – هنالك طريقة مخبرية تكشف المورفينات في البول، وتكشف أي جرعة مأخوذة قبل 24 ساعة.
7 – يمكن معالجة الإدمان بنوع من المخدرات أخف يحدث إدماناً من نوع آخر.
8 – يجب أن يعالج المدمن في بيئة خالية من المدمنين.
الجزء الفعال في المخدرات:
كل مادة نباتية أو تركيبية تؤخذ بطريق الحقن، أو الفم، أو الاستنشاق، أو الشيشة، أو السيجارة ولها صفة مفترة.
والمخدرات أنواع:
1 – مسكنات (كالأفيون ومشتقاته) .
2 – منومات (كالباربيتوريات) .
3 – مهدئات (كالفاليوم) .
4 – مهلوسات (كالحشيش والماريوانا والقات) .
5 – منبهات (كالامفاتامين والكوكائين) .(25/224)
وقفة مع طب الفم والأسنان وعلاقته بالكحول والإدمان
للدكتور أحمد كرات
طبيب الأسنان بالجامعة
أخي المسلم فمك أمانة منحها الله لك فهو المدخل لطعامك وشرابك وجهازك الهضمي، وفيه الأسنان واللسان ويحده من الخارج الشفتان وهكذا بفمك تتحدث وتنطق بالبيان فلا تأكل إلا الطيب الذي أحله الله، ولنتذكر دائماً أننا مراقبون في أقوالنا وأفعالنا فلا يصح أن ننطق أو نقول إلا بما يرضي الله، ولا نفعل إلا ما يحبه الله، والله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
إذا نظرنا إلى الفم وجدنا به الأسنان، والسن يتكون من التاج وهو الجزء الذي يظهر في تجويف الفم والجذر هو الجزء المدفون في عظام الفك والذي يرتبط بعظام الفك بواسطة غشاء يسمى peviodontal membrane ليحفظ السن ثابتاً في مكانه والتاج يتكون من طبقات، فالطبقة الخارجية وهي الميناء شديدة الصلابة ناصعة البياض نسبة الكالسيوم بها هي الغالبة، وطبقة الميناء هي التي تعطي للسن بريقه ولمعانه ويلي طبقة الميناء طبقة العاج ثم لب السن الذي يحتوي على خلايا وأعصاب وأوعية دموية ومحيط بعنق السن اللثة، ومحيط بالتجويف الفمي أغشية مخاطية تختلف في تكوينها وطبقاتها كل حسب وظيفته وموقعه ويوجد بالتجويف الفمي اللسان تلك العضلة المثبتة من الخلف في قاع الفم ويتحرك جزءه الأمامي في جميع الاتجاهات ويحتوي على حلمات حسية لتعرف المذاق الحلو والمر ويوجد أيضا بالتجويف الفمي سقف الحلق الذي يفصل بينه وبين التجويف الأنفي. كذلك يحتوي التجويف الفمي على الغدد اللعابية التي لها وظائف هضمية وهي الغدتان النكفيتان والغدتان تحت الفكين والغدتان تحت اللسان. وهي تفرز اللعاب ليختلط بالطعام فيسهل بلعه وهضمه ويرطب الفم فيسهل الحديث والكلام.(25/225)
إن الفم أول أجزاء الجسم تعرضاً للمسكرات والمخدرات والتدخين. فالمسكرات وما تحتويه من مواد كحولية لها التأثير الضار على الخلايا التي تحيط بالتجويف الفمي، فجسم الإنسان يتكون من أعضاء مختلفة والتجويف الفمي كأي عضو في الجسم يتكون من خلايا منتظمة التكوين لها شكل معين وتتراص في تركيب بديع، لتقوم بوظائف خاصة كل حسب موقعه، كل ذلك يقوم بنظام دقيق ليقوم كل عضو بوظيفته والكل يعمل في تعاون ونظام وتوازن الأنسجة والخلايا التي بالفم تقوم بأداء مهمتها ليكون الفم دائما في حالته الصحية ويقوم كل جزء بأداء عمله، وخلايا الفم تختلف في عدد طبقاتها وقدرتها على التحمل كل حسب موقعه ووظيفته.
إن التبغ بصوره المختلفة وبكل أنواعه ومشتقاته سواء كان على صورته والتي توضع في الفم مباشرة وتمضغ أو عن طريق التدخين بالسجائر والسيجار والغليون وما شابه ذلك له الأضرار الكبيرة على صحة الفم والأسنان وكذلك أيضا المخدرات والمسكرات وينتج عند تناول هذه الأشياء تغير في رائحة الفم مما يتسبب في بخر من الروائح الكريهة وفي هذا يكون الأذى للمخالط والمجاور وبالنظر إلى أسنان المدخنين نجد طبقات سوداء اللون غيرت من طبيعة ميناء الأسنان وجعلتها أكثر تعرضا للتلف فلقد أفقدها التدخين لمعانها وبريقها وجعل للجراثيم المرتع الخصب في المواد المتخمرة لنشر الالتهابات وتعريض السن للتسوس وجعل رائحة الفم عفنة.(25/226)
لقد أثبتت التجارب الطبية والأبحاث العلمية الأضرار والأمراض الناتجة من المسكرات والمخدرات والتدخين. فالمواد الكحولية وكذلك التبغ بكل صوره ومشتقاته الذي يدخل التجويف الفمي ويلامس خلاياه فالمسكرات تحتوي على الكحول والتبغ يحتوي على القطران والنيكوتين وكلها مواد سامة ذات تأثير ضار على خلايا الجسم المختلفة. تلامس هذه المواد السامة خلايا الفم فتصيبها وتحدث بها الكثير من التغيرات. لقد أدخلت في فمك الخطر وعرضته للمرض بتناول المسكرات والمخدرات وأرادت الخلايا أن تدافع عنك وتقاوم هذه السموم والأخطار ونتيجة للحرب بين الخلايا وسموم المسكرات والتدخين والمخدرات كانت الالتهابات التي تصيب الفم وأجزاءه المختلفة والتي تكون في بادئ الأمر بسيطة ثم تتطور لتكون حادة وكثيراً ما تكون صديدية تفرز الأذى والقيح والاستمرار في تعرض الخلايا لهذه السموم القاتلة يهلك هذه الخلايا الدقيقة التكوين ويضعف مقاومتها وتصبح عرضة لتتطور وتصبح أمراضاً خطيرة وخبيثة وهنا أوضح للقارئ ببعض الصور التي نشرت بالمجلات الطبية عن حالات تصيب الفم نتيجة التدخين والتي رأيت منها الكثير علاجي للمرضى وبخاصة في مصر.
العديد من المقالات الطبية والبحوث العلمية التي نشرت في العالم وتؤكد أن كثيراً من الأمراض التي تصيب الفم وتجعله معرضا للأورام الخبيثة السرطانية هي شرب المواد الكحولية والتدخين والتبغ بكل أنواعه.
1 – صورة للتجويف الفمي ويظهر في الشدق التهاب مزمن تحول إلى مناطق بيضاء(25/227)
إن الاستمرار في تناول المسكرات والمخدرات استمرار لتقديم المواد السامة والقاتلة التي تهلك خلايا الفم الدقيقة التكوين لتغير من طبيعتها فيتغير شكلها ونظامها وطبقاتها وتصبح في حالة عدم توازن وتستعد هذه الخلايا لمقاومة هذا الخطر بأجهزتها الدفاعية لتلتهم وتحاصر هذه المواد الضارة لتدفعها وتتخلص منها وينتج عن تلك الالتهابات التي تصيب الفم وأغشيته المختلفة وتعرض اللثة للالتهابات الصديدية والمتقيحة والمتقرحة وتصبح الأسنان فريسة للتخلخل بل وبؤرة صديدية تفسد الجسم. وبازدياد هذه السموم والمواد القاتلة الناتجة عن المسكرات والمخدرات تعجز الأجهزة الدفاعية عن مقاومة هذه الأخطار التي تهددها باستمرار في تعاطيها المسكرات والمخدرات وفي تقديم موادهما السامة إليها لتظهر بقعاً وقطعاً بيضاء الليكوبلاكيا leukoplakia وهي تظهر في منطق مختلفة من الفم أحياناً في الشدق كما في منظر (1) أو على الشفاه أو على سطح أو أسفل اللسان، وهذه القطع البيضاء معروفة بالليكوبلاكيا تأخذ أوضاعا مختلفة حسب تأثيرها على الخلايا كما هو واضح في الشكل (2)
(2) صورة للفم تظهر فيها بوضوح الإصابة بالليكوبلاكيا
ويمكن للطبيب تشخيص الإصابة بالليكوبلاكيا بشكلها وتكوينها وأسبابها التي منها تناول الكحول والتدخين والمخدرات وهذه الحالة المرضية تظهر بوضوح تحت المجهر ومن مميزاتها اختلال في طبقاتها الخارجية وهو ما يسمى يالهيبركيراتوزيس hyperkeratosis(25/228)
إن مرض الليكوبلاكيا الذي يصيب الفم مرض خطير لأنه المنذر بأن الأمر سيكون خطيراً حيث تفقد الخلايا سيطرتها على الانقسام ويتغير شكلها ونظامها وتختل طبيعتها وتتكاثر بغير نظام لتأخذ صورة همجية وتفقد تعاونها ووظيفتها وتصبح عالة على الخلايا السليمة الصحيحة تسلبها خصائصها وتمنعها من أداء وظيفتها بل وتؤثر عليها وتصعقها وتجعلها فريسة لها بل وتورثها صفاتها الخبيثة، عند ذلك يستفحل المرض وتكون الأورام التي كانت في بدايتها حميدة ثم تحولت لتكون خطيرة وخبيثة.
وهناك العديد من الأمثلة والكثير من الصور التي توضح وتعطي صورة حية لهذا الوبال الخطير الذي يهدد البشرية بأجمعها إنه السرطان ومن أهم أسبابه تناول الخمور والتبغ والمخدرات.
منظر (3) توضح قرحة بسقف الحلق نتيجة للتدخين
بالرغم من الإعلانات والدعاية الخادعة للتدخين والتي تدعي بأن السيجارة متعة وأنها سلسة ودعايات أخرى بأنها تحتوي على أقل نسبة من القطران والنيكوتين إلا أن منظمة الصحة العالمية بعد التأكد بأن للتدخين مضاره على الجسم والإصابة بالأورام الخبيثة أمرت بالكتابة على علبة بأن التدخين ضار بالصحة ويسبب السرطان فننصحك بالامتناع عنه.
منظر (4) صورة للتجويف الفمي تظهر فيه الليكوبلاكيا على سقف الحلق والشفاه من تأثير التبغ
أخي المسلم عد إلى رشدك واحفظ دينك ومالك ونفسك وعقلك وبدنك وتناول في فمك ما أحله الله لك وحذار أن تضع في فمك ما حرمه الله فكيف يستجاب لنا الدعاء.(25/229)
تذكر أن الطعام الذي تدخله في فمك بيديك وتقطعه بأسنانك وتطحنه بأضراسك وتقوم أجهزتك الهضمية بإعداده ليكون مهضوما ليجري في الدم فيبني خلايا الجسد لابد أن يكون حلالاً طيباً. ابتعد عن تناول كل ما حرمه الله فالمعجزة التي نزل بها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هي القرآن إنه المعجزة التي أحلت للناس الطيبات وحرمت عليهم الخبائث. فليكن فمك طاهراً فتكون ممن يجاب لهم الدعاء.
انظر تأثير ما حرمه الله عليك وهذا منظر للتجويف الفمي وتحولت الليكوبلاكيا التي أصابت المنطقة التي تحت اللسان فحولتها إلى سرطان منظر (5) .
منظر (5) صورة لمنطقة تحت اللسان وقد تحولت الليكوبلاكيا إلى سرطان خبيث
إن الله سبحانه وتعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لما فيه من الضرر والمفسدة على صحة الإنسان سواء العقلية أو الفكرية أو الجسدية فالله سبحانه وتعالى حكيم عليم. ولقد أوضحت بعضاً من الحكم في أسباب تحريم المسكرات والمخدرات وآثارها الخبيثة على صحة الإنسان.
على المسلم أن يكون حذراً من مقارفة الحرام أو تناوله أو تناول أي شيء منه حتى ولو لم تكن هناك حكمة ظاهرة لنا حينئذ تكون الحكمة فيها تعبدية ولا يزال الإنسان قاصراً عن إدراك الكثير من الحكم ولتكن أعمالنا وأفعالنا وأقوالنا في طاعة الله وطاعة رسوله.
لقد أوجزت قليلا من كثير مما تسببه المسكرات والمخدرات والتدخين على صحة الفم والأسنان، وسيظل العلم يبحث ويكتشف الكثير والجديد من آثارهما الضارة وفي نفس الوقت سيظل العلم عاجزاً للوصول إلى الحكم الكثيرة في تحريم الخمر وكذلك المسكرات والمخدرات.(25/230)
لقد سمعنا نداء الحق وكلنا مسئولون أمام الله عن المال فيم أنفقناه وعن الوقت فيم أضعناه وعن الشباب والصحة فيم أفنيناهما فلا تدخل فمك السموم والمنكرات وندعي بأن التبغ والدخان عادة لا تستطيع الإقلاع عنها وأن فيها متعة الراحة والتخلص من الأزمات وأحياناً تدعي بان الدخان فيه وقاية لك من الأمراض والميكروبات لأن عملك فيه المخالطة والمجاورة بالمرضى والصواب هو ضدٌ ما تدعيه لأنك تقدم الأذى والشر للمخالطين وكل من حولك لأنك تبثهم ما تلفظه من سموم الدخان الذي يحمل القطران والنيكوتين وزودته بغاز فاسد هو ثاني أكسيد الكربون وكلها مواد مؤذية مهلكة.
أخي المسلم: عد إلى رشدك فلقد ميزك الله بالعقل فلا تضيع مالك ووقتك وصحتك وتعرض نفسك للمعاصي وعقلك وجسدك للأمراض وانظر إلى الأضرار الجسيمة التي تخلفها المسكرات والمخدرات. انظر إلى الصورة رقم (6) لترى النجويف الفمي وقد أصيب الركن الأيمن من الفم بالسرطان نتيجة للتبغ.
(6) صورة توضح التجويف الفمي وقد تحولت منطقة الليكوبلاكيا leukoplakia بركن الفم الأيمن إلى سرطان نتيجة الإدمان والتدخين.
فليكن لنا في السابقين الأولين من السلف الصالح من هذه الأمة القدوة الحسنة، فلقد أطاعوا الله ورسوله وجاهدوا في الله حق جهاده وفتحوا الأقطار والأمصار وخضعت لهم الجبابرة والقياصرة بقوة إيمانهم وكريم خصالهم وسلوكهم فكانت لهم القيادة وكان لهم النصر والفتح المبين لأنهم أقبلوا على الله معرضين عمن سواه حتى تم لهم اليقين وبلغوا درجة المقربين.(25/231)
الخمْرُ وتَأثيرها على العيُونِ
للدكتور فكري السيَّد عوض
طبيب العيون بالجامعة
* سنتعرض في بحثنا هذا بمشيئة الله تعالى وعونه على تأثير الخمر السيئ على العين وسنكتفي بعرض تأثيرها على كل من: العصب البصري، العضلات المحركة للعين، الأوعية الدموية التي تغذي العين.
- الخمر ما هي إلا مشروبات تحتوي على كميات متفاوتة من الكحول، وعلى حسب تركيز الكحول تختلف مسمياتها. والكحول هو الذي يسبب جميع الآثار الضارة تنتج من شرب الخمر.
والكحول مركب كيميائي له صفات وخصائص معينة فهو مكون من ذرات من الكربون وذرات من الهيدروجين وتنتهي بمجموعة من الهيدروكسيل (OH) . فيكون رمزه هكذا [C-H….OH]
- وأكثر الأنواع انتشاراً هو الكحول الإيثيلي:
وله استخدامات كثيرة منها:
أ – في الطب:
1 – يستعمل كمطهر.
2 – مذيب للمواد العطرية ويستخدم بكثرة في صنع الروائح.
3 – مذيب لبعض الأدوية (الأدوية التي تتكون من مواد دهنية أو قلونية فإنها لا تذوب إلا في الكحول) .
ب – في الصناعة:
1- مذيب للمواد الدهنية.
2 – يستخدم في ضغط بعض المواد.
3 – كما انه مقاوم للتجمد.
- أما الكحول المثيلي (كحول نشارة الخشب) فهو أسوأ أنواع الكحول من الناحية السميَّة.
- ويتكون الكحول الإيثيلي من تحليل المواد السكرية الموجودة في الفواكه، أو تحليل المواد النشوية الموجودة في الشعير، وذلك بإضافة الخميرة إليها بكمية معينة، في درجة حرارة معينة، فيحدث التخمر الذي هو تكوين الكحول.
* امتصاصه من الجسم وتوزيعه:(25/232)
يدخل الكحول إلى الجسم عن طريق المشروبات، ويمتص من الفم، أو من المعدة، أو من الاثنى عشر، ويكون الامتصاص سريعاً إذا كانت المعدة خالية وكانت نسبة تركيز الكحول قليلة، أما إذا كانت نسبة تركيز الكحول عالية والمعدة ممتلئة بالطعام فعند ذلك يكون الامتصاص بطيئاً، ويذهب بعد ذلك عن طريق الأوعية الدموية إلى الكبد، وهناك يتحول من الكحول إلى حامض الخليك ثم يتأكسد، وهذه العملية تحتاج إلى كمية كبيرة من فيتامين ب المركب وبالذات فيتامين ب1 مما يؤدي إلى نقص كبير في هذا الفيتامين بالإضافة إلى نقص في كمية البروتينات الدهنية، علاوة على أن خلايا الكبد تتأثر تأثراً مباشراً به، وبعد ذلك يتوزع تأثيره على جميع أنسجة الجسم.
* فما تأثيره على العين.؟
من الحقائق التشريحية الثابتة:
أن الجهاز العصبي يتكون من نوعين يجب معرفتهما حتى يسهل معرفة تأثير الكحول على العين:
1 – جهاز عصبي مركزي (central nerveous system) : وهو يتكون من المخ وما به من مراكز للبصر، ومراكز للسمع، ومراكز للنطق......
2 – جهاز عصبي فرعي (peripheral nerveous system) : وهو عبارة عن ثلاثة أقسام:
(أ) أعصاب مخية (cranial nerves)
- وهي تخرج من جانبي المخ لتصل إلى العين وإلى الوجه وإلى جميع أجزاء الجسم.
- عددها اثني عشر زوجاً من الأعصاب.
- والذي يهمنا منها ما يتعلق بتأثير الكحول على الأعصاب المتعلقة بالعين وهو:
xx العصب المخي الثاني: وهو يسمى بالعصب البصري (يختص بحاسة الإبصار)
xx العصب المخي الثالث: وهو يختص بتحريك معظم عضلات العين.
xx العصب المخي الرابع: وهو يحرك عضلة واحدة من عضلات العين (العضلة المنحرفة العليا) .
xx العصب المخي السادس: وهو يحرك عضلة واحدة من عضلات العين (العضلة المستقيمة) .(25/233)
(ب) أعصاب نخاعية شوكية: وعددها واحد وثلاثون زوجاً. وتخرج من العمود الفقري.
(ج) أعصاب لا إرادية: (antonomic nerveous system)
وهي تعمل بدون تدخل الإنسان عند الحاجة إليها وقسم منها يسمى الأعصاب التعاطفية أو الودية حيث تتعاطف مع الإنسان في حالات الخوف أو القتال فنجد أن حدقة العين تتسع وتجحظ العضلات وتنتفخ الأوداج، وتسرع ضربات القلب ويرتفع الضغط: وعندما يذهب الخوف ويعود الهدوء يعود القسم الآخر من الأعصاب (وهو ما يسمى بالأعصاب نظير التعاطفية) للعمل.
بعد هذا العرض ندرك أن الأعصاب التي تتعلق بالعين:
- إما عصب يختص بالإبصار (وهو العصب البصري) .
- وإما أعصاب تحرك عضلات العين (وهو العصب المخي الثالث والرابع والسادس) .
- وإما أعصاب لا إرادية لتحريك مقلة العين، وانقباض أو استرخاء الأوعية الدموية.
- وإما مراكز في المخ تختص بالإبصار.
فماذا يفعل الكحول على هذه الأعصاب السابقة؟
يؤثر الكحول على الجهاز العصبي إما تأثيراً مباشراً وذلك بضمور بعض الخلايا العصبية وعندئذ تتأثر جميع الإحساسات (من رؤية الأشباح، وسماع أصوات موهوبة، وشم رائحة غير موجودة لا وجود لها) .
- وإما يكون تأثير الكحول تأثيراُ غير مباشر وذلك للنقص الشديد من فيتامين ب المركب.
التهاب عصب العين المؤدي إلى العمى:
- يحدث ذلك عند مدمني الكحول وبالذات إذا كان الشخص يشرب الخمر وهو في نفس الوقت من المتعودين على التدخين حيث تتعاون المادتان السامتان في كل من الكحول والتبغ على إحداث العمى.
- والتهاب العصب البصري هذا يكون من النوع المزمن وهو ما يعرف (toxic ambolygria) ويحدث فيه تحطيم لألياف العصب البصري نتيجة سموم خارجية ومن أهمها:
(التبغ – والكحول الإيثيلي – والكحول الميثيلي ... ) .(25/234)
* تأثير الكحول الإيثيلي على العصب البصري:
- يتراوح عمر المريض من الخامسة والثلاثين إلى الخمسين من عمره.
- يبدأ المرض بأن يشعر المريض بأن هناك ضباباً أو شبورة أمام نظره وعلى الأخص في المساء أو في الضوء الخافت، ثم تأخذ الرؤية المركزية في النقصان تدريجيا بمعنى أن القراءة والأعمال القريبة تصبح صعبة.
- ويحدث ذلك في كلتا العينين إلا أن إحداهما تتأثر أكثر من الأخرى.
- وبفحص قاع العين تظهر علامات معينة، وبفحص مجال الرؤيا تظهر عتامات فيه ومبادئ في عمى الألوان وبالذات للون الأحمر.
- ثم تفقد الرؤية المركزية بعد ذلك (فلا يستطيع القراءة ولا يستطيع ممارسة الأعمال القريبة) لكن من الممكن أن يرى من الجوانب إذا أراد المسير.
- يحدث تحلل وضمور في نوع خاص من خلايا الشبكية.
- علاج مثل هذه الحالات إذا اكتشفت مبكراً: هو أن يتوقف المريض عن شرب الكحول ويمتنع عن التدخين نهائياً، ويعطي جرعة كبيرة من فيتامين ب المركب وبالذات B12) (Thiamine and
* تأثير الكحول المثيلي على العصب البصري:
* يحدث ذلك في المناطق التي يمنع فيها من تناول الخمور.
* ونظراً لأنه سام جداً فإن الحكومات تضيفه عمداً إلى الاسبيرتو (الذي يستخدم في الوقود) حتى لا يشرب.
ولذا كان شرب السبيرتو مميتاً في الحال بخلاف بقية الخمور من حيث أنها تميت ولكن على فترات متباعدة.
- وهو يتحلل في الجسم إلى فورمالدهيد + حامض فورميك.
- والتسمم به له حالتان إما تسمم حاد أو مزمن.
- ويصاب المريض بالغثيان، والصداع، وزغللة في عينيه، ثم إغماء.
- وإذا فرض أن المريض أنقد، فإن البصر يقل بسرعة عجيبة، بادئاً بمرحلة ضيق مجال الرؤية إلى أن ينتهي بالعمى نتيجة ضمور في العصب البصري (primary optic atrophy) وذلك نتيجة لتحلل خلايا العصب بادئاً من الشبكة ويظهر ذلك بفحص قاع العين.(25/235)
* هذا ما حدث للعصب المختص بالإبصار، وهو العصب البصري.
فماذا يحدث للأعصاب الأخرى؟ أي المختصة بحركة العين.
* في الغالب يحدث نتيجة تأثير الكحول على محاور الأعصاب (لأن كل عصب يتركب من محور أسطواني (Axis Cylinder) ويغلفه غشاء (Myelin Sheath) فإذا ما حدث تحلل لمحور العصب يكون ذلك مميتاً للعصب إلا إذا توقف مبكرا عن الشراب ثم أخذ كميات كبيرة من فيتامين ب المركب (لكن إذا حدث تحلل في الغشاء الذي يغلف المحور فإنه يعود مرة أخرى. والخطر الذي يحدثه الكحول هو على محور العصب نفسه. وهنا تكمن الخطورة.
* ويلاحظ أن بعض الحالات المتأخرة في أمراض العيون مثل (Absolute Glaucoma) وهي المياه الزرقاء التي تصيب العين وتصل إلى مرحلة العمى ولا يصلح معها العلاج وتصبح العين فيها ألم شديد جداً إذا وافق المريض على استئصال هذه العين لإراحته من هذا الألم الشديد وإلا فإنه يعطى حقنة تخدير خلف العين ثم بعدها بدقائق يعطى حقنة من الكحول تركيزه 80% خلف العين حتى يتخلص من هذا الألم لإحداث شبه شلل بأعصاب العين لكن بالطبع هذا له مساوئه العديدة التي منها عدم حركة العين، وكذلك ارتخاء الجفن، وكذلك التهاب القرنية.
لكن أشرنا إلى ذلك فقط من باب تأثير الكحول المباشر على الأعصاب وما ينتج عنه من تلف.
- كذلك فإن من الآثار السيئة للكحول على أعصاب العين المغذية للعضلات حيث يؤدي إلى اضطراب في حركتها مما يؤدي إلى الرؤية المزدوجة (Diploysia) ، فيرى المريض الشخص شخصين، وهكذا يرى كل شيء مزدوجا مما يؤدي له الانزعاج الشديد والحرج البالغ.
وأكثر أعصاب العين إصابة هو العصب المخي السادس (العصب المُبَعَّدْ) (Abducent Nerve) فنجد كلما التفت المريض يميناً أو يساراً يرى الشيء شيئين.
- أما في حالات السكر:(25/236)
فإنه يحدث تخدير خلايا المخ، فتنعدم الرؤية الواضحة، يحتقن العينين والوجه وقد يرى الشيء شيئين وتبدأ الرأرة في العين (اهتزاز العين بحركة بندولية – (Nystag Mous)
- وعلى هذا فإن المدمنين للكحول نجد أن ملتحمة العين دائما محتقنة، ونجد كذلك أن الجفون محتقنة والتهاب في حافة الجفون.
لكن في بعض الحالات بدلا من أن تكون الملتحمة محتقنة نجدها صفراء وهذا يحدث في مرض اكتشفه الطبيب زيف (Zeive)
ما هو مرض زيف؟ (Zeive` s Syndrome)
* هو مرض خطير لا يصيب إلا المدمنين، لكنه لا يصيب جميع المدمنين. ويحدث فيه اختلال في وظائف الكبد وتضخم في الكبد.
* وينتج منه تحلل كرات الدم الحمراء بكميات هائلة حتى تسبب فقر دم شديد.
* وينتج عن ذلك مرض اليرقان الذي يحدث عنه اصفرار جميع أجزاء الجسم وكذلك ملتحمة العين.
* وقد لاحظ الطبيب زيف أنه مع توقف شرب الكحول وأخذ العلاج اللازم يتماثل المريض للشفاء وإلا فمصيره الدمار والهلاك.
وماذا عن مرض فيرنيكي الدماغي: (Wernicke – encephalopacy)
- إنه يكون عند المدمنين للكحول (نتيجة نقص شديد في فيتامين ب المركب)
- ويصيب المنطقة الوسطى من الدماغ حيث يخرج من هذه المنطقة العصب المحرك الثالث، والرابع اللذان يقومان بحركة عضلات العين، كذلك في هذه المنطقة يوجد المركز الخاص باليقظة، ولذلك يصبح المريض في حالة كسل وخمول بالإضافة إلى أنه يرى الأشياء مزدوجة.
* الخمر وعمى الألوان:
توجد في شبكية العين (وهي تتكون من عشر طبقات فوق بعضها) في طبقة واحدة منها ما يختص بالرؤية حيث يوجد فيها نوعان من الخلايا يقومان بذلك:
النوع الأول: العصايا (Rods) وتختص بالرؤية الضعيفة (Scotopic Vision)
النوع الثاني: المخاريط (Cones) وتختص بالرؤية النهارية أو الرؤية المركزة.(25/237)
أما كيف تحدث الرؤيا وتظهر الأشياء ملونة فهذا له نظريات متعددة وليس مجال بحثنا لكن في بساطة أن الشعاع الضوئي يمر في أوساط مختلفة من العين حتى يقع على الشبكية فتقوم الخلايا الحساسة للضوء (العصايا والمخاريط) بترجمتها إلى شكل سيولة عصبية تنقلها إلى العصب البصري الذي يوصلها إلى المخ.
والأمراض التي تصيب العين بعمى الألوان من جملتها التسمم المزمن بالتبغ والخمر حيث يؤثر ذلك على الخلايا الحساسة لاستقبال الضوء، أو يؤثر على العصب البصري الذي ينقل الصورة ملونة (يحتوي العصب البصري ما يقرب من مليون جهاز ملون أي ألياف عصبية) وفي الغالب لا يكون عمى الألوان لجميع الألوان ولكن لبعضها دون الآخر أي يميز بعض الألوان، والأخرى لا يميزها.
تأثير الخمور على مرحلة "نوم حركة العين السريعة": (Rapid Eye movement sleep)
إن نوم الإنسان الطبيعي يشمل مرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة النوم العميق:
ومدتها حوالي ساعة ونصف _ وتقل فيها سرعة النبض وضربات القلب، وتقل سرعة التنفس، ويقل فيها ضغط الدم.
المرحلة الثانية: مرحلة نوم حركة العين السريعة:
- ومدتها من خمس إلى عشر دقائق تقريباً.
- حيث تتحرك مقلة العين حركة سريعة (بالرغم من أن الإنسان في نوم – وبالرغم من أن الجفن مغلق - وأمكن تصويرها بالأشعة تحت الحمراء وأمكن مشاهدتها وهي تتحرك بسرعة كبيرة تحت الجفن المغلق) ، فإذا استيقظ الشخص في هذه الفترة يتبين أنه يحلم.
- وإذا كان نوم الشخص خاليا من هذه المرحلة يصبح في تعب وإرهاق ولا يشعر أنه قد أخذ نصيبه الكافي من النوم. فهي تعتبر مرحلة ضرورية للنوم.
- ويتكرر ذلك كل ليلة حوالي أربع أو خمس مرات.
* وقد وجد أن من إحدى الأسباب التي تؤدي إلى انعدام حركة العين السريعة هو الكحول. وبالتالي يفقد الإنسان النوم الضروري له.(25/238)
* ووجد أنه عند المدمنين إذا سحب الدواء أو امتنع المدمن مرة واحدة عن شرب الكحول فإن النوم كله يتحول إلى مرحلة نوم حركة العين السريعة. وهذا يسبب له هيجاناً شديداً ولذلك عند معالجة هؤلاء يتبع معهم نظام دقيق جدا داخل المستشفيات المعدة لذلك.
تكلمنا عن تأثير الكحول على الأعصاب المخية وعلاقتها بالرؤية والألوان وحركات العين.
بقي أن نعرف تأثير الكحول على الأعصاب اللاإرادية:
تقوم الأعصاب اللاإرادية بإرسال الأوامر إلى الأوعية الدموية حسب ضرورة الجسم بدون تدخل من الإنسان، ولكي ندرك تأثيرها في الأوعية الدموية لابد من معرفة تركيب الشريان حتى نعرف في أي طبقة تؤثر الأعصاب وما نتيجة ذلك.
يتركب الشريان من ثلاث طبقات:
1 – الطبقة الأولى: وهي الطبقة الداخلية (Intima) وهي التي تبطن الوعاء الدموي ولذلك فهي ملساء ناعمة جداً، وأي خلل أو خدش أو خشونة فيها ينتج عن ذلك الجلطة الدموية التي تؤدي إلى ضيق أو قفل الشريان.
2 – الطبقة الثانية: وهي الطبقة العضلية (Muscular Layer) وهي تتكون من عضلات تتغذى بالأعصاب اللاإرادية فهي التي تأمر تلك العضلات بالانقباض (فيضيق الوعاء الدموي) بدون إرادة من الإنسان.
3 – الطبقة الثالثة: وهي طبقة مصلية مغلفة للعضلات، وأهميتها أقل من الطبقتين السابقتين.
فماذا يحدث لهذه الطبقات عند المدمنين للخمر؟
أولا: الكحول كما هو معروف أنه يزيد من نسبة الدهنيات في الدم، وخاصة نسبة الكوليسترول وإذا زاد الكوليسترول فإنه يترسب في الأوعية الدموية (تحت الغشاء الداخلي المبطن للوعاء الدموي) .
وكما هو واضح من الرسم أن ترسيب الكوليستيرول يؤدي إلى:
1 – تصلب في الشرايين الذي يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم.(25/239)
2 – ضيق في الأوعية الدموية الذي يؤدي إلى تباطؤ في سرعة الدم وترسيب صفائح الدم حيث تتكون الجلطة الدموية. وأخطر ما تكون إذا كانت في القلب حيث تؤدي إلى الوفاة، أو إذا كانت في الأوعية الدموية التي تغذي فتحدث شللا، وأما إذا كانت في الشريان الرئيسي المغذي للعين فإنه يحدث العمى المفاجئ.
ثانيا: في الشخص الطبيعي: إذا كان مستلقيا على ظهره وأراد الوقوف فجأة فإنه بتأثير الجاذبية فإن الدم من المفروض أن يتجمع في الأوعية الدموية التي في الأجزاء السفلي من الجسم، لكن على الفور يقوم الجهاز اللاإرادي بموازنة تلك الحالة فيرسل أوامره إلى العضلات الموجودة في جدار الأوعية الدموية للانقباض حتى تدفع الدم إلى أعلى.
هذه الخاصية تفقد في عدة أمراض من بينها المدمنين على الخمور وذلك لسببين:
أ – لتأثير الكحول على الأعصاب اللاإرادية فلا يحدث التأثر الكافي.
ب – لتصلب الشرايين الناتج من الكوليستيرول المترسب فيها فلا يحدث الانقباض اللازم وعلى ذلك يبقى معظم الدم في الأجزاء السفلي وينتج عن ذلك عند النهوض من وضع الاستلقاء أن يقل الدم الواصل إلى المخ ويظهر ذلك في صورة الشعور بعدم الرؤية الواضحة لفترة قليلة والدوخة والصداع وقد يؤدي إلى الإغماء.
وهكذا نجد أن تأثير الكحول له مضار متعددة على كل مستوى من مستويات العين سواء على مستوى الأعصاب المخية أو الأعصاب التي تحرك عضلات العين أو الأعصاب اللاإرادية المختصة بالأوعية الدموية.(25/240)
فاجتنبوه لعلكم تفلحون
للشيخ أبي بكر الجزائري
الأستاذ بالدراسات العليا بالجامعة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد فقد قال العلماء: "معرفة سبب نزول الآية يساعد على فهمها".
ومن هنا نورد لك أيها القارئ سبب نزول هذه الآية ليعينك على فهمها بإذن الله تعالى.
روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهم: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: فيَّ نزل تحريم الخمر، وذلك أن رجلا من الأنصار صنع طعاماً فدعانا فأتاه ناسٌ فأكلوا وشربوا حتى انتشوا [1] من الخمر، وذلك قبل تحريم الخمر، فتفاخروا، فقالت الأنصار: الأنصار خير، وقالت قريش: قريش خير! فأهوى رجل بلحْيِ [2] جزور فضرب على أنفي ففزره [3] فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... الآية} .
ولما كان فهم الآية الكريمة يتوقف على فهم كلماتها فإنا نشرح لك أيها القارئ الكلمات التي نرى شرحها ضروريا لما فيها من خفاء لعدم استعمال الناس لها في مخاطباتهم اليوم وهي:
آمنوا: معناها: صدقوا جازمين بالله رباً وإلهاً حقاً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وبالإسلام ملة ودينا، وبلقاء الله تعالى وصادق وعده لأوليائه وأهل محبته، ووعيده لأهل عداوته وبغضته.
إنما: هذا الحرف أداة قصر بمعنى أن المحرمات الأربعة التي اشتملت عليها الآية الكريمة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام مقصورة على الرجس فليس فيها خير ولانفع ولا شيء آخر أبداً إلا الرجس فقط.(25/241)
الخمر: هذا الفظ مأخوذ من التخمير الذي هو التغطية والستر، ومنه خمار المرأة المسلمة التي تغطي بهاراسها وتستر به محاسن وجهها قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ} .
وفي الحديث الشريف: "خمّروا الإناء بالليل" أي غطوه واستروه حتى لا يقع فيه ما يفسد ما فيه، فسميت الخمر خمراً لأنها أولا تخمر في إناء وتغطى حتى تشتد وتقذف بالزبد، وثانيا تغطي شعور شاربها وتستر عقله حتى يصبح لايعي ما يقول ولايدرك عاقبة ما يفعل، ولذالك حرمت، وأصبح كل مسكر خمرًا، وكل خمر [4] حرام، وما أسكر قليله فكثيره حرام.
الميسر: هذا الفظ مشتق من اليسر والسهولة؛ لأن المال المتحصل به يحصل بسهولة ويسر أي بدون تعب ولاحصول مشقة، ولا يبعد أن يكون مشتقا أيضا من اليسار الذي هو السعة والغنى، هذا وجه اشتقاق كلمة الميسر، أما حقيقته فهو كل أنواع القمار التي يحصل بها المال بلا كلفة ولامشقة كلعبة الطاولة والنرد والشطرنج والكعاب والجوز والكيرم والورق والدمنو وما إلى ذلك من أنواع الألعاب غير ما أبح الرسول صلى الله عليه وسلم من الرماية والمناضلة والسباق.
الأنصاب: جمع نصب بفتح النون والصاد، أو نُصْب بضم النون وسكون الصاد، حجارة تنصب للعبادة، وكل علم أو تمثال، أوصنم عبد من دون الله تعالى، وتحريمها يشمل عبادتها أو إيقاع العبادة عندها، أو صنعها أو بيعها وشراءها او الرضا بها.(25/242)
الأزلام: جمع زُلَم بضم الزاي وفتح اللام كصُرَد – طائر معروف – والزلم سهم لا ريش عليه ولا نصل فيه. ويقال له قِدح وجمعه إقداح وأقداح وهو سهم الميسر، كان العرب في الجاهلية يستقسمون بها أي يتعرفون بها إلى ما قسم لهم وقدر من خير أو شر وكيفية الإستسقام بها: أن يكتب على أحدها: أمرني، وعلى الثاني: نهاني، ويترك الثالث غفلا ليس عليه علامةن فإذا أراد أحدهم أن يسافر أو يتاجر أو يحرث أو يبني أو يتزوج وهو لا يدري الخير في أيها يدخل تلك القداح في خريطة ويحركها ويخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه أمرني فعل ما أقدم عليه، فإن كان الذي عليه نهاني ترك ما عزم عليه من الأمور، وإن خرج بعد تخليط القداح وتخليطها في الخريطة القدح الغفل أعاد تخليط القداح وتحريكها وأخرج واحداً منها ويعمل بمقتضاه.
ولما جاء الإسلام رحمة الله للعامين حرم الإستقسام بالأزلام ومثله خط الرمل والحساب بالمسبحة، وقرعة الأنبياءن والشوف، والنجوم، والطيرة، والعرافةن والكهانة.
وأعطى المسلمين أحسن بديل وهو الإستخارةن وحقيقتها: إذا أراد المسلم أمرًا كزواج أوطلاق أو تجارة أو حرث أو بناء أو بيع أو شراء أو سفر أو إقامة ولم يدر الخير في أيها صلى ركعتين [5] وسأل الله تعالى أن يختار له ما فيه خيره عاجلا أو آجلا.(25/243)
رجس: أي مستقذر فالرجس هو ما استقذر من قول أو عمل أو اعتقاد، والرجز: العذاب مستقذرا كالأوبئة والركس: النَّجس مساً كالروث والعذرة، والنَّجس – فَعِلُ كفرح – المتلوث بالنجاسات ويكون مساً كالجسم المتنجس لما خالطه من أنواع النجاسات، ومعنى كأرواح المشركين والكافرين وأرواح الشياطين وهي أن الرجس في الآية التي نشرحها خبر –والخبر وصف في الحقيقة – عن الربعة المحرمة وهي الخمر والميسر والأنصاب والزلام، إذ ما من واحد منها إلا وهو رجس مستقذر شرعا وعقلا وطبعا لعدم وجود أي نفع أو خير فيه فهو شر كله ولكن وصفه بارجسية أبلغ في التنفير منه.
من عمل الشيطان: الشيطان: إبليس الذي أخرج آدم وزوجه من الجنة بوسوسته لهما وتغريره بهما حيث زين لهما الأكل من الشجرة المنهي عن الأكل منها فأكلا منها فأخرجهما مما كانا فيه، وهو مشتق من شطن الحبل من البئر إذا بعد، وسمي إبليس شيطانا لشدة بعده عن الحق والخير والفضيلة، وكان شرب الخمر ولعب القمار وعبادة الأصنام والإستقسام بالأزلام من عمله، لأنه زينه لفاعله ودفعه إليه وحمله عليه ليهلك به معه والعياذ بالله من الشيطان وشِرْكه وشَرَكه [6] .
فاجتنبوه: الفاء حرف عطف وتكون للسببية نحو نزل المطر فنبت العنب، وهي هنا الفصيحة إذ قد أفصحت عن جواب شرْط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن هذه المذكورات الأربعة رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، وذكر الضمير فاجتنبوه باعتبار: المذكور، أو لفظ الرجس والكل صحيح ومعنى اجتنبوه: اتركوا ذلك المذكور جانبا لتبتعدوا بالاجتناب أبلغ، وهو كثير في القرآن.
لعلكم: لعل حرف ترجٍ غالبا وهي هنا كذلك أي اجتنبوا ذلك المذكور لكم رجاء أن تفلحوا.(25/244)
تفلحون: أي تفوزون. يقال أفلح المرء في عمله نجا من خسارة ما بذله فيه من جهد وظفر بما أراده منه من نفع مصلحة. وعليه فالفلاح معناه الفوز، والفوز: النجاة من المرهوب، والظفر بالمرغوب المحبوب هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالفوز النجاة من النار، ودخول الجنة.
قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
معنى الآية الكريمة:
بعد أن عرفت أيها القارئ الكريم معاني كلمات الآية الكريمة المفردة فإليك معناها مركبة؛ نادى الله عباده المؤمنين بوصف الإيمان ليقبلوا عليه ويسمعوا عنه ما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... } ثم أخبرهم ناصحا مبينا أن الخمر وهي كل مسكر، والميسر وهو كل لعب مُلْهٍ عن ذكر الله، والأنصاب وهي كل ما صرف القلب عن الله تعالى، والأزلام وهي كل تطلع إلى ما أخفاه الله عن عباده مما كتب لهم أوعليهم من خير أو شر. أو ضر أو نفع لحكمة استمرار الحياة واطرادها إلى نهايتها المحدودة لها رجس مستقذر يطلب العقلاء البعد عنه والبراءة منه لضرره وفساده وانعدام النفع منه والخير فيه.
ثم أمرهم بعد أن بين لهم شر وفساد ما أخبرهم عنه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام أمرهم مرتبا أمره على ما عرفهم من رجسية المذكور أمرهم باجتنابه وهو تركه والبعد عنه، وعدم تحديث النفس بالقرب منه فضلا عن فعله.
وعلل لهم الأمر بترجيتهم للفلاح وتأهلهم لخير الدنيا والآخرة إن هم امتثلوا أمره فتركوا ما أمرهم بتركه من هذه المذكورات الأربعة في الآية وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
ما تضمنته الآية الكريمة من أحكام:
لقد تضمنت الآية الكريمة الأحكام التالية:
1- نجاسة المذكورات الربعة نجاسة معنوية إلا الخمر فقد تكون نجاستها حسية أيضا على خلاف في ذلك.(25/245)
2- تحريم الخمر صنعا وبيعا وشربا وإهداءً وحملا إذ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر وبائعها وحاملها والمحمولة إليه.
3- تحريم الميسر سواء كان بخطر كالقمار أو بدونه، إذ لم يعلل لغريمه بالخطر وإنما علل بكونه رجس، والرجس يجب تركه والبعد عنه، والميسر كل لعب مله إلا ما أباح الشرع من السباق والمناضلة.
4- تحريم الأنصاب وهي التماثيل صنعا وبيعا، وتذكارا وآثارا، وما ينصب للزعماء اليوم تقليدا للكفار من تماثيل لبعض زعماء العرب والمسلمين كتمثال أتاتورك، والأمير عبد القادر، وسعد زغلول، وبورقيبة.
5- تحريم كل تطلع إلى الغيب وبأي واسطة من الوسائط إلا ما رخص الشارع فيه من الإستخارة.
ما في الآية الكريمة من الهداية:
لقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعًا من الهداية القرآنية: منها أن أهل الإيمان الصحيح هم الذين يتشرفون بخطاب الله تعالى، ويسمون بالاستجابة له تعالى، وينهضون بما يطلب إليهم ربهم ويكلفهم به من أمر ونهي لاكتمال قوتهم بالإيمان وإرادتهم بالمعرفة.
ومنها: أن المجتمع الإيماني الذي أراد الله إيجاده في ظروف ختمت فيها الدنيا بالشر والفساد، شاء تعالى أن يقيم دعامة الحضارة فيه والكمال الإنساني على مبدئ العقيدة السليمة الصحيحة، والطهر التام لظواهر الناس وبواطنهم، فلذا كانت كلمة السر فيه لا إله إلا الله، محمد رسول الله {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} .
ومنها: أن أولياء الله الذين يعمر بهم الكون، وتزدهر بهم الحياة، وتتجلى بهم وفيهم الكمالات الإنسانية هم أهل الإيمان والتقوى، ومن عداهم من أهل الكفر والفسق هم ظلمة الحياة وثقلها، وفساد الأرض وخرابها، ولو كلمة الفصل لما كان لهم أن يعمروها دقائق بل ثوان.(25/246)
وأخيرًا أيها القارئ الكريم وقد أطلت عليك، وما كان لي أن أطيل لولا الحاجة الماسة إلى البيان والبلاغ، فاعلم أن المجتمع البشري مؤمنه وكافره بره وفاجره قد سادته الشرور وانتظمته المفاسد وعمته الظلمات والمظالم، وأصبح يقرب من هاوية سحيقة قد لا يخرج منها إذا وقع فيها إلى يوم القيامة.
وإن كان هناك حيلة لإنقاذه مما يتوقع له فهي الإسلام برافعته العظمى، تلك الرافعة التي انتشلت أقواما ومجتمعات من الحضيض فوضعتهم في مستويات رفيعة ناطحوا بها الجوزاء علوا وسموا، وسادوا فيها الدنيا هداية وقيادة، فسلام عليهم في الماضينن وسلام عليهم في الحاضرين والآتين، أولئك رجال سلف هذه الأمة الطاهرة وصدرها الصلح.
هذه الرافعة هي القرآن الكريم، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} إنها آيات القرآن الكريم، فإذا قيض الله للبشرية رجلا قادها بالقرآن، وساسها به وأصلحها عليه، فقد نجت وسعدت، وإلا فعلى الحياة العفاء، وعلى الدنيا السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سكروا.
[2] فك بعير.
[3] شقه.
[4] وفي الصحيح "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه مسلم وأبو داود، وفي رواية لمسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
[5] دعاء الإستخارة دعاء خاص كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن، والدعاء يوجد في الصحاح والسنن وفي كتابنا منهاج المسلم وهو أيسر تخريجا، فليطلب منه.
[6] وشركة الأولى من الشرك الذي هو عبادة غير الله، وشركة الثانية من الشراك الحبائل التي توضع للصيد، وإبليس ينصب شركه وهو تزينه للشر والباطل ليصيد به ابن آدم فيرديه ويهلكه.(25/247)
التَّسمُّمُ الكُحُولّي
للصيدلي حمدي إبراهيم علي إبراهيم
بمستوصف الجامعة
"التسمم من الخمور"أو"التسمم الكحولي":
ينظر جميع العاملين في مجال الطب والدواء إلى جميع الأدوية على أنها سموم لابد منها، فهي غريبة عن مواد تركيب الجسم البشري، تستخدم بحذر شديد، وبكميات معلومة ومحسوبة قبل التعاطي، ويتعاطاها المريض لفترة معينة حتى يبرأ من مرضه.
وهذه العقاقير الطبية لها من التفاعلات الجانبية ما يحاول الأطباء والصيادلة منذ القدم في إيجاد حل في ملافاتها أو التقليل منها، فضلا عن استبدالها كلما أمكن ذلك بعقاقير جديدة أقل في سميتها أو تأثيرها الجانبي – وكثيرا ما سمعنا عن تعليمات من هيئة الصحة العالمية بإيقاف استعمال دواء معين ظهرت منه أعراض ومضار ظهرت بعد طول استعماله، بالرغم من فوائده في حالات معينة.. ولذلك فلابد من إيجاد توازن بين الفائدة المرجوة، والعيوب المتوقعة غير القاتلة أو التي تؤثر على الأجنة داخل أرحام الأمهات..
وكلما كانت الجرعات القاتلة أو الضارة أكبر بكثير من الجرعات الشافية، كلما كان الدواء أكثر أمناً في استخدامه.
ويتحاشى الأطباء على قدر المستطاع وصف الأدوية ذات الحد السمَّي القريب من جرعاته الشافية، لسهولة الوصول إلى هذا الحد إما عن طريق القصد أو النسيان.
كل هذه الاعتبارات وغيرها توضع موضع الأهمية عند تناول الأدوية التي لابد منها لعلاج مرض أو للوقاية منه.
فهل يمكن تطبيق تلك الأمور على الخمور؟
وهل يمكن النظر إلى المشروبات الكحولية على أنها دواء لأي داء؟؟
ونستطيع طرح السؤال بمعنى آخر.. هل هناك مرض معين لا يبرأ صاحبه إلا إذا تناول نوعا معيناً من الخمور؟ للجواب عن هذا السؤال نعرض عدة أمور:
الأمر الأول: أن المواد الكحولية ليست دواء، وليس هناك ضرورة ملحة لتعاطيها.(25/248)
الأمر الثاني: أنه ليس للمشروبات الكحولية أية فائدة على الإطلاق.
الأمر الثالث: أن عيوب هذه المواد وسميتها وأعراضها الجانبية تظهر من أول وهلة بل من أول لحظة التقائها مع أنسجة الفم.. فضلا عما تحدثه في الأنسجة الداخلية للجسم.
الأمر الرابع: يدعي مدمنو الخمور أنفسهم بأنهم يتعاطونها من أجل نسيان مشكلاتهم، فهم يعترفون صراحة بأنها تطمس على عقولهم، ولا تساهم في حل هذه المشكلات.
والخمور بجميع أنواعها ومسمياتها تحتوي على نسب مختلفة من مادة"الكحول الإثيلي"وهو أحد أفراد"الكحوليات"من المواد الكربوهيدراتية، أي التي تحتوي جزئياتها على عناصر الكربون والهيدروجين والأكسجين.
وهناك أنواع كثيرة من"الكحوليات"، ولكن إذا ذكرنا لفظ الكحول منفرداً، فإننا نعني"الكحول الإثيلي"ك2 يد5 أيد.
ويحضر الكحول إما من غاز"الإيثيلين" أحد المنتجات البترولية، وتعرف هذه الطريقة"بالتخليق الكيماوي".
أو من تخمر المواد السكرية أو النشوية بفعل أنواع معينة من الخمائر، في درجة حرارة مناسبة، ويتصاعد أثناء عمليات التخمر هذه غاز ثاني أكسيد الكربون.
ومن خواص الكحول: أنه سائل رائق شفاف عديم اللون، رجراج، طيار، ذو رائحة خاصة وطعم حار، وقابل للاشتعال بلهيب أزرق عديم الدخان. ويستعمل في الطب: إما كمذيب للمواد العضوية التي لا تذوب في الماء، أو كمطهر موضعي.
ويجب أن ننوه أيضا أن هناك"الكحول المثيلي".. وهو أبسط في تركيبه من الكحول الإثيلي فهو يتكون من ذرة واحدة من الكربون"ك3ر. أيد".. ولكنه أكثر من الكحول الإثيلي فتكا بالصحة.. ولذلك فإنه يضاف إلى الكحول التجاري الذي يستعمل لوقود منزلي وهو ما يطلق عليه بعضهم اسم (السبرتو) يضاف هذا الكحول المثيلي لمنع استعمال (السبرتو) كمشروب كحولي، ولكنه يستعمل بالرغم من ذلك خاصة وسط الطبقات الفقيرة والتي لا تجد طريقاً إلى باقي الأصناف..(25/249)
مرة أخرى.. إذا وضعنا تعريفاً للدواء بأنه المادة المناسبة التي تعطي بكمية مناسبة في الوقت المناسب للمرض المناسب.. فهل من الممكن تطبيق المواد الكحولية بهذا التعريف على أنها دواء؟ ولنبحث عن المرض الذي يمكن أن تداويه هذه الأشربة. هناك ادعاءات بأن المشروبات الكحولية تعطي شعوراً بالدفء في الليالي الباردة، وبأنها تزيد في فتح الشهية، وتقوى الجسم من الناحية الجنسية.
فهل يحدث هذا حقاً؟؟ هذه ثلاثة ادعاءات!!
* أما بالنسبة للادعاء الأول فيحدث الآتي:
المواد الكحولية توسع الأوردة والشرايين القريبة من سطح الجسم، فيزداد حجم الدم الواصل تحت الجلد ويحس الشخص بدفء ظاهري نتيجة لهذا الأمر، وبعد مدة يفقد الجسم حرارته بالرغم من هذا الشعور، الأمر الذي تتسبب عنه الوفاة. أجل يموت من البرد بالرغم من إحساسه بالدفء. أليس هذا عجيبا؟؟
* والادعاء الثاني الخاص بفتح الشهية:
هذا أيضا شعور كاذب نتيجة لزيارة إفراز حمض الهيدروكلوريك في المعدة، ويلي ذلك تهيج في الأغشية المخاطية المبطنة لجدار المعدة، وتضمر في النهاية، ويقل إفراز حمض الهيدروكلوريك وتقل الشهية.
* وأخيراً فإن الادعاء بزيارة الكحوليات في المقدرة على مزاولة الجنس!! لا يقل بلاهة عن الأمرين السابقين، فهي تزيد من الرغبة فقط، ولكنها تسلب المقدرة، وتزداد تبعاً لذلك مشاكل الانحلال الخلقي والشذوذ.
ومن هنا فإننا لا نجد للمشروبات الكحولية أية فائدة صحية أو غير صحية، فضلاً عن استخدامها كدواء. ولنا أن نعود مرة أخرى لنتعرف عما تحدثه في الجسم من أفاعيل.
إذا نظرنا إلى مضار المواد الكحولية أو إلى التسمم الكحولي، فإننا سوف نجد أموراً عجيبة، ذلك أن لهذه المواد أضراراً موضعية على الأنسجة التي تمر عليها، وقبل أن تمتص داخل الجسم، وتسير مع الدم إلى سائر الأنسجة والأعضاء الداخلية.(25/250)
فهي تؤثر على الفم والبلعوم والمرئ والمعدة والأمعاء الدقيقة.. كل هذا وعملية الامتصاص لا تتوقف.. ففي الوقت الذي تقاسي فيه المعدة من وجود الكحول داخلها، تقاسي باقي أجهزة الجسم من جهاز عصبي ودوري وعضلي.. الخ.
وسوف نقوم إن شاء الله بتفصيل هذه الأمور فيما يلي:
* في الفم: يتسبب مرور الكحول في الفم في حدوث التهابات، وإصابات فطرية، وتتصاعد منه الروائح الكريهة، وتقل المقاومة الطبيعية، وتتحول الميكروبات غير الضارة والموجودة بصفة عادية في الفم إلى ميكروبات ضارة تسبب التهابات خطيرة، ترتفع فيها درجات الحرارة، ويصعب معها البلع، وقد يصل الأمر إلى مرحلة السرطان.
* في المرئ: تحدث انتفاخات يتسبب عنها نزيف دموي، وينتهي إلى قرحة مزمنة وهذه الأمور يتسبب عنها القيء، وإذا حدث القيء، حال السُكر البيَّن، فإن الشخص يفقد القدرة على التحكم، وتصل هذه المواد إلى القصبة الهوائية والرئتين، الأمر الذي ينتج عنه التهابات أو اختناقات تصل به إلى الموت.
* في المعدة: تتهيج الأغشية المخاطية، وتزداد إفرازات حمض الهيدروكلويك ويشعر شارب الخمر بأن شهيته للأكل قد ازدادت، ولكن بعد هذا الشعور عندما تصل الأمور إلى حد الالتهاب، يقل إفراز هذا الحمض الهام ويفقد الشهية، وتظهر بثرات حمراء في جدران المعدة، وتمتلئ بعد ذلك بالصديد وتضمر المعدة.
* في الإثنى عشر وبقية الأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة:
لا يختلف الأمر عما يحدث في المعدة، تهيج في الأغشية المخاطية، واحتقان وتقرح، ينتج عنها نوبات متتالية من الإسهال والإمساك.
وتقل المقدرة على الامتصاص للمواد الغذائية، ويصاب الجسم بأمراض سوء التغذية ونقص كثير من الفيتامينات الهامة، يصل به إلى الأنيميا الخبيثة والبلاجرا، هذا بالرغم من وجود الغذاء – إذا وجد – فضلا عن فقد الشهية أصلا.(25/251)
هذه المضاعفات السالفة الذكر تحدث من مجرد مرور الكحول على هذه الأنسجة فماذا يحدث داخل الأنسجة والخلايا بعد الامتصاص؟
أولا: تأثير الكحول على الخلية:
- تفقد النواة سيطرتها على الانقسام والتكاثر، ولن يتم تجديد الخلايا أو تعويض ما يفقد منها.
- تتأثر"الكروموزومات"وهي التي تحمل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء وتكون الأجيال اللاحقة لديها استعداد لكثير من الأمراض والتغييرات في الصفات، وبذلك لا نجد تأثير الكحول على المدمن للخمر فحسب، ولكنه يمتد إلى أبنائه الأبرياء من بعده.
ثانيا: تأثير الكحول على الكبد:
الكبد هو أكبر غدة في جسم الإنسان. ويعتبر أعظم معمل كيماوي في الوجود فما من مادة يتناولها الإنسان إلا وتمر على الكبد. فهو يقوم بأهم عمليات الأيض الغذائي وتكوين مادة الصفراء. وتطويع المواد السامة الناتجة من هضم المواد الغذائية إلى مواد غير سامة يمكن إخراجها عن طريق الكليتين.. ويقوم بعمليات تطبيع الأدوية وتكوين المواد الأساسية لإيجاد عديد من الهرمونات.. والمحافظة على نسبة السكر في الدم.
فماذا يحدث لو فشل الكبد في تكوين خلايا جديدة بدل المستهلكة نتيجة لتأثير الكحول؟
ماذا يحدث لو تجمعت المواد الدهنية بدون تمثيل، أو المواد الناتجة عن الأيض الغذائي للبروتينات والأدوية؟
ولذلك فإن تأثير بعض الأدوية العادية بجرعاتها المقررة يزداد زيادة مطردة. مما قد يؤثر تأثيراً ضاراً على الكبد مرة أخرى بدلا من أن يبرأ الجسم من مرضه.
وكما يفشل الكبد في عمليات"الأيض الغذائي"يفشل أيضا في إنتاج المواد اللازمة لتجلط الدم في حالة الجروح.. مما يسبب للمريض نزيفاً مزمناً تتفاوت خطورته على حسب حالة الكبد.
تتحطم الكرات الحمراء نتيجة لتضخم الطحال، وتكون من نتائجه مرض الصفراء، علاوة على الإصابة بالأنيميا.(25/252)
ومن العجيب أن تكون مصادر الإصابة بفقر الدم نتيجة لقصر عمر الكرات الحمراء، وفي نفس الوقت تقل المدد من الخارج لتعويض ما يفقد منها لسوء التغذية لقلة الشهية وضعف الامتصاص من الأمعاء.
ثالثا: تأثير الكحول على الجهاز العصبي:
ماذا لو تأثرت وسيلة التحكم الإرادي واللاإرادي في الانفعالات والتفكير واتخاذ القرارات أو تحويل الاتجاه؟؟
كيف يكون انتقال المؤثرات الصوتية والسمعية والبصرية إلى جهاز أصيبت خلاياه بالضمور والتآكل؟
وإذا كانت الأعصاب هي المسئولة عن إفرازات اللعاب والإنزيمات لهضم الغذاء في المعدة والأمعاء"وهي المسئولة عن التحكم في فتحات الإخراج".
فماذا يحدث لو أصيب هذا الجهاز بالشلل أو القصور؟
لنتصور حياة إنسان فقد القدرة على التحكم في إظهار عواطفه، فهو يبكي في وقت الفرح، ويقهقه سعيداً عند حلول المصائب.
يثور من أجل التافه من الأمور، ويشك في أقرب المقربين إليه.
والنتيجة الحتمية هي تحطم الشخصية وتفكك الإرادة، وأخيراً الانتحار، والحركة الإرادية واللاإرادية تتوقف على تأثير الجهاز العصبي، وإذا اختل هذا النظام، فكيف يكون المشي والجلوس أو القيام؟
والجهاز العصبي ما له من سيطرة كاملة على باقي الأجهزة، فإن أي خلل منه أو تصدع إنما تظهر نتيجته على باقي هذه الأجهزة، فيتأثر الجهاز التنفسي والجلد ووسائل الدفاع الطبيعية ضد غزوات الميكروبات، علاوة على الاضطرابات في الغدد والهرمونات وإدرار اللبن للطفل الرضيع إذا كانت الأم تتعاطى مثل هذه المشروبات الروحية.
رابعا: تأثير الكحول على الجهاز الدوري:
فضلا عن تضخم عضلة القلب وقصوره تزداد نسبة "الكولسترول"نتيجة لاضطراب عمليات الأيض الغذائي للمواد الدهنية في الكبد. وهذه المادة هي المسئولة عن تصلب الشرايين والجلطة..(25/253)
بذلك تفقد الأوعية الدموية مرونتها في الانقباض والانبساط، وتقل القدرة على المواءمة في حالة الشخص المدمن ما بين قيام أو قعود، مما قد يتسبب عنه حدوث إغماءات لنقص حجم الدم الواصل إلى المخ.
وإذا كان الكحول كأي مادة كربوهيدراتية تنتهي عملية الأيض الغذائي لها إلى ثاني أكسيد الكربون وبخار ماء ويتولد عنها طاقة حرارية، فهذه الطاقة الحرارية.. قليلة جداً بالقياس إلى الطاقة الناتجة عن كمية مماثلة من السكر أو النشاء مثلا، ليس هذا فحسب، ولكن هذه الكمية من الكحول، تحتاج في عملية"التمثيل الغذائي"إلى كميات مضاعفة من فيتامين ب1.
وأنى للجسم بهذا الفيتامين الهام وسوء التغذية وعدم القدرة على الامتصاص من الأمعاء أمران سبق التنويه عنهما؟
وبذلك يضاف مرض جديد إلى قائمة الأمراض وهو"البري بري".
هذه لمحة سريعة عما يحدثه الكحول من أضرار بشاربيه وهو ممسك بخناقهم لا يستطيعون منه فكاكاً لو وصلوا إلى حالة"الإدمان".
* الوفيات بسبب التدخين
يقول الدكتور كيث بول إن بريطانيا خسرت مليون إنسان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب تدخين السجائر، وستخسر مليونا آخر قبل نهاية هذا القرن إذا استمر الحال ولم يتغير.
وأعلن وكيل وزارة الصحة الأمريكي أن عدد الذين يموتون في الولايات المتحدة سنوياً بسبب التدخين يقدر بنحو (350) ثلاثمائة وخمسون ألفاً.
* التدخين والتوقف عن العمل(25/254)
قدرت زيادة أيام التعطل عن العمل وملازمة الفراش في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب التدخين بـ (77) مليون يوم عمل، و (88) مليون يوم في ملازمة الفراش، و (306) مليون يوم من العمل المحدود، وبالتالي الإنتاج المحدود، وفي الرجال المدخنين ما دون الأعمار (45 – 64) سنة تمثل نسبة التعطيل وملازمة الفراش بسبب التدخين 28% من مجموع أيام التوقف عن العمل. ويزيد الطلب على الخدمات الطبية في المشافي والعيادات الخارجية ويخسر المجتمع من الموت المبكر للناس الذين هم في سن العمل والإنتاج.(25/255)
التدخين والمسكرات
- لأول مرة: تقرير عملي صريح. التدخين يسبب السرطان -
فيما مضى أعلن العلماء والأطباء كثيراً من التصريحات المبهمة حول موضوع التدخين وعلاقته بالسرطان، فكل ما نشر وأذيع خلال السنوات القليلة الماضية أجمع على أن التدخين (قد) يكون سبباً في الإصابة بسرطان الرئة.. ولم يدمغ التدخين إدماغاً قاطعاً بأنه المسبب الأول للسرطان. حتى أن التحذير المكتوب على علب السجائر ينهى بأن السجائر ضارة بالصحة (وقد) تكون سبباً في الإصابة بالسرطان.
الآن، ولأول مرة، نقلت وكالة "الأسوشيتدبرس "على لسان الطبيب الجراح العالمي إيفرت كوب أن التدخين هو فعلا المسبب الرئيسي لسرطان الرئة والحلق والبلعوم علاوة على أنه قد يلعب دوراً هاماً في الإصابة بسرطان المثانة والكلية والبنكرياس.
وهذا هو أعلى مركز يقوم بتوفير خدمات صحية للمواطنين في أمريكا، ويهيمن على عمل أكثر من نصف مليون موظف حكومي هدفهم إيجاد توصيات ومقاييس ومعايير خاصة تعني بشئون الصحة العامة للأفراد.
وجاء في التقرير أن سرطان الرئة هو المسؤول عن وفاة نحو 85% من حالات السرطان في أمريكا.. وكان من الممكن تحاشيه إذا ابتعد الناس عن التدخين، ومما يثلج الصدور أن سرطان الرئة هو مرض يمكن الوقاية منه بمجرد الابتعاد عن التدخين. ويشير كوب في تقريره الهام إلى نتائج بعض الدراسات السابقة بقوله: إن هذه النتائج تجمع على أن هناك ما يقرب من 22 إلى 38% من مجموع وفيات السرطان بأنواعها المختلفة سببها الرئيسي الإدمان على التدخين، كما يشير التقرير إلى أن المدخنين يتعرضون إلى الوفاة مبكراً وهم صغار السن بنسبة أعلى من غيرهم غير المدخنين، هذا إذا ما عرفنا أن السرطان أصبح الآن مسؤولا عن وفاة نحو 430 ألف نسمة في أمريكا هذا العام بالمقارنة إلى 412 ألف نسمة في عام 1980.(25/256)
ويشير تقرير كوب أيضا إلى أنه ليست هناك ثمة أدلة وبراهين مؤكدة على أن استنشاق دخان السجائر من غير المدخنين له أثر ملموس في إصابتهم بسرطان الرئة. ومع هذا فهذه المسألة قد لا تخلو من الأخطار الصحية الأخرى، وأضاف كوب قائلا: إن معدل وفيات المدخنين قد وصل الآن إلى ضعف معدل وفيات غير المدخنين الرجال، بينما زادت هذه النسبة بين النساء المدخنات بمعدل 30% فقط.
ويضيف التقرير بأن هناك علاقة مؤكدة الآن بين عدد السجائر التي يدخنها المدخنون يوميا ومعدل وفياتهم بسبب الإصابة بالسرطان. فكلما زاد عدد السجائر المستهلكة، وزادت سنوات الإدمان، كلما زاد الاحتمال بالإصابة.
أما مدخني السيجار والغليون فقد يكونون أفضل حالا من مدخني السجائر، فهم ولو أنهم أقل احتمالا من الإصابة بسرطان الرئة بالمقارنة بين مدخني السجائر، إلا أنهم لا يسلمون من بقية المخاطر المحدقة بهم وعلى وجه الخصوص سهولة إصابتهم بسرطان الفم والحلق، أما استنشاق "النشوق "أو "السعوط"، فهو من أهم أسباب الإصابة بسرطان اللثة والفم، والجدير بالذكر أن هذه النتائج التي جاءت في التقرير تنافي تماماً النتائج التي توصلت إليها بعض شركات الدخان التي أجمعت فيما بينها، في عدة تقارير رسمية، على أنه لا توجد علاقة مؤكدة بين التدخين والسرطان.
ويفيد تقرير الطبيب الجراح العام أيضا إلى أنه في العام 1975، وهو العام الذي لديهم فيه إحصائيات متكاملة، تسبب سرطان الرئة في صرف ما يقرب من 5ر379 مليون دولار تكلفة ومصاريف المستشفيات، ونحو 78 مليونا تكلفة أتعاب الأطباء المعالجين.
(الشرق الأوسط)
التدخين والصحة(25/257)
تدمغ الدلائل الطبية والعلمية بشكل قاطع التدخين على أنه سبب أمراض متنوعة وفي زيادة نسبة الوفيات منها. وتتفاوت نسبة الضرر من تدخين السيجارات حسب طول أو قصر مدة التدخين وحسب كمية السجائر المستهلكة فكلما زاد التدخين كماً وزمناً كلما كبر حجم الضرر الحاصل عضوياً ونفسياً واقتصادياً على مستوى الفرد والجماعة والدولة ومداواة هذه الأضرار والعلل لا يكون بالعلاج بل بالوقاية.
والعالم الثالث كله معرض الآن (للاستعمار السجائري) كما قال أحد الظرفاء، إلا أن الشركات الاحتكارية، رغم سطوتها ونفوذها ومالها الحرام، هي في موقف الدفاع أمام الحقائق الدامغة. وزراعة وصناعة وتجارة التبغ ليست عملية اقتصادية – اجتماعية رابحة على المدى الطويل رغم الاستفادة المادية الظاهرة الآن في بعض البلدان من هذه النشاطات وانخداع – أو فساد ضمائر – بعض المسؤولين في العالم الثالث. بها والطريف في الأمر أن شركات التبغ الكبرى هي الآن مثل الجيش المنسحب الذي يحرق في طريق تراجعه كل شيء ولقد بدأت فعلا هذه الشركات في تنويع استثمارات ووضع رؤوس أموالها في ميادين أخرى غير التبغ خوفاً من المستقبل وحريٌّ بالمسئولين المخدوعين أو المتواطئين أن يفعلوا نفس الشيء.
وتتناقص مصالح المواطنين مع مصالح الحكومات في هذا المجال عندما ينظر بعض المسؤولين إلى الأمر من زاوية مادية ضيقة ففرنسا مثلا ربحت (7) مليارات من الفرنكات، حوالي 1500 مليون دولار أمريكي عام 1978م بينما لم تصرف على حملة مكافحة التدخين في العام نفسه إلا مليونين ونصف من الفرنكات فقط. وفي مثل هذه الحالة يعمى المال أبصار الماديين حتى أبصار بعض من يدعون شفاهة (فقط) تفضيل القيم الروحية والإنسانية على المادة – وهكذا يتذرع بعض المسؤولين باستحالة معالجة مشكلة التدخين حتى لا ينهار الاقتصاد.(25/258)
وفي بلادنا الإسلامية يجب البدء فوراً بالمنع التام لأي نوع من أنواع الدعاية والإعلان للتبغ والسجائر ثم منع التدخين في الأماكن العامة ونشر التثقيف الصحي على أوسع مدى وتركيزه على الناشئة – بخاصة – ولكن الخطوة الأولى الهامة التي قد تختصر كثيراً من الخطوات التالية وتلغيها هي:
أن يتربى أبنارنا تربية إسلامية واعية والمؤمن ذو البصيرة لا يؤذي غيره فلا ضرر ولا ضرار في المجتمعات الإسلامية الحقة ولا يتربى أبناؤنا على ذلك إلا إذا كنا مؤمنين واعين نضرب لهم المثل الطيب في أقوالنا وأعمالنا في بيوتنا ومدارسنا ومزارعنا ومتاجرنا ومصانعنا وأماكننا العامة.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(مجلة الأمة القطرية)
- ارتفاع عدد مدمني الهيرويين بين أوساط المراهقين الإنكليز -
كشفت أرقام وزارة الداخلية البريطانية أن عدد مدمني الهيرويين في بريطانيا تضاعف خلال العام الماضي.
جاء ذلك في صحيفة غارديان التي قالت أن عدد المدمنين المتوفر، لدى وزارة الداخلية للعام 1981 بلغ ألفين وثلاثمائة شخص وهذا يعني زيادة مقدارها 45% مقارنة مع أرقام العام 1980 التي كانت 1600 شخص.
وجدير بالذكر أن الزيادة في عدد المدمنين خلال الأعوام العشرة الماضية لم تكن تتجاوز السبعة في المئة في السنة، وتغري وزارة الداخلية الأسباب في الزيادة الحادة الجديدة إلى توفر الهيرويين في كثرة وهبوط سعره والبطالة بين صفوف الشباب.
وقال مايك تريسترام المسؤول في مجموعة التخلص من المخدرات أن الهيرويين يساعد أكثر من غيره الإنسان على الهروب من الواقع. والشباب يقبلون على تناوله بأعداد كبيرة لأنه متوفر من خلال عمليات التهريب المتزايدة.
وقال دافيد تيرنر عضو مؤتمر سوء استخدام المخدرات: "إن الوقت يمر بسرعة وإذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة فإن الموت سيكون مصير المدمنين ".(25/259)
وعلى صعيد آخر قالت الصحيفة إن سعر الهيرويين هو 70 جنيها للغرام الواحد وهذا يساوي نصف سعر الغرام في العام 1978، فقد بدأ سعر الهيرويين بالهبوط قبل ثلاث سنوات عندما تم تهريب كميات كبيرة منه من إيران، وتعتبر مناطق الشرق الأقصى في الوقت الحاضر المصدر الرئيسي للهيرويين.
وقد انعكست الزيادة في تهريب المخدرات في الكميات التي وضعت الشرطة أيديها عليها خلال السنتين الماضيتين.
وقال تريسترام "إن مشكلة الهيرويين ليست مشكلة شباب المدن فحسب فقد وصلت إلى المقاطعات الصغيرة وهناك أعداد كبيرة من المدمنين في هذه المقاطعات، والمشكلة أن العيادات المعدة لمعالجة المدمنين قائمة فقط في لندن؟ إلى جانب بعض العيادات الأولية في المدن الأخرى.
وقال: "إن الهيرويين أصبح شعبياً بين المراهقين دون العشرين من أعمارهم".
وأضاف: "أن على الحكومة أن توجه السلطات الصحية وهيئات الشؤون الاجتماعية في عمليات مواجهة المشكلة "، وذلك عن طريق إيجاد مبادرات جديدة.
(الشرق الأوسط)
أولا: أضرار المسكرات على الأسرة:
إن رب الأسرة عندما يتعاطى المسكرات، فإنه يقضي أكثر أوقاته في شرب الخمر، متنقلا في محلات بيع المسكرات ومحلات الشرب الخاصة، وينسى أن له زوجة وأولاداً هو مسؤول عن إعاشتهم وتربيتهم تربية صالحة قويمة، ليكونوا عنصراً صالحاً في المجتمع، الأمر الذي يجعلهم ينشأون نشأة بعيدة عن الكمال والصلاح، ولعل هذا الأمر يؤدي ببعضهم إلى الانزلاق بطرق المعصية والفساد، فيسوء الحال ويؤدي بالتالي إلى فقدان الأمن.(25/260)
وقد ينساق أولاد مدمني الخمر إلى تقليد آبائهم والتشبه بهم، لأن الوالد يسرف في إهمال أولاده ولا يعمل على تربيتهم تربية صالحة، بل لعله يشجعهم على تعاطي المسكرات، فينشأون نشأة سيئة، ويكونون تحت تأثير الوسط الذي يعيشون فيه، وبالنهاية يكون مصيرهم إلى الجهة التي تتلقفهم، ومثل هذه الأسرة سيسيطر عليها الشذوذ بالتفكير وتسودها الأخلاق السيئة، وبالتالي سيكونون تحت ضغط شهواتهم وأهوائهم.
ثانيا: تأثير المسكرات في الأخلاق:
إن المسكرات تهدم الشخص وتحطمه، فتجعله لا يشعر بالواجب الملقى على عاتقه تجاه دينه ووطنه وأسرته، فتخسره بلاده ويصبح عضواً عاطلاً لا نفع فيه ولا خير.
فالسكير لا يعرف الخير ليعمله، لأن الخمر قد أحدثت خمولا شديداً في جهازه العصبي حيث تنتقل عنده المشاغل ويذهب قلقه، ويخف توتر أعصابه، فيحصل عنده ابتهاج وقتي يزول عند زوال تأثير الخمر وعندها تبدأ آلامه ومشاغله بالظهور، فيلجأ ثانية إلى شرب الخمر للتهرب من الواقع الذي هو فيه.
وما دام هذا حاله فإنه لا يتورع من ارتكاب المعاصي والجرائم لأن السكر يمنعه من التفكير السليم ويجعله بعيداً عن نداء الروح، ولا يشعره بالعذاب الوجداني وتأنيب الضمير، كما لا يحس بالندامة على عمله ليندم، فأصبح هذا المسكر معولاً هداما للأخلاق، لأنه جعل من السكير إنسانا خطراً على المجتمع، وغالبا ما يفقد السكير ثقته بنفسه فتضيع الرابطة بينه وبين من يعول والمجتمع الذي يعيش فيه فيصبح لا يهتم بأمورهم، بل كل همه نفسه.
(مجلة التربية الإسلامية)(25/261)
أخبار الجامعة
في سبيل الدعوة إلى الله
إعداد: الشيخ محمود سالم
1- رحلة فضيلة الدكتور عبد الله الزايد إلى باكستان
زار الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية جمهورية باكستان الشقيقة في رحلة عمل استغرقت شهرا.
تصريحات فضيلته حول هذه الزيارة:
وقد صرح فضيلته لمندوبي الصحف عقب عودته من هذه الرحلة تصريحات هامة جاء فيها:
- إن هذه الرحلة كانت بدعوة من فخامة الرئيس الباكستاني ضياء الحق. وبموافقة من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس ا؟ لأعلى للجامعة الإسلامية وذلك لوضع حجر الأساس لكلية الملك فيصل للدراسات الإسلامية والعربية بمدينة فيصل آباد نيابة عن سموه، ولزيارة بعض المدارس والجامعات هناك.
- وقال فضيلته: بعد أن قمنا بوضع حجر الأساس لكلية الملك فيصل نيابة عن صاحب السمو في الاحتفال الرسمي الذي أقامته جامعة "تعليمات إسلامية"بهذه المناسبة، قمنا حسب خطة وبرنامج معد بلقاءات متعددة مع قيادات التعليم والشريعة لأكثر من خمسين مدرسة وجامعة إسلامية شملت أكثر من خمس عشرة مدينة في ثلاث من ولايات باكستان، وقد تدارسنا مع المسؤولين عن التعليم مناهج الدراسات الإسلامية والعربية. وأكدنا على أهمية القدوة في تثبيت التربية الإسلامية في مناهج التعليم في مختلف مراحله.
- وقال فضيلته: إن من أهم تلك اللقاءات: تلك الاجتماعات التي تمت مع قضاة باكستان الذين تقام لهم دورات تدريبية لتعميق الدراسات الإسلامية تمهيدا لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في باكستان.
لقاء مع فخامة الرئيس الباكستاني:(25/262)
وقال فضيلته: وقد شرفت بمقابلة الرئيس ضياء الحق وقد أكد فخامته بأنه ماض قدما بإذن الله لتأسيس المرتكزات الصلبة لتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة بباكستان. تلك المرتكزات التي تضمن ألا يتأثر تطبيق الأحكام الشرعية بتغير الأشخاص. ولا بتغير الظروف ومرور الأزمان بإذن الله.
لقاء مع جماعة أهل الحديث وتعريف بهم:
وقد التقى فضيلة الدكتور الزايد في هذه الرحلة إلى باكستان بجماعة أهل الحديث وترأس مؤتمرهم العام. وقد عرف فضيلته جماعة أهل الحديث بأنهم تجمع واسع في باكستان يضم عشرات الألوف من خواص الشعب الباكستاني وعامته وينطلقون في فهم الأحكام الشرعية عموما من مفاهيم الحديث الشريف من خلال فهم شراح الحديث وعلمائه المتقدمين والمحدثين. ولا يرضون أن ينتموا إلى مذهب معين.
2 – دورة تدريبية للقضاة الباكستانيين في الجامعة الإسلامية
وصل إلى الجامعة الإسلامية في أول شهر جمادى الأولى 1402 هـ ستة وثلاثون قاضيا من باكستان لتلقى دورة تدريبية بدأت يوم السبت الموافق 4 من جمادى الأولى.. وذلك إعداداً لهم على الحكم بالشريعة الإسلامية التي تعتزم باكستان تطبيقه في أقرب فرصة.
وقد التقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد بأصحاب الفضيلة القضاة الباكستانيين في كلمة ترحيبية فيها دور القاضي الذي لا تقف مهمته عند ساحة المحكمة بل تتعداها إلى قيامه بالدعوة إلى الله بعلمه وسلوكه في المجتمع كله.
3 – وفود إسلامية في زيارة الجامعة
* من تونس:(25/263)
في أوائل شهر ربيع الثاني زار الجامعة الإسلامية وفد من الأدباء التونسيين المدينة المنورة على ضيافة النادي الأدبي، وقد زار هذا الوفد الجامعة الإسلامية، وقد التقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بهذا الوفد ورحب بهؤلاء الأدباء ضيوفا في المملكة وعرفهم بالجامعة الإسلامية، نشأتها وتطورها وأهدافها وبحث معهم أوجه التعاون بين الجامعة الإسلامية والجامعات الإسلامية المماثلة في العالم الإسلامي.
* من باكستان ونيجيريا:
كما زار الجامعة في منتصف ربيع الثاني 1402هـ فضيلة الشيخ طفيل أحمد أمير الجماعة الإسلامية في باكستان على رأس وفد باكستاني.
كما زار الجامعة الدكتور عمر جاه الأستاذ الزائر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتأتي زيارة الدكتور عمر في إطار بحث المساعدات التي تقدمها الجامعة الإسلامية لجامعة بايرو بنيجيريا والجماعات الإسلامية في منطقة غرب إفريقيا. وتناقش مع فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة حول الدورة التدريبية التي تقيمها الجامعة في إجازة الصيف لتدريب معلمي اللغة العربية والتربية الإسلامية في نيجيريا.
* ما تقدمه الجامعة الإسلامية من مساعدات هو جزء من رسالتها:
وصرح فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة لمندوب جريدة المدينة ونشر في عددها الصادر يوم 20 ربيع الثاني بأن الجامعة الإسلامية ترحب بجميع زوارها من جميع أنحاء العالم الإسلامي. وتعتبر ما تقدمه من مساعدات جزءاً من رسالتها في خدمة الإسلام والمسلمين.
* ومن الهند والجزائر:
وفي آخر شهر ربيع الثاني 1402هـ زار الجامعة الشيخ كاكا محمد عمر أمين عام جامعة دار السلام بالهند.. والتقى بالدكتور عبد الله الزايد وبحث معه أوجه التعاون بين الجامعة الإسلامية وجامعة دار السلام.(25/264)
كما زار الجامعة وفد ممثل لوزارة التعليم العالي بالجزائر ضم كلا من الدكتور بو عمران الشيخ. والدكتور عبد القادر حليمي والدكتور محمد العساكر الأساتذة بجامعة الجزائر والتقى هذا الوفد بالدكتور الزايد وجرى بحث التعاون الثقافي بين الجامعتين.
* الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي:
كما زار الجامعة الدكتور أحمد با حفظ الله الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وتباحث مع الدكتور عبد الله الزايد في شئون الشباب الإسلامي – وما يتعلق بأنشطة الندوة وما يخص الجامعة الإسلامية فيما يرفع شأن الدعوة في أوساط الشباب وفي موضوعات مختلفة حول الدعوة والدعاة ودور الجامعات وخريجيها ومنسوبيها في شئون القضايا الإسلامية التي تهم الشباب الإسلامي.
4 – جامعة إسلامية في كوريا
قد زار الجامعة الإسلامية في نهاية شهر صفر 1402هـ الدكتور أبو بكر كيم من قادة الحركة الإسلامية العاملة في سبيل نشر الإسلام في كوريا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. وكان برفقته الدكتور أحمد يوسف المنتدب من كوريا في وظيفة باحث في شئون الأقليات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
وجاءت زيارة الدكتور أبي بكر كيم للجامعة الإسلامية في إطار بحث الحركة الإسلامية في جنوب شرق آسيا عن الوسائل التنفيذية لإقامة جامعة إسلامية في جمهورية كوريا الجنوبية على نفقة المملكة العربية السعودية بإنشاء مبانيها ثم إدراتها وإمدادها بكل وسائل الدعم المادي والمعنوي.
وقد التقى هذان الضيفان بفضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية، وقد تباحث معه الضيفان طلبا لمشورته وتوجيهاته في مجال التربية والتعليم وشئون الجامعات وشئون الدعوة الإسلامية.(25/265)
وفي معرض الحديث عن فكرة إنشاء جامعة إسلامية في كوريا الجنوبية قال فضيلته: إن فكرة إقامة جامعة إسلامية في كوريا جاءت ثمرة لزيارة صاحب السمو الملكي الأمير نايف ابن عبد العزيز لجمهورية كوريا الجنوبية عام 1979م. وقد وعد سموه بتبني المملكة فكرة إقامة الجامعة الإسلامية هناك وتتولى إدارتها وتقوم بتدعيهما بكل وسائل الدعم.
" إعداد: الشيخ محمود سالم "(25/266)
المسكرات والمخدرات وموقف الشريعة الإسلامية منها
للدكتور أحمد علي الأزرق
رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة
نحمد الله سبحانه الذي أحل لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث.
ونصلي ونسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد.
فإن من مقاصد الشريعة الإسلامية جلب النفع ودفع الضرر.
فمن جلب المنافع إباحة جميع ما في الأرض، وتسخير كل القوى لخدمة الإنسان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} .
والقاعدة في ذلك عند فقهاء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الخطر.
أما دفع المضار فإن الإسلام قد شرع من الأحكام ما يهدف به إلى الحماية والمحافظة على ما يعرف بالضروريات لكل مجتمع من المجتمعات. وهذه الضروريات جاءت جميع الشرائع السماوية بحمايتها والمحافظة عليها، لأنه لا حياة للناس بدونها. ولا استقرار ولا أمن ولا طمأنينة إلا بصونها عن عبث العابثين والضروريات هي: (1) الأديان (2) الأنفس (3) العقول (4) الأنساب (5) الأعراض (6) الأموال.
أما الأديان فضرورة اجتماعية. وليست هناك أمة بدون تدّين سواء كان دينها صحيحا أو فاسداً. وللمحافظة على الدين فرض الإسلام القيام بالدعوة إليه. والدفاع عنه قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [1] .
وقال سبحانه {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [2] .
وللمحافظة على النفوس شرع الإسلام القصاص. قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [3] .(25/267)
وحرم الاعتداء على الأنفس بالإتلاف أو الإيذاء.
وللمحافظة على الأنساب حرم الإسلام الزنا ووضع له العقوبة الرادعة جلداً أو رجماً. قال تعالى {الزَّ انِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [4] وجاءت السنة برجم الزاني المحصن [5] .
وللمحافظة على الأعراض حرم الإسلام القذف. وشرع لذلك عقوبة رادعة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [6] .
وللمحافظة على الأموال نهى الإسلام عن أكل أموال الناس بالباطل وشرع لذلك حد السرقة. قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
حفظ العقل:
العقل نعمة من نعم الله الجليلة فهو الذي يميز به المرء بين الهدى والضلال. والخير والشر. والطيب والخبيث.
والعقل هو مناط التكليف وبه فضل الله الإنسان على بقية أنواع الحيوان لذا حرصت الشريعة الإسلامية على تحريم كل ما يضر بالعقل. فحرمت الخمر وكل مسكر. ولم تكتف بجعل الجزاء أخرويا فحسب. لأنه جزاء آجل وبعض النفوس لا يثنيها عن غيها ولا يردعها عن طغيانها آجل الجزاء بل يردعها التأديب الجسماني العاجل فشرعت لذلك عقوبة على من يتناول المسكرات أو يسعى في إزالة عقل شخص بالضرب ونحوه.
تحريم الخمر:
الخمر يقال لكل مسكر خامر العقل أي غطاه. وقيل هو: اسم للمتخذ من ماء العنب أو للمتخذ من ماء العنب والتمر. ورجح غير واحد من أئمة اللغة كالجوهري والدينوري أنه لكل شيء ستر العقل [7] .(25/268)
وقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر وعاقبت على شربها منذ أربعة عشر قرنا وانفردت بتحريمها والعقاب عليها طيلة هذه المدة حتى جاء العالم في القرن العشرين يشهد للإسلام بأنه كان على الحق في موقفه من الخمر. وذلك بعد أن أثبت العلم أن فيها من الأضرار ما لا يحصى فهي تفسد العقل. والصحة وتؤدي إلى ضياع المال والكرامة [8] .
التدرج التشريعي في تحريم الخمر:
جاء الإسلام والعرب كانوا في إباحة واسعة يكرهون كل ما يقيد حريتهم أو يحد من شهواتهم. وقد تمكنت من نفوسهم عادات كثيرة لا يستطيعون التحول عنها دفعة فاقتضت الحكمة الإلهية ألا يفاجئوا بالأحكام جملة فتثقل بها كواهلهم وتنفر منها نفوسهم. ولذلك وردت الأحكام التكليفية شيئا فشيئا ليكون السابق من الأحكام معداً للنفوس ومهيئاً لها لقبول اللاحق. وبذلك تكون أوقع في النفس وأقرب للانقياد.
من ذلك تحريم الخمر فإنها كانت متمكنة من نفوس العرب تمكنا اقتضت معه الحكمة الإلهية أن يتدرج القرآن في تشريع أحكامها. فلم يصرح لهم بتحريمها من أول الأمر بل قال في جواب عنها وعن الميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [9] .
ولا يفهم طلب الكف عنهما من هذه الآية إلا من عرف سرَّ التشريع لأن ما كثر إثمه ينبغي تركه إذ لا يوجد في الأفعال شر محض فالعبرة في الحل والحرمة بغلبة جهة المصلحة أو المفسدة.
وبعد أن أشار القرآن الكريم إلى أنه ينبغي تركها لغلبة إثمها نهى الناس عن الصلاة في حالة السكر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [10] .(25/269)
ثم صرح بالنهي عنها نهيا عاماً مؤكداً فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [11] .
والمتأمل في الآيات الكريمة التي نزلت في تحريم الخمر يرى أنه أشارت في إيجاز محكم إلى المفاسد الرئيسية للخمر. فآية النساء التي منعت من اقتراب الصلاة في حالة السكر بينت علة المنع وهي ألا يعلم المصلي ما يقول وفي هذا إشارة إلى أن الخمر تخرج الإنسان عن وعيه. وتفقده إدراكه. حتى يبلغ مرتبة الهذيان. وفي ذلك امتهان للعقل الذي كرم الله به الإنسان وفضله على سائر المخلوقات فالخمر مفسدة للفرد في عقله وآدميته.
كما أوضحت آية المائدة التي جاء فيها التحريم النهائي للخمر. سبب هذا التحريم وهو أن الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين المسلمين وتصرفهم عن ذكر الله وعن الصلاة. أي أنها مفسدة خلقية واجتماعية. ودينية. وأقل ما تحدثه الخمر بالإنسان هو أنها تشيع في نفسه روح الاستهتار وعدم المبالاة بالقيم. وأنها تبعد شاربها عن دينه وإيمانه.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن" [12] .(25/270)
هذا وقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة مخاطر إدمان شرب الخمر على أجهزة الجسم المختلفة. وأثبتت أيضا أن شرب الخمر قد يفضي إلى الوفاة بالتسمم الكحولي وأن الإدمان يفضي إلى الجنون. ولهذا نرى الأطباء يوصون المريض بعدم تناول المشروبات الكحولية وإلا عرض نفسه للخطر. وكل هذه الأضرار التي في الخمر أصبحت الآن حقائق علمية مؤكدة تدرس لطلبة الطب في أنحاء العالم [13] .
السنة النبوية والخمر:
جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة مؤكدة لتحريم الخمر. وجاء فيها بيان الأنواع التي تصنع منها الخمر على ما كان معروفاً في بلاد العرب وبيان عقوبة شارب الخمر. وبينت السنة أن الخمر ليست بدواء كما كان يظن بعض الناس وإنما هي داء.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " [14] .
وعن عمر رضي الله عنه قال: نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر والعسل، والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. متفق عليه [15] .
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا من جيشان. وجيشان من اليمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المِزْرُ. فقال: أمسكر هو؟ قال: نعم فقال: كل مسكر حرام.
إن الله عهد عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار رواه أحمد ومسلم والنسائي [16] .
حد الشارب:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين قال - أنس - وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. متفق عليه [17] .
ولمسلم في قصة الوليد بن عقبة. جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين. وجلد عمر ثمانين وكل سنة [18] .(25/271)
الخمر داء:
عن وائل بن حجر الحضرمي أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء. فقال: إنها ليست بدواء ولكنها داء. أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما.
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان [19] .
فهذان الحديثان يدلان على أنه يحرم التداوي بالخمر وأنها داء.
يقول العلامة ابن القيم في الطب النبوي: المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا أما الشرع فما ورد في الأحاديث النبوية.
وأما العقل فهو أن الله سبحانه وتعالى حرمه لخبثه فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [20] .
وإنما حرم الله على هذه الأمة ما حرم حمية لهم. وصيانة عن تناوله. فلا يتناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل. فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه. فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب. وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق. وباتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته. وهذا ضد مقصود الشارع. وأيضا فإن الخمر داء كما نص عليه صاحب الشريعة فلا يجوز أن يتخذ دواء [21] .
التداوي بالنجس والخمر:
أجاز بعض الفقهاء استعمال النجس في حال الضرورة والاضطرار. ومنع ذلك جماعة من الفقهاء.
استدل المجوزون بما روى الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن ناسا من عُرينة قدموا المدينة فاجتووها فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها. الحديث [22] .(25/272)
واستدل المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " [23] . والنجس حرام فلا يتداوى به لأنه غير شفاء.
قال الحافظ ابن حجر: "إن قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. محمول على حالة الاختيار. وأما في حال الضرورة فلا يكون حراماً كالميتة للضرورة. ولا يرد قوله صلى الله عليه وسلم في الخمر "إنها ليست بدواء إنها داء " في جواب من سأله عن التداوي بها. فإن ذلك خاص بالخمر ويلحق بها غيرها من المسكر والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحد يثبت باستعمال المسكر في حال الاختيار دون غيره ولأن استعمال المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة. ولأنهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف معتقدهم.
وأما أبوال الإبل فقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعا أن في أبوال الإبل شفاء لذربة بطونهم - والذرب فساد المعدة - فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه قال: وبهذا الطريق يحصل الجمع بين الأدلة والعمل بمقتضاها [24] .
ويقول ابن رشد في بداية المجتهد: استعمال المحرمات في حالة الاضطرار الأصل فيه قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [25] .
ثم بين أن استعمال المحرم إن كان لطلب البرء فهو محل خلاف بين الفقهاء. فمن أجازه منهم احتج بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة كانت به. ومن منع ذلك احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " [26] .
المنافع التي في الخمر:
وإذا قال قائل: إذا ثبت أن الخمر فيها من المضار ما ذكرتم. فكيف وصفها القرآن بأن فيها منافع للناس.(25/273)
والجواب عن ذلك أن المقصود بالمنافع في الآية المنافع المادية التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر يربحون منها الربح الفاحش كما يربحون من وراء الميسر. ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر. ولا شك أن النفع في الميسر مادي بحيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك الخمر.
قال القرطبي: فأما المنافع في الخمر فربح التجارة. فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح وكانوا لا يرون المماكسة فيها فيشتري طالب الخمر، الخمر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منافعها [27] .
ومن لطيف ما ذكره القرطبي في ذم الخمر. قال: إن شارب الخمر يصير ضُحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح بها وجهه. حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين [28] .
هذا وفي عصرنا الحاضر وبعد أن ظهر للناس أضرار الخمر من الناحية الطبية. والاجتماعية سارعت بعض الدول إلى سن التشريعات التي تحرم الخمر. "فأمريكا " كانت أصدرت قانونا يحرم الخمر تحريما تاماً وكذلك الهند أصدرت قانونا مماثلاً. وبعض الدول حرمت تقديم الخمر أو تناولها في المحلات العامة كما حرمت بيعها لمن لم يبلغوا سنا معينة. ولكن هذه التشريعات لم تنجح في محاربة الخمر لأن العقوبات التي فرضت لم تكن رادعة. وخير علاج يقي الناس شر هذا الوباء هو علاج الإسلام.
المخدرات:
حرمت الشريعة الإسلامية المخدرات والمفترات لما فيهما من الأضرار والمفاسد، وورد النهي في السنة عن كل مسكر ومفتر.
أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر [29] .
قال الإمام الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخور في الأعضاء [30] .(25/274)
وبالنظر في كتب اللغة نجد أن التفتير والتخدير معناهما متقارب، ففي لسان العرب: الفتر الضعف وفتر فتورا لانت مفاصله وضعف. وفي المصباح المنير ومعجم متن اللغة: خدر العضو استرخى فلا يطيق الحركة وخدرت عينه ثقلت من قذى أو غيره، والخدرة: الضعف والفتور يصيب الأعضاء والبدن [31] .
الفرق بين المسكر وغيره:
ذكر الإمام القرافي في كتاب "الفروق "التفرقة بين المسكر، والمرقد، والمفسد.
فالمسكر هو: الذي يغطي العقل ولا تغيب معه الحواس، ويتخيل صاحبه كأنه نشوان مسرور قوي النفس شجاع كريم، ولذلك قال الشاعر:
ونشربها فتتركنا ملوكا
وأسداً ما ينهنبهها اللقاء
والمرقد هو: الذي يغيب الحواس كالسمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس كالبنج.
أما المفسد فهو: المشوش للعقل كالحشيش والأفيون وسائر المخدرات والمفترات التي تثير الخلط الكامن في الجسد، ولذلك تختلف أوصاف مستعمليها فتحدث حدة لمن كان مزاجه صفراويا، وتحدث سباتا وصمتا لمن كان مزاجه بلغميا، وتحدث بكاء وجزعاً لمن كان مزاجه سوداويا، وتحدث سرورا لمن كان مزاجه دمويا فتجد من متناوليها من يشتد بكاؤه، ومنهم من يشتد صمته ومنهم من يعظم سروره وانبساطه.
فشرّاب الخمر تكثر عربدتهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح. ويهجمون على بعض الأعمال التي لا يطيقونها في حال الصحو كما أشار الشاعر، أما أهل الحشيش والأفيون فيصيرون همدة ساكتين انتزعت منهم قوة البطش بل هم أشبه شيء بالبهائم ولذلك تكثر حوادث القتل مع شراب الخمر ولا تكاد توجد مع أصحاب المخدرات إذ هذه المخدرات تحدث خنوثة الطبع وفساده، وقد تجر صاحبها إلى الدياثة على زوجته وأهله فضلا عن الأجانب.
والمسكرات محرمة إجماعا وفيها الحد، والمخدرات محرمة كذلك، وفيها الحد أو التعزير الزاجر عنها.(25/275)
والمرقدات يجوز استعمالها للعمليات الجراحية. قال ابن فرحون المالكي: والظاهر جواز ما يسقى من المرقد لقطع عضو ونحوه، لأن ضرر المرقد مأمون، وضرر العضو غير مأمون. وبهذا تنفرد المرقدات عن المخدرات [32] .
وقال صاحب القواعد السنية في الأسرار الفقهية: اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون ولا غيرهم من علماء السلف، لأنه لم يكن في زمنهم وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة وانتشر في دولة التتار.
قال العلقمي في شرح الجامع: حكى أن رجلا من العجم قدم القاهرة وطلب دليلا على تحريم الحشيشة وعقد لذلك مجلساً حضره علماء العصر، فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بحديث أم سلمة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. فأعجب الحاضرين قال: ونبه السيوطي على صحته، واحتج به ابن حجر على حرمة المفتر ولو لم يكن شرابا ولا مسكرا ذكره في باب الخمر والعسل من شرح البخاري.
وكون الحشيشة من المفتر مما أطبق عليه مستعملوها ممن يعتد بهم. وبخبرهم يعتد في مثل هذا الأمر. والقاعدة عند الأصوليين والمحدثين أنه إذا ورد النهي عن شيئين مقترنين ثم نص على حكم النهي عن أحدهما من حرمة أو غيرها أعطي الآخر ذلك الحكم بدليل اقترانهما في الذكر والنهي. وفي الحديث المذكور ذكر المفتر مقرونا بالمسكر. وتقرر عندنا تحريم المسكر بالكتاب والسنة والإجماع فيجب أن يعطى المفتر حكمه بقرينة النهي عنها مقترنين. وفسر غير واحد التفتير باسترخاء الأطراف وتخدرها وصيرورتها إلى وهن وانكسار [33] .(25/276)
وقال ابن حجر الهيتمي: واعلم أن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر. يحد آكلها على قول قال به جماعة من أهل العلم كما يحد شارب الخمر. وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج. إفساداً عجيباً حتى يصير في متعاطيها تخنث قبيح ودياثة عجيبة وغير ذلك من المفاسد. فلا يصير له من المروءة شيء البتة، ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع وفساده وانقلابه إلى أشر من طبع النساء.. وكذا متعاطي نحو البنج والأفيون. قال:
والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصيال على الغير وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش. ثم قال: وسبب اختلاف العلماء في الحد فيها وفي نجاستها كونها جامدة مطعومة ليست شرابا. فقيل هي نجسة كالخمر وهو الصحيح عند الشافعية. وقيل: المائعة نجسة. والجامدة طاهرة. قال: وعلى كل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر لفظا ومعنى [34] .
قال ابن البيطار: إن الحشيشة وتسمى القنب توجد في مصر مسكرة جداً إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين، وقبائح خصالها كثيرة. وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية [35] .
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى عن الحشيشة وعن تاريخ ظهورها ورأى أهل العلم فيها حديثا قيما مفصلاً.
من ذلك قوله: وكذا الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد وهي نجسة في أصح الوجوه وقد قيل: إنها طاهرة. وقيل: يفرق بين مائعها ويابسها والأول الصحيح، لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النئ، بخلاف ما لا يسكر بل يغيب العقل كالبنج أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب فإن ذلك ليس بنجس. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها [36] .(25/277)
قال: الحمد لله هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر. والسكر منها حرام باتفاق المسلمين. ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب. فإن تاب وإلا قتل مرتداً لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين [37] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك والخمر توجب الحركة والخصومة. وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل وفتح باب الشهوة وما توجبه من الدياثة مما هي من شر الشراب المسكر وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار [38] .
ويقول الدكتور نجيب الكيلاني عن المخدرات:
تطلق كلمة المخدرات على كثير من المواد الطبيعية والكيماوية التي تؤدي إلى خدر الجسم والعقل والمواد المخدرة تختلف في آثارها ومضاعفاتها واستجابة الجسم والعقل لها وكثير من هذه المواد قد يؤدي إلى الإدمان بحيث لا يستطيع متعاطيه أن يستغنى عنها وإلا أصيب بأضرار مختلفة قد تصل إلى الموت.
وبعض هذه المواد قد يؤدي إلى السكر أو غياب العقل أو يؤدي إلى لون من التخيل وتصور أمور لا وجود لها. فإذا انتهى أثر المخدر شعر المدمن بحالة من الاضطراب وعدم الاستقرار والكآبة والتوتر ويظل في تدهور وتوتر. بل إن أجهزة الجسم تتأثر على اختلاف أنواعها.
قال: ولقد انتشرت الأدوية المخدرة في كل أنحاء العالم انتشاراً رهيباً وتفشت المخدرات بين الشباب وخاصة في أوروبا وأمريكا. وتسببت هذه المخدرات في كثير من الانحرافات والكوارث الاجتماعية. والاقتصادية. والأخلاقية [39] .(25/278)
وأكتفي بهذا القدر ولولا ضيق الزمن لتوسعت في بعض موضوعات هذا البحث المتشعب النواحي. وحسبنا أن نعلم أن الشريعة الإسلامية سبقت كل النظم والقوانين في محاربة المسكرات والمخدرات وبيان ما فيها من أضرار ومفاسد. وكلما تقدم العلم أثبت صدق الشريعة وأنه لا خلاص للناس من مخاطر الشقاء والهلاك والدمار إلا في الأخذ والعمل بما جاءت به هذه الشريعة الغراء.
وفق الله المسلمين للتمسك بتعاليم دينهم والعمل بما في شريعتهم حتى يعزهم الله ويكتب لهم الخلاص مما فيهم.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق..
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خير خلقه وعلى آله وصحبه..
مراجع البحث:
1 - روائع البيان تفسير آيات الأحكام ج1 للشيخ محمد علي الصابوني ط مكتبة الغزالي.
2 - صحيح الإمام البخاري مع شرحه فتح الباري لابن حجر ج12 المطبعة السلفية (كتاب الحدود) .
3 - نيل الأوطار مع شرحه منتقى الأخبار للإمام محمد بن علي الشوكاني ج 8 ط مكتبة الدعوة الإسلامية القاهرة (كتاب الأشربة) .
4 - بلوغ المرام لابن حجر مع شرحه سبل السلام للصنعاني ج4 باب حد الشارب وبيان المسكر ط الحلبي.
5 - بداية المجتهد لابن رشد ج 8 كتاب (الأطعمة والأشربة) ط مطبعة حسان بالقاهرة تقديم "سيد سابق"وتصحيح عبد الحليم محمد. وعبد الرحمن حسن.
6 - كتاب الفروق للإمام القرافي ج1 ط دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبي / مصر.
7 - القواعد السنية في الأسرار الفقهية هامش ج 1 من الفروق / للشيخ محمد علي حسين مفتي المالكية.
8 - الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي ج 2 ط دار إحياء الكتب العربية.
9 - كتاب: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج 34 ط الأولى.
10 - التشريع الجنائي الإسلامي المقارن بالقانون للأستاذ عبد القادر عودة ج 1 ط ثانية مطبعة دار العروبة.(25/279)
11 - لسان العرب: لابن منظور.
12 - المصباح المنير لأحمد بن علي المقري الفيومي.
13 - في رحاب الطب النبوي للدكتور نجيب الكيلاني ط الأولى: مؤسسة الرسالة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة آل عمران الآية:104.
[2] سورة الأنفال الآية: 60.
[3] سورة البقرة الآية: 179.
[4] سورة النور الآية: 3.
[5] انظر: ج4 من سبل السلام للصنعاني ص 4_ 5 ط الحلبي.
[6] سورة النور الآية: 4.
[7] انظر ج1 من المصباح المنير للقيومي ص 348ط بولاق السادسة وج8 من نيل الأوطار للشوكاني ص 176 ط مكتبة الدعوة.
[8] انظر ج1 من التشريع الجنائي المقارن لعبد القادر عودة ص 650 / 51/ ط دار العروبة الثانية.
[9] سورة البقرة الآية: 219.
[10] سورة النساء الآية: 43.
[11] سورة المائدة الآيتان: 90 _91.
[12] انظر: ج من صحيح البخاري مع فتح الباري ص 58 الطبعة السلفية.
[13] انظر: كتاب في رحاب الطب النبوي للدكتور نجيب الكيلاني ص 59ط مؤسسة الرسالة بيروت.
[14] الحديث أخرجه مسلم انظر: ج8 من نيل الأوطار للشوكاني ص 173 ط مكتبة الدعوة.
[15] انظر: ج 4 من سبل السلام للصنعاني ص 33 ط الحلبي.
[16] انظر: ج 8 من نيل الأوطار للشوكاني ص 174 ط مكتبة الدعوة الإسلامية لشباب الأزهر.
[17] انظر: ج 4 من بلوغ المرام وشرحه سبل السلام للصنعاني ص 28 ط الحلبي.
[18] المصدر السابق ص 30.
[19] المصدر السابق ص 36.
[20] سورة النساء الآية: 160.
[21] انظر: كتاب في رحاب الطب النبوي للدكتور نجيب الكيلاني ص59 ط مؤسسة الرسالة.
[22] انظر: ج1 من جامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ص 242 مطبعة المدني بالقاهرة.(25/280)
[23] الحديث أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان انظر: ج4 من سبل السلام للصنعاني ص 36 ط الحلبي.
[24] انظر: كتاب تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ص 243/ 245 مطبعة المدني ج1.
[25] الأنعام الآية: 119 وانظر: ج1 من بداية المجتهد لابن رشد ص 585 ط حسان.
[26] الحديث أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان انظر: ج4 من سبل السلام ص 36 ط الحلبي.
[27] انظر: ج1 من تفسير آيات الأحكام للصابوني ج1 مكتبة الغزالي ص 274.
[28] المصدر السابق ص 275.
[29] انظر: ج4 من سبل السلام للصنعاني ص 35 ط الحلبي.
[30] المصدر السابق.
[31] انظر: لسان العرب لابن منصور والمصباح المنير للفيومي. ومعجم متن اللغة لأحمد رضا مادة: خدر وفتر.
[32] انظر: ج1 من كتاب الفروق للقرافي ص 215/ 216 ط عيسى الحلبي.
[33] نفس المصدر السابق للقرافي ص.
[34] انظر: ج2 من كتاب الزوجر لابن حجر الهيثمي ص 138 ط عيس الحلبي.
[35] انظر: ج4 من سبل السلام للصنعاني ص 35/ 36 ط مصطفى الحلبي.
[36] انظر: ج 34 من مجموع الفتاوى لابن تيمية ص 189 ط الأولى.
[37] المصدر السابق لابن تيمية ص 210/ 214.
[38] انظر: ج 36 من مجموع الفتاوى لابن تيمية ص 189 ط الأولى.
[39] انظر: كتاب في رحاب الطب النبوي للدكتور نجيب الكيلاني ص 13/ 14 ط مؤسسة الرسالة.(25/281)
الخمر جماعُ الإثمِ
للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
وبعد فيسرني أن أرحب بالجامعة الإسلامية _ في المدينة المنورة _ فيما تعتزمه من عقد مؤتمر في صدد مكافحة المخدرات والمسكرات، وهي دائمة معينة بقضايا المسلمين، وما يجدّ من المشاكل في حياتهم، فهي أجدر بأن تقوم بإصلاحات جذرية وتقدم جهوداً وخطوات نافعة في إزالة الأمراض والمفاسد التي تغزو المجتمع الإنساني عامة والمجتمع الإسلامي خاصة، وإن معالجة قضايا المسلمين ووصف أمراضهم وتقديم العلاج الناجح لها من واجبات المسلمين ومسئولياتهم، إذن فإن عقد هذا المؤتمر جاء في موضعه وأوانه.
ومن المعلوم أن الدين الإسلامي حريص على بقاء هذه الإنسانية والحفاظ على كرامتها وشرفها، وشرع أحكامه لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، وإن الخمر " جماع الإثم " كما جلاء على لسان النبوة _ على صاحبه الصلاة والسلام _ وجاء التحذير منه في آيات مفصلة من كتاب الله وأحاديث مستفيضة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتحرق له القلب ألماً ويتندى له الجبين حياءُ، أن هذا الداء الوبيل والمرض العُضال الذي نعى عليه الشرع الإسلامي الحكيم وحرّمه قد تسرب في مجتمعنا اليوم، وشاع إدمان الخمر في كثير من الأقطار والبلاد ومنى به أبناء الإسلام، بل أصبح تناول المسكرات والمخدرات موضة من موضات العصر الحديث يتسلى به الناس ولا يخافون سوء عاقبته، وإذا تفشى هذا الداء فإنه يكاد ينخر المجتمع بأسره، ويخشى به الزوال على جميع القيم الخلقية السامية التي اعترفت بها الديانات وتشبثت بها الأجيال، والحفاظ على العقل من مقاصد الشارع الحكيم، وبالحفاظ عليه يناط صلاح الإنسانية والقيام بمصالحها، فإذا اختل العقل وأصابه فتور وشلل، اختلت الموازين كلها.(25/282)
أكتفي بهذه الكلمة الموجزة التي أمليتُها على عجل - وأنا على أهبة السفر إلى البلاد- وأكرر الترحيب بهذا المؤتمر وأدعو الله أن يكلله بالنجاح ويحقق الأهداف الإنسانية الإسلامية النبيلة التي يرمي إليها، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.(25/283)
مكافحة المُخدَّراتِ واجبٌ ديني وطني إنساني
للواء جميل محمد الميمان
مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن من فضل الله تعالى على عباده أن شرع لهم من الدين ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم، ومن رحمته سبحانه أنه لم يفرض عليهم من التكاليف الشرعية إلا ما يطيقون، فأحل الله لعباده الطيبات من الرزق، وحرم عليهم الفواحش والخبائث ونهاهم عن كل ما يفسد دينهم أو يضر بمصلحتهم. فجاءت الشريعة الإسلامية الغرّاء لحفظ كيان الأمة. فأوجبت حماية الضروريات الخمس التي يقوم عليها البناء القوي للمجتمع الصالح وهي حماية النفس والعقل والدين والمال والعرض. وحرمت ما يضر بشيء منها بنصوص محكمة لا تقبل التأويل.
ومن فضل الله تعالى أن رفع الإنسان وفضله على كثير من خلقه، بأن أنعم عليه بالعقل ليكون مسئولا عن تأدية التكاليف الشرعية التي فرضها على الإنسان والتي لم يحصرها سبحانه في الصلاة وغيرها من العبادات. بل إن الإسلام يتطلب من المسلم يقظة فكرية دائمة وتحكيم عقله في كل شيء، واستجلاء كل الظواهر المحيطة به سعياً وراء خير الأمة الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وغاية من غاياتها. لذلك فقد حرم الله سبحانه وتعالى كل ما يضعف العقل أو يذهبه، والمخدرات بمختلف أشكالها وأنواعها محرمة شرعاً لتأثيرها المباشر على العقل، فهي تعطله وتذهب به.(25/284)
إن تعاطي المواد المخدرة ظاهرة عرفت منذ زمن بعيد، وكانت حتى عام 1940م تنحصر في بعض الدول التي عانت من إساءة استعمال المخدرات الطبيعية ذات الأصل النباتي (الحشيش والأفيون) . وأثناء الحرب العالمية الثانية بدأ الطيارون الألمان يستعملون جرعات من عقار الأمقيتامين المنشط لزيادة عدد طلعات الطيران، ثم تطور الأمر إلى إساءة استخدام العقاقير الأخرى المصنعة سواء المنشطة أو المنومة أو المهلوسة، والتي تنتجها مصانع الأدوية من مواد كيمائية على شكل حبوب أو أقراص أو كبسولات أو حقن أو أشربه، وقد كانت تنتجها أصلاً للأغراض الطبية والعلاجية لبعض الأمراض النفسية أو لتسكين بعض الآلام أو لإذهاب القلق والمساعدة على راحة الإنسان المريض ولكن للأسف، أسيء استعمال تلك العقاقير بشكل رهيب، فشكلت ظاهرة خطيرة أخذت بتلاليب معظم المجتمعات الدولية وأصبحت كظاهرة المخدرات الطبيعية سواء بسواء إذ أنها كلها سموم، بل إن مشكلة العقاقير المخدرة أشد وطأةً وأثراً على المجتمعات الدولية في وقتنا المعاصر، بل وكارثة عظمى تهدد المجتمع الإنساني بسبب سهولة تناولها ووجودها بالصيدليات ومراكز الأدوية، ولتشابهها مع تلك الأدوية التي يستعملها المريض بوصفات طبية مشروعة. وقد نشأت المشكلة بسبب استعمالها بطريق خاطئ يؤدي إلى الإدمان، وتنتج عنه أبلغ الآثار السيئة والأخطار الجسيمة على مستعمليها وعلى المجتمع.
ولقد أحس المجتمع الدولي بخطورة المشكلة.. فهب إلى إبرام اتفاقية المواد النفسية عام 1971م وضع بمقتضاها نظاما للرقابة على العقاقير ذات التأثير على النفس والعقل بهدف قصر استخدامها للأغراض الطبية والعلمية فقط، وبذلت _ وما زالت تبذل _ من كافة الأجهزة المعينة بشئون المخدرات والهيئات العالمية الصحية جهود مضنية في سبيل التصدي لهذه المشكلة ودرء أخطارها الجسيمة.(25/285)
ولم يسلم مجتمعنا العربي السعودي من هذه الظاهرة (استعمال الحبوب المخدرة) ولكن _ والحمد لله _ ما زالت لا تعدو أن تكون دقاً لناقوس الخطر الذي بدأ في الآونة الأخيرة يقرع أسماعنا. والمشكلة إن كانت قائمة، فالوقاية منها والاحتياط لها _ قبل أن تستفحل _ واجب. وهناك دول وقعت فريسة لهذا الداء الوبيل ولم تدرك خطره إلا بعد أن عانت الكثير منه. فعلينا أن نأخذ درساً مما عانته تلك الدول، فالتقى من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه. ومن واجبنا الديني والوطني والإنساني أن نتصدى لهذه الآفة بكل إيمان وجدية لندرأ عن شبابنا أخطارها. وعن مجتمعنا آثارها، فالوقاية خير من العلاج.
والكارثة التي تحل بالفرد وبالمجتمع نتيجة استعماله للمخدرات. تبدأ من مستصغر الشرر. فيبدأ الفرد في تعاطيها لهدف أو لظرف خاص، مثل الطالب الذي يستعمل حبوب الأمفيتامين بهدف اليقظة والسهر للاستذكار وقت الامتحانات، والمرآة التي تأخذ الحبوب لمعالجة البدانة التي تفقدها الشهية لتزيد من نشاطها وقدرتها على القيام بمسئولية بيتها. والعامل الذي يبغي الحفاظ على قواه وزيادة نشاطه وقدراته على العمل والإنتاج، والسائق الذي يتناول الحبوب المنبهة لتساعده على السهر لمواصلة السفر بسيارته، والشارب الذي يجاري صديقه فيستعمل الحبوب المخدرة مجاملة أو تقليدا في ميوعة يريد بها إنعاش نفسه، أو إزالة همومه، أو الهروب من مشاكله العائلية، أو النفسية التي تنتابه نتيجة بعض الظروف التي تحيط به اجتماعياً أو أسرياً، وذلك الذي يتناول الحبوب لأسباب صحية دون استشارة الطبيب. كل هؤلاء واهمون، مخطئون.. إذ أنهم بعد وقت قصير يتأكدون من ذلك. ويشعرون أن كل ما سعوا إليه من استعمالهم للمخدر أثره وقتي، وسريعاً ما يزول، فيدفعهم ذلك بلا شك إلى زيادة الجرعة التي يتعاطونها أملا في تحقيق ما يريدون فيعتادونها، ثم يدمنونها، وهنا تقع الكارثة.(25/286)
إن إدمان المواد المخدرة يعود بأسوأ النتائج على الفرد في صحته الشخصية وإرادته وعمله وإنتاجه ووضعه الاجتماعي، فيعاني من الأمراض وضعف البنية والشخصية، وينتابه الخمول والوهن، ويفقد السيطرة على تحركاته وأعماله وأقواله، ويتحول إلى شخص يفتقر إلى الطاقة المهنية والحماس والإرادة اللازمة لتحقيق واجباته العادية المألوفة، ويصبح شخصاً كسولاً. سطحياً. متواكلاً. غير موثوق فيه، مهملاً، منحرف المزاج، فينعكس أثره على عمله، وعلى تعامله مع الناس، وغالباً ما يفشل في دراسته، أو يطرد من عمله، أو يقل إيراده، وينعكس كل ذلك على أسرته، فلا تكون له القدرة على رعاية أبنائه وتربيتهم التربية السوية، فهو شخص مهموم مرتبك التفكير، لا همّ له إلا أين، ومتى، وكيف يتعاطى الجرعة التي اعتادها، فيحطم بذلك ذاته وعلاقاته مع أسرته ومعارفه وجماعته، وتصبح أهداف الحياة لديه ثانوية.(25/287)
ولا شك أن المجتمع يتأثر تأثراً مباشراً من هذه الظاهرة، اقتصاديا، واجتماعيا، وأمنيا. فضعف إنتاج الفرد يؤثر على إنتاج المجتمع. بالإضافة إلى أن دخول العديدين ممن يتعاملون في المواد المخدرة السجن يشكلون عبئاً على اقتصاديات الدولة لما تتكبده من مصاريف باهظة لإعاشتهم ورعايتهم وعلاجهم وهم أيدٍ عاطلة لا يؤدون عملاً، فضلا عما تنفقه الدولة من أموال طائلة على قوات الأمن، وقوات المكافحة، والقضاء، وكان من الأجدى أن تتجه تلك الأموال إلى دعم اقتصاديات المجتمع. ثم إنه يجب أن لا نغفل تلك المبالغ الهائلة التي تضيع سدى خارج البلاد أثماناً للمواد المخدرة. ويا ليتها كانت ثمناً لآلات ومعدات تدعم الاقتصاد الوطني وتنشد الرخاء للمجتمع. كما يجب أن لا نغفل مدى القلق والفزع الذي يلحق أفراد المجتمع من جرائم متعاطي المسكرات والمخدرات، فلقد أكدت الدراسات والإحصائيات ارتباط تعاطي المخدرات بالجريمة، فكلما زادت ظاهرة التعاطي زادت معها معدلات الجرائم المختلفة من قتل وسرقة واعتداء على النفس والعرض، فضلا عن حوادث السيارات والحريق وإصابات العمل. فالمخدرات في حد ذاتها جريمة يعاقب عليها النظام، ومن يرتكبها يمكن أن يستمرئ لنفسه ارتكاب غيرها من الجرائم، فهي تشجعه على مخالفة الأنظمة الأخرى وارتكابه أفعالا ضارة وتصرفات طائشة، وتزين له نفسه غير الواعية _ تحت تأثير المخدر _ أن يرتكب الفواحش والجرائم فتعرضه لعقوبة السلطة، وتؤدي به إلى السجن. فيفصل من عمله إذا كان موظفا، ويضيع مستقبله، ويضر بأسرته التي يتركها دون عائل. فيتشرد أبناؤه ويسيرون في طريق مظلم دون هادٍ أو راعٍ لهم، ويضلون السبيل وتتفكك الأسرة التي هي عماد المجتمع.(25/288)
وإن كان عاملا على آلة أو ماكينة، فإنه يتسبب بفعل المخدر وعدم وعيه إلى إتلافها أو إلى إحداث حريق مدمر للمؤسسة التي يعمل بها، أو أن يصاب بإصابة تعجزه عن العمل. أو تودي بحياته. فيخسر نفسه وتخسر أسرته. ولو أن المجال هنا يتسع لسردت الكثير مما صادفني أثناء ممارستي لعملي من مآسي لحقت بأسر انهارت وتشردت بسبب تعاطي عائلها للمخدرات ودخوله السجن، وفصله من عمله وطرده من الخدمة العسكرية، أو موته أو إصابته. وكم من سائقين راحوا ضحية حوادث سيارات وراح معهم ضحايا أبرياء بسبب عدم وعيهم نتيجة استعمالهم للمخدرات. وتشير الإحصائيات والدراسات أن 10% من حوادث السيارات كانت نتيجة استعمال السائقين للمخدر. وقد ازدادت النسبة إلى 25% حتى أصبحت الآن تشكل السواد الأعظم من أسباب حوادث السيارات والشاحنات خاصة على الطرق.(25/289)
وإن الشباب _ عدة الأمة ومناط آمالها ورجال الغد والدعامة الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع في التنمية ونهضة البلاد _ مُستهدف من أعدائنا لتقويض عزيمته، والفت في عضده لإبعاده عن المشاركة بفاعلية والإسهام بجدية في تقدم الأمة ورقيها وتحقيق آمالها الطموحة في التنمية والازدهار _ فتتجه مشكلة المخدرات اليوم للنيل من شبابنا _ وقد فطنت حكومتنا الرشيدة وبتوجيهات من جلالة مولاي الملك المعظم وسمو ولي عهده الأمين وسمو وزير الداخلية وسمو نائبه إلى الاهتمام بالتصدي لهذه المشكلة، وحماية شباب هذه الأمة من أخطارها، ووقايته من كل ما يعوقه عن المشاركة الإيجابية في عمليات التنمية، وهبت كافة الجهات المعينة ذات العلاقة بالمملكة للمساهمة في المكافحة وحل المشكلة من كافة جوانبها الاجتماعية والصحية والنفسية، كما أن سعادة الفريق أول / عبد الله عبد الرحمن آل الشيخ مدير الأمن العام قد والى عنايته بأعمال المكافحة، بمدها بكل عون ومساعدة في سبيل الضرب على أيدي كل من يتعامل في المواد المخدرة تهريباً، أو تجارةً، أو ترويجاً، أو استعمالاً. وأسأل الله عز وجل أن يهدي شبابنا إلى ما فيه صلاح دينه ودنياه، وأن يلهمه الصواب والهدى والتقى، وأن يجنبه سوء الأخلاق ما ظهر منها وما بطن إخلاصا لدينه ومليكه ووطنه.
وأختم كلمتي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله _ الشباب الذي نشأ في عبادة الله _ وفق الله شبابنا المسلم إلى تحقيق ذلك، والله الموفق وهو من وراء القصد.
القات والوقت والأموال الضائعة(25/290)
إن الجمهورية العربية اليمنية تخسر سنويا ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون ساعة عمل هو الوقت الهائل الذي يضيع على أبناء اليمن بسبب مضغ أوراق القات وتخزينه وهو وقت تتبين قيمته في التنمية المطلوبة لهذا البلد الإسلامي فيصيب اقتصادها بخسائر فادحة فضلاً عن ألف مليون ريال ثمناً للقات الذي يستهلكه المواطنون.
(من تقرير المكتب العربي لشئون المخدرات)(25/291)
المخدَّرات أخطرُ مُعوَّقاتِ التنمِيةِ
للدكتور إبراهيم إمام
رئيس قسم الإعلام بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وفضله على غيره من الأكوان بما ركّب فيه من قوى أعلاها العقل وأغلاها الإدراك والفهم، والمعرفة من أهم خصائص الإنسان {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} يشير إلى ما أودع الله سبحانه في آدم من قوى الإدراك والاستنباط والقياس، وتداعي المعاني وتوالدها. ومن هنا كانت القدرة على إنماء قاموسه اللغوي، وإضافة جديد إليه كل يوم، إذ كلما جدَّ جديد في الحياة من المخترعات والمصنوعات التي تفتق عنها عقل الإنسان، وضع لهذا الجديد اسما يعرف به، ويستدل منه عليه، ففي عقل الإنسان تتولد المدركات، وتتشكل الصور، وتتداعى المعاني، ومن عقل الإنسان تخرج الأسماء لكل مدرك، ولكل متصور في عالم الواقع أو الخيال.
يقول الله تعالى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . وفيه بيان لموقف الملائكة في هذا الامتحان، وعجزهم عن وضع أسماء لتلك المخلوقات التي عرضها الله تعالى عليهم، لأنهم ليس لهم على ذاتي، عن طريق الاستنباط والقياس، كما الشأن في الإنسان، وإنما علمهم محصور فيما يعلمهم الله فيه، لا يزيدون فيه أو ينقصون، فلا ابتكار ولا اختراع، على خلاف الإنسان الذي يبتكر ويخترع، ويجمع بين الأشياء ويفرقها، ويولد منها ويختصر.(25/292)
وإذا كان الحيوان مخلوقاً ذا طبيعة واحدة. جسمه مصدر طاقته وغرائزه توجهه، يأكل ويشرب ويتناسل بدافع جسدي بحت لا إدراك فيه لهدف، ولا اختيار لوسيلة، وإذا كان الملَكُ مخلوقا يعيش في نطاق روحه، ويطيع الله تعالى بفطرته، لأنه مفطور على الطاعة المطلقة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
فإن الإنسان له طبيعته الفريدة التي تتميز بكونه قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فالشهوات كلها أو الدوافع الفطرية أو الغرائز الإنسانية أو القوة الحيوية هي نشاط جثماني، ولكنها فطرة قابلة للكبح والضبط بالعقل والإدراك، وقابلة للسمو الروحي بالإيمان بالله والمثل العليا والعمل على تحقيقها إيجابياً في واقع الحياة.
الإسلام والتنمية:
وفي قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} كشف عن فضل آدم في هذا الموقف وأنه قادر على مالا تقدر عليه الملائكة، من إحداث هذا التغيير في وجه الأرض، بما أدخله عليها من إضافات في صورها وأشكالها، وذلك ما لا تستطيعه الملائكة من ذات أنفسها، ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، سجود إجلال وتعظيم لقدرة الخالق سبحانه، الذي أخرج من تراب الأرض كائناً يعلم الملائكة ما لم يكونوا يعلمون.(25/293)
وقد غير آدم الأرض فأخرج المخبوء من أسرارها، وسخرها لخدمته، فعمر جديبها، وأحيا مواتها، واستأنس متوحشها، وألان حديدها، حتى أقام تلك المدنيات وهذه الحضارات، فركب البحار وسبح في الفضاء، ووصل إلى الكواكب والأقمار، حتى أخيراً قدميه على القمر.
ثم إن الإنسان لا يقف عند هذا الذي أخرجه من معطيات مدركاته فإن أمام الإنسان مجالاً فسيحاً للبحث في أسرار هذا الكون الذي أودع به الخالق سبحانه مالا ينفذ من آيات علمه، وحكمته وقدرته، فإذا عجز جيل من أجيال الناس عن اكتشاف سر من أسرار الكون جاء الجيل الذي بعده، فحاول أن يكشف عن مكنون هذا السر، وهكذا تتوالى أجيال الإنسانية، كل جيل يبني على ما أقامه الجيل السابق حتى يعلو صرح البناء، وينمو نموا مطردا، ما دام للناس وجود على الكوكب الأرضي [1] .
والمعرفة من أهم خصائص الإنسان، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} والإنسان خليفة الله الخالق المبدع المسيطر على كل قوى الكون، وهو مخلوق تحتفل به السماوات والأرض، ويتولى الله سبحانه وتعالى إعلان مقدمه على الملأ الأعلى. فالخلافة عن الله فيها معاني الإنشاء والابتكار والتعمير والتغيير والتبديل، وكلها معاني دقيقة لاصطلاح التنمية.
التنمية تكليف إسلامي:(25/294)
وقد تحدث القرآن الكريم عن جسم الإنسان وحواسه وعقله وقواه الظاهرة والباطنة فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال جل شأنه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ} .(25/295)
والحواس نعمة من الله أنعم بها على عباده، وهي التي تصل بين البيئة الخارجية وعقل الإنسان، فكل ما يراه الإنسان ويسمعه ويلاحظه ويشمه ويختبره ينتقل إلى العقل الذي يزنه ويميزه، فتنشأ عمليات التعقل والتذكر والتفكر والتدبر. يقول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . ويقول جل شأنه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
وهكذا نجد أن الإسلام يوجه الإنسان إلى البحث والدراسة والملاحظة والتجريب، ويحثه على استخدام عقله وفكره ليتدبر الكون من حوله، وينال نتيجة جهده وكدحه بقدر ما ينفق من رصيد العلم والمعرفة، الذي جمعه من النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وما أودع الخالق سبحانه في مستكنات الأسرار في هذا الوجود. وهكذا يتحقق إعمار الأرض وتنمية الحضارة.(25/296)
فأهم ما يميز الإنسان قدراته العقلية وإمكانياته اللغوية والرمزية، وما جبل عليه من اختيار وإرادة، ومحاولته حل المشكلات والتعلم والتدرب، فضلا عن نشاطه الفكري وتحليقه في التصور الإيجابي والتخيل البناء، فهو يرسم في ذهنه صورة للواقع ويرسم صورة أخرى لواقع جديد يريد أن يحققه بفضل ما أفاءه الله عليه من نعمة العقل والإدراك، بحيث يكون تحركه من الواقع الملموس والصورة المأمولة تحرك إنجاز وفاعلية.
ولا حرج في الإسلام من بلوغ الإنسان شأواً بعيدا في مجال التنمية طالما يتقي الله ويعمل لمرضاته، وفي تلك الحدود الربانية لا قيود على حريته في البحث والعلم والتنمية، بل إنه مطالب بذلك، ومكلف بإعمار الأرض وتحسين أحوال معيشته، والحصول على طيبات الرزق، والعمل المتواصل من أجل رقيه وسعادته.
موقف الإسلام من الخمر والمخدرات:
والنشاط الفكري للأفراد والجماعات البشرية وكذلك قدراتها على التنظيم والبحث العلمي والعمل الاقتصادي والإنتاج الصناعي والزراعي وغيره، كله مرهون بسلامة العقل الإنساني من أي قصور أو فتور أو تخدير، فالإقبال على الحياة، والاحتكاك بالواقع لتغييره إلى الأفضل شيمة الإنسان المسلم السوي، فهو يعالج الواقع أو يتحاور معه بالعمل الجاد والخيال الإيجابي القائم على التصور الفعلي، أما الشخص السلبي فإنه يركن إلى الوهم والخيال، ويظن أن المخدر هو منقذه من مرارة الواقع مع أنه يسلمه إلى الخيال المريض.(25/297)
والإسلام الذي يؤكد قيمة الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه في الأرض، لا يتضمن مفهوماً غريباً كمفهوم التخليص المسيحي اليهودي، لأن الإسلام يعتبر حياة الإنسان على الأرض شيئاً إيجابياً، وينظر إلى الأمام من أجل تحقيق الإرادة الإلهية في المستقبل، والسعادة الحقيقية، وإن أقرب تعبير إسلامي عن العمل الناجح والتنمية السليمة هو الفلاح، فالإسلام يتحدث عن الأمة الإسلامية النشطة البناءة المسئولة الفعالة في التاريخ والتي هي بحق خير أمة أخرجت للناس في سعيها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر.
ولقد عد الإسلام إذهاب العقل والتحذير من الكبائر التي يعاقب عليها بالحد الشرعي وذلك حفاظاً على كيان المجتمع البشري ونشاطه الفعال في خدمة التنمية والأهداف السامية للإنسان، وقد قصد الشارع الإسلامي بتعاليمه وتكاليفه وأحكامه المحافظة على الأمور الضرورية الخمسة للناس وهي الدين والنفس والعقل والمال والنسل أو العرض، فكل ما يحفظ هذه الأمور الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأمور أو بعضها فهو مفسدة. لذا فقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم المسكرات والمخدرات، لما فيها من الأضرار الفادحة والمفاسد الكثيرة التي تتولد منها وتنشأ عنها بالنسبة للفرد والمجتمع.
ويستوي في نظر الإسلام كل مسكر، لآن المسكر في اللغة الخمر وكل ما يسكر ويذهب بالعقل من الخمرة وما فيها معناها كالحشيش والأفيون والمواد النفسية من العقاقير التي قذفت بها الحضارة الغريبة. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " رواه أحمد، وأبو داود، ومادة خمر - عند العرب - تدور في الأصل حول السّتر ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ورأسها، ومنه خمروا آنيتكم أي غطوها [2] .(25/298)
فكل مسكر خمر مهما تعددت أشكاله وألوانه، ومهما وضع له الناس من مسميات وألقاب، فيدخل في ذلك كل ما ثبت إسكاره من أي مادة حتى ولو كانت خبزا وماء، كما روى عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت "لا أحل مسكرا وإن كان خبزا وماء ". وسواء كان نيئاً أو مطبوخاً، مأكولاً أو مشروباً، جامداً أو مائعاً، موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو لا. ويدخل في ذلك - بطبيعة الحال - الحشيش، والأفيون، والبيرة، والبوظة، والمواد المنومة barbiturates)) والمواد المنشطة (amphitamines) وكل ما يتعاطى لأغراض الكيف وتحقيق الشعور بالنشوة والراحة الموهوبة لأنها تضر الفرد والمجتمع على السواء، وذلك لأن تعاطيه يؤدي إلى أضرار مختلفة تتعلق بصحة الفرد البدنية والنفسية وقدراته وإمكاناته الإنتاجية، مما يؤثر على التنمية والرقي، ويعطل قوى الإعمار والإنشاء والبناء، ويتناقض مع كرامة الإنسان ومكانته السامية.
نظريات التنمية والتخلف:
والتنمية لغوياً معناها الزيادة أو الكثرة أو الارتفاع. نما المال بمعنى زاد وكثر، وتنمية الشيء تعني ارتفاعه من موضعه إلى موضع آخر ونمى ينمي ونمياً ونماء وينميه المال وغيره، زاد وكثر، ونمى الخضاب في الشعر أو اليد: ازداد سوادا، وأنمى إنماء الشيء: زاده فأنمى أي زاد، وأنمى الحديث: أذاعه ونشره، وأنماها الكلأ للإبل بمعنى سمنها، وانتمى البازي: ارتفع موضعه إلى موضع آخر.
ولقد أصبح اصطلاح "التنمية"من أكثر المصطلحات شيوعاً في مجالات الاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والإعلام. والمقصود به رفع مستوى المجتمعات المتخلفة، ومساعدتها للتخلص مما تعانيه من أمية ومرض وفقر. وكرست هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة معظم جهودها للعناية بالتنمية، ودعم الجهود المحلية والدولية لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والحضارية في المجتمعات المتخلفة، والانتقال بها إلى مستويات أفضل وأرفع.(25/299)
وقد قدمت عدة تفسيرات لأسباب التخلف، منها مثلاً التفسير الجغرافي الذي يؤكد أنصاره تفسيرهم للتخلف بأن عدداً كبيراً من الدول النامية يقع في المناطق المدارية والاستوائية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بينما تقع معظم الدول المتقدمة في المناطق المعتدلة، ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن بيئة الأراضي الاستوائية والمدارية ودرجة خصوبتها، وانتشار الأوبئة فيها، وأمطارها الغزيرة، وحشائشها الضارة تعوق التنمية الزراعية، كما أن حيواناتها هزيلة بسبب انخفاض القيمة الغذائية للمراعي، إذا قورنت بالثروة الحيوانية في البلاد الأوروبية والأمريكية.
غير أن الظروف الطبيعية والعوامل الجغرافية لا يمكن أن تكون وحدها بسبب التخلف بدليل أن بعض الدول النامية تقع في المناطق المعتدلة كدول البحر المتوسط وغيرها، وتحتكر هذه المناطق بعض المحصولات الهامة، وكم من دولة استطاعت أن تتقدم رغم ظروفها الجغرافية الصعبة.
وثمة نظرية أخرى تؤكد أن التخلف له أسباب اجتماعية تتمثل في ضعف قوى الإنتاج وتدهور المستوى العلمي، واكتناز الذهب، والاهتمام بالمظاهر الكاذبة كارتفاع المهور وإقامة الحفلات الباذخة حبا في المباهاة، وقد تتفتت الثقافة بفعل التعليم الأجنبي الذي يختلف عن التعليم الوطني في البلد الواحد، وتنقسم التربية إلى قسمين متنافرين أحدهما ديني والآخر علماني.(25/300)
وهناك من يعزو التخلف إلى الجنس والعقيدة، ولكن ثبت مثلا أن اليابان وهي تضم سكانا من الجنس الأصفر قد حققت تقدماً هائلاً ذعرت له دول الجنس الأبيض، كما سجل التاريخ للصين والهند وغيرهما حضارات زاهرة. وكثيراً ما يتبجح المفترون بزعم أن الإسلام سبب تخلف الدول المؤمنة به، وهو تعصب أعمى يكشف عن الحقد الدفين منذ مئات السنين، فالإسلام هو الذي عالج قضايا الدنيا والدين، وهو الذي حدد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية تحديداً ينهض دليلاً على الرقي والتقدم، ووضع للعمل والإنتاج قيمة كبرى. وإذا كان المسلمون متخلفين في بعض مجتمعاتهم، فإن ذلك لا يرجع إلى الإسلام، بل إنه على العكس من ذلك يرجع إلى إهمال الدين وعدم التمسك بتعاليمه السمحة البناءة.
وهناك نظرية حديثة ترجع أسباب التخلف إلى الاستعمار. فالدول الاستعمارية استطاعت خلال عشرات السنين أن تحدث تنميتها وتقدمها على حساب المواد الأولية من البلدان التي استعمرتها، وبسيطرتها على التجارة الخارجية للمستعمرات، وجعلها سوقا لمنتجاتها، وبحرمان شعوب المستعمرات من فرض التقدم.
يقول القائد الهولندي "كوين"الذي غزا جاكرتا: "ألا يستطيع أي رجل في أوربا أن يفعل بماشيته ما يشاء؟ هكذا يفعل السيد هنا برجاله الذين يعتبرون بكل ما يملكون ملكاً خاصاً للسيد شأنهم في ذلك شأن البهائم في الأراضي المنخفضة - أي هولندا!! ".(25/301)
وقام الأسبان في أمريكا اللاتينية بما قام به الفرنسيون في شمال أفريقيا. لقد أهملت الطرق التي شيدها الوطنيون عن عمد لأن أسبانيا كانت تريد تقسيم المستعمرات وحكمها على أساس المبدأ الاستعماري المعروف: فرق تسد. ولهذا جعلت المواصلات والطرق تمتد من الداخل إلى الساحل، ومن الساحل إلى الوطن الأم، إنه نفس الأسلوب الفرنسي في شمال أفريقيا، والأسلوب الإنجليزي في الدول الإسلامية. لقد كان المسافر من القاهرة إلى الجزائر لابد أن يطير إلى باريس أولا، وكان قصد المستعمر دائما هو تفتيت الوحدة بين أصحاب العقيدة الواحدة، وخلق منازعات على الحدود عندما يرحل.
الاستعمار والمخدرات:
وأخطر ما لجأ إليه الاستعمار هو استخدام المسكرات والمخدرات ليفت في عضد الشعوب، وقتل مواهبها، والقضاء على نشاطها، لقد أغرقت بريطانيا الصين بالأفيون، والأسبان هم الذين أدخلوا المخدرات في أمريكا اللاتينية في القرن السادس عشر. وكان الهولنديون سببا في دخول المخدرات إلى جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر مع الخمور الرخيصة المهلكة لصحة الشعب الزنجي، وبذلك يكون الحشيش والأفيون والخمور قد انتقلت مع الغزو الاستعماري والهجرات البشرية المصاحبة للمستعمرين والغزاة الذين عملوا على نشره بين الأهالي الأصليين كوسيلة للقضاء عليهم، ولتعطيل التنمية في بلادهم، أو على الأقل لامتصاص قواهم الذهنية.(25/302)
ولقد عرفت إسرائيل هذه الحقيقة، فأخذت تروج هذه السموم بين العرب، وخاصة إبان نكسة 1967 وما بعدها، وعلى سبيل المثال فقد ضبط في القضية رقم 29 جنايات غارب سنة 1968 ما مقداره 498 كيلوجراما من الحشيش و53 كيلوجراما من الأفيون، وضبط في القضية رقم 57 جنايات غارب سنة 1968 ما مقداره 484 كيلوجراما من الحشيش، وضبط في القضية رقم 92 جنايات غارب سنة 1969 ما مقداره 508 كيلوجراما من الحشيش و172 كيلوجراما من الأفيون، وضبط في القضية رقم 10 جنايات الغردقة سنة 1970 ما مقداره 971 كيلوجراما من الحشيش، وضبط في القضية رقم 69 جنايات الغردقة سنة 1970 ما مقداره 894 كيلوجراما من الحشيش و589 كيلوجراما من الأفيون، وضبط في القضية رقم 121 جنايات الغردقة سنة 1970 ما مقداره 798 كيلوجراما من الحشيش و294 كيلوجراما من الأفيون.
وثبت أن هذه الكميات كلها قد هربت عن طريق خليج السويس. أما عن طريق قناة السويس فإن الكميات المهربة لا تقل خطراً، ففي القضية رقم 258 جنايات عتاقة سنة 1967، كان المضبوط 986 كيلوجراما من الحشيش و326 كيلوجراما من الأفيون، وفي القضية رقم 153 جنايات عتاقة سنة 1968، كان المضبوط 812 كيلوجراما من الحشيش و414 كيلوجراما من الأفيون، وفي القضية رقم 441 جنايات السويس سنة 1967، كان المضبوط 245 كيلوجراما من الحشيش و93 كيلوجراما من الأفيون، وفي القضية رقم 19 جنايات عسكرية الإسماعيلية سنة 1968 كان المضبوط 220 كيلوجراما من الأفيون [3] .(25/303)
وقد كشفت التحقيقات أن بعض تلك المخدرات كانت مخلوطة بسموم قاتلة، وملوثة بجراثيم أوبئة فتاكة، فاجتاحت المناطق التي وزعت فيها أمراض خطيرة، فالمخدرات وسيلة مدمرة في يد العدو أكثر فتكا من الأسلحة، لأن سمومها تنتشر في أبدان الشعب ببطء، ودون صخب أو انفجار أو دوي، بل الأدهى من ذلك أن أبناء الشعب يحملونها إلى إخوانهم وأبنائهم، كما أن خطرها باق في الأجيال اللاحقة لأن تأثير المخدرات على الأجنة في بطون أمهاتهم أمر ثابت ومعروف نتيجة التعاطي.
أخطار المخدرات:
إن الدول الاستعمارية وإسرائيل تعمل على تعويق التنمية، وتعطيل قوى العمال والفلاحين والطلاب والموظفين، فقد اتضح من الأبحاث التي أجراها العلماء وقام بها الأطباء أن الآثار المباشرة للتخدير تعمل على تخفيض الإنتاج كما ونوعا، سواء عقلياً أو آلياً، كما تبين أن نقص الإنتاج وانخفاض مستواه، يزدادان بزيادة كمية المخدر المتعاطاة، وهذه النتائج تؤيدها المظاهر النفسية التي لوحظت على الأشخاص موضع التجربة والتي تدل على التعويق الذي يمر به الفرد أثناء العمل وتحت تأثير المخدر.
وتدل نتائج البحوث التي أجريت على الأفيون ومشتقاته أن آثار هذه المخدرات الصحية والنفسية تصيب الوظيفة الإنتاجية للأفراد بضرر شديد. ومن أهم آثار الأفيون على الشخصية: العصبية والحساسية الشديدة والتوتر الانفعالي، وسوء الخلق وعدم الاكتراث والإهمال وانخفاض مستوى الإنتاج، وضعف القدرة على التكيف والتوافق الاجتماعي، والتدهور الخلقي، والتخلف الاقتصادي، وكل ذلك يفضي إلى التعطيل والبطالة والطفيلية، ويدفع المدمنين إلى الانزلاق في مهاوى الجريمة كالنصب والاحتيال وخيانة الأمانة والدعارة والسرقة، والانزلاق في تجارة المخدرات وترويجها.(25/304)
ويكفي لكي تدرك خطورة المخدرات أنه في أوائل الخمسينات من هذا القرن قدرت الأمم المتحدة عدد المتعاطين للحشيش في العالم بحوالي 300 مليون نسمة، مع أن هذا التقرير تقريبي وغير دقيق لصعوبة الوصول إلى أعداد من يمارسون هذه العادة الذميمة، والتي تحرمها معظم المجتمعات، وعلى الرغم من أن هذا الرقم قديم مضى عليه أكثر من ثلاثين عاما، إلا أن له دلالته الخاصة على مدى شيوع المخدرات وانتشارها. وتشير الإحصاءات أن معظم المتعاطين في العالم الإسلامي، كما أن الدول المنتجة أيضا تقع معظمها في العالم الإسلامي، مع أنها دول نامية في أمس الحاجة إلى يقظة أبنائها وجهودهم المخلصة من أجل التنمية والتقدم وتحسين الأحوال المعيشية.
المخدرات في العالم الإسلامي:
فقد كانت زراعة الأفيون بتركيا هي المصدر الرئيسي الذي تغذي حركة الاتجار غير المشروع في الشرق الأوسط، وكان بعض الإنتاج التركي يصنع إلى باز مورفين على الحدود السورية التركية داخل مصانع بدائية، توطئة لنقلها إلى أوروبا لتحويله إلى مورفين وهوريين.
إلا أن بعض الأفيون الناتج في إيران وأفغانستان وباكستان أخذ يتزايد تهريبه يوماً بعد يوم إلى منطقة الخليج العربي مع العمالة المتزايدة المتجهة إلى هذه البلاد للقيام بأعمال العمران والتنمية.(25/305)
وقد صرحت إيران بأنها قررت منع زراعة خشخاش الأفيون سنة 1955 ثم عادت سنة 1969 وصرحت بزراعته، مما أثار قلق الدول الأخرى، وكان المجتمع الدولي يطالب دائماً بالحد من زراعة الحشيش والأفيون. ففي تركيا مثلا كان الأفيون يزرع في 42 ولاية قبل سنة 1967، تناقص إلى 11 ولاية سنة 1969، ثم تسع ولايات 1970، لتصل إلى سبع ولايات سنة 1971، وكان مقرراً أن تنخفض إلى خمس ولايات سنة 1972، مع إدخال نظام التراخيص إلى أن وصلنا إلى الدورة الرابعة والعشرين للجنة المخدرات الدولية التي عقدت بجنيف (من 27 /9- 21/ 10/ 1971) وإذا بممثل تركيا يعلن قرار حكومته التاريخي الصادر في 29 يونية 1971 الذي يقضي بمنع زراعة الخشخاش وإنتاج الأفيون نهائياً داخل حدود تركيا اعتباراً من محصول خريف 1972.
إلا أن الإلغاء التركي إذا حقق في الإقلال من الأفيون التركي أو انعدامه في الأسواق، إلا أنه يخشى من ارتفاع الأسعار واتساع الزراعات في الدول الثلاث المجاورة لسد الفراغ، مما دفعها إلى المطالبة بالمساعدات الفنية والمادية لمواجهة الموقف وإحلال زراعات بديلة وتدعيم أجهزة الشرطة مع عقد الاتفاقيات فيما بينها للتصدي لمحاولات التهريب عبر الحدود المشتركة.
أما بالنسبة لإيران فلم يتحسن الموقف بالنسبة للاتجار غير المشروع: فالأفيون يتدفق من الحدود الشرقية والمورفين من الحدود الشمالية الغربية مع عصابات مسلحة مستخدمة كافة وسائل النقل، وشكلت الضبطيتان الرئيسيتان على الحدود الشرقية والتي بلغت إحداهما 12282 كيلوجراما والثانية 4224 كيلوجراما من الأفيون نسبة 80 % من مضبوطات عام 1973 كما ضبط ستة معامل لصنع الهيروين في أذربيجان وطهران، وتزداد هذه الكميات في السنوات الأخيرة [4] .
المخدرات والتنمية في لبنان:(25/306)
وتتضح مشكلة التنمية وعلاقتها بالمخدرات بأوضح صورة في لبنان: فهو المصدر الرئيسي لتغذية العالم العربي والإسلامي بالحشيش، الذي يزرع بقضائي بعلبك والهرمل من محافظة البقاع، وتأتي المغرب في المرتبة الثانية لتغذية شمال أفريقيا وأوروبا الغربية. وقد بلغت الزراعات بالمغرب سنة 1968 ثلاثة آلاف هكتار، كما ضبط خمسون طناً من الحشيش وتم إتلاف 38 مليون شجرة.
ويتسرب إنتاج إيران وأفغانستان وباكستان والهند من الحشيش إلى دول الخليج العربي بكميات متزايدة مع العمالة الوافدة إلى تلك البلاد، أما السودان فيكتفي ذاتيا بإنتاجه في الجنوب.
وقد قام المشروع الأخضر اللبناني سنة 1966 بهدف إحلال زراعات بديلة عن زراعات القنب الهندي وأوردت مذكرة رسمية لهذا المشروع بأن قضية إحلال الزراعات المفيدة محل الزراعات غير المشروعة باتت بالنسبة للبنان قضية حيوية لأنها مرتبطة برسالته التاريخية وسمعته الإقليمية والعالمية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولكن اتضح أن المشروع يحتاج إلى رصف الطرق وتربية المواشي وإقامة مصانع الألبان وإنشاء المناحل وتربية الدواجن وزرع دوار الشمس والسمسم والفاكهة والذرة والبرسيم وفول الصويا والنباتات العطرية، وتوفير الميكنة الزراعية.
وقد استجابت جميع المنظمات الدولية لمد يد العون إلى لبنان، إلا أنه اتضح أن منطقتي الهرمل وبعلبك تعتبران الحشيش مصدراً رئيسياً للدخل، وأن توفير الماء ضروري للإنتاج الزراعي، كما اتضح أن رقعة زراعة الحشيش في ازدياد مستمر، ولما كان مردود دوار الشمس لا يقارن بمردود الحشيش، كما أن للمهربين وسائلهم الشيطانية في إغراء المزارعين، فقد أصبحت هذه المشكلة تهدد التنمية في لبنان وفي الشرق الأوسط بوجه عام [5] .(25/307)
ولذلك يجب على العالم العربي أن يتعاون بسرعة لإيقاف زراعة الحشيش في لبنان، ومساعدة البلاد على التنمية الزراعية، ودعم الزراعات المفيدة، وتطبيق قوانين إتلاف الزراعات المحظورة.
مشاكل القات والتنمية:
لقد حظيت مشكلة القات باهتمام اللجنة الاستشارية بعصبة الأمم سنة 1935 ونوقشت بدوراتها المختلفة ثم أحيلت إلى منطقة الصحة العالمية حيث أصدرت لجنة من خبرائها تقريرها الثالث عشر الذي نشر سنة 1964 وتضمن "أن القات يشبه المواد من فضيلة الأمفيتامينات وأن الأعراض التسممية الناجمة عن الإسراف في المضغ تشبه تلك التي يسببها سوء استعمال الأمفيتامينات ".
وقد خرج ممثل الأمم المتحدة من الدراسات الميدانية التي أجراها بكل من صنعاء وعدن وزيارته لبعض الأراضي المزروعة بالقات وتفقده للأسواق التي يباع فيها والتي يقبل عليها المواطنون إقبالاً منقطع النظير، أن زراعة القات قد عادت على اليمن الشمالية بأضرار صحية واقتصادية ينبغي أن تكون موضع الاعتبار عند النظر في معالجة المشكلة المتعمقة الجذور.
وتتمثل بعض الأضرار الصحية لنبات القات في فقدان الشهية وسوء التغذية والتعرض للأمراض المعدية كالسل وإضعاف القدرة الجنسية لدى الرجال والتفكك الأسري وغير ذلك.
غير أن ما يسترعى النظر ما أبلغت به جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سكرتارية الأمم المتحدة من أنها لاحظت أن القات يستهلك مخلوطاً بمواد مخدرة أو منشطة أخرى - وأنها ضبطت ثلاث حالات كان القات فيها مخلوطاً بالمورفين، واثنتي عشرة حالة مخلوطا بالأفيون، وإحدى وعشرين حالة مخلوطاً بالموباريتال، وثلاث حالات بالمسكرات، وهذه ظاهرة جديدة لاستهلاك القات مخلوطاً بمواد مخدرة أكثر خطورة.(25/308)
وتتضح خطورة المخدرات على التنمية إذا ما عرفنا أن اليمن كانت من أشهر مصدري البن الممتاز في العالم، ولكن طغت شجرة القات على شجرة البن بسبب إقبال المواطنين على "تخزين " أوراق القات ومضغها.
وشجرة القات تعمر عشرين عاماً، ولا تحتاج إلى أرض خصبة، وتصمد للآفات وفضلاً عن ذلك فهي تدر ألف ريال في العام، وتصدر أوراقها من صنعاء إلى عدن بما قيمته ثمانون ألف جنيه إسترليني شهرياً. إنه إغراء الشيطان الذي يلعب بالعقول! فشجرة البن موسمية لا تدر على صاحبها سوى ستين ريالاً سنوياً، ولا تنبت إلا في أرض خصبة، ولا تقاوم الآفات، واستيلاء الحكومة على جزء من المحصول كضريبة، يقابله إعراض اليمنيين عن تعاطي البن واستهلاك قشرته، مما أدى إلى انخفاض صادرات اليمن من البن إلى ثلاثة آلاف طن بعد أن كانت تصدر ستة عشر ألف طن سنوياً.
والنتيجة أن الجمهورية العربية اليمنية تخسر سنوياً ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون ساعة هو الوقت الهائل الذي يضيع على أبناء اليمن بسبب مضغ أوراق القات وتخزينه وهو وقت تتبين قيمته في التنمية المطلوبة لهذا البلد الإسلامي، فيصيب اقتصادها بخسائر فادحة، فضلاً عن ألف مليون ريال ثمناً للقات الذي يستهلكه المواطنون [6] .
والعجيب أن تأتي قوائم الاتفاقية الوحيدة للمخدرات لعام 1961، وقوائم اتفاقية المواد النفسية لعام 1971 خالية من إدراج القات الذي ثبتت أضراره الصحية والاقتصادية والاجتماعية على شعوب بأكملها. ولعل السبب في ذلك أن الهيئات الدولية تعتبر القات مشكلة إقليمية مقصورة على جنوب الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، وأن القات تمضغ أوراقه طازجة ولا يتحمل التصدير إلى مناطق أخرى بعيدة عن مناطق إنتاجه خشية ذبوله وضياع تأثيره الفعال.(25/309)
ولقد وافق المشتركون في ندوة القادة الإداريين التي عقدت بصنعاء من 15 - 21 مايو 1972 على قرار ينص: "على اعتبار القات كارثة وطنية وتحريم القات بين كافة العاملين في الدولة واقتلاع أشجاره من أراضي الحكومة والأوقاف وامتناع وزارتي المواصلات والزراعة عن تقديم أي مساعدة لزراع القات ".
كما تقدم المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات بمقترحات أهمها دراسة حجم المشكلة وأبعادها، وتشجيع وسائل الإعلام على معالجة المشكلة على كافة المستويات مستعينة بمنظمة اليونسكو وخبرتها في هذا المجال لبيان أضرار القات الصحية والاجتماعية.
كما اقترح دراسة إحلال زراعات بديلة يكون مردودها مجزياً وموازياً لمردود شجرة القات، وعلى رأسها شجرة البن التي اشتهرت بها اليمن منذ أقدم العصور، وإعفاء شجرة البن من الضريبة وتقديم دعم حكومي ودولي للزارعين، على أن تدخل اليمن منظمة البن الدولية لتستطيع الحصول على حصة تمكنها من تصدير محصولها للأسواق العالمية.
هذا بالإضافة لضرورة تنشيط البرامج الرياضية والثقافية وشغل أوقات الفراغ بالعمل الإيجابي البناء الذي يتناسب مع البيئة والظروف الاجتماعية، وأن يعني بخطة التنمية وتنفيذ برامجها بعزم لا يلين علاجاً لمشكلة القات، ودفعاً لخطرها الداهم على المواطنين الذين ينهضون بعبء التنمية.
الجهود الدينية والإعلامية:
وقد تكون آمال التنمية عريضة ضخمة، وإيقاع سريعاً لدرجة لا تتمشى مع قدرة بعض الناس، وهنا ينبغي أن نحذر عند تطبيق خطة التنمية، حتى لا يكون لها ضحايا من الذين تسول لهم نفوسهم المريضة، ونزغات الشيطان، وبطانة السوء التردي في هوة المخدرات لعدم إمكانهم ملاحقة التنمية في سرعتها أو في اختلافها الشديد عما عهدوه من عادات وأساليب في الحياة.(25/310)
لذلك تلعب وسائل الإعلام دوراً هاماً في التوعية، وتوفير مناخ عام مواتٍ للتغيير المنشود مع بيان أبعاده ونتائجه المرجوة. كما تعني التربية الدينية بخلق روح معنوية عالية في نفوس النشء لتحصينهم ضد التورط في الوقوع في التهلكة.
ولا شك أن تقوية الشعور الديني، وتربية الضمير الإسلامي، وتنشيط الضوابط الدينية والأخلاقية عن طريق تبيان موقف هذه من كل ما من شأنه التأثير الضار على العقل الذي هو عنوان قيمة الإنسان، خير سبيل لإعداد الشباب لمرحلة التنمية. والمخاطب دائما هو العقل الواعي الذي منحه الله تعالى للإنسان لاستئناس البيئة المادية والسيطرة عليها، كما سخرها الله له، ولكن هذه الطاقات الذهنية بحاجة دائمة إلى التوجيه والتدريب.
غير أن للإنسان خصيصة أخرى أساسية هي الاجتماع والتعاون مع الآخرين، وشخصية الإنسان تنمي عن طريق الأسرة والجماعة على أسس سليمة الشريعة الإسلامية الغراء، وبذلك تتحقق التنمية الإنسانية التي تكفل الاستقرار والطمأنينة والقدرة على التفكير الهادئ والارتقاء، وكسب الثقة بالناس بعد الثقة بالله سبحانه وتعالى، وكذلك الثقة بالنفس، لأن فقدان الثقة يؤدي إلى الانسحاب، والاستغراق في أنشطة سلبية وشاذة. لعلها أهمها وأخطرها تعاطي المخدرات.
ويقوم الإعلام بوسائله المتعددة من صحافة وإذاعة مسموعة وإذاعة مرئية بواجب تثبيت المثل والقيم والتشكيك في الأمور المنبوذة حتى تهتز وتنهار، وهو أسلوب فعال يمكن أن تكون له فعالية كبيرة مع انتشار وسائل الإعلام في العصر الحديث. ولابد من وضع برامج هادفة من أجل حماية المجتمع من شرور المخدرات، كهدف أصيل يتوجه إلى كافة المستويات الاجتماعية والفكرية.(25/311)
ولما كان الفراغ يجر إلى الملل والسآمة، فلا بد من تمضية وقت فراغ الشباب بكل ما هو نافع لهم ومفيد لتربيتهم. وخاصة أثناء العطلات المدرسية، والإجازات الطويلة، مع العناية بالساحات الرياضية والأنشطة الثقافية.
المخدرات والأسرة:
ولا تنجح جهود التنمية في دولة ما دون أن ترتكز على دعم الأسرة، باعتبارها الخلية الرئيسية في البناء الاجتماعي ومن الثابت أن الشخصية الإنسانية تتكون جذورها في أحضان الأسرة، وتتأثر بالعلاقات الاجتماعية في نطاقها، وإن أي خلل فيها ينعكس بالضرورة على أفرادها، ويصيبهم بالأمراض النفسية والاجتماعية التي تعطل مسيرة التنمية.
ولا شك أن تعاطي المخدرات يشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاديات الأسرة وميزانيتها. حيث ينفق الوالد جل دخله، بل قد يقترض أحياناً إذا ما سقط فريسة للإدمان وخاصة الأفيون، للحصول على المخدر ومستلزماته، مما يؤثر بالطبع تأثيراً خطراً على الحالة المعيشية العامة للأسرة من النواحي السكنية والغذائية والصحية والتعليمية والأخلاقية، فلا يستطيع أفراد الأسرة الحصول على احتياجاتهم الأساسية اللازمة للمعيشة الكريمة.
وقد تضطر الأم للعمل، بل إنها قد تتعرض للتشرد والانحراف، وقد تصاب بأمراض خبيثة جسمية ونفسية، وقد ينحرف الأبناء ويتورطون في ارتكاب الجرائم، أو يقومون بأعمال غير مشروعة أو غير أخلاقية، وهكذا تأكل المخدرات ميزانية الأسرة، وتهلك روحها المعنوية، وتقضي على أخلاقها، وتعطل إنتاجها، وتشل نشاطها، فتصبح الأسرة عبئاً على التنمية وبدلاً من كونها عاملاً من عوامل تنشيطها ودعمها.
وإذا عرفنا أن تعاطي المخدرات أكثر انتشاراً بين الطبقات العاملة من العمال والفلاحين والصناع والحرفيين، لأدركنا مدى حجم الخسارة على مشروعات التنمية في العالم الإسلامي، وهي خسارة فادحة تصيب الأفراد والأموال والمجتمعات، وتهدد بتوقف عمليات التنمية وشللها.(25/312)
ولما كان الإنفاق الكبير على المخدرات يعطل توفير الحاجات الضرورية لأفراد الأسرة، فإنه فضلاً عن ضعف الأطفال وهزالهم، وتعريضهم لأمراض سوء التغذية، وغيرها من الأمراض الخطيرة، فإن إشاعة روح عدم الاكتراث، وعدم تقدير المسئولية من جانب المتعاطي، مع إهمال الواجب، يعطي نموذجاً سيئاً لأفراد الأسرة، ويقدم لهم قدوة شريرة وغير أخلاقية، فلا ينشأ لدى الأبناء إحساس بأداء الواجب، ولا شعور بالمسئولية، فيشبون عالة على غيرهم، وطفيليين على مجتمعاتهم.
المخدرات والجريمة:
ويزيد الطين بلة تعاطي الأفيون، لأنه يؤدي إلى أمراض نفسية وخيمة، وعلل جسمية فتاكة، وتشجر الخلافات بين أفراد الأسرة، ويزداد الصخب بين الزوج وزوجته وأولاده، وقد يلجأ إلى العنف والضرب والسب والمقاطعة والمطاردة، ويمتد تأثير هذه الحالة الشاذة إلى خارج نطاق الأسرة ثم الجيران، فضلا عن الفضائح في نطاق العمل، فيتعطل الإنتاج، ويعم الخراب داخل الأسرة وخارجها.
وبالإضافة إلى هذه الآثار الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، تصاب الأسرة بحالات مختلفة من القلق والتوتر وعدم الاستقرار لوجود المخدرات - وهي محظورة بحكم الأنظمة - كما يسهر المتعاطون سهرات حمراء في البيوت ويحولونها إلى مواخير للفساد، وبؤر للشرور.
وقد ذكرت الغالبية العظمى من متعاطي المخدرات أنهم ليسوا على وفاق مع زوجاتهم، وفي هذا الجو المفعم بالانحراف، لا ينشأ شباب يعول الوطن عليه، بل تصدر هذه الأسر أشقياء صغاراً، ومجرمين ينخرون في عظام المجتمع كالسوس المهلك، ولا يمكن الاعتماد عليهم في تنفيذ خطط التنمية، لأنهم أنفسهم مشكلات تنتظر الحل، وتزيد المشكلات المتراكمة تعقيداً.(25/313)
وحتى إذا أودع الأطفال دور الإصلاح أو رعاية الأحداث، ودخل الكبار السجون بعد ضبطهم يتعاطون المخدرات، فإن مصيبتهم تصبح أدهى وأمر داخل جدران السجون، حيث يتأثرون بمخالطيهم من السجناء، ويصبح السجن مرتعاً خصباً لتبادل الخبرات الشريرة وحافزاً لارتكاب جرائم جديدة بأساليب ماكرة خبيثة.
وكثيراً ما تلجأ العصابات الإجرامية إلى تجنيد أعضاء جدد من بين السجناء، فإذا أضفنا إلى ذلك ما يلقاه متعاطي المخدرات من معاملة شاذة بعد خروجه من السجن، إذ أنه يفقد عمله، ويتعرض لاحتقار زملائه، وازدراء أصدقائه، وتحفظ أقاربه إزاءه، لأدركنا مدى استعداده للسقوط في السلوك الإجرامي، فقد يلجأ إلى السرقة، أو الاختلاس أو التورط في عصابات الدعارة من أجل الحصول على المخدر - وهذه كلها تعطل مسيرة التنمية، وتشل حركة التقدم.
وكثيراً ما تكون عصابات المخدرات التي تقوم بالتهريب والاتجار غير المشروع والتوزيع متورطة في أنواع أخرى من الأنشطة الإجرامية، مثل المافيا، وهي عصابات ذات شهرة دولية تمارس نشاطها الإجرامي في إيطاليا وأمريكا اللاتينية وغيرها من الدول، وهي تستغل عبودية المتعاطي للمخدر، وعدم قدرته على شرائه، لإجباره على المشاركة في أعمالها الإجرامية وتدريبه عليها، كأن تجبر النساء على ممارسة البغاء أو الرجال على التهريب أو السرقة أو الاختلاس أو إخفاء المسروقات أو التجسس على أسرار بلادهم.
ضحايا التنمية:
إن التنمية تقوم على أكتاف الرجال الذين يعملون بجد ونشاط لبناء الحضارة، وهي تقوم على أساس من التفكير العلمي السليم والتخطيط المحكم الدقيق، والتدريب المستمر لكشف القدرات، وكسب المهارات، لأن الإنسان بطبيعته في حالة تطور دائم، ونمو لا يتوقف.(25/314)
غير أن التجديد في ممارسة الحياة، كالانتقال من الحياة الرعوية إلى الصناعة، أو من الزراعة إلى الحياة الحضرية، أو تطوير المدن من الحارات الضيقة إلى الأحياء الفسيحة بشوارعها العريضة، ومواصلاتها المتقدمة، والانتقال من عصر الدواب إلى عصر البخار ثم الكهرباء فالذرة والطاقة الشمسية، كل ذلك لا يتم بسهولة ويسر، وإنما يتطلب تعليماً وتدريباً وتوافقاً، فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تنطوي على أعباء ومسئوليات، وتتطلب واجبات واكتساب عادات جديدة ومهارات شتى.
وقد تقصر بعض الهمم دون بلوغ غاياتها المرموقة، فتؤثر السلبية والهروب إلى عالم الأحلام، أو التردي في الفكر الهدام، أو أخطر من ذلك تعاطي المخدرات.
ولا قيمة لتنمية يكون ثمنها ضياع الشباب وهلاك الإنسان، وأي تنمية لا تؤدي إلى خدمة الإنسان واستقراره ورقيه لا جدوى منها، لأن النهضة الناجحة تؤدي إلى سعادة الفرد والمجتمع. فإذا كان التصنيع يحمل في طياته خطر التحول من القيم المتكافلة المترابطة المتماسكة إلى حياة فردية متنافسة متدابرة، يحل فيها الصراع الطبقي محل التواد والتعاون والتآزر، فإن شره خطير ومستطير، ولا شك أن إهمال تعاليم الدين من أهم العوامل المؤدية إلى حالات الاكتئاب النفسي والضياع وفقدان الثقة، مما يؤدي إلى الارتماء في أحضان المخدرات.
ومن معوقات التنمية تلك الهوة السحيقة الفاصلة بين التطور التكنولوجي الصناعي الاقتصادي، والتطور الاجتماعي والنفسي، إذ أنه من السهل إقامة مصنع من المصانع المتطورة، أو استيراد آلة الكترونية معقدة، ولكن من الصعب توفير العمال والفنيين اللازمين لإدارة المصنع وتشغيل الآلات الدقيقة، مع المحافظة على استقرارهم وتكامل شخصياتهم.(25/315)
ففي أثناء عملية التحول، يجد الناس مشقة في التوافق مع الحياة الجديدة، وأمام عجزه عن تمثل السمات الضرورية للعمل الحديث، واكتساب المهارات اللازمة له، قد يشعر بالإحباط، ويحس بالفشل، وعدم القدرة على التعامل مع الواقع الجديد، فيلجأ إلى استجابات تعويضية سلبية عاجزة، فينغمس في شرب الخمر، أو يسقط في هوة تعاطي المخدرات، التماساً لسعادة موهومة، وهروباً إلى هلوسة. تصوره عملاقاً عبقرياً، والآخرين أقزاماً عاجزين، فيضر بذلك نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.
المخدرات والفئات العاملة:
لقد ثبت من الإحصاءات أن المخدرات تنتشر بين الفئات العاملة، وتجتاح الشباب والطلاب، ومن هنا ندرك خطورة المخدرات على التنمية، ومدى فداحة الضرر الذي يصيب الإنتاج نتيجة تعاطي المسكرات والمخدرات.
فبدلا من تدريب العمال وتعليم الشباب القدرة على الانضباط، ومراعاة الدقة المتناهية في العمل الصناعي والبحث العلمي، وتعويدهم على الإدراك الواعي السليم، يتعرضون لأذى المخدرات التي تورث تخلفاً في الإنتاج، واضطراباً في إدراك الزمن. واهتزازاً في إدراك الأصوات، وغموضاً في وضوح الرؤية، واختلالاً في إدراك الأحجام والألوان. فضلاً عن اضطراب في الذاكرة، وانخفاض كفاءة التفكير، وكل ذلك يطيح بجهود التنمية ويبدد آمال التصنيع والتقدم، ويشتت برامج التقدم ويعطلها.
وتدل الأبحاث التي أجريت على المدمنين في تونس على أنهم متدهورون في عملهم وتقل صلاحيتهم تدريجياً وثمة ارتباط وثيق بين حالات التدهور في القدرات العقلية وبين إدمان الحشيش في الحالات الخطيرة. أما الموظفون الذين عرفوا بالنشاط ورجال الأعمال الذين كانوا موضع ثقة، فإنهم يتأثرون في أخلاقهم وكفاءتهم الإنتاجية، ويتحولون بفعل المخدر إلى أشخاص يفتقرون إلى الطاقة المهنية والحماس والإرادة اللازمة لتحقيق واجباتهم العادية المألوفة.(25/316)
والحشيش يجعل من الذين يتعاطونه أشخاصاً كسالى سطحيين غير موثوق بهم، ذوي اتجاهات خشنة، وكلها صفات لم تكن معروفة عنهم قبل التعاطي، وبالإضافة إلى ذلك يظهر الإهمال واضحاً في سلوكهم كما تنحرف مشاعرهم العادية ومداركهم العقلية ومعاييرهم الأخلاقية.
وفي دراسة أخرى حول متعاطي الحشيش بين أفراد الجيش الأمريكي، وجد أن الجنود المتعاطين كانوا يتركون معسكراتهم دون اكتراث ويذهبون لتعاطي الحشيش بالرغم من علمهم أن ذلك يعرضهم للمحاكمة العسكرية، مما يدل على الإهمال وعدم المبالاة.
المخدرات والشباب والجاسوسية:
ومما يؤسف له أن كثيرا من شباب الدول النامية يترددون في أوحال المخدرات، فيتأخرون ويؤخرون تنمية بلادهم، فبدلاً من العمل على إنجاز خطط التنمية وتنفيذ برامجها الإصلاحية، نجد أنهم يتعرضون لمخاطر الجهل والجوع والمرض، ويفسدون عقولهم ويخربون نفوسهم، ويعرضون حياتهم لأشد المخاطر، وينزلقون في مهاوي الجريمة، وبدلاً من الانخراط في العمل الإيجابي البناء، نجدهم يلوذون بالهروب والانسحاب باستخدام المسكرات والمخدرات.
وتكمن المأساة الحقيقية في أن الدول الإسلامية في مسيس الحاجة إلى طاقات أبنائها، وعقول شبابها، وسواعد رجالها من أجل البناء والتعمير والتشييد على نحو ما أمرهم الله تعالى به، بيد أن المخدرات تبدد الطاقات، وتعطل النشاط، وتعوق التنمية، وتصرف الناس عن الواقع، وتنأى بهم إلى عالم الأوهام والأحلام المريضة.
ولعل أخطر ما ألم بالشباب من مصائب تقليدهم لفئات تسمى (الهيبيز) في أوروبا وأمريكا، وفئات الاشتراكية الجديدة - وهؤلاء وأولئك يتخذون من تعاطي المخدرات تعبيراً عن التمرد، وأسلوباً للرفض والاحتجاج. فكأن تعاطي المخدرات أصبح مذهباً فكرياً يعتنقه الشباب الساخط في العالم الغربي والعالم الشيوعي، ثم يأتي شبابنا فيقع فريسة التقليد الأعمى ويسير على نهج هؤلاء الأشقياء.(25/317)
ولقد استغل مهربو المخدرات إقبال الشباب على اعتناق هذه المبادئ الهدامة، فأوقعهم في حبائلهم واستغلوهم في تهريب المخدرات، وبذلك سقطوا بهم من جرائم الاستهلاك إلى جرائم الاتجار بالمخدرات، ولعنة الله على أولئك الذين يجعلون من تعاطي المخدرات من تعاطي المخدرات مذهباً له طقوسه التي تشبه الطقوس الوثنية، وتعرض تلك الطقوس على أشرطة الفيديو التي تهرب التي تهرب إلى العالم الإسلامي، فيقلدها شبابنا تقليداً أعمى.
وأنها حقا لكارثة مفجعة أفضت إلى كوارث أفظع. فلقد تحول أولئك الناس من دينهم ووطنهم إلى مذاهب غيرهم وأوطان أعدائهم، وبالتالي أضحى التأثير فيهم، وجرهم إلى خيانة أوطانهم أمراً ميسوراً، وذلك تحت تأثير المذاهب الوافدة، والأفكار المستوردة، والاتجاهات الرقيعة الهدامة.
وقد يؤدي الاتجار بالمخدرات وتعاطيها إلى إفساد إدارة الدولة، لأن إدخال المواد المخدرة ينطوي على إعداد وتخطيط من قبل العصابات السرية القوية التي قد تستعين في ذلك بما تملكه من مال وفير فيسقط في براثنها كبار الموظفين المكلفين حماية زمام الدولة. وعندما ينتقل الولاء للذين إلى مذاهب أخرى تحت إغراء المال الذي يجرف بعض الرجال ويهوي بهم إلى التفريط في الأمانة، ويتورط المسئولون في المشاركة الفعلية في تهريب المخدرات، فإنه يصبح فساداً ضاراً بكيان الدولة، ومهدداً لأمنها ومستقبلها.
وقد يتورط المسئولون في أعمال التجسس على أسرار بلادهم من خلال الترويح للمخدرات وتيسيرها وتهيئة مجالسها، وبذلك يتاح الجمع بين أفراد عديدين من فئات شتى وبلاد متعددة واتجاهات متنافرة، فيستطيع العدو أن يجند من الضعاف أمام المخدرات عملاء له في ظل سحائب الدخان القاتل المتصاعد من المخدرات المحترقة أو تحت تأثير المشروبات والأطعمة المحشوة بها، وذلك للحصول على أسرار تعرض الدول لأشد الأخطار.(25/318)
وكثيراً ما تتطور صفقات تهريب المخدرات إلى صفقات تهريب الأسرار الأمنية والعسكرية إلى الأعداء، فإذا ما أثمر الإغراء بالمال ثمرته انتقلت الصفقات بعد ذلك إلى أهدافها الحقيقة: ألا وهي التجسس على الأوطان وخيانتها.
المخدرات أخطر معوقات التنمية:
يؤدي تعاطي المخدرات إلى إشاعة الجرائم في المجتمعات مثل البغاء والرشوة والاختلاس والفساد والتجسس، كما تنتشر في المجتمع الذي يستهدف التنمية أعمال غير إنتاجية كرعاية المدمنين في المستشفيات وحراستهم في السجون، ومكافحة المهربين وتجار المخدرات وكان الأولى بكل هؤلاء أن ينفذوا خطط التنمية العاجلة، لتلحق مجتمعاتهم النامية بركب الحضارة المتقدمة، ولكن المخدرات معوق هائل في طريق التنمية لأنها تتطلب تضخم عدد أفراد الشرطة وموظفي السجون والمحاكم، وكان من الممكن أن يتوجه هؤلاء لأعمال إنتاجية أو صحية أو توجيهية إيجابية.
ومعنى ذلك أن تعاطي المخدرات لا يشل قدرة الأفراد المدنين فحسب، وإنما يصيب بالشلل قطاعات كبيرة من المجتمع، كما يؤدي إلى إنفاق الأموال الكثيرة على العلاج والمكافحة، وكان من الممكن تغطية تكاليف التنمية، تلك الأموال من أجل الرقى والنهوض والتصنيع وإقامة المدارس وبناء المستشفيات وغيرها من الخدمات، وشق الترع والمصارف.
وإذا كانت هذه المخدرات تزرع في المجتمع الذي تستهلك فيه، فإن معنى ذلك إضافة جزء من الثروة القومية في الأرض التي كان من الممكن استغلالها في زراعة ما هو أنفع للمجتمع من المخدرات، ولكن المهربين وتجار المخدرات يقفون للتنمية بالمرصاد، ولا يريدون تحقيقها لأنها تضيع عليهم فرص الاتجار والزراعة المحرمة.
كلمة ختامية:(25/319)
إن الوقاية خير من العلاج، ومن واجب العلماء أن يدركوا خطورة المخدرات على عقول الناس ونفوسهم، وأن يؤكدوا لهم دائماً أضرارها فشأنها في ذلك شأن الخمر، فالخمر كل ما خامر العقل وغطاه وغشاه، فهي كلها مسكرة، فما جاء في الوعيد على الخمر ينسحب على المخدرات أيضا لاشتراكها جميعا في إزالة العقل.
وقد رأينا أن الإنسان لا يستحق هذا الوصف إلا بالعقل والإدراك وبدونهما تستحيل التنمية ويتعذر التقدم. فالإنسان يعرف بعقله الخير من الشر، والنافع من الضار، والهدى من الضلال، وبه رفع الله شأن الإنسان وكرمه وفضله على كثير من خلقه، وخاطبه واستخلفه في الأرض ليعمرها وينميها، ولا تنمية بلا عقل، وكل ما يخمر العقل ويغطيه حرام شرعاً، فكل مسكر خمر، وكل خمر حرام. وقد اتفق علماء منظمة الصحة العالمية على إدراج الخمور والأفيون والعقاقير المؤثرة على النفس والعقل في قائمة واحدة، واعتبروها شروراً على الأفراد والمجتمعات، وهي نفس النظرة التي ينظر إليها علماء المسلمين إلى تلك المواد، والله ولي التوفيق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عبد الكريم الخطيب _ الإنسان في القرآن الكريم. دار الفكر العربي ص 27.
[2] نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات _ رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالمملكة العربية السعودية.
[3] لواء دكتور محمد نيازي حتاتة _ الاتجار بالمخدرات وأثره على الأمن القومي _ ص 170 _ 171.
[4] تقرير المكتب العربي لشئون المخدرات الفصل الأول _ ص10 _ 11.
[5] التقرير السابق _ ص17.
[6] نفس التقرير _ ص _ 29 _ 30.(25/320)
عِتَابٌ من الكبدْ
للشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري والدكتور أحمد مصطفى زهرة
مدير الشئون الدينية - وزارة التربية والتعليم بقطر - قسم الكيمياء بجامعة قطر
أخي الإنسان المكرم تعال معي بكل جوارحك لتسمع محاورة واقعية بين اثنين تكون سعادة أحدهما سعادة للثاني والعكس للعكس تعال واسمع.
إن تلك القطعة الحمراء الداكنة من اللحم الإسفنجي، والتي تزن حوالي كيلوجرام ونصف، وتحملها بين جنباتك، أينما ذهبت وحيثما حللت، والتي يطلق عليها العلماءُ اسم "الكبد"، هي الرفيق المخلص، وهي أكبر أعضاء جسمك من الداخل، وأكثر أعضاء جسمك وفاء وولاء لك.
ولو تخيلنا أن كبدك يتخاطب معك ويتعاتب فإنه ولاشك قائل لك:
* "أنا كبدك، أكبر أجهزتك الداخلية، تجدني دائماً في الجانب الأيمن من جوفك، تحميني ضلوعك اليمنى، ويمكنك أن تتحسسني في نهاية هذه الضلوع ".
* لقد أثبت العلم حديثاً وقديماً أني أقدم لك خدمات جليلة، وبانتهاء خدماتي تنتهي حياتك.
ألا تذكر يا صاحبي أن لغة الغزل هي جملة "يا بعد كبدي "؟
* لقد قال العلماء إني مختبر كيماويات وإني مخزن كبير ومصنع لتصنيع الأطعمة وحفظها، وكذلك لإنتاج ما تحتاجه من أغذية، وأنا حارس يقظ لكل أجهزتك، ولمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم.
* لقد قام الأطباء والعلماء بحصر شامل وإحصاء عام لوظائفي الحيوية فوجدوا أنها تزيد على خمسمائة وظيفة، ومازالوا يكتشفون الكثير.
فإذا كنت يا صاحبي تتقي الله في كبدك فأنا كبدك، أخفف عنك ما يتكبده كل جسمك من متاعب.
* فإذا ما تناولت طعاماً أو شراباً به نسبة من المواد الضارة أو السامة بطريق الخطأ، فإني أحاول جهد طاقتي أن أحتجزها فلا تذهب لباقي أجزاء جسمك، ثم أخلصك منها بعد ذلك بطرقي العجيبة، إن تركتني سليماً وحافظت على علاقات الصداقة بيني وبينك.(25/321)
* أما إذا كنت ممن يتعاطون السموم متعمداً، خمراً كانت أم مخدرات! فإنك تسبب لي متاعب لا قبل لك بها.
ولا شك يا صاحبي أنك سمعت عمن ماتوا بسبب تليُّف الكبد!، لقد كان سبب ذلك إرادة ربك أن تتغلب علي الكحولات والمخدرات فأتوقف عن عملي ويموت صاحبي.
* ماذا تفعل بي الخمر؟. لقد أثبت البحث العلمي يا صديقي أن الخمور تزيد من طاقتي على اختزان الدهون بكثرة، بينما واجبي أن أختزنها بحساب دقيق: فأحرق منها جزءاً يمدك بالطاقة عندما تقوم بعمل شاق، ولكن زيادة الدهون عن طاقتي تسبب لي بداية مرض تليف الكبد.
* ولعلك لاحظت أن من يتعاطى الخمرة بانتظام، ولعدة أسابيع قد زادت شهيته للطعام، أو أصبح يأكل أكثر من المعتاد! وقد يبدو هنا تشجيعاً لك على تعاطيها!! ولكن دعني أهمس في أذنك شارحاً السبب لهذا التغير المؤقت.
في الواقع يا صاحبي، كما قلت لك، أنا أقوم بدور وزارة التموين وأيضا وزارة الصحة بالنسبة لك.
وفيما يختص بالتموين: فإني أقسم بعض أجزائي إلى مخازن أو مستودعات، ويمر علي الطعام المهضوم، بعد امتصاصه في الأمعاء فأختزن منه ما يزيد على حاجتك، كل شيء في مكانه المخصص له، فهنا مكان للسكريات وآخر للدهون وآخر للبروتينات وآخر للفيتامينات و ... و.... الخ.
وإذا احتاج جسمك إلى أي مادة فسوف يرسل مخك إشارة إلى كبدك، يحدد فيها المكان ونوع المادة المطلوبة وكمياتها، فأقوم في الحال بإرسالها عن طريق قلبك، أما إذا حدث لك نقص عام في أي مادة فإني أنبهك إلى ذلك عن طريق معدتك، فتأكل كالمعتاد.(25/322)
أما إذا كنت تشرب الخمر، أو ما يحتوي على كحول، فإني أصاب بحالة من اللخبطة، ولا أقدر على تمييز بعض المواد في طعامك وتزداد قدرتي على اختزان دهون أكثر فتملئ الأماكن المخصصة لهذه الدهون وكذلك أماكن أخرى كانت مجهزة ومخصصة لمواد غذائية وكيميائية أخرى، تمتلئ بدورها بالدهون الزائدة. وأصبح عاجزاً عن التوفيق بين متطلبات جسمك من مواد وغذاء وبين الزائد من الدهون. فأرسل إليك إشارات خاطئة، وأخطر معدتك لتتقلص وتدعوك لتناول مزيد من الطعام المتنوع، ولكن يا صديقي ما إن يتم هضم طعامك حتى أرفض اختزان كل ما تحتاجه منه لأني كما قلت لك أعاني من ضيق المكان فيذهب معظم ما تناولت من طعام إلى نفايات لا فائدة لك منها، وهكذا تتسبب الخمرة في فتح شهيتك، فتأكل كثيراً وتستفيد بأقل القليل مما تتناول. تماماً كسيارة تحرق البترول بكثرة ولا تمشي إلا بضعة كيلومترات قبل أن تتزود مرة أخرى بالوقود. فهل فهمت السبب؟ وهلا توقفت عن تناول الكحولات حتى تعطيني فرصة لأحرق لك معظم الدهون المختزنة وأمدك بالطاقة، اللازمة لنشاطك وحيويتك؟ وهل تمنحني الفرصة لأعمل من جديد أميناً على خزائن غذائك؟
* إنك يا صاحبي إن توقفت عن تناول الخمور والمسكرات، وكذلك أنقصت كمية الدهون في طعامك، فإني سأقوم بتنظيم العلاقة بين ما تتناوله وما تحتاجه من طعام، ولن أسمح للدهون بالزيادة في جسمك، وسأخلصك منها حتى لا تتسبب في انسداد شرايينك لا قدر الله، ويكون في ذلك مالا يحمد عقباه.(25/323)
* دعني يا صاحبي أحكي لك قصة طريفة تحدث لي كل يوم ولا تشعر بها. بالطبع أنت تتناول من الحمضيات الكثير، وقد تتناول طعاماً أو دواء، وربما أعددت أدوية متعددة، بعضها قبل الأكل وبعضها أثناءه وبعضها بعد الأكل. لا بأس بذلك يا عزيزي ما دام الأمر يدعو إلى ذلك، ولكن قد يتسبب كل ما سبق في انفكاك ذرات الهدروجين وتتسرب إلى خلاياي وأغشيتي وفي هذا هلاكي، ولكن ربك منحني القدرة على استدعاء بعض الدهون المحتجزة في أماكنها لتقوم بأخطر عملية ذرية لم تستطع أنت ولا إخوانك العلماء محاكاتها في المختبرات، إنني أقوم بتصنيع مواد كيماوية أخرى تدخل في تركيبها الدهون مع ذرات الهدروجين مع مواد أخرى، وأحولها إلى مواد فيها سلام وشفاء لك من كل سوء، أقول لك إني أقوم بذلك عن طيب خاطر، طالما أنك لم ترسل إلي من الكحولات ما يعطلني عن أداء مهمتي وأعمالي.
* وتعال معي أحكي لك أيضا عن قصة الحلوى والسكريات بل والنشويات التي تتناولها.
ما من شك أن جسمك يحتاج دائماً إلى المواد السكرية، في كل دقيقة بل في كل ثانية، ولكنك لا تعرف بالضبط الكمية التي تحتاجها، والكمية التي يجب أن تظل في دمك ولا تقل أو تزيد عنها!. أنا كبدك أقوم في صمت شديد بمراقبة ما تتناول من السكريات والنشويات، وحينما يصلني فإني أتولى بنفسي تحويلها إلى مادة أخرى اسمها "الجليكوجين"، وأختزنها في مكانها المخصص لها عندي.
فإذا كنت في عجلة من أمرك، أو كنت تجري، أو تصعد السلم في منزلك فإنك ولا شك تحتاج إلى طاقة. فأقوم في الحال بتحويل الجليكوجين إلى سكريات أحادية أرسلها إلى دمك بحساب دقيق، ويقوم أخي البنكرياس بإفراز مادة الأنسولين وهذه تتسبب في حرق السكريات وتحويلها إلى طاقة تحتاجها أنت. كل هذا يتم في ثوان قليلة وكما قلت لك بحساب دقيق وبتعاون تام بين أجزاء جسمك المختلفة، لو كانت كلها دون خلل.(25/324)
فإذا تناولت يا صاحبي المسكرات أو المخدرات فماذا يحدث في هذا المختبر الذي ينظمه خالقك وخالقي؟ إن الأمور تختلط علي، ويضيع جزء من مجهوداتي في محاولاتي احتجاز أكبر قدر من هذه السموم حتى لا تصل إلى دمك، ولكن هذه المسكرات، يصل جزء كبير منها إلى الدم قبل أن تمر على كبدك، ويصلني جزء كبير يمنعني عن تنظيم كمية السكريات في دمك، فلا أقوى على تحويل أو اختزان الزائد منها، وبذلك تزداد فرصة إصابتك بمرض السكري، وخصوصاً إذا لم يستطع أخي البنكرياس بدوره أن يساهم في حرق السكريات الزائدة.
* ومما لاشك فيه أن صاحبي ينمو جسمه كل يوم، فتتجدد خلاياه وتتغير تلك الخلايا التي تتلف، ودوري هنا أني أقوم بتصنيع ما تتناوله من بروتينات وتحويلها إلى مواد تدخل في بناء خلايا جسمك فأساعدك على تجديد حيويتك ونشاطك بإذن الله.
* هل تعلم يا صاحبي أني أختزن مركبات الحديد والنحاس وغيرها بين ثنايا كبدك؟
إنني أستخدم هذه المواد في صنع كريات الدم الحمراء عندما تحتاج لمزيد من الدم بعد عملية جراحية أو بعد نزيف. نعم يا صاحبي: أنا أزودك في دقائق بما فقدته من دماء إذا كنت تحافظ علي وتتركني أعمل دون كحولات. فأنا أرد لك الجميل وأنا مرتاح البال.
* أنا يا صديقي لا أمُن عليك، فأنا منك وبك، ولكني أود أن أذكر لك أن من أهم وظائفي التي ألزمني الله بها، أني أنتج لك كل يوم ما يزيد على لتر ونصف من مادة الصفراء، وأرسلها إلى جهازك الهضمي لتساعده على هضم الدهون وكذلك الفيتامينات الذائبة فيها. ومن حسن حظي أن الطب قد اعترف أخيرا بأني لست مسئولا عن مرض الصفراء، ولكنها مسئوليتك أنت إذا لم تحافظ علي.(25/325)
* والآن يا عزيزي، هل تعلم أنه إذا جرح أحيانا موضع بجسمك، فإن الأوامر تصدر إلي فوراً من المخ تقول لي، "يا كبد فلان، هناك نزيف في المكان الفلاني يتدفق منه الدم". وسرعان ما أفرز مادة خاصة من مئات المواد التي أصنعها واسمها "الفيبرينوجين"وأرسل بها عبر أوعيتك الدموية إلى مكان النزيف، بالإضافة إلى كيماويات أخرى، تتحدد مع بعضها ويساعدها الهواء، فتقوم بعملية سد الجرح في الحال وتمنع عنك الميكروبات أو التلوث أو الموت نزفاً.
* هناك يا صاحبي مئات الخدمات أقوم بها وأقدمها لك كل دقيقة إن حفظتني من السموم. ودعني أذكرك ببعضها وأدقَّها جميعا.
لا شك أنك لا تدري أني أقوم بإفراز مضادات حيوية طبيعية. فأرسلها إلى دمك لتهاجم الجراثيم والميكروبات وخلافة لتقضي عليها فوراً، ولا أتركها تتكاثر فتقضي علينا.
وأخيراً يا صديقي فأنت تشرب الشاي، والقهوة وتتناول العقاقير المسكنة أو العقاقير المنبهة أو المنشطة، أو الأدوية دون استشارة طبيب. ولكني أقوم في مختبراتي بمجهود ضخم، وبما منحني الله من قدرة على العمل، أحول دون تراكم هذه السموم في جسمك، وربما أحولها إلى مواد غير سامة وأرسلها فوراً إلى زميلتي، كِلْيتَك، فتقوم هاتان الكليتان بالتخلص من هذه المواد الزائدة أو الضارة.
وبعد يا صاحبي. هذا قليل من كثير مما أقدمه لك. ومازلت أقدم لك الكثير. وحتى لو اقتطع الجراح جزءاً مني، فأنا كبدك أخفف عنك ما تكابد. وسوف أقدم لك خدماتي كاملة لأني أُضاعف من جهدي بما يتبقى سليماً مني.
وتعال يا صاحبي نتفق سوياً، ونعقد معا معاهدة صداقة وعدم اعتداءٍ.(25/326)
فإذا لم تكن أكذوبة المدنية الحديثة قد أغرتك بتناول الخمور، وإذا لم يكن أقران السوء قد مهدوا لك طريق الانغماس في تعاطي الكحولات، وإذا كنت قوي الإرادة، متمسكاً بفضائل دينك، فإني أشكرك من كل "كبدي"وأعاهدك أن أظل وفياً مخلصاً مادمت قد ابتعدت عن طريق الإثم الكبير، ولكن!.. قد يهمس شرير في أذنك، أن قليلا من الخمر يصلح المعدة، أو أن الكحول يزيل الآلام، وينسيك الهموم، ولكني أقول لك بأمانة أن الكحول مخدر وقتي أي أن مفعوله مؤقت وقد يسكن الألم إلى حين، ولكنه يعاودك أشد ألماً، بالإضافة إلى ما تتركه المسكرات من آثار تتراكم على مر السنين وتسبب لي التليّف والتوقف.
ورجائي لك إن كنت ممن يتعاطون المسكرات أو المخدرات، أن تتوقف قبل ف5وات الأوان، ولا تيأس من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، وأعدك، رغم ما سببته لي من تعطيل وآلام، أن أضاعف جهدي، وأبذل أقصى طاقتي لخدمتك، وأن أستخدم ما تبقى مني دون تليَّف. بفعل الخير. أستخدمه بأقصى كفاءة لأعوضك ما فاتك من خدمات جسمانية. وأن أحاول بعون الله أن أخلصك من آثار أم الخبائث مادمت على عهدك محافظاً، وعن الخمور والمحرمات مبتعداً.
بارك الله لك في عقلك، حتى تقرأ وتصدق وتتعظ، وجعلك الله "ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
صديقك المخلص كبدك
السم المرخص بتداوله في العالم..!
إن الكحول هو السم الوحيد بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله ولذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية، ومرضها. أما الجرعة الواحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي: إما إلى الهيجان. وقد تؤدي إلى الغيبوبة. أما شاربو الخمر المزمنون فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون.
رئيس قسم الأمراض النفسية بجامعة لندن(25/327)
سبيلُ الدَّعوة الإسلاميَّةِ للوقايةِ من المسكِراَت والمخدّرات
للدكتور جمعة الخولي
رئيس قسم الدعوة بكلية الدعوة وأصول الدين
وضع الإسلام جملة من الوسائل التي تعمل على تنقية الفطرة من الأوشاب والأوضار التي تعكر صفاءها، أو تطمس معالم الحق فيها، وتحرص على حماية الإنسان من كل ألوان الخبائث التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وقد سلكت الدعوة في تحقيق هذه الوسائل وفي تربية النفس البشرية على حب الطيبات من المطاعم والمشارب والأعمال، والإقبال عليها، وعلى بغض الخبائث من هذه الأنواع والبعد عنها، سلكت منهجا قويماً جديراً بالتأمل والاعتبار.
وقبل أن نبين الطريق الذي سلكته الدعوة قديما وتسلكه حديثا لتجنيب أتباعها خطر المسكرات والمخدرات وكل ما من شأنه أن يضر بالإنسان ويورث غضب الله.
قبل ذلك نعرف بالمسكرات والمخدرات..
أولا: المسكرات:
المسكرات جمع مسكر، وهي تطلق في اللغة على كل ما يغطي العقل ويخرجه عن طبيعته المميزة الواعية، قال صاحب القاموس المحيط: سكر كفرح.. نقيض صحا.. والسكر محركة: الخمر، وكل ما يسكر [1] وقال الجوهري: السكران خلاف الصاحي [2] .
أما في اصطلاح الشريعة فالمسكر كل ما من شأنه الإسكار بلا تفريق بين شكل المسكر أو مظهره، ودون نظر إلى المادة التي أخذ منها سواء كان عنبا أو حنطة أو شعيرا أو غير ذلك، سائلا كان أو جامدا، وآياً كانت طريقة تناوله شربا أو أكلا.. بذلك جاءت الأحاديث والآثار..
في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" [3] ، ولفظ مسلم"كل مسكر حرام"دون تفريق بين نوع ونوع.
وقال:" كل شراب أسكر فهو حرام" [4] "دون تفريق أيضا"
كما قال عليه الصلاة والسلام"وإني أنهاكم عن كل مسكر" [5] .(25/328)
ولما نزل تحريم الخمر في القرآن الكريم فهم الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك تحريم كل ما يسكر نوع دون اعتبار للمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الأنواع اعتبروه خمرا ويأخذ حكمه، سواء كان ذلك موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو ظهر بعده، وسواء وجد في عصرنا أو يظهر في المستقبل، وسواء سمي باسمه حقيقة، أو بغير اسمه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"إن تحريم الخمر نزل وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير"ثم قال: والخمر ما خامر العقل [6] .
فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل في أي زمان ومكان، أي غطاه وخالطه ولم يتركه على حاله.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه سأل النبي عن شراب من العسل يقال له النبيذ: وشراب من الشعير يقال له المزر، وكانت تصنع باليمن فقال عليه الصلاة والسلام:"كل مسكر حرام" [7] .
أي: بأي اسم، أو من أي مادة وماهية، ولا عبرة بالأسماء فالأسماء لا تغير الحقائق، وكل ما كان فيه إسكار فهو حرام.
كما روي عن السيدة عائشة قولها:"لا أحل مسكرا وإن كان خبزا أو ماء" [8] .
وقال ابن رجب الحنبلي:"قالت طائفة من العلماء وسواء كان هذا المسكر جامدا أو مائعا، وسواء كان مطعوما أو مشروبا، وسواء كان من حب أو تمر أو لبن أو غير ذلك" [9] .
وقبل أن يذكر ابن رجب ذلك يقول:"إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام"على تحريم جميع أنواع المسكرات"ما كان موجودا منها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث بعده" [10] .
كما سئل ابن عباس عن الباذق فقال: سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق، فما أسكر فهو حرام، يشير إلى أنه إن كان مسكرا فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة" [11](25/329)
والباذق: شراب كان معروفا عندهم وهو معرب من الفارسية، قال ابن الأثير: هو بفتح الذال، تعريب باذه، وهو اسم الخمر بالفارسية [12] .
ومعنى سبق محمد الباذق، أي سبق حكمه أو سبق قوله فيها وفي غيرها من جنسها، وبهذه الاعتبارات السابقة في معنى المسكرات فإن اسم الخمر يطلق على كل المسكرات، لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم أيضا، وإلى ذلك الإشارة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق:"كل مسكر خمر"كما روى عن النعمان بن بشير أنه عليه الصلاة والسلام قال:"إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر مسكر" [13] .
هذا.. وإذا كان البعض ذهب إلى تخصيص الخمر بعصير مواد معينة كالتمر والعنب مثلا، وما عداهما فلا يحرم إلا القدر المسكر، فإن ما سبق من أدلة ونصوص يكفي بعضهم في الرد عليهم.
ولعل مما استدل به هؤلاء حديث"الخمر من هاتين الشجرتين، النخلة والعنبة" [14] لكن الحديث ليس على إطلاقه، وإنما هو مبنى على الغالب الموجود، أو الأهم الأكبر، كما في حديث"الحج عرفة"أي أهمه ومعظمه.
فليس في الحديث ما يشير إلى نفي الخمر من غيرهما قال القرطبي: "ثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه _ وحسبك به عالما باللسان والشرع _ خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس: ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، ثم قال: والخمر ما خامر العقل"وهذا بين ما يكون في معنى الخمر، يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة من الصحابة، وهم أهل اللسان، ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه، وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر وإنما يسمى نبيذا [15] .(25/330)
وساق ابن رجب حديث"كل شراب مسكر فهو حرام"عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال:"نقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء يروي عن رسول صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر ثم قال:"وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه فلا يثبت ذلك عنه، وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل مسكر حرام"وإلى هذا القول ذهب جمهور من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمطار وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحق ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو ما أجمع على القول به أهل المدينة كلهم وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة وقالوا: إن الخمر إنما هو خمر العنب خاصة، وما عداها فإنما محرم منه القدر الذي يسكر ولا يحرم ما دونه، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم" [16] .
ونعود فنقرر _ ما قرره جمهور الفقهاء وهو الصحيح _ أن كل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الأنواع فهو خمر شرعا ويأخذ حكمه، يستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو العسل، أو ما كان من غير هذه الأشياء [17] .
يقول الإمام ابن تيمية:"إن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح كما هو خروج عن موجب النصوص" [18] .
ما أسكر كثيره فقليله حرام:
وإذا كانت الشريعة قد اعتبرت كل مسكر حراماً دون اعتبار للمادة التي أخذت منه فقد اعتبرت أيضا أن القليل منه كالكثير..
قال صلى الله عليه وسلم:"ما أسكر كثيره فقليله حرام" [19] .(25/331)
وقال:"ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" [20] وفي رواية"الحسوة منه حرام".
أي ما أسكر الكثير منه فالجرعة منه حرام، والفرق _ بفتح الفاء وسكون الراء أو فتحها إناء _ يسع ستة عشر رطلاً [21] إن قليل الخمر يدعو إلى كثيرها، والكأس منه تنادي على أختها، وتغري بغيرها وهكذا حتى الإدمان.
وروى ابن عجلان عن عمرو بن شعيب حدثني أبو وهيب الجيشاني عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن أشربة تكون باليمن فسموا له البتع من العسل والمزر من الشعير قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسكرون منها؟ قالوا: إن أكثرنا منها سكرنا، قال: فحرام قليله ما أسكر كثيره" [22] .
ثانيا: المخدرات:
الخدر _ بالكسر _ ستر يمد للجارية في ناحية البيت، وخدر الجارية أهلها إذا ستروها وخدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة، والخدر الكسل والفتور [23] .
ويجمع هذه المعاني اللغوية كلها أن المخدر يطلق على كل ما يورث الكسل والضعف أو الفتور والاسترخاء ومن معانيه أيضا الستر والتغطية. وبذلك يلتقي المعنى اللغوي مع المعنى الشرعي للمخدرات.. إذ أن الفقهاء يذهبون إلى أن المخدر هو تلك المادة التي يترتب على تناولها كسل وفتور، أو تغطية العقل من غير شدة مطربة، ذلك أن من شأن الإسكار بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشاط والطرب والعربدة والحمية، ومن شأن السكر بنحو الحشيشة أن يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية [24] .
أنواع المخدرات:
تنقسم المخدرات إلى قسمين:
أ _ مخدرات طبيعية.
ب _ مخدرات صناعية أو كيماوية.
فالمخدرات الطبيعية هي المواد الخام التي تستخلص من النباتات المخدرة مثل:
1 _ الأفيون ومشتقاته، ويستخرج من ثمار نبات يسمى"أبو النوم".
2 _ الكوكايين، الذي ستخرج من شجرة الكوكا.(25/332)
3 _ الماريجوانا، الذي يستخرج من نبات الخشخاش والقنب الهندي.
4 _ البنج، نبات يسمى في العربية شيكران، أو سيكران.
5 _ الحشيشة، من ورق القنب الهندي.
6 _ القات، وتنتشر زراعته في اليمن، والبنقو وينتشر في السودان.
وهناك أنواع أخرى ذكرها العلماء مثل جوزة الطيب والجنزفوري والداتورة وغيرها [25] .
والمخدرات الصناعية هي التي تصنع في المعامل وتقدم في شكل حبوب أو كبسولات أو حقن.. وأخطرها عقاقير الهلوسة المسماة بعقار إل, سي, دي الذي يؤثر تأثيراً كبيرا على الذاكرة والسلوك، ويؤدي إلى اختلال الشخصية وعدم توازنها.. ويلجأ المتعاطون إلى المخدرات الصناعية كبديل للمواد المخدرة الممنوعة إشباعا لرغباتهم في هذه المواد، وتهربا من عقوبة إحراز المخدرات، أو عجزا عن الحصول على المخدرات الطبيعية كالأفيون والحشيش لارتفاع سعره، أو ندرة وجوده أو صعوبة الحصول عليه.
وهكذا لم يعد تعاطي المخدرات مقصورا على المخدرات التقليدية، وإنما تجاوزتها لتشمل العقاقير المصنعة منها للاعتبارات السابقة أو غيرها.
حكم المخدرات:
يعرف السكر بأنه"غيبة العقل من تناول خمر أو ما يشبه ذلك [26] ولما كانت المخدرات تحدث نفس الأثر الذي تحدثه المسكرات فإنها تدخل تحت هذا التعريف وتأخذ حكمها، وما جاء في الوعيد على الخمر يأتي في المخدرات كذلك لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشرع حفظه وسلامته. ولذلك يدخل تحت التعريف السابق للمسكرات كل أنواع المخدرات إلا ما استعمل منه في التطبيب والعلاج كما سيأتي بيانه ونسوق الآن الأدلة على حرمة المسكرات من جوانب ثلاث.
الأول: من السنة النبوية الشريفة:
روى أبو داود في سننه من حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" [27] .(25/333)
والمفتر: هو المخدر الذي يورث الفتور والخدر في أعضاء الجسم، وإن لم ينته إلى حد الإسكار [28] .
والفتور هو الأثر البارز لتناول المخدرات.
وعليه فإن كل مادة يثبت إسكارها أو تخديرها أو تفتر الجسم أو العقل ينطبق عليها الحكم بالتحريم آيا كانت مادتها أو اسمها، طالما أن جوهرها مسكر أو مفتر بناء على ما ثبت عن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
فالنهي عن تناول شيء يدل على تحريمه، وقد نهى عن المسكر ثم عطف عليه المفتر وصيغة العطف تقتضي اشتراك المعطوف على المعطوف عليه في الحكم لأن القاعدة عند المحدثين والأصوليين أن النهي إذا ورد عن شيئين مقترنين ثم جاء النص على النهي عن أحدهما حرمة أو غيرها أعطى الآخر ذلك الحكم، وقد ذكر المفتر مقرونا بالمسكر في الحديث، وبما أنه قد تقرر حرمة المسكر استنادا إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين فيجب أن يعطى المفتر حكمه.
قال العلقمي في شرح الجامع حكى أن رجلا من العجم قدم القاهرة وطلب دليلا على تحريم الحشيشة وعقد لذلك مجلساً حضره علماء العصر، فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بحديث أم سلمة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" فأعجب الحاضرين قال: ونبه السيوطي على صحته، واحتج به ابن حجر على حرمة المفتر ولو لم يكن شرابا ولا مسكرا [29] .
قال ابن رجب:"واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان، أحدهما ما كان فيه لذة وطرب فهذا هو الخمر المحرم شربه، ... ثم قال: وادخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره، ثم ساق حديث أم سلمة السابق.(25/334)
الثاني: ما يزيل العقل ويسكره لا للذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه، فقال أصحابنا إن تناوله لحاجة التداوي به وكان الغالب منه السلامة جاز.. وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي فقال أكثر أصحابنا كالقاضي وابن عقيل وصاحب المغني إنه محرم لأنه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة فحرم شرب المسكر، وروى حبيش الرحبي _ وفيه ضعف عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا"من شرب شرابا يذهب بعقله فقد أتى بابا من أبواب الكبائر" [30] .
وقال ابن تيمية في فتاويه:"من العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما في الاسم وإما في الحكم، وهذه الطريقة التي سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم، والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص، وثبتت أيضا نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل مسكر، وبعد أن ساق ابن تيمية بعضا من الأحاديث التي سبق أن ذكرناها قال: وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص وكان هذا النص متناولاً لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب أو الثمار، أو من لبن الخيل أو من غير ذلك" [31] .
ويقول في مكان آخر:"كل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل نشوة ولا طرب فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين [32] .
الثاني: من القواعد العامة في الشريعة:
من القواعد المقررة في الإسلام أن كل ما أضر الجسم أو العقل فهو حرام.
وقد ثبت أن المخدرات تحمل من الأخطار والمفاسد الدينية والدنيوية الكثير..(25/335)
يتحدث الإمام ابن تيمية عن بعضها فيقول:"كفى بالرجل شرا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر، ثم أنها تورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وانفتاح شهوته ما لا يورثه الخمر.. فهي بالتحريم أولى من الخمر لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد"كما ذكر أنها تورث قلة الغيرة وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثا، وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقا كثيراً مجانين، ومن لم يجن منها فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها فإنه لابد أن يكون في عقله خبل" [33] .
كما يسوق ابن حجر الهيثمي بعض هذه الأضرار التي ذكر أنها تبلغ مائة وعشرين مفسدة دينية ودنيوية منها"تعرض البدن لحدوث الأمراض، تصدع الرأس تورث النسيان تورث اختلال العقل وفساده وتذهب الحياء والغيرة وإتلاف الأموال والوقوع في المحرمات تورث الرعشة، ولها آثار ضارة على الكبد ... الخ ما ذكره" [34] .
كما يذكر فريد وجدي في دائرة معارفه أن الحشيش الذي يستعمله الناس للتخدير هو عصارة القنب الهندي وهو مخدر مفقد للإحساس مضر بالمجموع العصبي ضررا بليغا جدا ونتيجته الطبيعية الجنون بأشد حالاته وتدخينه عادة مرن عليها بعضهم واستناموا لها استنامة لا فواق منها، وهم في الحقيقة جانون على أنفسهم وعائلاتهم جناية ليس وراءها" [35] .
وإذا كان هذا ما ذكره بعض علماء المسلمين منذ سنوات طويلة، فإن التقارير العلمية الحديثة والأبحاث الطبية تؤكد هذه الأضرار للمخدرات وتزيد عليها. يذكر تقرير صادر عن لجنة المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية أن الآثار المباشر للتخدير تتخلص في الآتي:(25/336)
ارتعاشات عضلية _ زيادة في ضربات القلب _ سرعة في النبض _ شعور بسخونة في الرأس _ دوار _ برودة في الأطراف _ شعور بضغط وانقباض في الصدر _ اتساع في العيون _ تقلص عضلي _ قيء في بعض الحالات _.
ويضيف التقرير بأن هذه الاستجابات قد تزيد في شدتها تبعا للحالة التي تنتهي بالنوم [36] ويزيد بعض الباحثين الأمريكيين آثارا أخرى مثل: جفاف بالفم مع التهاب بالحلق _ عدم توازن حركي في الجلوس والمشي _ دوار ودوري بالأذن _ انخفاض ضغط الدم _ إحساسات جسمية خاطئة أو وهمية كشعور بطول الأطراف [37] .
كما ذكر الدكتور عبد العزيز شرف تحليلا علميا لما تحدثه المخدرات في الجهاز العصبي للإنسان فكان مما قال:"إن المخ يحوي سلسلة من المراكز العصبية الهامة التي تتحكم في الشخص وحركاته وسكناته وتفكيراته، وتتخلص هذه في:
1 _ مراكز عليا ويتميز بها الإنسان عن الحيوان، وهي مراكز تتعلق بالخجل والإحراج التي لولاها لفعل الإنسان ما يفعله الحيوان، وكذا هناك مراكز للخوف والهموم والتقدير السليم للوقت والمسافات والأشكال وغيره.
2 _ مراكز الوعي والانتباه وهذه تحكم في اليقظة والنوم ولها علاقة قوية بالحواس الخمس التي بإخمادها وضعفها يتم النوم أما تنبيهها فيحدث اليقظة والوعي.
3 _ مراكز الحركة ومنها الكلام، وهذه إن اختلت اختل معها المشي والكلام.
4 _ مراكز الحواس الخمس، وهي مراكز السمع والبصر والحس والذوق والشم، ولها علاقة متينة بمراكز الوعي والانتباه التي تعتمد عليها تماماً.
هذا ويعتمد المخ كذلك في وظائفه على مراكز الوعي والانتباه والحواس الخمس فإذا اختلت هذه اختل المخيخ وجاء الجسم بحركات غير متزنة.(25/337)
فإذا ما أخذ الإنسان مخدرا أو مسكرا تتأثر به هذه المراكز وتلك الوظائف المخية بترتيب رقمها كما هو مذكور بدرجة تتوقف على كمية المسكر أو المخدر، وأول المراكز تأثيراً هي المراكز العليا للخجل والإحراج والتقدير وخلافها، وهذه إذا ما خمدت بالمخدرات مثلا فلا خجل ولا خوف ولا إحراج ولا تقدير للأشياء، وبهذا قد تنمي الفوارق الإنسانية وتظهر الجرأة في الحركات والغلظة في الأقوال، ويسود اعتقاد القوة والبطش.. فتنقلب إنسانية المتعاطين إلى حيوانية باطشة لا تقدير للعواقب ولا للوقت والمسافات والأشياء، فيظن الثواني ساعات، والأمتار أميالاً، والنمل أفيالا وضعفه قوة، وغباءه ذكاء، ومهاراته نكات فينساق وراء تلك المظاهر الخداعة الكاذبة بدون مخ يسيطر عليها ولا حكمة توقفه عنها حيث المراكز العليا المتحكمة في ذلك قد خمد سلطانها عليه.
أما الدور الثاني في تأثير المخدرات والمسكرات فيظهر أثره بعد تعاطي كميات منها أكبر مما يؤثر على المراكز المخية الثابتة، وهي ما تتحكم في وعي الإنسان وحواسه وانتباهه، وهذه إذا ما تأثرت وخمدت بالمخدرات صارت خاملة غير قادرة على استيعاب التنبيه الخارجي، ومن هنا يبتدئ النظر والسمع وغيرهما من الحواس في الاضطراب مما يسبب خمولا وكسلا في وعي الإنسان وانتباهه ويميل إلى الوحدة والخمول غير قادر على الحركة والاتزان والكلام فيثقل لسانه غير مبال بما حوله (مسطول) وهذه تدفعه إلى نوم عميق قد يفيق منه بعد مدد تتوقف على الكمية المأخوذة.(25/338)
وإذا ما زادت الكمية زادت الأعراض السابقة وتأثرت الدورة الدموية، وكذا التنفسية، واضطراب القلب، مما قد يؤثر على المدمن ويقضي عليه إذا لم يسعف في الوقت المناسب، وهذا هو أخطر أدوار السكر والتخدير، وكثير من المدمنين يصلون إلى هذه الدرجة، وذلك لأن التعود على المخدر قد يجعل المدمن يتناول كميات أكثر ثم أكثر إلى أن يصل إلى الحد الذي يتأثر به الجسم تأثيرا قد يقتله" [38] .
هذه بعض الأضرار المترتبة على تعاطي المخدرات، ولما كانت قواعد التشريع في الإسلام تؤكد على حرمة كل ذي ضرر كما جاء في الحديث"لا ضرر ولا ضرار"فقد حرم الإسلام المسكرات لما فيها من ضرر مؤكد.. ولما حرمت الشريعة الخمر لم تحرمها لذاتها، بحيث لا يقاس عليها، ولم تحرمها لأنها عصير لنوع معين من المشروبات أو المأكولات، وإنما للأضرار الكثيرة المترتبة على تناولها وخاصة فيما يتعلق بضررها على العقل _ آلة التمييز الإنساني _ ولذلك حرمت كل ما في حكمها فحرمت المخدرات لضررها الذريع بجسم الإنسان وعقله وماله وبيئته كلها وبهذا أجمع فقهاء الإسلام الذين ظهرت في عهدهم كما سيتضح في النقطة التالية.
ثالثا: إجماع المتأخرين من الفقهاء:
قرر فقهاء الإسلام الذين ظهرت في عهدهم المواد المخدرة على حرمتها وحرمة الاتجار بها وعقوبة من تناولها، وذلك بعد أن تبين لهم أضرارها السيئة على الإنسان وظهر ذلك في كلامهم..
يقول صاحب الدر المختار:"ويحرم آكل البنج والحشيشة والأفيون لأنه مفسد للعقل ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وزاد في رد المحتار نقلا عن ابن البيطار وإن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم" [39] .(25/339)
وقال الصنعاني:"إنه يحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن مشروبا كالحشيشة" [40] ، كما أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الرابع والثلاثين من فتاويه في بيان حكم الحشيشة فكان مما قال: هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، ثم قال: ومن كان يستحل ذلك جاهلا فإنه ما يعرف الله ورسوله وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع.. وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين ... وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة مما هي من شر الشراب المسكر [41] .
ويقول العلامة الحطاب: "وأما ما يغطي العقل فلا خلاف في تحريم القدر المغطى من كل شيء وما لا يغطي من السكر [42] وقال في مكان آخر ... إذا تقرر ذلك فللمتأخرين في الحشيشة قولان: هل هي من المسكرات أو هي من المفسدات مع اتفاقهم على المنع من آكلها، فاختار القرافي أنها من المخدرات، قال: لأني لم أرهم يميلون إلى القتال وإلى النصرة، بل عليهم الذلة والمسكنة، وكان شيخنا الشهير بعبد الله المنوفي يختار أنها من المسكرات لأنا رأينا أن من يتعاطاها يبيع أمواله لأجلها ولولا أن لهم طربا لما فعلوا ذلك" [43] .(25/340)
ثم وهذا ابن حجر الهيثمي _ وهو فقيه شافعي _ من علماء القرن العاشر الهجري يؤكد حرمة الحشيش بقوله"عد ما ذكر _ يقصد الحشيشة والأفيون وجوزة الطيب _ ونحوها من الكبائر ظاهرة، وبه صرح أبو زرعة وغيره كالخمر بل بالغ الذهبي فجعلها كالخمر في النجاسة والحد ومال في ذلك إلى ما قدمته عن الحنابلة وغيرهم قال: وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلى أن قال وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر لفظا ومعنى" [44] .
وهكذا نجد اتفاق الفقهاء وإجماعهم على تحريم كل مخدر ومغيب للعقل، ويحكي هذا الإجماع ابن حجر بقوله:"وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ومن استحلها فقد كفر [45] "وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمانهم كما قال ابن حجر وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول السابعة حين ظهور دولة التتار [46] .
ولا يعترض بأن هذا إجماع المتأخرين من الفقهاء، لأن هذه المخدرات لم يظهر تناولها في زمن الصدر الأول من فقهاء الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة، ولو ظهرت في عهدهم لما ترددوا في القول بحرمتها استنادا إلى ما في الشرع من أدلة ونصوص تحرم المسكرات والمضرات، وشمول تلك النصوص الواردة في تحريم الخمر والمسكرات للمخدرات أيضا على أساس أنها مخدرة أو مسكرة، أو بالقياس على الخمر بعلة الإسكار، واستنادا إلى ما هو ثابت بقاعدة مقررة في الشريعة الإسلامية وهي تحريم كل ما يسبب ضررا للإنسان في جسمه أو عقله أو خلقه، وقد ثبت مما قرره الفقهاء وأيدته الدراسات الطبية والعلمية الحديثة ضرر المخدرات وخطرها الذريع على الأفراد والجماعات فيكون تعاطيها محرماً لما يترتب عليها من أضرار.
التداوي بالمسكرات والمخدرات:(25/341)
أفاد الفقهاء بأنه لا يجوز التداوي بالمسكرات استنادا إلى ما ورد في السنة من نصوص صحيحة تحرم التداوي بالخمر والمسكرات وتصفها بأنها داء لا دواء كما سيأتي بيانه في طرق الوقاية من أضرار المسكرات والمخدرات.
وأما التداوي بالمخدرات فهذا ما نعرض لآراء الفقهاء فيه، ثم نسوق نتيجتها في النهاية..
قال المالكية والأحناف والشافعية بجواز التداوي بالمخدرات وهذه مواطن أقوالهم:
في الشرح الصغير"يجوز التداوي بالحشيش والأفيون والسيكرن في ظاهر الجسد" [47] وفي حاشية الدسوقي"قال ابن فرحون: والظاهر جواز أكل المرقد لأجل قطع عضو أو نحوه، لأن ضرر المرقد مأمون، وضرر العضو غير مأمون" [48] وفي المبسوط للسرخسي"البنج لا بأس بأن يتداوى به الإنسان" [49] . وفي حاشية ابن عابدين"أكل قليل السقمونيا والبنج مباح للتداوي [50] وفي المجموع"استعمال النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة يحرم أكله ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر ما لم يكن منه بد [51] .
كما يرى ابن حزم جواز التداوي بالمخدرات أيضا لأن التداوي بالمحرم بمنزلة الضرورة عنده وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} [52] .
أما الحنابلة فقد سئل الإمام ابن تيمية عن التداوي بالخمر ولحم الخنزير وغير ذلك من المحرمات هل يباح للضرورة أم لا؟ وهل الآية {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} في إباحة ما ذكر أم لا..(25/342)
فأجاب: لا يجوز التداوي بذلك بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الخمر يتداوى بها فقال أنها داء وليست بدواء، وفي السنن أنه نهى عن الدواء بالخبيث، وقال: "إن ال له لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها.." ثم قال: وليس ذلك بضرورة فإنه لا يتيقن الشفاء بها كما يتقين الشبع باللحم المحرم، ولأن الشفاء لا يتعين له طريق من الأدوية وبغير ذلك، بخلاف المخمصة فإنها لا تزول إلا بالأكل" [53] ومعروف أن ابن تيمية يذهب إلى أن"هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر" [54] .
والنتيجة التي يمكن التوصل إليها أنه لا يجوز التداوي بالمحرم وكل خبيث إلا أن التخدير الآن بات أمرا أساسيا في إجراء العمليات الجراحية، وعليه فلا مانع من القول بإباحة استعمال البنج المخدر المعروف الآن في المستشفيات والمستخدم في شئون العلاج والتطيب، ولا يسوغ أن نقول بمنعه الآن لأن في استعماله واستخدامه مصلحة محققة وغرضا شرعيا صحيحا، ثم إن كثيرا من الفقهاء كما رأيت من أقوالهم لا يمنعون من التداوي بالمخدرات عموما.
أما تعاطي المخدرات وتناولها أكلا أو شربا فنحن مع ابن تيمية في القول بمنعه، وهناك بدائل كثيرة يمكن استخدامها في مجال العلاج، وقد قيل من استشفى بالأدوية الخبيثة كان دليلا على مرض قلبه [55] .
الحكمة في تحريم المسكرات والمخدرات:(25/343)
لم يضيق الله على عباده واسعاً، ولم يحرمهم طيباً.. وإنما أباح لهم من طيبات الحياة وخيراتها ما يزيد عن حاجتهم ورغائبهم.. وكم في الأرض من خيرات وكنوز وزروع. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة آية 168) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة آية 172) {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل آية 114) .
ومن رحمة الله بعبده أنه يصونه مما يضره ويحميه مما يتلفه ولذا حرم عليه ما يعود بالضرر على بدنه أو نفسه أو عقله أو ماله، كالخمر وسائر المسكرات والمخدرات..
ولقد كشف البحث الإنساني أضرارا بالغة من وراء تعاطي شيئا من هذه الأشياء المحرمة جعلت محمد فريد وجدي يقول:"لو عمل إحصاء عام عمن في مستشفيات العالم من المصابين بالجنون والأمراض العضالة بسبب الخمر، وعمن انتحر أو قتل غيره بسبب الخمر، وعمن يشكو في العالم من آلام عصبية ومعدية بسبب الخمر، وعمن أورد نفسه موارد الإفلاس بسبب الخمر، وعمن تجرد من أملاكه بيعا أو غشا بسبب الخمر.. لو عمل إحصاء بذلك أو ببعضه لبلغ حدا هائلا تجد كل نصح بإزائه صغيرا" [56] .
وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول:"اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر" [57] .
و"لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر" [58] و"الخمر أم الخبائث" [59] .
وتأمل كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم الجامعة العامة"مفتاح كل شر"وقوله"أم الخبائث"لتدرك أن شرب الخمر مفتاح لمصائب فادحة وكرب جسام.
وكذلك كل مادة يثبت إسكارها أو تخديرها للعقل ينطبق عليها نفس الحكم الذي تقرر للخمر..(25/344)
ومن حق الله تعالى وهو المنعم المتفضل بالخلق والرزق أن يتعبد عباده بما يشاء من التكاليف دون أن يسأل عما يفعل، فذلك حق ربوبيته جل وعلا، لكن من رحمة الله بخلقه ولطفه بهم أنه جعل التحريم يتبع الخبث والضرر فما يعود علينا بالمصلحة والفائدة أحله، وما يعود بالخبث أو الضرر حرمه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة آية 220) .
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَات} (المائدة آية 4) .
فالله لم يحل إلا الطيب النافع ولم يحرم إلا الخبيث الضار، ولهذا كان من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل الكتاب أنه {أْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف آية 157) .
ثم إنه من لطف الله ورحمته أيضا بخلقه أنه ما حرم عليهم شيئا إلا أعطاهم البديل الواسع والعوض الطيب الذي يسد مسد الحرام ويغني عنه.(25/345)
قال الإمام ابن القيم:"ما حرم الله على عباده شيئا إلا عوضهم خيرا منه، كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمار وأعوضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير وأعوضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم عليهم الزنا واللواط وأعوضهم منها النكاح الحلال بصنوف النساء الحسان، وحرم عليهم شرب المسكر وأعوضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرم عليهم سماع آلات اللهو ومن المعازف والمثاني، وأعوضهم عنها بسماع القرآن والسبع المثاني، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات وأعوضهم عنها بالمطعومات الطيبات.. ومن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك ما حرمه الله ونهى عنه، وعرف حكمة الله ورحمته وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وفيما أباحه لهم، وأنه لم يأمرهم به حاجة منه إليهم، ولا نهاهم عنه بخلا منه تعالى عنهم، بل أمرهم بما أمرهم ‘حسانا منه ورحمة، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية [60] فلك الحمد ربنا على ما أنعمت وأوليت {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة آية 6) .
كيف قضى الإسلام على الخمر وسائر المسكرات:
نلقي نظرة سريعة على المنهج الذي سلكته الدعوة في البداية للقضاء على الخمر في المجتمع الإسلامي، وكل مسكر من شأنه أن يضر بالمسلمين.(25/346)
نظرا لأن السكر والإدمان كانا من العادات المتأصلة في المجتمع الجاهلي فإن الإسلام لم يفاجئ المسلمين بتحريم الخمر، وإنما أخذ بأيديهم خطوة، خطوة في الطريق الذي أراده الله لهم، وصار يحرمها عليهم بالتدريج، فبدأ أولا بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين نحو هجر الخمر والابتعاد عنها، وذلك حين أشار إشارة خفيفة مضمونها أن الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وفي ذلك إيماء للعاقل بترك هذا المشروب الذي إثمه أكبر من نفعه.. لذلك تركها قوم لما فيها من الإثم الكبير وشربها آخرون حيث لم تمنع الآية.
وقال عليه الصلاة والسلام عقبها"إن ربكم يقدم في تحريم الخمر".
ثم حدث أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ودعا إليه عددا من الصحابة فأكلوا وشربوا وسكروا، فلما حضرت الصلاة صلى بهم عبد الرحمن بن عوف - وفي رواية أخرى علي بن أبي طالب - فقرأ قل يا أيها الكافرون، فخلط فيها فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [61] .
ومعلوم أن أوقات الصلاة متقاربة، لا تكفي الأوقات التي بين كثير منها للسكر والأفاقة، ولا شك أن في ذلك تضييقاً لفرص التعاطي وكسراً لعادة الإدمان التي مرنوا عليها.
ومدمن الشراب إذا اجتاز الوقت الذي اعتاد الشراب فيه وتكرر ذلك منه فترت حدة العادة عنده وسهل عليه التغافل عن الشراب وتركه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام بعدها أن ربكم يقرب في تحريم الخمر [62] .(25/347)
ولما وصل المسلمون إلى هذه الدرجة كانت نفوسهم قد تهيأت لقبول النهي الجازم عن شربها حتى قال عمر رضي الله عنه"اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا"فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة آية 90، 91) . فقال الصحابة: انتهينا يا رب.. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهتف: ألا إن الخمر قد حرمت فلا تبيعوها ولا تبتاعوها فمن كان عنده منه شيء فليهرقه، فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها في طرق المدينة من كثرة ما أهرقوا منها.
وقد جاء النهي بصيغة"فاجتنبوه"وهو لفظ أبلغ في التحريم من غيره، إذ أنه ينهي حتى عن مجرد الاقتراب من الشراب ومجالسه.. ولذلك جاء في الحديث"لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" [63] .
أما الوسائل التي يمكن اتخاذها الآن لوقاية المجتمع الإسلامي من خطر المسكرات والمخدرات فيمكن إيجازها في الآتي:
أولا: تعميق الاحترام لأمر الله ونهيه:(25/348)
ذلك أن الإنسان إذا اعتقد بكمال رحمة الله، وحكمته فيما خلق وقدر، وفيما أمر ونهى رضي بكل تعاليم هذا الإله وأحكامه، وتقبلها بقبول حسن، وسارع إلى تنفيذها دون ضجر أو حرج ودون تحايل على القانون أو هرب منه، لأنه يدرك تماما أن الله"حكيم خبير""رحمن رحيم"وأنه أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأن رحمته سبقت غضبه، وأن دينه {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة} وأن أحكامه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وفيها {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إذا اعتقد الإنسان بكل ذلك سارع إلى مرضاة الله بكل قناعة ورضا وأقبل على ربه بكل وجدانه وجوارحه، تماما كما جاء في وصف المؤمنين {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .
وبذلك يكتمل إيمانه ويسلم دينه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
إن إشاعة هذا الاحترام لله ولكتابه وسنة نبيه وتعميقه له الأثر الكبير في المسارعة إلى تنفيذ ما أمر الله، واجتناب ما نهى، ظاهرا وباطنا سرا وعلنا.. ولو مع القدرة على المخالفة، وإليك الأمثلة:
سبق أن رأيت أن شرب الخمر كان عادة متأصلة في المجتمع الجاهلي إلى حد الإدمان، ولما جاء الإسلام أخذ يتدرج معهم في تحريمها، فلما كانت الخطوة النهائية ونزلت آية التحريم وفيها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} سارع المسلمون دون تلكؤ أو تكاسل إلى كسر دنان الخمر، وإراقة زقاقها، وكانت ما أكثرها في بيوتهم حتى ذكر أنهم استمروا أياما يشمون رائحتها في الشوارع من كثرة ما أريق..
لكن بكلمة واحدة من ربهم الواحد.. قالوا انتهينا يا رب.. وذلك لاحترامهم الزائد للوحي الإلهي، وتقديسهم لأحكامه.(25/349)
قارن بين هذا الموقف وبين ما أرادته الولايات المتحدة من تخليص مواطنيها من شرب الخمر، فأصدرت قانون تحريم الخمر سنة 1930م وأنفقت في سبيل الدعاية له من الأموال والجهود ما يفوق الوصف، واستعانت بكل وسائل الإعلام حتى قدر ما أنفق على الدعاية لهذا القانون خمسة وستون مليونا من الدولارات.. وكتبت آلاف الصفحات في مضار الخمر وعواقبه..
ومع ذلك لم ينجح المشروع وقام المواطنون بمخالفته مما اضطر الحكومة أخيرا إلى إلغائه لأنه لم يكن للقانون سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته..
أما الشعور بأن هذا الشيء من عند الله الذي يعلم السر وأخفى، سواء كان أمراً أو نهيا، فإن ذلك يكسبه الهيبة والاحترام، ويجعل الإنسان يستجيب له طواعية واختيارا مهما كان مركزه ومهما كان وضعه في المجتمع.. ولو كان ذلك بعيدا عن أعين الرقباء لأن الطاعة تنبعث من داخل النفس وتقوم على الإيمان بالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(25/350)
ومثال آخر.. لما نزل قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ... } الخ الآية (النور آية31) . سارعت النساء المؤمنات بالاستجابة لأمر الله عز وجل في الحشمة والستر كما أشادت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها: يذكر ابن كثير عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلا وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل ... لقد أنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها [64] المرحل فاعتجرت [65] به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات [66] كأن على رؤوسهن الغربان [67] .
فانظر كيف تكون المسارعة والاستجابة لطاعة الله وأمره من قبل نساء المهاجرين والأنصار دون انتظار لشراء أو خياطة أو تفصيل.
لا.. إنهن تغطين بأي غطاء موجود، دون نظر إلى حسنه أو جماله، ولو ظهرن في شكل غير مقبول.. كالغربان _ كما تقول الراوية.. المهم أن يرضي الله.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شكل مشوه
إن تعميق هذه المعاني في النفوس وسيلة هامة من أهم الوسائل لوقاية المجتمع الإسلامي من الوقوع في آفات المخدرات والمسكرات، إذ أنه يجعل الناس ينصرفون تلقائيا عنها، وانظر لما حرمت الخمر بالأمر الإلهي فطم المسلمون نفوسهم عنها حتى غدوا وكأنهم لا يعرفونها ولا تعرفهم.(25/351)
والآن ما أكثر ما تنتج المصانع من دنان الخمر والمسكرات وأنواع البيرة والمخدرات فلو احترم الناس شرع الله لهربوا منها فإذا عرضها أعوان الشيطان لم يجدوا من يقبل عليها أو يأخذها منهم، فتبور تجارتها، وتختفي عن الأنظار.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيتنا إذ جاءه رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ فقلنا: لا فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال: يا أنس أرق هذه القلال قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
وهكذا يفعل الإيمان بأهله.
ثانيا: غرس الشعور بقبحها وأضرارها حتى تعافها النفوس:
كل عاقل يحب حياة الصحة والعافية، ويبتعد عن كل ما يتعب بدنه أو يشقى نفسه.
وقد أثبت المختصون من أضرار المسكرات والمخدرات ما ينفر من مجرد رؤية شيء منها إذ من الذي يحب أن يجلب على نفسه أسباب الهلاك والأمراض إنه لا يفعل ذلك إلا مخبول العقل مأفون.
لقد جمع عليه الصلاة والسلام ما تجلبه المسكرات على الإنسان من آفات في هذه العبارة الجامعة.."الخمر أم الخبائث".
وعن عبد الله بن عمرو قال: الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته.
وروى الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو وابن عباس بلفظ"من شربها وقع على أمه".(25/352)
وقال الزهري حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال سمعت عثمان بن عفان يقول: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فدخل معها فطفقت كلما دخل باب أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر وإلا صحت وفضحتك فلما رأى أنه لابد من ذلك قال: اسقني خمرا فسقته كأسا فقال: زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه"ذكره ابن كثير في تفسيره ونسبه إلى البيهقي وقال إسناده صحيح.
وذكره السيوطي في الدر المنثور كما ذكر السيوطي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وأنه لما شربه لم يمتنع من شيء أرادوه منه".
وهكذا تكون الخمر أم البلاء ورأس كل مصيبة.. فإذا أضيف إلى ذلك ما أكده البحث الطبي والتجريبي الحديث من مضار المسكرات والمخدرات على القلب والبدن لنفر منها العقلاء.. وفروا منها فرارهم من كل وباء أو هلاك.
وماذا تقول في مواد تتلف الكبد والبنكرياس، وتضعف القلب وتخل حركته، وتؤثر على خلايا المخ والأعصاب، وتسبب فقر الدم وإضعاف العضلات وتجلب السل ومرض السكر واضطراب الأمعاء.
ما ظنك بمواد تذهب بالعفة والشرف، وتقتل النخوة والمروءة وتشيع الفوضى واللامبالاة، وتضيع الثروة والمال..
إن هذه المساوئ جميعا هي بعض ما تجلبه المسكرات والمخدرات في بيئة بني الإنسان.(25/353)
ولذا فإنه لو عمقت هذه الآثار ووعي البشر خبث المواد المسكرة والمخدرة بأسلوب علمي يعتمد على الحقائق العلمية والتجارب المعملية بعيدا عن المبالغات والزيادات لأدرك الناس قبحها، ووقفوا على خطرها وضررها فيبتعدوا عنها.. وينفروا منها..
لقد كره الإسلام أتباعه في الخمر وسائر المسكرات حتى ول كانت للتطبيب والعلاج..
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:"إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بالمحرم" [68] .
وفي السنن عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الداء الخبيث [69] .
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم [70] .
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو على من يتداوى بحرام كخمر فيقول:"من تداوى بحرام كخمر لم يجعل الله فيه شفاء" [71] .
إنه في الوقت الذي يعل فيه الجسم ويتمنى الإنسان الخروج من علته بأي سبب أو طريق ينهي الإسلام عن التطلع إلى الشفاء بحرام، سدا لذريعة تناول المحرم بكل وجه، وقفلا لهذا الباب أمام النفس لاسيما وأن النفوس قد تميل إلى الشيء الحرام رغبة في الشفاء مما يجعلها تتناوله بشهوة أو لذة، وهذا ضد مقصود الشرع ثم إنه داء كما نصت عليه الأحاديث فلا يجوز أن يتخذها دواء.
في صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال:"إنه ليس بدواء، ولكنه داء" [72] .
وعن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلت يا رسول الله إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها، قال: لا، قال: فراجعته قلت: إنا نستشفي للمريض، قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء [73] .
بل لقد ذهبت الشريعة أبعد من هذا.. حين نهت عن مجرد الاستعانة بالمسكر في بعض الأدوية.(25/354)
ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء فقال:"إنها داء وليست بالدواء.." [74] .
أرأيت: إنه في الوقت الذي قد يظن فيه أن النفس قد تميل إلى الاستشفاء بمحرم يقطع الإسلام عليها هذا الطريق، ويبغضها فيه ولو في أوقات الشدة والمرض فكيف بأوقات الصحة والعافية، إن احتقاره والنفرة منه أشد وأولى.
ولقد أشارا ابن القيم إلى معنى دقيق هنا في كون المحرمات لا يستشفى بها، قال:"إن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها.
ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حسن ظنه بها، وتلقى طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها، وأسوأ اعتقادا فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء، إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظن والكراهية لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء [75] .
وهكذا يريد الإسلام أن يغرس احتقار المحرمات من مسكرات ومخدرات وغيرهما في النفوس وأن يشاع بغضها وكراهيتها في الشعور الديني لجميع المسلمين حتى تعافها النفوس ولا يقبل عليها أحد وبذلك تبقى واجهة الجماعة المؤمنة نقية طاهرة لا يلوثها السوء ولا يشوه صورتها عبث المفسدين.
ثالثا: رقابة المجتمع على أفراده:(25/355)
يحمل الإسلام المجتمع قسطاً وفيراً من تبعة التوجيه إلى الخير، والتنفير من الشر، وتبعة حماية الخير وإشاعته، ومحاربة الشر وحصره، ولذلك كانت القاعدة الأساسية التي نبط بها خيرية هذه الأمة هي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال سبحانه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} ثم ذكر سبحانه مناط هذه الخيرية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
ولو أن أي انحراف يظهر، أو محرم ينتهك وجد من يقف أمامه منذراً محذراً لانطوت الشرور وماتت في مهدها، ولم تجد لها أعواناً أو أنصاراً، ولا استقامت الفضيلة على عودها، وانطلقت في المجتمع تنشر العفاف وتشيع الطهر.
إن المجتمع الإسلامي مجتمع تكافلي بين أفراده بحكم تعاليم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. مجتمع يتناصر بالحق والعدل، ويتعاون لنبذ الشر ونقاء المجتمع من الانحرافات والسوءات.
ولقد كان المنحرف في الصدر الأول يشعر كأنه مريض بين إخوانه لا يطيب له مقام بينهم حتى يبرأ من علته، نظراً ليقظة الضمير ويقظة العيون الحارسة لشرع الله ونهجه، ولذا كان لنظام الحسبة في الإسلام دور واسع في نقاء المجتمع ونظافته من الشرور، وعن طريقها أقلع كثير من الناس عن سوءاتهم.
ولو أن شاربي الخمر أحسوا بأنهم منبوذون مطاردون في مجتمع المسلمين لراجعوا أنفسهم، ورجعوا إلى صوابهم.
ولو أن أصحاب محلات الخمور وجدوا من يقف لهم ويعترض عليهم لأغلقوا محلاتهم، أو لحولوها إلى نوع آخر من التجارة حلال شريف.
لو أن هؤلاء شعروا بقطيعة صارمة من مجتمعاتهم، وإنكار المسلمين عليهم لما وقفوا موقف الإعلان والظهور يحادون الله ورسوله.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه، قال: يرى أمراً لله فيه مقال ثم لا يقول شيئاً".(25/356)
وعن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:"أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث".
رابعا: الإصلاح والتأديب عن طريق العقوبات بالحدود:
وهذا جانب رعته الشريعة وقررته كسبيل من سبل الإصلاح والتقويم للنفوس المعوجة والفطر المنحرفة.
وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة، والسلوك القويم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام وسعد بالمجتمع وسعد به مجتمعه، ومن هجر هذه الأسباب ونفر منها وسعى في الأرض فساداً دون رادع من خلق أو وازع من ضمير فحق للإسلام أن ينزل به عقابه ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره" [76] .
ولقد سلكت الدعوة في سبيل المحافظة على مقاصدها أمرين:
الأول: رعايتها من جانب الوجود، فأداء العبادات والقربات يحفظ على الدين بقاءه ونماءه..
والثاني: رعايتها من جانب العدم وذلك بدفع ما يؤدي إلى اختلالها أو الاستهتار بها والعقوبات تحفظ الشعائر من جانب العدم كالحدود والتعازير وغير ذلك من صور التأديب، وهناك ناس لا يبالون بحل ولا حرمة، ويكرعون من الخمر كيف شاءوا ويعبون من المسكرات كما أرادوا دون رادع من خلق أو وازع من ضمير وهؤلاء لابد أن يلقوا جزاءهم وأن يؤدبوا على سفههم.
وقد أجمعت الأمة على عقوبة شارب الخمر سواء شرب كثيراً أو قليلا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".
والعقوبة الواردة هنا هي الحد وإن لم يسكر.
لكن ما مقدار الحد.. هل أربعون أو أكثر..(25/357)
يبدو أن شارب الخمر كان يعاقب في البداية بأربعين جلدة ونحوها كذا كان الحال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه لكن لما تغيرت أحوال الناس ولأن دينهم زيد الحد إلى ثمانين..
روى البخاري وأحمد عن السائب بن زيد قال: كنا نؤتي بالشارب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر الصديق وصدراً من إمارة عمر فنتقدم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد عمر ثمانين..
وروى مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقيل: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر فجلد ثمانين.
وجاء في المغني لابن قدامة أن عمر استشار الصحابة في حد الشرب فقال له علي كرم الله وجهه: أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى فاجلدوه ثمانين _ أي كحد المفترى _ فجلده عمر ثمانين [77] .
وكأنه يشير إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .
ولقد وصل الأمر بالبعض أن يحد من جلس في مجلس الشراب وإن لم يشرب لأنه كالراضي بفعلهم الموافق على إثمهم.. يقول ابن تيمية"رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له إن فيهم فلاناً وقد كان صائماً، فقال ابدءوا به أما سمعتم الله يقول {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} وزاد في مكان آخر، فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل [78] .(25/358)
كما قال رحمه الله"أما شارب الخمر فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة، فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة وإن اقتصر على الأربعين ففي الأجزاء نزاع مشهور.
فمذهب أبي حنيفة وأحمد الروايتين أنه يجب الثمانون ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر ابن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روى عنه أنه كان ينفى الشارب عن بلده ويمثل بحلق رأسه ثم قال:"وقد روى من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها الثالثة أو الرابعة فاقتلوه"فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخاً، وهو المشهور من مذاهب الأئمة، وطائفة يقولون، إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال: "فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم"والحق ما تقدم، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر فكان كلما شرب جلده النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه [79] .
أما المخدرات فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أنه لم يرد في تناولها حد مقرر، وكل ما كان كذلك وجب فيه التعزير فقط ولعل حجتهم في ذلك أن الحد في المائع المطرب، أما المأكول الذي لا تتحققق فيه خاصية الطرب فلا [80] .(25/359)
وذهب آخرون ومنهم ابن تيمية وابن حجر الهيثمي وابن حزم إلى أن العقوبة في المخدرات هي حد السكر وقياسها على المسكرات لوجود تغطية العقل في كل منهما قال ابن تيمية:"وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام يتناول ما يسكر ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً أو مشروباً أو جامداً أو مائعاً فلو اصطبغ كالخمر كان حراماً، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن [81] .
وقال: وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير.. ثم قال: ومن الناس من يقول: إنها أي الحشيشة تغير العقل فلا تسكر كالبنج وليس كذلك، بل تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر، ولهذا قال الفقهاء إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر [82] .
وقد سبق أن رأيت أن ابن حجر الهيثمي يؤكد حرمتها وينقل ذلك عن الذهبي وغيره [83] .
وبعد: فهذه خلاصة عن عقوبة متعاطي المسكرات والمخدرات، والعقوبات في الإسلام مع أنها جوابر وكفارات لأهلها من آثامهم هي زواجر أيضا، تزجر الآخرين، وتمنعهم من التردي في حمأة الرذيلة، أو العبث بحدود الله ومحارمه، ولذلك كانت بركتها على المجتمع الذي يقيمها كثيرة وفيرة، وفي الحديث"حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً [84] .. وفي رواية أربعين ليلة..
والله الهادي إلى سواء السبيل(25/360)
من خصال الإيمان ترك الخمر
أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على فراش الموت ابنه عبد الله فقال له: عليك بخصال الإيمان. قال: وما هن يا أبت؟ قال: الصوم في شدة أيام الصيف، وقتال الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال، قال عبد الله وما ردغة الخبال؟ قال: شرب الخمر..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مختصرا من ترتيب القاموس المحيط 2/585.
[2] الصحاح للجوهري ج 2/687.
[3] البخاري ومسلم.
[4] البخاري ومسلم.
[5] أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[6] انظر: فتح الباري 10/47.
[7] جامع العلوم والحكم /394.
[8] المحلى 4/591 مطبعة الإمام _ القاهرة.
[9] جامع العلوم والحكم / 397.
[10] المرجع السابق.
[11] نفس المرجع.
[12] النهاية في غريب الحديث 1/111.
[13] أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[14] مسلم.
[15] انظر: تفسير القرطبي 6/294.
[16] جامع بيان العلم وفضله /395.
[17] المحلى لابن حزم 7/ 562 المغني لابن قدامة 9 /158 _ نيل الأوطار للشوكاني 7/ 315 ط دار الجيل. فلسفة العقوبة لأبي زهرة القسم الأول 179.
[18] الفتاوى ج19/ 289.
[19] أحمد وأبو داود والترمذي.
[20] أحمد وأبو داود والترمذي.
[21] جامع العلوم والحكم لابن رجب /397.
[22] ترتيب القاموس المحيط _ حرف الفاء.
[23] انظر: في ذلك المعاجم اللغوية مثل القاموس المحيط ولسان العرب.
[24] الزواجر لابن حجر الهيتمي ج1/214 ط الحلبي.(25/361)
[25] انظر: المخدرات _ أنواعها، أضرارها أحمد محمود حافظ ص7 وما بعدها ومحاضر جلسات المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات الذي انعقد في المملكة العربية السعودية في شوال سنة 1394هـ والندوة الدولية العربية حول ظاهرة تعاطي المخدرات _ القاهرة سنة 1971.
[26] التشريع الجنائي _ للأستاذ عبد القادر عودة ج1 /582، وانظر الفتاوى لابن تيمية ج34/204.
[27] جامع العلوم والحكم 397.
[28] المرجع السابق.
[29] تهذيب الفروق والقواعد السنية للشيخ محمد علي حسين مطبوع على هامش الفروق ج1/ 216.
[30] جامع العلوم والحكم 397.
[31] الفتاوى ج19/282.
[32] المرجع السابق 34 /211.
[33] الفتاوى 34 /223، 224.
[34] الزواجر عن اقتراف الكبائر ج1 /215.
[35] دائرة معارف القرن العشرين 3 /447.
[36] الندوة الدولية العربية حول ظاهرة تعاطي المخدرات 117 /118.
[37] المرجع السابق.
[38] المكيفات _ للدكتور عبد العزيز أحمد شرف /142، 143 ط دار المعارف.
[39] انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين ج6 /458 ط 1386.
[40] سبل السلام ج4 /50 ط الاستقامة / مصر سنة 1357.
[41] الفتاوى 34 /210، 211.
[42] مواهب الجليل ج2 /232 ط ليبيا.
[43] مواهب الجليل ج1 /90 ط ليبيا.
[44] الزواجر ج1 /216 ط الحلبي.
[45] المرجع السابق.
[46] المرجع السابق.
[47] الشرح الصغير بهامش بلغة السالك ج1 /9.
[48] حاشية الدسوقي ج1 /50.
[49] المبسوط ج24 /9.
[50] حاشية ابن عابدين ج5/402.
[51] المجموع 9/35.
[52] الفتاوى ج 24/271.
[53] المرجع السابق.
[54] المرجع السابق 34 /205، 206.
[55] المرجع السابق ج24 /275.
[56] دائرة معارف القرن العشرين 3 / 791.
[57] الحاكم.
[58] ابن ماجة والبيهقي عن شهر بن حوشب.(25/362)
[59] الطبراني الأوسط _ انظر: الجامع الصغير.
[60] بتصرف يسير من روضة المحبين / 17 ط حلب.
[61] انظر: تفسير الدر المنثور للسيوطي 2/318.
[62] تفسير الدر المنثور للسيوطي 2/318.
[63] أبو داود واللفظ له، وابن ماجة وزاد وأكل ثمنها.
[64] المرط.. بالكسر كساء من صوف أو خز.
[65] الاعتجار: لف العمامة.. ولبسة للمرأة.
[66] متلفحات: مستترات.
[67] تفسير ابن كثير ج3 /285.
[68] أبو داود في الطب.
[69] أبو داود والترمذي.
[70] البخاري في الطب.
[71] انظر: الجامع الصغير للسيوطي ونسبه إلى أبي نعيم في الطب.
[72] مسلم في الأشربة.
[73] أحمد وابن ماجة.
[74] أبو داود والترمذي.
[75] زاد المعاد ج4 /158 ط سنة 1399هـ.
[76] من بحث للكاتب بعنوان "الحدود في الإسلام ".
[77] المغني 10 /326.
[78] الفتاوى 32 / 254، 30 / 213.
[79] الفتاوى ج34 / 216، 217.
[80] هكذا يرى متقدموا الحنفية حاشية ابن عابدين 3/228 ط بولاق 1326 وإن كان المتأخرون أفتوا بوجوب الحد لفشو هذا الفعل وانتشاره بين الناس، انظر تنوير الأبصار مع حاشية ابن عابدين ج 6 / 458 ط سنة 1966 ثانية.
والشافعية لا يرون الحد أيضا إلا إذا أذيبت بحيث تقذف بالزبد وصارت تطرب كالخمر ففيها الحد انظر: نهاية المحتاج 8 /12 ط الحلبي ومغني المحتاج 4 /187.
كما يرى المالكية أن الحد مختص بالمائعات المغيبة للعقل، انظر: "بلغة السالك "198، 323.
وحكى القرافي الخلاف بين فقهاء عصره في حكم تعاطي الحشيشة هل هي الحد أو التعزير، انظر الفروق 1 / 216 أما القرافي فقال لا أوجب فيها الحد بل التعزير الزاجر عن ملابستها 1 /218.
[81] انظر: في ذلك الفتاوى ج 34، 204، 205.
[82] المرجع السابق.
[83] الزواجر ج1 /216.
[84] ابن ماجة _ باب الحدود.(25/363)
المُسْكرات مِنَ النَّاحيَةِ النفسيَّة
للدكتور ملك غلام مرتضى
رئيس قسم الترجمة بالجامعة
حقيقة السكر
قال الله سبحانه: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
قال الفخر الرازي في تفسيره: (التفسير الكبير 6 / 46)
الإثم الكبير فيه أمور:
أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخسَّ الأمور.
وتقريره: أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقى الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً من العقل المانع لها، والتقريب بعد ذلك معلوم.
ذكر ابن أبي الدنيا: أنه مر على سكران وهو يبول في كفيه ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً.
ثانيها: ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ثالثها: إن هذه المعصية من خواصها: أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم: كان الميل إليها أكثر، وقوة النفس عليها أقوى بخلاف سائر المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفوره أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه أكثر ورغبته فيه أتم، فإذا واظب الإنسان عليه صار غرقاً في اللذات البدنية.. حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وبالجملة: فالخمر يزيل العقل، وإذا ذهب العقل، انتشرت المفاسد وسادت الرذائل _ قال عليه الصلاة والسلام: "الخمر أم الخبائث ".(25/364)
وهذا يعني أن جريمة السكر تغري بجميع الجرائم التي تعرض للسكران، وتجرئ عليها ولاسيما الزنا والقتل _ ولهذا اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها "مفتاح لكل شر ".
وقد قيل أن امرأة فاسقة راودت رجلا صالحا عن نفسه، فاستعصم، فسقتهُ الخمر فزنى بها، وأمرته بالقتل فقتل.
قال عليه الصلاة والسلام: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته ".
هذا لأنه توجد في جبلة الإنسان خاصيتان وهما:
1 _ المَلَكية يعني صفات الملائكة _ وهي امتثال أوامر الله ومقتضيات العقل _.
2 _ البهيمية يعني صفات البهائم _ وهي امتثال أوامر النفس الأمارة بالسوء ولو كانت مخالفة للعقل.
فتأثير الخمر على شخصية الإنسان أن تخامر العقل، وتضعف ملكيته، وتثير بهيميته وتقويها، فالنتيجة أن الإنسان يمسي تابعاً مطلقاً للبهيمية ويسقط من درجة الإنسان إلى درجة البهيمية ويعتبر خاضعاً لسلطان الهوى والشيطان.
كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} .
السكر ضد الفطرة السليمة:
العقل السليم يشهد بتحريم الخمر والمسكرات، ويدل على ما قلناه: أن بعض عقلاء الجاهلية حرموها على أنفسهم لما لمسُوا من أضرارها، وأعظمها وهن عقل الشارب، منهم عبد الله بن جدعان من قريش، والعباس بن مرداس السلمي، حيث قيل له وهو إذ ذاك في غياهب الجاهلية، لم لا تشرب الخمر؟ فقال: ما كنت لأخذ جهلي بيدي، وأدخله في جوفي ما كنت لأصبح رئيس قوم، وأمسي سفيههم ".
ومنهم جعفر بن أبي طالب، وعدي بن حاتم الطائي، قيل له مالك لا تشرب الخمر؟ قال: "لا أشرب ما يشرب عقلي ".
ومنهم قيس بن عاصم المنقري وأبو بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا، حرموها على أنفسهم قبل تحريمها من الله سبحانه.(25/365)
وقال عثمان رضي الله عنه: "إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ويعود جملة ".
والواقع أن شارب الخمر وما شاكله من المسكرات يتنازل عن منزلته وشرفه من حيث هو إنسان كرمه الله وجعله أشرف المخلوقات، ويمسي حيواناً لا عقل له ولا فهم.
لهذا كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتوقعون تحريم الخمر ويدعون الله لتحريمها ومنهم أمير المؤمنين عمر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ونفر من الصحابة الذين قالوا يا رسول الله: " أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال ".
ما هو الإدمان الكحولي؟
" الإدمان هو اعتماد الجسم والتعود المتزايد لأنسجته على الكحول، وظهور أعراض انقطاعه المفاجئ عن أنسجة الجسم، والاشتهاء المرضي لتعاطيه ".
أما المدة اللازمة لحدوث هذا التعود فتتفاوت من أيام إلى شهر، ويتوقف ذلك جزئياً على الاختلافات الفردية، وعلى كميات الكحول المستهلكة.
وهناك أربع مراحل في تطور هذا التعود وهي.
1 _ مرحلة أعراض ما قبل الإدمان، يشرب الناس مجاملة ويشعرون في البدء براحة ونشوة.
2 _ مرحلة الإرهاصات: يصبح السكير أكثر انتظاماً في تعاطي الكحول ويستهلكه كالماء ويشعر بالخجل والذنب وبسبب هذه المشاعر يزداد شرباً ليمحو هذه الأحاسيس المزعجة له ويصبح الأمر حلقة مفرغة، فترتفع نسبة الكحول في دمه لدرجة التسمم.
3 _ المرحلة الحادة: لا يستطيع المدمن استعادة إرادته المفقودة مهما حاول جاهداً.
4 _ مرحلة الإدمان: يعيش المدمن في عالم خاص لا علاقة له بواقعه، ويفقد كثيراً من ملكاته العقلية، ويتدهور أخلاقياً فيسرق، أو يعتدي ويغتصب النساء، ويهاجم القاصرين والقاصرات مع أنه ينهار سريعاً مع عواطفه وفكره وصحته بسبب الإشباع الكامل لأنسجته بمادة الكحول.(25/366)
وهناك مثل: "في البدء يأخذ الإنسان كأساً من الخمر.. ثم يأخذ بعد الكأس الأولى كأساً ثانية.. ثم تأخذ كأس الخمر الإنسان ".
الأضرار:
1 _ سلب الإيمان: عن أبي هريرة رضي الله عنه _ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه " رواه الحاكم. وكما ذكرنا أنفاً فإن ضعف الإيمان هو السبب الأساسي لشرب الخمر. وشرب الخمر بدوره يسلب الإيمان كلما ازداد المرء شرباُ للخمر، كلما ضعف إيمانه.
2 _ سلب العقل: الأمر المسلم عند الناس أن السكر يضعف القوة العاقلة وكثيراً ما ينتهي بالجنون. وتنتج عنه أضرار كثيرة لا حصر لها ومنها
(أ) الجرائم كلها بسبب غلبة بهيمية الإنسان على ملكيته وعقله.
(ب) الحوادث بسبب فقد الوعي.
(ج) إفشاء السر.
(د) العداوة والبغضاء بين الناس.
(هـ) سوء الخلق والقتال.
(و) الخسة والمهانة في أعين الناس.
(ز) {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .
(ح) التخنث والدياثة وغير ذلك
3 _ ضعف القوى الجسدية والأمراض:
السكر يحطم القوى البشرية إلى أقصى حد فيضعف مقاومة الجسد للأمراض المعدية ويسبب شتى الأمراض فمنها:
1 _ يضعف أعضاء رئيسية لاسيما القلب والكبد.
2 _ يغير اللون بالصفرة ويذهب بماء الوجه.
3 _ يجلب البلغم والسعال والقيء.
4 _ يضعف من قوة الباه.
5 _ يورث السل الرئوي والسرطان الرئوي.
6 _ تخريب كريات الدم والتأثير على القلب والإخلال بانتظام ضرباته والموت بالسكتة القلبية.
4 _ التأثير النفسي:
الإدمان على المخدرات له تأثير نفسي على المدمن يؤدي في الغالب إلى اضطراب الإدراك الحسي واضطراب الشعور واضطراب التفكير، واضطراب الوجدان، والإحساس بالتعب، والجنون.(25/367)
ومن الخواص العامة الموجودة في شخصية المدمن كما يلي:
أ _ عدم القدرة على احتمال أية مشكلة تعترضه.
ب _ نفاذ الصبر والوقوع في اليأس والقنوط والقلق والصراع النفسي.
ج _ الشعور بالعزلة وفقدان احترام الذات.
د _ فتور العاطفة، وعدم القدرة على قبول أو تقديم الحنان والحب.
هـ _ الإتكالية والاعتماد على الآخرين وعدم القدرة على الاستقلال في حياته.
و_ الأنانية إلى أقصى حد.
أسباب الإدمان:
1 _ المشاركة: يشرب بعضهم لأول مرة مجاملة للزمالة والمرافقة والصحبة مع رفاقهم في حفل اجتماعي.
2 _ يبدأ بعضهم في تناول الكحول للإحساس بالدفء والتمدد والاسترخاء بعد يوم من العمل المرهق.
3 _ ويشرب آخرون الكحول لينسوا _ مؤقتا _ همومهم.
4 _ ويشرب بعضهم ليتهرب من مواجهة واقع الحياة وهمومها بمحاولة تخفيف ضغوطه النفسية وتخفيف مدة الرقابة الصارمة من ضميره وعقله ودماغه عليه.
5 _ ويشرب بعضهم ليسكر.. أي ليتخدر وليتمتع بالنشوة الوقتية.
6 _ والسبب الأساسي في كل هذا هو ضعف الإيمان بالله والآخرة أو انعدامه أساساً.
7 _ إن عدم الشعور بالمسئولية أمام الله سبحانه يترك الإنسان كالحيوان لا يتحرج من اقتراف أبشع الجرائم وأنكرها _ لا يوجد لديه شيء من حصانة الإيمان والعلم الديني، يقيه من التردي في حمأة الرذيلة.
8 _ غزو الأفكار المنحرفة التي يصدرها الغرب إلى الشرق، وفيها توهين الدين الحنيف والتشكيك فيه، ونشر الإباحية والتحلل الخلقي.
9 _ اختلاط المسلمين بأهل الغرب في هذا العصر وتأثرهم بالثقافة الغربية.
10 _ قلة القائمين من علماء الإسلام بنشر الدين الصحيح بين المسلمين وأمام العالم وفقدان التربية الصحيحة التي من شأنها قيام جيل صالح على أساس من الإيمان والعلم النافع.(25/368)
11 _ عدم الشعور بالواجب عند أكثر حكومات الدول الإسلامية في هذا الصدد إلا ما شاء الله.
12 _ وقد رأيت بعض المدمنين يدّعون الإيمان بالله والآخرة بيد أنهم مصابون بسوء الفهم بالنسبة لبعض صفات الله فسمعت أكثرهم يقولون إن الله غفور رحيم فإنه سيغفر لهم كل ذنوبهم.
ولا شك أن هذه أغلوطة كبيرة فهي تجعل الإنسان يتجاسر على اقتراف الرذائل دون وجل أو خوف من الله تعالى وبلا أدنى شعور بالمسئولية.
إزالة هذه المغالطة:
يجترئ بعض الناس على المعاصي قائلين: "إن الله غفور رحيم ". هذا سوء فهم في شأن صفات الله سبحانه. فهم يطبقون صفات الله دون وعي أو فهم ويحلونها محلا غير لائق بها.
إن الله خلق القوانين الطبيعية والقوانين الخلقية وأودع في هذه القوانين تأثيرات قوية والذي يلتزم بهذه القوانين ينال الجزاء الأوفى والذي يخالف هذه القوانين ينزل به العذاب الشديد إن عاجلاً أو آجلاً.
على سبيل المثال هناك قانون الجاذبية الأرضية، فعلينا أن نحترم هذا القانون، الذي يقتضي ويتطلب منا أن لا نسقط أنفسنا من مكان مرتفع وإلا كانت النتيجة الحتمية الموت والهلاك لأن في هذا مخالفة لقانون الجاذبية الذي هو من الله عز وجل.
كذلك فهناك قانون طبيعي آخر وهو أن السم يقتل _ لذا فعلينا أن نحترم هذا القانون ولا نشرب السم، وفي حالة مخالفة هذا القانون فلا بد أن تكون النتيجة الطبيعية الفناء.
هذا فيما يختص بالقوانين الطبيعية وكذلك الحال بالنسبة للقوانين الأخلاقية. فمثلا من هذه القوانين أن لا نشرك بالله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} هذا في الواقع أشد وأبشع من أن يسقط من فوق السقف.(25/369)
وثمة قانون أخلاقي آخر يحرم علينا شرب الخمر لأنه رجس من عمل الشيطان. الخمر سم فاقد لحياتنا الروحية. بل أبشع وأخطر من السم المادي لأنه أم الخبائث.
علينا أن نحترم القوانين الخلقية كما علينا أن نحترم القوانين الطبيعية، إن الله سبحانه خلق كل شيء وأبدع كل القوانين وليس من سنة الله أن يعاقب على مخالفة بعض قوانينه وأوامره ويتركنا بدون مؤاخذة على مخالفة البعض الآخر. ومن الممكن أن يعجل بالعذاب على مخالفة بعض القوانين ويؤخر عذابه بالنسبة لمخالفة البعض الآخر في صورة إملاء كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
فمن المستحيل إذن أن يكون الله سبحانه قاهراً فوق عباده بالنسبة لمخالفة بعض القوانين ويكون غفورا رحيما بالنسبة للبعض الآخر.
فالآن أوجه خطابي إلى الذين يتعاطون الخمر ويقولون إن الله غفور رحيم. فأقول لهم تفضلوا واصعدوا فوق الجبل يا إخواني وألقوا بأنفسكم مع يقينكم بأن الله غفور رحيم وهو يغفر مخالفة قوانينه. إذن توكلوا على الله لتروا ماذا تكون النتيجة. فهل تعتقدون أن الله سيغفر لكم مخالفة قانون الجاذبية الأرضية فلا يعاقبكم على هذه المخالفة ولن يحكم عليكم بالإعدام.. الجواب قطعاً بالنفي.
وهلم يا صاحبي هلم لتتجرع شيئا من السم وأنت يقين من نفسك بأن الله غفور رحيم. جرب مغفرته ورحمته على مخالفة هذا القانون الطبيعي. إن كان الله غفوراً رحيماً بمفهومك أنت فسيغفر لك هذه المخالفة ولن يعاقبك ولن يضرك السم بشيء. وطبعاً هذا ضد طبيعة الأشياء ومنطقها أي ضد قوانين الله.
إنك لا تجترئ على اقتراف هذه المخالفات، إنك لا تلقي بنفسك من فوق الجبل ولا تشرب السم _ لماذا؟
ألست على يقين من نفسك أن الله سيعاقبك على هذه المخالفة وستنال عقابه في صورة الألم أو الموت. إذن فعلى أي أساس بنيت تصورك بأنه لن يعاقبك عندما تخالف قوانينه الخلقية؟(25/370)
على أي أساس تعتقد أن الله قاهر فوق عباده بالنسبة لمخالفة القوانين الطبيعية بينما هو يكون غفوراً رحيماً في حالة مخالفة القوانين الخلقية؟ أية قاعدة، أية حكمة تدل على ذلك وتجرك إلى هذه الجرأة على مخالفة أوامر الله سبحانه وقوانينه.
إذن لتفهم أيها المجترئ، أيها المخمور! ما معنى "غفور رحيم "على وجهها الصحيح وما هو محل تطبيق هذه الصفات. فقد قال سبحانه:
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} .
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماًً} .
{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} .
حقاً وصدقاً إن الله غفور رحيم ولكن لمن؟ هل للذين يتمادون في اقتراف المعاصي ويصرون على تعاطي الخمر ولا يندمون ولا يتوبون توبة نصوحا؟ كلا!
كلا {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} .
العلاج:
أنا لا أنكر أهمية طرق العلاج الرائجة والمتداولة بصفة عامة ومنها إنشاء المستشفيات المتخصصة والقرى العلاجية للرعاية اللاحقة والعلاج الإجباري مقابل العلاج الاختياري ومما لاشك فيه أن الطبيب يلعب دوراً هاماً جداً في مساعدة المدمن على التخلص من إدمانه إذا كان المدمن راغباً في الإقلاع عن عادته، ولكنني أريد أن ألفت الأنظار إلى شيء أهم من هذه الطرق كلها وهو إزالة السبب الأساسي لهذا المرض، ألا وهو ضعف الإيمان بالله والآخرة أو انعدامه من قلوب المسلمين.
إن السكر علامة من علامات انهيار المجتمع الإسلامي بأسره ولا يمكن علاجه بدون معالجة المجتمع بأسره على أساس بعث قوة الإيمان والتربية الإسلامية وإزكاء الشعور الديني.(25/371)
إن أي عمل في هذا الصدد دون الارتكاز على خلفية دينية لن يعود بأية فائدة علينا ويتبين هذا من تجربة عظيمة أجريت في أرقى وأقوى دولة في العالم _ أمريكا في عام 1920م وفيما يلي ألخص ما كتبه الشيخ المودودي بصدد هذه التجربة التاريخية العظيمة.
حرمت الحكومة الأمريكية الخمر في عام 1920م _ كانت هذه أكبر تجربة جربها الإنسان لإصلاح الأخلاق والسلوك الاجتماعي بقوة وسلطة الحكم لا يوجد لها نظير في التاريخ.
فأقيمت في البلاد، قبل إعلان تحريم الخمر، دعاية واسعة النطاق ضد الخمر وبقيت الرابطة المحاربة لوجود حانات بيع الخمر تسعى وتجتهد في ترغيب الأمريكيين عن الخمر وتثبيت مضارها في أذهانهم، بإلقاء الخطب وتأليف الرسائل والكتب وعرض المسرحيات وأفلام السينما.
وأفنت في سبيل هذا التبليغ عشرات وبذلت الأموال الطائلة، حتى قدر أن النشرات المطبوعة والمسموعة بلغت تكاليفها مبلغ خمسة وستين مليون دولار، وأنه بلغ عدد الصفحات التي سود بياضها لبيان مساوئ الخمر والزجر عنها تسعة آلاف مليون صفحة.
ذلك قبل بدء التجربة. وأما ما تحملته الأمة الأمريكية في الأربعة عشر عاماً من 1920م إلى 1933م، عام إلغاء قانون التحريم، من النفقات الباهظة لأجل تنفيذ قانون التحريم فقدر مجموعها بأربعة ملايين ونصف مليون جنيه.
وتدل الإحصاءات التي أذاعها ديوان القضاء الأمريكي لهذه الفترة، أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة وسجن نصف مليون وغرم الجناة ما يربو على مليون ونصف مليون جنيه، وصودر من الأملاك ما يساوي أربعمائة مليون جنيه.
كل هذا النقص الهائل في الأنفس والأموال كابدته أمريكا لغرض واحد، هو تلقين الأمة الأمريكية "المتحضرة "مفاسد الخمر الجمة وتنبيهها إلى مضارها الروحية والصحية والأخلاقية والاقتصادية ولكن عاد القوم من هذا الجهاد الإصلاحي العظيم بصفقة خاسرة.(25/372)
فلم تكد تغلق الحانات القانونية العلنية في البلاد بجانب حتى انفتحت فيها بجانب آخر آلاف مؤلفة من الحانات السرية، ثم كثر تردد الصغار من أبناء الأمة وبناتها إلى هذه الحانات وغلت أثمان الخمر غلاء فاحشا _ والذي قدر على أقل التقدير أنه بلغ عدد شاربي الخمر بعد التحريم عشرة أضعاف ما بلغه قبله _ وصارت الخمر المستعملة سراً في كيفيتها أردأ نوعاً وأشد فتكاً بالصحة مما جعل الأطباء يقولون فيها: "إن هذا المشروب أحرى بأن يدعى السم من أن يسمى خمرا "من أمثلة ذلك ما تدل عليه الإحصاءات لمدينة نيويورك من أنه كان عدد المرضى فيها من استعمال الكحول في سنة 1918 قبل التحريم: 3741 وعدد الهالكين من استعماله: 252 نفساً _ ثم بلغ عدد المرضى فيها لسنة 1927 بعد التحريم أحد عشر ألفا وعدد الهالكين سبعة آلاف ونصف الألف.
وحاصل القول أن النتائج التي هرت في أمريكا عقب تحريم الخمر تتلخص في أنه:
_ زالت عن القلوب حرمة القانون ونشأت نزعة للبغي والتمرد عليه في كل طبقه من طبقات المجتمع.
_ لم تتحقق الغاية المقصودة من تحريم الخمر، بل زاد استعمالها بعد التحريم على ما كان عليه قبله.
_ تجشمت الحكومة خسائر لا تحصى في تنفيذ قانون التحريم، ومثلها أيضا أصاب الشعب الأمريكي لشرائه الخمر خفية، فتأثرت بذلك اقتصاديات البلاد.
_ كثرت الأمراض واختلت الصحة وازدادت نسبة الوفيات، وفسدت الأخلاق وشاعت الرذائل وتفشت الجرائم في جميع طبقات المجتمع وعلى الأخص في الجيل الناشئ.
وكانت هذه كلها من ثمرات هذا القانون في ناحية التمدن والأخلاق إلى أن ألغي قانون تحريم الخمر في عام 1933م.
ظهرت هذه النتائج كلها في دولة تعد من أرقى دول الأرض حضارة. إن أبناءها أوفر حظاً من التهذب والحضارة، فهم أحرى أن يعرفوا ما يضرهم وما ينفعهم.(25/373)
والآن هيا بنا نرسل الطرف في قطر كان يعد أجهل أقطار الأرض في أظلم عصور التاريخ قبل أربعة عشرة قرناً، أهاليه أميون، والعلم والحكمة فيه شيء معدوم، والتمدن والحضارة أمر لا يعرفه أحد، وعدد المتعلمين فيه ربما لا يزيد على واحد في عشرة آلاف. وأما أهاليه فعشاق للخمر متهالكون عليها متفانون فيها، في لغتهم نحو مائتين ونصف مائة علم (اسم) لهذا الشراب وحده مما لا نظير له في أية لغة أخرى. يبدو كأنهم رضعوها مع لبان أمهاتهم وكانوا يعتبرونها لازمة لزوم الماء لحياتهم.
فإذا كانت الحالة السائدة في شبه الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام. وما إن يبزغ نور الرسالة حتى تبدأ الشريعة الإسلامية بتحريم الخمر تدريجيا. حتى حرمت الخمر البتة في مدة قليلة فقال الصحابة "انتهينا يا رب! "وقال أنس رضي الله عنه: حرمت، ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر.
قال: فأخرجنا الحباب إلى الطريق فصببنا ما فيها. فمنا من كسر حبه ومنا من غسله بالماء والطين. ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً، كلما أمطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت ريحها.
والذي تدل عليه هذه المقارنة بين تحريم الخمر في أمريكا وتحريمها عند العرب، هو أن نجاح أي مشروع إصلاحي إنما يتوقف على مدى قوة الإيمان، فالإيمان بالله والآخرة ينبت منه العمل الصالح والتقوى والإحسان والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ولا يمكن للإنسان أن يتخلص من العادات السيئة إلا بالتربية الإسلامية والأخذ بمنهاج السنة على صاحبها الصلاة والسلام.
أما الطرق الحديثة لمعالجة شرب الخمر فهي أمور إضافية كما رأيناها آنفاً.
خطة العلاج:
وعلاجاً لهذه العادة الخبيثة المدمرة، ومقاومة لتعاطي المسكرات والمخدرات، أقترح لأربع خطوات، اثنتين منها لحكومات الدول الإسلامية واثنتين للأفراد المدمنين: _(25/374)
1 _ فواجب على حكومات الدول الإسلامية أن تضع حداً لنظام التعليم غير الإسلامي الرائج في أكثر الدول. فحكوماتنا مسئولة أمام الله والناس عن تنشئة جيل جديد في ضوء القرآن والسنة وتوجيهه وتربيته تربية إسلامية، مع الوقوف على أفكاره بين الحين والآخر تيقنا من النهج القويم.
2 _ وواجب على حكومات الدول الإسلامية أن تمنع بتاتاً استيراد المسكرات أو إنتاجها وأن تحرم عصرها في داخل البلاد أيضا. وليس هذا غير ممكن.
3 _ التوبة المتكررة.
4 _ ذكر الله.
والآن أوضح ما أعني بالتوبة المتكررة وذكر الله.
التوبة المتكررة:
وأعني بالتوبة المتكررة ما يقوم به من يريد التوبة في ضوء السنة على صاحبها الصلاة والسلام. فالذين تعودوا على تعطي المسكرات، عليهم أن يصلوا ركعتين تائبين إلى الله من هذا الذنب العظيم، فالتوبة ندم وعزم واستغفار _ فلا قدر الله حتى وإن سيطر على المدمن إدمانه وهو يشرب الخمر لما بعد توبته فلا موجب ليأسه وعليه أن يتوب مرة أخرى ويندم ويستغفر ويعزم على التخلص من هذا البلاء وأن لا يقنط من رحمة الله. وعليه أن يستمر في تكرار التوبة مباشرة بعد ارتكابه الذنب ولو كان هذا لعدة مرات في اليوم الواحد.
هذا لأنه بعد هذا العمل المستمر للتوبة المتكررة سيصبح المدمن من التوابين لا من المصرين على الذنب وقد ورد الحديث:
"عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر ولو عاد سبعين مرة في يوم واحد ". [مشكاة المصابيح]
وعلي أن أخبركم بتجربتي في هذا الصدد _ جاءني شيخ مدمن وكان يريد التخلص من شرب الخمر _ فنصحت له عمل التوبة المتكررة. فتاب إلى الله ثم رجع إلى ذنبه، ثم تاب ثم شرب الخمر وعمل هكذا عدة مرات حتى جاءني بعد بضعة أيام فقال لي: قد سئمت من هذه اللعبة يا أخي، التي لا طائل من ورائها.(25/375)
فقلت: منذ متى وأنت تشرب الخمر؟
فقال: منذ عشرين عاماً.
فقلت: عليك أن تجرب هذه اللعبة لعشرين أسبوعاً على الأقل وإن لم تستشعر أية فائدة من هذه التجربة فاتركها.
فقال: لن أطمئن حتى تخبرني عن فائدة عمل "توبة فاشلة ".
فقلت: يا أخي! تصلي ركعتين وتستغفر وتندم وتتوب إلى الله بكامل إخلاصك فإن من سنة الله أن يغفر لعبده جميع ما كان قد ارتكب من ذنوب لاسيما تلك التي هي من قبيل غضب حقوق الله كما ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له ".
فكل مرة عندما تشرب الخمر ثم تصلي ركعتين تائبا إلى الله فإن الله سبحانه يغفر لك ذلك الذنب _ فصلاة ركعتين للتوبة هي ربح لك. فإذا أنت استمررت على عمل التوبة فإن الشيطان لن يرضى لك هذا الربح بسهولة بل سيحاول إغراءك مرة تلو المرة بترك صلاة التوبة وإن لم يمكنه ذلك بسبب استمرارك في عمل التوبة في صورة صلاة الركعتين فليس أمامه إلا أن يكون عوناً لك على ترك الخمر. إنه على الأقل سيخلي طريقك ولن يطاردك بوساوسه في هذا الصدد.
وأحمد الله سبحانه على أن هذه التجربة قد نجحت نجاحا تاماً وتمكن الشيخ من الإقلاع عن الخمر بهذه الطريقة.
ويذكرنا هذا بقصة سيدنا معاوية رضي الله عنه المشهورة مع الشيطان إذ يحكى أن سيدنا معاوية لم يستيقظ في إحدى الليالي للتهجد كعادته، فأسف أسفاً شديدا وبكى أمام الله سبحانه بكاء شديداً. فرأى في الليلة التالية أن الشيطان يوقظه للتهجد فسأله قائلاً: لماذا توقظني للتهجد وأنت عدوي. فقال الشيطان: هذا لأنك اكتسبت البارحة ببكائك أكثر مما تكسب بالتهجد فأبيت عليك ذلك، وجدير بي أن أوقظك للتهجد كي لا تبكي على فواته منك فتكسب أكثر مما تكسب بالتهجد.(25/376)
فالحقيقة إذا ما جاء المدمن ونوى أن يتوب بالإقلاع عن شرب الخمر فصلى ركعتين بنية التوبة فإن الشيطان الذي يأبى عليه ذلك يعود فيغريه مرة أخرى، فيشرب ثم يتوب مرة أخرى ويصلي ركعتين وهكذا، وفي كل مرة يمحو الله ذنبه بمجرد توبته وإقلاعه عن شرب الخمر، بل وتكتب له حسنة عن أداء ركعتي الصلاة وتوبته في كل مرة. وعندما يرى الشيطان هذا الفضل، يعز عليه أن يكون سبباً في زيادة الخير لهذا الشارب. فلا يسع الشيطان في النهاية إلا أن يقرر أن يترك شارب الخمر لحاله، فلا يعود يغريه بشربها مرة أخرى حتى لا يكون سبباً في كسب المزيد من الحسنات رغم أنفه.
ذكر الله:
وقد ورد في عدد من الأحاديث النبوية أن ذكر الله سبب نزول رحمة الله على العبد ورحمة الله تمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي كما أن لعنة الله سبب لكثرة المعاصي. فمن اللازم للمدمن أن يكثر من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار وتلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأس كل الصلاة المكتوبة. ولكل هذه الأذكار أثر بالغ أنها تمنع الإنسان عن ارتكاب المعاصي كما ورد في القرآن:
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
وقد ورد نص صريح في الصلاة على النبي فقال عليه الصلاة والسلام:"من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشر مرات ".
وعلينا أن نفهم جيدا ما هو تأثير صلاة الله على العبد فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
وهذا يعني أن الصلاة على النبي تستلزم إخراجه من الظلمات إلى النور.(25/377)
فهذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أن كثرة ذكر الله لاسيما الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ذات ثمرة حلوة ألا وهي صلاة الله ورحمته على العبد وهكذا فهي تخرجه من الظلمات إلى النور ومن ثم فهو يستطيع أن يتخلص من العادات السيئة ومنها شرب الخمر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1 _ أحمد محمود حافظ، النقيب، المخدرات، وزارة الداخلية المملكة العربية السعودية _ الرياض 1976.
2 _ بيجيرو، نل، الدكتور _ الإدمان مترجماً باللغة العربية _ دار الثقافة للجميع، دمشق 1978.
3 _ المودودي، أبو علي، الإمام، تنقيحات. إسلامك ببليكشنز لاهور 1980.
4 _ نبيل صبحي الطويل، الدكتور، الخمر، مؤسسة الرسالة بيروت 1980.
5 _ مشكاة المصابيح. بتخريج الألباني. عطها(25/378)
العدد 55-56
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير: للشيخ سعد ندا
2- افتتاحية العدد: لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
3- ملف خاص عن وفاة الملك خالد وتوليه جلالة الملك فهد
4- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} : للشيخ أبي بكر الجزائري
5- والذين لايشهدون الزور: للدكتور جمعة علي الخولي
6- النهي عن التطوع بعد الإقامة: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
7- دراسة حول قول أبي زرعة الرازي ت 264هـ في سنن ابن ماجه: للدكتور سعدي الهاشمي
8- مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله: للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
9- مفهوم الأسماء والصفات: سعد ندا
10- التحذير من المعاملات الربوية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
11- دراسات في أصول الفقه إرساء أصل للاجتهاد في عهد النبوة (4) : للدكتور علي أحمد محمد بابكر
12- خصائص العمران في المدن الإسلامية: للدكتور عبد المنعم حسنين
13- مُقوِّمات الأمة: للشيخ محمد الراوي
14- معجزات القرآن العلمية: للشيخ حامد حسين قدير
15- الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (1) : للدكتور محمد نغش
16- نصيحة: للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
17- فتح الإسكندرية: للدكتور محمد السيد الوكيل
18- الحملات الحربية في عهد سليمان القانوني: للدكتور محمد حرب
19- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
20- صفحة لغة قل.. ولا تقل: للشيخ ضياء الدين الصابوني
21- رثاء أهل البصرة في نكبة الزنج عام 257 هـ (وما أشبه الليلة بالبارحة) :
22- الحكم على الشيء فرع عن تصوره: للشيخ محمد أمان بن علي الجامي
23- حقيقة العبادة بين شريعة الله وشطط التصوف: للدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة
24- حُقوُقُ الإنسان بين مزاعم الحكام وشريعة القرآن: للشيخ محمد المجذوب
25- الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
26-رابطة العلم الإسلامي تدعو إلى الوقوف في وجه الحملات التنصيرية عن طريق المراسلة:
جريدة المدينة
27- 170 ألف طالب يحفظون القرآن الكريم بالخلاوي السودانية
28- أحداث الأرض المحتلة ...
29- أخبار الجامعة: إعداد الشيخ محمود محمد سالم
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(25/379)
كلمة التحرير
للشيخ سعد ندا
هكذا شأن الأمة المؤمنة: إن رزئت تذرعت بالصبر وضرعت إلى ربها ليربط به على قلبها، وإن أعطيت سارعت إلى الشكر ولجأت إلى ربها تسأله به من فضله أن يزيدها.
وهذا ما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به المؤمن، فعن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمْرِ المؤمن، إن أمَرهً كلّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إن أصابتة سرَّاء شكَرَ فكان خيراً له، وإنْ أصَابَته ضَرَّاءً صبَرَ فكانَ خيراً له" رواه مسلم.
وحين فجعت أمتنا المؤمنة بوفاة إمامها (خالد بن عبد العزيز) ، لم تسخط، ولم تقنط، رغم أنها حزنت وجزعت، بل استمسكت بالصبر وتشبثت به، وسألت ربها أن يربط على قلبها في فجيعتها، وابتهلت إليه أن يفسح لفقيدها في نعيم الجنات، وأن يرفعه فيها عالي الدرجات، لقاء ما قدم من جهود وتضحيات سخية بها نفسه، في ربوع الدنيا إلى الإسلام والمسلمين. فقد كانت حياته سجلا حافلا بالخير لأمته العربية خاصة وللأمة الإسلامية عامة بما لو سطر لحوى مجلدات. فجزاه الله عما بذل خير ما يجزي به المخلصين الصادقين.
وحين استجاب الله لهذه الأمة فأعطاها عوض الخير بجلالة الملك (فهد ابن عبد العزيز) ليكون- إن شاء الله- خير خلف لخير سلف. بادرت بحمد الله عز وجل وشكره على ما أولاها وأعطاها، وضرعت إلى ربها أن يبارك لها فيمن قيضه لقيادتها، وأن يلهمه أمر الرشد الذي يعز في ظله أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، وأن يسدد له - وولي عهده الأمين ومعاونيهم الصادقين- خير الخطى على هدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(25/380)
وكم أسعدنا كثيرا أن نسمع ونقرأ في كل ما جرى في بيعة الملك فهد - أعزه الله بعزة الإسلام- أن تكون من المبايعين على الكتاب والسنة، إقتداء ببيعات الصدر الأول من الإسلام خير القرون. نسأل الله أن يجعل عهد الفهد عهد خير وبركة ومجد للإسلام والمسلمين في ربوع العالمين، وأن يكون ممن قال الله تبارك وتعالى فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ}
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمد وعلى آله وصحبه.(25/381)
التحذير من المعاملات الربوية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين- وبعد:
فقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف والمجلات المحلية والأجنبية وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها مقابل فوائد ربوية صريحة معلنة كل بحسب الفترة الزمنية التي يبقى فيها ما له مودعاً في ذلك البنك، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الفوائد التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم أو إيداعهم في تلك البنوك حرام سحت وهي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة ويفسد المال على صاحبه إذا خالطه ويسبب عدم قبول عمله، وقد صح عن رسول الله أنه قال: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَ اكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له"رواه مسلم.
وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".(25/382)
واعلم أيها المسلم وفقك الله أن الربا كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ الله} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ الله الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} .(25/383)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"ومعنى الموبقات المهلكات. وقد عد الربا منهن. وقال صلى الله عليه وسلم: "الربا ثلاثة وسبعون حوبا أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه"وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء" وقال صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" رواه مسلم.
فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة وإن من تعامل به وتعاطاه فقد أصبح محارباً لله ورسوله.
فنصيحتي لكل مسلم أن يكتفي بما أباح الله ورسوله وأن يكف عما حرمه الله ورسوله، ففيما أباح الله كفاية وغنى عما حرم وألاّ يغتر بكثرة بنوك الربا وانتشار معاملاتها في كل مكان فإن كثيراً من الناس أصبح لا يهتم بأحكام الإسلام وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان وما ذلك إلا لضعف الإيمان وقلة الخوف من الله عز وجل وغلبة حب الدنيا على القلوب نسأل الله السلامة.(25/384)
وهذا الواقع المؤلم من الكثير من المسلمين يوجب على المؤسسات الخاصة والجهات الرسمية وخواص التجار بأن يتعاونوا جميعاً على تعزيز المصارف الإسلامية التي بدأت تظهر في بلاد المسلمين وثبت نجاحها ولله الحمد وأن يعمل الجميع على تحويل البنوك القائمة اليوم إلى بنوك إسلامية تكون معاملاتها متمشية مع الشريعة الإسلامية وخالية من الربا بجميع أشكاله وصوره كما أني أَوجه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحلية خاصة وفي صحف البلاد الإسلامية عامة أن يطهروا صحافتهم من نشر كل ما يخالف شرع الله في أي مجال من مجالات الحياة، كما آمل من الجهات المسئولة التأكيد على رؤساء الصحف بأن لا ينشروا شيئاً فيه مخالفة لدين الله وشرعه.
والله المسئول أن يوفق المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة للتمسك بشرعه وتحكيم شريعته وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأن يجنبنا جميعاً طريق المغضوب عليهم والضالين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسبب في ذلك
في حين أن عدد المسلمين في بدء الفتوحات الإسلامية لم يتجاوز عدد سكان بلد صغير من بلداننا الحاضرة، نرى المسلمين اليوم يقاربون المليار.
وأن أرضهم تحتل سرة العالم إذ تمتد من الصين إلى الأطلسي وتتمتع بمناخ معتدل صالح لجميع الفلاحات وتتحكم في جميع خطوط المواصلات العالمية براً وبحراً وجواً وتشتمل على معظم الأجناس البشرية وتحتوي على أنواع المعادن والمحروقات الضرورية لكل تصنيع.
ولكن هذه الكتلة الهائلة من الطاقات المدخرة ينقصها النضج والتبصير وتمزقها الأطماع الداخلية والخارجية والنزعات العرقية والنعرات القبلية والتكالب على السلطان، فإذا بها قوة متآكلة وبركان يغلي في مرجله وطاقات تحترق في الهواء وتذهب بخاراً ودخاناً.(25/385)
والسبب الأساسي في ذلك التشتت الرهيب هو انحراف العقيدة وحب الدنيا والبعد كل البعد عن روح الإسلام والتعصب الأعمى للمذاهب واندساس المخربين العاملين ليل نهار على تحريف المعاني الصحيحة وتهديم الأركان الثابتة وزرع الشك والبلبلة في الأفكار. (جوهرة الإسلام)(25/386)
دراسات في أصول الفقه
إرساء أصل للاجتهاد في عهد النبوة (4)
للدكتور علي أحمد محمد بابكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
في حياة الرسول صلى الله عديه وسلم أقر مبدأ الاجتهاد الذي تندرج تحته الأصول الاجتهادية المتعددة، هذا المبدأ أقره القرآن وأقرته السنة ثم تبعهما بعد ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عنهم في إقراره. فأمر الاجتهاد لم يكن أمراً مستحدثاً ابتدعته عقول الفقهاء، وإن كانوا قد بينوه وفصّلوا قواعده ومهدوا طريقه ودونوه في الكتب كعلم له معالمه وحدوده.
فالرسالة السماوية التي اشتمل عليها القرآن والسنة، والتي هي لصلاح الناس كافَّة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سبأ:28)
هذه الرسالة لابد وأن تشتمل على المبادئ والأسس التي عليها صلاح الناس في كل الأزمنة وكل الأمكنة.
وبما أن أحداث الحياة كثيرة ومتنوعة ومتجددة فلا بد من وضع مبادئ تستوعبها. فالنص على جزئيات حياة الإنسان في كل الأزمنة والأمكنة، في كتاب الله وسنة رسوله - وإن كان ممكناً من جهة الشارع- فإنه يصعب بل يستحيل استيعابه على الناس إن نص الشارع عليه، فالأجيال الحاضرة لا تستطيع استيعاب ما يستجد في مقبل الأيام مما لا يعنيها في حياتها لأنه لم يظهر في زمانها، كما وأن الأجيال التي مضت ربما يصعب عليها استيعاب كثير مما استجد في الأزمان التي تلتها. ولا يخفى أن الفائدة تقل إن لم تنعدم في اشتغال الناس بأمور وتفصيلات لا تعنيهم ولا تفيدهم، وكذلك لا تخفى صعوبة تكليف الناس بإدراك تفصيلات حالات أفراد البشر وأسمائهم وما يتعلق بتصرفاتهم كلها من أحكام على سبيل التفصيل لا على سبيل الإجمال، إذا شاء الله أن ينص عليها جميعها.(25/387)
من أجل ذلك وضع الشارع عن طريق الوحي السماوي أسس ومبادئ وحدود الاجتهاد العقلي المستند على النصوص وروح الشريعة ليستنبط علماء الأمة أحكاماً شرعية للأحوال المستجدة في الأزمان المختلفة، تلك الأحوال التي لم ينص عليها رحمة بالناس ولطفاً.
وبتقريرنا أن القرآن والسنة قد وضعا أسس الاجتهاد العقلي وحدوده فإنه يصبح لا مجال لاستحداث أصول جديدة للفقه كما يتوهم البعض- فأصول الفقه كلها قد وضعت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق الوحي- أما الاختلاف الذي وقع بين الأصوليين حول بعض وجوه الاجتهاد العقلي فقد وقع حول مدى احترام هذا الاجتهاد بعد تطبيقه على أفراد الحوادث، ومدى الإلتزام به بالنظر للجهة التي طبقت هذا المبدأ. وأيضا وقع ذلك الخلاف بين الأصوليين حول تسميات بعض وجوه الاجتهاد وما تشمله تلك التسميات كذلك وقع بعض الاختلاف عندما أَراد بعض الحائدين عن الجادة أن يتجاوزوا بالاجتهاد حدوده الشرعية، فوقع مع هؤلاء حوار ونقاش.
فلا يستطيع قائل أن يقول: بأن التفكير العقلي المجرد من اعتبار القرآن والسنة يمكن أن يكون أصلاً من أصول الشريعة. ولا يستطيع أخر أن يقول: إن رأي الشعب- أي عامة الناس ممن يجهلون الشريعة- يمكن أن يعتبر أصلاً من أصول الشريعة. اللهم إلا إذا كانت شريعة أرضية وضعية وليست شريعة سماوية، فلا ينبغي أن يؤخذ بقول الذين يدركون أطرافاً من الشريعة ثم يجهرون بأقوال دون الشريعة وأصولها هي في واقع الأمر أقوال تخرج عن دوافع المسلم الحادب على نقاء شريعة الإسلام من غير خلط لها بأخلاط القصور عن فهمها وفهم أسسها وقواعدها، أو خلط لها بأخلاط التقُّرب من الملل الأخرى التي تهدف لتذويب الإسلام وشريعته بين تضارب القوانين الوضعية.
دليل إرساء أسس الاجتهاد العقلي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:(25/388)
فيما- يلي نورد بعضاً من الأدلة على أن الاجتهاد العقلي في الشريعة قد أقر مبدؤه وأرسيت قواعده وتبيَّنت حدوده واتضحت صورته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن طريق الوحي وحده. وأنه لا زيادة على ما ثبت في عهد النبوة في أمر الاجتهاد. والأدلة التي سنوردها ستكون من القرآن الكريم ومن السنة النبوية. ثم نردف ذلك ببيان موافقة دليل العقل لذلك، ثم موافقة إجماع الصحابة بعد عهد النبوة على العمل بأصل الاجتهاد الذي ثبتت مشروعيته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دليل القران الكريم:
يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (سورة النساء 59) . ويقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} (النساء:83)
هاتان الآيتان من سورة النساء هما من أوضح الأدلة من القرآن الكريم في هذا المقام، وإن كان العلماء قد أوردوا آيات أخر للاستدلال على مشروعية الاجتهاد العقلي في شريعة الإسلام، لكن نكتفي بهاتين الآيتين لما أشرنا من وضوحهما في الدلالة ولتطابق بقية الآيات معهما فيما قصد الاستدلال بهما عليه.
ونورد فيما يلي نقاطا مستخلصة من هاتين الآيتين نخلص منها إلى بيان وجه الاستدلال:(25/389)
أولا: يؤخذ من هاتين الآيتين أن المؤمنين مأمورون- في كشف تصرفاتهم- بطاعة الله تعالى بأن يتبعوا الأحكام المنزلة في كتابه الكريم، ومأمورون بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا ما جاء في سنته المطهرة، ثم إنهم مأمورون أيضا باتباع أولي الأمر من المؤمنين مادام أولو الأمر يستمدون آرائهم وتوجيهاتهم وتصرفاتهم من الكتاب والسنة.
ثانيا: أن معنى أولي الأمر من المؤمنين يشمل أهل العلم والفقه في الدين وولاة المسلمين ما أطاعوا الله في الناس واتبعوا شريعته عن علم وورع.
وممن قال بأن المراد أهل العلم والفقه في الدين: جابر بن عبد الله ومجاهد وعطاء ومالك والضحاك وابن كيسان وغيرهم.
وممن قال بأن المراد بأولي الأمر الولاة أبو هريرة وعلماء آخرون [1] .
ثالثا: أن الأمر برد الأمور المتنازع فيها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو أمر للمسلمين جميعا على مر العصور وليس أمرا خاصا بالمسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، وهذا يعني مشروعية الاجتهاد العقلي لرد الأمور المختلف فيها والتي لا نص فيها إلى القرآن والسنة بمعنى أن يحكم فيها بما يتفق مع الأهداف التي قررها المصدران. وليس المقصود بالرد استخدام الأحكام المنصوصة، لأن الأحَكام المنصوصة قد سبق الأمر بتطبيقها في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} وبعد تطبيق النصوص إذا واجه الناس أمر غير منصوص على حكمه وتنازعوا عليه فعليهم رده على النصوص بقياسه عليها والحكم عليه بما يتفق مع مبادئ وأهداف الشريعة وإذا فسرنا المأمور به بأن يتبع الناس الأحكام المنصوص عليها لكان هنالك تكرار في الآية الأولى، حيث أن الأمر بطاعة الله وَرسوله- كما أشرنا- هو أمر باتباع نصوص القرآن والسنة فلو كان الرد أيضا باتباع نصوص القرآن والسنة لا القياس عليها لكان الأمر مكررا بصورة لا تستقيم مع بيان القرآن الكريم [2] .(25/390)
ويؤيد هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} والاستنباط هو استخراج الحكم وبيانه بعد أن لم يكن موجوداً، والنصوص عليه موجود أصلا ولا يحتاج إلى استنباط أما غير المنصوص فهو الذي يحتاج إلى الاستنباط والقياس على ما نص عليه.
رابعا: أن الاجتهاد العقلي في الأحكام الشرعية مقصور على العلماء (الذين يستنبطونه) فيجب أن لا يمارسه الذين يجهلون الشريعة، وقد شنع بنفسه من قال: إن رأي الشعب يكون أصلا، من أصول الشرع ولعلنا نعقد فصلا خاصا بهذه المسألة.
خامسا: أن هنالك صفات وشروطا خاصة يجب أن تتوفر في العلماء الذين يقومون باستنباط الأحكام. لذلك لم يقل القرآن الكريم (لعلمه العلماء) ولكن قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهذا يعني الذين يجوز لهم الاستنباط هم أصحاب علم دقيق بالشريعة، ولقد لخص علماء الأصول هذه الصفات والشروط الخاصة، وسنذكرها في مكانها إن شاء الله مبينين مواطن الإتفاق والاختلاف فيها.
فليس أمر الاجتهاد سهلا يخوضه من شاء من غير تسلح بأدواته ولا استعداد ببلوغ درجته. وإن كان الأمر في قوله تعالى (فردوه) شامل لكل المكَلفين إلا أن الرد لابد من أن يكون عن طريق العلماء الذين تتوفر فيهم المعرفة الكافية بالشرع وتفصيلاته ومبادئه وأهدافه. وقد بينت هذا المعنى بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما بين ذلك تطبيق الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/391)
والخلاصة أن هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات تدل على وجوب رد الأمور المتنازع فيها مما لم يرد في فيه نص إلى نصوص القرآن والسنة. وذلك الرد يكون عن طريق الاجتهاد العقلي بقياس ما لا نص فيه على ما ورد فيه نص، إما على حالات معينة مخصوصة أو على روح الشريعة التي بينتها النصوص. وبذلك تتعدد وجوه الاجتهاد وتتعدد تسميات هذه الوجوه من قياس ومصالحِ.. الخ، وهذا العمل الاجتهادي لا يقوم به إلا العلماء من ذوي المستويات العلمية الخاصة. ثم على عامة المسلمين أن يرجعوا في أمورهم إلى علمائهم الثقات.
ولقد كان لبعض علماء الأصول رأي آخر في الاستدلال بهذه النصوص القرآنية الكريمة على جواز الاجتهاد العقلي في الشرع، ويتلخص هذا الرأي في أن هذه النصوص القرآنية التي أوردناها وأمثالها مما أورده بعض علماء الأصول للاستدلال في هذا المقام لا تدل دلالة صريحة قاطعة على هذا المعنى. وكذلك رأوا أن الأحاديث النبوية المروية في هذا المقام - والتي سنورد بعضا منها في الفقرات التالية- هي أحاديث آحاد وأنها معارضة بأحاديث أخرى تمنع الاجتهاد العقلي وعليه فدلالتها على جواز الاجتهاد في الشريعة ليست قاطعة، لذلك لجأوا إلى اعتماد إجماع الصحابة وحده ليدل على جواز الاجتهاد العقلي في الشريعة، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم اعتمدوا على مستندات كثيرة، منها ما اندرس ولم ينقل إلينا اكتفاء بما علموه ضرورة، ومنها ما نقل ولكنه كان نقل آحاد، ومنها ما نقل تواتراً لكن ألفاظه تحتمل التأويل، ومنها قرائن أحوال يصعب وصفها ونقلها فلم تنقل إلينا، فكان تطبيقهم الاجماعي للاجتهاد دليلا قاطعا في جوازه [3] .
دليل السنة على إرساء أصول الاجتهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:(25/392)
لقد رويت أحاديث عديدة أوردها علماء الأصول لإثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الصحابة رضوان الله عنهم أن يجتهدوا رأيهم متى لم يجدوا نصا من قرآن أو سنة يوضح حكم الحادثة. وأنه صلى الله عليه وسلم ذكر تعليلات لأحكام شرعية عديدة مشيرا بذلك إلى أن أحكام الشريعة تشتمل على علل وحكم (جمع حكمة) هي بواعث التشريع وأهدافه. فما انكشف للعقل من تلك البواعث يمكن أن تقاس عليه الحالات التي لم ترد فيها نصوص. وفيما يلي نورد بعضا من تلك الشواهد السنية، ثم نبين وجوه دلالاتها، ونبدي الملاحظات المتعلقة بها.
أولاً: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل حين بعثه قاضيا على اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله. قال "فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله".
ثانيا: روي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لابن مسعود: "اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما أجتهد رأيك".
ثالثاً: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تعليله لأحكام عديدة. وهذا التعليل يشير إلى أن بعض الأحكام معقول المعنى من أجل فهم مقاصد الشرع والاسترشاد بذلك لإيجاد أحكام للحالات التي لم ترد فيها نصوص.
ومما ورد فيه تعليل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للحكم إباحته (صلى الله عليه وسلم) ادخار لحوم الأضاحي بعد أن كان قد نهى عن ذلك فقال: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها".
وهناك نصوص كثيرة وردت من السنة تدل على إباحة استعمال العقل أو الرأي في الشريعة لاستنباط الأحكام عندما لا يوجد نص يحدد حكم الحالة المعنية.(25/393)
ولا يقدح في دلالة هذه النصوص السنيَّة أن نصوصا سنيَّة أخرى عارضتها في ظاهرها حيث جاءت تمنع استعمال الرأي في الشرع، فالتوفيق بين النصوص المبيحة لاستعمال الرأي والمانعة لاستعماله ممكن بحيث تقبل جميع هذه النصوص المبيحة والمانعة، هذا إذا لم نتعرض لتضعيف بعضها.
وجملة الملاحظات التي يمكن أن نبديها حول هذه النصوص السنيّة المجيزة لاستعمال العقل في الشرع تنحصر فيما يلي:
أولاً: أن ما أوردناه من شواهد من السنة النبوية وإن كانت من أخبار الآحاد إلا أنها تضافرت كثير من الشواهد الأخرى من السنة فأكدت تجويز السنة استعمال الرأي في الشريعة عند الضرورة، أي عند عدم وجود النص في الحادثة وقد تلقى أكثر العلماء هذه الأحاديث بالقبول واستشهدوا بها في هذا المقام.
ثانياً: الأحاديث التي أوردها المعارضون لاستعمال الرأي في الشريعة- على افتراض صحتها- لا تنهض دليلا على منع استعمال الرأي في الشريعة، وذلك أن هذه الأحاديث وردت في ذم استعمال الرأي القائم على الهوى أو المعارض للنصوص أو القائم على الجهل. وهذا النوع من الرأي مرفوض عند الجميع، فالذين جوزوا استعمال الرأي في الشرع لم يجوزوه على إطلاقه بل جوزوه بقيود حيث لا نص ولا تعارض مع النص ولا هوى ولا جهل هذا بجانب وجود الضرورة الداعية لإيجاد الحكم.
ثالثاً: هذه الأحاديث النبوية التي أوردناها وما ورد في معناها تجيز استعمال الرأي بوجوهه المختلفة المشروعة التي تعرض لبيانها علماء الأصول في كتبهم من قياس ومصالح وغيرها.
ونحن لا نرى ما يرى بعض العلماء من أن الأولى عدم الاستدلال بهذه الأحاديث على جواز الرأي طالما أنها معارضة بأحاديث أخرى تنهي عن استعمال الرأي في الشرع، بحجة أن جميعها أخبار آحاد ولا يمكن ترجيح طرف على الآخر. فكما أوضحنا في السطور السابقة فإن التوفيق بين النوعين من الأحاديث ممكن، فلا معنى لاطراحها وترك الاستدلال بها.(25/394)
لا يتعارض الاجتهاد مع تمام الدين وشمول الكتاب:
بحث المعارضون للاجتهاد في الشريعة عن كل دليل نصيّ أو عقلي للبرهنة على صحة قولهم، ولقد أشرنا إلى ما أوردوه من نصوص السنة المعارضة وأوضحنا كيفية التوفيق بينها وبين النصوص المجيزة.
ونود هنا أن نتحدث عن بعض الآيات التي أوردها المعارضون للاجتهاد لدعم رأيهم، فمن هذه الآيات التي أوردوها [4] والتي تعتبر من أقوى استدلالاتهم القرآنية قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} (المائدة:3) وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية89)
أما الآية الأولى، وهي آية المائدة، ففي تاريخ نزولها قولان:
القول الأول: أنها آخر آية نزلت من القرآن الكريم. وعلى هذا القول فكمال الدين يعني ورود تمام مبادئه في الكتاب والسنة- والكتاب والسنة قد اشتملا على جواز الاجتهاد العقلي. فلا تناقض بين هذا المعنى وجواز الاجتهاد في الشرع.
القول الثاني: في تاريخ نزول الآية هو: أنها لم تكن آخر آية نزلت من القرآن، بل نزلت بعدها آيات وشرعت أحكام مثل آيات الكلالة والربا [5] . وعلى هذا القول فإن كمال الدين قطعاً لا يعني ورود كل تفاصيل الدين في القرآن والسنة بدليل ورود أحكام بعد نزول تلك الآية. وعليه فتفسير الآية هو أن كمال الدين يعني نزول معظم الأحكام الشرعية التفصيلية ونزول أصول الأحكام ومبادئها- حتى إذا نزلت أحكام بعد ذلك تكون مبنيّة على تلك الأصول.
فعلى كلا الرأيين في تاريخ نزول الآية فإن المقصود من كمال الدين هو تضمن القرآن والسنة لأصول الشرع ومبادئه ودلالتهما على جواز الاجتهاد العقلي في ميدان الشرع، وتوجيههما لوسائل الاجتهاد وشروطه.(25/395)
أما الآية الثانية وهي آية النحل وهي قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فإن هذه الآية والآيات الأخرى التي تحمل نفس المعنى مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام:38) ، فإنها تدل على أن ما جاء في الكتاب الكريم هو بيان شامل للأحكام ولطريق الشرع، لكن هذا البيان قد حدث بأكثر من أسلوب. وهذه الأساليب تتلخص فيما يلي:
أولاً: في دلالة ألفاظ القرآن دلالة مباشرة على الأحكام، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (المزمل:20) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) . ففي هاتين الآيتين دلالة مباشرة على وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
ثانياً: دلالة ألفاظ القرآن الكريم دلالة غير مباشرة على الأحكام وذلك بواسطة الاستنباط والاجتهاد العقلي القائم على مبادئ الشرع والمندرج تحت أهدافه. وهذا الاجتهاد العقلي قد دل على شرعيته القرآن الكريم نفسه. وكانت دلالة القرآن الكريم على مشروعية الاجتهاد بطريقين:
الطريق الأول: دلالة القرآن الكريم على مشروعية الاجتهاد والاستنباط بألفاظ تعطي هذا المعنى مباشرة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) . وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} (النساء: 83) .(25/396)
فقد فهم العلماء من هاتين الآيتين ومثيلاتهما أن القرآن يوجه إلى رد مسائل التنازع التي لا نص على حكمها -ردها- إلى القرآن والسنة عن طريق استنباط علل الأحكام التي نص عليها في المصدرين ثم القياس بواسطة هذه العلل المستخرجة على الأحكام المنصوصة.
الطريق الثاني: لدلالة القرآن على مشروعية الاجتهاد العقلي هو أمره باتباع السنة النبوية واتباع إجماع المسلمين، والسنة النبوية وإجماع الصحابة رضوان الله عنهم قد دلا على جواز الاجتهاد في الشرع، فآية سورة النساء المذكورة في السطور السابقة والتي ورد فيها: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . وقوله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) .(25/397)
فهاتان الآيتان وما شابههما من آيات في القرآن الكريم تدل على وجوب اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا يكون ذلك إِلا باتباع ما جاء به من سنة، وتدل هذه الآيات أيضا على وجوب اتباع سبيل المؤمنين والذي فسّره كثير من العلماء بأنه طريق إجماع المسلمين. وإذا لم يسلم بعض العلماء هذا التفسير فإن السنة التي دل على وجوب اتباعها القرآن الكريم دلت على وجوب اتباع الإجماع فالرسول عليه السلام يقول: "أمتي لا تجتمع على الخطأ" ويقول (صلى الله عليه وسلم) : "أمتي لا تجتمع على الضلالة"، ويقول: "من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة موافقة لهذه الأحاديث في معناها توضح تعظيم الرسول (صلى الله عليه وسلم) لرأي جماعة المسلمين وتوجيهه للمسلمين بأن يلتزموا رأي إجماعهم وإجماع المسلمين هو إجماع علمائهم الذين يعرفون نصوص الشريعة ويفهمون مراميها. وهم الذين أشار إليهم القرآن الكريم في الآية المذكورة في الأسطر السابقة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
وهذه الأحاديث الكثيرة ذات المعاني المتطابقة رواها جماعة من كبار الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعبد الله ابن عمر، وحذيفة بن اليمان. وهي وإن كانت أخبار آحاد لكنها كانت مشهورة بين الصحابة رضوان الله عنهم معمولاً بها، لم ينكرها أحد. فحدث بها علم ضروري بأن أمة المسلمين لا تجتمع على ضلال.
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على اتباع الإجماع متى ما وجد وتحقق، حيث إن كبارهم أمثال أبي بكر وعمر كانوا لا يحيدون عما اجتمع عليه علماؤهم، أما قبل اجتماع علمائهم وانعقاد إجماعهم على حكم فلكل منهم أن يبدي رأيه وأن يتمسك به كما تمسك أبو بكر بقتال أهل الردة.(25/398)
فالسنة النبوية وإجماع المسلمين الذين دل على وجوب اتباعهما القرآن الكريم، قد دلا بدورهما على جواز الاجتهاد العقلي في الشرع فيما لم يرد فيه نص فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قاضياً أقره على أن يجتهد رأيه إذا لم يجد نصاً. وكذلك وجه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود بأن يجتهد رأيه إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة كما أوضحنا ذلك في الصفحات السابقة [6] .
أما الصحابة رضوان الله عنهم فقد نقل عنهم الإجماع على العمل بمبدأ الاجتهاد العقلي. ونقلت عن كثير من أفرادهم أحكام شرعية متعددة اعتمدوا فيها على الاجتهاد. فقد نقل عنْهم عدم إنكارهم على من اجتهد منهم برأيه فيما لم يرد فيه نص. أما الاجتهاد الذي أنكروه فهو الاجتهاد المتعارض مع النصوص الثابتة أو الاجتهاد الصادر عن الجهل من الذين لا يفرقون بين ما ورد في حكمه نص وما لم يرد فيه نص.
ومن أمثلة عمل الصحابة رضي الله عنهم بالاجتهاد العقلي المبني على مبادئ الشريعة وأهدافها، اجتهادهم في تحديد مدلول قول من قال لزوجته: (أنت عليّ حرام) فقد قال أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) : إن مدلول هذا القول يمين تجب فيه كفارة اليمين. وقال علي وزيد (رضي الله عنهما) : هو طلاق ثلاث. وقال ابن مسعود (رضي الله عنه) هو طلقة واحدة. وقال ابن عباس وبعض من الصحابة: هو ظهار، وقالوا تجب فيه كفارة الظهار وتلزم فيه أحكامه.
وقد أجمع الصحابة (رضي الله عنهم) على عدم إنكار النظر في هذه المسألة بالاجتهاد لعدم ورود نص فيها.(25/399)
ومن أمثلة اجتهادات الصحابة (رضي الله عنهم) العقلية ثم إجماعهم على الحكم الذي توصلوا إليه باجتهادهم التشريك بين الجدتين أم الأم وأم الأب في الميراث بعد أن كان أبو بكر قد ورث أم الأم وحدها وحرم أم الأب. فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع أبو بكر عن اجتهاده وشرك بين الجدتين في السدس [7] .
فهذه الأدلة التي أوردناها من السنة وإجماع الصحابة والتي تدل على جواز العمل بالاجتهاد العقلي في الشريعة، هي في الواقع دلالة من القرآن الكريم نفسه على جواز العمل بالاجتهاد. فالقرآن الكريم دل على وجوب اتباع سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلى وجوب اتباع إجماع المسلمين، كما دلت السنة أيضا على وجوب اتباع الإجماع، وبناء على ذلك فما ثبت من أحكام شرعية عن طريق القياس ووجوه الاجتهاد الصحيحة الأخرى تعتبر أحكاما شرعية لا تخرج عن مضمون ما ورد في الكتاب الكريم. وبذلك يتضمن قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يتضمن ذلك ما توصل إليه بالاجتهاد السليم من أحكام فقهيه. ولا يكون الاجتهاد القائم على الأسس الشرعية أمراً مخالفاً لكتاب الله كما زعم الزاعمون.(25/400)
ولكن هنالك ملاحظة مهمة نشير إليها هنا إجمالاً وربما نعود عليها بالتفصيل إن شاء الله في مكان آخر من هذا البحث، تلك هي أن الاجتهاد العقلي في أحكام الشرع ليس وردا مشاعاً يرده كل من هب ودب. وليس ميداناً يستنسر فيه من يشاء ويطل من على جداره من يحبو على عتبات العلوم الشرعية. وليس قناة تلقين لمن يتطاولون بنتف العلوم ومختصرات الكتب. وليس الاجتهاد ميسراً لمن يعجز عن فهم كتب التراث فيصفها بالتعقيد والركة والغموض وقلة الفائدة ويصف المكتبة الإسلامية بأنها خالية! فمن لم يفهم القديم فلا جديد له. ولا يقوم البناء من غير أساس. وليس الاجتهاد في الشريعة من الأمور التي يمكن أن يقوم بها من يحمل ثقافة عامة أو تخصصاً في العلوم التطبيقية فحسب أو تخصصاً في القوانين الوضعية فحسب أو يحمل ثقافة إعلامية فحسب كما يظن البعض.
إنما الاجتهاد في الشرع أمر شرعي يتطلب عقيدة سليمة وأمانة إسلامية ومعرفة بالقرآن والسنة وبلغة القرآن ومعرفة بالتراث الأصولي والفقهي وما يتصل بهما ذلك التراث الذي خلفه لنا السلف الذين نقلوا لنا القرآن والسنة ونقلوا لنا تفسيراتهما. والاجتهاد يتطلب إدراكا لمبادئ الشرع وأهدافه ويتطلب وعْيا تاما حتى لا تفوت عليه شاردة كما يتطلب الاجتهاد إحاطة بوسائل وأدوات لابد منها لممارسته فليس الاجتهاد أمراً عقلياً مطلقاً كما يظن بعض من لا يعلمون.(25/401)
ولقد رأينا في هذا العصر، كما سمعنا عن ذلك في العصور الغابرة، وربما يحدث ذلك في مقبل الأيام، أن كثيراً ممن لا أمل لهم في بلغ مرتبة الاجتهاد وممن ينتفون من أطراف العلوم التي يجدونها في بعض الكتيبات المعاصرة رأيناهم يرسلون مزاعم ويتجرأون على الاجتهاد، ويزعمون أنهم لم يسَبقوا على فهم أصول الشرع وأهدافه ويصمون أئمة الفقه الذين أجمعت الأجيال الإسلامية على الاعتراف بفضلهم في حفظ هذا الشرع وتفسيره يصفونهم بالفراغ، ثم يدعون بعد ذلك للتجديد في أصول الشريعة لينفتح الباب أمام الاجتهاد العقلي غير المقيد.
وهذا مبدأ أخذت به فرق معروفة في تاريخ الإسلام لا اعتداد برأيها عند أهل السنة، فإذا تبنى اليوم بعض المتعالمين تلك الأفكار ظانين أنهم يأتون بالجديد فليعلموا أن تلك الأفكار لم تقو في الماضي على الثبات في وجه سيل الحق الجارف ولن تقوى إن شاء الله اليوم ولا غدا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: الشوكاني، فتح القدير، تفسير الآية 59 من سورة النساء.
[2] انظر: أبو الحسين البصري، المعتمد، جـ 2، ص 739.
[3] انظر: الغزالي، المستصفى. جـ 2، ص 241_242، 253_256.
[4] انظر: ابن حزم / الأحكام / جـ 8 / ص 1_2 وما بعدهما.
[5] انظر فتح القدير للشوكاني في تفسير هذه الآية.
[6] انظر أبو الحسين البصري / المعتمدة جـ / ص 735.
[7] انظر: المرجع السابق/جـ 2/ص 726_735 وانظر: الآمدي/ الأحكام/جـ 4/ص 35_38 الخ.(25/402)
خصائص العمران في المدن الإسلامية
للدكتور عبد المنعم حسنين
أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة ورئيس شعبة الدعوة بها
تمهيد
كان شروق شمس الإسلام نقطة تحول في تاريخ المسلمين بخاصة، وفي تاريخ البشرية بعامة، لما أحدثه من تغيير جذري في حياة المسلمين، وفي مظاهر حضارتهم، ثم ما أحدثه في الحضارة الإنسانية في القرون التي تلت ذلك الحدث العظيم، وهو تغيير ستظل آثاره باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى يثرب بداية لقيام دولة المسلمين، بقيادة النبي الأمين في هذه المدينة الطيبة التي أصبحت القلب النابض في الدولة الإسلامية وصارت مركز إشعاع للدعوة الإسلامية، وسميت المدينة المنورة، وانتشرت منها أشعة شمس الإسلام، دين الله الحق، فاستضاء بنور الإسلام أَهل الأرض في كثير من أنحائها، فخرجوا من الظلمات إلى النور، وهدوا إلى سواء السبيل.
وكان من نتيجة ذلك التحول العظيم في مظاهر الحياة في المدينة المنورة، قاعدة الدولة الإِسلامية، بعد استقرار الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيها، أَن أصبح للعمران في المدن الإسلامية بعد ذلك خصائص واضحة مميزة جديرة بأن يدرسها، ويهتم بها المشتغلون بتخطيط المدن، ويتبينوا آثارها في الحضارة الإسلامية.
وسأحاول في هذا البحث أن أبين أهم خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي الخصائص التي ظهرت بوضوح في المدن الإسلامية الأخرى، بعد عصر الرسول في أنحاء العالم الإسلامي الكبير، حين اتسعت دولة الإسلام، وغلبت صبغته على مظاهر الحياة، عند كثير من شعوب العالم على اختلاف أماكن هذه الشعوب، وأجناسها وألوانها وألسنتها وبالله التوفيق.
أولا- المدينة قبل الإسلام:(25/403)
كانت مدينة يثرب- التي تعد النموذج الأول والكامل للمدن الإسلامية- قبل الإسلام تقع في واحة خصيبة كثيرة العيون على الطريق التجاري بين اليمن والشام على بعد أكثر من أربعمائة كيلومتر من جهة الشمال من مكة المكرمة، وكانت تسكنها قبائل عربية قبل شروق شمس الإسلام.
وتفيد الأخبار التي وصلت إلى الدارسين أن قبائل العماليق سكنت مدينة يثرب واستقرت فيها، وهي قبائل تنتمي إلى العرب البائدة، وتدل الأخبار كذلك على حدوث هجرات يهودية إلى يثرب، وأن اليهود استطاعوا الانتصار على العماليق، مما مكنهم من النزول بيثرب والاستقرار فيها.
وقد ذكرت كتب التاريخ أن الهجرات اليهودية إلى يثرب حدثت منذ عصر نبي الله موسى عليه السلام، ثم تتابعت في أوقات الغزو البابلي لفلسطين، ثم في أثناء احتلال الرومان لبيت المقدس، وبطشهم باليهود، وتدميرهم لهيكل نبي الله سليمان عليه السلام.
ومن المسلم به بين الدارسين أن اليهود سكنوا يثرب قبل الإسلام، فكان عدد من القبائل اليهودية يعيش في يثرب في الوقت الذي أشرقت فيه شمس الإسلام، وحين هاجر رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه المدينة وأسس فيها دولة الإسلام، فأصبحت تسمى المدينة المنورة وظهرت فيها الخصائص المميزة للمدن الإسلامية في شتى أنحاء العالم.
ومن القبائل اليهودية التي كانت تسكن يثرب -وقت ظهور الإسلام- بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، إلى جانب القبائل العربية الساكنة فيها، وكان أشهر هذه القبائل العربية الأوس والخزرج.
ومن المرجح أن اليهود سكنوا مدينة يثرب قبل أن يسكنها الأوس والخزرج، وأن اليهود كانوا يشتغلون بالزراعة ويملكون جزءاً من أراضي المدينة، ويقيمون الحصون والأطم ليحتموا بها، وليحفظوا بها حاصلاتهم الزراعية.(25/404)
أما الأوس والخزرج فهم من قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت من اليمن بعد تهدم سد مأرب واتجهت شمالاً، فأقام جزء منها في بادية العراق، وأقام جزء آخر في مكة، وواصل جزء ثالث منها سيره حتى بلغ بادية الشام فأقام فيها، ووصل جزء رابع إلى منطقة يثرب فأقام فيها، وكانت مضاربه بجوار اليهود، وكان الأوس والخزرج يشكلون أفراد ذلك الجزء الرابع من قبائل الأزد اليمنية الأصل، وكانوا يعرفون مدينة يثرب جيداً، لأنها تقع على الطريق التجاري بين اليمن والشام.
وكان اليهود ينظرون باستعلاء إلى الأوس والخزرج في بداية الأمر، ثم ما لبثوا أن حالفوهم، غير أن الأحوال تغيرت بعد ذلك، فقويت شوكة الأوس والخزرج، ورجحت كفتهم، بعد أن تغلبوا على اليهود، فأخذوا يملكون جزءاً من الأراضي الزراعية، ويبنون الحصون، فصارت لهم الكلمة العليا في المدينة وأخذ نفوذ اليهود في الضعف.
وتنافس الأوس والخزرج على السلطان، فظهر الشقاق بين صفوفهم، مما أدى إلى اشتعال نيران الحروب بين الطرفين، واستمرت هذه الحروب زمناً، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة، واضطربت -في أثنائها- الأحوال في المدينة، فاستغل اليهود تمزق الصف العربي، وحالف بعضهم الأوس، بينما حالف بعضهم الآخر الخزرج، ليزيدوا الصف العربي تمزقاً وضعفاً، وليزيدوا الأحوال في المدينة اضطراباً، وظلت الأحوال مضطربة إلى وقت شروق شمس الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي.
وتفيد الأخبار المروية أن الصراع بين الأوس والخزرج ظل قائماً إلى وقت قريب من هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى مدينة يثرب، وأن يوم بعاث كان آخر مظاهر الصراع بين الطرفين، وكان ذلك قبل الهجرة النبوية بخمسة أعوام.(25/405)
وكانت طبيعة مدينة يثرب الجغرافية تيسر الحياة فيها، حيث المياه وفيرة، والعيون كثيرة، والأرض خصبة، تجود فيها الزروع المختلفة، ويكثر فيها النخيل مما يجعل العيش فيها أكثر يسراً من العيش في مكة الشديدة الجفاف، لوجودها في واد غير ذي زرع، تحاصره الجبال، وتقل فيها المياه.
غير أن التكوين السكاني في مدينة يثرب قبل الإسلام لم يساعد على إيجاد تجانس بين سكانها الذين كانوا من اليهود والعرب، فلم يكن الوئام سائداً بين الطائفتين، كما أن العرب أنفسهم كانوا متخاصمين تكثر بينهم الحروب -كما ذكرنا- فانعدم الاستقرار في المدينة قبل الإسلام، وافتقدت التنظيم الإداري الصحيح الذي يجعل الطمأنينة تسود ربوعها، مما أثر في النواحي العمرانية فيها قبل هجرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- إليها.
وهكذا أثر انعدام التجانس السكاني في المدينة قبل الهجرة النبوية في شكل العمران فيها، فكان سكانها يعيشون في وحدات منفصلة، وفي قبائل متنافرة تخشى كل منها الأخرى، وتبني الحصون لتحتمي بها إذا هوجمت، فلم تستطع المدينة قبل الإسلام منافسة مكة في التقدم والزعامة، برغم تيسر الحياة في المدينة لوجود الزراعة فيها، ووفرة المياه، لأن مكة كانت ذات تكوين سكاني يساعد على الاستقرار والتقدم، فكان أكثر سكانها من العرب تحب زعامة قريش، مما ساعد على تنظيم أمور الإدارة والحكم، كما ساعد وجود البيت الحرام بمكة على جعلها مهوى لنفوس العرب ومحل احترامهم جميعاً، مما أدى إلى نمو التجارة بهذه المدينة المقدسة، فقامت الأسواق فيها، للتعامل مع الوافدين إليها لزيارة الكعبة، فارتفع شأن مكة، وصارت لها الزعامة في شبه الجزيرة العربية بينما قل شأن مدينة يثرب لانعدام التجانس بين سكانها، وفقدانها التنظيم في الحكم والإدارة، وعدم وجود أماكن مقدسة فكانت لا تقوى على منافسة مكة في أهميتها وزعامتها.(25/406)
وقد تغير هذا كله بعد هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام فيها، فأصبح للعمران فيها خصائص ظاهرة مميزة، وصارت هذه الخصائص واضحة في جميع المدن الإسلامية بعد عصر الرسول مما سنبينه فيما يلي:
ثانياً- المدينة بعد الإسلام:
كانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى مدينة يثرب أهم أحداث التاريخ الإِسلامي، لما كان لها من نتائج كثيرة في حياة المسلمين وتاريخهم ومظاهر حضارتهم بعامة، وفي المدينة وسائر المدن الإسلامية بخاصة، فقد ظهرت آثارها في التنظيم السكاني، وفي التنظيم العمراني، وفي جميع مظاهر الحياة بعد تأسيس الدولة الإسلامية في تلك المدينة المنورة.
فصارت مقراً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومركزاً لإشعاع الإسلام، دين الله ودين الحق الذي يزهق أمامه كل باطل، دين التوحيد، الذي يدعو إلى عبادة إله واحد لا شريك له، ويحارب الشرك والوثنية، دين المساواة، الذي لا يفرق بين الناس جميعاً، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم ولا يفضل عربياً على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، لأن الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط، فكلهم لآدم، وآدم من تراب، ولأنهم جميعاً مخلوقون من نفس واحدة كما قال الله الخالق سبحانه في أَول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وقد جعل الله بحكمته الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا.(25/407)
قال تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وعلى هذا الأساس تبدو أهمية هجرة الرسول -صلى الله عدية وسلم- إلى المدينة واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام، فقد أدى هذا الأمر إلى إيجاد تغيرات جوهرية في هذه المدينة بعد أن هاجر الرسول إليها وهاجرت معه فئة قليلة، أخرج أَفرادها من ديارهم وأموالهم، فراراً بدينهم الحق، فأصبح على هؤلاء المهاجرين أَن يدبروا أمر معاشهم، في مقرهم الجديد بالمدينة، بعد أن تركوا ما يملكون في مكة ولم يلبثوا أن ظفروا برعاية الله وتوفيقه فارتفع شأنهم، وأَصابوا توفيقاً لم يصيبوا مثله في مكة وصارت لهم الغلبة والعزة لاتباعهم ما جاء في كتاب الله الكريم، وهدي الرسول ذي الخّلق العظيم، صلوات الله وسلامه عليه.(25/408)
وكان اليهود في المدينة قبل الهجرة قد أعلنوا ما وجدوه في التوراة والإنجيل دالاً على بعثة رسول جديد، يدعو إلى التوحيد، ويختم به الأنبياء والمرسلون لأن اليهود كانوا أهل كتاب، فكانوا على يقين من بعثة رسول الإسلام، أما الأوس والخزرج فكانوا وثنيين، وكان اليهود يعيرونهم بوثنيتهم، فلما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا الناس إلى الدخول في الإسلام، حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، كان الأوس والخزرج الوثنيون أكثر استعدادا لتقبله من اليهود الذين أعماهم الحقد عن رؤية الحق وأصم آذانهم الكره فلم يستمعوا إلى نداء رسول الهدى بل ناصبوه العداء، وكان الأوس والخزرج في وقت شروق شمس الإسلام أصحاب الكلمة العليا في المدينة برغم تناحرهم، فكانت استجابتهم لنداء الحق ودخولهم في الإسلام من العوامل الميسرة للرسول وللذين آمنوا معه أَن يهاجروا إلى المدينة دون أن يخشوا عداوة اليهود لهم، وكان وصول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واتخاذها مقاماً ومقراً لدولة الإسلام إيذاناً ببدء تنظيم عمراني جديد ظهرت فيه صبغة الإسلام، وأصبحت له خصائص مميزة صارت واضحة ظاهرة في المدن الإسلامية بعد ذلك، وما زالت واضحة ظاهرة إلى يومنا هذا.(25/409)
وكان المسلمون على قلة عددهم -وقت الهجرة- أقوياء بإيمانهم بالله، وثقتهم في نصره، وفي أنهم سيهزمون أعداء الله مهما كثروا، بعد أَن باعوا أنفسهم وأموالهم لله عز وجل وأصبحوا يتوقون إلى الظفر بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة وهكذا أخذ مجتمع المدينة بعد الهجرة النبوية يتشكل على أَساس جديد من العقيدة يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجتمعها قبل الهجرة، الأمر الذي ظهرت آثاره بوضوح في العمران في هذه المدينة المنورة الطيبة في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذ الرسول الكريم بعد استقراره في المدينة يقيم دولة إسلامية تضم طوائف المدينة المختلفة دون تمييز بينها، فكان نظام الدولة من نوع جديد، لم يشهد له التاريخ مثيلا لأنه يقوم على أساس من الدين، الذي يقرر المساواة بين الناس جميعا ويكفل لهم حق الحياة الكريمة تحت ظله، ولا يكره أحداً على الدخول في الإسلام.
وهكذا طبقت الدولة الإسلامية منذ قيامها مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أَجناسهم وألوانهم وعقائدهم، وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظم الحياة في المدينة، وفقاً لمبادئ الإسلام القويمة. وكان سكان المدينة من الأوس والخزرج واليهود في حاجة إلى التوفيق بينهم، حتى تستقر الأحوال، ويختفي الاضطراب ويصفو الجو في المجتمع الجديد.
وكان نفر من الأوس والخزرج قد أسلموا قبل هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ووصف الذين لقوا الرسول منهم قومهم بأنهم في حالة فرقة وشقاق، مما أورده ابن هشام في سيرته، وذكر أنهم قالوا للنبي: "فإن يجمعهم الله عليه- أي على الإسلام- فلا رجل أعز منك".(25/410)
ثم جاء المهاجرون من مكة إلى المدينة، فانضافوا إلى سكانها من الأوس والخزرج واليهود، مما جعل المدينة في حاجة إلى تنظيم سكاني جديد، وتخطيط عمراني، يهيئ لدولة الإسلام السبيل إلى التقدم، لهداية الضالين إلى صراط الله المستقيم، وحمل نعمة الإسلام إلى العالمين.
وقد نظم الرسول الكريم -بتوفيق من رب العالميين- الحياة في المجتمع الجديد في المدينة المنورة، وثبت قواعد العمران فيها بعد أن أصبح -صلوات الله وسلامه عليه- الإمام والقائد يبلغ الوحي، ويغرس الثبات والصبر واليقين في قلوب المؤمنين وهو في الوقت نفسه ينظم الحياة في مجتمع الدولة الإسلامية ويحكم في كل خلاف يشجر بين أفراد هذا المجتمع، وييسر أسباب الحياة للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله، ونصرة لدين الحق الذي ارتضاه لعباده، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله.
ومن الثابت أن المهاجرين استقبلوا استقبالاً حسناً من إخوانهم المسلمين في المدينة، غير أن إقامتهم واستقرارهم وتدبير معيشتهم، كانت من الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في مدينة يشكل اليهود جزءاً من سكانها، ويضمرون للمسلمين الحقد والكره والشر، مما يجعل من المتوقع أن يظهر غدر اليهود بالمسلمين في وقت من الأوقات، ويدعو إلى أخذ الحيطة والحذر، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترك وراءه في مكة عدواً لدوداً من المشركين المنكرين لدين الله الحق، وكان هذا العدو يتربص بالمسلمين الدوائر ويبيت في نفسه العدوان، فكانت حماية المسلمين في المدينة من عدوانه تحتاج إلى تثبيت الجبهة الداخلية في المدينة، وبنائها بناءً قوياً يستطيع الصمود في وجه الخطر الخارجي المتوقع.(25/411)
وقد عالج الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمور جميعاً- بعد استقراره في المدينة- معالجة حكيمة، فنظم الحياة بين سكان المدينة تنظيماً يكفل لهم الاستقرار والتعاون فيما بينهم لصد الخطر الخارجي، وأرسى قواعد دولة إسلامية عظيمة لا مثيل لها في التاريخ، فأصبح للعمران في المدينة المنورة خصائص مميزة سنعرضها فيما يلي:
ثالثاً- خصائص العمران في المدينة:
نستطيع التعرف على خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا درسنا أَعمال الرسول الكريم بعد هجرته واستقراره في المدينة، وإقامته دولة الإسلام فيها.
وكان مجتمع المدينة يتكون من طائفتين واضحتين بعد الهجرة النبوية، طائفة المسلمين وطائفة غير المسلمين، وكانت طائفة المسلمين تتكون من المهاجرين الذين هاجروا مع الرسول من مكة إلى المدينة، ومن الذين أسلموا من أَهل المدينة من الأوس والخزرج، ومن الذين أسلموا من اليهود وهم قلة.
أما طائفة غير المسلمين فكان أكثر أفرادها من اليهود ثم من الذين لم يسلموا من الأوس والخزرج.
وقد حرص الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على توفير أسباب الحياة الآمنة المريحة لجميع سكان المدينة المنورة من مسلمين وغير مسلمين مع صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية، فجعل للعمران خصائص أهمها:
1- المسجد مركز تجمع المسلمين:(25/412)
كان أول عمل قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة بناء المسجد، ليكون مكاناً يجتمع فيه المسلمون، وكان هذا العمل من جانب الرسول دليلا على أن بناء المسجد هو أول سمة من سمات المدن الإسلامية، وأول شيء يجب أن يبنى فيها، فهو أول خصيصة من خصائص العمران في ظل الإسلام، ولذلك بدأ الرسول الإمام القائد -صلى الله عليه وسلم- به في المدينة المنورة حين صارت مقراً له، وقاعدة للدولة الإسلامية، وقد صار هذا العمل أهم خصائص العمران في المدن الإسلامية في أنحاء العالم المختلفة، فكان أول عمل يقوم به قائد المسلمين المجاهدين بعد النصر والفتح بناء مسجد في المدينة المفتوحة، وقد فعل المسلمون هذا في كل مدينة يسر الله لهم فتحها سواء في بلاد الفرس أو في بلاد الهند أو في أي مكان آخر من العالم، تمكن المجاهدون المسلمون بفضل الله من الوصول إليه، وكان المسجد مركز تجمع المسلمين في العبادات، وفي الدراسة والتعلم، وفي المعاملات، كما كان المسجد مركز إشعاع، يشع منه نور الإسلام في المنطقة التي أشرقت عليها شمس الدين الحنيف.
لقد كان ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة المنورة بقليل سنة، اتبعها ولاة المسلمين وقادتهم بعد عصر الرسول الكريم، فقاموا ببناء المساجد في المدن الإسلامية وجعلوا بناء المسجد أول عمل يقومون به.(25/413)
وكان المسجد هو المقر الذي اتخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، وهو إمام المسلمين وقائدهم، لأنه المكان الذي تؤدى فيه جماعة المسلمين الصلوات والشعائر الدينية، وتتشاور فيه في شؤونها المختلفة، من حرب وسلم ومعاملات، وتستقبل فيه الوفود، فهو المكان الذي تتحد فيه القلوب، ويشعر فيه الجميع بأنهم في ضيافة الله سواسية لا فرق بين حاكم ومحكوم وغني وفقير وقوي وضعيف وعالم وجاهل، فالكل عبيد الله يرجون رحمته، ويخشون عقابه، ويدعونه ضارعين طالبين مغفرته ورضوانه، وهكذا تبدو أهمية البدء ببناء المسجد في المدينة الإسلامية وجعله الخصيصة الأولى من خصائص العمران في المدن الإسلامية.
2-إقامة ولي الأمر بجوار المسجد:
أما الخصيصة الثانية من خصائص العمران في المدن الإسلامية، فهي إقامة ولي الأمر بجوار المسجد، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر بعد استقراره في المدينة المنورة، فقد اتخذ مسكنه بجوار المسجد بعد بنائه، وكان صلوات الله وسلامه عليه يخرج من بيته إلى المسجد رأساً- كما ذكر ابن هشام في سيرته- فأصبح هذا الأمر تخطيطاً عمرانياً طبق في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- اقتداءً به، وتطبيقا لسنته، فكان ولاة المسلمين يقومون ببناء المساجد أولاً ثم يبنون بيوتهم ودواوينهم بجوار المساجد، فكان مسكن الوالي في عاصمة ولايته بجوار المسجد.(25/414)
وقد حقق هذا الأمر فائدة كبرى فقوى الصلة بين الراعي والرعية، ووثق الرابطة بين أفراد الجماعة الإسلامية، وزاد الألفة بينهم، فصار المؤمنون جسداً واحداً، يشعر كل عضو فيه بما يصيب العضو الآخر، وقوى بذلك بناء المجتمع الإسلامي، وأصبح مجتمعاً فريداً، لم يشهد له التاريخ مثيلاً في سمو الخلق، وصلة الرحم، وانتشار التراحم والتعاطف والود بين أفراد المجتمع بحيث يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، بل قد يؤثر أخاه على نفسه لأنه يراقب الله في كل أعماله، ويرجو بها ثواب الله ويخشى عقابه.
2- العقيدة تحدد مكان الإقامة:
والخصيصة الثالثة من خصائص العمران الإسلامية هي تحديد مكان الإقامة في المدينة الإسلامية على أساس العقيدة، وقد اتضح هذا الأمر منذ استقرار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام.
وكان المسلمون في المدينة يتكونون من المهاجرين الوافدين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ومن الذين أسلموا من سكان المدينة الأصليين من الأوس والخزرج وبعض اليهود وهم الذين سموا الأنصار، لأنهم هم الذين آووا المهاجرين من مكة ونصروهم.، بعد أن تركوا ديارهم وأموالهم وأصبحوا في حاجة إلى ضمان معيشتهم في المدينة المنورة.
وقد أحسن المسلمون من سكان المدينة الأصليين استقبال إخوانهم المهاجرين وأعطوهم شيئاً من المال، كما سمحوا لهم بالتجارة والزراعة، فعمل بعض المهاجرين في مزارع إخوانهم الأنصار مزارعة، واستطاع المهاجرون بذلك أن ينظموا أمور معيشتهم.(25/415)
وهكذا أصبحت العقيدة هي الأساس الذي قام عليه التنظيم العمراني في المدينة المنورة في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصار مبدأ الأخوة الإسلامية هو السائد في المجتمع الإسلامي وهو المبدأ الذي قرره الله جل وعلا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقرره الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- في قوله "المسلم أخو المسلم" وبهذا أصبحت رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم، لأن لحمة الدم فشلت – قبل الإسلام في التأليف بين قلوب سكان المدينة الأصليين - كما ذكرنا - فأحل الإسلام محلها رابطة العقيدة، وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الرابطة خصيصة من خصائص التنظيم العمراني في قاعدة دولة الإسلام، ثم أصبحت خصيصة من خصائص العمران في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول.
وكانت رابطة العقيدة هي التي أصلح بها الرسول - صلى الله عليه وسلم – بين الأوس والخزرج، وجمعهم في اسم واحد هو الأنصار، فبعدت عنهم روح العصبية، وتآلفوا لنصرة دين الله الحق الذي أنعم الله به عليهم، وصار ذلك الاسم علماً عليهم، فعرفوا جميعاً به.
كما ألف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - برابطة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، وجعل المؤاخاة هي الأساس الذي يبنى عليه التآلف، فجعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلاً من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، تربط بينهما المؤاخاة برباط كرباط الدم.
وقد حققت المؤاخاة الهدف المنشود، فألفت بين قلوب المسلمين جميعاً في المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار، فكان رباط العقيدة أقوى أسس التنظيم العمراني في المدن الإسلامية في مختلف العصور.
4- تنظيم العمران والحياة وفقاً لدستور:(25/416)
وكانت الخصيصة الرابعة من خصائص العمران في المدن الإسلامية تنظيم العمران والحياة على أسس قويمة وفقاً لدستور، يستمد مبادئه من كتاب الله جل وعلا، ومن هدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في المدينة المنورة، بعد الهجرة النبوية، واستقرار المسلمين فيها، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام فقد آخى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين على اختلاف قبائلهم ثم حدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة المنورة من ناحية، وبين سكان المدينة من مسلمين وغير مسلمين وسكان شبه الجزيرة العربية خارج المدينة المنورة من ناحية أخرى، وكتب الرسول - صلى الله عليه وسلم- صحيفة لتحديد هذه العلاقات وتوضيحها وتنظيم العمران والحياة، في قاعدة دولة الإسلام، ثم في المدن الإسلامية بعد ذلك.
وكانت هذه الصحيفة دستوراً مكتوباً، يقوم على أساس من العلم بأحوال الناس والفهم الدقيق لظروفهم، ويقرر العلاج الناجع لاستمرار حياتهم واستقرارها.
وقد كتبت الصحيفة بعد استقرار الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وحدد الرسول الكريم فيها العلاقات بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود، وبينهم وبين الذين يحيطون بهم من سكان العالم حينذاك، وكانت كتابتها بعد العام الأول من الهجرة النبوية، أي بعد إقامة الدولة الإسلامية فأصبحت من الوثائق ذات الأهمية البالغة، اللازمة لفهم الأحداث التي وقعت بعد كتابتها، ولتوضيح خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم- وفي المدن الإسلامية جميعها بعد ذلك.(25/417)
أما سكان المدينة المنورة في عصر الرسول الكريم فكانوا طائفتين طائفة المسلمين الذين دخلوا في دين الله الحق واستجابوا لدعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار الذين ربطت كلمة التوحيد بين قلوبهم فصاروا يكونون أمة الإسلام، التي تحمل أَمانة الدعوة إلى دين الله الحق، وتجاهد في الله حق جهاده، حتى تصير كلمة الله هي العليا فتنتشر أشعة شمس الإسلام في أرجاء العالم المختلفة، وقد حددت الصحيفة الصلات بين المسلم وأخيه المسلم والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة الذين هم أَفراد الطائفة الثانية، وبينت الحقوق والواجبات بالنسبة للجميع.
وقد أورد ابن إسحاق في سيرته نص هذه الصحيفة، وسجل هذه الوثيقة القيمة المنظمة للعمران والحياة في المدينة فهي تكفل للسكان من غير المسلمين- وأكثرهم من اليهود- حقوقهم وتبين ما عليهم من واجبات، فقد وادع الرسول الكريم في تلك الصحيفة اليهود وأقرهم على دينهم وأموالهم كما جعل عليهم الاشتراك مع المسلمين في مواجهة الظروف الإقتصادية الصعبة إذا وجدت، وفي صد العدو الخارجي إذا هاجم المدينة، غير أن اليهود غدروا وتآمروا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى جماعة المسلمين، فكان إخراجهم من المدينة في عصر الرسول الكريم جزاءً وفاقاً لهم، وكان لهذا الأمر أثره في المدينة المنورة منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.
وكانت نصوص الصحيفة مستمدة مما جاء في القرآن الكريم، فنصت على أن المسلمين أمة واحدة، وأن هذه الأمة خير أَمة أخرجت للناس، لقول الله تعالى في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} .(25/418)
وحثت الصحيفة المسلمين على التراحم والتعاون بينهم مصداقاً لقول الله عز وجل في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} كما دعت الصحيفة إلى مراعاة حقوق القربى والصحبة والجوار تطبيقاً لقول الله سبحانه في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..} .
ودعت الصحيفة كذلك إلى التمسك برباط الولاء ومراعاة حقوق الموالاة، امتثالاً لأمر الله عز وجل في سورة النساء: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} .
كما دعت إلى مراقبة الله في كل عمل، لأن الإنسان سيحاسب على الصغيرة والكبيرة، كما قال الله عز وجل في سورة الزلزلة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ولا يخفى ما لهذا من أثر في الحياة والعمران.(25/419)
ودعت الصحيفة كذلك إلى ترك عادات الجاهلية، ورد الأمور إلى الله ورسوله والإلتزام بحكم الله ورسوله في كل أمر، امتثالاً لأمر الله سبحانه في قوله في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وهكذا قام المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة – التي أسست فيها دولة الإسلام- على أسس ثابتة من تقوى الله، ومن المبادئ القويمة التي جاء بها الإسلام في كتاب الله الكريم.
وفي قول الرسول وعمله، وكان لهذأ أثر واضح في طبيعة العمران وخصائصه في المدينة المنورة، وفي سائر المدن الإسلامية في عصور قوة المسلمين، والتزامهم بمبادئ دينهم الحق القويم.
وواضح أن خصائص العمران في ظل الإسلام، قد تغيرت تغيراً جوهرياً عن خصائصه قبل الإسلام، فقد جعل الإسلام المسلمين جميعا أمة واحدة يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات، وبذلك أصبح الإسلام يجب ما قبله، وصار الشعار والدثار لسائر المسلمين.
وكانت أمة الإسلام في المدينة المنورة أمة فاضلة، تراقب الله في أعمالها فلا تبدأ بالعدوان، بل تحب السلام، وتحمي الجار وتنصر المظلوم، وتلتزم بالعهد، وتفي بالوعد، وكانت تضم المسلمين وغير المسلمين الذين أدمجوا في الأمة بنص صريح في الصحيفة، وكان المسلمون بقيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم- هم قلب هذه الأمة النابض بالحياة والحركة وكانت الأمة تزداد قوة، كلما أزداد الدين انتشاراً.(25/420)
وقد حرصت الأمة الإسلامية على استقرار الحياة والعمران في المدينة المنورة، ومنع نشوب الحروب الداخلية، وأوجبت تحكيم الرسول في كل ما يشجر من خلاف، والتسليم بما يقضى به، وتطبيق مبدأ العقاب بالمثل فالنفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص تنفيذاً لأمر الله عز وجل الذي جاء في سورة المائدة، مما ساعد على أستتاب الأمن والسلام في منطقة المدينة المنورة.
كما أوجبت الصحيفة على أهل المدينة جميعاً أن يتحدوا لصد أي عدوان يتهدد المدينة من خارجها، فتكامل بذلك نظام الأمة، وصارت الهجرة إلى المدينة شرطاً للحصول على رعاية الدولة الإسلامية، تطبيقاً لقول الله تعالى في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} .
5- حماية المدينة من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي:
أما الخصيصة الخامسة من خصائص العمران في المدن الإسلامية فهي حمايتها من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي. وقد ظهرت هذه الخصيصة في الدولة الإسلامية منذ قيامها في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وجدت فيها أداة للحكم وضم إليها ما حولها من القبائل ومن المناطق الزراعية التي تمدها بالمؤن، فقد وجه الرسول – صلى الله عليه وسلم- سرايا عديدة من المدينة إلى ما حولها، وكانت السرايا حملات حربية صغيرة تهدف إلى تأمين الحدود واستكشاف ما حول المدينة، ورد أي عدو مجاور، وكان عدد هذه السرايا ثماني سرايا، أرسلت قبل غزوة بدر، وقاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضها بنفسه، وقاد أَصحابه البعض الآخر.(25/421)
وكان من نتيجتها عقد أحلاف مع القبائل المجاورة، لتأمين المدينة من غارات البدو عليها ومنع أي غزو خارجي عنها، حتى تستقر الحياة والعمران فيها، فتقوى الجبهة الداخلية على صد أي هجوم يأتي من خارج المدينة وبخاصة من جانب قريش التي منعت السرايا مرور تجارتها في أراضي الدولة الإسلامية، وأَظهرت أن حدود الدولة محروسة كما أصلح الرسول في تلك الأثناء بين الأوس والخزرج حين دب النزاع بينهم بتحريض من اليهود، حتى يكون الإخاء والتماسك بين المسلمين عوناً لهم على الانتصار على أعدائهم في الدين.
وهكذا قام العمران في المدينة المنورة ثم في سائر المدن الإسلامية على مبادئ قويمة من الأخوة في الدين والسلام بين المقيمين داخل حدود دولة المسلمين، والضرب على أيدي الخائنين والمعتدين، ونشر الدين بالإقناع لا بالإكراه، والجهاد في سبيل الله للدفاع عن دينه الحق ولإعزاز أَمة الإسلام التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس حتى تواصل حمل نعمة الإسلام - التي أنعم الله بها عليها- لإيصالها إلى الحيارى الضالين من أفراد البشر في سائر أنحاء العالم، أداء لزكاة النعمة التي أنعم الله بها على هؤلاء المؤمنين.
خاتمة:
هذه دراسة سريعة موجزة لخصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي القاعدة الأولى لدولة الإسلام ومركز الإشعاع الذي انتشرت منه أَشعة شمس الإسلام إلى أرجاء العالم المختلفة فهدت شعوباً كثيرة إلى صراط الله المستقيم ودخل الناس في دين الله الحق على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم فنعموا بنعمة الإسلام، الذي لا يقبل من أَحد دين غيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
ونستطيع من هذه الدراسة أن نتبين أَبرز خصائص العمران في المدن الإسلامية على مر العصور وهي خمس خصائص:(25/422)
أولها: بناء المسجد وجعله مركزاً للحياة الإسلامية، تؤدى فيه الصلوات والشعائر الدينية، ويتلقى فيه المسلمون العلم، ويتدارسون أمورهم.
وثانيها: إقامة ولي الأمر بجوار المسجد وبناء بيوت الولاة ودواوينهم حوله لتقوية الرابطة بين الراعي والرعية ومراقبتهم جميعاً لله في كل عمل.
وثالثها: إقامة التنظيم العمراني على أساس العقيدة، والتأليف بين المسلمين جميعاً على هذا الأساس، وإزالة الفوارق بينهم بالمؤاخاة بينهم لإبعاد روح العصبية والإتحاد صفاً واحداً لنصرة دين الله الحق..
ورابعها: تنظيم الحياة وفقاً لدستور يحدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان دولة الإسلام وبين هؤلاء السكان وبين جيرانهم خارج حدود الدولة على أن يكون هذا الدستور مكتوبا ومستمداً من كتاب الله، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراج الخائنين للعهد من بلاد المسلمين.
وخامسها: حماية بلاد المسلمين من التمرد الداخلي والغزو الخارجي بالإصلاح بين المتنازعين، وقتال المعتدين، والجهاد في سبيل الله، لنصرة دينه الحق، ونشره في الآفاق.
وإن أَوضح دليل على التمسك بمبادئ الإسلام هو الحفاظ على هذه الخصائص في المدن الإسلامية، بحيث تظهر في تخطيطها وتنظيمها وتبقى واضحة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حينما كان الزمام إسلاميا
الإسلام دين حضاري، نشر الحضارة والإيمان في صالح الإنسان أينما كان.(25/423)
إن الغرب استعمل العلم من أجل استغلال الإنسان.. واخترع السلاح ليفتك بالشعوب.. وتطور التكنولوجيا كان للسيطرة على مقدرات الإنسان. أي أنه تطور في كل شيء بهدف تحطيم العالم وقد فقد إنسانيته نهائيا.. في حين أن الإسلام هو الآخر تطور في أحقاب طويلة من الزمن وكان العلم بيد المسلمين والطب بيد المسلمين والقوة بيد المسلمين.. فماذا حدث؟. لا شيء إلا ما هو في صالح الإنسان وإنسانية الإنسان.
الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي(25/424)
مُقوِّمات الأمة
للشيخ محمد الراوي
رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الأمة الإسلامية ليست حدثا عارضاً في حياة الإنسانية، وليست نبتا بلا قرار، إنها – وفيها التوحيد – شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إنها- وفيها الحق- ليست زبداً طافياً يذهب جفاء وإنما هي معدن أصيل ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إنها- وفيها القرآن وبيانه - لن ينتهي مدها ولن يطفأ نورها ولن يخمد ذكرها بفضل من الله ورحمته.
إنها أمة الرسل والأنبياء جميعاً. تآخت فطرتها مع فطرة الكون الذي أسلم كل من فيه لله طوعاً وكرهاً.
إنها ذات أصل ثابت وفرع ممتد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، غيرها من أهل الباطل له في الزمن ساعة وهي بفضل الله إلى قيام الساعة.
تأتى إليها الريح فتميل بها ولا تقتلعها، وتهب عليها العواصف فتسقط من ورقها ما صار هشيماً، وتظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ولئن مرت عليها فترات فتور أو خمول يراها أهل الكفر مواتاً ويرون حماها بواحاً فإن لها من مقوماتها ما يبعث الحركة فيها ويجدد الحياة.
ومهما طال الليل فإن فجراً صادقاً يأتي عليه فيطوى ظلامه ونجماً رائداً متألقاً مجددا يؤذن بطلوع الفجر، فتتحول الحياة- وهي تسمع الآذان- من حال إلى حال، فيصحو الغافل ويستيقظ النائم ويصبح نشيطاً طيب النفس.
فما مقومات هذه الأمة؟ وما أَسباب النهوض بها؟
ذاك ما سنحاول في هذا اللقاء أَن نتحدث عنه أو نشير إليه.
إن المقومات تمثل الثابت في تاريخ هذه الأمة ولذا فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وبها يرتبط ما هو متغير من أسباب النهوض في كل عصر.(25/425)
ولكي تبقى الأمة قائمة برسالتها لابد أن تحافظ على الثابت من مقوماتها وألاّ تفرط في شيء منه، فهو مصدر عزها وقوتها وبه تتميز أخلاقها وتتحقق إمامتها.
وهذا الجانب هو صمام الأمن للمجتمع الإنساني كله بل صمام الأمن لنتائج العلم - التي يخشى في غيبة الثابت من المقومات أو التفريط فيها- أن تدمر في لحظات عمر الإنسان في قرون وأن تسوق الفناء إلى ما شيد من بناء.
بالأصل الثابت من المقومات يسارع الإنسان إلى الخيرات ويسبق لها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} والمسارعة إلى الخيرات عمل إجابي في محاربة الفساد ومقاومة شره وتأمين الناس من تسلطه وظلمه.
ومن هذا نستطيع أَن نقف عند الأصل الأول من هذه المقومات:(25/426)
1- عقيدة التوحيد: وهذه العقيدة كما دعا إليها الرسل جميعاً يتم بها التحول من حال إلى حال، من ظلمات وجمود وخمول وموات إلى نور وحركة حية واعية راشدة، والإيمان تصديق وقول وعمل، وجميع الرسل قد طلبوا من أقوامهم أَن يفعلوا أو يتركوا على أساس من عقيدة التوحيد فبدافع من هذه العقيدة يتم الفعل أو الترك. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
فعلى أساس من توحيد الألوهية يتم التحول من شر إلى خير، ومن إفساد إلى إصلاح، ومن ظلم وظلمات إلا عدل ونور، ومن صد وانحراف إلى استقامة واتباع. ويقترن الإيمان بالأعمال فعلا وكيفا فيزيد وينقص ويبقى ويذهب.(25/427)
وبالتوحيد: يتحدد موقف الإنسان من الأشياء ومن الناس وتترتب النتائج {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} يتحدد موقف الإنسان من أقرب الناس إليه {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
لا تتميع المواقف ولا تختلط ولا تلتبس مع صدق الاعتقاد {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(25/428)
وبالتوحيد: يتميز سلوك الإنسان في العسر واليسر والشدة والرخاء ويتبين الصادق من الكاذب، ولذا كان الابتلاء سنة من سنن الله وكانت المحن والشدائد سبيلا للتنقية والتصفية يميز الله بها الخبيث من الطيب {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . ولولا ذلك لاختلط الأمر على الناس والتبس ولم يتميز خبيث من أصيل وادعى بعض الناس لأنفسهم ما ليس لهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .
وبالتوحيد: نقاتل ونسالم، ونصاحب ونعادي، ومن أجله نجد في الحقل والمصنع، والدكان والديوان والبر والبحر، والأعمال الصالحة تقترن بالإيمان فلا تدع مجالا في الحياة دون إصلاح وإحسان.
ومن الواجب على الأمة الموحدة أن تحسن ما تحتاج إليه في أي شيء ولا تكون عالة على غيرها في شيء، والأعداد الذي نرهب به عدو الله وعدونا والذي أمرنا الله به يستوجب شئون الحياة في ترابط واتساق فالضعف في جانب قد يؤدي إلى الضعف في غيره.
والحديد الذي أنزله الله فيه بأس شديد ومنافع للناس يقترن في ديننا بما أرسل الله من رسول وما أنزل من الكتاب.(25/429)
وعقيدة التوحيد تفرض أن يطوع الحديد لإقامة العدل ونصرة الحق ومن وراء ذلك أعمال وأعمال تستوجب قيام المصنع، ووجود الغواص في البحر، والطيار في الجو، والباحث في المعمل، كما تطلب قلم الكاتب ودفتر المحاسب وفقه العالم، وتدبير الحاكم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ففي سورة واحدة بل في آية واحدة نقرأ قول الله عز وجل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
والقران الكريم عندما يتحدث عن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ويحث على النظر والتفكر فيها إنما يريد تفاصيل هذه العقيدة في النفس وجعلها مبنية على معرفة لا يعتريها شك ولا يحبط عمل صاحبها شرك.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
{الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(25/430)
إن جميع ما يذكر من مقومات هذه الأمة يستند إلى هذا الأصل ويقوم عليه فما ندعى إليه من توثيق روابط الأخوة والمودة، وما نأمر به أو ننهى، لا يثمر ولا يغني ما لم يكن الدافع إليه والغاية منه القصد لله وابتغاء مرضاته.
وإذا تسرب الشرك إلى شيء من عمل أحبطه ودمره.
هذا الأصل ثابت مستقر في رسالة الرسل جميعا لا يتغير مع أي شرعة ومنهاج {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
والحياة التي تقوم على التوحيد تصان فيها الفرائض وتؤدى الواجبات وهي متنوعة متعددة تحتاج إلى علم وجهد وكد يتساند فيها أهل التوحيد معتصمين بحبل الله غير متفرقين وتقوم نعم الله التي لا تحصى بين أيديهم لتكون عونا على إعلاء كلمة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المظلوم بإنصافه وتأمينه والظالم بالأخذ على يده وبهذا تحافظ الأمة الإسلامية على خيريتها، وتعز بإيمانها وأداء رسالتها، وتفلح بالدعوة إلى سبيل ربها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
إنها أمة مجاهدة ذات رسالة خالدة، فرض عليها أن تحيا مرابطة في سبيل الله تجير المظلوم وإن كان من غيرها وتأخذ على يد الظالم وإن كان منها، وتعلي كلمة الله في كل شأن من شئونها.
والإسلام يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضا في الآلام والآمال.
وأي عدوان يقع على قطر من أقطارها أو على فرد من أبنائها فهو عدوان عليها جميعا، ولكي تستطيع هذه الأمة أن تنهض برسالتها وأن تؤدي ما أوجب الله عليها لابد أن تعمل دائما على تحقيق الأسباب التي تعينها على ذلك، وأن تحافظ على المقومات الأصيلة الثابتة التي تميز شخصيتها وتجعلها أمة دعوة ورسالة.(25/431)
وواقع الأمة الإسلامية الآن لا يحتاج إلى بيان ولكن من الخطأ أن نظن أن ما وصلت إليه يستحيل علاجه ومن الخطيئة أن ندع اليأس يتسرب إلى النفوس، وأن نترك أولئك الذين لا يريدون لأمتنا إلا مزيداً من الفشل وذهاب الريح، أن يفرضوا عليها الرضى بالواقع أو يجعلوها تؤمن بالتبعية لغيرها في شرق أو غرب.
فإن أمتنا تملك- بفضل من الله- أن تبدأ البداية الصحيحة دون حاجة لشرق أو غرب وعليها أن تدرك أن ما سلط عليها من أعدائها بسبب معاصيها وقعودها عن أداء رسالتها {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .
ورب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً.
فعلى أمتنا أن تبدأ بما أمر الله به {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، عليها أن تكف شرها عن نفسها وأن تأخذ على يد العابثين الذين يفسدون في الأرض ويقطعون الأرحام.
في الجاهلية تداعت قبائل من قريش إلى حلف قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:
"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت".
وكانت هذه القبائل قد تعاهدت على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
في الجاهلية تداعت قبائل من قريش لهذا الحلف الذي أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وقال لو أدعى إليه في الإسلام لأجبت.(25/432)
أفلا يتداعى المسلمون- وكتاب الله يتلى عليهم وفيهم رسوله - لما ينقذ حياتهم ويرد كيد أعدائهم ويدفع الشر والبلاء عنهم، أفلا يتداعى المسلمون لتحقيق أمر الله فيما بينهم والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم، إن تحقيق معنى الأمة الإسلامية في أدنا صورة ممكنةٍ قد غاب كثيراً عن حياة المسلمين فغدت الأمة نهباً لكل طامع وتحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه في قوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها".
أي والله لقد تحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه وتداعى الأكلة من أمم الكفر في شراهة وضراوة لتمزيق الجسد الإسلامي وفصل أجزائه بعضها عن بعض.
ومنذ فترة قيل عن تركة الرجل المريض، وأخشى أن يكون الإصطلاح لديهم الآن تركة الرجل الميت، ولكنني أؤمن أن الأمة لن تموت مهما بدت مظاهر الضعف والسكون فيها.
وعلينا أن نبحث في غير يأس في وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية فإنها أمة باقية بإذن الله إلى قيام الساعة.
أولاً: أسلوب التربية والثقافة والإعداد في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة وإصلاح فإنه فيه كثير متناقض ومتضارب ومختلف الإتجاهات والشعارات ولا يخفى ما يترتب على ذلك من صراع داخل الأمة الإسلامية نفسها وما يقع من شر بين أبنائها.
فكيف نخضع جميع وسائل التربية والإعداد والثقافة لتوحيد هذه الأمة وجمع كلمتها؟ وما السبيل لإعداد إنسان الغد بما يتناسب وأخطار الغد؟(25/433)
إن أصحاب المذاهب في شرق أو غرب يعملون على صياغة الإنسان في أمتنا الإسلامية ليكون لهم لا لأمته وينفقون في سبيل ذلك من الجهد والمال ما لا يخفى على أحد، وكلنا يعرف ما تفعله الشيوعية في سبيل نشر مذهبها وما يفعله الغرب وما يقدمه لمؤسسات التبشير لتكون طلائع له في صياغة إنسان الغد لصالحه، وكل ما وقع من اغتصاب أرض المسلمين في أي مكان أو زمان قد مهد له من قبل الإستيلاء على الإنسان. ومن هنا كان الحرص شديداً على تقديم المنح الدراسية وإغراء الدول الإسلامية بالبعثات التعليمية وهي تحقق جانباً كبيراً مما يريده أصحاب المذاهب في شرق أو غرب من صياغة الإنسان لما يريدون.
الإنسان هو الأساس الذي تقوم به ومن أجله الحضارة والنهضة والعناية به هي السبيل للنهوض بأمتنا من كبوتها ولا تصلح الأشياء إلاَّ بإيجاد الإنسان الصحيح، من أجل هذا أرسل الله الرسل وأنزلت الكتب.
والنعم في أيدي الناس مسخرة من الله عز وجل وبالإنسان يتحدد اتجاهها إلى شكر أو كفر، ونتائج العلم أسلحة في يد الإنسان ينصر بها عدلاً وحقاً أو يبغي علواً وفساداً والسيف يمسك به لص يهدد أمن الناس ويحمله حارس أمين.
والأرض قد هبط إليها الإنسان بعد إصلاحها وما يقع فيها من إفساد هو مما كسبت أيدي الناس والله يعلم المفسد من المصلح.
ولكل شيء في الحياة وسائل وأسباب تحقق صلاحه، فإذا اتبعت الأسباب في كل شيء بما يناسبه استقام الإنسان وبرت النتائج، وكذلك فعل المصلحون في الأرض ومن أثنى القرآن عليهم وتلا على الناس ذكرهم {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً ... } .(25/434)
وتراه وهو يعالج قضايا الناس يأخذ بجميع الأسباب التي تحقق الإصلاح ومن وراء الأخذ بالأسباب صدق النية وشكر النعمة فهو لا يطلب جزاءً إلاَّ من ربه، من وراء الأخذ بالأسباب نفس مؤمنة لا تستغل حاجة الناس ولا تعمل عملاً يمكن أهل الفساد من تحقيق فسادهم بل تعمل وتحسن وتضع أمام الفساد سداً منيعاً لا يستطيع الباطل أن ينفذ منه أَو يعلو عليه {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} .
وأمتنا الإسلامية - وأمامها من التحديات - ما لا يخفى على أحد عليها أن تعد الإنسان بالإيمان الموجه للنفوس إلى الخير والإصلاح وبالعلم الذي تنشده النهضة في جميع شئون الحياة بحيث لا تكون الأمة الإسلامية في قبضة غيرها، فالأمة الإسلامية إذا احتاجت إلى مائة ألف طبيب عليها أن تعمل على إعداد هذا العدد بتخصصاته المتنوعة وأن تدرس في صبر وأناة وجد حاجتها في كل شأن وأن تعرف ما تملكه من طاقات وإمكانات قبل أن تطلب عوناً من أحد. وفي جميع الأحوال تكون مهمة الدين إعداد الإنسان لكي يصلح في الأرض ولا يفسد.(25/435)
والمهمل في عمله والمقصر فيه مفسد غير مصلح، والقعود عن الأخذ بالأسباب معصية ومفسدة تتيح للغير أن يتفوق، تفوق جاد أَمام قاعد، وعامل أمام خامل، والتنافس قائم بين الخلق، وأهل الباطل لن يسكتوا أبداً عن إضعاف أهل الحق {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} .
ويا له من ضياع ويا لها من مفسدة حين تظل أمة الحق عالة على أهل الباطل، لا تسل عن الأتباع والطواعية، أتباع أهل الحق لأهل الباطل حتى لو دخلوا جحر ضب وطواعيتهم فيما يريدون لأهل الحق من ردهم بعد إيمانهم كافرين.
والأمة الإسلامية إن هي قصرت في أن تصنع الضروري من وسائل حياتها احتاجت إلى غيرها من دول الكفر وقد يؤثر ذلك في مقومات حياتها من عقيدة وسلوك. والذين يتصورون أن العمل للدين يقف عند تعليم الناس بعض الفرائض التي لا تأخذ من حياة المسلم إلا دقائق معدودات يخطئون في فهم الدين ويعزلونه عن الحياة وهم يحسبون أنهم محسنون صنعا.
إن العقيدة وهي أَصل الدين تتحرك بموجبها الحياة كلها لتكون في صلاتها وتشكلها ومحياها ومماتها لله رب العالمين. ومن أجل العقيدة طولِبنَا بالنظر في خلق السماوات والأرض، وفي أنفسنا لنظفر بثبات العقيدة ووسائل حمايتها لذا فإن الإعداد والتربية لا يفصل فيهما مصنع عن مسجد فيقال هذا للدين وذاك للدنيا، لا يفصل كد وجهد عن تسبيح وذكر. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وإعداد المسلم على هذا الفهم والعمل به يزيل من دنيانا نحن المسلمين كثيراً من التوتر الذي يقع بين الأفراد والجماعات ويقيم صراعاً في داخل الأمة الإسلامية يجني ثماره من يتربص بها ويضمر الشر لها.(25/436)
الإسلام شامل كامل منظم لشئون الحياة كلها، باعث للنهضة في جميع أجزائها بلا تفرقة والدين ليس إتباعا لأهواء الناس وليس خاضعاً لما يرغبون إنه تكليف ومسئولية {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
والذين يريدون الدين هوى لأنفسهم فيأخذون منه ما لا مشقة فيه ويدعون ما فيه كره ومشقة لم يحملوا ديناً وإنما حملوا عليه، وكم من ناس أفرزتهم المصالح والمشقات وألقت بهم في حظائر أهل النفاق {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} .
وكم كان اللوم شديداً على من قيل لهم {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} .
وإعداد المسلم عملياً ليؤدي واجبه في الإصلاح في جميع شئون الحياة يحفظ للأمة دينها وكرامتها وعزتها ويجعلها في مأمن من تكالب الأعداء عليها.(25/437)
وإذا اتسع فهم المسلم لما يطلبه إسلامه انشرح صدره لكل من رغب في الإسلام وأقبل عليه لأن الساحة تسع الناس جميعاً بل تسع الإنس والجن وساحة الإسلام أرحب من عالمنا الذي نعيش فيه، وإسلام الناس أحب إلينا، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث هادياً ورحمة.
وإذا ضاق الفهم لما يطلبه الإسلام وما ينشده للعالمين قصرت الجهود عن الوفاء بحقه وغدت عبئاً عليه مسيئة إليه وإن قنعت مع نفسها أنها تقوم بفرائضه وتفي بواجباته. إن الواجب قد ينشدك في لحظة لتركب البحر وتحلق في الفضاء وتقف أَمام نيران المصنع وطلقات المدفع فإذا أجبت هذا الواجب بمزيد من ركعات وسجدات غير ما فرض الله وسن رسوله وقعدت ولم تستجب قد يذهب مع القعود دينك وأنت تحسب أنك مستمسك به.
وهل ترك الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم إحسان صلاتهم والقيام بها؟ إذن لماذا قاطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بمقاطعتهم؟ لأنهم لم يكونوا في لحظة ما حيث طلبهم الواجب وحثه النداء، ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أداء ما وجب جاءه من لم يخرج معه فمن اعتذر كذبا هلك ومن صدق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعته حتى جاءت توبة الله عليه ولولا هذه التوبة لهلكوا مع الهالكين.
إن المسلم يكون حيث يدعوه واجب دينه لا حيث يرغب هو أو يجب. والتفريط في أداء ما يجب له عواقبه ومخاطره. ولقد تحولت في زمننا هذا بعض فروض الكفاية إلى فرض عين لتفريط المسلمين وإذا أردت أن تحصر ذلك وجدت أَمتنا الإسلامية تحتاج إلى تخطيط شامل في حياتها كلها لتسد كل جانب بما يكفيه ليسقط الفرض عن الباقيين.
فإذا ظللنا جميعا نأكل مما تنتجه أَرض غيرنا وأرضنا أخصب وأرحب فإننا نأثم جميعا ما لم تتحرك الحياة في أرضنا وتؤتي ثمارها بإذن ربها ولو استثمرت كما يجب أن يكون لأغنت عالمنا الإسلامي كله وسدت حاجة غيره من المحتاجين.(25/438)
قلت أولا: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية وتتسق الوسائل وتمضي لما يجب أن يكون.
إعداد الإنسان الصحيح هو الأصل فيما ننشده من نهضة وما نطلبه من إصلاح.
ثانيا: لابد من جهاز متخصص ذي إمكانات عصرية يقوم بمسح شامل لمعرفة الطاقات والإمكانات الهائلة في عالمنا الإسلامي، ويقدم الأسباب الصادقة لهجرة أبناء المسلمين من ديار الإسلام إلى غيرها وهي تمثل خطراً حقيقياً في تطوير عالمنا الإسلامي بما يتناسب وضرورات العصر.
وهؤلاء المهاجرون لم يهاجروا عقوقاً لأوطانهم وإنما هناك عوامل لا يجهلها كثير من الناس دفعتهم إلى الهجرة وأرغمتهم عليها وأكثر هذه العوامل تنتسب إلى الشعارات المنافية للإسلام التي رمي بها عالمنا الإسلامي في كثير من دياره والتي سحقت معها كرامة الإنسان وامتهنت آدميته وإنسانيته ووضع في غير موضعه باسم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وصعب التكامل أَو التفاهم في عالمنا الإسلامي لاختلاف الشعارات وتناقض الغايات، مع أن عالمنا الإسلامي يملك من التكامل فيما بينه ما يقنعه عن الحاجات إلى الغير ويملك من الطاقات البشرية المتخصصة ما يسد حاجته في كثير من ضروراته.
فهل من حصر لهذه الطاقات، وتهيئة الأسباب عودتها بل وتهيئة لأسباب الإستقرار في عالمنا الإسلامي بنبذ الشعارات المفرقة، والتمسك بالكلمة الطيبة الموحدة كلمة الإسلام الذي يجمعنا على إتباع صراط واحد ويجنبنا إتباع السبل المفرقة. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ويخشى أن تستمر الهجرة من ديار الإسلام إذا ظلت الشعارات بشؤمها ولؤمها تأسر فريقا من أبناء المسلمين وتقتل فريقا وتعادي الإسلام في أَرض الإسلام.(25/439)
لابد للإسلام أَن يحكم على أَرضه ليؤمن أبناءه ويفتح أمامهم أَسباب النهضة الشاملة الكاملة ويجمعهم على كلمة سواء يكونون بها هداة ودعاة للإنسانية جمعاء.
نحتاج في كثير من ديارنا الإسلامية إلى تأمين الإنسان المسلم على أرضه كما نحتاج إلى قيام الأخوة الإسلامية وهي -الأصل- مقام الشعارات الدخيلة المفرقة، إن عالمنا الإسلامي يحتاج إلى نهضة شاملة كاملة في الزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة، إن أمتنا تعيش مشلولة الحركة حين البأس إذا لم يكن على أرضها المصنع الذي يمدها بما تحتاج إليه، كما تعيش منكسة الرأس إذا لم تتعلم كيف تستغني بما أعطاها الله وتجاهد عدو الله وعدوها، وأسلافنا من قبل قد نهضوا بالقليل الذي في أيديهم لأنهم عرفوا أن الإيمان حركة حياة لا قعود معه ولا تواكل ولا يأس ولا قنوط.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش على أمته الفقر فيما استقبلت وتستقبل من أيامها فيقول فيما جاء في الحديث المتفق عليه "أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أَخشى عليكم ولكني أَخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
تنافسنا عليها وتقاتلنا وقتلنا بها أَنفسنا ولم نجاهد عدونا. بسطت الدنيا فهل استطعنا أن نحقق بها غنى حقيقيا لأنفسنا أم أَنها كثيرة في أيدينا ونحن معها فقراء، وديارنا الإسلامية مع كثرة ما سلب منها هي أوسط وأَخصب بلاد العالم ومعظمها يستورد ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولباس وغير ذلك مما هو ضروري وغير ضروري.
ولقد وقع ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به وحذر منه فاستفاد غيرنا وخسرنا وانتصر بباطله وهزمنا وشغل بتمزيقنا وشغلنا بأنفسنا.(25/440)
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من ذلك في آخر فترة من حياته وفي الحديث المتفق عليه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع إلى المنبر فقال: "إني بين أيديكم قرط وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مكاني هذا وإني لست أَخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال (فكانت آخر نظرة نظرها الرسول صلى الله عليه وسلم) ، وفي رواية "ولكني أَخشى عليكم الدنيا أَن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة (فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) .
كم فرقت الفرقة والتنازع على المسلمين من ايجابيات وجلبت عليه مع الشعارات المنافية للإسلام شعارات اللؤم والغدر والسلبيات المدمرة في أَخص شئونهم وفي علاقتهم بعضهم ببعض. ويخطئ من يظن أننا بغير الإسلام تجتمع لنا كلمة أَو يرتفع لنا بناء. إن ما صلح به ماضينا هو ما يصلح به حاضرنا ومستقبلنا، ولم تستطع القبيلة ولا روابط الجنس والدم أن تجمع الناس على رسالة خير إصلاح وإن جمعت فرقت. والعرب لماذا لم تجمعهم روابط الجنس من قبل؟. لماذا لم يجتمع الأوس والخزرج وبينهم من الصلة ما بينهم؟. إنها الحروب والدماء والقطيعة والبغضاء، أزيلت حين شع نور الإسلام على الديار فصفت النفوس والتقت القلوب وتعانقت الأرواح وأَصبحوا بنعمة الله إخوانا.
بالإسلام صاروا خير أمة أخرجت للناس وبالإسلام امتد نورهم وسما ذكرهم وعرف فضلهم وبالإسلام بطل كيد عدوهم الذي أراد أَن ينفذ إليهم عن طريق إعادتهم إلى عصبية الجاهلية وتناحرها، بالإسلام تتماسك الصفوف وتأتلف النفوس وتتحول الطاقات والإمكانات إلى بناء حضارة تصان فيها كرامة الإنسان.
بالإسلام تسقط جميع السلبيات التي حالت بيننا وبين التعاون على البر والتقوى.(25/441)
قد تظن أن كل بلد يستطيع أن يبني نفسه ويستصلح أرضه ويوفر حاجة أبنائه ويختار لنفسه من المذاهب ما شاء ولا تدخل لأحد في شئون غيره. وهل يطلب أعداؤنا أكثر من ذلك؟ إنه السبيل لإبتلاع كل فريسة على حدة يؤكل الأبيض والأحمر والأسود وأي تفريط في ترابطنا وتماسكنا وتداعي بعضنا البعض سيجعلنا نقول في حسرة أكلت يوم أكل الثور الأبيض أكلت يوم أكل الأندلس المفقود ويوم ابتلعت جزر البحر الأبيض المتوسط ويوم استعمرت روسيا الشيوعية ديار الإسلام واغتصبت أرضه ويوم ويوم ويوم.(25/442)
ولن يتوقف جشع الأكلة من الكفرة والفجرة ما لم تؤد أمتنا الإسلامية رسالتها مع نفسها ومع الناس وتحيا مرابطة في سبيل ربها قائمة بما أوجب الله عليها عندئذ تستطيع أن تجير المظلوم وإن كان من غيرها وأن تضرب على يد الظالم وإن كان منها، عندئذ تجيب نداء من قالت وامعتصماه بمائة ألف مقاتل لا بمائة ألف شكوى لمجلس الأمن وهيئة الأمم عندئذ تستطيع أن تصحح مفهوم السلام بإقامة الحق والعدل في الأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} . عندئذ نستطيع أَن نتكلم بلغة ديننا لا في شعارات غيرنا وأن ننادي أهل الكتاب بما ناداهم الله به- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . عندئذ نستطيع أن نقدم للإنسانية كلها أسباب الأمن والسلم وهي تعيش على بركان من النار يوشك أن يقضي عليها وعلى حضارتها، عندئذ نستطيع أَن نحافظ على أقوات الناس التي أخذت من أفواههم وحشرت في بطون المدافع في ظل حضارة صار فيها الإنسان أرخص شيء.(25/443)
إن تجارة السلاح قد روجها المفسدون في الأرض وهي تجارة خاسرة مهلكة مدمرة وعندما نقوم نحن المسلمين برسالتنا نستطيع أن نعلم الناس وأن ندلهم على تجارة لن تبور تنجيهم من عذاب أليم، فنصون أَنفسنا ونعلم الإنسانية من حولنا وهذا حقها علينا وسنسأل عنه بين يدي ربنا، لقد انتقل تجار الفساد وموقدو نار الحرب إلى أرضنا ولن يطفئ نارهم ويقتلع فسادهم إلا صدق ولائنا لديننا واعتصامنا بحبل ربنا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
فإن أمتنا الإسلامية تملك من المقومات ما يحفظ شخصيتها وتملك من الأسباب ما يحقق نهضتها من نعم الله التي لا تحصى.
والأمر يتوقف على مدى المحافظة على المقومات والأخذ بالأسباب، وسنة الله لا تجامل أحداً ولا تحابي، والله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.
إن الأخذ بالأسباب يرتبط بالمحافظة على المقومات فهل يتفاعل المسلمون بمقوماتهم مع الأسباب تفاعل شكر لا كفران له، فتنبت الأرض وينتج المصنع ويعمر المسجد ويشغل الفراغ وتذهب المفسدة.
إن الأمر جد لا هزل فيه وخطر محدق يحتاج إلى إعداد وحذر.
والميدان يتسع لكل جهد من كبير وصغير ورجل وامرأة وطالب وعامل.
ورجاؤنا في الله أن تكون الصحوة الإسلامية بارة راشدة، أن تكون على فقه بدينها ومعرفة لعصرها وحكمة وهي تدعو إلى سبيل ربها.
رجاؤنا في الله أَن تكون الصحوة على مستوى الأحداث التي تحيط بالأمة الإسلامية. وأن تعلم أن الأمور لا تدرك بالأماني ولا تطلب بالتمني.
وإنما هو الجد والكد والصدق والصبر والأخذ بالأسباب.(25/444)
ولقد وصف الله من يختارهم لنصره ومن يؤتيهم فضله {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
نسأل الله أن يجعلنا منهم.
إذا ما كساك الله سربال صحة
إذا ما كساك الله سربال صحة
ولم تخل من قوت يحل ويغرُبُ
فلا تغبطن المترفين فإنهم
بمقدار ما يكسوهم الدهر يسلب
(ابن الرومي)(25/445)
معجزات القرآن العلمية
للشيخ حامد حسين قدير
مكتبة كلية الحديث
وحدة الكون وسر الحياة..
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء آية 30) .
التفسير القرآني للآية:
يقول سبحانه منبهاً في هذه الآية على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات وهو يخاطب الجاحدين لألوهيته العابدين معه غيره.
ألم يروا أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً متصلاً بعضها ببعض متلاحقاً متراكماً بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففصل هذه من هذه فجعل السماوات سبعاً وجعل من الأرض مثلهن وفصل بين السماء الدنيا بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض.
ثم يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} فبواسطة هذا الماء وبسببه جعلنا كل شيء حي، جماداً كان أو نباتاً حيواناً أو إنساناً إذ لا حياة إطلاقاً بغير ماء ولذا فإن الكواكب التي تخلو منه كالقمر والزهرة لا يصلحان للحياة لانعدام الماء فيها.
وقد أشار سبحانه وتعالى هذه الإشارة الدقيقة بعد ذكر السماوات والأرض ليدل على انعدام الماء في كل السماوات أو بعضها وإذا ثبت في بعضها حياة: فإن وجود الماء في هذا البعض محقق أو لا حياة بدونه وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء فقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خلق من ماء" الحديث.
ثم يختم سبحانه الآية بقوله {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدقون بما يشاهدون وإن ذلك لم يكن بنفسه بل لمكون كونه، ومدبر وحده ولا يجوز أن يكون ذلك الكون محدثا.(25/446)
الشرح العلمي:
هذه معجزة من معجزات القرآن يؤيدها العلم الحديث الذي قرر أن الكون كان شيئا واحدا من غاز ثم أنقسم إلى سدائم، وعالمنا الشمسي كان نتيجة عن تلك الإنقسامات ومما يؤيد هذا القول أن العلماء استدلوا على أن في الشمس 67 عنصراً من عناصر الأرض البالغة نحوا من 93 عنصراً وسيزيد المستدل عليه من العناصر في الشمس إذا ما ذللت الصعوبات التي تقوم في هذا الشأن.
والعناصر الشهيرة في الشمس شهيرة بيننا نحن معشر أهل الأرض وهي: الهيدرجين. الهليوم. الكربون. الآزوت. الأوكسجين. الفسفور. الحديد … الخ استدل العلماء على كل ذلك بالتحليل الطبقي وهو الذي يستدل به الكيماويون اليوم في معاملهم على ما تحتويه المواد الأرضية من عناصر يكشفون عن نوعها ومقدارها.
والشمس نجم يتمثل فيه سائر النجوم، والنجوم هي الكون. وهذا يعني أن العناصر التي بني منها الكون على اختلافها عناصر واحدة.
ومن ناحية أخرى لاحظ العلماء أن النيازك والصخور والأتربة القمرية التي حصل عليها العلماء من الفضاء الخارجي تحتوي من العناصر ما هو مشائع في الأرض.
وأما الشطر الثاني من الآية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فهو من ابلغ ما جاء في القرآن في تقرير حقيقة علمية أدرك العلماء سرها فمعظم العمليات الكيماوية اللازمة للحياة والنمو تحتاج إلى الماء وهو العنصر الأساسي لاستمرار الحياة لجميع الكائنات والنباتات.
والماء يغطي نحو ثلاثة أرباع سطح الأرض وله درجة ذوبان مرتفعة ويبقى سائلا فترة طويلة من الزمن، وله حرارة تصعيد بالغة الارتفاع وهو بذلك يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الأرض عند معدل ثابت ويصونها من التقلبات العنيفة ولولا كل ذلك لتضاءلت صلاحية الأرض للحياة إلى حد كبير.(25/447)
وللماء خواص أخرى تدل على أن مبدع الكون قد صممه بما يحقق مصالح مخلوقاته فالماء هو المادة الوحيدة التي تقل كثافتها ويزيد حجمها عندما تتجمد، ولهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة لحياة الأحياء المائية إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد بدلا من أن يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار ويكون الثلج طبقة عازلة تحفظ الماء الذي تحتها في درجة حرارة فوق درجة التجمد، والماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في الماء من أسماك وغيرها.
فما أعجب حكمة القرآن الذي يبين بكلمات قليلة العدد سر الحياة على هذه الأرض [1] .
نشأة الكون:
قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت آية 11) .
التفسير القرآني للآية:
أي إن الله سبحانه وتعالى عمد إلى خلق السماء وقصد لتسويتها أو يعني صعد أمره إلى السماء وهي دخان والدخان هو كل ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرق من بخار الأرض وقال أكثر المفسرين إن هذا الدخان هو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض والمراد إنها لم تكن شيئا مذكورا.
ثم خاطب سبحانه السماء والأرض بقوله ائتيا طوعا أو كرها أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي.
فما كان جوابها إلا أن قالا أتينا طائعين.
الشرح العلمي:
إن لعلماء الفلك تفسيرات شتى في بدء تكوين هذا الكون، فالعالم الفلكي سير جيمس جينز يقول: (الراجح أن مادة الكون بدأت غازاً منتشراً خلال الفضاء بانتظام وأن السدائم خلقت من تكاثف هذا الغاز) [2](25/448)
كما صرح أستاذ الطبيعة النظرية بجامعة واشنطن في كتابه الشموس وهو الدكتور جورج جامو: (إن الكون في بدء نشأته كان مملوءاً بغاز وزع توزيعاً منتظماً إنه غاز يبلغ من الكثافة ودرجة الحرارة حداً لا يمكن تصوره، وفي هذا الغاز حدثت عمليات التحول النووي في مختلف العناصر وتحت تأثير الضغط الهائل لهذا الغاز الساخن المضغوط بدأ الكون ينبسط ويتمدد وأخذت كثافة المادة ودرجة حرارتها تهبطان في بطء وفي مرحلة معينة من مراحل التمدد تكثف الغاز المنتشر إلى سحب مفردة غير منتظمة في شكلها ولا متساوية في أحجامها مكونة نجوم منفردة.
وكما ذكرنا أن القرآن صور مصدر خلق هذا الكون (بالدخان) وهو الشيء الذي يفهمه العرب من الأشياء الملموسة.
والعلماء اليوم يصورون نشأة هذا الكون (بالغاز) المنتشر في الفضاء أيكون في قدرة أمي- منذ أربعة عشر قرنا - أن يدرك هذا في وقت كان الناس لا يعرفون شيئا عن هذا الكون وخفاياه؟
تمدد الكون وسعته:
قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات آية 47) .
التفسير القرآني للآية:
يقول سبحانه منبها على خلقه العالم العلوي {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا كما قال في آية أخرى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} {بِأَيْدٍ} أي بقوة وقدرة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي قد وسعنا أرجاءها وجعلنا بينها وبين الأرض سعة ورفعناها بغير عمد استقلت كما هي بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب، أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم، أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تناثرت فيه النجوم والكواكب أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء.
الشرح العلمي:(25/449)
هل هذه الآية تطرح وتصف سعة الكون أو أن نظرية تمدد الكون تتوافق مع هذه الآية؟
من الناحية الأولى نرى أن (أينستين) يتخيل سعة هذا الكون بأنه يتسع لبلايين من السدم وكل سديم منها يحتوي على مئات من النجوم المكهربة.
أما نظرية تمدد الكون، فقد لاحظ علماء الفلك في أقصى ما يدركه المنظار علامات تدل على حركة السدم الخارجية حركات نظامية، واستدلوا منها على أن جميع السدم الخارجية أو (الجذر الكونية) تبدو على أنها تتباعد عن مجموعتنا الشمسية بل إنها تتباعد عن بعضها البعض، وعلى هذا الأساس فإن الكون ليس ساكنا إنما يتمدد كما تتمدد فقاعة الصابون أو كما يتمدد البالون ولكن الأجسام المادية هي تحافظ على أحجامها.
وقد تقدم عدد من العلماء الكونيين بنظريات تشرح لغز الكون المتمدد منهم الدكتور هابل رائد الباحثين في السدم فقد لاحظ أن هناك نزعة واحدة تسود هذه المجموعات النجمية الواسعة الشاسعة البعد، وهي أنها أميل إلى الإدبار منها إلى الإقبال كما لاحظ أن سرعة الإدبار تزيد بازدياد أبعاد هذه الجزر الكونية [3]
نقص الأوكسجين في الارتفاعات. أو (الضغط الجوي) :
قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام آية 125) .
التفسير القرآني للآية:
يشير سبحانه وتعالى في معنى هذه الآية: أنه من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح أما من يرد الله إضلاله يجعل صدره ضيقاً أشد ما يكون الضيق ويتكلف مالا يطيقه مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء [4]
الشرح العلمي:
للهواء ضغط؟
نعم إن له ضغطا مادام له وزن.(25/450)
وكلما ازداد وزنه أزداد ضغطه إذا ارتفعت إلى أعلى قل وزن الهواء عن سطح الأرض فضغط الهواء على قمة جبل أقل بكثير من ضغط الهواء عند قاعدته وأول من أكتشف أن للهواء ضغطا هو العالم ((تورشيلي)) ولكن متى كان ذلك؟
كان ذلك في منتصف القرن السابع عشر تقريبا: كشف أن للهواء ضغطاً قاسه وقدره بما يساوي وزن ستة وسبعين سنتيمتر من الزئبق.
وكان كشف تورشيلي هذا خطوة تلتها خطوات، إذ عكف العلماء على دراسة الهواء وغازاته، ثم حاولوا قياس ارتفاعه ومعرفة مقدار تخلخله واستعانوا أخيراً بأحدث وسائلهم -الصواريخ- لمعرفة الحقيقة كاملة ولكن الحقيقة لم تتكشف بكامل صورتها حتى الآن أمام أعينهم حتى بعد هذه الجهود المتتالية إنهم حاولوا تذليل الجو وتعبيد مسالكه فوقفت دونهم صعاب تغلبوا عليها بالعلم ومن بين الصعاب مسألتان أشار إليهما كتاب الله الأعظم.
الأولى - صعود الإنسان في السماء.
الثانية - ما يحدث للإنسان في أثناء هذا الصعود.
ويصحب الصعود في الجو أربع ظواهر:
1- قلة الضغط.
2- قلة الأوكسجين.
3- برودة الجو وتقلب درجة الحرارة.
4- (انعدام) الوزن إذا تغلغل الإنسان في الفضاء
فكلما ارتفع الإنسان قل الضغط فتخلخل الهواء وهذا يسبب للإنسان ضيقاً في التنفس يمتد كلما زاد الارتفاع وقد يؤدي نقص الضغط إلى تمدد الغازات في معدة الطيار وأمعائه فيسبب له تقلصات عنيفة.
وهناك أيضاً حدوث انتفاخ يدفع الحجاب الحاجز إلى أعلى فيضغط على القلب والرئتين مما يسبب الإغماء للطيار أحيانا، وكذلك يكون الطيار معرضاً لنوبات حادة من السعال لأن الهواء في الارتفاع الشاهق تنقصه الكثافة الكافية لتنظيف قناة التنفس من المواد المهيجة لها وينتج عن قلة الضغط ظاهرة أخرى، فكلما ارتفع الإنسان إلى أعلى نقص الضغط الجوي، على حين يظل الضغط الداخل للجسم كما هو، فيختل التوازن بين الضغطين:(25/451)
أ- الضغط الداخلي للجسم الذي يظل دون تغير.
ب- الضغط الخارجي للهواء الذي يأخذ في التناقص تدريجيا.
فإذا وصل الإنسان إلى ارتفاع عظيم لم يصبح في الإمكان حفظ التوازن بين هذين الضغطين فينبثق الدم من فتحات الأنف والفم وتنفجر طبلة الأذن إلى الخارج ويصحب ذلك اختناق ثم وفاة أكيدة.
هذا إذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة، ومن بين ما اهتدى إليه العلماء لتجنب هذا (رداء الضغط العالي) الذي دخل عليه باستمرار تحسينات جديدة.
وهذه الظواهر هي التي حدثت في تجربة (تيسانيبه) عند صعود اثنين من رفقائه في بالون سنة 1875 م- فقد ارتفع بهم إلى علو ( ... ر29) قدم أي تسعة آلاف متر تقريباً: توفي رفقاؤه أما هو فإنه فقد شعوره عندما وصل البالون إلى ارتفاع 25000 قدم ولم يشعر قط بما حدث بعد ذلك.
وأشد ما يصيب الإنسان عند الصعود فقد قوة التمييز والإرادة وهذه الظاهرة تأتي بغتة وبدون سابق إنذار.
أما الأوكسجين وهو الغاز الذي لا يمكن للإنسان أن يحيا بدونه - فهو- يختفي تماماً من الجو على بعد 67 ميلا وينتج من قلة الأكسجين عدم أكسدة الدم ومن ثم عدم حدوث حرارة في الجسم مما يسبب للجسم إعياء وضعفاً وتصيبه برودة ينقلص لها جسمه وتقشعر لها بدنه.
هذا فوق تقلب درجة الحرارة من برودة تفوق زمهرير المنطقة المتجمدة إلى في درجة حرارة أعلى بكثير جداً من درجة حرارة المدارين، ففي قمة طبقة التربوسفير تبلغ درجة الحرارة نحو 67 درجة تحت الصفر، وترتفع درجة الحرارة في الأزونوسفير إلى حدود 30 درجة فوق الصفر وتنخفض في ألايونوسفير إلى حدود 9 درجة تحت الصفر على ارتفاع 50 ميلاً إلا أنها ترتفع بعد ذلك بشكل غريب فهي على ارتفاع 100 ميل 549 فوق الصفر.(25/452)
وهذه النظرية التي احتوتها الآية القرآنية لم يفطن إليها العلم إلا حينما جاب أجواء الفضاء ببالوناته وطائراته، ولذلك فالطائرات التي ترتفع إلى علو شاهق لابد أن تكون محكمة البناء يلبس طياروها ملابس مزدوجة بينها أجهزة كهربية لتدفئتهم فتدرأ عنهم برودة الجو كما لابد أن يلبس الطيار على فمه وأنفه قناعا ليمده بالأكسجين.
فكلمة العلم قد التقت هي والقرآن الكريم، نعم التقيا بعد أن ظل العلم تائها في بيدائه باحثا متقصيا يهتدي وقتا ويتعثر أوقاتاً حتى عرف الحق بعد أن قضى في تجاربه القرون الطوال [5] .
تفجير الذرة:
قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ آية 3) .
وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس آية 61) .
التفسير القرآني للآية:
يخبرنا الرب سبحانه وتعالى عن إحاطة علمه فيقول إنه لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه فالعظام إن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم.
وقد لاحظت أن صاحب الفتح ومختصر ابن كثير قد توقفوا عن شرح معنى الذرة ولكن يورد القرطبي في تفسيره عن معنى الذرة فيقول هي نميلة حمراء صغيرة.(25/453)
وأقول والله أعلم ربما كان أصغر شيء معروف في زمن القرطبي من ناحية الذرات هو النميلة الحمراء ولكن مع المكتشفات العلمية وتطور علم الكيمياء وجد أن الذرة جزء صغير من المادة لا يرى بالعين المجردة فيكون معنى الذرة هو الذرة هذه.
الشرح العلمي:
إن أصغر جزء يمكن أن يوجد في عنصر ما يسمى (الذرة) وقد ظل هذا الإعتقاد سائدا إلى القرن التاسع عشر أن الذرة غير قابلة للتجزئة حتى كشف العلماء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين إن ذرات بعض المواد كالراديوم واليورانيوم تتجزأ من تلقاء ذاتها وتخرج منها جسيمات ذات كهرباء موجبة تسمى ((ألفا)) وجسيمات ذات كهرباء سالبة تسمى ((بيتا)) وأشعة تسمى ((جاما)) ووقف أخيرا بعد تجزئة الذرة أنها تحتوي على الدقائق الآتية:
البروتون – البيترون – الإلكترون.
ومما أرى أن كلمة (أصغر) من الذرة في الآية القرآنية تصريح جلي بإمكان تجزئتها وفي قوله تعالى: {فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بيان صريح بأن خواص الذرات التي في الأرض هي نفس خواص الذرات الموجودة في الشمس والنجوم والكواكب.
كان ذلك الخبر الذي أخبر به القرآن في أوائل القرن السابع الميلادي حينما كان العالم يغط في جهله فهل درس محمد عليه الصلاة والسلام خواص الذرة وإمكان تجزئتها والوقوف على خواصها في الأرض والسماء؟
لا! إن هذه الآية دليل قوي على صدق نبوته وإن القرآن وحي إلهي.
الزوجية في كل شيء:
يقول جل من قائل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات آية 49) .
التفسير القرآني للآية:
يخبرنا سبحانه في هذه الآية الكريمة على عظم قدرته فجعل جميع المخلوقات أزواجا أي من صنفين ونوعين مختلفين فمثلا:(25/454)
ليل ونهار، ذكر وأنثى، سماء وأرض، شمس وقمر، بر وبحر، ضياء وظلام، كفر وإيمان، موت وحياة، شقاء وسعادة، جنة ونار، حلو ومر، جن وإنس، سهل وجبل، حتى الحيوانات والنباتات كل ذلك لكي تتذكر وتعلم بأن الخالق واحد.
الشرح العلمي:
مما كان معروفا سابقا وظاهرا للعيان أن الزوجية للمادة كانت جلية تماماً في النباتات والحيوانات من ناحية الذكورة والأنوثة والجمادات من حيث الإجمال.
فأين الزوجية في الجمادات بالتفصيل؟
إن الجمادات مكونة من ذرات وهذه الذرات مكونة زوجية فمثلا ذرة الأيدروجين أبسط الذرات تركيبا تتكون من نواة يدور حولها كهرب وأحد (الكترون) النواة تحمل شحنة كهربية موجبة. والكهرب يحمل شحنة كهربية سالبة. أليست تتمثل الزوجية في هذه الذرة.
أما بقية الذرات فإن كلا منها يتركب من نواة وكهارب تدور حولها وبينهما فراغ أما النواة فتتكون من جسيمات مكهربة تحمل شحنة موجبة تسمى (بروتونات) وجسيمات غير مكهربة أي لا تحمل شحنة كهربية تسمى (نيوترونات) .
أما الكهارب التي تدور حول النواة فتحمل شحنة كهربية سالبة [6] .
كل تلك الاكتشافات بعد مجيء القرآن بقرون كثيرة.
الأمواج الداخلية والسطحية:
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (سورة النور آية 40) .
التفسير القرآني للآية:(25/455)
في هذه الآية الكريمة يضرب لنا سبحانه مثلا للكافر ولأعماله ولقلبه الذي لا يعي شيئا فيقول سبحانه أو كظلمات جمع ظلمة في بحر عميق لا يدرك له مقر ويعلو ذلك البحر اللجي موج ومن فوق الموج موج ثم بعد ذلك أي فوق الموج الثاني سحاب فيجتمع فوق الموج وفوق الريح وفوق السحاب ثم يقول سبحانه {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} والمراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا وإذا أخرج الناظر يده لم يكد يراها من شدة الظلمة.
ويختم سبحانه هذه الآية بقوله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي من لم يجعل الله له نوراً يهتدي به إذا أظلمت عليه الأمور فما له من نور [7] .
الشرح العلمي:(25/456)
في هذه الآية إشارة إلى الأمواج الداخلية والسطحية (فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعبا هي أمواج غير منظورة تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيدا في أعماق البحرِ وقد كان من المعروف منذ سنين كثيرة أن سفن البعثات إلى القطب الشمالي كانت تشق طريقها بكل صعوبة فيما كان يسمى ((بالماء الميت)) والذي عرف الآن أنه أمواج داخلية. وفى أوائل عام 1900 م لفت الأنظار كثيراً من مساحي البحار الاسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء، والآن بالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع وتهبط بعيدا أسفل السطح فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط قد أصبح أمرا معروفا جدا فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة كما تعمل شقيقاتها السطحية على قذف السفن، ويظهر أن هذه الأمواج تنكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق فالآية القرآنية تقول {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} إشارة إلى الأمواج الداخلية والسطحية ويؤيد هذا ما وصفه القرآن للبحر بأنه (البحر) أي كثير الماء عميقة وفي هذا إشارة إلى المحيطات وليس الشواطئ والجدير بالذكر أن هذه المواضع يقل فيها وهيج الشمس فما بالك باجتماع السحاب الذي تكثر فيه الظلمة ويصبح الواقع.
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . فهذه الآية لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للبيئة التي نزل فيها القران فلو افترضنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى في شبابه منظر البحر الأحمر فلن يعدو رؤية شواطئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وهي لا ينطبق عليها ما وصفه القرآن كل ذلك يعطينا دليلاً واضحا على أن القرآن وحي إلهي [8] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نقلا عن كتاب روح الدين الإسلامي صفحة 49-50.
[2] نقلا عن كتاب (النجوم في مسالكها) .(25/457)
[3] روح الدين الإسلامي.
[4] كما أورده فتح القدير الشوكاني.
[5] نقلا عن كتاب القرآن والطب صفحة 35-38.
[6] كما أورده كتاب القرآن والطب صفحة 27-28.
[7] القرطبي ج12 ص285
[8] روح الدين الإسلامي ص 58.(25/458)
الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (1)
للدكتور محمد نغش
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية تلقي الضوء على تاريخ أمتنا الإسلامية في فترة من فترات كفاحها المجيد ضد الصليبيين المعتدين، وتلك الحقبة تماثل ما نعانيه في عصرنا الحالي من الاحتلال لأراضينا المقدسة، وما سوف نخوضه إن شاء الله تعالى من جهاد مقدس من أجل تحرير الأرض الإسلامية من أيدي هؤلاء الكفرة الفجرة.
وقد قسمت البحث إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: عن الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي، وهي: ديوان الإنشاء، وديوان الجيش وديوان الأسطول. وديوان الأسرى، وديوان البريد.
وقد ذكرت السمات الواجب توافرها في رؤساء الدواوين، والأعمال التي يباشرونها.
والباب الثاني: عن الرسائل الحربية في عصر مؤسس الدولة الأيوبية الملك المظفر صلاح الدين الأيوبي وابنه الملك العزيز، ثم الملك المعظم توران شاه، ثم الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وقد ذكرت الأسلوب الذي صيغت به تلك الرسائل في إيجاز، وطريقة إعداد الرسائل وتصديرها.
والباب الثالث: عقدت فيه موازنة بين الرسائل الحربية والشعر المعاصر لها، في تنافسهما في التعبير عن مشاعر المسلمين وفرحتهم بنصر الله المبين بفتح القدس وتطهيره من المغتصبين.
والله أسال أن يحقق النصر للمؤمنين، وأن يستردوا أرضهم السليبة من أيدي الصهاينة الآثمين.
الباب الأول
الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي
كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية، نشأت وترعرعت إبان الحروب الصليبية، وخاضت المعارك الحربية الواحدة تلو الأخرى في بسالة.(25/459)
وبرز في هذه الدولة ديوانان كبيران هما ديوان الإنشاء وديوان الجيوش، وكان عليهما المعول الأكبر في سياسة الدولة كلها في الداخل والخارج، يساعدهما في التنفيذ باقي الدواوين، وكان يضم هذه الدواوين جميعا دار الوزارة.
ديوان الإنشاء:
ظل ديوان الإنشاء طول عصر الحروب الصليبية رفيع المكانة، معنياً به أشد العناية، فهو ديوان عظيم المقدار، وهو خزانة الأسرار، شريف بمراسلة السلطان [1] .
كان ديوان الإنشاء يومئذ رأس الدولة المفكر، ووسيلة اتصال الحكومة بفروعها في داخل البلاد، وبغيرها من الحكومات في خارج حدودها، وقد استطاع النثر أن يفي بحاجة الأمة وأن يعبر عن مشاعرها وإحساساتها [2] ، وقد أدرك صاحب صبح الأعشى قيمة ما يسجله ديوان الإنشاء، فقال: "إنه لو جمعت بعض دفاتره لاجتمع منها تاريخ كامل" [3] .
وكان العاملون في ديوان الإنشاء في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس، وأتفق أن الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات [4] ، فصرفه من ديوان لا يحتمل مثل هذا [5] .
ديوان الجيش:
أشرف ديوان الجيش في عهد الأيوبيين على شئون الجيش، من تجنيد وعتاد وخلافة، وكان يطلق عليه أيضا ديوان الإقطاع [6] وتسمية ديوان الجيش بديوان الإقطاع يدل في صورة
قاطعة على مبلغ اعتماد النظام الحربي الأيوبي أو معظمه على الأقل على التوزيع الإقطاعي [7] ، فمن الطبيعي أن ينقل صلاح الدين عن مخدومه نور الدين نظام الإقطاع الحربي الوراثي والشخصي إلى مصر، غداة أن استتب له الأمر فيها، بعد وفاة العاضد سنة (567 هـ= 1172 م) [8] .
وكتب ابن مماتي فصلا في المقرر عن ميرة الإقطاعات في دولة صلاح الدين، مرتبة قيمتها حسب درجات الأجناد وجنسياتهم.(25/460)
فالأجناد من الأتراك والأكراد والتركمان دينارهم الإقطاعي دينار واحد كامل جنديا.. الكتابة والعاقلة من العربان ومن يجري مجراهم على عادة الأجناد المصريين، دينارهم نصف دينار ... والغزاة والقواد ومن هم في معناهم، دينارهم ربع دينار.. السعر الناقص عن كل دينار جندي ...
والمأمور بالحوالة به عن كل دينار واحد جندي أردب واحد الثلثان قمح والثلث شعير، والحوالة علا بيت المال في مستحق الأجناد، كل جندي ربع دينار عنباً على سبيل المصالحة.
على أن المراجع الأيوبية - فيما يعلم الباحث - خلت من ذكر تفصيلات عن تقييم تلك الطوائف إلى أقسام أصغر منها، ليعرف كل أمير وجندي رتبته ومركزه في الجيش [9] .
وفي صبح الأعشى صورة لما كان عليه ديوان الجيش في عهد الفاطميين، وأعتقد أن الصورة العامة في عصر الأيوبيين لم تتغير كثيرا من الناحية الإدارية، فتقسيم هذا الديوان إلى ثلاثة أقسام أولها خاص بالشئون الحربية العامة، والثاني خاص بالرواتب. والثالث خاص بالإقطاعات.
فديوان الجيش مثلا في العصرين الفاطمي والأيوبي لا يكون صاحبه إلا مسلما، وله الرتبة الجليلة والمكانة الرفيعة، وبين يديه حاجب، وإليه عرض الأجناد وخيولهم، وذكر حلاهم ومعدات خيولهم. وكان من شرط هذا الديوان عندهم ألا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد دون البغال والبراذين، وليس له تغيير أحد من الأجناد، ولا شيء من إقطاعهم إلا بمرسوم. وبين يدي صاحب هذا الديوان نقباء الأمراء، يعرفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك، وكان قد فسح للأجناد في المقايضة بالإقطاعات لما لهم في ذلك من المصالح بتوقيعات من صاحب ديوان المجلس من غير علامة، ومن هذا الديوان كان يعمل أوراق أرباب الجرايات، وله خازنان.(25/461)
وإدارة الرواتب تشتمل على اسم كل مرتزق في الدولة وجار وجراية، والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمر. ومباشرة من أستجد، وموت من مات، وأما إدارة الإقطاع فقد كانت مختصة عندهم بما هو مقطع للأجناد [10] .
ديوان الأسطول:
وشرع صلاح الدين بعد وصوله القاهرة في النظر في الشئون البحرية والأسطول، وربما كان سر اهتمامه بالأمور البحرية مباشرة بعد إزالة الدولة الفاطمية، أنه كان يخشى مجيء حملة بحرية من ناحية أفريقية من المغاربة أو من ناحية الصليبيين وأحلافهم من البيزنطيين والصقليين، كما حدث قبلا، بحجة التدخل لإعادة الدولة الفاطمية، أو أنه رأى البحرية الفاطمية ودور الصناعة في حال تدعو إلى العناية، بعد أن نزل بها ما نزلت بسبب إحراق شاور الفسطاط ودور الصناعة بها غداة وصول حملة أمورى الثالثة في سنة 563 هـ = 1168 م أو أنه أخذ في ترتيب شئونه الحربية عامة بمجرد أن صار صاحب الأمر في مصر بعد وفاة العاضد، وهذا الاحتمال الثالث هو الأرجح، بدليل اهتمامه بالجيش في السنة نفسها [11] .
وولى صلاح الدين نظر ذلك الديوان وقتذاك صديقا من أصدقائه، لم تذكر المراجع اسمه أو شيئا عنه ماعدا أن صلاح الدين أفرد له إقطاعاً مخصوصاً وديواناً مفرداً هو ديوان الأسطول، وأنه كتب إلى جميع الأعمال المصرية والشامية يؤكد عليهم وجوب تلبية طلبات صاحب الأسطول، كلما وصلت إليهم، من حيث جمع الرجال الذين يأخذهم ناظر ديوان الأسطول للخدمة في السفن الأيوبية [12] .(25/462)
ويقول المقريزي: لما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب اعتنى أيضا بأمر الأسطول، وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها والحبس الجيوش في البرين الشرقي والغربي، وهو من البر الشرقي بهتين والأميرية والمنية، ومن البر الغربي ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة البهناوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.
وعين له أيضا النطرون وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناق وطنبوى، وسلم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب [13] . فأقام في مباشرته وعمالته صفي الدين عبد الله بن شكر، وتقرر ديوان الأسطول الذي ينفق في رجاله نصف وربع دينار بعد ما كان نصف وثمن دينار، فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب استمر الحال في الأسطول قليلا، ثم قل الاهتمام به وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر أهملوا أمر الأسطول، إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداوى فنظر فما أمر الشوافي الحربية، وأستدعى رجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوها في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر، وأمر بمد الشوافي. وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه، في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب [14] !
وأسماء المراكب الحربية في أسطول الدولة الأيوبية كما ذكرها ابن مماتي هي: (طريدة، حمالة، شيني، مسطح، حراقة، مركوس، شلندي، أعزازي) [15] .(25/463)
وكان في مصر حتى آخر القرن السادس للهجرة ثلاث دور للصناعة مشهورة ذكرها ابن مماتي صاحب قوانين الدواوين فقال:
صناعة العمائر فيها تنشأ المراكب المذكورة، ولها مستخدمون يستدعون ما يحتاج إليه، ويطلق لهم المال والأصناف ويسترفع منهم الحسبانات وفيها يباع من حطام وغيره، وترد حساباتهم، والصناعات الآن ثلاثة، بمصر، والإسكندرية، ودمياط [16] .
ديوان الأسرى:
قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم، ومن جمله بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمر إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يارحيم أرحم القاضي الفاضل عبد الرحيم. وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ريع عظيم يؤجره بمبلغ كبير فلما عزم على الحج ركب ومر به ووقف عليه. وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إلي منه، أو قال أعز علىّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج [17] .
ديوان البريد:
من الترتيبات العسكرية العامة التي قررها السلطان صلاح الدين سنة 567 هـ= 1171 م استخدم البريد الحربي، نقلا عن مخدومه نور الدين، ورتب لذلك في كل ثغر رجالا، ومعهم حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمراً كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته، فتنتقل الرقعة من الطائر إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم، وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه [18] .(25/464)
ويشرح القاضي الفاضل في إحدى رسائله ما كان يؤديه به الحمام من دور فعال في هذا الشأن. ومما قاله في هذه الرسالة: "سرحت لإنزال أجنحتها محملة البطائق أجنحة، وتجهيز جيوش القاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوي الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوي به الأرض ما يبلغه ملك هذه الأمة، وتضرب من السماء حتى ترى ما لا يبلغه ولا همه وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرحها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم أنف النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون بملاحظتها تلاحظ أنجم السعود، وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء" [19] .
رؤساء الدواوين:
إذا كان التنظيم الإداري بمفهومه العلمي الحديث هو تحديد المسئوليات والسلطات والعلاقات بين الأفراد في الجهد الجماعي بقصد تحقيق أهداف محددة، فالدواوين الأيوبية كانت تنهج هذا السبيل في تحديد المسئوليات للعاملين، وتنظيم العلاقات بينهم وبين رؤسائهم.
وعندما نستعرض الهيكل الوظيفي في عصر الدولة الأيوبية، ندرك أنه يوجد نظام إداري يتسم بالإحكام والتخطيط السليم.
فالدولة يحكمها السلطان عن طريق وزير يمثل قمة السلطنة التنفيذية، ويلي الوزير في المرتبة رؤساء الدواوين المختلفة، وفي كل ديوان العاملون به، وهم على درجات عليا ودنيا، إذن فهم يتبعون التسلسل الإداري في السلطة. ولكل موظف اختصاصات محددة يسير على هداها، وصفات معينة يلزم توافرها فيه، وكانت هناك نظرية الإنابة في العمل فهذا الموظف يحل مكان فلان في وظيفته في حالة غيابه.
وإذا نظرنا للتقسيمات الوظيفية بالمصطلح الحديث من وظائف إدارية أو قيادية، ووظائف فنية أو كتابية، ودرجات عمالية، وجدنا هذا النمط معمولا به في تلك الحقبة من الزمن.(25/465)
فنحن نعرف أن مصر بلد زراعي، وأن بها بعض الصناعات اللازمة لمواجهة الحروب الصليبية، وكانت بها دار الضرب المصرية لصك النقود.
إذن كانت الوظائف بها أغلبها خاص إما بالزراعة أو بالصناعات الحربية مثل بناء السفن وغيرها، أو بالعمل في صك النقود، وماعدا ذلك فيتعلق بالشئون الاجتماعية العامة.
الوزير:
لم يرد تعريف للوزير في الكتب التي أرخت للدولة الأيوبية على رغم أن هذه الوظيفة كانت موجودة ومسندة إلى رئيس ديوان الإنشاء كالقاضي الفاضل، أو إلى وزير كصفي الدين بن شكر، وبين أيدينا تعريف لهذه الوظيفة، والصفات الواجب توافرها فيمن تسند إليه، كما جاء ذلك في كتاب صدر في عصر الدولة الفاطمية، إذ يقول مؤلفه [20] : "يجب أن يكون الوزير قيما بجميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالما بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر في فن من فنونها إليه يرفع ما ينظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلا بشيء منه، وأن يكون نافذا في علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذي يبنى عليه أمره".
ويشترط أبن خلف أن يتحلى لوزير بحميد الأخلاق، وأن يتسم بنبيل الصفات، وأن يظهر في سعة المنزل والطعام، والفرش والثياب، وما إلى ذلك، مما يليق بمقامه الخطير.(25/466)
كما يشترط أن يكون خبيرا محنكا في جميع ما يخص السلطان والرعية، فيقول: "يجب أن يكون الوزير متجنباً للغضب، قليل اللهو والطرب، مداوماً للتجارب، ملابساً للنوائب، عارفاً بتصرف الأحوال، عالماً بوجوه الأموال، ومصالح الأعمال، مستوفياً لحقوق السلطان، من غير حيف على معاملته ورعيته، معتمداً للإنصاف لهم والإنصاف منهم، مقدماً أهل الفضيلة والدين والغنى، مستكفياً للكفاة، عارفاً لذوي البيوتات والرتب أَقدارهم ومنازلهم، منزلاً لهم بحيث ما يستحقون منها، بصيراً بمكايد الحروب، ومعاجمة الخطوب، وتدبير الدولة، وسياسة الرعية، عارفاً بما يعتمد كل طبقة منها من عسف ولطف، وخشونة ولين، وما يصلح عليه من السير المتضادة، لا يشغله كبير أمر عن صغيره، مقدماً للحزم، عاملاً بالعزم، ناظراً في العواقب" [21] .
نظار الدواوين:
ونظار الدواوين في الدولة الأيوبية، كانوا يمثلون السلطة الإدارية العليا، وكانت تسند إليه من قبل الوزارة الأعمال الهامة الخاصة بشئون الدولة الداخلية والخارجية.
ويسمى الناظر أَحياناً بصاحب الديوان أو بوالي الديوان وكان يطلق على ناظر ديوان الإنشاء صاحب الدست، وفى هذه التسميات دلالة على مدى السلطات الممنوحة له في مجال اختصاصه.
ومن الصفات العامة لأعمال الناظر. أنه رأَس الديوان ويلزمه ضبط جميع جهات الديوان استخراجاً وخرجاً، وإقامة الجرائد بالجهات وخدمتها بما يستأدى منها لأنه يكتب على العمل الجامع لها، ويعين ما ينساق من الباقي في المعاملات [22] .
ويقول ابن مماتى: "ليس لأحد مستخدميه أَن ينفرد عنه بشيء من علم المنظور فيه، ومن لوازمه أن يكون علمه محوطا بضبطه، محفوظا بخطه، وإن كان ناظر مشارف، كتب خطه على ما يرفع من الحساب، ويخرج من الوصولات، وهو مخاطب على كل ما يتم في معاملته من خلل" [23] .
ناظر ديوان الإنشاء:(25/467)
ونقرأ شروط النابلسي في ناظر ديوان الإنشاء نثراً وشعراً إذ يقول: "يشترط أن يكون الناظر فيه مضطلعاً من العلوم لاسيما الأدب، له قدرة على صعود ذروتي النظم والنثر بل على ارتقاء درج البلاغة، إلى طبقة حل المنظوم ونظم المنثور والإستشهاد بما يحتاج إليه من الكتاب العزيز بآيات في المعنى الذي رسم له.
وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير الخلفاء وأخبار الملوك، وتواريخ العجم، وأيام العرب، ووقائعها وأمثالها، إلى غير ذلك من الفنون التي يطول شرحها ووصفها، وهو باب متسع، وعر المسلك، عزيز الوجود جداً".
والظاهر أن وظيفة رئيس ديوان الإنشاء، وما ينبغي أن يكون حاصلاً عنده من العلوم والمعارف والأخلاق، قد حظيت بعناية كبيرة في العصر الفاطمي، وقد دون ابن منجب الصيرفي ذلك في كتابه قانون ديوان الرسائل، ولما كان كتاب الدواوين في العصر الأيوبي قد أشاروا إلى هذه الوظيفة في كلمات مقتضبة، إلا أنها تدل على خطورة مكانة صاحبها، وأهمية الدور الذي يؤديه في الجهاز الحكومي للدولة الأيوبية، فقد رأينا أن نذكر الشروط الأساسية الواجب توافرها في رئيس ديوان الإنشاء التي تعتبر من وجهة نظرنا قواعد عامة سارت عليها الدولة الأيوبية فيمن يتولون العمل بهذا الديوان، خاصة وأن القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين ورئيس ديوان الإنشاء في عصره، تربى في الدولة الفاطمية، وتولى رئاسة الديوان في أيام العاضد آخر خلفائها، واستمر في عمله حنى نهاية عمره في عهد الدولة الأيوبية.(25/468)
فهو إذن امتداد طبيعي لهذه الوظيفة التي يقول عنها ابن منجب الصيرفي ما فحواه: "أن يكون ذا دين وورع وأمانة، ونزاهة نفس، ويجب أن يكون دينه الإسلام، لأنه من الملك بمنزلة الوزير، وأن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك، ويجب أن يكون من يختار لهذه المرتبة ممكنا من عقله، ويجب أن يكون أصيلاً في قومه، رفيعا في حسبه، ويجب أن يكون صبيح الوجه، فصيح الألفاظ، طلق اللسان، ويجب أن يكون وقورا حليما، مؤثرا للجد على الهزل، محبا للشغل أكثر من محبته للفراغ، مقسما للزمان على أشغاله، كثير الأناة، قليل العجلة والحذق، نزر الضحك، مهيب المجلس، ساكن الظل، وقور النادي، حسن اللقاء، لطيف الإجابة، شديد الذكاء، متوقد الفهم، حسن الكلام إذا حدث، حسن الإصغاء إذا حُدث، سريع الرضا، بطيء الغضب، رؤوفا بأهل الدين ساعيا في مصالحهم محبا لذوي العلم والأدب، راغبا في نفعهم، يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه، ما لم ير في ذلك خللا على المملكة، فإنه يجب أن يهدي النصيحة للملك، من غير أن يوجد أن فيما تقدم من رأيه فسادا أو نقصا، ولكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه، وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف، ويكون من كتمان السر بمنزلة لا يدانيه فيها أحد" [24] .
ما ذكرناه هو مجمل الصفات الشخصية الواجب توافرها في متولي هذا الديوان، فما هو نوع الثقافة اللازمة له؟
نجد أن العناصر الأساسية لهذا العمل أن يكون صاحب الديوان مثقفا، وأول ما يجب أن يعتني به حفظ كتاب الله تعالى. فهو أحوج الناس إلى الإستشهاد به في أثناء محاوراته، وفصول مكاتباته، والتمثل بنواهيه وأوامره، والذكر لقوارعه وزواجره، ويجب أن يكون من البلاغة والفصاحة في أعلى مرتبة وأسنى منزلة، بحيث لا يوجد أحد في عصره يفوقه في هذا الفن، وينبغي أن يكون مظطلعا بفنون الكتابة، عالما بأصولها وفصولها، مستقلا بأعبائها، يفوق في النهضة جميع المستخدمين معه والمعينين له.(25/469)
ويكون حافظا لأخبار الرسول والأئمة، راويا لأخبار الملوك وأيام العرب ووقائعهم، وأخبار العجم وسائر الأمم، وما جرى في أيام الملوك الماضين، وما حدث من وزرائهم وكتابهم وقوادهم وأخبارهم.
ويجب أن يكون لديه شيء من معرفة الحلال والحرام، ليكون واجدا له متى دفع إلى أن يسأل عنه، ويجب أن يكون حافظا للأشعار راويا للكثير منها، ويجب أن يكون قد قرأ من العربية والتصريف واللغة أكثرها [25] .
وأخيراً نتحدث عن مجمل صفاته السلوكية تجاه الملك كما جاء في كتاب قانون ديوان الرسائل، وهو أن ينحل الملك صائب الآراء، ولا ينتحلها عليه، ومهما حدث من رأي صائب أو فعل جميل، أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره، وأوجب على الناس حمده وشكره، وإذا قال الملك قولا في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه، فلم يره موافقا للصواب فلا يجبهه بالرد عليه واستهجان ما أتى به، فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر لحين الخلوة ويداخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج الصواب من غير تلق برد، ولا يتبجح بما عنده، ويكون متابعا للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة.
وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال، وفعلة تخالف هذه الأفعال، نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج، ولم يدع ممكنا في تبيين متجهها وإيضاح رداءة عاقبتها، وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه، إلى أن يعيده إلى الفضائل، التي هي بالملوك النبلاء أليق.(25/470)
ثم يعقد ابن منجب الصيرفي فصلا فيما يختص متولي ديوان الرسائل بالنظر فيه من الأعمال التي لا يقوم بها غيره، وهو: أن يلازم مجلس الملك ما كان جالساً ليتأس به سائر المستخدمين معه، ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن الديوان، ثم تأمل الكتب الواردة على الملك وتسليمها إلى أوثق كتابه، وأمنهم في نفسه، ليخرجها في ظاهرها، ثم يعيدها إليه، فيقابل بها، فإن وجده أخل بشيء منها، أضافه بخطه، وأنكر عليه إهمالها ليتنبه في المستأنف، وإن لم يكن فيها خلل عرضها على الملك، واستخرج فيها أمره، وسطر تحت كل فصل منها، ما يجب أن يكون جوابا عنه، على أحسن الوجوه وأفضلها، ثم سلمها إلى من يكتب الجواب عنها، ممن يعرف اضطلاعه بذلك، ثم قابل الجواب بالتخريج، وما وقع تحته، فإن وجد فيها خللا سده، أو مهملا ذكره، أو سهواً أصلحه، وإن علم أنه قد كتبها على أفضل الوجوه وأسدها، وأنه لم يغادر معنى، ولم يزد إلا ألفاظاً، ينمق بها كتابته، ويؤكد بها قوله، عرضها على الملك ليعلم ما فيها، ثم استدعى من يتولى الإلصاق فألصقها بحضرته، وجعل على كل منها بطاقة، يشير فيها إلى مضمونه، لئلا يسأل عنه بعد إلصاقه، فلا يعلم ما هو، ثم يسلمها إلى من يتولى تنفيذها، إلى حيث أهلت له، ويأخذ خطه بعدتها، منسوبا كل منها إلى من كتب إليه، ومشاراً إلى مضمونه، ويسلم النسخ المخرجة الملخصة إلى من يؤهله لحفظها وترتيبها.
ويلزمه أن يتصفح ما يكتب من السجلات والمناشير والأمانات، وجميع ما يقع عليه اسم الإنشاء تصفحاً تاماً، يأمن معه أن يدخل على شيء مما يكتب من ديوانه زيغ ولا زلل ولا تحريف.
ويلزمه أن يقيم حاجباً لديوانه، لا يمكن أحداً من سائر الناس أن يدخل إليه، ما خلا المستخدمين فيه [26] .(25/471)
ثم يفصل بعد ذلك كيفية مباشرته لأعماله بقوله: "يوقع فيما أمكنه التوقيع فيه من رقاع المتظلمين، مما جرت العادة بمثله، وما كان لابد له من عرضه على السلطان واستطلاع رأيه فيه، سلمه إلى متولي ديوانه ليحضر به المجلس، ويستخرج فيه الأمر، أو يحضر الكاتب نفسه فيقرأ المهمات منها، ويستأذن عليها، ويوقع بما يؤمر فيها، فقد تحدث فيها الرقعة المهمة التي تنتفع الدولة بها، ويستضر بتأخير النظر فيها، ويفهم من على هذه الرقاع من جور بعض الولاة والمستخدمين، وامتداد أيديهم ما توجب السياسة صرفهم عما ولوه منها، وما كان منها مما يسأل السلطان في صحته، ندب من يثق فيه لكشفه مع رافعه، فإن صح قوله أنصف من خصمه، وإن بان تمحله قوبل بما يردع أمثاله على الكذب والتخرص، فيكون ذلك كافاً لمن يهم بشكوى أحد على سبيل المحال وقول الزور فيه" [27] .
ناظر ديوان الجيوش:
ولما كانت الدولة الأيوبية تتبع نظام الإقطاع الحربي في توزيع الأرض على الأمراء والأجناد، فإنه نشأت وظيفة ناظر ديوان الجيوش لرعاية مصالح هذه الإقطاعات، ويوضح النابلسي الأعمال التي يباشرها صاحب هذا الديوان، فيقول:
"إنه يسترفع كل سنة نسخة قوانين ري البلاد، ليعلم ما نقص وما زاد، وكذلك نسخ السجلات من البلاد ليعلم ما ترجح من ارتفاعها، وما هي عليه من أوضاعها، وما انتقل من مدن العين إلى الغلة، ومن الغلة إلى العين، ومن صنف إلى صنف، وما عمر فيها من الخراب الذي لا يعلوه النيل وغير ذلك.
وترفع إليه أوراق زيادة النيل بعد انتهاء الزيادة، ليعلم بها قوانين الري ما روى من البلاد، ومن صفات الناظر في هذا الديوان، أن يكون كبير القدر في نفسه وعند سلطانه، له جلالة ووجاهة، فإن أمراء الدولة مع جلالة أقدارهم، يحتاجون إلى مخاطبته والتلطف لأجل إقطاعاتهم وأجنادهم وجلب مصالحهم، ودفع مضارهم" [28] .(25/472)
وأما الصفات اللازمة له في أثناء الحرب، حتى يكون ناجحاً في تأدية مهمته القتالية على أحسن وجه، أن يأخذ لضعيفها من قويها، ويقيم الحدود فيها على من وجبت عليه، ويقوي يد ديوانها على استخراج الأموال، وتمشية الأشغال، وحفظ السبل إلى عمله من كل جهة، هي داخلة في حد عمله.
ويحتاج أيضاً إلى أن يكون ذا سياسة ورياسة، وعقل رصين ونزاهة، وعفة فرج ويد ولسان، وحسن تدبير، وصدق لهجة، ويقظة وعزم، وتحل بهمة وعزم [29] .
ولما كانت المهمة المنوطة بناظر ديوان الجيش ذات أهمية بالغة في عصر الحروب الصليبية، أردنا أن نستعين بالصورة التي رسمها علي بن خلف في عصر الدولة الفاطمية، ففيها شيء من التفصيل، بخلاف ما عثرنا عليه في كتب الدواوين الأيوبية، خاصة وأن ظروف العمل الحربي ضد الصليبيين في العصرين واحدة.
إذ يقول: "أن منزلته بمقتضى خطر ما ينظر فيه من أمور الرجال الذين هم أعضاء السلطان وأعوانه، وهو يحتاج إلى الإستقلال بجرد كثير من الحساب، وإلى معرفة صفات الخيل، والمعرفة بالأسلحة وأنواعها، والسيوف وجواهرها ومياهها، والرماح وأجناسها والمختار منها، والقسي والسهام والدروع وما يجاريها من الآلات وأن يطالب الأجناد بتحصيلها وعرضها في كل وقت، كما تعرض الخيول التي يثبت شياتها في ديوانه، ولا يفتح لأحد منهم في الإستبدال من جيد برديء، ولا من عيق بهجين، ولا من أسل بذقى [30] ، ومن غير شيئاً ألزمه بتعويض ما غيره، ولذلك أوقع حزمه الملوك الوسوم على الخيول والعلامات على الأسلحة، ولا بأس بأن يكون قد تأدب بالفروسية، وأخذ بطرف من العمل بالسلاح" [31] .(25/473)
وكعادة كتاب الدواوين يذيل ابن خلف كتاباته بذكر الصفات الحميدة التي يجب أن يتحلى بها القائم بهذه الوظيفة الخطيرة، فيقول: "يجب أن يكون فيه حسن مداراة، وجميل ملقى، وصبر على أمر أخلاق من عامله، فإنه مدفوع إلى سياسة طوائف عدة من أهل الحمية وعزة النفس، وهو محتاج إلى رياضتهم، وحسن السيرة في معاملتهم، ليتمكن من حملهم على الحق، وأن يبني أمره على النزاهة عن الطمع، ليعتذر بذلك عما يرومه من تركهم منازلهم، وليحذر وضع الأعلى، ورفع الناقص وليأخذ بالحزم والأمانة" [32] .
صاحب ديوان الإقطاع:
أما صاحب ديوان الإقطاع، فمرتبته دون صاحب ديوان الجيش، وإن اشتركا في العمل، ويلزمه ما يلزم ذلك من أحوال الأجناد والإحاطة بهاء وأن يكون درباً بعبرة البلاد وحواصلها وأسمائها وأثقالها.
ويشترط فيه أن يكون حاضر الحس في الجمع درباً فيه، بحيث إذا سئل عن جملة مفصلة أجاب عنها في الزمن القريب.
وصاحب الجيش يكتب على يمنة الورقة ليثبت في ديوان النظر على الجيوش المنصورة إن شاء الله تعالى، ويقول صاحب ديوان الإقطاع في الجانب الآخر: في ديوان الإقطاع العمراني إن شاء الله [33] .
الباب الثاني
الرسائل الحربية
هذه الرسائل كانت تحرر بقلم رئيس ديوان الإنشاء، إما عن لسان السلطان أو الملك. أو تكتب تعبيرا عما يقصده رئيس الديوان لنفسه.
وقد ازدهرت وكثرت في عهد السلطان صلاح الدين، الذي أسس الدولة الأيوبية في مصر، ووصفت المعارك الحربية وصفا تفصيليا، في أسلوب يمتاز بالقوة والجزالة فيناسب المعارك وضراوتها، والإنتصارات والفرحة بها.
وهذه الرسائل تعد من الناحية التاريخية وثائق بالغة الأهمية، وتعد من الناحية الإعلامية سلاحا رادعا يساعد على النصر ويؤازره، كما أنه يبث الرعب في نفوس الأعداء ويرهبهم، بل هو من العوامل الهامة في قهرهم والإطاحة بهم.(25/474)
فقد خاضت الجيوش العربية حروبا شرسة ضد الحشود الصليبية، وتم في هذه اللقاءات انتصارات حربية رائعة، توجتها معركة حطين، التي تطهر فيها بيت المقدس من دنس المغتصبين له.
وتقل الرسائل الحربية في الفترة التي تلى حكم السلطان صلاح الدين إلى نهاية الدولة الأيوبية، حيث قامت المنازعات ببن أفراد الأسرة الحاكمة، كما أنه لم يكن لأحد ممن خلف السلطان صلاح الدين في الملك قوة في الشخصية مثلما كان له، وبالاختصار يعد عصر السلطان صلاح الدين العصر الذهبي في حكم هذه الأسرة، وهو أطولها مدة، وأدعمها قوة.
منشور بخصوص كسر السلطان صلاح الدين عساكر حلب وحماة:
هذا المنشور بقلم القاضي الفاضل، يبدأه بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه السابغة هكذا: "لله سبحانه وتعالى عندنا عوائد نعم، قد صارت كالأمر المعروف والواقع المألوف، والضياء اللازم للصباح، والعرف المتضوع مع الرياح، لا تستغرب غرائبها وإن كانت بديعة. ولا تبهر عجائبها وإن كانت وسيعة وشيعة" [34] .
ثم يأتي مباشرة إلى هدفه، وهو أن الحلبيين قد صاروا بنيانا مرصوصا في الخلاف، وعقدا واحدا في واحدا في الانشقاق والانحراف فعندما علم السلطان صلاح الدين بمسير عسكر المواصلة والحلبيين لقصد حماة، وهو وقتذاك بحمص، بعث إليهم في طلب الصلح، يشترط أن يسلم لهم حمص وحماة وبعلبك وجميع الحصون التي فتحها، مقابل اعترافهم بجنوب الشام، فأبوا عليه ذلك تحت ضغط غازي الطامع أن يخلف نور الدين في الشام كله والجزيرة كذلك [35] .
ولذا لم يجد صلاح الدين بدا من السير إلى قرون حماة وهناك عاود الكتابة إليهم دون جدوى، فاستعد حينئذ للحرب، ولقيهم في يوم 19 رمضان سنة 570 هـ = 13 أبريل 1175 م [36] .(25/475)
واستطاع السلطان صلاح الدين أن يحمل على العدو، ويزيلهم عن مواقفهم، ويجتاز معسكرهم، وهم يعدون أمامه صوب حلب، تاركين غنائم كبيرة وآلة وسلاحا عظيما، ودواب كثيرة، ولحق بهم السلطان صلاح الدين في حلب وحاصرها للمرة الثانية، وأشتد على الحلبيين الحصار وطال، فراسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، مضافا إليه المعرة وكفر طاب، وبارين، ولهم ما بأيديهم منها، واشترطوا كذلك أن يكون الدعاء للسلطان الطفل في جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان صلاح الدين وولاية أصحابها، وأن تكون السكة باسمه، وأن ينجد السلطان صلاح الدين بنفسه وجيشه السلطان إسماعيل عسكريا إذا قصده العدو.
فأجابهم صلاح الدين إلى جميع ما طلبوه سياسيا وعسكريا، وأنتظم الصلح، ثم رحل السلطان صلاح الدين عائدا إلى حماة.
والجانب الإعلامي من إذاعة هذا المنشور، هو تفهيم الناس أن السلطان صلاح الدين، لم يقصد في محاربته أحدا من المسلمين ألبتة، بل أراد توحيد كلمتهم بالتفاهم الودي والإتفاق السياسي أولا، حتى إذا أخفق في الإتفاق بالمفاوضة عمد إلى القتال في غير هوادة.
وفيه يصف السلطان صلاح الدين هذا الفتح بأنه كان لفتوحه أميرا، وكان لبعده من سعادات الأيام بشيرا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النابلسي: لمع القوانين ص18.
[2] الدكتور أحمد بدوي، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 334.
[3] صبح الأعشى جـ 1ص135.
[4] السماع: الغناء والسماعات هنا أي أماكن الطرب واللهو، والظاهر أن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان لا يسمح للعاملين بديوان الإنشاء بالتردد على أماكن اللهو والمجون، حفاظا على مهابة هذا الديوان العظيم.
[5] الخطط المقريزية جـ 3ص158.
[6] ابن فضل الله، التعريف ص 89.(25/476)
[7] دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 174.
[8] دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 27.
[9] دكتور نظير حسان سعداوي: جيش مصر ص 29.
[10] القلقشندي: صبح الأعشى جـ 3 ص 488:489.
[11] الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 24.
[12] دكتور حسنين محمد ربيع: النظم المالية في مصر ص 71.
[13] ذكر المقريزي في السلوك جـ1 ق 1 ص 107 أن تسليم أمر الأسطول للملك العادل كان في عام 587هـ=1192م.
[14] الخطط المقريزية جـ3 ص110،111
[15] ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 339.
[16] ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 340.
[17] الخطط المقريزية جـ3 ص 11.
[18] الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112: 115.
[19] الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112: 115.
[20] أبو الحسن علي بن خلف: مواد البيان ق 23.
[21] مواد البيان ق 23.
[22] ابن شيث: معالم الكتابة ص 29.
[23] قوانين الدواوين ص 298.
[24] ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 104: 105.
[25] ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 95: 103.
[26] ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 106: 115.
[27] ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 153: 155.
[28] لمع القوانين ق 17: 18.
[29] النابلسي: لمع القوانين ق 17.
[30] الأسل: تستحب في الفرس الأسالة، وهي دليل الكرم، والذقي: رخو الأذن والأنف، ولعل ذلك دليل على رداءته (اللسان) .
[31] علي بن خلف: مواد البيان ق 26.
[32] علي بن خلف: مواد البيان ق 26.
[33] ابن شيث: معالم الكتابة ص 26: 27.
[34] من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 102.
[35] الدكتور سعداوي: التاريخ الحربي ص 65.
[36] أبو شامة: الروضتين جـ 1 ص 250.(25/477)
نصيحة
للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
رئيس محاكم منطقة عسير
الحمد لله القائل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد القائل من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، والقائل إن الله حرم على النار من قال لا اله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موسى: "يا ربي علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال قل يا موسى لا اله إلا الله، قال يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا اله إلا الله في كفة مالت بهم لا اله إلا الله" ولا يسلم من الشرك إلا من حقق التوحيد وتحقيقه إنما هو بتصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي وذلك يقتضي كمال وما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والتوحيد هو تنزيه الباري تبارك وتعالى.
ومن المعلوم أن معرفة العبد لربه أسمى غايات المعرفة بما فيها من سعادة الدنيا والآخرة حيث يعبد ربه وحده ولا يشرك معه غيره وينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، وقد دل القرآن العظيم المنزل على محمد رحمة للعالمين على انقسام التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(25/478)
أما الأول فهو الاعتقاد الجازم بأن الله وحده هو رب كل شيء وخالق كل شيء ومدبره لا شريك له، وقد انطبعت على الإقرار بهذا القسم جميع المخلوقين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} . وأما الثاني فهو الاعتقاد أنه المعبود المقصود المختص وحده بجميع أنواع العبادات ولا يصرف منها شيء لغيره ولا يشرك معه أحد فيها وهو مضمون لا إله إلا الله وهذا القسم لازم للقسم الأول، وأما الثالث فهو إثبات جميع صفات الكمال والجلال والقدرة لله تبارك وتعالى وحده كما أثبت ذلك لنفسه في كتابه العزيز في قوله تبارك وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأثبته له نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ونفى عنه رسوله كل ما لا يليق بجلاله وهذا مضمون قوله تبارك وتعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
ولما منّ الله تعالى على أهل نجد بدعوة الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب إلى التوحيد مقتفياً بذلك آثار السلف الصالح والرعيل الأول قيّض الله له الأمير محمد بن سعود فبايعه بتاريخ 1157 هـ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس التوحيد الخالص وترك الشرك والبدع والخرافات فانتشرت دعوته ولله الحمد حتى عمّت نجداً واتسعت إلى أطراف البلاد المجاورة، وقام بعده أبناؤه وأحفاده وأبناء الإمام محمد بن سعود وأحفاده الذين قيضهم الله لنصر هذا الدين لإنقاذ نجد والجزيرة العربية من الخرافات والبدع وذلك بفضل الله تبارك وتعالى ثم بفضل قيام الشيخ وأولاده وأحفاده ومناصرة آل سعود لهم. وألف الشيخ رحمه الله الكتب النافعة التي تهدف إلى تحقيق التوحيد وأنتفع بها أهل نجد والبلدان المجاورة لها وسرت سرى الليل ولازالت تتسع.(25/479)
ففي وقت جلالة الملك عبد العزيز الذي وحد الجزيرة وناصر الدعوة أسكنه الله الجنة وجزاه عن الإسلام أحسن الجزاء، وكذا أنجاله من بعده وكافة أسرة آل سعود وقد غبط أعداء الإسلام ما تنعم به المملكة من التمسك بالتوحيد والعقيدة السلفية حيث يقول المستشرق (أستورس الأمريكاني) مؤلف كتاب حاضر العالم الإسلامي إذ يقول بعد أن كتب ما كتبه عن انتقال الدين الإسلامي عن حقائقه النازلة من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم علم المسلمين بها لتغطية البدع والخرافات لها إلى أن قال: (ومن أراد أن ينظر إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم على حقيقته كيوم نزوله فليذهب إلى هضبات نجد ووديانها فيرى هذا الدين غضا طريا كيوم نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم) .
ومنذ أول دعوة الشيخ إلى يومنا هذا وهي تزداد نموا ولله الحمد فلهم على جميع المسلمين السمع والطاعة والدعاء لهم بالعز والتمكين حيث قاموا بنصر دين الله وتحكيم شرعه في أرضه ولا سيما جلالة الملك وولي عهده وقد قيل إن السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لولاة الأمر بقوله "أطيعوا لمن ولاه الله عليكم..".(25/480)
فتح الإسكندرية
للدكتور محمد السيد الوكيل
وكيل كلية الحديث الشريف
بعد أن تم لعمرو فتح حصن بابليون حمد الله بما هو أهله، وشكره - سبحانه - على منه وفضله، وتنفست الصعداء فقد طال حصار الحصن سبعة أشهر دون أن يرى في الأفق ما يبشر بالنصر والمسلمون وإن لم يكونوا في ضائقة تؤدي إلى تذمر، أو تصل إلى حد العنت، ولكنهم كانوا قد ملوا الوقوف، وخشي عمرو أن يدب الوهن في صفوفهم لتحصن عدوهم، وتوفر المئونات لدى خصمهم مما يوفر المناعة لدى المتحصنين، ويعطيهم فرصة أكبر للمقاومة والصمود.
ولعل هذا هو الذي جعل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - يفكر في وسيلة يقتحم بها الحصن، ويقول لعمرو: لقد وهبت نفسي لله، تم يصعد أسوار الحصن المنيعة، ويكبر فيكبر المسلمون من ورائه ويفتح الله عليهم.
وبدا لعمرو أن يزحف إلى الإسكندرية، ولاسيما وقد استتب الأمن في ربوع البلاد التي فتحها، ودان أهلها بالولاء للغزاة الفاتحين، فمنهم من دخل طوعاً في الإسلام، ومنهم من صالح على الجزية راضيا مقتنعاً، ولكن عمراً لا يستطيع الزحف على الإسكندرية مهما أغراه النصر الذي أحرزه في بابليون، ومهما شجعه استسلام القبط ورضاهم عما أنجز من الفتوحات حتى يستأذن الخليفة ويأذن له.
فأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يبشره بفتح الحصن، ويستأذنه في الزحف على الإسكندرية [1] .
وانتظر عمرو جواب الخليفة وأذنه وهو مقيم في الفسطاط، وعلم عمرو بما كان يدور على ألسنة أهل مصر من استصغار شأن العرب، واحتقار ملابسهم ومعاشهم، واستغرابهم من انتصارهم عليهم، فخشي عمرو أن يجر ذلك إلى الإستهانة بالمسلمين، وتشجيع عدوهم على الدخول معهم في معارك لا يعلم نتائجه إلا الله – سبحانه - وفكر عمرو، كيف يرد المصريين عن هذا التفكير؟ وكيف يقنعهم بجدارة الفاتحين واستحقاقهم لما أحرزوا من نصر؟؟(25/481)
وعزم عمرو على أن يرى قبط مصر ما يجعلهم يرهبون المسلمون، ويحذرون الدخول معهم في صراع جديد، فأمر بجزر فذبحت، وطبخت بالماء والملح، ودعا أمراء الجند فحضروا ومعهم الجنود، وأذن لأهل مصر بالدخول، وقدم الطعام للمسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، ونهشوا اللحم واحتسوا المرق، وهم متدثرون بالعباء، وليس عليهم سلاح ورأى ذلك كله أهل مصر فازدادوا طمعاً وجرأةً بالمسلمين.
وفي اليوم التالي دعا أمراء الجنود وأصحابهم، وأمرهم أن يحضروا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم ففعلوا، وحضر الأمراء والجنود في هيئة المصريين، وأذن لأهل مصر بالدخول، فلما دخلوا رأوا شيئاً غير الذي رأوه بالأمس، لقد رأوا بالأمس بدواً متلفحين بالعباء، ينهشون اللحم بأفواههم، تتطاير قطعه على من بجوارهم، واليوم رأوا قوماً كأنهم ولدوا في مصر، وتربوا على موائدها، فهذه الأطعمة مصرية لا يعرفها العرب، والقوام يقومون عليهم بألوان من الطعام فيتناولونه بطريقة أهل مصر، فخرج المصريون من مجلس عمرو وقد ارتابوا في أمرهم، وقال بعضهم لبعضهم: كدنا.
وأراد عمرو أن يرى المصريين قوته الحربية، فبعث إلى الأمراء أن يلبسوا السلاح وأن يستعدوا للعرض العسكري، فلبسوا وتأهبوا، وأذن للمصريين بالحضور، فحضروا، وأمر بالاستعراض فسار الأمراء على رؤوس الجند وهم جميعاً بالسلاح والعتاد [2] .
ورأى المصريون ذلك فانبهروا، إِنهم أمس الأول رأوا قوما يطمع فيهم من يراهم فهم من البداوة والسذاجة بحيث لا يرجى منهم نفع ولا ضر، وبالأمس رأوا قوما على جانب عظيم من الحضارة والذوق وحسن المصانعة حتى ليظن من يراهم أنه في قوم لهم ماض عريق في الحضارة والرقي، واليوم يرون جنوداً شاكي السلاح يرى فيهم من يراهم أسوداً كواسر لا تهاب الموت، ولا تخش المنون والقوم هم القوم لم يتغيروا ولم يستبدل بهم.(25/482)
ورأى القائد المسلم الداهية المحنك في أعين المصريين حيرة وعجباً فقال: "إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أَريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها مارأَيتم ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني. وراجع إلى عيش اليوم الأول".
وبهذا الدرس العملي رأى المصريون العرب على حقيقتهم، فهم ليسوا العرب السذج الذين كانوا يعيشون على فتات الموائد قبل الإسلام، بل أصبحوا شيئا آخر حيث صاغهم الإسلام صياغة جديدة ففهموا الحياة على الشكل الذي ينبغي أن تفهم عليه، وعرفوا مكانتهم في العالم، فهم الأساتذة الموجهون، والساسة المدبرون، والقواد الفاتحون.
لقد أعزهم الله بالإسلام فلن يذلوا وهم متمسكون به أبدا، وسودهم على الأمم فكانوا خيرها بالعمل لنشر الدعوة، أدرك المسلمون هذه الحقائق وليسوا مستعدين لتركها والانتكاسة إلى الوراء مرة أخرى.
وضرب عمرو مثلا من الحياة التي يلمسها المصريون فكأنه يقول لهم: إن الذين تذوقوا طيب الحياة في مصر، وعاشوا أرغد العيش فيها، ليسوا مستعدين للعودة إلى حياة البداوة والتقشف بعد أن لمسوا الفرق بين الحياتين.
عندئذ نظر المصريون بعضهم إلى بعض وقالوا في دهشة وعجب: لقد رمتكم العرب برجلهم [3] .
وبلغ أمير المؤمنين - عمر – ما صنع عمرو مع قبط مصر، فقال لجلسائه: "والله أن حربه للينة ما لها سطوة ولا ثورة كثورات الحروب من غيره، إن عمرا لعضن" [4] .
وجاء رد الخليفة على عمرو يأمره بالزحف على الإسكندرية، فاستعد عمرو واستخلف على مصر خارجة بن حذافة بن غانم.(25/483)
وعلم الروم القاطنون بين مصر والإسكندرية بتهيؤ المسلمين للزحف نحو الإسكندرية فأتمروا فيما بينهم، وعزموا على صد عمرو وجيشه عن وجهته وقدمت عليهم مراكب كثيرة من بلاد الروم تحمل الجنود والسلاح فقويت بذلك شوكتهم، وعظم أمرهم، وصاروا في منعة من قومهم.
وخرج عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها إلى الإسكندرية، واستعان بجماعة من رؤساء القبط في إصلاح الطرق، وإقامة الجسور والأسواق ليسهل على المسلمين السير في هذا الطريق.
واختار ابن العاص الضفة الغربية للنيل، فعبر إليها وهي أهون في السير لقلة العوائق حيث تكثر في الدلتا فروع النيل الكثيرة التي تحول بين الجيش وبين غايته وتعوق مسيرته إلى الإسكندرية.
وعلم عمرو بأن الطريق إلى الإسكندرية ليس سهلا فحصون الروم منتشرة على طول الطريق، وجيوشهم مبثوثة في كل مكان، في نقيوس وسلطيس، وفي كريون.
وكان حصن نقيوس من أمنع حصونهم وأشدها رجالا، ورأى عمرو أنه إن تمكن من التغلب على نقيوس فسيفت ذلك في عضد الروم ويفل حدهم، ونقيوس تقع على الضفة الشرقية لفرع رشيد بالقرب من منوف، وبلغ الروم أن المسلمين يقصدون نقيوس فعزموا على ملاقاتهم قبل أن يعبروا إليها، وتصدى جنود الروم لجيش المسلمين عند (طرنوط) ودارت هناك معركة استبسل فيها الروم، ولكنه سرعان ما انهزموا وولوا مدبرين [5] .
معركة نقيوس.
وفكر عمرو في أمره كثيرا، ماذا يفعل؟ هل يترك نقيوس بحاميتها القوية وحصنها المنيع ويستمر في سيره نحو الإسكندرية؟ ولكن ما يمنع الروم إن هو فعل ذلك أن ينقضوا على مؤخرة جيشه ويعكروا عليه صفوه، ويفسدوا خطته؟
وبعد هذا التفكير عزم على أن يعبر النهر، ويهاجم الحصن ومن فيه، وفي الوقت نفسه عزم الروم على المقاومة والدفاع عن نقيوس فخرج قائد الروم (دومنتيانوس) بجنوده وركبوا السفن المعدة للدفاع عن المدينة استعدادا لملاقاة المسلمين.(25/484)
كان المسلمون يعتقدون أن الروم لن يخرجوا إليهم، وسيدافعون عن نقيوس من داخل حصنها، ولكنهم فوجئوا بجموع الروم في السفن، فكانت الفرصة التي ينتظرها عمرو دائما، فأمر جنوده أن ينضحوهم بالنبل حتى ألجئوهم إلى ركوب السفن بعد أن تركوها ليواجهوا المسلمين، وظل المسلمون يرمونهم حتى اضطربت صفوفهم، ووهنت عزائمهم وظنوا أن المسلمين سيقتحمون عليهم، فسلموا أنفسهم، وفر القائد بسفينته إلى الإسكندرية لعله يجد فيها ما يمنعه من عدوه، واستولى المسلمون على نقيوس [6] .
وبعث عمرو شريك بن سمى مقدمة لجيشه ليتعقب الفارين، فالتقوا به، واشتبكوا معه، وألجئوه إلى مكان مرتفع من الأرض، فاعتصم به شريكا وأحاطت به الروم من كل جانب، فلما رأى شريك إحاطة الروم به أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفي - وكان له فرس يقال له أشقر صدف، وكان لا يجاري سرعة - أن يقتحم صفوف الروم وأن يذهب إلى عمرو فيخبره بموقف المسلمين وإحاطة العدو بهم.
وركب أبو ناعمة فرسه الأشقر، وأنحط على الروم كالسيل الجارف، وحاولوا صده فلم يستطيعوا، وأخبر مالك بن ناعمة عمرا، فأسرع لنجدة شريك، ولما سمع الروم بقدوم عمرو ولوا مدبرين [7] .وسمي المكان الذي اعتصم به شريك بعد ذلك باسمه وقيل له: كوم شريك، وهو الآن قرية من قرى مركز حماده.
وأنقذ عمرو شريكا وسار بقواته كلها نحو الإسكندرية، وفي الطريق علم بأن الروم قد أعدوا للقائه عند سلطيس، وسلطيس قرية كبيرة تقع في منتصف الطريق بين كوم شريك وبين كريون، وعلى بعد تسعة كيلو مترات من مدينة دمنهور عاصمة البحيرة، واتجه عمرو ليلقى عدوه عند سلطيس، وهناك دارت معركة عنيفة انتهت بهزيمة الروم، وفرارهم إلى كريون.
معركة كريون:
كريون مدينة قديمة، وصفها ابن حوقل بأنها مدينة عظيمة وجميلة، تقع على ضفتي ترعة الإسكندرية، وكان التجار يركبون منها القوارب إلى الفسطاط صيفا إذا أرتفع ماء النيل.(25/485)
كانت مدينة كريون آخر حصن للروم من سلسلة الحصون التي كانت على طول الطريق بين بابليون والإسكندرية، وكان لها شأن عظيم في تجارة القمح، وخطر كبير في الحرب حيث كانت تشرف على الترعة التي تعتمد عليها الإسكندرية في جلب الطعام واستعمال مائها للشرب، ولكن حصونها لم تكن في منعة حصن بابليون أو نقيوس، وكان لكريون حاكم تحت إمرته قوة عسكرية من الفرسان والمشاة [8] .
كانت هزيمة الروم في سلطيس نذيرا يهدد بسقوط الإسكندرية، وكان سقوط الإسكندرية معناه زوال ملك الروم ونهاية أمرهم، من أجل هذا استنفر تيودور قائد الروم الأعظم في مصر قواته، وانضم إليه الشاردون من سلطيس فكانوا قوة لا ترام، وقد اطمأن تيودور إلى نتيجة المعركة لما رأى من قوة حصن كريون، وكان الروم قد رمموه وأعادوا ما انهدم منه، كما كانت ترعة الثعبان المارة غربي الحصن تعتبر تحصينا طبيعيا للمدينة، وهناك ما يزيد من قوة كريون، ويجعلها قادرة على المواجهة والصمود ذلك أن الإمدادات تصل إليها بسهولة من الإسكندرية، وتدفقت قوات الروم من كل جهة لتعزز قوات القائد تيودور فأقبلوا من سخا ومن خيس وبلهيب لتزيد من بأس قوات الروم، وتمكنها من مواجهة الفاتحين [9] .
التقى المسلمون والروم في كريون، ودارت المعركة قوية عنيفة بصورة لم تعرف في المعارك السابقة، واستمر القتال إلى الليل، ولم يعقد النصر لأحد الفريقين، ومع تنفس الصبح في اليوم التالي بدأت المعارك أشد منها بالأمس، وزاد في ضراوتها شعور الروم بانهيار دولتهم إذا هم انهزموا وخلص المسلمون إلى الإسكندرية، وزاد ثبات الروم من شعور المسلمين بوجوب مضاعفة همتهم وشد عزيمتهم، ولم تنته المعركة حتى جن الليل وحجز ظلامه بين المتقاتلين.(25/486)
ودامت المعركة على هذا النحو بضعة عشر يوما [10] ، تتراوح فيه المعارك بين الفريقين دون أن يتحقق نصر لأحدهما ينتهي به القتال، وأغلب الظن أن الروم قد أظهروا براعة وتفانيا في كريون لم يعرف عنهم من قبل، وقد داخل الخوف قلوب المسلمين من تلك النتيجة المجهولة طوال تلك الفترة التي دارت فيها المعركة حتى أضطر المسلمون لأن يصلوا صلاة الخوف، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص صلى يومئذ صلاة الخوف [11] .
على أن ضراوة المعركة وشراستها لم توهن المسلمين، ولم تقلل من حماسهم، بل قد زادتهم قوة على قوتهم وحماسا فوق حماسهم حتى روى المؤرخون أن عمرو بن العاص كان قد سلم اللواء لوردان مولاه، وجعل على المقدمة ابنه عبد الله، وقد أصيب عبد الله ابن عمرو بن العاص يومئذ بإصابات بليغة حتى أخذ دمه يسيل من أنحاء جسمه، فلما اشتدت به جراحه قال: ياوردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروح.
قال وردان، وهو يتقدم: وقد هيجه الشوق إلى الجنة، فرأى أنها لا تنال إلا بالتقدم وكأنه تمثل قول الشاعر:
لنفسي حياة مثل أن أتقدم
تأخرت استبق الحياة فلم أجد
لهذا قال لعبد الله: الروح تريد؟ الروح أمامك، وليس خلفك [12] .
وهنا هزت هذه الكلمات قلب عبد الله، فاندفع يقاتل عدو الله غير عابئ بما ينزف منه من دماء، وما يلم به من آلام، إن ريح الجنة قد هبت نسماتها، وإن حورها قد تهيئن لإستقبال الشهداء، وولدانها قد استعدوا لاستقبال النزلاء فهل هناك روح غير هذا؟ إنه الروح الحقيقي الذي أخبر عنه القرآن الكريم {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة الآية: 88،89)
وعلم عمرو بما أصاب ولده من الجراح فأرسل إليه رسولا يسأله عن جراحه، فقال عبد الله:
رويدك تحمدي أو تستريحي
أقول لها إذا جشأت وجاشت(25/487)
فرجع الرسول إلى عمرو ويحمل له إجابة ابنه، فسر عمرو وقال: هو ابني حقاً [13] .
وشد المسلمون على الروم شدة أزالتهم عن مواقعهم، وحطمت معنوياتهما، وقضت على ما تبقى لديهم من الصبر، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة [14] . وفر من نجى منهم من الموت إلى الإسكندرية يلتمس في حصونها النجاة من سيوف المسلمين.
فتح الإسكندرية:
لجأ المنهزمون في كريون إلى الإسكندرية، المعقل الأخير في مصر لدولة الروم وكانت حصون الإسكندرية لا ترام، حصن دون حصن، وكانت الإسكندرية نفسها روعة في الجمال، وآية من آيات الله في هذه الدنيا، فيها من القصور والمسلات، والكنائس والمعابد والعمائر والقلاع والمنارات والتماثيل ما يأخذ بلب كل من يراها، ولا يزيد الناظر إليها إلا سحراً وعجباً.
لقد كانت الإسكندرية في ذلك العهد أجمل مدائن العالم وأبهاها، ولم يكن هناك من عواصم العالم ما يضارعها سحرا وفتنة، فليست دمشق بغوطتها وبساتينها وأنهارها إلا ضاحية من ضواحيها، وليست القدس وما حوت من مقدسات إلا معبدا من معابدها، وما إنطاكية بجبالها الشواهق، وبساتينها الفيحاء ومعابدها المقدسة إلا حيا من أحيائها، بل ما المدائن وأبيض كسرى يختال في ربوعها إلا نفحة من نفحات سحرها وجمالها.
رأى المسلمون الفاتحون ذلك كله بأعينهم حين أشرفوا على أسوارها، فاستولى عليهم العجب وأخذتهم الدهشة، وشدهم الشوق إلى اقتحام تلك الأسوار الشاهقة، ومباغتة هذه الحصون المنيعة.
أجال عمرو نظره في أطراف المدينة، ليضع خطته على أساس سليم، وليقدر للأمر ما يحتاج إليه من تدبير فوجد المدينة محصنة تحصينا طبيعيا يزيدها مناعة وصموداً، فالبحر المتوسط يحميها من الشمال، وبحيرة مريوط تقيها هجمات الغازين من الجنوب، وترعة الثعبان تلتف حولها من الغرب، وحصونها الشامخة تحيطها من الشرق.(25/488)
ولم تكن هذه التحصينات الطبيعية لتحول بين عمرو وبين ما عزم عليه من فتح الإسكندرية، فقد كان يرى أن انتصارات المسلمين المتوالية أكبر مشجع للمسلمين على اقتحام تلك الموانع، وتذليل هذه العقبات، كما كان يحس بفراسته أن هزيمة الروم في كريون لا بد أن تكون قد تركت في قلوب المحاربين من الهلع والفزع ما يجعلهم ينهارون لأول وهلة من الهجوم الذي يشنه المسلمون، لهذا كله أمر عمرو بالهجوم على المدينة، واقتحام أسوارها المكينة.
ولكن الروم كانوا قد أعدوا للأمر عدته، وكأنهم كانوا يتوقعون هجوم المسلمين على مواقعهم فنصبوا المجانيق فوق الأسوار، ولم يكد المسلمون يقتربون منها حتى سقط عليهم وابل من الحجارة الضخمة التي ألقتها المجانيق على صفوف المهاجمين، فأوقعت فيهم إصابات خطيرة وعلى الفور أمر القائد بالتراجع إلى ما وراء مرمى المجانيق.
وتراجع المسلمون إلى جهة الشرق، وهناك ضربوا معسكرهم ما بين حلوة إلى قصر فاروس [15] ، وكان هذا القصر قلعة بناها الفرس عندما حاصروا الإسكندرية، وأخذ رؤساء القبط الذين صحبوا المسلمين يمدونهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلوفة [16] .
وأقام عمرو في هذا المكان شهرين [17] ، راجيا أن يخرج له الروم في معركة مكشوفة، حتى يستطيع منازلتهم والإيقاع بهم، ولكن أحدا لم يخرج إليه، بل لم يجرؤ جند الروم على مغادرة حصونهم.
وانتقل المسلمون من مكانهم الذي اختاروه، وضربوا فيه معسكرهم إلى مكان آخر يسمى المقس حيث لا جدوى من المقام بمكان لا يستطيع المسلمون فيه الإلتقاء بعدوهم والدخول معه في معركة فاصلة، وكان هناك أمر آخر ينبغي على القائد مراعاته ذلكم هو ما يصيب الجنود من الملل والكسل حين يطول بهم الوقوف دون أن يدخلوا في معركة، أو ينشطوا في عمل جاد.(25/489)
لهذا وغيره فكر عمرو في التحول من مكانه الأول إلى المكان الجديد، وهو بهذه الحركة يضرب عصفورين بحجر واحد كما يقولون، فهو من جهة ينشط جنوده ويبعث في نفوسهم الأمل في ملاقاة عدو تأهبوا لقتاله، ومن جهة أخرى ينشر الرعب في القرى الواقعة بين قصر فاروس والمقس (أم دنين) حتى لا يفكروا في التمرد على الجيش الفاتح أو في مساعدة جيش الروم وإمداده بما يحتاج إليه.
وأمام حصون الإسكندرية الرابضة شرقيها ترك عمرو حامية ليظل الحصار قائما ولئلا يظن الروم أن المسلمين عجزوا عن فتح الإسكندرية، وردوا عنها خائبين.
وتوجه عمرو ببقية الجيش نحو الشمال يريد المقس، وبينما هو يسير خرجت عليه من ناحية البحيرة كتيبة من الخيالة، واتخذت الحصن لها ستارا، فأوقعت بالمسلمين على غرة فقتلت منهم أثنى عشر رجلا عند كنيسة الذهب [18] .
واحتاط عمرو لأمثال تلك المباغتة حتى لا يلدغ مرتين، ومشى بالجيش حتى نزل عند المقس، ومن هناك قسم الجيش إلى كتائب، وجعل على كل كتيبة رجلاً من رجاله الشجعان، وبعث بهم إلى جهات مصر المختلفة ليفتحوها وتصير الأرض كلها أرض خراج.
فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى عين شمس فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط، ووجه خارجة بن حذافة العدوي إلى الفيوم والأشمونين والبشرودات وقرى الصعيد ففعل مثل ذلك، ووجه عمير بن وهب الجمحي إلى تينس ودمياط وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير ففعل مثل ذلك، ووجه عقبة بن عامر الجهني، ويقال: وردان مولاه إلى سائر قرى أسفل الأرض ففعل مثل ذلك، فاستجمع عمرو
ابن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج [19] .(25/490)
وبذلك دانت أرض مصر كلها للمسلمين، وخضعت لسلطانهم، واطمأن أهل مصر للفاتحين الجدد وإن كانوا لا يزالون على حذرهم وحيطتهم، فكم جربوا قبلهم من الغزاة، ولم يجدوا عند أحد منهم ما يشجعهم على التفاؤل أو يشير إلى أنهم سيمنحون أصحاب البلاد حقهم في حكم أنفسهم والمشاركة في خيرات بلادهم، فقد غزاهم الهكسوس في القرن الثامن عشر قبل الميلاد واستأثروا بحكم البلاد وخيراتها وسخروا المصريين لخدمتهم، وفي عام 332 قبل الميلاد غزاهم البطالسة (الإغريق) بقيادة الإسكندر المكدوني فقضى على الفراعنة، وأسس الإسكندرية واتخذها القائد بطليموس عاصمة، وانفرد بحكم البلاد هو ومعاونوه من الغزاة ونسوا أن للبلاد سكانا أصليين ينبغي أن يؤخذ رأيهم في حكم بلادهم، ثم جاء الرومان، وكرروا المأساة نفسها، وهاهم أولاء يسيمون الشعب المصري صاحب البلاد ألواناً شتى من الاضطهاد وتغلب الفرس على الروم واحتلوا مصر عشر سنوات فلم يكونوا خيراً ممن سبقهم، ثم عاد الرومان فساروا سيرتهم الأولى.
فهل يكون العرب الفاتحون خيراً من هؤلاء جميعا، لم يخطر ببال المصريين وقد مروا بهذه التجارب كلها أن يكون هناك غزاة خيرا من غزاة أو محتلون أفضل من محتلين، ومن أين تأتي تلك الخيرية؟ وما الذي يفضل هؤلاء على أولئك؟ أليسوا جميعا غزاة يدفعهم إلى الغزو حب التسلط والغلبة؟ أوليسوا جميعا محتلين لم يخرجهم من بلادهم إلى الطمع فيما وراء الإحتلال من تسخير أصحاب البلاد التي احتلوها ليكونوا لهم عبيدا، واستغلال ثروات البلاد لمآربهم الشخصية ومطامعهم الذاتية؟.
لا فرق إذاً بين عربي وعجمي فكلهم يسيرون في اتجاه واحد، وسائلهم واحدة الحرب والدمار، وغايتهم واحدة التسلط والاستغلال، ولا أمل في طائفة منهم يحقق للشعوب المغلوبة حريتها، ويثبت لها ذاتيتها.(25/491)
على أي حال كان على الشعب المغلوب على أمره أن يصبر حتى تنفرج الأزمة وتنكشف الغمة وتنتهي المعركة، وما أشق ساعات الانتظار على النفس، وما أطول ما تمضي دقائقها بطيئة متعثرة، وما أكثر الهواجس التي تلم بتفكير الإنسان في لحظات الانتظار.
وكانت ساعات حرجة مرت بالشعب البائس الذي طالما استعبدته الشعوب المتغلبة، ولا يدري أحد ماذا كان يدور برؤوس الناس هناك، هل كانوا يتمنون انتصار الروم ولو أذاقوهم سوء العذاب إبقاء على دينهم، وعصبية لعقيدتهم؟ ولكن هل ترك لهم الروم دينهم حسبما آمنوا به؟ ألم يجبروهم على التخلي عن مذهبهم ليدخلوا في مذهب الملك الغالب؟ فلماذا إذاً يتمنون انتصار الروم؟
هل تظن أنهم كانوا ينتظرون انتصار المسلمين ليتخلصوا من ظلم الروم ولو حين؟ ولكن من يضمن لهم أن المسلمين سيكونون خيرا من غيرهم؟ فلا داعي كذلك لتمني انتصار المسلمين.
لهذا كله وقف قبط مصر من المعركة موقف الحذر المتربص ينتظر، من سيكون سيد الموقف وعلى من تدور الدائرة، ورأى أن من الخير له ألا يظهر تأييده لأحد الفريقين فقد تأتي الرياح بما لا يشتهى السفن، وحينئذ لا ينفع الندم.
استتب الأمر للمسلمين في الوجهين القبلي (مصر العليا) والبحري (مصر السفلى) كما استقر لهم في مصر الوسطى (الفسطاط) ، وفكر عمرو في العودة إلى الإسكندرية ليتمم فتحها، وفي الوقت نفسه فكر الروم في تزويد المدينة بكل ما تحتاج إليه لتستطيع التصدي لهجمات المسلمين المنتظرة، فكانت المراكب تفد إِلى الإسكندرية من قبل ملك الروم دون أن يمنعها مانع فقد كان البحر المتوسط يومئذ خاضعاً لسلطان الروم دون منافس حتى أطلق عليه مؤرخو تلك الفترة بحر الروم، وكانت تلك المراكب تحمل الجنود والعتاد، والمؤن والزاد، حتى أصبحت الإسكندرية وكأنها مستودع للرجال والتموين، وأصبح أهلها في منعة من عدوهم، فزادهم ذلك تشبثا بالدفاع عنها والتضحية لإنقاذها.(25/492)
وزاد الروم حماسا في الدفاع عن الإسكندرية أن هرقل نفسه قد عزم على الدفاع عنها، وأمر بإعداد ما يلزم ليسير إلى الإسكندرية ويباشر القتال بنفسه، كما أمر بألا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ [20] .
ووقف المسلمون أمام الإسكندرية يتحينون الفرصة لفتحها، ودارت أثناء ذلك مناوشات بين الفريقين لم تصل إلى درجة الحرب، ولا نستطيع أن نسميها معركة، فقد روى ابن عبد الحكم أن فريقا من الروم خرج من باب الحصن، وحمل على المسلمين، فقتل رجلاً من مهرة، واحتز رأسه، فغضب المهريون لذلك، وقالوا لا ندفنه إلا برأسه.
فقال عمرو بن العاص: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا، فاقتلوا منهم رجلا، ثم ارموا برأسه، يرمونكم برأس صاحبكم، فلما خرج
الروم للقتال، قتل المسلمون بطريقا من بطارقتهم، واحتزوا رأسه، فرموا به إلى الروم فرمت الروم برأس المهري إليهم.
فقال عمرو: دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم [21] .
وظل الحال على ذلك بين المسلمين وحامية الإسكندرية، فكلما خرجت طائفة من الروم تصدى لها المسلمون، واشتبكوا معها حتى يردوها على أعقابها، ويجبروها على اللجوء إلى الحصون تمتنع بهاء، ويبدو أن الروم قد ضاقت صدورهم بهذا الحصار، وصمموا على فض هذا الموقف مهما كان الثمن ومهما كانت النتائج، وقد زادهم ثقة بأنفسهم، وأقنعهم بقدرتهم على التفوق على المسلمين تلك الإمدادات الهائلة التي كانت تتدفق على الإسكندرية من البحر، والتي أمر هرقل بجمعها ليسير بها إلى الإسكندرية.(25/493)
وقد بلغت قوات الروم خمسين ألف مقاتل [22] مدججين بالسلاح، مستعدين للقتال وقد وقفوا ينتظرون قدوم هرقل ليقودهم في تلك المعركة الفاصلة ولكن الله - عز وجل - كان في عون المسلمين، وقد سبقت مشيئته – سبحانه - بنصرهم، فهم جنوده الذين يحملون دعوته، وهم رسل الهداية للناس المدافعون عن دينه، وما كان الله ليتخلى عن عباده، ولم يكن - جل وعلا - ليتركهم لأعدائه.
وبينما الروم في انتظار هرقل بفارغ الصبر لينهي هذا الحصار الذي ضاقت به نفوسهم وبينما هم ينظرون إلى الأفق البعيد من جهة الشمال لعلهم يبصرون ما يدل على قرب وصول الملك إذ رأوا رسولا قادما عليهم، فخرجوا به، وظنوا أنه مقدمة الملك الذي سبقه ليبشرهم بقرب وصوله، ويطمئنهم على النتيجة بما جلبه معه الملك مما يضمن لهم النصر الذي غاب عنهم في كل المعارك السابقة، ولم يكد جند الروم يلتفون حول الرسول ليتعرفوا منه أخبار هرقل حتى فاجأهم بنبأ وقع عليهم وقوع الصاعقة، ولم يجدوا عنده ما يشجعهم على الإستمرار في المقاومة والإصرار على الدفاع عن الإسكندرية.
لم يكن هذا الرسول إلا ناعيا نعى إليهم ملكهم الذي كانوا يرجون النصر على يديه، فما عساهم يفعلون؟ لقد سقط في أيديهم، وانقطع الأمل الذي كانوا به يتعلقون، وخارت قوى القوم فلم يستطيعوا صبراً ولا نصراً، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا.
وأراد المقوقس أن يعقد للإسكندرية صلحا كالذي عقده لأهل بابليون، ولعله أراد أن يظفر بذلك الصلح قبل أن يبلغ المسلمين نبأ وفاة هرقل، ولكن عمرا أحس بأن هذا العرض من المقوقس لا يكون إلا نتيجة تخاذل وشعور بالضعف، فرفض عمرو الصلح، وحينئذ حاول المقوقس أن يخدع المسلمين، فأمر النساء بلبس السلاح والوقوف على أسوار المدينة مقبلات بوجوههن إلى الداخل، وأقام الرجال في السلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين، يريد بذلك أن يرهب المسلمين.(25/494)
ولعل عمراً أدرك بفراسته العسكرية أن من تكون له هذه القوة لا يطلب الصلح، ولعله كشف الخديعة بهذا الحس العبقري، ولو أضفنا إلى ذلك إدراك المسلمين دائما للحقيقة الني لا تغرب عن بالهم وهي أنهم لا يغلبون بقوة ولا كثرة، ولا ينتصرون بعدد ولا عدد، وإنما يغلبون عدوهم بنصر الله لهم مهما قل عددهم وكثر عدوهم.
يمكننا أن نقوله إن عمرا رفض الصلح مع المقوقس في الوقت الذي كان المسلمون في حاجة ملحة إليه لتأكده أن الإسكندرية أصبحت في حالة لا يمكنها معها المقاومة والصمود، لهذا كتب إلى المقوقس "إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد ليقنا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان"فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم، أخرجوا من دار مملكته حنى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان، فأغلظوا له القول، وأبوا إلا المحاربة [23] .
كان الروم يعتقدون أن ما لديهم من السلاح والرجال والتموين كاف لصد المسلمين، بل كانوا يعتقدون أكثر من ذلك، كان يعتقدون أن القسطنطينية ستظل تمدهم بما يلزمهم من الذخيرة والرجال والطعام وهم لا يريدون أكثر من ذلك للتصدي لزحف المسلمين وإيقاف تحركهم نحو المدينة لهذا سفهوا رأي المقوقس، وأغلظوا له القول، وأبو إلا المحاربة.
ولكن سرعان ما خاب أملهم، وفشلت خطتهم، حيث انقطعت الإمدادات، وكاد ما بأيديهم أن ينفذ، وراحوا يستمدون العاصمة دون جدوى، فقد كانت العاصمة في حاجة لمن يمدها ليخلصها من الفوضى التي أصابتها بعد موت هرقل، بل كان القصر نفسه في مسيس الحاجة إلى من ينقذه من الإضطراب المستعر في داخله، والدسائس التي كانت تحاك تحت سقفه.(25/495)
أحست حامية الإسكندرية بكل ذلك، وأدركت أنها أصبحت في موقف حرج لا تحسد عليه، ولعلها ندمت على خطئها حين رفضت ما عرض المقوقس عليها من أمر الصلح، ولا شك أنها أيقنت بما سيحل بها من الدمار والخراب نتيجة لإنقطاع المدد، وقلة الطعام، وتفش الأوجاع والآلام في الوقت الذي ينعم فيه المسلمون بحرية الحركة، وتوفر الميرة، وعظيم الثقة في نصر الله.
كان ذلك كله يدور حول الإسكندرية في الوقت الذي كان الخليفة في المدينة ينتظر أخبار المعركة ويتلهف إلى استماع أنبائها، ولما لم يصل إليه شيء عن ذلك، واستبطأ الأمر، كتب إلى عمرو:
"أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلون منذ سنتين وما ذاك إلا أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، فإن الله - تبارك وتعالى - لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم.
فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحثهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم" [24] .
إن كتاب الخليفة يدل دلالة صادقة على مدى ضيقه بتأخر النصر، إن هؤلاء الجنود هم هم الذين فتح الله على أيديهم أمنع الحصون وأقوى المعاقل، ودعم به الجهاد وقواه، وهم هم الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وخرجوا من بلادهم لا يبتغون إلا وجه الله، وتركوا نسائهم وعيالهم لينصروا دين الله، فما بال النصر يتأخر عليهم هكذا؟ وما بال الإسكندرية تستعصي عليهم فلم يستطيعوا فتحها.(25/496)
وحق للخليفة أن يستبطئ النصر فقد مكث المسلمون أمام الإسكندرية أشهراً [25] ، دون أن يستطيعوا اقتحامها، وقد طالت هذه الأشهر حتى بلغت عند البلاذري ثلاثة أشهر [26] وأما ابن عبد الحكم فقد ذكر أن الحصار استمر أربعة عشر شهرا: خمسة أشهر قبل موت هرقل وتسعة بعده [27] وبلغت مدة الحصار عند بتلر أربعة أشهر وأياما، وذلك لأنه ذكر أن الحصار بدأ في آخر شهر يونيو سنة 641 م وأن المدينة فتحت في 8 نوفمبر سنة 641 م ويذكر القضاعي أن حصارها دام ستة أشهر [28] .
والذي يظهر أن رأي بتلر هو الصواب في تلك المسألة، ذلك لأن أمير المؤمنين كتب في كتابه إلى عمرو "إنكم تقاتلون منذ سنتين"فإذا لاحظنا أن عمرو بن العاص وصل إلى العريش في ديسمبر سنة 639 م كما ذكرت سالفا وأن الإسكندرية فتحت في نوفمبر سنة 641 م كانت مدة الحصار تلك الأشهر الأربعة التي ذكرها بتلر مضافا إليها ما زاد من الأيام.
وكان من حق الخليفة أن يستبطئ الفتح لأن جيوش المسلمين قد فتحت بلاد الشام كلها في سنتين، فكيف لا يستطيعون فتح مصر في سنتين، ويظهر لي أن الخليفة قد استبطأ النصر في تلك المدة التي ذكرها، ولم يكن استبطاؤه لفتح الإسكندرية وحدها ولذا قال لأصحابه يوماً وهو جالس بينهم: "ما أبطأوا في فتحها إلا لما أحدثوا" [29] .
تناول عمرو بن العاص كتاب الخليفة، وأطال التفكير فيه، وظل يفكر حتى استلقى على ظهره، ثم جلس فقال: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله، ثم دعا بعبادة بن الصامت فعقد له اللواء وأمره على الناس.
ويبدو أن هذا التفكير من عمرو- رضي الله عنه - قد صادف موافقة المشورة من مسلمة بن مخلد فإن ابن الحكم يروي أن عمراً أستشار مسلمة بن مخلد، وقال له: أشر علي في قتال هؤلاء.(25/497)
فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك.
قال عمرو: ومن ذلك؟
قال مسلمة: عبادة بن الصامت.
فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه، وعقد له، وولاه قتال الروم [30] .
وجمع عمرو المسلمين وقرأ عليهم كتاب الخليفة ودعا الأربعة الذين أخبره عمر أنهم مقام أربعة آلاف، فقدمهم أمام الناس، وأمر الجميع بأن يتطهروا، ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله- عز وجل- ويسألوه النصر، ففعلوا [31] .
وقاد عبادة المسلمين، ودار قتال عنيف بين الطائفتين انتهى بفتح الإسكندرية وهزيمة الروم في اليوم الذي تولى فيه عبادة أمر القتال.
لا شك أن هزيمة الروم في الإسكندرية كانت آية من آيات الله أظهرها على يد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلا فكيف يستطيع المسلمون اقتحام تلك الأسوار، وتخطي هذه الحصون، والتغلب على المتحصنين؟ إن المجانيق لا تنال منها أي منال، وإن ما يملك المسلمون من السهام والنبال لا تغني عن أصحابها شيئا أمام تلك الرواسي الشامخات، ولقد شاء الله – تبارك وتعالى – أن يموت هرقل في تلك اللحظات الحرجة، وأن يضطرب البلاط اضطراباً يعطل تفكير العاملين فيه حتى إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، وما سيئول إليه أمرهم، فأين الإسكندرية من هذا التفكير؟ وماذا تكون حاميتها في معمعة تلك العواصف الهوج؟ فلتذهب الإسكندرية مع الريح، ولتمت حاميتها فليست عندهم أعز من أنفسهم.
أفيظن أحد والبلاط يغلى غليان القدر، والمؤامرات تحاك في ظلام سراديبه، وذوو الرأي فيه يفكرون في مصيرهم، أفيظن أحد والحالة هذه أن تمد الإسكندرية بشيء من المدد مهما قل عدده، أو خف حمله وبخس ثمنه؟؟.(25/498)
لقد سبب موت هرقل انقطاع المدد عن الإسكندرية، فوهن عزم المدافعين عنها، وانهارت معنوياتهم فلم يعد هناك مجال للمقاومة والعناد، ولا شك أن هذه الأخبار تسربت إلى المسلمين ولو عن طريق حراس الأبواب الذين كانوا يتصلون بالمسلمين، ويتبادلون معهم الأحاديث، فألح المسلمون في القتال، ويئس المدافعون من النصر فالقوا بأيديهم، واستسلموا لسيوف المسلمين ولم تكن إلا جولة واحدة حتى تم النصر للمسلمين.
كيف تم هذا النصر؟ بل كيف تمكن المسلمون من اقتحام الأسوار والحصون؟ هل استسلم الروم وفتحوا المدينة أمام ضغط الظروف والأوضاع السيئة التي أحاطت بهم أم فتح أحد الحراس بابه للمسلمين فدلفوا منه؟ لم يشر أحد من المؤرخين إلى شيء من ذلك وليس هناك من يستطيع أن يجزم بشيء منه.
ولكننا نستطيع أن نستنبط استنباطا أن حماة الإسكندرية لما يئسوا من مجيء المدد، وهددتهم المجاعة وهم في حصونهم، لم يكن هناك دوافع تجعلهم يستمرون في المقاومة أو حوافز تغريهم بالصمود فآثروا السلامة، ودبروا للهرب، يقول ابن عبد الحكم: فلما هزم الله – تعالى - الروم. وفتح الإسكندرية هرب الروم في البر والبحر [32] .
ومما يؤيد هذا أن المؤرخين الذين اسهبوا في وصف الفتوحات الأخرى، وذكروا دقائق الأمور وجلائها وتحدثوا عن بطولات المسلمين وصمود أعدائهم، لم يتناولوا فتح الإسكندرية بشيء من التفصيل، ولم يتكلموا عن فتحها بأكثر من كلمات تكاد تكون واحدة جرت على ألسنتهم، ونقلها بعضهم عن بعض، وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على أنه لم تدر معارك يمكن وصفها والإسهاب في نقل أحداثها، وإنما كانت جولة هرب بعدها الروم في البر والبحر، ولعل الروم خرجوا من حصونهم، وافتعلوا تلك المعركة ليجدوا سبيلاً للهرب، وإلا فكيف يهربون وهم محاصرون في داخل الحصون والأسوار؟(25/499)
وتم فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر محرم سنة 21 هـ وبلغ عدد شهداء المسلمين اثنين وعشرين رجلا [33] .
وبعث عمرو بن العاص معاوية بن خديج إلى عمر بن الخطاب يبشره بفتح الإسكندرية، وقال معاوية لعمرو: ألا تكتب معي؟ فقال عمرو: ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة، وما رأيت وحضرت؟ فما أصنع بالكتاب؟ ولما قدم معاوية على عمر، وبشره بالفتح خر عمر ساجداً شكراً لله، وقال: الحمد لله [34] .
قال معاوية بن خديج: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب، فرأتني شاحبا على ثياب السفر، فأتتني فقالت: من أنت؟
قلت: معاوية بن خديج رسول عمرو بن العاص.
فانصرفت عني، ثم أقبلت تشد، أسمع حفيف إزارها على ساقها حتى دنت مني.
فقالت: قم فأجب، أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها، فلما دخلت فإذا عمر بن الخطاب يتناول ردائه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟
قلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية.
فخرج معي إلى المسجد، فقال للمؤذن: أذن في الناس، الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك، فقمت فأخبرتهم.
ثم صلى، ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس. فقال:
ياجارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت.
فقال: كل. فأكلت على حياء.
ثم قال: ياجارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق.
فقال: كل، فأكلت على حياء.
تم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟
قال: قلت: أمير المؤمنين قائل.
قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعين الرعية، ولئن نمت بالليل لأضيعين نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟؟ [35] .(25/500)
ولما فتح الله الإسكندرية، وهرب الروم في البر والبحر، أخذ عمرو يتعقب الهاربين في البر ليقضي عليهم خشية أن يتجمعوا ويكيدوا للمسلمين، وكان قد ترك بالإسكندرية حامية ترابط فيها لئلا ينقض الروم، ولكن تلك الحامية لم تكن كافية للدفاع عن المدينة، حيث كان تعدادها ألف رجل [36] ، ولهذا لما أحس الروم بمطاردة عمرو للهاربين في البر، عاد الهاربون في البحر إلى الإسكندرية، وقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من استطاع الهرب [37] .
وعلم عمرو بما حدث للمسلمين على يد الروم، فعاد على الفور، واقتحم المدينة، وفتحها بالسيف وكتب إلى عمر بن الخطاب، أما بعد، فإن الله فتح علينا الإسكندرية عنوة قسراً بغير عهد ولا عقد [38] .
وبعث برسالة أخرى يصف فيها الإسكندرية، فقال: أما بعد، فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك [39] .
ومن هذا الوصف المختصر لوضع الإسكندرية نقف على مدى ما كان فيها من التقدم العمراني والحضاري، وما كانت تزخر به من ألوان الفنون والمعارف، وما كانت تمتاز به من الوضع الاقتصادي المزدهر.
لقد كان في الإسكندرية سوى ما جاء في خطاب عمرو اثنا عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر ورحل منها قبل فتحها سبعون ألف يهودي، وكان يسكنها من الروم مائتا ألف رجل، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، استعملها الروم في الهرب بحراً، فحملوا فيها ثلاثين ألف شخص مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وأحصى من بقى فيها بعد فرار الفارين ممن ضربت عليهم الجزية فبلغوا ستمائة ألف رجل سوى النساء والصبيان [40] .
وأراد عمرو أن يتخذ الإسكندرية مقراً للحكم، وقال: "مساكن قد كفيناها".(26/1)
وكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، يستأذنه، فسأل عمر الرسول، هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل.
فكتب عمر إلى عمرو، إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلاً يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.
فتحول عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط [41] .
ولما هم عمرو بمغادرة الإسكندرية استخلف عليها عبد الله بن حذافة السهمي، ومعه جماعة من المسلمين لحمايتها، ورد العدو عنها إذا حاول غزوها، ولكن الروم الذين كانوا بالإسكندرية نظروا إلى المسلمين فإذا هم قلة لا يستطيعون دفعا ولا نصرا.
فأغرتم قلة المسلمين، وأثارت الحماس في نفوسهم حياة الذل التي يعيشونها في الإسكندرية بعد أن ضربت عليهم الجزية، فكتبوا بذلك كله إلى قسطنطين بن هرقل الذي تولى أمر الروم بعد وفاة أبيه.
ولم تكد رسالة أهل الإسكندرية تصل إلى قسطنطين حتى عبأ ثلاثمائة مركب بالرجال والسلاح، وأسند قيادة تلك الحملة إلى منويل الخصي، واتجه منويل بجيشه نحو الإسكندرية وانضم إليه من كان مقيما بها من الروم [42] ، وقتل من بها من المسلمين إلا من استطاع الهرب [43] .(26/2)
وبلغ عمرو ما حدث فرجع من فوره، فلما بلغ الإسكندرية وجد جيش الروم قد خرجوا منها يعيثون في القرى المجاورة لها فسادا، وهناك التقى الفريقان ورشق الروم المسلمين بالنشاب، وتترس المسلمون منهم، ثم التحمت الحرب بينهما، وشد عليهم المسلمون شدة رجل واحد، فاقتتلوا قتالا شديداً، فانهزم الروم وولوا الأدبار، فلم يكن لهم ناهية ولا عرجة دون الإسكندرية، فتحصنوا بها، ونصبوا العرادات، وقاتلهم عمرو على أبواب الإسكندرية، ونصب المجانيق، وضرب بها أسوارها حتى نال منها، ولا زال يقصفها حتى وهنت قوة الروم، وألح عليها حتى دخلها عنوة بالسيف فقتل المقاتلين، وسبى الذرية، وهرب بعض رومها إلى الروم، وقتل عدو الله منويل وهدم عمرو أسوارها، وكان قد نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك [44] .
وكتب عمرو إلى الخليفة، إن الله فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد، فرد عليه عمر يقبح رأيه، ويأمره ألا يجاوزها [45] .
وألح المسلمون على عمرو ليقسمها بينهم، وأبى عمرو حتى يستشير الخليفة ورفض الخليفة التقسيم، وقال لعمرو: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين، وقوة لهم على جهاد عدوهم [46] .
وكانت هناك قرى ظاهرت الروم، وأعانوهم على المسلمين، وتلك القرى هي: سلطيس ومصيل وبلهيب، والخيس وقرطسا وسخا، فلما انتصر المسلمون استحلوا أهل هذه القرى، وقالوا، هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية [47] .
وكتب عمرو إلى أمير المؤمنين يخبره بما أراد المسلمون بأهل القرى، وعلم أمير المؤمنين بأن للقوم عهدا سابقا، فأمر عمرا بأن يجعل هذه القرى ذمة للمسلمين كما فعل بالإسكندرية، ونهى أن يتخذ أهلها فيئا وعبيدا [48] ، وأمر كذلك برد سباياهم وبتخيير أهلها بين الإسلام وبين دينهم، فمن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن اختار دينه خلى بينه وبين قريته، وكتب الخليفة بذلك كتاباً إلى عمرو بن العاص قال فيه:(26/3)
(أما بعد، فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحهم على أمر لا نفي لهم به) .
وبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يخبره بما أمر به أمير المؤمنين، فأجاب، قد فعلت.
فجمع عمرو ما بأيدي المسلمين من الأسرى، وحضر النصارى ليشهدوا التخيير، وأخذ المسلمون يخيرون الأسرى واحدا واحداً، فإذا اختار أحدهم الإسلام كبر المسلمون، وحازوه إليهم، وإذا أختار دين قومه نخرت النصارى، وحازوه إليهم، ويحزن المسلمون لذلك حزنا شديدا، ويضربون عليه الجزية، وظل ذلك دأبهم حتى انتهوا من الأسرى، وكان ممن اختار الإسلام أبو مريم أحد رؤساء النصارى [49] .
وأحصى عمرو أهل مصر ممن وجبت عليهم الجزية والخراج فكان مجموع ما جبي منها ألفي ألف دينار [50] أي بلغ مليونين من الدنانير، وقد تم ذلك في عام 23 من الهجرة في نهاية خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - وقد بلغ من حرصه على الإسكندرية بعد الفتح الثاني أنه كان يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط في الإسكندرية، وكان يوالي ذلك دائما، فلا يغفل عنها، ولا يأمن الروم عليها وظل الأمر كذلك حتى انتقل إلى مثواه الأخير -رضي الله عنه وأرضاه في جنات النعيم-.
من آداب الداعية
جملتها ثلاث صفات:
العلم، والورع، وحسن الخلق.(26/4)
أما العلم: فليعلم مواقع الأمر والنهي ليقتصر على حد الشرع فيه.
وأما الورع: فليردعه عن مخالفة فعله لقوله، ولا يحمله على مجاوزة الحد المأذون شرعاً غرض من الأغراض، وليكون كلامه مقبولا.
وأما حسن الخلق: فليتمكن به من اللطف والرفق، وهو أصل الباب وأساسه.
وبوجود هذه الصفات الثلاث يصير الإرشاد من القربات، وبه تندفع المنكرات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البلاذري ص 221.
[2] الطبري (4/110) وابن عبد الحكم يسوق القصة بطريقة أخرى ويقول: إن عمرا أجاب القبط حين سألوا فأين الذين كانوا أتونا قبل بقوله: أولئك أصحاب المشورة وهؤلاء أصحاب الحرب.
[3] الطبري (4/110) .
[4] نفسه والعض الداهية.
[5] ابن عبد الحكم (1/107) .
[6] هيكل (2/119) .
[7] ابن عبد الحكم (1/108) .
[8] حاشية فتوح مصر والمغرب (1/108) .
[9] هيكل: الفاروق عمر (2/121) .
[10] ابن عبد الحكم (1/109) .
[11] نفسه.
[12] ابن عبد الحكم (1/109) .
[13] المقريزي (1/163،164) .
[14] البلاذري ص 222.
[15] ابن عبد الحكم (1/110) .
[16] نفسه.
[17] نفسه (1/111) .
[18] ابن عبد الحكم (1/111) .
[19] البلاذري ص 218.
[20] ابن عبد الحكم (1/112) .
[21] ابن عبد الحكم (1/13) .
[22] هيكل الفاروق عمر (2/126) .
[23] البلاذري ص 222.
[24] المقريزي (1/165) .
[25] ابن عبد الحكم (1/115) .
[26] البلاذري ص 222.
[27] ابن عبد الحكم (1/117) .
[28] المقريزي (1/165) .
[29] ابن عبد الحكم (1/115) .
[30] ابن عبد الحكم (1/116، 117) .
[31] نفسه.
[32] ابن عبد الحكم (1/118) .
[33] المقريزي (165، 166) .
[34] نفسه.(26/5)
[35] ابن عبد الحكم (1/119، 120) .
[36] ابن عبد الحكم (1/118) .
[37] نفسه.
[38] البلاذري ص 217.
[39] ابن عبد الحكم (1/121) .
[40] نفسه.
[41] ابن عبد الحكم (1/132) .
[42] المقريزي (1/167) .
[43] البلاذري ص 223.
[44] نفسه.
[45] ابن عبد الحكم (1/118) .
[46] ابن عبد الحكم (1/122) .
[47] نفسه (1/122، 123) .
[48] نفسه.
[49] الطبري (4/105_106) .
[50] البلاذري ص 217.(26/6)
الحملات الحربية في عهد سليمان القانوني
للدكتور محمد حرب
أستاذ زائر بكلية الدعوة وأصول الدين
تولى السلطان سليمان القانوني عرش الدولة العثمانية بعد موت والده السلطان سليم الأول، وكانت سنة تولية سليمان عام 926 هـ (1520 م) وحكم الدولة العثمانية مدة ست وأربعين سنة وهي أطول مدة حكم فيها سلطان عثماني.
كان عهد القانوني قمة العهود العثمانية سواء في الحركة الجهادية أو في الناحية المعمارية والعلمية والأدبية والعسكرية، كان هذا السلطان يؤثر في السياسة الأوربية تأثيرا عظيما وبمعنى أَوضح كان هو القوة العظمى دوليا في زمنه، نعمت الدولة الإسلامية العثمانية في عهده بالرخاء والطمأنينة.
ابتلي سليمان في السنوات الأولى من عهده بأربع تمردات شغلته عن حركة الجهاد، إذ أتاح موت سليم الأول وكان متصلبا، ثم جلوس ابنه على العرش وهو صغير السن، أتاح هذا الفرصة لكي يظن الولاة الطموحون للاستقلال أنهم قادرين على ذلك، فلما وصل خبر تولية سليمان العرش، إلى الشام وكان جان بردى الغزالي واليا عليها من قبل الدولة العثمانية، تمرد وأشهر العصيان على الدولة.
جان بردى الغزالي هذا، قائد مملوكي كان تعاون مع سليم الأول في حربه ضد المماليك، كان هذا أَميراً طموحا وأودى به طموحه إلى أن ينقلب على المماليك ويتعاون مع سليم، حتى أن بعض المؤرخين العثمانيين يرون أن معركة غزة التي قادها ضد طلائع الجيش العثماني الزاحف على مصر إنما كان بالدرجة الأولى لعبة سياسية قصد منها إخفاء دوره في التعاون مع الجيش العثماني.(26/7)
من الثابت في المصادر العثمانية المسماه سليم نامه لر تعاون جان بردي الغزالي – وهو تعاون مبكر- مع سليم. ومن الثابت أيضا في هذه المصادر أن سليم الأول أقطع الغزالي، وكان هذا يخاف كثيرا من سطوة سليم، وكان واليا لسليم على الشام، فلما تولى سليمان أرسل الغزالي من الشام رسالة إلى خاير بك النائب العثماني على مصر أوضح فيها الأول للثاني أن حان الوقت لإعادة الدولة المملوكية وبعثها من جديد، إلا أن والي مصر العثماني أرسل الرسالة هذه إلى العاصمة العثمانية ليطلع عليها السلطان سليمان، وهذه الرسالة موجودة الآن في متحف طوبقبو سرايي - قسم الأرشيف.
جان بردى الغزالي، كان - وهو وال للدولة على الشام- يراسل أكبر عدو للدولة العثمانية، ألا وهي الدولة الشيعية في إيران وكان يتزعمها الشاه إسماعيل الصفوي والوثيقة رقم 5469 بقسم الأرشيف بمتحف طوبقبو عبارة عن رسالة من جان بردى الغزالي إلى الشاه إسماعيل الصفوي تقول بأن جان بردى كان على تعاون سري بعيد المدى مع الفرس وأن الغزالي طلب من الصفوي حضوره شخصيا إلى بلاد الشام أو تقديم مساعدة عسكرية ضخمة له – أي إلى الغزالي- ولم يكن سليم على علم بهذا إذ أن رسول الغزالي كان وصل بهذه الرسالة سراً إلى كاشيان لمقابلة الشاه إسماعيل، وفى هذه الرسالة عرض من الغزالي بتقديم تبعيته وخالص عبوديته للشاه إسماعيل الصفوي.
فإذا ما مات سليم وتولى سليمان العرش إذا بالغزالي يفور ويثور وقام للاستيلاء على حلب وفشل في ذلك، وأمر السلطان سليمان بقمع الفتنة فقمعت وأرسل رأس الثائر إلى استانبول دلالة على انتهاء التمرد.(26/8)
أما التمرد الثاني فقام به أحمد باشا الخائن في مصر وكان هذا عام 930 هـ= 1524 م. وكان هذا الباشا يطمح أن يكون صدرا أعظما ولم يفلح في هذا، لذلك طلب إلى السلطان أن يعينه واليا على مصر فقبل السلطان، وما أن وصل مصر حتى حاول استمالة الناس وأعلن نفسه سلطانا مستقلاً، لكن أهل الشرع في مصر وكذلك جنود الإنكشارية لا يعرفون إلا سلطانا واحدا خليفة لكل المسلمين هو السلطان سليمان القانوني، لذلك ثار أهل الشرع والجنود ضد هذا الوالي المتمرد وقتلوه، وظل اسمه في كتب التاريخ مقرونا باسم الخائن.
والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين هو تمرد شيعي علوي قام به بابا ذو النون عام 1526 م في منطقة يوزغاد حيث جمع هذا البابا ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر وفرض الخراج على المنطقة، وقويت حركته حتى أنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا لقمع حركته، وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة بابا ذو النون وأرسلت رأسه إلى استانبول.
والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني كان تمرداً شيعيا علويا أيضا، وكان على رأسه قلندر جلبي في منطقتي قوينه ومرعش وكان عدد أتباعه 000ر30 شيعي قاموا بقتل المسلمين السنيين في هاتين المنطقتين، ويقول بعض المؤرخين أن قلندر جلبي جعل شعاره أن من يقتل مسلماً سنيّاً ويعتدي على امرأة سنية يكون بهذا قد حاز على أكبر ثواب.
توجه بهرام باشا لقمع هذا العصيان فقتله العصاة، ثم نجحت الحيلة معهم إذ أن الصدر الأعظم إبراهيم باشا قد استمال بعض رجال قلندر جلبى، فقلت قواته وهزم وقتل.
بعد هذا هدأت الأحوال في الدولة العثمانية وبدأ السلطان سليمان في التخطيط لسياسة الجهاد في أوربا.(26/9)
بدأ العثمانيون في عصر سليمان فتوحاتهم في أوربا بفتح أهم مدن البلقان وهي بلغراد، التي كان المجريون يتولون حمايتها، وكانت علاقة العثمانيين بالمجريين في هذا الوقت متوترة إذ كان سليمان قد أرسل إلى ملك المجر رسولا يعلنه بتولي سليمان عرش العثمانيين، فقتل الملك المجري رسول سليمان ويدعي بهرام جاووش، فأعلن السلطان العثماني الحرب على المجر، وحاصرت القوات العثمانية بلغراد من البر ومن النهر وسلّمت بلغراد بعد شهر واحد من الحصار (عام 1521 م) واتخذها العثمانيون قاعدة حربية تنطلق منها قواتهم في فتوحاتهم الأوربية، وأثناء حرب بلغراد هذه استولى العثمانيون أيضا على قلاع هامة في منطقة بلغراد مثل صاباج وسلانكامن وزملين.
وبعد خمس سنوات فقط من هذه الحرب التي أخذ فيها العثمانيون بلغراد أخذ ملك المجر لايوش يجمع القوى الأوربية لقهر العثمانيين، كتب ملك المجر إلى كل من شرلكان الإمبراطور الألماني وإلى فرديناند الأرشيدون النمسوي يطلب منهما التحالف معه لقهر العثمانيين، وفي ذلك الوقت كان سليمان يعد العدة للحرب ضد المجر.(26/10)
في تلك الفترة أيضاً قامت حرب محدودة بين شرلكان وبين ملك فرنسا فرانسوا الأول، انتصر شرلكان وأخذ فرانسوا أسيراً، فقامت أم الملك الفرنسي ثم ابنها بعد ذلك بإرسال خطابات نجدة إلى سليمان العثماني يطلبان منه تأييده ضد أعداء فرنسا، فوعد سليمان خيرا، وفي ربيع 1526 تحرك الجيش العثماني في أكثر من ستين ألف جندي من استانبول حتى وصل إلى سهول المجر، وفي صحراء موهاج بالمجر دارت معركة ضخمة من المعارك الإسلامية المسيحية دارت في يوم 29 أغسطس من نفس العام واستمرت ساعتين، وبخطة موفقه من العثمانيين هزم الجيش المجري وكان من أرقى الجيوش الأوربية ومشهور بفرسانه المدرعين، ولعبت المدفعية العثمانية المتقدمة تكنولوجيا دورها في هذا النصر السريع الخاطف الذي أحرزه الجيش العثماني بعد قطعه لمسافات طويلة، مات من الجنود المجريين الكثير، وفر أيضا عدد كبير من ميدان المعركة، وكان من ضمن هؤلاء الذين فروا إلى المستنقعات ملك المجر القائد الأعلى للقوات المسيحية لايوش وهو نفسه الملقب بالملك لويس الثاني ملك بلاد المجر، وإن كان الملك المجري لم يلق حتفه عل على يد سيف عثماني، فقد لاقاه عند هربه إلى المستنقعات إذ قد مات غرقا فيها، ورفعت الرايات العثمانية فوق العاصمة المجرية بشت ولم تكن قد صارت بعد باسمها المعروف الآن بودابست.
من بودابست أعلن السلطان سليمان القانوني خضوع مملكة المجر للحماية العثمانية، ثم أصدر أمراً بتعيين أحد المجريين ملكا عليها وكان هذا الملك هو جون زابوليا أمير منطقة أردل وهو الذي تعرفه المصادر الشرقية باسم الملك يانوش، وعاد سليمان إلى استانبول بجيوشه.(26/11)
بعد ثلاث سنوات من الحملة العثمانية لفرض الحماية الإسلامية على مملكة المجر جاءت رسالة إلى سليمان من يانوش ملك المجر يقول فيها بأن أرشيدوق النمسا فرديناند يستعد لأخذ المجر منه بعد أن قام الكثير من أمراء المجر بتأييده ملكا على المجر بدلا من يانوش، واستولى فرديناند بالفعل على مدينة بودين من الملك المجري التابع للعثمانيين.
وفى مايو من عام 1529 م تحركت الجيوش العثمانية من استانبول إلى المجر واستعاد سليمان القانوني مدينة بودين مرة أخرى وفي احتفال مهيب توّج القانوني جون زابوليا ملكا على المجر.
ورغم حماس كل من فرديناند وشرلكان ورغم توقع أن يتحركا للحصول على بودين من العثمانيين وإنزال ضربة بالقوات العثمانية، إلاّ أن شيئا من هذا لم يحدث فقد استولى عليهما الرعب والخوف من سليمان.
أصر السلطان سليمان القانوني على محاربة فرديناند، فحاصرت القوات العثمانية في سبتمبر 1529 م مدينة فيينا عاصمة النمسا، واشترك في الحصار مائة وعشرون ألفا جندي وثلاثمائة مدفع، وقبل الحصار خرج ملك النمسا من عاصمته وانسحب بعيدا عنها، وقامت معارك كبيرة في أمام أسوار فيينا لكن الجيش العثماني لم يتمكن من فتحها، إذ جاء الشتاء وبدأت المواد الغذائية تنقص، وأثناء حصار فيينا أرسل العثمانيون قوات (المغيرين) وهي وحدات خاصة في الجيش العثماني، إلى داخل ألمانيا حيث شنوا الغارات وأخذوا الغنائم وأسروا الكثير وعادت القوات العثمانية جميعا دون التمكن من فتح فيينا.
وبعد ثلاث سنوات من بداية الحملة على المجر وحصار فيينا، بدأ السلطان سليمان القانوني القيام بحرب ألمانيا (1532 م) .(26/12)
سبب حملة سليمان على ألمانيا هو أن أرشيدوق النمسا فرديناند أرسل إلى السلطان العثماني سفيرا يطلب منه الإعتراف به ملكا على المجر، ولم يكتف فرديناند بذلك بل جرّد حملة وحاصر بها مدينة بودين، وقامت الحامية العثمانية في هذه المدينة مع القوات المجرية المحلية بالدفاع عن المدينة. على هذا كان قرار سليمان بحملته على ألمانيا، أما لماذا سمّيت بالحملة العثمانية على ألمانيا فذلك لأن سليمان كان يقصد بها دحر قوات شرلكان الألماني أكثر منها حملة على فرديناند.
وصل السلطان العثماني إلى النمسا مارا بيوغوسلافيا والمجر، كانت القوات العثمانية المشتركة في هذه الحملة تقدر بمائتي ألف، لم يحاصر العثمانيون فيينا هذه المرّة بل توجه لتأديب أسرة هابسيرج العريقة لكن آل هابسيرج وقوادهم خافوا عندما علموا بوصول سليمان العثماني وخشوا مواجهته، ولما لم يتحركوا للحرب، أرسل سليمان إلى فرديناند رسالة كلها احتقار دفعاً لحماسه إلى الحرب، لكن آل هابسبرج لم يتحركوا وصدرت للمغيرين أوامر بالقيام بعمليات عسكرية سريعة في داخل ألمانيا غنموا فيها وأسروا وانتصروا، وعندما حل الشتاء عادت الحملة العثمانية بأكملها إلى استانبول.
أسفرت الحملة العثمانية على ألمانيا عن خوف فردياند وإيمانه بأن لا قوة في أوربا تستطيع التصدي لسليمان العثماني، فاضطر فرديناند إلى طلب الصلح وهو صاغر، ووافق السلطان القانوني على الصلح بشرط أن يعترف فرديناند بأنه ليس نداً للسلطان العثماني وأنه مجبر في معاهدة الصلح هذه على الإعتراف بيانوش ملكا على المجر تحت الحماية العثمانية، ووافق فرديناند صاغرا على دفع 000ر30 دوقا ذهبية جزية للدولة العثمانية.(26/13)
وفى الجبهة الأوربية: مات يانوش عام 1540م ولم يكن له إلا ولداً طفلاً فقامت الملكة إيزابيلا بالكتابة إلى السلطان العثماني تقول له أنها تريد أن يكون ابنها هو الملك بديلا عن أبيه، وكانت تدرك أن فرديناند ارشيدوق النمسا يطمع في ملك المجر بل وتحرك وحاصر بودين فعلا، وسريعا ما تحرك جيش العثمانيين بقيادة السلطان سليمان القانوني نحو بودين، وما أن سمع النمساويون بقرب القوات العثمانية حتى تركوا حصار المدينة وهربوا، وعند أنسحابهم كانت بعض وحدات العثمانيين بقيادة الوزير محمد باشا تلحق بهم الخسائر الفادحة أثناء انسحابهم.
وفى عام 1541 دخل السلطان بودين وأمر بتحويل أضخم كنائسها إلى جامع للمسلمين كما أمر بإلحاق هذه المنطقة الهامة من المجر بالدولة العثمانية تحت اسم ولاية بودين، وأمر بتعيين سيجسموند الابن الطفل لملك المجر يانوش، أميرا على إمارة أردل التي كان يحكمها أبوه قبل أن يصبح ملكا على المجر، ثم عاد السلطان إلى العاصمة.
لكن فرديناند لم يسكت فقد أقنع البابا بول الثالث بضرورة تكوين حملة صليبية قوية لكي تستريح أوربا من العثمانيين بالتخلص منهم والقضاء عليهم. وتحركت هذه الحملة إلى بودين عام 1542، وحاصرتها حصارا محكما، لكنها فشلت في الاستيلاء عليها، ولما وصلت أخبار هذه الحملة إلى السلطان سليمان، تحرك مرة أخرى عام 1543 إلى أوربا واستولى على أهم القلاع المجرية التي كانت في يد النمسويين وهما استركون، واستولني بلغراد.(26/14)
توسل الملكان المرموقان في أوربا في ذلك الوقت إلى السلطان سليمان عن طريق السفراء أن يعفوا عنهما، وسامحهما سليمان بشرط أن تدفع النمسا سنويا مبلغ ... ,.3 ذهبا عن أراضي المجر التي في يدها، ولم تستمر هذه المعاهدة طويلاً إذ اعتدى النمساويون على أردل، لذلك قام الوزير قره أحمد باشا مع أمير أمراء الروملي صقوللو محمد باشا عام 1552 م بحصار قلعة طمشوار وكانت في أيدي النمسويين وأخذها فتحا، وتحرك علي باشا الخادم من بودين ودخل الأراضي المجرية التي تسيطر عليها النمسا وفتح كثيرا من قلاعها وغنم وأسر، وحاول أحمد باشا بقواته أن يستولي على قلعة أيرى فلم يوفق.
اجتمع مجلس شعب إمارة أردل ورفض الحكم النمسوي ووقع المجلس مع العثمانيين معاهدة وطلبوا من سليمان أن يصبح سيجسموند بن يانوش والموجود في بولنده ملكا عليهم فقبل العثمانيون هذا وأصبحت أردل مملكة يحكمها سيجسموند تحت الحماية العثمانية عام 1559 م، ولم يكن مناص من أن ترسل النمسا سفارة إلى سليمان العثماني ترجوه فضّ حالة النزاع وعقد معاهدة سلام، ولما وافق سليمان العثماني على ذلك وقعت المعاهدة عام 1562 م إعترفت فيها النمسا بعدم أحقيتها في أردل وأنها تقبل دفع مبلغ 000 , 30 ذهبا وسار الحال هادئا حتى مات فرديناند وخلفه مكسميليان الذي اعتدى على الأراضي العثمانية فخرج سليمان العثماني ليؤد به، إلاّ أن السلطان توفي وهو يحاصر إحدى القلاع في هذه الحرب.
أما في جبهة الدولة العثمانية مع عدوها الدولة الصفوية فنذكر عنها ما يلي:
في عام 1524 تولى الحكم في الدولة الصفوية الشاه طهماسب بن الشاه إسماعيل وكان طهماسب عدو للعثماني السنيين. بدأ طهماسب نشاطه ضد الدولة العثمانية بأن رغب في التحالف مع القوى الأوربية لحصر العثمانيين بين القوتين والقضاء على دولتهم، فأرسل طهماسب إلى شرلكان سفيرا يطلب منه التحالف بين الاثنين.(26/15)
إن البداية الحقيقية للنزاع هذه المرة بين العثمانيين والصفويين فقد كان من بغداد.
طلب ذو الفقار خان حاكم بغداد الدخول تحت الحماية العثمانية فأرسل له الشاه من يقتله عام 1529 م ودخلت القوات الصفوية بغداد، وعلى الجانب الآخر قام شرف خان حاكم بتليس بخيانة العثمانيين وتحالف مع الصفويين، عند هذا أعلنت الدولة العثمانية الحرب على الصفويين وتحرك الصدر الأعظم إبراهيم باشا فدخل تبريز دون مقاومة تذكر، ومن خلفه كان السلطان سليمان القانوني يقود الجيوش العثمانية إلى نفس الهدف ودخل تبريز عام 1534 م ثم اتجه إلى بغداد فسلّمت القوات الصفوية عام 1534 م. وكان سليمان قد استولى على آذربيجان وعبر جبال زاغروس الإيرانية ومنها إلى بغداد؛ وسميت هذه الحملة حملة العراقين أي العراق العجمي وهو آذربيجان والعراق العربي. وبهذه الحملة دخلت العراق في كنف الدولة العثمانية، وعندما انسحب العثمانيون من تبريز وجوارها ثم فتحوا بغداد استرجع الصفويون المنطقة مما سبب عزم السلطان على تأديب الصفويين مرة في أخرى وهذا ما سمي باسم الحملة الثانية على إيران وكانت عام 1548 م واسترجع فيها تبريز وأضاف أليها قلعتي وان وأريوان لكن انسحاب العثمانيين وعودتهم جعل الإيرانيين بعد أن انتهزوا انشغال الدولة في أوربا وعادوا مرة أخرى فقام سليمان بحملته الثالثة ولم يحصل على نتيجة مباشرة إذ أن طهماسب خاف من مجابهة الجيوش العثمانية، فلما عاد سليمان إلى بلاده، وعند وصوله إلى آماسيا، وصلت إليه رسل طهماسب للصلح فقبل السلطان توقيع معاهدة آماسيا عام 1555 م وبموجبها تقررت أحقية الدولة العثمانية في كل من أريوان وتبريز وشرق الأناضول.
أما ما كان من أمر السلطان مع فرنسا فقد بدأت أول ما بدأت أثناء حروب القانوني في المجر، فقد لبى السلطان طلب الدعم الذي تقدم به فرانسوا الأول ملك فرنسا وأمه، وأنقذ السلطان فرانسوا من ضغوط شرلكان عليه.(26/16)
أما لماذا قبل السلطان سليمان القانوني أن يساعد فرنسا، فذلك لأن الأوربين كانوا ينظمون حملات صليبية على الدولة العثمانية وعلى العالم الإسلامي ولا يكلّون من هذا رغم هزائمهم المتكررة فانتهز القانوني النزاع بين شرلكان وبين فرانسوا ملك المجر وفكر في نزع فرنسا من أوربا بمعنى أبعادها عن المعسكر المسيحي واتخاذها مانعا أوربيا ضد أي تجمع صليبي ضد العثمانيين.
كان سليمان القانوني في حملته البغدادية فتقدم إليه السفير الفرنسي جون دي لافوريت ليهنئ السلطان بانتصاراته، وعندما عاد القانوني إلى استانبول وقع مع فرنسا معاهدة 1535 م منح بموجبها السلطان لفرنسا بعض الإمتيازات التجارية مثل إعطاء تخفيض جمركي خاص للسفن الفرنسية التي تصل الموانئ العثمانية، وتم الإتفاق على أن هذه المعاهدة تسرى طالما الحاكمين على قيد الحياة، لكن الفرنسيون نجحوا في تجديدها كلما جد
سلطان جديد حتى وصل الأمر على تثبيت هذه الإمتيازات رسميا عام 1740 م.
كان القانوني معوانا لفرنسا فقد أمدها بمعونات عسكرية فقد أرسل قباطنته العظام مثل خير الدين برباروس وطورغود رئيس، وتحت إمرتهما الأساطيل العثمانية إلى فرنسا لمؤازرتها.
في عهد القانوني تم فتح جزيرة رودوس عام 1522 م. ورودوس ذات موقع استراتيجي هام بالنسبة للأناضول والدولة العثمانية، وكان انتصاراً باهراً على فرسان القديس يوحنا، انتصاراً كلف الدولة كلف الدولة كثيرا واشترك الأسطول العثماني مع تدعيم بحري من مصر، قلعة رودوس كانت أقوى قلعة بحرية في العالم في ذلك الوقت، لكنها خضعت للمسلمين العثمانيين.(26/17)
ومن المواقع البحرية الخالدة في التاريخ الإسلامي الحديث معركة برَوَزَة البحرية، وقد حدثت عام 1538 م، وقصتها أيضا مرتبطة بالصراع الإسلامي المسيحي في القرن السادس عشر الميلادي، فقد دعا البابا بول الثالث، الجيوش الأوربية للإتحاد ضد العثمانيين، وتكون تحالفا صليبيا بحريا ضم ثلاثمائة قطعة بحرية مسيحية، كان يقودها أشهر قائد بحري عالمي في هذا القرن وهو أندريا دوريا، أما أسطول العثمانيين فقد كان يتكون من 120 قطعة بحرية يقودها خير الدين برباروس. والتقى الأسطولان في يوم 28 سبتمبر عام 1538 م أمام بروزه.
وضع خير الدين برباروس أسطوله على شكل هلال عين على رأس جناحه الأيمن صالح رئيس، وعلى رأس جناحه الأيسر سيدي علي رئيس، وقاد خير الدين بنفسه الجناح الأوسط وأمر طورغود رئيس بأن يقود احتياطي الأسطول ويبقى في الخلف.
بدأ برباروس بإطلاق نيران مدفعيته على سفن العدو، وعلى حين غرة وعندما لم يكن أسطول الصليبيين يتوقع الهجوم إذا بخير الدين برباروس ينطلق إلى مقدمة الأسطول المسيحي الذي أختل نظامه بفعل المباغته وما لبث أن تفرق وإذا بالقائد أندريا دوريا يهرب نجاة بحياته، ولقد كان انتصار العثمانيين في هذه المعركة انتصارا يدين للمباغته والهجوم الغير متوقع من خير الدين برباروس، وجعل هذا النصر، العزة في البحر المتوسط للعثمانيين.
ولم يستطع شرلكان تحمل أنباء هذه الهزيمة الأوربية، فقاد بنفسه أسطولا أوربيا قويا وهجم به على الجزائر العثمانية عام 1541 م، ولكن حسن أغا المسؤول عن أمن الجزائر والذي كان خير الدين باشا يتبناه، دافع بشجاعة عن الجزائر أجبر بها شرلكان على الإنسحاب خاسرا.(26/18)
كانت طرابلس الغرب في هذا العهد تحت حكم فرسان مالطة وهم من المسيحيين، ونظرا لأن أهل طرابلس الغرب من المسلمين فقد وجه السلطان سليمان القانوني أمره إلى قبطان البحر العثماني طورغود رئيس بتخليص طرابلس الغرب من النفوذ المسيحي، فقام هذا القبطان بأسطوله بمحاصرة طرابلس الغرب حصاراً شديدا إلى أن اضطر حاميتها المسيحية إلى التسليم وكان ذلك عام 1551 م، وعين القانوني طورغود رئيس عينه واليا على طرابلس الغرب، وكان طورغود بطلا مسلما بحريا كبيرا، وقد استشهد بعد ذلك عام 1565 م أثناء حصار العثمانيين لجزيرة مالطة.
ثم اتجهت أنظار العثمانيين إلى استخلاص جزيرة صاقير وهي جزيرة هامة في بحر ايجه في مواجهة إزمير، وكانت في يد البنادقة وبالفعل فتحها العثمانيون عام 1566 م على يد بياله باشا.
ولم تقتصر أعمال العثمانيين الجهادية ضد الأوربيين في أوربا والبحر المتوسط فقط بل أخذ العثمانيون يناضلون ضد البرتغاليين في المحيط الهندي.
عندما فتح العثمانيون مصر في عهد والد سليمان، كان البرتغاليون قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح ووصلوا إلى الهند، وما لبثوا أن قاموا باعتداءات وحشية على مسلمي الهند، فاستنجد حاكم كجرات بالخليفة العثماني سليمان القانوني، وكان طبيعيا أن يلبي الخليفة هذا الإستنجاد فقامت القوات البحرية العثمانية بأربع حملات بحرية لتأديب البرتغاليين كانت الأولى عام 1538 م وكانت بقيادة سليمان باشا الخادم والي مصر العثماني وكانت نتائجها: الإستيلاء على عدن وأجزاء من اليمن ومحاصرة قلعة ديو في الهند، والثانية عام 1551 م وكان قائدها هو بيري رئيس صاحب بحرية، والثالثة عام 1552 وكانت بقيادة مراد رئيس، والرابعة بقيادة سيدي علي رئيس صاحب كتاب مرآة الممالك.
وتأتي أهمية هذه الحملات إلى أهمية مضيق باب المندب وسواحل البحر الأحمر بالنسبة للإستراتيجية العثمانية.(26/19)
ظهر في عهد القانوني شخصيات هامة في التاريخ العثماني ففي التشريع ظهر الشيخ أبو السعود الذي نظم قوانين البلاد على أساس الشرع الإسلامي وترجع شهرة سليمان القانوني إلى ما في اجتهادات الشيخ أبو السعود.
وفي مجال العمارة ظهر في عهد القانوني أكبر شخصية معمارية في التاريخ الإسلامي وهو المعمار سنان، كما ظهر في عهده أعظم القواد الحربيين وأبرزهم خير الدين باشا الملقب بلقب برباروس.
ومات السلطان سليمان القانوني مريضا في 20 صفر سنة 974 هـ الموافق الخامس من سبتمبر 1566 م وعمره أربع وسبعون سنة وكانت مدة حكمه ثمان وأربعين سنة قضاها في الحرب والتقنين والإعمار، مات عندما كان يقود الجيوش العثمانية أثناء حصارها قلعة سكتوار، مات السلطان العثماني سليمان القانوني بين طلقات المدافع وأخفى وزيره نبأ وفاة السلطان، وفى اليوم التالي للوفاة فتحت القلعة.
***
أهم المراجع التركية:
سليمان نامه لر، مخطوطات متفرقة، متحف طوبقبو، والمكتبة السليمانية، استانبول.
سليم نامه لر، مخطوطات متفرقة، المكتبة السليمانية استانبول.
علي رشاد، عصر حاضر توركيا تاريخي، استانبول.
مطر قجى نصوحى، سفر عراقين، مخطوط بجامعة استانبول.
رسالة عصيان جان بردى غزالي، متحف طوبقبو استانبول.
رسالة من جان بردى غزالي إلى الشاه إسماعيل الصفوي، متحف طوبقبو استانبول.
يلماز أوزطونه، توركيا تاريخي، 12 جزء، استانبول 1980.
محمد حرب، حملة سليم الأول على الشام ومصر، دراسة مقارنة بين ابن إياس وسليم نامه لر، كلية الآداب جامعة استانبول، 1980. (بالتركية) .
أهم المراجع العربية:
إسماعيل اوزدينج، أبو السعود، رسالة ماجستير بجامعة الإسكندرية غير منشورة.
محمد حرب، محاضرات في تاريخ الدولة العثمانية، محاضرات بآداب عين شمس سنة 1981.(26/20)
محمد حرب، المعمار سنان، أعظم البنائين في الإسلام، مجلة العربي مجلد 1980.
تربية الأبناء
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه فأتى عمر بالولد وأنّبه على عقه أبيه.
فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوقاً على أبيه؟ قال: بلى. قال: فما هي يا أمير المؤمنين! قال عمر: أن ينتقي أمّه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن) .
قال الولد: يا أَمير المؤمنين، إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي. وقد سماني جُعْلاً (أي خنفساء) ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً.
فألتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك..!
فتربية الأبناء.. تبدأ باختيار الأم الصالحة والاسم الحسن ثم المداراة والتوجيه برفق، والموعظة الحسنة المستقاة من كتاب الله وسنه رسوله.. تلك هي منطلقات الحياة الفاضلة والخلق النبيل لرجال الغد، وبناة المستقبل ورحم الله ولداً أعان ولده على برّه.(26/21)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة هل:
أريد اليوم أن أحدثك عن صيغة جديدة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع هي: "ألم أقل … "وهي الصيغة الثالثة عشرة في سلسلة هذه الصيغ.
جاءت هذه الصيغة في ست آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى من هذه الآيات هي الآية الثالثة والثلاثون من سورة البقرة، ولأن مضمون هذه الآية يتصل اتصالا وثيقا بمضمون الآيات الثلاث التي قبلها كان أوضح للمعنى وأبين للاستفهام أن أذكر هذه الآيات جميعا:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين. قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون} .
الآيات (30-33) من سورة البقرة(26/22)
الآية التي اشتملت على صيغة الاستفهام {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} تتضمن أمره تعالى آدم أن ينبئ الملائكة بالأسماء التي علمه الله إياها بعد أن عجزوا هم عن الإنباء بها، فلما أنبأهم بتلك الأسماء قال سبحانه وتعالى لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون}
والاستفهام في {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يفيد التقرير على معنى الإخبار، أي قد قلت لكم، والقول الذي سبق أن قاله تعالى لهم هو: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} ويفيد أيضاً التنبيه، تنبيه الملائكة على ما كان قد غاب عنهم من علم خص الله به آدم حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
ومما ينبغي أن تلاحظيه أيتها الأخت أن المقول الأول {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} جاء على وجه من الإبهام والإجمال، ثم أعيد على وجه من الإيضاح والتفصيل والبسط: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون} . ولا شك أن أسلوب الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس، وأثبت في الذهن، وأنصر وأنق في التعبير.
ولا يتسنى يا أخت أن تتذوقي جمال هذا الطباق بين الإبداء والكتم في قوله تعالى: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون} .
و (لكم) في قوله تعالى {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} تنبه المخاطبين لما يلقى إليهم تنبيها قويا، وتهزهم إلى سماعه هزاً شديداً.
ومعنى قوله تعالى {مَا تُبْدُون} هو ما سبق أن أبداه الملائكة بقولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} . والتعبير عنه بالمضارع مع أنه قد مضى لاستحضار المخاطبين صورته.(26/23)
ومعنى قوله تعالى {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} هو ما كانوا يضمرونه في أنفسهم من أن الله سبحانه وتعالى لن يخلق أعلم منهم وأكرم.
ومجيء {تَكْتُمُونَ} خبرا لكان يدل على أن الكتمان قد وقع فيما مضى ثم انتهى أمره، فقد هجس في أنفس الملائكة شيء لم يظهر بعضهم بعضا عليه وربما كان ذلك ظنهم أنهم أعلم الخلق وأكرمهم على الله، فلما عجزوا عن الإنباء بتلك الأسماء وأنبأهم بها آدم تلاشي ذلك الظن وانقضى عمره.
وللعلماء في تفسير {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} آراء أخرى أقربها أن يحمل اللفظ على ظاهره فيكون عاما فيما أبدوه وما كتموه من أمروهم كلها.
وأعيد ذكر الفعل (وأعلم) في قوله تعالى {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} مع أن معموله وهو اسم الموصول (ما) مندرج تحت ما قبله، أعيد اهتماماً بشأن هذا المعمول، ولبيان أنه جدير بأن يفرد بجملة مستقلة.
أختي العزيزة هل
أحب أن أنبهك على شيئين قبل أن أنتقل بك إلى الآية الثانية:
الأول: قال العكبري في كتابه (إملاء ما من به الرحمن) [1] " {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} مستأنف وليس وليس بمحكي بقوله {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} ويجوز أن يكون محكياً أيضا". أ. هـ.
وقال أبو السعود في تفسيره [2] : " {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عطف على جملة ألم أقل لكم لا على أعلم إذ هو غير داخل تحت القول". أ. هـ.(26/24)
وترجيح الاستئناف عند العكبري، والحكم بالعطف على جملة ألم أقل عند أبي السعود، كلاهما يقتضي أن ما {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} غير داخل تحت عموم غيب السماوات والأرض وغير محكي بألم أقل لكم، ولا أدري لم ذهبا هذا المذهب مع أنه يخالف ما يبدر إلى الذهن من معنى، وما يدل عليه سياق اللفظ والأسلوب، ويخالف أيضا ما ذهب إليه جمهور المفسرين.
أما الشيء الثاني فقد جاء في تفسير الجلالين [3] : "قال تعالى موبخا {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ".أهـ.
أبان جلال الدين السيوطي بكلامه هذا أن الاستفهام في {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} للتوبيخ، توبيخ الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (26 الأنبياء) {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (49، 50) النحل {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين} (177- البقرة) .
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (136- النساء) .
لقد نسى السيوطي حين أبان معنى هذا الاستفهام أن هؤلاء الملائكة الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم مكرمون وأنهم لا يستكبرون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون، وأن الإيمان بهم بر، وأن الكفر بهم ضلال بعيد، نسي أنهم أكرم على الله سبحانه وتعالى من أن يوبخهم.(26/25)
ثم إنه ليس في الآيات القرآنية ما يدل على أنهم فعلوا أو قالوا ما يستحقون به التوبيخ، فسؤالهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} كان سؤال استرشاد - وسوف يأتي بيانه مفصلاً في موضعه-. وليس في قوله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ولا في قوله تعالى لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ليس فيه ما يفيد التوبيخ.
الآية الثانية من الآيات التي وردت فيها هذه الصيغة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ….} هي الآية الثانية والعشرون في قوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ. قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} الآيات (19- 35) من سورة الأعراف.(26/26)
تتضمن هذه الآيات الكريمة قصة آدم في الجنة وخروجه منها:
فقد أنعم الله على آدم وزوجه أن يسكنا الجنة وأباح لهما أن يأكلا من ثمار أشجارها وأن يتمتعا بنعيمها ولم يحظر عليها مكانا من أماكنها، ولم يحرم عليهما ثمراً من ثمارها إلا شجرة كانت على مقربة منهما عينها الله تعالى بقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وهذا يعني ألا يأكلا منها أيضا، فإن اقتربا وأكلا فالظلم والخسران، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
ويبدو أن الشيطان قد أعجل آدم وزوجه عن أن يذوقا شيئا من ثمار الجنة، وأن يتمتعا بشيء من نعيمها، فبادر يحاور ويوسوس ليسوءهما بكشف عوراتهما، وليحط من مرتبتهما بمخالفتهما ما نهاهما الله عنه، وفال لهما مانهاكما ربكما عن الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها إلا من أجل أن يحول بينكما وبين أن تكونا ملكين، أو تكونا من الذين يسكنون الجنة خالدين فيها لا يموتون.
وعاد الشيطان يعزز وسوسته ويؤكد مقالته فأقسم إنه لهما لمن الناصحين.
واستطاع الشيطان بهذا الإغراء والغرور والخداع أن ينزلهما من مرتبة عالية ومقام حميد، فيقربا الحجرة ويأكلا منها، فلمَّا ذاقاها ووجدا طعمها، تطايرت عنهما ملابس الجنة وظهرت لهما عوراتهما، فجعلا يلصقان عليهما من ورق الجنة يستران تلك العورات، فناداهما الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، فاعترفا بأنهما قد خالفا نهيه تعالى وكانا من الظالمين لأنفسهما وطلبا منه تعالى أن يغفر لهما وأن يرحمهما وإلا كانا من الخاسرين، {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} .(26/27)
قوله تعالى في الآية الثانية والعشرين المتقدمة: {وَأَقُلْ لَكُمَا} عطف على {أَنْهَكُمَا} في قوله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} فهو داخل في حيز الاستفهام والنفي اللذين تدل عليهما {أَلَمْ} ، والتقدير وألم أقل لكما..
والاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} وقوله تعالى: {وَأَقُلْ لَكُمَا} معناه العتاب على ما صدر منهما والتنبيه على موضع الغفلة، فقد قال تعالى لهما: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . (19- الأعراف) . فخالفا النهي وقرباها وذاقاها، وقال تعالى يحذرهما من الشيطان: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِك} . (117- طه) ، فاغترا بقول الشيطان وقبلا ما عرض عليهما حين قاسمهما إني لكما لمن الناصحين.
أختي العزيزة: هل:
قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [4] :" {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ حيث لم يحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس" أ. هـ.
وقال أبو السعود في تفسيره [5] :" {وَأَقُلْ لَكُمَا} عطف على أنهكما أي ألم أقل لكما {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} وهذا عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو"أهـ.
ما ذهب إليه الزمخشري وأبو السعود من أن الاستفهام للتوبيخ توبيخ آدم عليه السلام بعيد عن الحق فيما أحسب وأرى، وما كان ينبغي أن يقال.
فآدم عليه السلام نبي مكلّم، وقد فضله الله على الملائكة، فعلمه الأسماء كلها على حين جهلوها، وأمرهم بالسجود له فسجدوا، فهو أكرم على الله من أن يوبخ.
الآية الثالثة من الآيات التي وردت فيها صيغة (ألم أقل) قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . الآية (96) من سورة يوسف.
الاستفهام هنا للتذكير، تذكير يعقوب أبناءه بما كان قد قاله لهم من قبل:(26/28)
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الآية- 86- يوسف) ولتنبيههم أيضاً على أن قوله من قبل: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} . (87 يوسف) لتنبيههم على أن قوله هذا كان عن علم من الله سبحانه وتعالى.
الآية الرابعة قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (الآية- 72- الكهف) .
الآية الخامسة قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . (الآية- 75- الكهف) .
الضمير المستتر في قال في هاتين الآيتين يعود على (عبدا) الوارد في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} . (الآية 65 من سورة الكهف) .
والجمهور على أن المراد بـ {عَبْداً} هو الخضر.
والمراد بضمير المخاطب في {إِنَّكَ} وفي {تَسْتَطِيعَ} في هاتين الآيتين هو موسى.
وقد قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط [6] : "ولم يذكر الله في كتابه غيره"أ. هـ.
ولكي يكون معنى الاستفهامين في هاتين الآيتين واضحاً أذكر ما جاء قبلهما وما جاء بينهما من الآيات الكريمة:(26/29)
{فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} الآيات (56- 75) من سورة الكهف) .
معنى الاستفهام في {أَلَمْ أَقُلْ} الوارد في الآية الثانية والسبعين المتقدمة، معناه التذكير، تذكير الخضر لموسى بما سبق أن قاله الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
ومعناه أيضا العتاب، عتاب الخضر لموسى أن لم ينفذ موسى ما وعد به من قبل حين {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (69) الكهف) .(26/30)
والاستفهام الثاني {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} الوارد في الآية الخامسة والسبعين المتقدمة يفيد التذكير أيضا بالمعنى الذي قد تقدم في الاستفهام قبله، ويفيد أيضا العتاب، ولكن على وجه أشد وأغلظ، وقد دلّ على شدة العتاب واللوم الزيادة التي وردت في هذا الاستفهام وهي (لك) وكأنها تعني: قلت لك من قبل إنك لنا تستطيع معي صبرا، قلت هذا لك أنت! ألم تسمع؟! ألم تع؟! لقد اعتذرت فيما مضى بالنسيان، فبأي عذر تعتذر الآن؟!.
الآية السادسة قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} (28- القلم)
هذه الآية الكريمة التي اشتملت على هذا الاستفهام جاءت مع آيات قبلها وآيات بعدها تحكي قصة أصحاب الجنة، ولكي تفهمي - يا أخت - معنى الاستفهام هنا على وجه أدق وأوضح أقص عليك قصتهم ملخصة مما نصت عليه الآيات القرآنية ومما ذكره أبو حيان في تفسيره البحر المحيط [7] .
وهذه هي الآيات أذكرها أولا:(26/31)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ. فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ. قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ. عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} . الآيات (17- 31) من سورة القلم.
يراد بالجنة هنا البستان، ويقال إنها كانت لرجل يؤدي منها حق الله تعالى، ويفتح أبوابها للمساكين أيام القطاف وجني الثمر، فينالون منها خيراً كثيراً مما تخطئه أعين القاطفين ولا تناله أيديهم، ومما يتناثر هنا وهناك بعيداً عن البسط الممدودة من تحت الأشجار.
ومات هذا الرجل، وصارت الجنة إلى أبنائه من بعده، فقالوا نحن أولو عيال وسوف يضيق علينا الرزق إن دخل علينا الجنة هؤلاء المساكين على عادتهم أيام أبينا، فأقسموا ليقطفْنّ ثمرها في الصباح الباكر قبل أن يجيء المساكين على عادتهم مع أبيهم، عزموا على ذلك عزم من يملك أمره، لا ينثنون عما عزموا عليه، ولا يقولون إن شاء الله.(26/32)
وبينا هم نائمون أتاها أمر ربك فأصبحت كالرماد الأسود أو الليل البهيم، وأصبحوا ينادي بعضهم بعضاً أن اغدوا على جنتكم إن كنتم عازمين على قطافها، وكانوا يخافتون في أصواتهم وهم يقولون لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، كانوا يخافتون خشية أن يسمعهم مسكين أو يحس بهم أحد.
غدوا على جنتهم وهم يظنون في أنفسهم أنهم قادرون على قطافها وعلى منع المساكين من خيراتها، حتى إذا جاءوها ورأوها سوداء لاتحمل الثمر ولا تلبس الورق الأخضر أنكروها أول وهلة، وقالوا لقد ضللنا الطريق إليها، فهذه ليست جنتنا، ثم يتبين لهم أنها هي وأنها قد أصابها من أمر الله ما أصابها، ويثوب إليهم ما كان قد ضل عنهم من صواب ويقولون بل نحن الذين حرمنا خيراتها جزاء غفلتنا عن ذكر الله وعن امتثال ما أمر به من مواساة المساكين.
فقال أرجحهم عقلاً وأفضلهم رأياً ألم أقل لكم لولا تسبحون، قال ذلك تأنيباً لهم وتوبيخاً على تركهم ما كان حضهم عليه من قبل من ذكر الله وتنزيهه عن السوء، ولو ذكروا الله وذكروا إحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين، ولا قتفوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله فأحرق جنتهم وحرمهم ثمارها.
ولما أنّبهم أوسطهم رجعوا إلى ذكر الله تعالى، وأقروا بأنهم كانوا ظالمين، وأخذ بعضهم يلوم بعضاً، فقد كان منهم من زيّن، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف، ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت راضياً، ثم اعترفوا بأنهم كانوا طاغين، وأخذوا يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يفرج عنهم، وأن يبدلهم بهذه الجنة خيراً منها ويقولون إنا إلى ربنا راغبون في أن يجيب رجاءنا، وألاّ يخيّب آمالنا، فقد تبنا إليه ونسأله الغفران والرحمة.(26/33)
وبهذا تنتهي قصة أصحاب الجنة وقد تبين فيها معنى الاستفهام، تبين أن معناه التأنيب والتوبيخ، التوبيخ على تركهم ما كان حضهم عليه أوسطهم من قبل من ذكر الله تعالى وتنزيهه.
وإعراب هذه الصيغة (ألم أقل) سهل واضح لا يحتاج إلى بيان.
أختي العزيزة هل:
بقي في هذه الرسالة أن أحدثك عن الصيغة الرابعة عشرة وهي الصيغة التي دخلت فيها على لم النافية الجازمة لمضارع (جعل) ، وقد وردت هذه الصيغة في أربع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى وردت في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً. وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاًً. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . الآيات (25- 28) من سورة المرسلات.
والهمزة في {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} . تفيد التقرير والتوبيخ: التقرير على معنى الإخبار، أي قد جعلنا الأرض تجمع الأحياء على ظهرها، وتضم الأموات في بطنها.
وتفيد التوبيخ أيضاً توبيخ المكذبين على تكذيبهم بالبعث وعلى كفرهم بعذاب يوم القيامة مع أن قدرة الله تعالى على خلق هذه المخلوقات تدل دلالة واضحة على قدرته أن يعيد خلقهم مرة ثانية، وأن يبعثهم من قبورهم ليوم الحساب.
و (نجعل) في قوله تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً} بمعنى نصيّر، فالفعل قد تعدى إلى مفعولين: (الأرض) مفعول أول، و (كفاتاً) مفعوله ثان.
و (كفاتاً) اسم للموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع، فلا يعمل فيما بعده، و (أحياء) و (أمواتاً) منصوبان على المفعولية بفعل محذوف يدل عليه (كفاتاً) ، والتقدير يكفت أحياء وأمواتاً.
ويجوز أن يكون (كفاتاً) مصدراً، فأحياءً وأمواتاً منصوبان به على المفعولية.
الآية الثانية التي وردت فيها هذه الصيغة جاءت في قوله تعالى:(26/34)
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاًً. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً. وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً. وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً. وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} . الآيات (1- 17) من سورة النبأ.
الهمزة في قوله تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} تفيد التقرير والتوبيخ:
التقرير على معنى الإخبار أي قد جعلنا الأرض مهاداً والجبال أوتاداً، وتفيد التوبيخ أيضاً توبيخ كفار مكة على تساؤلهم عن البعث مستهزئين، وعلى اختلافهم فيه جاحدين، مع أنهم لو أنعموا النظر في آيات الله الباهرة العجيبة، وأحسنوا التأمل في مخلوقاته العظيمة الغ 2 يجة، وهي أمامهم مشاهدة محسوسة، يرونها صباحاً ومساء، صيفاً وشتاءً، ويبصرونها غدوّاً ورواحاً، وسباتاً ومعاشاً، لو فعلوا ذلك بتفكر وتدبر واعتبار لآمنوا بأن الله الذي خلقها قادر على أن يبعثهم يوم القيامة، وهو عليه هين.
و (نجعل) في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} بمعني نصيّر، فالفعل متعد إلى مفعولين: (الأرض) مفعول أول، و (مهاداً) مفعول ثان.(26/35)
الآية الثالثة التي وردت فيها هذه الصيغة جاءت في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . الآيات (4- 17) من سورة البلد.
تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان يعاني متاعب ومشاق لا تكاد تنحصر، وأن هذا الإنسان يحسب لاغتراره بقوته وكثرة عدده وعدده ألا يقدر عليه أحدا ويقول مرائياً مفاخراً بكثرة ما أنفق في سبيل المكارم في الدنيا، ومن جراء أن يحمده الناس فيها، يقول أهلكت مالاً كثيراً، ويحسب أن أعماله التي لم يبتغ بها الدار الآخرة، وأن مقاصده التي لم يرد بها مرضاة الله تظل خافية لا يطلع عليها أحد، وقد غاب عنه أن عليه حفظة يكتبون عنه كل صغيرة وكبيرة إلى يوم الجزاء.
وتتضمن هذه الآيات أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على هذا الإنسان بنعم جليلة فقد جعل له عينين يبصر بهما المرئيات، ويستعين بهما على كسب القوت وحاجات الحياة، وينعم النظر بهما في آيات الله المبثوثة في جنبات الأرض وفي آفاق السماء.
وقد جعل له لساناً وشفتين يستعين بهن على مضغ الطعام الذي هو قوام حياته في الدنيا، وعلى النطق بلغة هي من أعظم النعم التي وهبها الله لهذا الإنسان، وقد هداه الله النجدين، طريق الخير وطريق الشر، فكل نفس بما كسبت رهينة.(26/36)
ولكن هذا الإنسان الذي أنعم الله عليه بهذه النعم الجليلة غمط هذه النعم فلم يشكر، وكفر بمن أنعم بها عليه فلم يؤمن.
والشكر على نعم الله تعالى عقبة كؤود، لا يقتحمها إلا الذين يؤمنون بالمنعم بها تبارك وتعالى فيشكرونه على ما أنعم به عليهم بالإنفاق فيما يرضيه من فك الرقاب، وإطعام اليتامى الأقرباء الفقراء، والمساكين الجياع الأباعد، ويتواصون بالصبر على الإيمان به سبحانه وتعالى، وبالصبر على طاعاته، وعلى ما يصيبهم من ضراء وبأساء، وبالصبر عما تهواه الأنفس ويزينه الشيطان من فساد وفسوق وعصيان، ويتواصون أيضاً بالتعاطف والتراحم وبما يؤدي إلى رحمة الله تعالى.
ومما تقدم تستطيعين أيتها الأخت أن تتبيني أن الهمزة في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} تفيد التقرير والتوبيخ: التقرير على معنى الإخبار أي قد جعلنا لهذا الإنسان عينين ولسانا وشفتين، والتوبيخ توبيخ هذا الإنسان على غمطه هذه النعم الجليلة، وعلى كفره بالمنعم تبارك وتعالى.
و (نجعل) في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} بمعنى نخلق، فالفعل يتعدى إلى مفعول واحد هو (عينين) و (له) جار ومجرور يتعلقان بـ (نجعل) .
وقد ذهب صاحب تاج العروس [8] إلى أن الجعل في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} بمعنى التسوية والتهيئة، وإلى أن الجعل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَة} بمعنى الخلق والإيجاد، ولا أرى وجهاً واضحا في التفرقة بين معنى الجعل في الآيتين.
الآية الرابعة التي وردت فيها هذه الصيغة جاءت في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} . الآيتان (1- 2) من سورة الفيل.
والهمزة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} للتقرير بمعنى الإخبار، أي قد جعلنا كيدهم في تضليل.(26/37)
و (يجعل) هنا بمعنى يضع، فهو يتعدى إلى مفعول واحد، و (كيد) المضافة إلى ضمير الجماعة هي هذا المفعول، والجار والمجرور (في تضليل) يتعلقان بيجعل.
أختي العزيزة هل:
لقد آن لهذه الرسالة أن تنتهي، وأسأل الله تعالى أن يعين على رسالة قادمة نلتقي فيها عما قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
-المراجع-
مراجع الصيغ:
أ- مراجع صيغة (ألم أقل) وهى الصيغة الثالثة عشرة:
1- تفسير البحر المحيط المتقدم ذكره:
جـ 1 ص 150/ جـ 4 ص 280/ جـ 5 ص 346/ جـ 6 ص 149/ جـ 6 ص 15151/جـ 8 ص 313.
2- تفسير أبي السعود المتقدم ذكره/ جـ 1 ص 86/ جـ 3 ص 221/ جـ 5 ص 235/ جـ 5 ص 236/ جـ 9 ص 16.
3- تفسير ابن كثير: جـ 1 ص 74/ جـ 2 ص 490. الناشر: الحلبي بمصر.
4- تفسير الكشاف المتقدم ذكره: جـ 1 ص 273/ جـ 2 ص 73/ جـ 2 ص 343/ حـ 2 ص 494/ جـ 4 ص 145.
5- تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية) المتقدم ذكره: جـ 1 ص 40/جـ 2 ص 131.
6- الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين: الناشر: الحلبي بمصر: جـ 1 ص 40/ جـ 4 ص 387.
ب: مراجع صيغة (ألم نجعل) وهي الصيغة الرابعة عشرة:
1- تفسير البحر المحيط المتقدم ذكره: جـ 8 ص 408/ جـ 8 ص 411/ ج8 ص476
2- تفسير أبي السعود المتقدم ذكره: جـ 9 ص 201.
3- تفسير الجلالين المتقدم ذكره: جـ 4 ص 471/ جـ 4 ص 538/ جـ 4 ص 589.
4- حاشية الفتوحات الإلهية المتقدمة الذكر: جـ 4 ص 589.
5- تفسير البيضاوي: جـ 3 ص 560/ طبعة الحلبي الجامعة بين تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين.(26/38)
6- تاج العروس، المجلد السابع: مادة (جعل) ص 257.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري جـ 01 ص 30/الطبعة الأولى – الناشر: الحلبي بمصر.
[2] تفسير أبي السعود: جـ 1 ص 86 / الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد – القاهرة.
[3] تفسير الجلالين: (هامش الفتوحات الإلهية. جـ 1 ص 40/ الناشر: الحلبي بمصر.
[4] تفسير الكشاف للزمخشري: جـ 3 ص 73/ الناشر: الحلبي بمصر.
[5] تفسير أبي السعود المتقدم ذكره: جـ 3 ص 221.
[6] تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: جـ 6 ص 143/ الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة/الرياض.
[7] تفسير البحر المحيط المتقدم ذكره: جـ 8 ص 311- 313- 313.
[8] تاج العروس، المجلد السابع، مادة (جعل) ص 257.(26/39)
افتتاحية العدد
لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة
لقد هزتنا الفجيعة هزا عنيفا، وآلمنا النبأ المفاجئ إيلاما شديداً، لكنّا نظرنا في واقع هذه الحياة وما قدر الله أن يكون فيها، فألفينا أن من سنن الله تعالى التي يجريها أنه جعل لكل مخلوق أجلاً ينتهي فيه وجوده إليه، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} .
وقد كان جلالة الملك خالد بن عبد العزيز ملء أسماعنا، وملء أبصارنا، وملء قلوبنا، وملء حياتنا، ترفرف به ظلال الأمن على أمتنا، وتسعد به النفوس في رغد معيشتها، وتقام به حدود الله وتحكم شريعته، وينشر به العدل بين الجميع حتى ليحس كل من يقيم على أرض هذه المملكة بطيب الحياة حيث لا ظلم ولا جور ولا ضيم.
كم نذكر وكم نعدد من مآثر خالد-رحمه الله- في شتى الميادين التي ترك بصماته عليها، وخلفه ذكراه العطرة أعلاما تضيء جوانبها؟ خلال فترة وجيزة لا تجاوز سنوات سبع؟
ففي ميدان العلم له منجزات، فكم أسس من المدارس، والمعاهد والكليات المتوسطة للبنين والبنات، والجامعات الإسلامية والجامعات العلمية، في مدن المملكة، بل حتى في قراها حتى عم التعليم، وسعد به كل بيت من بيوت شعب هذه المملكة، بل تجاوزها إلى أن نعم به كثير من أبناء العالم العربي والإسلامي، الذين وفدوا للنهل من ينابيع العلم الصافية ثم انطلقوا إلى آفاق الدنيا يحملون مشاعل الهدى والنور في ربوع العالمين.(26/40)
وفي ميدان قضايا المصير له منجزات، فكم سهر وتعب وفكر وساعد من أجل قضية فلسطين واسترداد القدس السليب، وكم أسهم ما استطاع عوناً للمجاهدين الأفغان الذين يناضلون ضد الملاحدة السوفييت المجرمين، وكم حرص على إيجاد حل لكل قضايا المسلمين في شتى أنحاء العالم؟ وقد فارق- يرحمه الله- الحياة وهو يناضل بفكره وجهوده مع أصحاب الحق في لبنان، وفلسطين ضد الصهاينة المعتدين.
وفي ميدان الأخوة الإسلامية، كم زار من الدول العربية الشقيقة والدول الإسلامية المختلفة، ابتغاء توطيد أواصر صلات المحبة والمودة بين إخوانه المسلمين، وتحقيق لم الشمل على طريق التضامن العربي والإسلامي، وبلوغ ما كان يحرص عليه من تحرير الأراضي المحتلة من أعداء الله الغادرين في كل مكان وبخاصة قبلة المسلمين الأولى التي دنستها -ولازالت تدنسها- أقدام شراذمة الصهاينة الغادرين الباغين.
وكم زار من الدول الصديقة كفرنسا، وألمانيا الاتحادية، وبلجيكا وغيرها تدعيما للعلاقات وتنمية للتعاون البناء بينها وبين المملكة، وعرض عرضاً واضحاً لقضية المسلمين الأولى وهي قضية استرداد القدس الشريف وحل المشكلة الفلسطينية التي فرضها الوجود الصهيوني الغادر، وإظهارا لشخصية المسلمين وكيانهم ممثلتين في المملكة العربية السعودية أصل إشعاع هدى الإسلام ونوره في العالمين.
وفي ميدان المعونات، كم مد يد المساعدة لإقامة المراكز الإسلامية في أنحاء المعمورة، وأقام المساجد، وأرسل الدعاة ليقوموا بنشر الدعوة الإسلامية، وعرض الإسلام عرضاً سليماً، إيقافاً لخطر الغزو الفكري الأجنبي الخبيث، وصداً لموجات التبشير العارمة التي تبذل جهوداً خيالية لمحاربة الإسلام بل ولتنصير أكثر بلاد المسلمين.(26/41)
إن ذلك جميعه قليل من كثير أنجز على يد خالد-رحمه الله- ولو أردنا أن نستقصي أثاره الخيرة على مدى السبع السنوات التي قضاها ملكا لهذه المملكة لملأ مجلدات، إنه لسجل حافل بالخير لا تزال أثاره ماثلة بين أيدينا نقطف من جناها ثماراً شهية طيبة.
هذا فضلاً عن جوانب الإصلاح الشاملة الداخلية لشتى ربوع المملكة التي طورت شعبها، ورقت به إلى مصاف الأمم المتقدمة الناهضة بما استخدم من أحدث الوسائل العلمية التي بلغتها أمم العالم الراقية.
ولئن كانت نهايته -رحمه الله رحمة واسعة- قد حلت على مشارف حلول شهر رمضان الكريم، فإن ذلك لمن جميل البشرى إن شاء الله- أن اختاره الله تعالى إلى جواره في أيام مباركات طيبات.
وفي نفس هذه الأيام التي لها قدرها عند الله تعالى، تسلم اللواء، وحمل الراية، وتولى زمام الأمور، رجل طالما تحمل الأعباء الرسمية خلال عهد أخيه الراحل، فكان ساعده الأيمن، والمسئول الأولى بعده، يبذل من جهده، ووقته، وفكره، ما أهَّله لأن يخلف ذلك الراحل الكريم في بداية شهر رمضان الكريم، فكانت تلك هي البشرى الثانية إن شاء الله.
ولئن حزنت قلوبنا، وملأ جوانبها الأسى بفقد خالدنا الحبيب، فقد سعدت واستبشرت بتولي الفهد الأمين عرش البلاد، يؤازره في مهامه، ويشد عضده ولي عهده الوفي، وباقي الرجالات الذين يقومون معه يحملون العبء، وينهضون بالتبعة.
ومن ثم كانت هذه الكلمات الموجزات منا تعزيةً في الراحل الكريم، سائلين الله تعالى أن يغفر له وأن يجزل له المثوبة، ويثقل ميزان حسناته بما قدم لأمته وللمسلمين من خير، وأن يرفع درجاته في جنات النعيم.(26/42)
ثم كانت كذلك بيعةً وعهداً للخلف الكريم جلالة الملك فهد، الذي تخرج في مدارس عبد العزيز، وسعود، وفيصل، وخالد، فاجتمعت في شخصه الكبير خبرات هذه المدارس وتجاربها وثمار فكرها لينضج الثمر وتطيب القطوف في هذه الشخصية الجامعة، سائلين الله تعالى أن يسدّده، ويرشده، ويأخذ بناصيته إلى ما يرضيه سبحانه من الخير والحق، وأن يعين ولي عهده في معاضدته، وأن يشد به أمره، وأن يهيئ له البطانة الصالحة التي تنير له السبيل السوي، وتبعده عن سبل الشر، وأن يجعله خير خلف لخير سلف، وأن يرفع به الإسلام في ربوع الدنيا، وأن يعز به المسلمين في كل مكان.
إنك ربنا جواد كريم، وأنت مولانا ونعم النصير.(26/43)
صفحة لغة
قل.. ولا تقل
للشيخ ضياء الدين الصابوني
الموجه التربوي للغة العربية بالجامعة الإسلامية
أثناءَ الحصة، أثناءَ المناقشة..
في أَثناِء الحصة، في أثناءِ المناقشة..
1-
يتوهّم بعضهم أنّ لفظ (أثناء) ظرف زمان مبني على فتح الآخر دائماً.
والصواب أن (أثناء) اسم معرب، وليس ظرفاً، وهو جمع.
مفرده (ثِنْيٌ) أو (ثِنَىً) ، والِثنْي: واحد أثناء الشيء.
وأثناء الشيء تضاعيفه، تقول: أنفذت كذا في ثِني كتابي أي: في طيه.
وأثناء الثوب: تضاعيفه وطيّاته، وأثناء الوشاح: ما انثنى منه.
وأثناء الوادي: معاطفه ومناحيه.
وأثناء الليل: ساعاته وأوقاته، وأثناء الحديث.
وفي القاموس: (وجاءوا في أثناء الأمر، أي: في خلاله) .
وفي المصباح: أثناء الشيء تضاعيفه..
وهذا ما يتفق مع استعمالاتنا لهذا اللفظ بما يفيد الظرفية.
وعلى ذلك فلا يجوز استعمال (أثناء) من دون أن يسبقه حرف جر (في) كما ورد في جميع قواميس اللغة ومعاجمها.
استبدل الكفر بالإيمان
استبدل الإيمان بالكفر
2-
الفعل (أبدل) أو استبدل، أو بدّل.
هذا الفعل وما تصرّف منه يحتاج إلى شيئين: (مأخوذ ومتروك) .
وفي أحدهما (باء الجر) ويلاحظ أن الباء لا تدخل إلا على المتروك.
فإذا قلت: استبدلت الصفّ بالطابور فمعناه أنّك تركت كلمة (الطابور) وأخذت الصف. وكلمة الطابور غير عربية.
وفي القرآن الكريم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} .
فالمستبدل هو (الخير) وهو المتروك.
وقوله تعالى {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} البقرة.
وهذه الملاحظة دقيقة يخطئ بها الكثير، وقد تخفى على الكتّاب، فيدخلون (الباء) على المأخوذ عكس المقصود، قال شوقي:(26/44)
لم أجد لي مؤنساً إلا الكتابا
أنا من بدّل بالكتب الصحابا
فأدخل الباء على المتروك وهو الكتب، بينما يعترف في عجز البيت بتفضيل الكتاب على الصحاب، وحقه أن يقول: أنا من بدّل الكتبَ بالصحاب.
وجاء في كتاب الأدب والنصوص للسنة الثالثة الثانوية في رسالة للكاتب الكبير جمال الدين الأفغاني ما يلي: "فقد استبدلت علمي بالجهل"وهذا مخالف لقواعد اللغة، والصحيح أن يقول: "استبدلت الجهل بعلمي".
حِراك: بالكسر.
حَراك: بالفتح.
3-
حَراك من الحركة، والحركة ضد السكون.
وما به حَراك: أي حركة، وكلها بفتح الحاء.
قال جرير:
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
إن العيون التي في طرفها حور
وهنَّ أضعف خلق ألله إنسانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
يرويها بعضهم "لا حِراك به"بالكسر وهو خطأ، والصواب بالفتح من الحركة.
حُباب الماء
حَباب
4-
حَباب الماء والرمل: بالفتح، معظمه أو طرائقه، أو فقاقيعه التي تعلوه، وتطفو كأنها القوارير، وهي اليعاليل.
قال امرؤ القيس من لاميته:
سموً حَباب الماء حَالاً على حال
سموت إليها بعد ما نام أهلها
وحَباب الماء: فقاقيعه وما يطفو على وجهه.
والحُباب: بالضم: الحب، والحُباب أيضاً: الحيّة (مختار) وبه سمّي (الحُباب بن المنذر) الذي قيل إنه أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر باحتلال أقرب بئر.
حَلَبة السباق
حلْبة السباق
5-
الحَلْبة: بسكون اللام كالضرْبة، خيل تجمع للسباق، من كل أوب، أي من كل ناحية. تقول: شهدنا حَلْبة السباق في الملز، جمعه (حَلائب) على غير قياس، وتجمع على حَلَبات.
أمّا قولهم (حلَبة) بفتحتين فجمع (حالب) مثل:
كتَبَه جمع كاتب، وحَلقة جمع حالق، ويفعة جمع يافع ...
لا يخفى عن
لا يخفى على
6-(26/45)
قل في حديثك: لا يخفى على العاقل، ولا تقل: لا يخفى عن العاقل، والصواب استعمال حرف الجر (على) . وهذا ما ورد في القرآن الكريم، وفي النصوص الفصيحة: قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} .
وقال أيضاً: {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْء}
وقال أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} .(26/46)
رثاء أهل البصرة في نكبة الزنج عام 257 هـ
(وما أشبه الليلة بالبارحة)
شغلها عنه بالدمع السجام
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
ـرة ما حل من هناتٍ عظام
أي نوم من بعد ما حل بالبصـ
أضرم القلب أيما إضرام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا
أوجعتني مرارة الإرغام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا
طالما قد غلا على السوام
رب بيع هناك قد أرخصوه
كان مأوى الضعاف والأيتام
رب بيت هناك قد أخربوه
كان من قبل ذاك صعب المرام
رب قصر هناك قد دخلوه
تركوه محالف الإعدام
رب ذي نعمة هناك ومال
تركوا شملهم بغير نظام
رب قوم باتوا بأجمع شمل
ـل إذا راح مدلهم الظلام
دخلوها كأنهم قطع الليـ
حق منه يشيب رأس الغلام
أي هول رأوا بهم، أي هول
وشمال وخلفهم وأمام
إذ رموهم بنارهم من يمين
كم أغصوا من طاعم بطعام
كم أغصوا من شارب بشراب
فتلقوا جبينه بالحسام
كم ضنين بنفسه رام منجي
ترب الخد بين صرعى كرام
كم أخ قد رأى أخاه صريعا
وهو يعلى بصارم صمصام
كم أب قد رأى عزيز بنيه
حين لم يحمه هنالك حامي
كم مفدى في أهله أسلموه
بشبا السيف قبل حين الفطام
كم رضيع- هناك- قد فطموه
فضحوها جهراً بغير اكتتام
كم فتاة- بخاتم الله بكرٍ-
بارزاً وجهها بغير لثام
كم فتاة مصونة قد سبوها
طول يوم كأنه ألف عام.
صبَّحوهم فكابد القوم منهم
نج يقسمن بينهم بالسهام
من رآهن في المقاسم وسط الز
بعد ملك الإماء والخدام!
من رآهن يتخذن إماءً
الوظيفة التربوية للغة(26/47)
مما لاشك فيه أن الطفل الذي لا يتلقى لغته أو يتشرب روحها في طفولته ينشأ مفكك الشخصية، هزيل التفكير، لأن الفكر واللغة كوجهي العملة لا يمكن أن يتصور أحدهما بدون الآخر. فالطفل عن طريق لغته يستطيع في مرحلة مبكرة أن يتقبل المبادئ الدينية والخلقية والاجتماعية، ويستطيع عن طريق هذه اللغة أن يشارك الكبار في التشبع بالقيم الموجودة، والتشرب بالتقاليد السائدة لأن اللغة هي الوسيلة الفعالة لاستقبال هذه الخبرات، ولا تستطيع أي لغة أجنبية أن تمد الطفل بالقدر اللازم من المعاني التي تسهم في تربيته تربية وطنية، لذلك تؤكد التربية الحديثة أن في تعليم الطفل لغة أجنبية في سن مبكرة جدا خطرا، على كيانه الوطني من جهة ومن جهة أخرى يضر بنموه الثقافي، ويضعف من سرعته لتقبل المعلومات والمهارات الضرورية في مثل هذا الطور، ونحن لا ننكر أن تعليم اللغة الأجنبية طاقة ثقافية تزيد من معارفهم وخبراتهم، ولكن ينبغي أن يعاد النظر في الوقت الذي ينبغي أن يتعلموا فيه هذه اللغة وقد تنبهت الأمم العربية - والحمد لله - لها الخطر.(26/48)
الحكم على الشيء فرع عن تصوره
للشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث
هذا المقال إنما يعني مناقشة لآراء وأفكار لصحفي تعرض في محاضرة له لحقائق لم يتصورها، وتعرض فيها لبعض صفات الله تعالى بالنفي والإنكار وعدها من أنواع البدع.
والمقال جاء ليفند تلك المزاعم ويصحح تلك الأخطاء على ضوء الكتاب والسنة، مع تقديم نصائح خاصة للمحاضر ونصائح عامة للدعاة إلى الله لتكون دعوتهم على بصيرة لئلا ينخدعوا بجعجعة المنحرفين الذين يلبسون على بعض السذج.
ثم يستطرد المقال في بيان حقيقة إسلام الخميني ويكشف عن بطلانه وذلك حتى لا ينخدع صغار طلبة العلم الذين قد (يستسمنون ذا ورم) بثورة الخميني المضللة التي سماها ثورة إسلامية زورا وبهتانا، وإنما هي ثورة جاهلية تتنافى وتعاليم الإسلام الرحيمة.
كل ذلك نصح للقارئ ورحمة به، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على من بعثه رحمة للعالمين محمد وآله وصحبه أجمعين..
الحمد لله، وصلاة الله وسلامه وبركاته على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع النور الذي أنزل معه واقتفى أثره.
وبعد:-
ففي بعض الأيام القريبة الماضية وردني شريط غريب يحمل محاضرة غريبة، إنه من الكويت وإنه من إسماعيل الشطي رئيس تحرير مجلة المجتمع.
والمحاضرة المذكورة ألقيت أمام جمع غفير في مسجد جامع من مساجد مدينة الكويت - وقد تحدث فيها المحاضر (الشطي) عن نقاط كثيرة ومختلفة، تحت عنوان (التطرف والتفرق) (فيما أحسب) . ويمكن حصر تلك النقاط في الآتي:-
1- تحدث المحاضر عن تطرف الخوارج وتفرقهم، وتطرف الشيعة وتفرقهم، وبعض عاداتهم، وقد أجاد في تلك النقاط ما شاء الله أن يجيد، فنشَكره على ذلك.(26/49)
2- استعرض المحاضر جماعة تعرف بجماعة الهجرة والتكفير، وتحدث عنهم حديث من عاشرهم وخالطهم وخص من سماه رئيسهم (شكري) بالحديث، وتحدث عن أفكاره الشاذة التي تدل على نوع خطير من أنواع الجهل، وهو الجهل (المركب) ولم ينس الشطي - (جهيمان وأتباعه) - ولكنه تناقض في وصفه إذ جمع له بين الذم والمدح، ووصفه بأنه مجتهد، وجهيمان لم يلغ درجة الاجتهاد ولم يقاربها، ولا (شكري) الذي قبله، بل كلاهما أقرب إلى الجهل منهما إلى العلم، ولكن (حبك للشيء يعمي ويصم) كما يقولون.
3- تحدث عن التقليد، ووصفه بأنه سنة قديمة ومعروفة لدى القرون الثلاثة المفضلة، هذه النقطة من النقاط الكثيرة التي لم يوفق فيها أخونا الشطي. عفا الله عنه.
فننصح الأخ الشطي أن يدرس حياة الأئمة الأربعة وما نصحوا به تلامذتهم وأصحابهم، ليجد أنهم كلهم نصحوا أصحابهم وتلامذتهم بعدم التقليد، وأن يأخذوا من حيث أخذوا وأنهم بشر لا يوحي إليهم (يقولون اليوم قولا ثم يرجعون عنه غدا) [1] ، وأن الواجب إتباع هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأي طالب علم اطلع على قولا إمام من الأئمة وعرف أنه مخالف لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام فالواجب عليه أن يترك قول ذلك الإمام لقول رسول عليه الصلاة والسلام، هذا ما كان عليه سلف هذه الأمة والقرون والمفضلة. ولا يعرفون للتعصب المذهبي معنى أبدا ولم يدر يخلدهم. ولا يرون أحدا يجب إتباعه والتأسي به غير رسول الله عليه الصلاة والسلام.(26/50)
والغريب من أمر الشطي أنه تناقض في هذه النقطة، إذ سمعته غير مرة في محاضرته وهو يقول لا يرى التعصب المذهبي ولا يدعو إليه، والتناقض صفة لازمة لكل من يخطب على غير منبره أو يمد يده إلى مائدة لا تنالها يده القصيرة، وكان الواجب على الشطي إذا أراد أن يتحدث عن مثل هذه النقاط أن يرجع إلى الذين درسوا الإسلام بتوسع على أساس {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، ومنهم أولئك النخبة من خريجي كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين، وقد نفع الله بهم البلاد والعباد في جملتهم ولو لم يرض عنهم الشطي، بل يسخر منهم، ومن التناقض الذي وقع فيه الأخ الشطي أن موضوع محاضرته (ذم التفرق والتطرف) ، فإذا هو يدعو إلى أسباب التفرق فيقع هو نفسه في التطرف وذلك:
(أولا) ذكر الشطي في مقدمة محاضرته أن المراد بالمسلمين جماعة معينة وليس مراده جميع المسلمين.
وفي أثناء المحاضرة انتقد هذا المفهوم وذمه عندما كان يتحدث عن شكري وأتباعه وجهيمان وأشياعه وتطرفهما، وهذا نوع من التناقض، لأن المفهوم الذي يذم إذا صدر من شكري وأمثاله يجب أن يذم إذا صدر من الشطي إن كان هناك إنصاف، والإنصاف من الإيمان. ومن الإنصاف أن تجر باء شكري كما تجر باء الشطي سواء بسواء، سلبا وإيجاباً.(26/51)
(ثانيا) يدعو الشطي المسلمين إلى أن يتفرقوا أربع فرق بدعوى وجوب تقليد الأئمة الأربعة، وفي الوقت نفسه يزعم أن السلفيين الذين يسميهم (اللامذهبيين) هم الذين يفرقون صفوف المسلمين وهذا تناقض مشروع لا يحتاج إلى شرح. سامحه الله. وموقف السلفيين معروف، ودعوتهم واضحة لا غموض فيها، وهي تعني تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن مصدر التلقي يجب أن يكون موحدا لجميع المسلمين، ألا وهو الوحي كتابا وسنة، مع احترام أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم والترحم عليهم والإعتراف بفضلهم، لأن الله تعالى حفظ الشريعة على أيديهم بعلمهم وتعليمهم وجهادهم ودعوتهم إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مجتهدون فيما لا نص فيه وإن أصابوا فلهم أجران، أجر بذل المجهود وأجر الإصابة، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، لأنهم بمثابة الحكام والقضاة "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران فإن أخطأ فله أجر واحد" كما ثبت ذلك في السنة الصحيحة.
هذا موقف السلفيين من الأئمة، وتلكم دعوتهم واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا روغان. ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن الأخ الشطي ليس وحيد دهره أو فريد عصره في دعوته إلى التقليد، بل له سلف في دعوته هذه بشكل أفظع، إذ يدعي بعض المتأخرين من المؤلفين أن تقليد أحد الأئمة الأربعة واجب وجوبا في الوقت الذي لا يجوز تقليد غيرهم من الأئمة، حيث يقول صاحب (جوهرة التوحيد) :
كذا حكى القول بلفظ يفهم
فواجب تقليد حبر منهم
هذا ما قاله الناظم، وأما ما قاله الشارح- وهو إبراهيم البيجوري الشافعي- فهو أسوأ مما قاله الناظم، إذ زاد الطين بلة وأبعد النجعة وركب الصعب وقال شططا، وأعلن بذلك كله عن سوء تصوره لمسألة التقليد، حيث زعم أنه لا يجوز تقليد غير الأربعة ولو كان من أكابر الصحابة، هكذا بالحرف الواحد.(26/52)
وهذا الكلام لو حلل تحليلا لا تجد له طعماً ولا ريحاً، وهو كلام مرفوض شرعا وغير مستساغ عقلا، وتوضيح ذلك كالآتي:
(أ) الوجوب حكم شرعي، وهو ما شرعه الله وأمر به أمراً جازما في كتابه أو فيما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله وحده هو المشرع ورسوله المصطفى هو المبلغ عنه شرعه سبحانه، وقد اختاره الله لهذه المهمة، مهمة التبليغ. وليس فيما بلغه رسول الله عليه الصلاة والسلام وجوب تقليد أحد الناس سلفا وخلفا، إذا بأي كتاب، أو بآية سنة وجب تقليد أحد الأئمة الأربعة رحمهم الله في الوقت الذي لا يجوز تقليد غيرهم ولو كان المقلَّد أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم؟ !!.
(ب) كان يعيش في عصر التابعين أربعة من الأئمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في حقهم إنهم أئمة الدنيا في عصرهم وهم مالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، والثوري بالعراق، والليث بن سعد بمصر.
وهنا سؤال يطرح نفسه ولا يمكن رده بحال وهو:
ما هو الدليل الشرعي الذي اختار الإمام مالكاً دون الأئمة الثلاثة الآخرين لهذا الوجوب؟ !!. وما هو المسوغ العقلي لهذه التفرقة؟ !!، ولا أظن أن أحداً يملك الجواب على هذا التساؤل.
والأئمة الأربعة في تصور البيجوري بمثابة رؤساء الأحزاب، المتنافسين على الزعامة ولكل حزب دستوره وشروطه يجب على أتباعه إلتزامها ومن كان منتميا إلى حزب مالك مثلا لا يجوز له الإنخراط في حزب الشافعي إلا بعد الإستقالة من حزب مالك، وهكذا دواليك إلى آخر الأحزاب.
ويشهد لما ذكرنا ذلك الجدال الذي يخوض فيه البيجوريون وهم يناقشون مسألة وجوب التقيد بمذهب معين أو جواز الإنتقال من مذهب إلى مذهب.(26/53)
قال إبراهيم البيجوري في جملة ما قاله: "قال بعضا لا يجب تقليد واحد بعينه، بل له أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى، فيجوز أن يصلي صلاة الظهر على مذهب الإمام الشافعي وصلاة العصر على مذهب الإمام مالك وهكذا".
هل سمعتم أو قرأتم حديثاً شيقا كهذا؟ !! هل صفة الصلاة عند الإمام الشافعي تختلف عن صفة الصلاة عند الإمام مالك رحمهما الله؟، اللهم إلا إذا أراد مسألة وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر علما بأن حديث وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر قد رواه مالك في الموطأ، فنستطيع أن نقول أن مذهبه هو القبض لا الإرسال، والإرسال إنما هو مذهب بعض أتباعه كابن قاسم مثلا، وعلى فرض أن الإمام مالكا أرسل ولم يقبض، يقال: إن الحجة فيما رواه لا فيما رآه (وهذه قاعدة) تقال حتى في حق صحابي روى حديثا وعمل بخلافه.
وعلى كل فإن تصور البيجوري وضع الأئمة في غاية الغرابة وليس أغرب منه إلا قول الشطي أن التقليد سنة، وأن توحيد الأسماء والصفات بدعة كما تسمعون قريباً إن شاء الله.
وهذا المفهوم البيجوري هو الذي تمسك به بعض المثقفين من الأنصاف الذين لم يدرسوا الإسلام دراسة يفرقون بها بين السنة والبدعة وفي مقدمتهم مجموعة الشطي، وقد طغت هذه البدعة - التعصب المذهبي- التي سماها الشطي سنة في فترة من فترات التاريخ. بل في وقت قريب في عاصمة من عواصم المسلمين- دمشق- وفي مسجد عتيق من مساجدهم - المسجد الأموي-، حتى اتخذ فيه لكل مذهب مصلى يخصه على شكل محراب - على ما أخبرني بعض الثقات من أهل العلم- وإذا ما حان وقت صلاة من الصلوات الخمس تفرق الناس على هذه المحاريب الأربعة فيؤدي كل إمام مذهب الصلاح بأتباعه وأهل مذهبه في المحراب المخصص له.
قلت ولا تخلو الحال عقلا عند أدائهم الصلاة من الآتي:(26/54)
(أ) أن يحضر أئمة المذاهب الأربعة معا في لحظة إقامة الصلاح فيشرعون في الصلاة معا، كل إمام في محرابه يصلي بقومه، ومعنا ذلك أن تقام صلاة الجماعة في وقت واحد في مسجد واحد في أماكن متعددة والمصلون كلهم على دين واحد.
(ب) أو أن يصل الأئمة الأربعة إلى المسجد متفرقين لا مجتمعين بأن يحضر - مثلا- إمام الحنابلة، أو الشافعية في أول وقت صلاة الفجر فيبادر فيصلي بقومه في أول الوقت ثم يصلي المالكي وأخرا يأتي الحنفي وقد انتشر ضوء الفجر ليجد قومه جلوسا ينتظرون إذ لا يجوز لهم أن يصلوا خلف حنبلي أو مالكي أو شافعي فيصلي بهم على مذهبه هذه هي القسمة العقلية.
وهنا يحق لي أن أقف وقفة أسأل القراء، لو أن رجلا أجنبيا (غير مسلم) يهودياً أو نصرانيا أو مجوسيا شاهد هذا الواقع الفوضوي ثم سئل عن انطباعاته فيا ترى ماذا يكون جوابه؟ في تصوري يكون جوابه –إن كان واعيا- أن يقول: هذه أربع ملل في داخل ملة واحدة وهي ملة الإسلام.
وبعد:
إن هذه المهزلة وهذا التمزق في صفوف المسلمين علما حساب التقليد، وهذه الصورة المشوهة للإسلام هذه المعاني هي التي ينهى عنها الدعاة السلفيون الذين سماهم الشطي (اللامذهبيون) .(26/55)
فليفهم الموضوع جيدا لئلا تنخدعوا بجعجعة دعاة التعصب هذا، وقد مر على المسجد الحرام واقع كهذا أو ما يشبه هذا الواقع تقريبا قبل العهد السعودي الذي يعتبر بحق عهد الإصلاح والتصحيح والدعوة إلى وحدة الصف، وقد حضرت موسم حج سنة 1369 هـ وشاهدت المقامات الأربعة للأئمة الأربعة موزعة في المسجد الحرام إلا أن المصلين يصلون خلف إمام واحد يقف أمام الكعبة كما هو الحال اليوم ولكن جاذبية التعصب كانت تجذب الحجاج وتوزعهم على هذه المقامات الأربعة للتجمع حولها والجلوس تحتها كل مجموعة تحت مقام إمام مذهبها أو في مكان قريب منه على الأقل إلى أن أزيلت تلك المقامات، وبحق تعد إزالتها حسنة من حسنات الحكومة السعودية الموفقة التي قضت على كثير من أسباب تفرق المسلمين في الوقت الذي سعت ولا تزال تسعى في تقريب صفوف المسلمين، بل في توحيد صفهم، أثابها الله وتقبل منها ومن أمثلة ذلك هذه الجامعة الإسلامية العملاقة التي نعيش فيها الآن والتي استطاعت بتوفيق الله أن تجمع نخبة من شباب المسلمين من أقطار الدنيا على دراسة منهج موحد في الأحكام الفقهية، فشاهدوا لأول مرة منهجا جامعيا يدرس المذاهب الأربعة مع مناقشة أدلتها، وترجيح ما يشهد له الدليل بحيث لا يكون فضل لمذهب على مذهب آخر إلا موافقة الدليل من كتاب أو سنة، كما شاهدوا لأول مرة عقيدة تؤخذ من الكتاب والسنة رأسا دون إلتفات إلى علم الكلام وفلسفته وتعقيداته.
(ج) أما بالنسبة للخلفاء الراشدين فليس الأمر كما زعم البيجوري في تقليدهما، حيث أن الأخذ بأقوال الخلفاء الراشدين وأفعالهم لا يعد تقليدا، بل إن ذلك يعتبر سنة نبوية إذ يقول رسول الهدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" الحديث.
ثم إن هذا الهذيان الذي تجدونه في حاشية البيجوري وأمثالها هو الذي يصفه الشطي بقوله: (إن التقليد سنة قديمة ومعروفة) .(26/56)
هكذا ينخدع من لا يفرق بين التمرة والجمرة، رزقنا الله وإياه وإياكم البصيرة في ديننا، وكأن الشطي يحسب أن كل ما كتب على ورق أصفر قديم مسوس أنه سنة قديمة وهذا من المفاهيم الحديثة المبتكرة عند الشطي وأمثاله.
(4) زعم الشطي أن السلفيين لا ينكرون على الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، بل همهم الوحيد توحيد الأسماء والصفات، هذه من إحدى الكبر، وهي سخرية جريئة كما ترون.
(5) زعم الشطي أن السلفيين لا يشجعون المجاهدين الأفغانيين ولا يتعاونون معهم ولا مع أمثالهم، هكذا زعم الشطي.
وبعد: إن هذه النقطة هي والتي قبلها يبدو أنهما سيقتا لغرض معين، لهذا نستحسن أن نقف عندهما وقفة غير قصيرة لنتساءل بعض التساؤل:
ماذا يعني الشطي بهاتين النقطتين؟ وإلى ما يهدف؟ ولماذا هبط هذا الهبوط بمستواه؟ وعلى حساب من؟.
والذي يبدو لي- والله أعلم- أن هدف الشطي وغرضه من هاتين النقطتين هو محاولة إثارة شعور المسلمين ضد الدعاة السلفيين وإفساد سمعتهم عالميا، وهو يعلم علم اليقين أن موقفه شبيه بموقف إخوة يوسف الذين اتهموا الذئب المسكين بأنه متورط في دم يوسف، والذئب بريء ووقفوا من أخيهم ذلك الموقف المعروف وسببوا لوالدهم ذلك الحزن الطويل، كل ذلك لغرض رخيص وهزيل وهو (أن يخلو لهم وجه أبيهم) .
ومثل هذه المحاولة الرخيصة كان المفروض أن يترفع عنها الشطي ولا يتورط فيها ولكن (قدر الله وما شاء فعل) والمحاولة تدل على أنه في تلك اللحظة غاب عن مراقبة الله تعالى فنسي أن الله مطلع على قصده ونيته وما تكنه نفسه، وإلا لا تكاد تقع مثل هذه المحاولة ضد دعاة الإسلام المعروفين بغيرتهم الإسلامية من شخص لديه تقدير للمسئولية ولكن الغفلة عن الله تعمل عملها إذا تمكنت من المرء، والله المستعان.(26/57)
ثم إن الشطي يعلم أن السلفيين حريصون على تصحيح مفاهيم كثيرة للعوام وأشباه العوام في باب العقيدة والعبادة وغيرهما، ولا يدخرون وسعا في ذلك، نصحا منهم لعباد الله والنصح واجب لأن من عرف الله حق المعرفة وسلمت عقيدته من التعلق بغير الله، وآمن بأسمائه الحسنى وصفاته العليا دون إلحاد أو تحريف، فحقق العبودية لله تعالى، سهل عليه القيام بالواجبات والفرائض الأخرى في الإسلام، لأنه قد وضع حجر الأساس لسيره إلى الله ومن لا فلا.
هذه دعوة السلفيين موجهة إلى جميع الناس حكاما ومحكومين دون تفريق بين طائفة وأخرى أو جماعة وأخرى، وهم يدعون الجميع إلى الإيمان الصحيح وإلى نفض ما علق بالإيمان والعقيدة من أتربة الجاهلية وغبارها لتقوى علاقتهم بربهم وخالقهم إلى التقيد بالإسلام، بالإسلام وحده في جميع مجالات الحياة، يرون أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله هو نوع من عبادة غير الله وأن أولئك الذين سموا أنفسهم رجال التشريع الذين يحللون ويحرمون دون الرجوع إلى تحليل الشرع وتحريمه، إنما هم طواغيت نصبوا أنفسهم أربابا ومعبودين من دون الله، كما قال الله تعالى في علماء أهل الكتاب وعبادتهم مع أتباعهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} علماً بأنهم لم يركعوا لهم ولم يسجدوا ولكنهم اتبعوهم في التحليل والتحريم كما جاء ذلك في السنة الصحيحة ومن سموهم رجال التشريع يقومون بالوظيفة نفسها، إذا فالكل أرباب من دون الله، كما لا يخفى، فكيف يتهم دعاة هذه دعوتهم بعدم الإهتمام بشئون المجاهدين وأنهم لا ينكرون الحكم بغير ما أنزل الله؟ !! سامح الله الشطي.(26/58)
ثم أخذ الشطي يتخبط خبط الناقة العشواء يصعد ويهبط، ينفي ويثبت، يدعي العلم ويعلن الجهل، لغياب التصور الصحيح عنه في باب عظيم من أبواب العلم والمعرفة والإيمان وهو باب الأسماء والصفات، الذي لا اجتهاد فيه ولا استحسان، بل لا يتجاوز فيه الكتاب والسنة.
حقا إن (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) وهذه الكلمة أصدق كلمة قالها المنطقيون أو من أصدق كلماتهم، إذ تشهد لها في الجملة نصوص من الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء أية 36) وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَْ} (النحل 116) وقوله عليه الصلاة والسلام في آخر حديث طويل: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت" وفي رواية البخاري: "أو ليصمت" رواه الجماعة.
وقد أشتط الشطي حين زعم أن توحيد الأسماء والصفات (بدعة) وهى مبالغة جريئة لم تقدر الله حق قدره. وكأن الشطي يريد أن يأتي بما لم تأت به الأوائل. ثم أراد أن يهدئ بعض النفوس التي قد تثور من هذا التعبير المتهور، فبادر قائلا: هذا قول (ابن حزم) ولا يدري الشطي (المسكين) أن ابن حزم ليس بحازم في بحث العقيدة كما هو حازم في الفقهيات، مع ضرورة التحفظ في أدلته حتى في الفقهيات.
وبعد: هكذا ظهر الشطي على المجتمع في ذات ليلة ليجعل التقليد سنة معروفة عند القرون المفضلة كما تقدم. ويجعل توحيد الأسماء والصفات بدعة وهو أصل من أصول الدين الذي يتوقف عليه معرفة الله تعالى التي هي غاية مطالب العباد، وقد تعرف الله إلى عباده بأسمائه وصفاته وآلائه مع آياته الكونية.
تدل على أنه وأحد(26/59)
وفي كل شيء له آية
حضرني وأنا أكتب هذه السطور كلام عظيم قاله إمام جليل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. حيث يقوله:
"وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا 1-نصف متكلم 2- نصف متفقه 3- نصف متطبب 4- نصف نحوي.
هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان".
ما أصدق هذا الكلام لأنه كلام داعية مجرب، وقد خالط الناس على اختلاف طبقاتهم وتفاوتهم في الفهم والإدراك، ناظر العلماء فأفحمهم في كل باب من أبواب العلم والمعرفة كما سيأتي الحديث عنه وخاطب الأنصاف وخبرهم وعرف آفتهم وضررهم على المجتمع في دنياهم ودينهم وعقيدتهم بل حتى أبدانهم وألسنتهم ولغتهم، وقديما قيل: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيبا"وطالب العلم الذي يستطيع إذا قرأ كلام عالم من العلماء أن يزن ما أطلع عليه وقرأه بميزان الكتاب والسنة، وكان هدفه الوصول إلى الحق ونصرة الحق ودعوة الناس إلى الحق، لا يقع في مثل هذا التناقض ولا يجرؤ على الله وعلى صفاته مثل هذه الجرأة لأن العلم يورث صاحبه مراقبة الله ومحاسبة النفس في كل ما يفعل أو يقول.(26/60)
وقد خص الشطي- سامحه الله - صفة اليد (لله تعالى) بمزيد من الكلام بين سائر الصفات وبالغ في نفيها في الوقت الذي ينفي فيه علمه بتوحيد الأسماء والصفات عامة وصفة اليد خاصة وقال غير مرة في محاضرته (أنا لا أعلم هذا التوحيد) يعني توحيد الأسماء والصفات ثم أخذ يسأل الحضور سؤال استنكار وبأسلوب ساخر غير لائق بل يتنافى وتقدير الله حق قدره، إذ يقول: "هل تعلمون أن لله يدا، هل سمعتم من آبائكم أن لله يداً"يا سبحان الله. ما أجرأ هذا المسكين على ربه (السميع الحليم) ؟ نحن لا نختلف معه في أنه لا يعلم، لكن يعلم إذا كان لا يعلم هو؟ بل لماذا يسخر من العلماء؟ هلا تواضع ليتعلم على خريجي كلية الشريعة ولديهم علم ومعرفة في هذا الباب وغيره؟ وكيف استساغ الشطيّ أن يتحدث عن الله وعن صفاته بأسلوبه (اللامسئولية) ، هلا استحيا من الله وهو يتحدث عنه سبحانه بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير؟.
يحدثنا التاريخ أن رجلا سأل الإمام مالكا عن كيفية استوائه تعالى على عرشه حيث قال: "الرحمن على العرش استوى، كيف استوى"؟، فاندهش الإمام مالك من هذا السؤال، كيف يتجرأ على الله هذا العبد المسكين الذي يعجز عن معرفة كيفية بعض مخلوقاته تعالى ثم يسأل عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه، فأطرق مالك رأسه إلى أن تصبب عرقا حياء من الله. ثم رفع رأسه فقال: "الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"ثم أمر بإخراج السائل من مجلسه لأنه مبتدع، هكذا سئل مالك وهكذا أجاب بعد تلك الحالة التي طرأت له.(26/61)
ولو قارنا بين موقف صاحب مالك وأسلوبه في سؤاله وبين موقف صاحبنا الشطي وأسلوبه الساخر لوجدنا موقف الشطي أسوأ، وأسلوبه أبعد من الحياء والأدب!! إذا كنا قد تأكدنا أن آفة إسماعيل الشطي أنه لم يدرس هذا المبحث، وليس لديه أدنى إلمام فيه فالواجب علينا أن نسعفه بهدية نرجو أن تكون مقبولة لديه وهي عبارة عن درس. موجز في توحيد الأسماء والصفات، فأرجو أن يتقبلها بقبول حسن ويفرح بها لعل الله ينفعه بها إن خلصت النية وحسن القصد.
واليك أيها الأخ المسلم ما يفتح الله علينا في السطور الآتية:
مبحث الأسماء والصفات
وقبل أن ندخل في صلب المبحث نؤكد أن مبحث هذا الباب توقيفي محض بمعنى أنه، لا يخضع للإجتهاد ولا للقياس أو الإستحسان العقلي أو النفي والإثبات بالذوق والوجدان. في السبيل إليه الأدلة السمعية الخبرية، وبعبارة أخرى (لا يتجاوز الكتاب والسنة في هذا الباب) وهذه العبارة التي تجدها ببن قوسين منقولة عن إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل وأدلة الكتاب والسنة يقال لها سمعية ويقال لها خبرية، ويقال لها نقلية، أي الأدلة المسموعة عن الله أو عن رسوله، والتي أخبر الله بها عن نفسه أو أذن لرسوله فأخبر بها أو التي نقلت إلينا عن كتاب ربنا أو عن سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
هذه الأدلة هي السبيل الوحيد في معرفة الأسماء والصفات، والعقل السليم سوف لا يخالف النقل الصحيح، وعلى هذا الأساس نبدأ معك أيها الأخ المسلم الحديث في صفات الله الواردة التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله، إذ لا يصف الله أعلم بالله من الله ولا يصفه من خلقه أعلم بالله من رسوله عليه الصلاة والسلام.(26/62)
وقد وصف الله نفسه بالعلم والحلم والحكمة والعزة والسمع والبصر مثلا، فعلينا أن نثبت هذه الصفات وغيرها من الصفات الواردة في كتاب ربنا إثباتاً لا يصل إلى حد التشبيه والتمثيل، مع تنزيه الرب تعالى عن مشابهة مخلوقاته فيما أثبتناه له من الصفات تنزيها لا يصل بنا إلى حد التعطيل، ويكون موقفا إثباتاً بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل على ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني التنزيه وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يعني إثبات السمع والبصر على ما يليق بالله، لا على ما يليق بالمخلوق.
وهكذا نقول في جميع صفات الله الواردة في الكتاب والسنة قبل أن نتجاوزهما كما أسلفنا.
ومن الصفات ما ذكرنا من العلم والحلم والحكمة والعزة وما لم نذكره من الصفات الثابتة في القرآن والحديث.
ومما أثبت الله لنفسه في كتابه: اليد، والوجه، والمجيء لفصل القضاء يوم القيامة، والإستواء على عرشه.
وموقفنا من هذه الصفات هو عين موقفنا من الصفات السالفة الذكر من السمع والبصر وغيرهما، أي كما أثبتنا سمعا وبصراً يليقان به لا كسمع المخلوقين وبصرهم.(26/63)
كذلك نثبت له يداً تليق به لا كأيدي المخلوقين، ووجها لا كوجوههم واستواء يليق به لا كاستواء المخلوق، ومجيئاً يليق به لا مجيء المخلوق وإذا خطر لك خاطر وأنت تتلو الآيات الكريمة التي تتحدث عن هذه الصفات كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أو مررت وأنت تتصفح كتاباً من كتب الحديث، بحديث صحيح يقول فيه الصادق الأمين محمد عليه من ربه أَفضل الصلاة وأزكى التسليم: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة إذا بقي الثلث الآخر من الليل" الحديث، أو مررت بغيره من أحاديث الصفات التي قد تكون غريبة عليك فأول خطوة تخطوها أَن تبحث عن صحة هذه الأحاديث إما بالمراجعة الفاحصة والواعية في المراجع المعتبرة أو بسؤال أهل العلم والفقه في الدين إذا كنت لا تقوى على المراجعة.
وإذا تأكدت من ثبوت النصوص لم يبق أمامك إلا أَن تقول أمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وأمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله وكفى. هذه العبارة تروى عن الإمام الشافعي رحمه الله.(26/64)
ثم إياك وإياك أَن تخوض في صفات الله بالتأويل والتحريف أو بالتشبيه والتجسيم، بل تثبتها على ضوء الآية السابقة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} وقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} لأن الصفات كلها من باب واحد ولا يجوز التصرف في صفات الله بالعقل المحض على خلاف النصوص بإثبات بعضها وتأويل البعض الآخر كما فعلت الأشاعرة الكلابية، حيث أثبتوا صفات الذات كالقدرة والإرادة، والسمع والبصر وغيرها، أثبتوها على ما يليق بالله دون تشبيه أو تجسيم ودون تحريف أو تعطيل ولكنهم ادعوا وجوب تأويل صفات الأفعال، كالمجيء والنزول، بدعوى أن إثباتها على ظواهرها يؤدي إلى التجسيم وهذا جهل يتوارثونه، فيقال لهم: كيف أثبتم السمع والبصر على ظواهرها أم على باطنهما؟ فيكون الجواب الصحيح: على ظاهرهما ولكن الظاهر الذي يليق بالله لا على الظاهر الذي يليق بالمخلوق، فيقال لهم: الكلام في بض الصفات كالكلام في البعض الآخر يحتذي حذوه، فنحن نثبت لله الصفات السمعية من اليد وغيرها على ظاهرها الظاهر، الذي يليق بالله لا على أساس أَنها جوارح أو أَعضاء، لأن إيماننا بالله سبحانه إيمان إثبات وتسليم وكذلك يجب أن يكون إيماننا بصفات الله إيمان إثبات للصفات قبل الخوض فيها بالتحريف أَو بالتأويل أو بالتشبيه بل نسلم لله فيما أَثبته لنفسه ولا ننازعه، ونسلم لرسوله الأمين فيما أثبته لربه سبحانه ولا ننازعه ولا نزيد عليه، إذ سبق أن قررنا أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ولا يصفه من خلقه أعلم بالله من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبعد:
أكتفي بهذا المقدار من هديتي التي وعدتك بها أيها الأخ المسلم لأن خير الكلام ما قل ودل كما يقولون، ثم أحب أن ألفت نظرك إلى الأمور الآتية:(26/65)
(1) لعلك تستشكل وتسأل عن دليل تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام علماً بأني قد أدركت من محاضرتك بأنك مطمئن إلى قسمين من الأقسام الثلاثة ومستغرب القسم الثالث فقط الذي هو توحيد الأسماء والصفات الذي نحن بصدد الحديث عنه، وإجابة على سؤالكم المقدر، أقول مستعينا بالله وحده:
دليل تقسيم التوحيد إلى الأقسام الثلاثة هو الاستقراء وهو دليل مسلم لدى جميع العقلاء وكيانه كالآتي:
(أ) هناك نصوص تتحدث عن انفراد الله تعالى بالخلق والإيجاد، والرزق والعطاء والمنع والضر وهو الذي يدبر الأمر من السماء والأرض وهو خالق كل شيء إلى غير ذلك مما يدل على توحيد الله تعالى في ربوبيته وخالقيته، ويسمى توحيد الربوبية، ولم يتوقف أحد من بني آدم فيه، بل هو معروف ومسلم به لدى جميع طبقات الناس حتى عند مشركي قريش {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
(ب) وهناك نصوص تتحدث وتحث على إفراد الله تعالى بالعبادة كما انفرد بخلق العباد وجميع المخلوقات {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وغير ذلك من تلك النصوص الكثيرة التي تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، لأن الشرك ظلم عظيم، ويسمى هذا النوع توحيد العبادة، وهو محل المعركة قديما وحديثا ولم تضع الحرب أوزارها إلى الآن ولن تضع أبدا، بل سوف يستمر الصراع بين الشرك والتوحيد وبين الإسلام والجاهلية بجميع صورها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتلك سنة الله التي لا تتغير، وهي حقيقة يجهلها أو يتجاهلها كثير من الدعاة في هذا الوقت.(26/66)
(ج) وهناك نصوص أخرى كثيرة تتحدث وتخبر بأن الله تعالى سميع، بصير، عليم، حليم، عزيز، حكيم، له يدان مبسوطتان، خلق آدم بيده، وأنه مع خواص عباده، معية خاصة ومع جميع خلقه بعلمه وتدبير أمورهم والاطلاع عليهم وهي معية عامة وغير ذلك من النصوص التي قد أوردنا بعضها فيما تقدم. فيجب إثبات هذه الصفات كما جاءت والإيمان بأن الله هو المتصف بها وحده ولا شاركه غيره في حقائقها وأنها بمجرد الإضافة إليه تختص به كما تختص صفات المخلوقين بالإضافة إليهم، وأن المشاركة اللفظية بين صفات الخالق وصفات المخلوقين لا يلزم منها المشاركة في حقائق الصفات، وأن أسماء الله تعالى تدل على صفاته تعالى وليست أسماؤه جامدة كالأعلام الجامدة التي لا تدل على المعاني في الغالب إلى غير ذلك من مباحث هذا الباب العظيم الذي قد يسبب عدم تحقيقه اضطرابا قي عقيدة المرء.
هذا هو توحيد الأسماء والصفات بإيجاز ليس بعده إيجاز فعليك به أنت وزملاؤك وعضوا عليه بالنواجذ، وإياكم ومحدثات والأمور من التحريف والإلحاد والتشبيه والتجسيم.
(2) علمت من محاضرة الشطي التي حملت إليّّ بواسطة بعض الأشرطة بأنه سخر من كتابين مهمين جدا في هذا المبحث الذي نحن بصدده، مبحث الأسماء والصفات بأسلوب غير لائق. سامحه الله.
أحدهما: العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثانيهما: شرح العقيدة الطحاوية.
إن ذكره للكتابين بذلك الأسلوب دلنا على أنه ليس له إطلاع على ما في الكتابين، وقديما قيل: (من جهل شيئا عاداه) وهذا موقف لا يليق بأمثاله، بل من الإنصاف أن يطلع على ما في الكتابين ثم ينتقد إن كان هناك ما يوجب الانتقاد وإلا يصفها بواقعهما إن استطاع أو يسكت، والسكوت أستر وأسلم.(26/67)
أما الكتاب الأول: (العقيدة الواسطية) فهو لشيخ الإسلام ابن تيمية كما أسلفنا، قد كتبه بناء على طلب ورده من (واسط) من بعض أهل الدين والخير الذي طلب منه أن يكتب له عقيدة فاستعفاه الشيخ ودله على بعض كتب بعض أهل العلم، فأبى إلا أن يكتب له هو فكتب له هذه العقيدة في جلسة بعد صلاة العصر، هكذا قال الشيخ نفسه كما حكى بعض من ترجم للشيخ [2] (صدق أو لا تصدق) ولا أظنه يجهل شيخ الإسلام ابن تيمية حتى يحتاج إلى التعريف به، وهو شمس الضحى يدركها حتى ضعيف البصر.
وأما الكتاب الثاني: (شرح العقيدة الطحاوية) فهو من أوسع الكتاب في بابه ومرجع مهم، وهذا الكتاب يدرس في كليات الجامعة الإسلامية وفي غيرها من بعض كليات الجامعات السعودية، ومؤلفه أحد تلامذة الحافظ ابن كثير وقد أخفى اسمه لظروفه الخاصة التي كانت تحيط به وقت تأليفه للكتاب، والكتاب عبارة عن مجموعة نقول من بعض كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ومن كلام أستاذه الحافظ ابن كثير، مع ما يضيف إليه المؤلف من عنده.
والدرس الموجز الذي أهديته له ليجد في هذين الكتابين مدعما بالأدلة النقلية والعقلية، وإن وفقه الله واقتنى الكتابين ودرسهما دراسة واعية مدة كافية فسوف يخرج على المجتمع بوجه آخر وبأسلوب آخر وبلهجة أخرى هادئة، وليس ذلك على الله بعزيز لأنه على كل شيء قدير، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه سبحانه.
(ج) أما قوله بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حلف بغير الله تعالى فقال: "أفلح وأبيه إن صدق" أو "دخل الجنة وأبيه إن صدق" فمن أفظع وأقبح ما نطق به لسانه في تلك الأمسية، عفا الله عنه ولست أدري كيف خفيت عليه الأحاديث الكثيرة التي وردت في النهي عن الحلف بغير الله؟.
وفي بعض تلك الأحاديث التصريح بالنهي عن الحلف بالآباء وفي بعضها التصريح بأن الحلف بغير الله شرك، وهي كثيرة تبلغ نحو أربعة أحاديث.(26/68)
أعود فأقول: كيف لم يطلع على تلك الأحاديث أو على واحد منها، وقد اطلع أو سمع الحديث الذي استدل به؟ أو أنه اطلع عليها كلها ولكنه اختار هذا الحديث لأنه وافق ما عنده أو وافق مألوفه ففرح به؟.
وهنا مسألة هامة جدا أستحسن أن أذكرها له ولأمثاله لعل الله ينفعه بمعرفتها وهي: أن من عمل بنص من الكتاب أو من السنة لكونه وافق هواه، فلا يعد عاملا بذلك النص وإنما عمل بهواه بدليل أنه يسهل عليه مخالفته أو مخالفة نص أخر إذا خالف هواه فهو متبع لهواه في كلتا الحالتين، ليس متبعا للنص كما ترى، وأخشى أن يكون ما نحن بصدده من هذا القبيل والله المستعان.
هذه قاعدة عامة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه فعليك بها، ثم هناك بعض تلك الأحاديث التي نهى فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الحلف بغير الله:
(1) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" رواه مالك والبخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(2) عن أبن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال ابن عمر، لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذي وحسنه وقواه ابن حبان وصححه ورواه الحاكم فقال صحيح على شرط الشيخين وفي رواية الحاكم: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "كل يمين يحلف بدون الله شرك".
(3) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا"رواه الطبراني موقوفا وقال المنذري رواته رواة الصحيح.
وقال بعض آهل العلم تعليقا على هذا الأثر، وذلك لأن الحلف بغير الله كفر أو شرك كما صرح به الحديث السابق، والحلف بالله وهو كاذب معصية ولها كفارة، وبين الأمرين فرق كما ترى.(26/69)
(4) وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف بالأمانة فليس منا" رواه أبو داود.
وهذه الأحاديث كما ترى صريحة الدلالة في عدم جواز القسم بغير الله، وأما حديث ابن عمر فصريح الدلالة على أن القسم بغير الله شرك.
ولتكون الفائدة أكمل أفيدكم بأن الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر الذي لا يخرج مرتكبه عن الملة إلا بضميمة معان أخرى، ويطلق عليه أهل العلم والفقه في الدين شرك دون شرك كما يقال كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.. ومعرفة هذه الأمور بالتفاصيل المذكورة في مواضعها مع أمثلتها أمر له أهميته ومن لم يعرف ذلك يغلب عليه التخبط والاضطراب كما رأيت.
والنوع الثاني: الشرك الأكبر الذي يخرج مرتكبه عن ملة الإسلام، وحقيقته، صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى أو بعبارة أخرى اتخاذ غير الله نداً ومعبوداً مع الله، لأن هذا التصرف يتنافى وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) كما لا يخفى على طالب علم.
ومن أنواع العبادة الاستغاثة وهي دعاء المضطر والذبح لغير الله تقربا ومن ذلك التشريع من التحريم والتحليل كما تقدم، وأرجو أن تعتبر هذه القطعة ملحقا للهدية وبالله التوفيق.
والبحث معروف في موضعه لدى طلاب العلم، وهو باب هام جدا ومع ذلك قد يخفى على كثير من المنتسبين إلى العلم والله المستعان.
وأما الحديث الذي فهم الشطي منه أن الرسول حلف بغير الله وحاشاه وهو الذي نهى عنه كما علمت، فالحديث في صحيح مسلم، وقد استشكل أهل العلم معناه ومراده، وموقفهم من مثل هذه النصوص التي ظاهرها التعارض أن يوفقوا بينها بما لديهم من الفقه في الدين، بالطريقة المعروفة عندهم في مادة (أصول الحديث) .
فالحديث الذي نحن بصدده صحيح، والأحاديث التي خالفها صحيحة أيضا، فكيف التوفيق بينها وبينه؟!!.(26/70)
يجيب على هذا الاستشكال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري شرح صحيح البخاري) وقد قيل في حقه (لا هجرة بعد الفتح) تعبيرا عن مكانته ومنزلته العلمية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
فإن قيل ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء، أجيب بأن ذلك كان:
(1) قبل النهي، قلت: وعلى هذا القول يكون الحديث منسوخا ومعرفة الناسخ والمنسوخ أمر له أهميته لدى طلابا العلم.
(2) أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، كما جرى على لسانهم (عقرى- حلقى) يقال ذلك للمرأة إذا كانت مؤذية أو مشئومة، أي عقرها الله وحلقها حلقا، هذا أصل المعنى وجعلوا بعد ذلك يطلقون هذه الألفاظ دون قصد للمعنى الأصلي.
(3) أو فيه إضمار (اسم الله) كأنه قال - (ورب أبيه) - وهذا النوع من الإضمار أو
الحذف معروف عند أهل اللغة ولا إشكال فيه، هذه هي أوجه التوفيق التي ارتضاها الحافظ ابن حجر مع ذكره لأوجه أخرى لم يرتضيها [3] .
إسلام الخميني ليس بإسلام
وأخيرا أدركت من مناقشة الأخ الشطي للمتطرفين من الخوارج والشيعة وفروعهما حرصه الشديد على الدعوة إلى ما يراه صالحاً ونافعا كما هو حريص على إنكار ما يراه منكراً يجب إنكاره، وعلى الرغم من ذلك فقد فاته- ولست أدري سبب ذلك - أن يوجه نصيحته وتوجيهاته إلى أولئك الذين تطرفوا تطرفا متطرفاً - لو صح التعبير - والذين لو تركوا وما أرادوا ولم يؤخذ على أيديهم أوقعوا عوام المسلمين وأشباه العوام من المثقفين السذج الذين لم يدرسوا الإِسلام كما يجب في حيرة ولبس في مفهوم الإسلام ذاته لأنهم كثيراً ما يتحدثون عن الإسلام ومفهوم الإسلام وهم لا يفقهونه كما يتحدثون عن حقيقة الإسلام والجهاد في الإسلام وهم بحاجة إلى من يشرح لهم ما يريدون شرحه لغيرهم لأنهم من جملة الأنصاف الذين تحدثنا عنهم سابقاً، وقد ينزلون أحيانا إلى الأرباع.(26/71)
وعلى سبيل المثال أخذوا يتحدثون في الآونة الأخيرة عن الخميني وإسلامه وكثيراً ما يمجدون إسلامه، وإسلام الخميني ليس بإسلام في نظرنا ولا يلتقي مع إسلامنا الحق الذي أنزله الله في كتابه وفيما أوحى به إلى خاتم رسله محمد عليه الصلاة والسلام، لا يلتقي معه إلا في (اللفظ) فقط أما في حقيقته وجوهره، أما في عقيدته وكثير من أحكامه فهو في واد والإسلام في واد آخر، فلا يلتقيان كما قلت، يدرك ذلك كل من درس الإسلام وفهمه جيداً ثم أطلع على ما جاء به الخميني من وحي أئمته وفهمه أيضاً، وتمجيد هذا الإسلام الوضعي وتحبيذه بل دعوة الناس إليه يعتبر في نظرنا تضليلا للناس وإبعاداً لهم عن الإسلام الحق وتزيينا لهم بالباطل، لأن الحق لا يتعدد كما هو معلوم. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [4] .
وإسلامنا الذي ندعو إليه هو الاستسلام لله بالطاعة، وعبادته عبادة خالصة بعيدة عن شوائب الشرك وتجريد المتابعة لرسوله، وهذه المعاني معدومة أو ضعيفة في إسلام الخميني، وإذا كان ذلك كذلك، فتمجيد هذا الإسلام دعوة إلى الباطل، وإبعاد للخلق عن الدين الحق ضرورة عدم اجتماع الشيء مع نقيضه.
ولو أخذنا نسوق أدلة مادية لا تقبل جدلا لندلل على بطلان إسلام الخميني لاحتاج الأمر إلى تأليف كتاب مستقل بالموضوع، فلنقتصر على ذكر ما لا بد من ذكره، فنوجز ذلك في الآتي:(26/72)
(1) إن الله اصطفى لتبليغ دينه إلى الناس نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام وختم به الرسالة، فبلغ عليه الصلاة والسلام رسالة ربه كما أمر {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [5] وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى - بعد أن أكمل الله لنا الدين وأتم لنا النعمة - ترك لأمته كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام في أيدي رجال أمناء قد رضي لهم أن يكونوا خلفاءه من بعده على هذه الأمانة العظيمة، فخلفوه فعلا وحافظوا على الأمانة كما يجب، وبلغوها لمن بعدهم بكل إخلاص وأمانة وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم، وسماهم الرسول "الخلفاء الراشدين المهديين من بعده". وتعتبر أفعالهم وأقوالهم (سنة متبعة) عند أهل السنة. كما تقدم.
وهل تعلمون موقف الخميني من هؤلاء الراشدين؟ يعتبر هؤلاء الخلفاء الراشدون في إسلام الخميني خونة وكفاراً، إذا استثنينا علياً وأولاده عند بعض أتباعه، ويلقب أهل السنة أبا بكر وعمر (بالشيخين) وأما عند الروافض قوم الخميني فهما (صنما قريش) قاتل الله الروافض ومن يشايعهم.
وهل يعلم هؤلاء الروافض وشيعتهم ماذا يقول علي رضى الله عنه في أخيه أبي بكر الصديق "رضيك رسول الله لديننا وكيف لا نرضاك لدنيانا". يعني إذا كان الرسول قد قدمك لتصلى بالناس إماماً في حياته والصلاة عمود الدين فكيف لا نرضى أن تتولى شئون الخلافة فينا؟ رضي الله عنهم جميعاً [6] .(26/73)
هذا موقف علي بن أبي طالب من أبي بكر الصديق، بالاختصار أما الخميني ففي إسلامه لا يقبل أي حديث يأتي من طريق أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، اللهم إلا ما كان من طريق علي بن أبي طالب وأولاده عند بعضهم، وأما عند بعض غلاة الروافض من قوم الخميني فلم يقف الأمر عند هذا الحد بل خطأوا جبريل عليه السلام أمين الله على وحيه (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) حيث زعموا فيما زعموا وما أكثر مزاعمهم أن الوحي كان في الأصل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن جبريل أخطأ فأتى به إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فكان الواجب على الإمام علي أن يطالب بهذا الحق فحيث لم يطالب بحقه فضاع الحق بسبب إهماله، فهو كافر، وبقية الصحابة كفار لأنهم لم يؤمنوا بنبوة علي، وهذا الباطل المركب من القول والإعتقاد هو الذي ورطهم في رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، بدعوى أنها كلها رواية قوم كفار.
وبعد: فهل بعد هذا الكفر من كفر؟ وهل لأحد أن يقول بعد هذا أن أصولنا وأصول الروافض واحدة؟ !! وإن فعل ذلك أحد فتلك مكابرة ومغالطة كما لا يخفى، ومن أراد مزيد البحث في هذه النقطة فعليه مراجعة (مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة) للسيوطي والكتاب من مطبوعات الجامعة الإسلامية للتوزيع.
وهاك نص كلام الإمام السيوطي وهو يتحدث عن الرأي الفاسد الذي يرى عدم الإحتجاج بالسنة.(26/74)
قال رحمه الله: "وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافظة ذهبوا إلى إنكار الإحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مختلفوا المقاصد، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلي وأن جبريل عليه السلام أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومنهم من أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة ولكن قال: إن الخلافة كانت حقاً لعلي فلما عدل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين قال هؤلاء المخذولون- لعنهم الله- كفروا حيث جاروا وعدلوا بالحق عن مستحقه وكفروا لعنهم الله علياً رضي الله عنه أيضاً لعدم طلبه حقه، فبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار، فإنا لله وإنا إليه راجعون وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار" [7] .
(2) إن موقف الخميني وأتباعه من الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها معروف لدى طلاب العلم في قصة الإفك وهم لا يؤمنون ببراءتها، وقد زعموا فيما زعموا أنها الشجرة الملعونة في القرآن، وموقفهم ذلك من الصديقة المبرأة يعتبر تكذيباً للآيات القرآنية التي نزلت من فوق سبع سماوات في براءتها وبالثناء عليها رغم أنف الخميني وأنوف أتباعه من الآيات والحجج في طهران، وتكذيب كلام الله كفر لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح حوله كبشان، كما يقولون.
(3) يعتقد الخمينيون أن أئمتهم أفضل من الأنبياء والمرسلين حتى من أفضلهم وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام ومن الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، هذا ما صرح به الخميني نفسه (في كتابه الحكومة الإسلامية) راجع الكتاب المذكور لتجد النص التالي: ص 52.
(الولاية التكوينية)(26/75)
"وثبوت الولاية والحاكمية للإمام (ع) لا تعني تجرده عن منزلته التي هي له عند الله، ولا تجعله مثل من عداه من الحكام، فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإنما من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله، وقد قال جبريل-كما ورد في روايات المعراج-: لو دنوت أنملة لاحترقت وقد ورد عنهم (ع) : إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل"أ. هـ.
جرأة لا تقف عند حد وافتراء صارخ وكفر سافر ليس على وجهه غطاء.
(4) إن ولاء آل البيت لا يتم في إسلام الخميني إلا بعداء بقية الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، أما صدور أهل السنة فقد وسعت لمحبة جميع الصحابة من أهل البيت وغيرهم، ولله الحمد والمنة.
وبعد: فإن تمجيد إسلام الخميني والحالة ما ذكر يتنافى وواجب النصح لعامة المسلمين، وتسمية حركته الفوضوية (ثورة إسلامية) نوع آخر من تضليل العوام وأشباه العوام، لأن ذلك يوهم أن سبيل الوصول إلى الولاية في الإسلام يكون بطريقة ثورة مسلحة ومدمرة التي تأكل الأخضر واليابس وتقضي على البريئين قبل المجرمين، ولا ترى إلا الوصول إلى الكرسي بأي وسيلة على أساس (أن الغاية تبرر الوسيلة) وهو أسلوب المستغلين للفرص الحاجة في أنفسهم.(26/76)
وأما سبيل الوصول إلى الولاية في إسلامنا إنما يكون بالشورى والتفاوض، ثم الاختيار، فإذا تم اختيار الوالي الصالح فتولى أمور المسلمين وجبت طاعته ما لم يأمر بمعصية الله ولا يجوز الخروج عليه ما لم يظهر كفراً بواحاً عليه دليل من الكتاب والسنة. هذا هو نظام الإسلام في أمر الولاية بالاختصار. ثم إن الإسلام ينهى عن الفساد في الأرض وعن تقتيل النساء والأطفال والشيوخ العاجزين حتى في الحروب التي بين المسلمين والكفار ما لم يحارب هؤلاء كغيرهم.
وإذا فتح المسلمون بلداً ما عنوة وخضع أهل البلد لأحكام الإسلام وأعطوا الذمة يحرم الإسلام دماء أهل الذمة وأموالهم، ولا يحقد الإسلام على ما قد يحصل من الأعداء في حالة الحرب، بل يعفو ويصفح، والجميع يعرفون موقف رسول الإسلام من أهل مكة يوم الفتح. أما إسلام الخميني يخالف هذه التعليمات الرحيمة كلها، فيخرب ويدمر ويقتل النساء والأطفال والشيوخ وهم مسلمون في الجملة، إذا خولف شيء من تعليمات الثورة المزعومة ونظامها.
وهؤلاء المتطرفون إذا قيل لهم لماذا هذا التضليل ولماذا هذا التمجيد العاطفي لإسلام الخميني؟ ولماذا هذا التخبط؟ قالوا: نحن نريد خلق مجتمع إسلامي عام لا يتخلف عنه أي فرد ينتمي إلى الإسلام ولو بالاسم. سنياً أو رافضياً. أو أو.(26/77)
فمثلهم كمثل الذي دخل سوقاً غاصة بالناس رجالاً ونساءً ليدعوهم إلى الصلاة فجعل يناديهم قائلا: أيها الناس إننا أنشأنا لكم مسجدا في غاية السعة فهلموا جميعا لأداء الصلاة فيه ولا يتأخرن أحد وليأت كل واحد على ما هو عليه، المتوضئ بوضوئه، والمحدث بحدثه، والجنب بجنباته، بل حتى الحائض والنفساء، لأننا لا نرد أحداً، إذ قصدنا خلق مجتمع إسلامي عام شامل وكلنا إخوان مسلمون، ولا داعي للتشدد لأن التشدد يفرق بين صفوف المسلمين، وبينما هو يرفع عقيرته بهذا الهذيان فوجئ بداعية ناصح ممن رزق الفقه في الدين وهو يقول للناس: أيها الأخوة المسلمون حان وقت الصلاة فقوموا فتوضأوا ثم صلوا صلاتكم حيث ينادي لها، فأخذ يعلمهم الطهارة، وأنها شرط لصحة الصلاة فصاحب المجتمع المزعوم يستمع إليه بدهشة وهو يفكر ليستحضر الأسلوب الذي يستعمله ضد هذا الداعية. إنه فكر وقدر ثم صرخ صرخة شيطانية قائلاً "أيها الأخوة المسلمون لا تسمعوا لهذا الكلام والغوا فيه لعلكم تغلبون على هذا المتشدد وتسكتونه"إلى آخر تلك الصيحة اليائسة.
أيها القراء الكرام، أنشدكم الله أيّ صاحبي السوق على الحق؟!!
أما أحدهما فقد دعا الناس إلى أداء الصلاة بوضوء وبطهارة كاملة وبيّن للناس أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وقد نصح، وأما الآخر فقد أوهم الناس أن المهم والمطلوب اجتماع الناس في صعيد واحد تحت اسم (المسلمين) فيؤدون الصلاة على ما هم عليه قائلا:
لأننا نهينا عن التكلف، والدين يسر ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج، يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وهلم جرا إلى آخر تلك الفتوحات الجديدة.
هكذا أترك الحكم على صاحبي السوق للقراء وهم الحكم العدل إن شاء الله لأنهم من طلبة العلم في الجملة، ولأن الحق أبلج والباطل لجلج فهما لا يتشابهان. وبالله التوفيق.
يا سبحان الله!(26/78)
كم يخجل أو يحزن أن يتبع المرء هواه أو هوى جماعة معينة يريد إرضاءها فيسوق ما يشاء من الآيات والأحاديث محرفاً للنصوص ومحملاً لها ما لا تتحمل من المعاني!!، وهو نوع من السخرية بالنصوص وهو بالتالي دليل واضح على ضعف إيمان صاحب هذا التصرف لأنه لو كان يؤمن بالله حق الإيمان ويقدره سبحانه حق قدره ويحب رسوله حق المحبة ويقدره، لما تجرأ على هذا النوع من الإستدلال والتحريف والتضليل.
والله نسأل وباتباع نبيه نتوسل، أَن يعصمنا من الانحراف والإلحاد ويمسكنا هدى نبيه حتى نلقاه، إنه سميع قريب مجيب.
وبعد:
في نهاية هذه المناقشة التي قد تبدو حادة أحياناً بالنسبة لبعض الناس أرى لزاما على أن أوجه كلمة موجزة أرجو أن أكون فيها ناصحاً وصادقاً.
أوجه هذه الكلمة إلى إخواننا الدعاة في كل مكان، وتحت أي عنوان طالما يدعون إلى الله جميعا ويعملون لإظهار الحق والنصح لعامة المسلمين.
على كل داعية إذا كان ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أن يسعى في أسباب توحيد صفوف الدعاة إلى الله بعيداً عن الأنانية وحب الزعامة وعشق المناصب، كما يسعى في منع أسباب التحزبات التي تؤدي إلى الخلافات والنزاعات الداخلية فتعرقل سير الدعوة، بل تؤدي إلى بلبلة العوام وأشباه العوام الذين يجهلون موقع الحق، ولا يمكن بحال من الأحوال تحقيق الوحدة المنشودة والتي لا بد منها لنجاح الدعوة إلا بأمرين اثنين:
(1) وحدة المصدر في معرفة (العقيدة الإسلامية) واعتماد ذلك المصدر وحده في بحث أي معنى من معاني العقيدة الإسلامية وعدم إغفاله، وبذلك تسلم عقيدة المسلم من الزيف والإلحاد والضلال وهذا المصدر هو الوحي، لا شيء ينافسه، وأما العقل فلا يكون، أساسا ولا يعطل، هكذا بالاختصار.(26/79)
نقول هذا القول إستناداً إلى قوله عليه الصلاة والسلام "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي"، وقوله عليه الصلاة والسلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور" الحديث.
فالخروج على هذا المصدر في معرفة العقيدة وأحكام الشريعة والتماس الحق والهدى والفلاح في غيره ضلال بيّن لأن من سنة الله التي خلت في عباده أن من التمس الهدى في غير كتابه فإن الله يضله ولا يهديه سبيلا، وقد ورد في هذا المعنى أثر عن علي بن أبى طالب رضى الله عنه وهو يتحدث عن القرآن إذ يقول: "من التمس الهدى في غيره أضله الله".
(2) توحيد منهج العمل في سبيل الدعوة إلى الإسلام ولا يوجد منهج أمثل وأصلح، بل لا يوجد منهج صالح غير منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن اقتفى أثرهم وعمل عملهم، لأن واضع هذا المنهج هو رسول الهدى عليه الصلاة والسلام والرغبة عن منهجه تتنافى والإيمان به قطعاً، والذين نقلوه هم أولئك السادة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وأهلهم للخلافة عنه عليه الصلاة والسلام، أَبو بكر وعمر وعثمان وعلي وإخوانهم رضوان الله عليهم.
فهل يوجد مسلم يعتقد عدم صلاحية هذا المنهج؟!!.(26/80)
من هنا نعلم أن بض التصريحات التي يدلي بها بعض المفتونين بالغرب أو بالشرق وقوانينهم (بأن الإسلام ليس فيه ما يحل المشاكل المعاصرة) لا يفسر إلا بالكفر بالإسلام وبرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ضرورة أنه لا يكون اليوم دينا وهدى وصلاحاً وبراًَ ما لم يكن كذلك في عصر الوحي وقد صدق الإمام مالك، حيث يقول: "لا يصلح أخر هذه الأمة إلا ما أصلح أَولها". وكلنا نعلم أنما صلح أول هذه الأمة بالتمسك بهدى نبيهم دون تغيير أو تبديل، لأن الله قد أكمل الدين وأَتم النعمة على المسلمين قبل أن يقبض إليه نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إذ يقول سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}
وهؤلاء السادة الذين حملوا إلينا هذا الدين هم خير هذه الأمة بشهادة رسول الله لهم عليه الصلاة والسلام "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
ولو وافق الدعاة جميعا للرجوع إلى هذا المنهج الأصيل والتقيد به في دعوتهم وعملوا به في أنفسهم أولا عقيدة وعبادة وسلوكاً، لكان خيراً وبركة على الأمة، ووقاية لهم من كل شر. وقد صدق من قال:
وكل شر في ابتداع من خلف)
(وكل خير في اتباع من سلف
ويوم أن تلتقي دعوة الدعاة عند هذين العنصرين بتوفيق الله، يومئذ يتمتع المجتمع الإسلامي المعاصر ببركة اتباع السنة التي كان عليها سلف هذه الأمة لتغيير حياتهم وليعيشوا حياة غير هذه الحياة وليس ذلك على الله بعزيز.
والتاريخ خير شاهد لما قلت، ولست أتكلف لضرب الأمثلة لما ذكرت أَكثر من أن أشير إشارة إلى تلك الدعوة الفتية والتي نستظل اليوم بظلها ونرى أثرها واضحاً في هذا البلد والتي جددت للناس دينهم وعقيدتهم في القرن الثاني عشر، ناهجة منهج السلف الصالح.(26/81)
وقد هاجمت تلك الدعوة الجاهلية بألوانها وأشكالها في باب العقيدة والعبادة والأحكام، ودعت إلى إخلاص العبادة لله وحده وتجريد المتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن يكون الحكم لله وحده في أرضه وبين عباده، فعلت الدعوة كل ذلك دون إلتفات إلى ما يترتب على ذلك من عداء عالمي إيماناً من حملة تلك الدعوة بأن الله معهم وسوف يجعل العاقبة لهم، لأن العاقبة للمتقين دائماً. بدأت الدعوة عملها في شرقي شبه الجزيرة ثم شملتها كلها حتى شع نشرها على أنحاء العالم شرقاً وغرباً، وقد هاجت الدنيا فقامت وقعدت وصرخت في وجه الدعوة الجديدة والمجددة زاعمة أنها جاءت بدين جديد يخالف دين الآباء.
وأصحاب الدعوة الجديدة لا يلتفتون إلى هذا الهيجان والصراخ بل هم ماضون في دعوتهم، وكأني بهم وهم يقولون: "ليس كل من ينبح عليه الكلب لصا"كما يقولون: وهذه الدعوة الشجاعة والفريدة في ذلك القرن وما بعده قد بارك الله فيها حتى قامت بها دولة إسلامية في قلب الجزيرة واتخذت القرآن دستوراً لها، إيماناً منها بأنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ألا (وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله) مجدد القرن الثاني عشر. وذلك من بركات اتباع ذلك المنهج السلفي المبارك.
فعلى الدعاة الصالحين في الوقت الحاضر، أن يحذوا حذو هذه الدعوة المباركة، وأن يتأسوا بذلك الداعية في غيرته على دين الله وحرصه على نصح عباد الله، وصبره فيما لاقاه في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وفي وضوحه وصراحته، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجازي به المصلحين الصابرين.
أيها الدعاة سيروا على بركة الله في أداء واجب الدعوة لعباد الله مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتفين آثار أصحابه دون تبديل أو تغيير للخطة الأصلية، اللهم إلا ما كان من أسلوب يتطلبه الوقت والمكان- والله المستعان-.(26/82)
والخير أردت، والنصح قصدت، والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم وبارك على إمام الدعاة الصالحين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
سلامة الإسلام
قد قلت لكم بالأمس: إن الإسلام اليوم -بصفته عقيدة- موجود ومعمول به، لكنه جرد من مدنيته، وكانت هذه مؤامرة خطيرة نسجها الغرب، إنها رأت أن المسلمين ليس بالإمكان تجريدهم من العقيدة، وأن شعورهم أرق فيما يتصل بهذا الجانب، لأنهم قد مروا في هذا الصدد بتجارب مريرة جداً، واكتووا بنارها منذ الحروب الصليبية إلى سحق الكيان الإسلامي وتصفيته في إسبانيا، فلجأت إلى استراتيجية أخرى، وقررت أن تجردهم من مدنيتهم، وتسلخهم من نظامهم الإجتماعي، وتحملهم على قبول مدنية أخرى أجنبية، وأعتقد أن أوربا قد كسبت في ذلك نجاحاً باهراً.
والحمد لله لم يقع تحريف فيما يتصل بالعقائد الإسلامية، كما وقع في المسيحية حيت حادت عن خطها الصحيح تماماً، وصارت تعدو على الخط الذي رسمه (سينت بال) - القديس بولس -.
(من محاضرة بعنوان: (المرحلة الانتقالية للعالم الإسلامي)
للشيخ أبي الحسن الندوي)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذه العبارة منقولة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
[2] وهو الحافظ بن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.
[3] فتح الباري الجزء الأول ص 17 حديث رقم 46.
[4] سورة آل عمران آية 85.
[5] سورة المائدة آية 67.
[6] تعليق: ما ذكره فضيلة صاحب المقال إنما هو رواية بالمعنى ونص القصة التي فيها قول علي رضي الله عنه كالآتي:(26/83)
(وقال علي والزبير- ولعل ذلك بعد المعاتبة التي جرت بين أبي بكر وعلي. ما غضبنا إلا أن أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وإنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعرف له شرفه ومنه، ولقد أمره رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو حّي. وذكر غير (ابن عقبة) أن أبا يكر قام في الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم من بيعته ويستقيله ما تحمله من أمرهم.
كل ذلك يقولون له: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. وروي عن الحسن البصري عن علي رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأمر أبا بكر رضي الله عنه فصلى عنه بالناس، وإني شاهد غير صائب، صحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضي الله ورسوله لديننا) – ا. هـ من مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لمجدد القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب رحمه الله – ص 408 (في ذكر سقيفة بني ساعدة) ((المجلة)) .
[7] مفتاح الجنة للسيوطى ص 3- 4 طبعة المطبعة السلفية بالقاهرة.(26/84)
حقيقة العبادة بين شريعة الله وشطط التصوف
للدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة
أستاذ مساعد بكلية الحديث
نشرت إحدى المجلات الإسلامية مقالاً بعنوان: ((الحب الإلهي في الشعر النسائي المعاصر)) .
وحرصاً منا على عرض حقائق الإسلام المشرقة الهادية عرضاً يلتزم منهج الكتاب وهدي السنة المطهرة، هادفاً إلى تنقية أفكار مما علق بها من خرافات وأوهام تسيء إلى حقائق الإسلام، وتشوه جلاله الخالدة.
ونظراً لما وجدته في المقال من (تهويمات شعرية وفلسفة صوفية) يجب عرضهما على الميزان الذي لا يبخس ولا يحيف، وهذا الميزان هو الوحي المنزل في نبعيه الصافيين: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن قضى هذا الميزان الأقوم بأمر فقضاؤه هو القضاء العدل، وإن حكم بحكم فحكمه هو كلمة الفصل.
بدأ الكاتب حديثه: (عن رابعة العدوية) فقال: "أقبلت رابعة العدوية على الله وأحبته، والتمست القرب منه، والفناء في ذاته، والأنس بمطالعة جمالها الأزلي"أ. هـ..
هذه أول فقرة من مقاله، نبدأ بعدها المناقشة متسائلين:
ما هو الفناء في ذات الله؟! هل ورد هذا التعبير في القرآن الكريم؟ وهل حث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الفناء في ذات الله تعالى؟! وأين هذا النص الذي يحضنا على هذا الفناء؟
وما معنى كلمة الفناء في لغة العرب؟ وما دلالة الحرف (في) في هذا السياق؟!!.
وما معنى الفناء كمصطلح صوفي دخيل على الإسلام.
أسئلةٌ كثيرةٌ، وإجاباتها أكثر وأكثر ...
إنّ كلمة الفناء تدل في لغة العرب على العدم والهلاك، أو مقاربة العدم والهلاك، ولذلك تطلق كلمة الفاني على الشيخ الكبير الذي قارب الموت.(26/85)
ولم تستعمل كلمة الفناء في القرآن الكريم إلا في الدلالة على هلاك الشيء وزواله، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام} 26، 27: الرحمن، ويؤيد تفسير الفناء بالهلاك قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} 88 القصص، وأما قوله: "والأنس بمطالعة جمالها الأزلي"فلنا أن نسأل الكاتب: ما معنى هذا الكلام؟ هل تريد رابعة أن تأنس بمطالعة (جمال الذات الإلهية الأزلي) في الدنيا أم في الآخرة؟.
إننا إذا فسرنا هذه العبارة بمعنى الرغبة في مشاهدة ذات الله العلية في الدنيا، فإنّ رابعة بهذا المطلب تكون قد طلبت أمرا لم يجب إليه كليم الله موسى عليه السلام، كما دل على ذلك قول الله تعالى: { ... قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ... } 143: الأعراف.
وإن كان المقصود بهذه العبارة رؤية اللهِ في الآخرة، فهذا أمرٌ قد وعد الله به المؤمنين من عباده في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} 22،23: القيامة، وفي قوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ..} 26: يونس، والحسنى هي الجنة، والزيادة هي رؤية وجه الله الكريم، كما ورد ذلك عن كثير من السلف في تفسير هذه الآية.
على أن: "الأنس بمطالعة الجمال الأزلي"تعبيرٌ لا يسلم من المآخذ، مع إيماننا بأن الله سبحانه متصف بالجمال على النحو اللائق بذاته العلية.(26/86)
ثم قال الكاتب: "وجعلت من حبها لذاته مذهبا لها في حياتها الروحية تأخذ به نفسها أخذاً، وتروضها عليها"وهذا التعبير يدل على أن لها مذهبها في (الحب الإلهي) ، وأن لغيرها من الناس مذاهب، فما هو مذهبها؟ وما هي مذاهب الناس في هذا الحب؟
وما الفرق بين مذهبها ومذاهب الناس؟ أسئلة لم يتعرض لها الكاتب للإجابة عليها، مع أنه أقام بنيان بحثه على أساس من (مذهب رابعة) الذي لم يوضحه، ربما لظنه أنه أشهر من أن يعرف، والسؤال الذي يرد حتما هنا هو: ما هو منهج الوحي الذي أنزله الله هدى للناس في هذه القضية؟ وهل حب الله جَلَّ جلاله مسألةٌ خاضعَةٌ للمذاهب والأهواء؟ وهل الدين هو مذاهب الناس وآراؤهم وأهواؤهم؟ أمْ هو وحي الله الذي أنزله بياناً وشفاء وهدايةٌ ونوراً كما قال جل ذكره: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ... } 52، 53: الشورى. لا شك أنّ دين الله هو وَحْيه المنزل على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وليس أهواء الناس.
ونعود بعد هذا إلى إيضاح القول في المسألة الرئيسية في هذا الموضوع وهي: "مذهب رابعة في الحب الإلهي"هذا المذهب الذي نسجَ على منواله الناسجون، أو ((تأثروا)) به على حد تعبير ((الدكتور)) كاتِب المقال، وهذا المذهب يعبر عنه قولها:
. ويرون النجاة حظاً جزيلا
كلهم يعبدوك من خوف نار
بفردوس ويشربوا سلسبيلا.
أو ليسكنوا الجنان ليحظوا
هذا هو مذهب الناس في نظرها.
أما مذهبها هي فهو كما عبرت عنه: ... أنا لا أبتغي بربي بديلا.
أو كما روي عنها أيضاً: "إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها".
وكما روي عنها أيضا:
أحبك حبين حبَّ الهوى(26/87)
وحباً لأنك أهل لذاك.
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلني بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتما أراك.
تأمل: إن الله - تعالى علواً كبيراً - أهل لحب رابعة!! لماذا؟ لأنه سبحانه كشف لها الحجب التي لم تكشف لموسى عليه السلام!! أو لم تزعم أنها كشفتْ لها الحجبْ حتى رأت الذات العلية!! وليس هذا أدعاءً منا عليها، وإنما هذا ما تقوله الأبيات السابقة.
فهذه هي وجازة القول في مذهب (رابعة) الذي فتن به المفتونون، وهو يقوم على دعوى أن عبادة الله عِشقاً له خيرٌ من عبادة الذين يعبدون ربهم خوفاً وطمعاً، ونظراً لأن هذه الدعوى فتنة خطيرةٌ تردَّى فيها من لم يعتصم بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، فإن واجب البيان يملي علينا أن نضع هذه الدعوى في ميزان الكتاب والسنة، لنرى مبلغها من العلم، ووزنها من اليقين.
إن رابعة تزدري عبادة الذين يعبدون ربهم خوفاً وطمعاً، فهل نسمع إلى قول رابعة؟ أم نستمع إلى حكم الله الحكيم العليم؟
- بدهي أنّ الجواب هو: إن حكم الله تدين له القلوب، وتعنو له الوجوه ولنسمع إلى وصف الله جل ذكره لعبادة هؤلاء الخائفين من جلاله، الطامعين في جنانه، وهو في قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فلا نفسٌ ما أخفى لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} 15- 17: السجدة.(26/88)
وأمر ربنا سبحانه عباده أن يدعوه خوفاً وطمعاً، وبين أن الدعاء بهذه الصورة سبيل إلى رحمته، وسببٌ إلى جنته فقال جل ذكره: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 56: الأعراف، وتأمل كيف رتبت الآية الكريمة الأمر بدعاء الله، بعد النهي عن الإفساد في الأرض. فهذا ترتيب يبين لنا أن الأرض إذا خلت من عباد الله الذين يخشونه بالغيب امتلأت بالمفسدين في الأرض. وقد مدح الله أهل الخوف منه جل جلاله في غير موضع من كتابه واصفاً لهم بصفات الخير - على النحو التالي:-
أولاً- أهل الخوف هم أهل الاستجابة للحق:
وقد بين ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} 11: يس.
وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} 45:ق.
ثانياً- أهل الخوف هم الذين يتقون ربهم:
قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 51: الأنعام.
ثالثا- أهل الخوف هم عمار المساجد:
ودليل ذلك قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... } 36- 38: النور.
رابعاً- أهل الخوف هم الذين يتعظون بما وقع للمكذبين:(26/89)
وقد بين هذه المسألة قوله سبحانه: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 37 الذاريات.
خامساً- أهل الخوف هم أهل البر والإحسان:
وفي هذا المعنى ورد قول الله جل ذكره: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} 7- 11: الإنسان.
سادساً- الذين يخافون مقام ربهم لهم جنة المأوى:
لم يمدح الله الخائفين من جلاله فقط بل وعدهم بجزيل الأجر، وجميل الثواب، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 40: النازعات.
سابعاً: الخائفون من مقام ربهم لهم ثواب الضعف:
ولم يعدهم الله الجنة فقط بل وعدهم أن يتبوؤا من الجنة في منزلين وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 46: الرحمن.
ثامناً- الخائفون من الله هم أهل التمكين في الأرض:
كما دل عل ذلك قوله تعالى: { ... فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 13- 14 إبراهيم.
تاسعاً- مقام الخوف من الله هو من مقامات الأنبياء:(26/90)
قد يرد على خاطر بعض القراء أن الخوف من الله هو مرتبة من مراتب عوام المؤمنين، وأما خواصهم فليست هذه مرتبتهم، بل لهم مرتبة هي أسمى من ذلك، وهذا ظن مبتوت الوشائج بالحق، فلا مقام أسمى من مقام الخوف من رب العالمين، إذ هو مقام سادات الموحدين وكرام النبيين، ولنسمع في ذلك إلى قول رب العالمين: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 89-90: الأنبياء، ومعلومٌ أنّ الرهب هو الخوف.
عاشراً- الذين لا يخافون من الواحد القهار هم الأشرارُ الفجار:
وكما بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى أن الخوفَ من جلاله وعقابه هو صفة الأبرار الأخيار، بَيَّنَ أنّ عَدَمَ الخوف هو صفة الأشرار الفجار، فقال سبحانه: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} 60: الإسراء. وقال سبحانه في صفة الكافرين: {كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} 53: المدثر.
الرغب والرهب دعامتا العبادة:
وربما قال قائل قد أكثرتم الحديث عن الرهب، وصورتم العبادة خوفاً محضاً، فهل على الخوف وحده ينهض بناء العبادة؟!(26/91)
ونقول له: ما إلى هذا قصدنا، ولا إلى هذا الفهم توجهنا، فإن الرغب والرهب دعامتان: عليهما يقيم العابدُ بناء عبادته، فإذا كان العابد راهباً لا يرغب: فهو إلى الخوارج أقرب، فإن الخوارج (الحرورية) جعلوا الخوف دينهم، والرهب ديدنهم فخافوا وأخافوا، وفزعوا وأفزعوا، وإن العابد إذا جعل دينه رغبة فقط مبرأة من الرهب، فقد أخطأ الطريق، وسلك سبيلا غير سبيل الحق، وإذا كنا نلتمس دائماً وأبداً السبيل الحسنى عند سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فلنعلم أنّ الله تبارك وتعالى قد مدح إمام أنبيائه، بالخوف منه جل ذكره، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: { ... قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 14: 15 الأنعام.
ولنستمع أيضاً متدبرين قول الله جل ذكره: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 15: يونس.
وحتى تزداد القضية وضوحاً فلنتدبر قول العلي الحكيم الذي أمر به نبيه الكريم عليه الصلاة والتسليم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 11- 13: الزمر.(26/92)
فهذه الآيات البينات دلتنا على أن النبي الكريم كان أخوف الناس أجمعين لله العظيم، بل لقد وصَفَ صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك في حديثه للذين أرادوا أن يتخذوا الرهبانية منهجاً حين قال لهم: "إني لأتقاكم لله، وأخوفكم له" وفي رواية "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" [1] .
ولنسمع إلى رَغَبِهِ صلى الله عليه وسلم إلى ربه حتى تكتمل الحقيقة أمامنا، ذلكم أن الله قد مَدح نبيه الكريمَ بالرغب إليه والرهب منه، وما دمنا قد أسلفنا حديثَ الرهب فلنصْغ إلى حديث الرغب، وذلك في قول الله تعالى أمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 7، 8: الانشراح.
والمؤمنون أيضاً ممدوحون بالرغبة إلى الله:
وكما أمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالرغبة إليه، وامتدح عبده زكريا وله عليهم السلام بهذه الصفة الكريمة، فكذلك أثنى الله على التائبين المذكورين في سورة القلم بهذه الصفةِ، وذلك في قوله سبحانه: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} 32: القلم.
كما بين سبحانه أن هذه الصفة يجب أن يتصف بها من أراد أن يسلك سبيل المهتدين الراشدين، وذلك ما ورد في قول الله سبحانه وتعالى: { ... وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 59: التوبة.
- ولسائلِ أن يسأله فيقول: حدثتنا عن الرغب، فهلا عرفتنا بمعناه في لغة العرب؟ ونقول له هذا سؤال يسير الطلب، فالرغب والرغبى- بفتح الراء أو ضمها- والرغباء والرغبة- بفتح الراء أو ضمها أيضا- والرغبوت: كلماتٌ متقاربات المعنى تدل على توسع في الإرادة، وعلى حرص على نيل مطلوب، وقصارى القول إن الرغبة إلى الله سَعي إلى عطائه، وحرْصٌ على رضائه، وضراعة إليه لنيل جنته.(26/93)
لكل شيء قلبَ، والحب قلب العبادة:
وقد يقول قائلٌ: أغفلتم جانب الحب، وأهملتم شأنه ونقول له: ما أغفلنا ولا قصرنا، فإذا كنا قد ذكرنا من قبل أنّ الرغبَ والرهب دعامتا العبادة، فلنذكر أن الحبَّ قلبها، وأن العبادة بلا حب كالجسد بلا قلب، ومن الناس من هدِيَ في أمر الحب إلى صراط مستقيم، ومنهم من ضلّ الطريق القويمَ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ذلكم أن حب الله نوعٌ من العبادة، ولهذا بين لنا ربنا سبحانه أن حب المؤمنين له تعالى: هو آية الإيمان، وأن حب المشركين لآلهتهم هو غاية الكفران، وذلك في قوله جل ذكره: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 65: البقرة.
والحب لله طاعة لأوامره، واجتنابٌ لنواهيه، واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، واقتداء بهديه وقد أمر ربنا سبحانه رسوله الكريم أن يعلمنا هذا الهدى القويم، وذلك في قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 31: آل عمران، وقد بينت هذه الآية الكريمة أنّ أهل الطاعة هم أهل المحبة وأهل المغفرة، ثم بينت الآية الكريمة التالية لها أن أهل المعصية هم أهل الكراهية، وهذه الآية هي قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 32: آل عمران.
هذا بعض القول، في موضوع يحتاج إلى مزيد من القول، حتى تتضح الحقائق ناصعة، وتولي الشبهات مدبرة.
نسأل الله جل ذكره: أن يجعل قولنا سداداً، وعملنا رشاداً. وتوفيق الله خير الأرزاق.
هذه حضارتهم
أصدر مركز التوثيق والإعلام إحصائية عن الجرائم التي تقع في فرنسا، جاء فيها:(26/94)
في كل دقيقتين و 18 ثانية تتم عملية سطو على المنازل - وهذا يعني ضعفي عمليات السطو في (شيكاغو) .
- حدثت في باريس وحدها 39559 عملية سطو على المنازل عام 1980 أفي بزيادة 97 في المائة منذ عام 1972.
- اللصوص الذين يدخلون البيوت من أبوابها يشكلون 80 في المائة من حالات السطو.
- 70 في المائة فقط ينفذون عملياتهم بكسر الأقفال والأبواب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مسلم في صحيحه وورد بألفاظ أحرى.(26/95)
حُقوُقُ الإنسان بين مزاعم الحكام وشريعة القرآن
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة أصول الدين
بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان تحدث الرئيس الأميركي عن موقف بلاده من هذه القضية مؤكداً أن (حقوق الإنسان) تؤلف جوهر السياسة الأمريكية الخارجية. وقد أعادت إذاعة (صوت أميركة) وغيرها هذه الفقرة من خطاب الرئيس أكثر من مرة في أكثر من فترة إذاعية، ومثل هذه الفقرة ينطق بها رئيس أمريكي من حقها أن تستوقف كل مفكر يُعنى بأحداث العالم، ويتابع مواقف الدول والشعوب، ومجاري السياسة العالمية. وإذا كان هذا شأن المفكر أيا كانت هويته، فهو أكثر إثارة للمفكر المسلم، لما يرى من المفارقات العجيبة بين الكلام عن حقوق الإنسان وبين الواقع الذي يعانيه الإنسان من أصحاب هذا الكلام.
لقد مرت البشرية خلال التاريخ بالكثير من أحقاب الشقاء، فقد الإنسان أثناءها قدرة الرؤية، فراحت تتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، إذ قضي عليها أن تمارس لعبة الموت، ويسير بعضها على أشلاء بعض، دون أن يكون لها في ذلك أي مصلحة أو رأي، ولكنها إرادة الطواغيت الذين استحوذوا على أزمتها، فلم يدعوا لها فترة للتنفس، بل مضوا يستاقونها بالسياط إلى حيث تبنى لهم من جماجمها أقواس النصر منقوشة بأزاميل المعذَّبين، وتماثيل المجد الكاذب منحوتة بأظافر المستعبدين المذللين.
ويتخايل إلي وأنا في غمار هذه الصور الدامية من ماضي الإنسان، أنها لا تزال هي التي تتحكم في حياته، وإن اختلفت ألقاب السفاحين الذين ينيخون على صدره في كل مكان..(26/96)
إن مجرد (إعلان حقوق الإنسان) في العصر الحديث شاهد صارخ على أن هذه الحقوق لم تكن شيئاً مذكوراً عند طواغيته، فهم يريدون استحداثها للتخفيف أو لإِيهام التخفيف من أعباء الشقاء الذي تعانيه الإنسانية تحت كوابيسهم.. وقد فاتهم أن حقوق الإنسان أكبر من أن تكون منحة يتصدق بها (الطغاة) بل هي قيمة أساسية خلقت معه منذ أن أخرجه الله من عالم العدم إلى نطاق الوجود، ثم لم يهبطه إلى هذا الكوكب إلا بعد أن أسجد له ملائكته، تكريماً لنوعه، وتفضيلا له على سائر مخلوقاته الأرضية.. ولو استقام هذا الإنسان في الطريق الذي خطه له خالقه لما وجد إنسان نفسه في حاجة إلى من يلوّح له بهذا الحق. ولكن الشيطان الذي أعلن منذ ذلك اليوم ملاحقة الجنس البشري بالإفساد والتضليل، قد استطاع أن يضرب بين الإخوة فإذا هم بين ظالم ومظلوم، وقاتل ومقتول.. وهكذا استحالت الحياة التي ينبغي أن تكون جنة من المودة والرحمة، حلبة صراع لا يثبت فيها إلا المتفوق في القسوة والمكر وفنون التخريب ثم استحالت اللغة نفسها على ألسنة البغاة أداة للتزوير، فهم بها يسمون الأشياء بأضدادها، فالعبودية التي يفرضونها على الشعوب هي الحرية المفضَّلة، والتعاون بينهم على استنزاف طاقات محكوميهم هي الحقوق التي يجب أن يصفقوا لها؛ ويقيموا الحفلات لذكراها ... ولو هم صَدَقوا العمل، وآمنوا بخالق الإنسان الذي سوّاه وعَدَلَه وكرّمه لوسعهم أن يعيدوا إليه الكثير من حقيقته التي سلبها الطواغيت، ومسختها المناهج المفسدة التي يسوسون بها الشعوب، وإذن لاسترد هذا الإنسان إيمانه بخالقه، ومن ثم إيمانه بنفسه وبرسالته التي هي تحقيق ملكوت الله في هذا الكون.. ليس فقط في نطاق السيادة على عالم المادة بل على نطاق الحياة بأكملها، بكل ما في الحياة من حاجة إلى البر والعدالة والأخوَّة، حتى يكون (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام) .(26/97)
ولنعد إلى مناقشة الرئيس الأميركي في زعمه الكبير بأن توكيد حقوق الإنسان هو جوهر السياسة الأميركية ... وحبذا لو أتيح لنا أن نصل إلى سمعه لنقول له: في وسع كل رئيس أن يردد مثل هذا القول، ولكنه قول سيظل يعوزه التجسيد حتى يحققه العمل، وما دام عمله يباين ادعاءه، فلن يجد من يصدقه، بل أن سامعَه سيزداد شكا في جدية هذا الضرب من التصريحات التي لا تغير من الواقع شيئاً.
* لقد خاضت أميركتكم يا سيادة الرئيس عدداً من الحروب خلال هذا القرن، وفي كل حرب كان هذا الزعم الكبير هو الشعار الذهبي الذي ترفعه جيوشها، حتى إذا انجلت الحرب لمصلحتها نسيت ما كانت تزعمه، واكتفت بمحاولة توجيه المسيرة البشرية في خدمتها وحدها ولو هلك العالم كله، وهل أنا بحاجة إلى تذكيركم بهيروشيما وناجاساكي، اللتين جعلتم منهما مخبراً فنياً لتجارب علمائكم في مدى قدرتهم على التدمير فكانت حصيلة التجربة مئات ألوف الضحايا ممن لا ناقة له ولا جمل في ميادين القتال.. ومع ذلك فلم تسمع البشرية كلمة تعزية من أي رئيس أميركي في هذه الكارثة العالمية.. فليت شعري.. أين كانت حقوق الإنسان من سياسة أميركية يومئذ ... ؟ أم أنكم لا تعتبرون المخلوق إنساناً إن لم يكن أميركياً أو يهودياً!!..
ثم جاءت مجازر كمبودية وفيتنام ولاوس وأخواتها اللاتي أحلتم بهن الأرض بحاراً من الدماء.. ولما رأيتم مصلحة أميركة في مغادرتها تركتم شعوبها للجزارين الحمر يصَفّونها على الطريقة الماركسية، التي تعتبر الرحمة أبشع ألوان الضعف، دون أن تعتذروا ولو بكلمة واحدة لهذه الملايين من القرابين.. فأين كانت مبادئ أميركة في احترام حقوق الإنسان..؟ أم أن هؤلاء بنظر السياسة الأميركية من غير نوع الإنسان الذي يستحق الإحترام أو الإحسان..؟(26/98)
ويا سيادة الرئيس.. لعلكم لم تنسوا بعد جريمة أميركة التاريخية في اقتلاع ملايين العرب من الأرض التي جبل ترابها من أشلاء آبائهم وأجدادهم، منذ عهود العرب الكنعانيين قبل آلاف السنينِ لتزرعوا مكانهم عصائب الشذاذ، الذين ضاقت بمفاسدهم أكناف الأرض، ثم مازلتم بهذه العصائب تسميناً وتعزيزاً وإغْراء حتى جعلتم منها غابة من الضواري، لا يشبع نهمها شيء مثل البغي والعدوان على حقوق الإنسان.. فقل لي بالله كيف غابت عن أميركة يومئذ فكرة الإنسانية..؟ فوقفت بجانب الغاصبين، ولم تكتف حتى نصبت منهم دولة تهدد الأمن وتروع الآمنين.. ثم مضت تستغل كل مناسبة لتضخيمها بآلاف الملايين ولتسليحها بأحدث ما اكتشفه الفكر الإبليسي من وسائل التدمير والتتبير والتمكين حتى هذه الصرخات الجديدة التي تواجهون بها العالم في المؤتمرات الدولية والمناسبات القومية حول (حقوق الإنسان) لا تكاد تُسمع إلا حين يكون الأمر متعلقا باليهود، فأنتم من أجلهم تساومون روسية حتى على الحنطة وتحديد الأسلحة، فلا تجيبون لها مطلباً إلا بمقدار ما تفتح لهم من أبواب الهجرة لتكثير سواد القتلة في فلسطين السليبة.
ثم هاأنتم هؤلاء تشهدون اليوم عدوان صنيعتكم هذه على بقية أهلها بالقتل والتشريد، واجتياح المقدسات، واغتصاب الأرض لإِقامة المستوطنات المنذرة بزواله الجنس العربي من فلسطين.. حتى إذا تحرك الضمير البشري باستنكار هاتيك الجرائم في مجلس الأمن لجأتم إلى قذائف النقض- الفيتو- فأبطلتم مفعول الإستنكار دون أن تأخذكم هزة الحياء، إذ تقفون وحدكم إلى جانب المعتدين بوجه العالم كله.. وقد نسيتم شعاراتكم التي تتبجحون بها في كل مناسبة تستدعي الكلام عن حقوق الإنسان.
وها هي ذي بورمة البوذية الشيوعية تجتاح ديار المسلمين، وتفتك بجموعهم لتقذف ببقاياهم إلى بنغلادش المختنقة بسكانها ...(26/99)
وغير بعيد من بورمة مذابح المسلمين في جزر الفيلبين، حيث تغتال العصبية الصليبية حشودهم في بيوت الله، وتجليهم عن منازلهم وأراضيهم، دون ذنب سوى تشبثهم بهويتهم الإسلامية ...
ولطالما لقي إخوانهم مسلمو الهند من أمثال تلك المجازر بأيدي عتاة الهندوس، حيث تحرق المئات من قراهم، ويباد الألوف من أبريائهم حتى الأطفال والنساء ...
وما أحسبك بناس بعد مذابح الأوغادين، التي دفعتم بها لقمة سائغة لدبابات منغستو تسحق العزل من سكانها المسلمين، فتطمس معالم الديار، وتمزق أشلاء الكبار والصغارِ إلى جانب مذابحه الأخرى في ربوع الأرتيرية حيث تزحف قوى الشيوعية الدولية لتدمر فيها بقايا الحياة..
وكل ذلك على مرأى ومسمع من أهل الأرض.. ومع ذلك لا يذكر أحد أن رئيساً أو كبيراً في أميركة رفع صوتاً أو أطلق كلمة في الإحتجاج على الظالمين أو الإنتصار للمظلومين ...
فأين كانت رحمة أميركة بالإنسان؟.. أم أن هؤلاء وأولئك من غير الجنس الذي تطلقون عليه اسم الإنسان؟!..
وهل أنا بحاجة إلى تذكيركم يا سيادة الرئيس بذلك البلد العربي العريق، الذي صبت عليه صواعق المهلكات من الجو والبر فأحالته مقبرة كبيرة ينطوي تحت أنقاضه الآلاف من الرجال والنساء والأطفال.. وذلك على مسمع من الدنيا كلها، وعلى مشهد من أجهزتكم الفضائية، التي بلغت من الدقة (أن تصور كرة لا يتجاوز قطرها أربعة سنتيمترات عن ارتفاع ستة عشر ألف متر) ومع ذلك لم تجدوا في هذه المأساة العالمية ما يستحق منكم كلمة إشفاق، أنتم الذين أقمتم الدنيا ولم تقعدوها انتصاراً للكلبة (لايكا) أن تنتهك الحكومة السوفياتية حقوقها بإرسالها إلى الفضاء في تجربة علمية!..
أفكانت دماء آلاف المسلمين أرخص في معياركم (البراغمي) من إنزعاج كلبة؟.. أم هو المنطق الخاص الذي يسقط من حقوق الإنسان كل آدمي ينتمي إلى عالم الإسلام!!..(26/100)
الحق يا سيادة الرئيس أني عاجز عن ملاحقة مواقفكم المتضاربة في هذا الموضوع، الذي أطلتم وأطنبتم في الحديث عنه، لتوهموا العالم أن أميركة هي الحامية لكرامة الإنسان دون منازع.. في حين تكشف الصحف الأميركية عن ضروب المؤامرات الأميركية على حقوق الشعوب، سواء عن طريق الرشاوي التي تشترى بها الحكام، أو عن طريق المخابرات المركزية التي تقف وراء كل انقلاب يراد به فرض العملاء البغاة على الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والحياة.. وماذا أقول يا سيادة الرئيس عن (المعونات) التي (تتبرعون) بها سنوياً لغوث البلاد المتخلفة بعد أن أعلنت مراكز القوى في أمريكة أنها ليست سوى (طعوم) لاصطياد المحتاجين، فليس لمعارض سياستكم الدولية واليهودية حظ في أي شيء منها.
لقد ظل هدف هذه (المعونات) سراً مستوراً حتى كشفه الكونغرس الذي قرر أن ليس لحكومة أي نصيب فيها إن لم تدفع ثمنها من كرامتها وحقوق رعاياها، وهكذا اتضح لكل ذي عينين أن معونتكم ليست سوى وسيلة لإخضاع الدول التي قضي عليها أن تكون في صفوف المتخلفين..
وما أظنكم تنسون موقف مندوب (تاهيتي) في هيئة الأمم عام/ 1948/ يوم حشدتم العملاء لتقرير التقسيم الظالم فأبى عليه ضميره أن يشارك حكومة (ترومان) في هذه الجريمة، وأعلن موقفه بجانب الحق العربي إلا أن عاتق (تاهيتي) الضعيف لم يستطع الصمود أمام الضغط الأميركي أو الإغراء الأميركي، فأصدرت أمرها إلى مندوبها بوجوب التصويت لصالح الغاصبين، فلم يسعه إلا الخضوع، وأدلى بصوته في طاعة أميركة وهو يعلن احتجاجه عليها بدموعه النبيلة..
يا سيادة الرئيس: من حقك أن ترد على هذه التساؤلات بحجة أنك لم تشارك عملياً في معظم هذه الجرائم، لأن أكثرها إما سابق على عهدك، أو مفروض عليك بقوة الإستمرار، ولكن ما تعليلك لموقفك الراهن من موضوع القنبلة النيوترونية، التي يعتبر تبنيك لها من ثمار رئاستك وحدها في هذه الأيام.. ..؟.(26/101)
لقد أعلنت دوائركم في مختلف المناسبات أن قنبلتكم هذه فاقت كل ما تقدمها من أدوات الفتك.. وأن أبرز مميزاتها كونها تقتل الأحياء وحدهم دون أن تمس الأبنية بأي سوء..
فأي قيمة بعد هذا لكل ادعاء يريد أن يوهم الأغبياء بأنكم تقيمون أي وزن للإنسان!. إنها لمعادلة تفوق كل عجائب العقلية (البراغماتيزمية) إذ تجعل الحجر أحق بالرحمة من البشرية!. ولعمر الحق.. لقد بات أفضل من ادعائكم الإنتصار لحقوق الإنسان أن ترفعوا شعاراً جديداً آخر أليق بعصر النيوترون، هو (المادة أولاً وآخراً) .. وألاَّ حق في البقاء لإنسان إلا إذا كان من اليهود أو الأميركان!
يا سيادة الرئيس، لقد أفسدت المكيافيلية الغربية عقلية البشر حتى استساغت تسمية الأشياء بأضدادها، وحتى بات مثل هذا النقاش الذي أواجهك به من غرائب الوقائع في مقاييسها الزائغة، ولكن استغرابك قمين بأن يزول عندما تعلم أنني أناقشك بمنطق الإسلام الذي استعصى على مكيافيلية الغرب وشيوعية الشرق جميعاً، فبضوئه نرى، وبمعايره نحكم، وبذلك نرتفع على التضليل الذي يفرض نفسه اليوم على معظم البشر، فنقرر أنكم ومن ورائكم من ورثاء الميكيافيلية والماركسية إنما تهزءون بعقول الناس حين تنسبون إلى أنفسكم وأممكم فضيلة الإيمان بكرامة الإنسان، ذلك لأننا نحن المسلمين الأمة الوحيدة التي جعلت ولا تزال تحمل للبشرية دعوة السماء إلى احترام الإنسان انطلاقاً من إيماننا الراسخ بقول خالق الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(26/102)
فقضية (حقوق الإنسان) التي ترتبط عندكم بالمصلحة المتقلبة، هي بالنسبة إلينا نحن المسلمين قضية دين لا يقبل التغيير ولا التبديل، وأمامكم شواهد التاريخ فاستنطقوها تؤكد لكم أننا لم نعرف على مر القرون مثل الإستعمار الذي لوثتم به ضمائر البشرية، ولا مثل التمييز العنصري الذي مزقتم به أرحام الإنسانية ...
ولا جرم ولا غرابة ... فأنتم تنظرون بعين المادة الصماء إلى كل شيء من هذه الحياة، ونحن ننظر إلى الكون كله بنور الله.. وشتان بين النظرتين والمعيارين..
ولعلك أخيراً يا سيادة الرئيس قد قرأت شيئاً عن أسلاف المسلمين وأصغيت ذات يوم لتلك الصيحة العمرية التي لا تبرح تدوي في مسامع العالمين: متى استعبدتم الناس.. وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.؟
تذييل
ولقد شاء الله جلت حكمته أن يتأخر موعد هذا العدد من (مجلة الجامعة الإسلامية) حتى نشهد هجمة العدوان الجديد، الذي سجلت به لقيطتكم - إسرائيل- قمة الهمجية، التي توشك أن تمحو من ذاكرة التاريخ أسماء جنكيز وهولاكو وتيمورلنك، وأشباههم من أعداء الإنسانية في القديم والحديث.(26/103)
وإني لأكتب هذا التذييل العجلان في غمرة من أنباء التدمير المبير، الذي تنشره أسلحتكم الشيطانية على امتداد لبنان بعامة، وفي أحياء المسلمين من بيروت الغربية بخاصة، حيث يدك المجرمون من حلفائكم عديد المستشفيات على أجساد نزلائها من المرضى والأطباء، وآلاف المنازل الآمنة على رؤوس المئات من ضحاياها البرآء.. وقد قطعوا الماء وموارد الغذاء والضياء عن كل مكان من ذلك البلد المنكوب، كي لا يدعوا لأهله موضعاً للأمل بالبقاء.. وكل ذلك على مرأى ومسمع منكم يا سيادة الرئيس، دون أن يحرك فيكم ساكناً، أو يطلق لسانكم بكلمة حاسمة تقف وحوش الغاب عن اندفاعها المجنون.. هذا مع يقينكم التام بأن أولئك السفاحين ما كانوا ليقدموا على جرائمهم الجهنمية لولا ثقتهم بتأييدكم المطلق، سواء في مجلس الأمن الذي تنسفون كل مقرراته المنصفة بقذائف النقض، أو في فنون الهلاك من المبيدات العنقودية والإنشطارية والفوسفورية والفراغية، التي تمدون بها أولئك السفاكين للإجهاز على بقية الأبرياء المساكين..
ولم كل هذا الإجرام بحق الإنسانية، التي تنادون بوجوب الحفاظ على حقوقها؟!.
ستقلون حتماً: إنه حق إسرائيل في الأمن على حدودها من غارات الفلسطينيين! ...
ولكن.. هل بلغ تحجر الضمير الأميركي إلى حد أن يتناسى حق هؤلاء المشردين في الدفاع عن وجودهم؟!.
هل بلغ الفساد في ذلك الضمير إلى حد ألاَّ يفرق بين ظالم زحف بقضه وقضيضه من مختلف أرجاء العالم، ليقتلع شعبا من وطن ورثه عن عشرات الأجيال من آبائه، وبين هذا الشعب المظلوم الذي اغتصب القتلة وأنصارهم أرضه ودياره، فبات شريداً في المجاهل، حتى لم يجد مناصاً من اللجوء إلى السلاح للدفاع عن حقه في الحياة؟!!.(26/104)
وليت أصحاب هذا الضمير المتحجر قد اكتفوا بالسكوت عن الظالم، والتصامّ عن المظلوم، فلم يزودوا القاتل الغاصب بالعون على ضحيته، ولكنهم أبوا إلا أن يرفدوه بكل أسباب القوة التي تمكنه من القضاء عليها، ولو أدى ذلك إلى تحويل معالم الحضارة إلى مقابر يغَيَّب تحت أنقاضها آلاف الأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء..
فيالها محنةً جنيتم بها على ثقة الإنسان بنوعه!..
ولكن.. رب محنة أعقبتها منحة ...
وحسب هذه المحنة العالمية أنها حرَّكت مشاعر الغافلين المأخوذين بمدَّ عياتكم نحو حقوق الإنسان، فإذا هم يشهدون ما وراءها من مخاز تشمئز من فظائعها حتى أنفس الحيوان!.
ولا جرم سيكون لذلك أثره البعيد في تاريخ أميركة كله، وفي موقف الضمير الإنساني المستيقظ من صنيعتها، التي أزالت بوحشيتها الضارية آخر الستور عن وجهها الكالح الكريه..
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .(26/105)
الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العم لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين حفظهم الله بالإسلام، وأعاذنا وإياهم من شر مفتريات الجهلة الطغاة، آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف) قال فيها: كنت ساهراً ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالآيات القرآنية والأحكام الشريفة رحمة بالعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا شيخ أحمد قلت لبيك يا رسول الله يا أكرم خلق الله.(26/106)
فقال لي أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي ولا الملائكة لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفاً على غير دين الإسلام ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي ثم قال فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار ثم ذكر بعض أشراط الساعة إلى أن قال فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة ومن كتبها وكان فقيراً أغناه الله أو كان مديوناً قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة وقال والله العظيم ثلاثاً هذه حقيقة وإن كنت كاذباًَ أخرج من الدنيا على غير الإسلام ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذب بها كفر) هذه خلاصة ما في هذه الوصية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر وتروج بين كثير من العامة وفي ألفاظها اختلاف وكاذبها يقول إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فحمله هذه الوصية وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرناها لك أيها القارئ زعم المفتري فيها أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين تهيأ للنوم لا في النوم فالمعنى أنه رآه يقظة زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة هي من أوضح الكذب وأبين الباطل سأنبهك عليها قريباً في هذه الكلمة إن شاء الله، ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل. فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها لظهور بطلانها وعظم جرأة مفتريها على الكذب وما كنت أظن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة.(26/107)
ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها راجت على كثير من الناس وتداولوها بينهم وصدقها بعضهم، فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثاله الكتابة عنها لبيان بطلانها وأنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد. ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أَحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد وأنه لم يقلها أصلاً والشيخ أحمد المذكور قد مات من مدة ولو فرضنا أن الشيخ أحمد المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة وأوصاه بهذه الوصية لعلمنا يقيناً أنه كاذب أو أن الذي قال له ذلك شيطان ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوه كثيرة: منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُرى في اليقظة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو أنه يحضر المولد أو ما أشبه ذلك فقد غلط أقبح الغلط ولبسه عليه غاية التلبيس ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا. ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذباً بيناً أو غالط ملبس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان.(26/108)
الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق لا في حياته ولا في وفاته وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة كما يأتي- وهو صلى الله عليه وسلم قد يُرَى في النوم ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه لأن الشيطان لا يتمثل في صورته كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورته أو في غيرها ولو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قاله في حياته من غير طريق الثقات العدول الضابطين لم يعتمد عليه ولم يحتج به أو جاء من طريق الثقاة الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخاً لا يعمل به والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن ذلك بشروطه وإذا لم يمكن ذلك ولم يمكن الجمع وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظاً وأدنى عدالة والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعرف عدالته وأمانته فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع فكيف إذا كانت الوصية مشتملةً على أمور كثيرة تدل على بطلانها وأنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وكذب عليه كذباً صريحاً خطيراً، فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة وينشر للناس أنه قد كذب هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من نشر باطلاً بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه وتكذيبه لنفسه لقول(26/109)
الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى إليه من الشرع الكامل ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية.(26/110)
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر يريد أن يلبس على الناس دينا جديدا يترتب عليه دخول الجنة لمن أخذ بتشريعه وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه. ويريد أن يجعل هذه الوصية التي افتراها أعظم من القرآن. وأفضل حيث افترى فيها أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية وقلة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلا بلد ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مؤمنا به تابعا لشريعته. وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية تكفي وحدها للدلالة على بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى وفي هذه الوصية سوى ما ذكر أمور أخرى كلها تدل علا بطلانها وكذبها ولو أقسم مفتريها ألف قسم أو أكثر على صحتها ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد النكال على أنه صادق لم يكن صادقا ولم تكن صحيحة بل هي والله ثم والله من أعظم الكذب وأقبح الباطل ونحن نشهد الله سبحانه ومن حضرنا من الملائكة ومن أطلع على هذه الكتابة من المسلمين شهادة نلقي بها ربنا عز وجل أن هذه الوصية كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق. ويدل على كذبها وبطلانها سوى ما تقدم أمور كثيرة: الأول منها قوله فيها (لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام) لأن هذا من علم الغيب والرسول صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته وهو في حياته لا يعلم(26/111)
الغيب فكيف بعد وفاته لقول الله سبحانه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الآية وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة فأقول يا رب أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
الثاني من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب قوله فيها (من كتبها وكان فقيراً أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية) إلى آخره. وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدلائل على كذب مفتريها وقلة حيائه من الله ومن عباده لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الباطلة. وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم ويدخلوا الأسباب التي شرعها الله لعباده وجعلها موصلة إلى الغني وقضاء الدين ومغفرة الذنوب فنعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.(26/112)
الأمر الثالث من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية قوله فيها (ومن لم يكتبها من عباد الله أسود وجهه في الدنيا والآخرة) وهذا أيضا من أقبح الكذب ومن بين الأدلة على بطلان هذه الوصية وكذب مفتريها كيف يجوز في عقل عاقل إن لم يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة؟ ومن كتبها كان غنيا بعد الفقر وسليماً من الدّيْن بعد تراكمه عليه ومغفوراً له ما جناه من الذنوب؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وإن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري وعظم جرأته على الله وقلة حيائه من الله ومن الناس. فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها فلم تسود وجوههم وههنا جمع غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة فلم يقض دينه ولم يزل فقرهم فنعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل وجمل كثيرة من أنواع الكفر؟ سبحان الله ما أحلمه على من اجترأ عليه بالكذب.(26/113)
الأمر الرابع من الأمور الدالة على أن هذه الوصية من أبطل الباطل وأوضح الكذب قوله فيها (ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذب بها كفر) وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل يدعو هذا المفتري جميع الناس إلى أن يصدقوا بفريته ويزعم أنهم بذلك ينجون من عذاب النار وأن من كذب بها يكفر لقد أعظم والله هذا الكذاب على الله الفرية، وقال والله غير الحق. إن من صدق بها هو الذي يستحق أن يكون كافراً لا من كذب بها لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة ونحن نشهد الله على أنها كذب وأن مفتريها كذاب يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله ويدخل في دينه ما ليس منه، والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل هذه الفرية بأربعة عشر قرناً فانتبهوا أيها القراء والإخوان وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات وأن يكون لها رواج فيما بينكم فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه بدليله واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم ولا تغتروا بحلف الكذابين فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم على أنه لهما من الناصحين وهو أعظم الخائنين وكذلك الكذابين كما حكى الله عنه في سورة الأعراف حيث قال سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاحذروه واحذروا اتباعه من المفترين فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل. عصمني الله وإياكم وسائر المسلمين من شر الشياطين وفتن المضلين وزبغ الزائفين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويلبسوا على الناس دينهم، والله متم نوره وناصر دينه ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من الكفار والملحدين.(26/114)
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات فهو أمر واقع، والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية التحذير وفيهما الهداية والكفاية ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم باتباع الحق والاستقامة عليه والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب فإنه التواب الرحيم والقادر على كل شيء وأما ما ذكر عن شروط الساعة فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك فمن أراد أن يعلم ذلك وجده في محله من كتب السنة ومؤلفات أهل العلم والإيمان، وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحق بالباطل. وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى أله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
قضاة ينفذون شريعة الله
أفادت أنباء صحفية نشرت في القاهرة أن القضاء المصري أصدر حكما بمنع الخمور على جميع وسائل النقل الجوي بمصر. وقالت صحيفة (أخبار اليوم) إن مجلس إدارة شركة مصر للطيران التي تسلمت نص الحكم بدأ في الإعداد لتنفيذه وإبلاغ الأجهزة المعنية في الحركة ومحطاتها الخارجية التي ستقوم بدورها بإبلاغ هذه التعليمات لعملائها في الخارج وجميع الركاب.
وقال اللواء محمد فهيم رياني رئيس إدارة الشركة في تصريح للصحيفة إنه سيطالب بتنفيذ الحكم على جميع شركات الطيران القادمة إلى مصر والمغادرة لها.
المجلة: إن هذا الواحد من المآثر الرائعة التي يحققها القضاء المصري في تنفيذ شريعة الله، فجزاه الله خيراً وجزى مسئولي شركة الطيران المصري على تجاوبهم السريع مع هذا الاتجاه، الذي نرجو أن يعم سائر المرافق الأخرى.(26/115)
رابطة العلم الإسلامي تدعو إلى
الوقوف في وجه الحملات التنصيرية عن طريق المراسلة
تلقت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية منذ فترة وجيزة كتابا من الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد علي الحركان وذلك في إطار سلسلة من الكتب التي وجهها الشيخ الحركان إلى وزارات الأوقاف في دول المنطقة ومعظم الدول الإسلامية.. وتتضمن هذه الكتب (وجهة نظر رابطة العالم الإسلامي حول ظاهرة تكثيف حملات التنصير الموجهة إلى المسلمين عن طريق إرسال كتيبات ومنشورات وتوجيه إذاعات خاصة تدعو إلى التنصير) ..
وتدرس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية ما جاء في كتاب أمين عام الرابطة باهتمام خاص. استنادا إلى المعلومات التي أوردها معالي الشيخ (محمد علي الحركان) حيث أكد أن الرابطة لاحظت أن حركات التنصير أخذت تكثف حملاتها في الأونة الأخيرة، وذلك عن طريق إتباع طريقة إرسال منشوراتها المعادية للإسلام إلى المسلمين بواسطة صناديق البريد والعناوين المثبتة في أدلة الهاتف وأدلة الشركات التجارية..!!
وتتضمن هذه الرسائل (كما أوضح الشيخ الحركان في كتابه) : الدعوة إلى الاستماع للبرامج التنصيرية من بعض الإذاعات مثل إذاعة "مونت كارلو"وغيرها.. وملء استمارات خاصة للحصول على نسخ من الإنجيل مجاناً بإرسالها إلى العنوان المثبت فيها.. إضافة إلى كتيبات وكتب مشحونة بتحريف القرآن الكريم والتهجم على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى تعاليم الإسلام بشكل عام..(26/116)
كما تضمن كتاب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي أسماء ثلاثة مراكز تنصيرية تمارس هذا النشاط مع عناوينها وهي: (مركز الشبيبة التنصيري في سويسرا، ومركز نداء الرجاء في ألمانيا، ومركز خدمة بعثة الصداقة في سويسرا وألمانيا) وأوضح الأمين العام في كتابه أنه نظراً لخطورة هذه الطريقة التي تنتهجها الحركات التنصيرية فإن الأمانه العامة للرابطة تأمل من الجهات المختصة في الدول الإسلامية منع دخول هذه المنشورات والكتيبات حفاظا على سلامة عقيدة المسلمين.. كما طلبت الأمانة موافاتها بالنسخ والمنشورات التي وصلت فعلا إلى المسلمين لدراستها وتحليلها من قبل الرابطة..
والجدير بالذكر أن الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي معالي الشيخ محمد علي الحركان أرفق بالكتب التي أرسلها لوزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في دول المنطقة كشفاً ببعض الكتب التنصيرية التي أرسلتها الجمعيات والمراكز التبشيرية المشار إليها إلى المسلمين عن طريق البريد (وقد بلغ عددها 41 كتاباً ومنشوراً) ..
(جريدة المدينة)(26/117)
170 ألف طالب
يحفظون القرآن الكريم بالخلاوي السودانية
بدأت في الخرطوم الشهر الماضي الدورة التدريبية الثانية لمديري ومعلمي المدارس التكميلية الإسلامية للعام الدراسي الجديد، وقد حضر الحفل د. عبد الفتاح منصور مندوباً عن رابطة العالم الإسلامي إلى جانب ممثلين عن وزارة التربية والشئون الدينية والجامعات السودانية، وهي الدورة التي تقام بمعهد تدريب معلمي المرحلة المتوسطة بميدان المهدية شمال مدينة أم درمان لمدة شهرين..
والجدير بالملاحظة في أمر هذه الدورة أنها تتم تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي..
أما لماذا سميت هذه المدارس بالتكميلية، وما حجم الدور الذي يفترض أن تؤديه في مسار التربية الإسلامية في السودان، وأخيراً ما صلة كل ذلك برابطة العالم الإسلامي..؟
الإجابة على ذلك نقرأها في القصة التالية:
إستناداً إلى مسح تربوي أجري قبل 5 سنوات بواسطة إدارة التعليم في السودان تبين أنه يوجد في البلاد اليوم 2626 خلوة بها 170595 تلميذا تقوم بمهمة تحفيظهم القرآن الكريم إلى جانب تعليمهم شيئا من مهارات القراءة والكتابة..
من خلال هذه الحقائق الواقعية البسيطة أحس القائمون بأمر التعليم هنا خطورة العبء الذي يقع على الخلاوي في تربية النشء وأهمية الدور الذي تلعبه في تشكيل شخصياتهم، ومن ثم نبعت فكرة المدرسة التكميلية للربط بين النظام التعليمي الرسمي وبين الطريقة المتبعة في تعليم الخلوة، ذلك لأن الأخيرة بمناهجها وأساليبها التقليدية في التعليم قد لا تكون قادرة على إعداد الدارسين فيها وتهيئتهم لمواجهة تحديات العصر بالقدر المناسب..(26/118)
وهذه المدارس تتكون من الصفين (الخامس والسادس الابتدائي) يقبل بها التلاميذ الآتون من الخلاوي الذين حفظوا القرآن ويرغبون في مواصلة تعليمهم، أو من الذين درسوا في مراكز محو الأمية أو ممن علموا أنفسهم عن طريق الجهد الذاتي، وهي تنشأ كوحدة مستقلة أو في دورة ثانية في مدرسة ابتدائية قائمة يلحق بها من استطاعوا الوصول إلى مستوى الصف الرابع الابتدائي، ولا تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة ليواصلوا الدراسة إلى نهاية المرحلة التعليمية التالية.
والنتيجة أن هذا النظام سيؤدي من ناحية إلى استمرار الخلوة كمؤسسة لتحفيظ القرآن بدلا من إهمالها بسبب منافسة مدارس التعليم النظامي لها، وقد يؤدي من ناحية أخرى إلى ازدياد الخلاوي نظراً إلى أنها أقل كلفة ولأنها تعتمد على المجهود الشعبي..
إن نظام المدرسة التكميلية كمصب للخلاوي يعني نشر كتاب الله حفظا وتجويداً، ويعني ضم الصفوف من أبناء المسلمين إلى التعليم العام.. ومما لا شك فيه أن خريجي الخلوة سيكون لهم خير تأثير على المجتمع المدرسي، بل وعلى المجتمع عامة حين يتأهلون لقيادته مستقبلا..
من هذا المنظور لدور المدرسة التكميلية يتهيأ المسرح لرابطة العالم الإسلامي لكي تسهم بالإشراف الواعي المدرك لأبعاد هذا الدور، كما وتسخو بالدعم المالي في إعداد المعلمين الذين ستقوم على أكتافهم مهمة تنفيذ هذه السياسة الجديدة بالنسبة للفكر التربوي في السودان، وليس ذلك فحسب بل وربما هي جديدة حتى بالنسبة لبقية العالم الإسلامي في عمومه..
وقد أقامت رابطة العالم الإسلامي بمقر الدراسة في المعهد معسكراً إسلامياً كاملاً حشدت له مجموعة طيبة منتقاة من حملة المؤهلات العالية (الدكتوراه) كمعلمين وهم الذين تم إقناعهم بصورة شخصية بقبول التدريس بالمعهد خلال إجازاتهم الصيفية من الجامعتين الإسلامية وجامعة الخرطوم..(26/119)
في هذا المعسكر يحيا طلابه البالغ عددهم (103) قدموا من كل محافظات السودان الشمالية ليعيشوا حياة جماعية إسلامية ملتزمة تحت إشراف الأساتذة والمشرفين عليهم..
ولعل من أبرز النظم والأفكار الواردة في البرنامج الدراسي لهذه الدورة الروح الجماعية السائدة على جو المعسكر، في الأكل والعبادة والنشاط العملي (وهو عبارة عن زيارات يومية لمساجد خارجية وشهود محاضرات من الأساتذة) كذلك تم التركيز في البرنامج على الحفل والتلاوة والتجويد من مواد القرآن الكريم، وهذا أمر طبيعي ما دامت الدورة قائمة أساساً لاستقبال طلاب من حفظة القرآن الكريم في مسار التعليم النظامي، ثم هناك ما يمكن أن يعتبر موضوعاً ذا دلالة نظراً لموقع السودان الجغرافي الحساس ولكونه مستهدفاً من جهات تجاهر بعدائها للعقيدة الإسلامية، هذا الموضوع في مواد البرنامج الدراسي بالمعهد هو ما سمي بأعداء الإسلام الحمر بينها العلمانية والتنصير..
إن الهدف البعيد أو الإستراتيجي كما يسمونه الذي ترمي إليه إدارة التعليم في السودان من وراء قيام المدارس التكميلية والسير فيها قدما يمثل هذا الخطو المنظم وهو القضاء على الأمية بصورة سريعة وذلك بإنشاء 587 مدرسة من هذا النوع خلال الخطة الستية المعدلة المتعلقة بتعميم التعليم الأولي في البلاد..
إنه لشيء يدعو للتفاؤل أن يجد المسلمون أينما كانوا، فرصة الالتقاء (ولو بصورة غير مباشرة) في ميادين العمل المثمر من أجل تثبيت دينهم الحنيف حتى يمتنع ركنه على أن ينال منه الحاقدون وإن كثر عددهم وعلت ضجتهم فوق أصوات الحكمة والعدل والرأي السديد..
(جريدة المدينة)(26/120)
أحداث الأرض المحتلة ...
بلغت وحشية الاعتداءات الصهيونية على الأرواح والمقدسات، وأعمال العنف والقمع والإرهاب والفتك بالأبرياء ذروة جديدة فكانت المذبحة الدموية الأخيرة في ساحة مسجديّ الأقصى والصخرة، مع ما تلاها وسبقها من جرائم، بإطلاق الرصاص على صدور الشباب الرافع، واقتحام حرمات الجامعات والمساجد، وإغلاق المؤسسات والنقابات الفلسطينية، وإقالة المنتخبين في انتخابات أجرتها من قبل سلطات الاحتلال نفسها، ومحاولات فرض أوضاع إدارية تتلاءم مع المخطّط الراهن للصهيونية في مجموع المنطقة، وتتكامل مع أعمال الاغتصاب للأراضي، وتجريد أصحابها، وتهويدها بموجات جديدة من اليهود الغاصبين المهاجرين لفلسطين من أنحاء الأرض.
إنّ كل عربيّ ومسلم، كلّ صاحب قلم وكلمة، كلّ مؤسسة ومنظّمة، كلّ مجلة وهيئة، في كلّ مكان من العالم.. جميع هؤلاء يحملون قسطا من المسؤولية في قضية فلسطين، ومطالبون بأداء واجب العمل من أجلها، ووقف الانحراف بها عن هدف التحرير الكامل والعودة.
وسنتابع الطريق بعون الله.
فلا نتخلى عن هدفنا الأصيل بفلسطين حتى يكون التحرير الكامل بالإسلام ومن أجل الإسلام، وسنمضي إن شاء الله على طريق العمل والجهاد إلى آخر نبض في عروقنا على ساحة فلسطين المغتصبة، وعلى ساحة كل أرض إسلامية يبعث بها العدوان والطغيان.. حتى ينتصر الحقّ ويزهق الباطل ويزول الطاغوت.. ويرتفع لواء الإسلام، لواء الحقّ والحرية والعدالة والوحدة والتقدّم، لواء رسالة الخير والهدى للبشرية جميعا..
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
اتحاد الطلبة المسلمين في أوربا
واتحاد العمال المسلمين في أوربا(26/121)
ملف خاص عن وفاة الملك خالد
وتوليه جلالة الملك فهد
فجعت شعوب العالم العربي والإسلامي بل وشعوب العالم أجمع بوفاة العاهل السعودي جلالة المغفور له الملك خالد بن عبد العزيز الذي وافاه الأجل المحتوم أثر نوبة قلبية..
وقد أصدر الديوان الملكي البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
بيان من الديوان الملكي..
ببالغ الأسى والحزن ينعى الديوان الملكي باسم صاحب السمو الملكي ولي العهد وكافة أفراد الأسرة ونيابة عن الأمة حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حيث وافاه الأجل المحتوم على أثر نوبة قلبية فإنا لله وإنا إليه راجعون..
وقد أعلنت أمس مبايعة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ملكاً للمملكة العربية السعودية خلفاً للمغفور له جلالة الملك خالد بن عبد العزيز- كما عين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني ولياً للعهد..
فقد أصدر الديوان الملكي البيان التالي الصادر في هذا الشأن:
(لقد قام أفراد الأسرة وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبد العزيز بمبايعة ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز ملكاًَ على البلاد وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولياً للعهد وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه وقد تقرر أن يقوم المواطنون بالبيعة لجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ولسمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز في قصر الحكم بالرياض صباح اليوم الاثنين إن شاء الله) .
أمر ملكي باستمرار أعضاء مجلس الوزراء في مناصبهم
عبد الله نائباً لرئيس المجلس وسلطان نائباً ثانياً(26/122)
الرياض (واس) أصدر جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى أمره باستمرار جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم برئاسة جلالته.. وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ورئيس الحرس الوطني نائباً لرئيس مجلس الوزراء.. وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران والمفتش العام نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء.
وفيما يلي نص الأمر الملكي الكريم:
أمر ملكي أ/355
في 21/8/1402 هـ.
بعون الله تعالى نحن فهد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية بعد الإطلاع على المادتين الثامنة والحادية عشر من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم28 وتاريخ22/10/1377 هـ وبناء على مقتضيات المصلحة العامة أمرنا بما هو آت:
أولاً: يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم برئاستنا.
ثانياً: يعين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ورئيس الحرس الوطني نائباً لرئيس مجلس الوزراء.
ثالثاً: يعين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران والمفتش العام نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء.
رابعاً: على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
نبذة عن حياة المغفور له جلالة الملك خالد
ولد جلالة المغفور له في مدينة الرياض عام 1331هـ الموافق 1913م وتلقى تحت رعاية والده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز تعليماً إسلامياًَ وعلماًَ على أيدي علماء أفاضل من رجال التربية والتعليم..
واشترك جلالته في شبابه في الحملات العسكرية التي أدت فيما بعد إلى توحيد أرجاء المملكة وتثبيت أركانها..
اشترك في عام 1352 هـ في المفاوضات مع إمام اليمن ووقع معاهدة السلام السعودية اليمنية التي رسمت فيما بعد أفضل علاقات الجوار بين الشعبين الشقيقين.(26/123)
في عام 1359 هـ اشترك جلالته مع شقيقه الراحل جلالة الملك فيصل في المؤتمر الخاص بفلسطين الذي عقد في المملكة المتحدة..
حضر جلالته مناسبة إنشاء منظمة الأمم المتحدة عند إنشائها في عام 1384 هـ نائبا لرئيس مجلس الوزراء..
ونصب جلالته في عام 1385 هـ ولياً للعهد في المملكة العربية السعودية..
وبعد وفاة المغفور له جلالة الملك فيصل مستشهدا تولى الملك خالد المعظم الملك ابتداء من 13 ربيع الأول عام 1395 هـ..
ساهم جلالته في بداية حياته العلمية في المشاركة في الجهود المختلفة التي أدت إلى توطيد كيان المملكة العربية السعودية وتوحيد أجزائها وتعميم الرخاء والأمن والاستقرار بها وتحت راية التوحيد والعدل والحق..
ساهم في الإنجازات الإدارية التي تولاها جلالته كرئيس لمجلس الوزراء وكولي للعهد وكقائد لمسيرة هذه الأمة إلى إبراز دور المملكة بكل ما تحمله من ثقل ووزن على المستوى الدولي والعالمي..
تولى جلالته بعد استشهاد شقيقه جلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز حمل راية التضامن الإسلامي والأخوة الإسلامية ويعمل بلا كلل أو تعب على نبذ الخلافات وتوحيد الكلمة وجمع شمل المسلمين في بلاد الأرض قاطبة تحت راية التوحيد والأخوة والتآلف والتآزر والمحبة والتضامن والتي أسفرت عن عقد مؤتمر القمة الثالث وبجوار بيت الله العتيق وإصدار بلاغ مكة التاريخي..
شهدت المملكة بتوجيهات قيادة جلالة الملك النهضة الحكيمة في مختلف المجالات وفق خطط حكيمة متزنة يراعى فيها التأكيد المستمر على القيم الروحية والأخلاقية للمجتمع السعودي..
إنجازات تمت في عهد الفقيد(26/124)
إنجازات كبيرة وضخمة تحققت في عهد المغفور له جلالة الملك خالد بن عبد العزيز طيب الله ثراه.. وأحد أضخم هذه الإنجازات، التي رعاها رحمة الله عليه، هو إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وهي الهيئة التي أنشئت بعد ولاية جلالته بسبعة أشهر.. وقد كانت إرادة المغفور له الملك خالد، هي أن تتولى الهيئة الملكية للجبيل وينبع مسؤولية تخطيط وإنشاء وتشغيل كافة التجهيزات والمرافق الصناعية الأساسية، وتوفير جميع الخدمات الضرورية للمجمعين الصناعيين بالمدينتين والمناطق السكنية التابعة لهما.. وقد أنجزت الهيئة الكثير من مهامها ولا تزال بفضل رعاية جلالته رحمه الله وتوجيهاته الصائبة، فقد عملت الهيئة على توفير التجهيزات والخدمات الأساسية برسوم رمزية لتشجيع القطاع الخاص الوطني، إلى جانب اهتمامها بإتاحة أوسع الفرص أمام شباب المملكة للعمل مع أكفأ الخبراء في مجالات الإدارة والتقنية..
أما الفئة الثالثة من الصناعات المزمع تركيزها بمنطقتي الجبيل وينبع فهي الصناعات المساندة والتي ستكون مهمتها تأمين الخدمات والسلع للصناعات الأساسية والثانوية ولكافة الأعمال والمهن الأخرى وكافة سكان مدينتي الجبيل وينبع.. في مواد البناء والمواد السائبة ومخازن خدمات صناعية ومراكز وورش ومؤسسات مواصلات وسوف يتولى القطاع الخاص أيضا مسؤولية هذه الصناعات.
ويشير التقسيم السابق للفئات الصناعية بالجبيل وينبع إلى الرغبة في إنشاء مدينتين صناعيتين متكاملتين بحيث تتحقق الاستفادة من الاستثمارات والخدمات والإمكانيات المتاحة.
العمالة والإسكان(26/125)
يعتبر تشكيل قوة عمل وطنية كاملة التدريب والتأهيل من أهم الآثار التي ستترتب على إقامة مجمعي الجبيل وينبع الصناعيين وقد أعدت برامج شاملة لتطوير القوى العاملة في كل من الموقعين يتم حالياًَ التوسع فيها بغية تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي تكوين جهاز من الحرفيين والمهنيين عن طريق التعليم النظري والتدريب العملي لاستخدامهم في أعمال الإنشاءات وتمكين بعض هؤلاء المتدربين من تولي المناصب القيادية في الإدارة والتشغيل وتدريبهم لتحمل مسؤوليات صيانة المرافق والتجهيزات الأساسية وتقوم الهيئة الملكية بالجبيل وينبع حالياً بإعداد مخطط تطوير القوى العاملة في المدينتين الصناعيتين بالتعاون مع المعهد الكوري للتنمية.
أما في مجال الإسكان فسوف يتم إنشاء مدينتين سكنيتين إلى جانب المناطق الصناعية لإسكان العمال والموظفين وأسرهم.. ومن المتوقع أن يصل عدد سكان مدينتي الجبيل وينبع في بداية القرن الميلادي القادم 300 و 150 ألف نسمة على التوالي وقد وضعت خطة شاملة لتحقيق الاستغلال الأمثل للأرض والمرافق والمواصلات وغيرها، وتضم المدن الجديدة مراكز للبلدية وأحياء وحارات، على أن تكون المراكز البلدية محاور اجتماعية وإدارية وتجارية، وأن تكون الأحياء هي الوحدات الجزئية التي تتفاوت في الكثافة السكانية وتضم كافة المرافق من مدارس وأسواق وملاعب ومستوصفات ومساجد، وقد تم تخطيط المجمعين الصناعيين وكافة المرافق بهما من مبدأ الحفاظ على القيم الدينية والروحية والتمسك بالتراث والتقاليد الوطنية.
الآثار الاقتصادية(26/126)
من المسلم به بداهة أن الاستثمارات الحكومية الكبيرة في الصناعات الأساسية الثقيلة في الجبيل وينبع خلال الخطة الخمسية الحالية، ستعمل على تغيير التركيبة الاقتصادية الوطنية، وذلك بتخفيض الاعتماد على قطاع البترول الخام كمصدر رئيسي للدخل كما ستكون لهذه الاستثمارات أثار إيجابية خلال مراحل بناء وتشغيل هذه الصناعات.
وتشير الدراسات التي أجرتها (سابك) إلى أن مشاريعها المزمع إقامتها في كل من الجبيل وينبع ستبلغ تكلفتها 32 بليون ريال تقريباً، تصل قيمتها المضافة على الإنتاج المحلي عام 1405 هـ نحو تسعة بلايين ونصف في السنة، ويتوقع أن يصل الدخل الناتج عن تصدير منتجات هذه الصناعات إلى ستة عشر بليونا وثلاثمائة مليون ريال.
وتجدر الإشارة إلى أن إنشاء (قطبي نمو) صناعيين في الجبيل وينبع سوف يعجل بتطوير وتنمية المراكز والمناطق العمرانية، كما أن الطلب على المرافق والخدمات والسلع سيزيد من منفعة أَصحاب المشاريع الصغيرة من الوطنيين، كما أَن من المتوقع أن يتم جذب عديد من الشركات الخاصة في قطاعات الصناعات الثانوية والمساندة التي إذا ما أضفنا الاستثمارات المتوقعة لها واستثمارات (بترومين) غير المعلنة حتى الآن إلى جانب استثمارات (سابك) لوجدنا أن الآثار الاقتصادية الحقيقية للاستثمارات ستكون أكبر بكثير من حكم كل التوقعات.
جانب من الإنجازات(26/127)
في إطار المهمات المنوطة بها قد قامت الأمانة العامة للهيئة بعديد من الإنجازات التي شملت وضع نظام لمراقبة التكاليف والتصاميم للتقليل من ارتفاع التكاليف كما قامت الأمانة بالتعاون مع إحدى الشركات الاستثمارية الألمانية بوضع النماذج القياسية لتقدير التكاليف وتشتمل على أكثر من مائتي نموذج يمكن عن طريقها وخلال دقائق معدودة تقدير كافة ما يلزم من كميات وتكاليف أي مشروع علاوة على إمكانية تقدير التكاليف خلال الدورة الزمنية والمقارنة بين خيارات متعددة للتكلفة.
هذا كما قامت مجموعة من خبراء الأمانة العامة ومن خبراء إحدى الشركات الاستثمارية بوضع خطة عملية لتطوير نظام التشغيل والصيانة في كل من الجبيل وينبع فيما يتعلق بجهاز البلدية والأساليب الفنية والعملية لتوفير الخدمات العامة وفيما يتعلق بمستويات المستخدمين والمراكز القيادية التي تشغلها الكوادر الوطنية وقد تضمنت هذه الخطة الاعتماد على الكمبيوتر في نظام الإدارة بكل من المدينتين الصناعيتين.
صناعات أساسية(26/128)
تركز الخطوة الصناعية الجريئة للمملكة على إنشاء مدينتين صناعيتين كبيرتين إحداهما في الجبيل على ساحل الخليج العربي والأخرى في ينبع على ساحل البحر الأحمر.. وتتضمن الخطة إيجاد ثلاث فئات رئيسية من الصناعات في هاتين المدينتين أَولى هذه الفئات هي الصناعات الأساسية التي تكون القاعدة الأساسية للمجمعين الصناعيين وهي تضم الصناعات الثقيلة التي تعتمد على البترول الخام والغاز الطبيعي وستكون نواة هذه الصناعات الثقيلة هي إنشاء محطات للتكرير والبتروكيماويات والسماد والحديد والصلب.. وقد عهدت مسؤولية هذه الفئة من الصناعات إلى مؤسستين حكوميتين هما: المؤسسة العامة للبترول والمعادن (بترومين) والشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) وتتولى بترومين مسؤولية إنشاء مصافي البترول وخزانات المشتقات البترولية في حين تقوم سابك بإقامة شركات مشتركة للصناعات الأخرى وسيجعل هذا النوع من الصناعات من الجبيل وينبع مركزين رئيسيين للنمو الاقتصادي يساعدان على ترويج التجارة والاستثمار في المناطق المجاورة.
صناعات ثانوية ومساندة
الفئة الثانية من الصناعات هي: الصناعات الثانوية التي تعتمد على إنتاج الصناعات الأساسية وتنشأ كحلقة امتداد طبيعية لها وتتراوح هذه الصناعات بين ثقيلة وخفيفة وتشمل مرافق تصنيع المنتجات الجانبية لمصافي البترول ومصانع البتروكيماويات والحديد والصلب.. وتمثل هذه الفئة من الصناعات سوقاً جاهزاً لمنتجات الصناعات الأساسية وسوف تقام ضمن مبادرات القطاع الخاص الوطني.
آخر كلمة وجهها الراحل العظيم إلى ضيوف الرحمن
في أخر كلمة وجهها جلالة الملك الراحل إلى ضيوف الرحمن في موسم الحج الماضي، أكد الراحل العظيم أن الانتكاسة التي يعانى منها المسلمون في غالبيتهم العظمى مردها الانحسار الخطير الذي أصاب القيم الروحية والبعد عن ساحة الإسلام..(26/129)
ومضى جلالة الراحل يخاطب حجاج بيت الله الحرام (إن أَمة الإسلام تواجه تحديات شرسة من جانب أعداء وخصوم يدركون أن لا قوة للإسلام والمسلمين إلا بتمسكهم بمعطيات العقيدة السمحة) .
ووصف فقيد العروبة والإسلام قيام مجلس التعاون الخليجي بأنه لبنة قوية في أساس اللقاء الإسلامي على صعيد التضامن الشامل من أجل الوصول إلى صيغة الحياة الأفضل للإنسان المسلم..
وتحدث رحمه الله عن مأساة شعبي فلسطين وأفغانستان مؤكداً أَن القضية الفلسطينية ستظل قضيتنا وسنواصل بحول الله وقوته مسعانا الدؤوب لإقناع المجتمع الدولي بعدالة مطالب الشعب الفلسطيني في أن يعيش كريماً على أرضه وفي ظل دولته المستقلة.. ثم دعا الفقيد الكبير أمم العالم إلى الوقوف بجانب شعبا أفغانستان الذي يتعرض لحرب إبادة بقوة الحديد والنار..
وشدد جلالته على أهمية تجميع القوى ورص الصفوف بين المسلمين ليكونوا قادرين على التأثير في عالم اليوم..
وتحدث جلالته في كلمته عن الدور السعودي المتعاظم في عالم اليوم قائلاً (إن دورنا على الصعيد العالمي يتسم بالنظرة المتوازنة بين مصالحنا ومصالح من نتعامل معهم.. باذلين أصدق الجهد لتجنيب الأسرة الإنسانية أي اهتزاز قد يلحق الضرر برخاء وازدهار الإنسان..)
نص كلمة جلالته
وهنا نص كلمة جلالته:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين..
أيها الإخوان ضيوف الرحمن..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:(26/130)
إنه لمن دواعي السرور أن نلتقي عاماً بعد عام على رحاب هذه الأرض المباركة التي كانت همزة الوصل بين الأرض والسماء.. حيث مشرق شمس الإسلام على يدي خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله الذي أرسله الله رحمة للعالمين وفي هذا اللقاء تعودنا أن نستعرض ونناقش على هدى من عقيدتنا أحوالنا كأمة لها رسالتها في الحياة ومسؤوليتها في تصحيح مسار الإنسانية ونقلب النظر في واقع الحال، ونرسم طريق المستقبل مستلهمين ومسترشدين بمعطيات عقيدتنا السمحة لنكون الأمة الجديرة بقوله تبارك وتعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
أيها الأخوة..
إن أمتنا الإسلامية تعيش حاضرها اليوم في ظل البعد عن ساحة الإسلام إلا من رحم الله.. فكان أن اشتد عليها البلاء وتغلب عليها الخصم وتكاثرت عليها الأمم..
ولأن الأمة الإسلامية لم تغلب لضعف في عددها وعدتها بل لأنها باعدت بينها وبين عقيدتها ولم تتمسك بما صلح به أولها. وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ونصرنا لله يكمن في تمسكنا بما جاءنا من عنده تبارك وتعالى قولاً وعملا..
إن الانتكاسة التي يعاني منها المسلمون اليوم في غالبيتهم العظمى مردها ومرجعها إلى الانحسار الخطير الذي أصاب القيم الروحية التي هي وقود وزاد رحلة الحياة للنفس المسلمة ومصدر القوة الحقيقي للإنسان المسلم الذي أصبح الآن أكثر الإسلام اليوم من تحديات شرسة من جانب أَعدائها الذين يعملون باستمرارية وإصرار على انتزاع الأمة الإسلامية من أحضان عقيدتها لأن الخصوم يدركون أن لا قوة للمسلمين إلا بتمسكهم بمعطيات هذه العقيدة وهذا هو مصدر الخطر الذي يتهدد اليوم ديار الإسلام ويحيط بأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا حول ولا قوة إلا بالله..
الأفكار الهدامة
إخواني ضيوف الرحمن:(26/131)
إن من دواعي الألم والحسرة التي تعتصر قلب كل مسلم أن يوجد في صفوف المسلمين من يتجاوب مع دعوة الخصوم وذلك بتبني الأفكار الهدامة والمعتقدات الضالة التي باتت تشكل خطراً داهماً على أفكار وانتماءات الناشئة المسلمة..
لهذا أناشدكم الله من جوار بيته العتيق أن تكونوا سياجاً قوياً يصد عن أمتنا الإسلامية هجمات خصومها الذين عجزوا عن أن يحققوا ما يريدون من شر بهذه الأمة على ساحة المواجهة المسلحة المكشوفة فنقلوا معركتهم إلى ساحة الفكر المنحرف من أجل بث أسباب التحلل وضرب الأمة الإسلامية في صميم تراثها وقيمها.. وتفريغ النفس المسلمة من معتقداتها الحقيقية التي تشكل صخرة صلبة جز الخصوم الحاقدون عن تفتيتها..
أيها الإخوة الكرام..
إن روح العمل الجماعي هي الصفة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية في الحياة ومواجهة كل التحديات.. وإن المؤشرات تبدو مشجعة على القول بأن الأمة الإسلامية وضعت أقدامها على طريق تصحيح المسار والعودة إلى رحاب العقيدة في ظل تضامن أبنائها.. ولقد كان مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي عقد في رحاب الكعبة المشرفة وما ترتب عليه من نتائج تدعو إلى التفاؤل في المستقبل بإذن الله كان فرصة طيبة وانطلاقة واعية وجادة لأمتنا الإسلامية الماجدة نحو تحقيق ما تصبو إليه من عز ومنعة لتشارك بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية مواصلة دورها الطليعي في إعادة صياغة الحياة الإنسانية وتخليص الإنسان من ظلم الإنسان..
أَيها الإخوة.. ضيوف بيت الله الحرام..
إن البشائر المفرحة التي لاحت في سماء التضامن الإسلامي ذلك اللقاء الخير بين دول الخليج العربي على صعيد مجلس التعاون الخليجي الذي يعتبر لبنة قوية في أساس لقاء جسم الأمة الإسلامية تقوم وترتكز على وحدة الترابط العضوي بين أعضاء هذا الجسم..
مأساة شعبي فلسطين وأفغانستان(26/132)
إن المعاناة القاسية التي يعيشها أشقاء لنا على أرض فلسطين المباركة وفي أفغانستان المجاهدة وفى عدد من ديار المسلمين حيث المواجهة الشرسة بين قوى الإيمان وجنود الشر والإلحاد.. فمسرى الرسول الأمين وثالث الحرمين الشريفين مازال يئن بين أنياب الاحتلال الصهيوني الكريه وأهل الأرض التي باركها الله يعيش قسم منهم تحت وطأة الاحتلال الصهيوني الذي يمارس ضدهم أقسى أنواع الإرهاب والقمع الدموي.. كما أن غالبية هذا الشعب تعيش مشردة تعاني آلام الحرمان والبعد عن الوطن الذي سلبته الصهيونية الباغية في غفلة من الضمير الإنساني الذي تتحمل القوى الفاعلة في هذا العالم مسؤولية السكوت على المعتدي بل ومده بأسباب البقاء ليمارس إرهابه وعدوانه ضد الأمة العربية عامة والشعب الفلسطيني بصفة خاصة.
إن قضية الصراع العربي الإسرائيلي هي قضيتنا الأولى وهاجس تفكيرنا والتي تستحوذ على حيز بارز في اهتماماتنا ونتيجة لمسعانا الحثيث حظيت جهودنا في هذا المجال بقناعة أصدقائنا في هذا العالم وبتعاطف خصوم تفهم عدالة قضيتنا.. فأصبح المجتمع الدولي على رحابته أكثر تفهماً وقناعة بعدالة مطالب الشعب الفلسطيني في أن يعيش كريماً على أَرضه وفي ظل دولته المستقلة.. وسنواصل بحول الله وقوته مسعانا الدؤوب واضعين في اعتبارنا أن أَمن وسلام العالم كله لا يتجزأ وأن المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني كانت وستظل مالم يجد لها العالم حلاً عادلاً ودائماً أحد الأسباب الرئيسية في تكريس التوتر والإضطراب والإخلال بأمن وسلام العالم..
كذلك ما يعانيه وبكل قسوة الشعب الأفغاني المسلم من جور وعدوان يستهدف نزعه من أحضان عقيدته وفرض مفاهيم عليه مغايرة لخلقه وقيمه بقوة السلاح لهو أمر يدعو أمم العالم وفى طليعتها الأمة الإسلامية لأن تقف إلى جانب شعب يتعرض لحرب إبادة بقوة الحديد والنار..
الدور السعودي
أيها الإخوان.. ضيوف الرحمن(26/133)
إن المملكة العربية السعودية التي أعطت وتعطي من ذاتها المثل والنموذج الفذ لما يجب أن يكون عليه التطبيق الأمين لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تساوي بين البشر في الحقوق والواجبات وتنشر الأمن والآمان على الإنسان لتدرك أَن مسؤولياتها تتعاظم في عالم اليوم الذي لا مكان فيه إلا للقوة ولأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف لهذا فإننا نحرص على بناء قاعدة اقتصادية قوية أَساسها وقاعدتها الإنسان السعودي الذي نبني فيه القدرة على تحديات التعامل مع منجزات العصر تلك القدرة التي أصبحت بفضل من الله في مستوى رفيع من الأداء وانسجام تام بين ما تحقق من نجاحاتنا في الحياة وبين قيمنا ومثلنا التي لا نتنازل عنها وفى غمرة نجاحاتنا لم ننسى دورنا تجاه أشقاء لنا في الدم والعقيدة فأسهمنا ومازلنا نسهم وبسخاء في الأخذ بيد خططهم التنموية وبناء قدراتهم الاقتصادية انطلاقاً من إيماننا القوي بأن قوة أي بلد عربي وإسلامي هي قوة لنا ومحصلة قوية تنعكس على رخاء وازدهار الإنسان المسلم..
كما أن دورنا على الصعيد العالمي يتسم بالنظرة المتوازنة بين مصالحنا ومصالح من نتعامل معهم.. كما أننا نراعي ونراقب وبدقة متناهية تطورات مسار الاقتصاد العالمي باذلين من الجهد أصدقه في سبيل تجنيب الأسرة الإنسانية أي اهتزاز قد يلحق الضرر برخاء وازدهار الإنسان الذي أصبحت حمايته مسؤولية كل دولة قادرة وفاعلة في المجال الاقتصادي وهذا ما يحكم تحركاتنا في بذل العون لمن هو في حاجة إليه من بلدان العالم النامي التي يحظى تطورها الإنمائي باهتمامنا وترجمة هذا الاهتمام إلى مشاركة مادية وفق خطة غاية في السهولة واليسر..(26/134)
وفى الختام أتوجه إلى الله العلي القدير ومن جوار بيته العتيق بالدعاء أن يكون مستقبل أمتنا الإسلامية خيراً من حاضرها وأن يلهمنا سبيل الصواب ويتقبل منا ومنكم حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً إنه سميع مجيب الدعاء.. والله الهادي إلى سواء السبيل.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
نائب رئيس الجامعة الإسلامية يبعث ببرقيات تعزية إلى:
جلالة الملك وولي العهد والأمير سلطان والأمير محمد
المدينة المنورة- واس:
بعث نائب رئيس الجامعة الإسلامية الدكتور عبد الله الزايد ببرقية تعزية ومبايعة لحضرة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز عبر فيها عن بالغ الحزن والأسى بوفاة المغفور له جلالة الملك خالد بن عبد العزيز..
وفيما يلي نص البرقية:
حضرة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية المعظم حفظه الله ورعاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سمعنا ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز ولقد كان لهذا النبأ وقع شديد على نفس ونفوس كافة منسوبي الجامعة الإسلامية وأصالة عن نفسي ونيابة عن منسوبي هذه الجامعة أقدم لجلالتكم والأسرة المالكة ولجميع أفراد الشعب السعودي الوفي أصدق التعازي في فقيد الأمة العربية والإسلامية تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهمكم وكافة أفراد الأسرة المالكة والشعب السعودي وكافة المسلمين الصبر والسلوان- إنا لله وإنا إليه راجعون- جعلكم خير خلف لخير سلف.. كما أننا نتقدم للبيعة لجلالتكم ملكاً للمملكة العربية السعودية سائلين الله لكم العون والتأييد وأن يتم مسيرة الخير والبناء على يد جلالتكم لخدمة شعبكم وأمتكم الإسلامية المتطلعة لهذه المملكة وفقكم الله وسدد خطاكم وصرف عنكم كل سوء ومكروه ودمتم في رعاية الله وحفظه والله يتولاكم ويرعاكم.(26/135)
كما بعث نائب رئيس الجامعة الإسلامية الدكتور عبد الله الزايد ببرقية تعزية إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء.. فيما يلي نصها:
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد المعظم حفظه الله.. لقد هزني وهز كافة منسوبي الجامعة الإسلامية نبأ وفاة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز -رحمه الله- وأصالة عن نفسي ونيابة عن جميع منسوبي الجامعة الإسلامية أقدم أصدق عبارات التعازي لسموكم الكريم وللأسرة المالكة في فقيد هذه الأمة كما نبايع سموكم الكريم ولياً للعهد لهذه البلاد سائلين الله تعالى أَن يأخذ بأيديكم ويعينكم على تحمل هذه المسئولية الكبرى ويسدد خطاكم كما نسأله تعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته -إنا لله وإنا إليه راجعون- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كما بعث الدكتور عبد الله الزايد ببرقية تعزية لصاحب السمو الملكي الأمير محمد ابن عبد العزيز.. فيما يلي نصها:
صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله.. ببالغ الحزن والأسى تلقيت نبأ وفاة جلالة الملك- رحمه الله وغفر له- وإننا إذ نتقدم لسموكم بصادق عبارات التعزية وللأسرة السعودية المالكة لأسأل الله تبارك وتعالى لفقيد الأمة أن يتغمده الله بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته ويلهمنا وكافة أفراد الأسرة المالكة والشعب السعودي جميل الصبر والسلوان وأن يبارك في خلفه وأَن يسدد خطاه وأَن يديم على الشعب السعودي نعمة الإسلام الذي به سعادته في الدنيا والآخرة- إنا لله وإنا إليه راجعون- حفظكم الله ورعاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(26/136)
كما بعث الدكتور عبد الله الزايد ببرقية تعزية إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام.. فيما يلي نصها:
صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام حفظه الله..
سمعت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز -رحمه الله- وأصالة عن نفسي ونيابة عن منسوبي الجامعة الإسلامية أقدم لسموكم الكريم والأسرة المالكة الكريمة وجميع أفراد الشعب السعودي الوفي أَصدق التعازي في فقيد الأمة العربية والإسلامية ونسأله تعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.. كما أسأله تعالى أن يعينكم على هذه المسئولية الكبرى الملقاة على عاتقكم ودمتم وتقبلوا خالص تقديري.
نبذة عن حياة الفهد
ولد جلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى بمدينة الرياض في عام 1343 هـ الموافق 1923 م، ونشأ في ظل رعاية والده أسد الجزيرة العربية وموحد المملكة جلالة الملك عبد العزيز بن سعود طيب الله ثراه.
وقد تلقى جلالته العلم في طفولته بمدرسة الأمراء في مدينة الرياض ودرس فترة من الزمن في المعهد العلمي بمكة المكرمة ومنذ حداثته وهو شغوف بملازمة مجلس والده البطل عبد العزيز وكانت هذه المجالس والتوجيهات التي تلقاها جلالته في صدر شبابه مما صقل شخصيته وأخصب تفكيره وجعله مهيأ لتولي أكبر المناصب فقد كان والده رحمه الله ينتدبه لبعض المهام عندما لمس فيه النضج المبكر والإستعداد الذي يؤهله لتمثيل المملكة.(26/137)
وقد تقلد جلالته عدداً من المناصب الرفيعة فقد عين وزيراً للمعارف عام 1373هـ الموافق 1952م ثم وزيراً للداخلية عام 1382هـ الموافق 1962م فنائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء عام 1387هـ الموافق 1967م علاوة على قيامه بمسؤوليات وزارة الداخلية.
وقد أصبح جلالته بحكم هذا المركز يرأس جلسات مجلس الوزراء.
ولجلالة الملك فهد بن عبد العزيز المفدى دور رائد في نمو وتطور المجتمع السعودي من خلال المناصب العديدة والمتنوعة التي تقلدها وهو يسترشد في ذلك بالأهداف والقيم الدينية والأخلاقية والإسلامية وتعزيز الدفاع عن المملكة وترسيخ الأمن الداخلي فيها وتحقيق معدل مرتفع للنمو الاقتصادي عن طريق تنمية الموارد الاقتصادية والحصول على أقصى قدر من واردات الزيت وأطول فترة ممكنة مع المحافظة على الموارد القابلة للنضوب.
كما يعمل جلالته على تخفيف اعتماد المملكة على صادراتها من الزيت الخام عن طريق التوسع في التعليم والتدريب ورفع المستوى الصحي وزيادة الرفاهية لجميع فئات المجتمع ودعم الاستقرار الاجتماعي في مواجهة التغيرات الاجتماعية السريعة.
كما يهتم جلالته ببناء التجهيزات الأساسية اللازمة لتحقيق أَهداف خطة التنمية الثانية 1395هـ- 1400هـ/ 1975_1980م وتشمل هذه التجهيزات مجالات النقل ووسائل المواصلات والبلديات والإسكان.
ويرى جلالة الملك فهد بن عبد العزيز أن المملكة تقوم بتذليل كل الصعوبات مهما كانت لتحقيق مجتمع الرفاهية المتوازن اقتصادياً وثقافياً وفكرياً على أسس من تعاليم الإسلام وقيمه الروحية.(26/138)
ويقول جلالة الفهد إن الخطة الخمسية الحالية موجهة بشكل رئيسي لمشروعات التنمية والتصنيع لإيجاد قاعدة صناعية وتطوير إمكانيات المملكة الزراعية والنهوض بقطاع الخدمات وقد بذلت المملكة جهوداً ملموسة في هذا المجال وقطعت مراحل طيبة للوصول إلى غايتها كإقامة مدينة صناعية في الجبيل وينبع وإنشاء شركة الصناعات الأساسية وتشجيع القطاع الخاص على الاتجاه إلى الصناعة وتقديم القروض والإعفاء من الرسوم الجمركية علاوة على تنفيذ المشروعات الإنمائية الزراعية في الأحساء وحرض وجيزان والقطيف وغير ذلك من المدن والقرى في شتى أنحاء المملكة.
ويؤكد جلالة الفهد في كل ذلك على دور الإنسان السعودي في برامج التنمية وتكوين الكوادر التنفيذية وقيام قاعدة شعبية متعلمة وهذا هو التركيز على بناء المدارس والجامعات ومعاهد التدريب.
ويقول جلالته في هذا الصدد إن صناعة الإنسان هي الأساس فالمال يذهب والرجال وحدهم هم الذين يصنعون المال إن كل أهدافنا في البناء والتطور وتحقيق المجتمع المتقدم لن تتم أبداً إذا لم يتم القضاء على الجهل وإننا نعتبرها مهمة من أقدس مهمات ومسؤوليات الحكم.
ومن المهام المبكرة التي شارك فيها جلالته في عهد والده الملك عبد العزيز رحمه الله اختياره عضواً في وفد المملكة برئاسة جلالة الملك فيصل رحمه الله وذلك بمناسبة افتتاح هيئة الأمم.
كما ترأس جلالة الفهد وفد المملكة إلى اجتماع جامعة الدول العربية في دورته الثالثة والثلاثين الاستثنائية في شتورا بلبنان عام 1380هـ الموافق عام 1960م.
وقد مثل جلالته المملكة في الدورة الثانية لمؤتمر رؤساء الحكومات العربية المنعقد في القاهرة في 26 محرم عام 1386هـ الموافق 26 مايو 1956م وزار جلالته باريس عام 1387هـ 1967م بدعوة من الحكومة الفرنسية حيث استقبله الجنرال ديجول..(26/139)
وفي عام 1390هـ الموافق 1970م رأس جلالته وفد المملكة إلى إنجلترا لمناقشة مستقبل الخليج. وفي 18 صفر 1395هـ الموافق 3 مارس 1975م ترأس جلالته نيابة عن جلالة المغفور له الملك فيصل وفد المملكة إلى مؤتمر القمة للدول المصدرة للبترول كما قام في العام نفسه بزيارة لفرنسا وصرح وقتها بأن فرنسا أوضحت معالم سياستها تجاه القضية الفلسطينية بوجوب الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة وضمان حق الشعب الفلسطيني.
وفى 13 ربيع الأول من عام 1395هـ الموافق 35 مارس 1975م عين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء.
كما ترأس جلالته المجلس الأعلى للبترول والمعادن والمجلس الأعلى للجامعات والمجلس الأعلى لرعاية الشباب واللجنة العليا لشؤون الحج.
ويسير جلالة الملك فهد في نظرته للشئون العربية على هدى سياسة مؤسس هذه البلاد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز وأسلوب الملك سعود والملك فيصل والملك خالد رحمهم الله.
ويحتكم سموه في معالجته المشكلات إلى العقل والروية متطلعاً دائماً إلى تحقيق أماني الأمة العربية والإسلامية عاملاً على كسب صداقات الدول والشعوب ويقول سموه عقب وفاة الملك فيصل: "إن مساندتنا لأمتنا العربية مستمرة بكل طاقاتنا تدعيماً للتضامن العربي ومواصلة لسيرة الراحل العظيم في إحكام روابط الأخوة مع جميع أمم الأرض المسلمة والأمم المؤمنة بالله".(26/140)
وقد أسهمت زيارات جلالته عندما كان ولياً للعهد ومباحثاته مع كثير من القادة والزعماء العرب في دعم دور المملكة كمركز للقاء الأشقاء وعامل استقطاب للعمل العربي والإيجابي وتعزيز التضامن ووحدة الصف باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق أمال الأمة العربية ويؤكد جلالة الملك فهد دائماً على قدرة الأمة العربية على تجاوز الأحداث العارضة التي لا تؤثر في صلابة الموقف العربي إزاء الخطر المشترك ويبدي جلالته اهتماماً طبيعياً بالوضع في الخليج بحكم موقع المملكة الجغرافي والقضايا المشتركة بينها وبين الدول المحيطة بها وبحكم حرصها على عروبة المنطقة ووحدتها وسيادتها واستقرار الأمن فيها ومواجهة محاولات التغلغل الخارجي.
ويقول جلالته في هذا الصدد إن سياستنا الإقليمية مبنية على أن تكون الروابط الاقتصادية هي المحك الأول بين دول المنطقة لأنها أَفضل الروابط التي تؤدي إلى أن تلتزم الإدارات السياسية بمصالح شعوبها. كما أننا نرى أن يكون هناك تعاون اقتصادي بين الدول العربية بشكل منسق ومتفق عليه ضمن أصول الرعاية المتكاملة لشعوب المنطقة.. ونحن نرى أن نبدأ إقليمياً بالتعاون الخليجي مع شبه الجزيرة العربية.
وقد عمل جلالة الفهد خلال زياراته للعديد من الدول العربية على تطويق الخلافات وإعادة الصفاء بين قادة العرب الأمر الذي جنب الأمة العربية الكثير من المشكلات وجدد روح التضامن العربي.
من زيارات الفهد الخارجية
لقيت زيارات صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز إبان توليه منصب ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء اهتماماً بالغاً في الأوساط العربية والإسلامية والدولية على السواء.
وذلك للدور البارز الذي قام به جلالته فيما يتعلق برسم الخطوط والسياسات السعودية خاصة والعربية والإسلامية عامة.. وبالنظر لما تتمتع به المملكة من مكانة دولية متميزة في عالم اليوم.
زيارة دول المواجهة(26/141)
عرف جلالة الملك فهد بن عبد العزيز بأنه رجل المهمات الصعبة وأنه يمشي على الخطوات التي أرساها والده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز الذي نذر نفسه لخدمة قضايا العروبة والإسلام بكل طاقاته وجهده.
لذلك جاء التحرك السعودي المتمثل في سلسلة من الزيارات الرسمية التي قام بها سموه إلى دول المواجهة مبرزاً عدم تخلي المملكة عن دورها الطبيعي في السعي للتفاهم العربي الواسع لتحقيق التضامن العربي.
وقد افتتح جلالته سلسلة هذه الزيارات التي شملت الأردن وسوريا والعراق بزيارة إلى القاهرة يوم 26/8/1398هـ وحفلت هذه السلسلة بلقاءات واتصالات مع المسؤولين في هذه البلاد العربية لتبادل وجهات النظر في قضايا العالم العربي والجهود التي تبذل لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة وقضية لبنان للوصول إلى حلول المشاكل القائمة لما لذلك من أهمية بالغة وحيوية بالنسبة لحاضر ومستقبل المصير العربي.
ولقد كان لدى جميع الأطراف اقتناع كامل بضرورة التحرك العربي لاتخاذ موقف عربي موحد ووضع استراتيجية عربية لمواجهة الموقف الإسرائيلي السلبي المتعنت بعد أن أتضح جلياً موقف العدو الصهيوني الذي لا يتفق وقرارات الأمم المتحدة ومجلسه الأمن التي تقضي بانسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
الزيارة إلى ألمانيا(26/142)
ضمن الزيارات الرسمية الكثيرة الناجحة التي قام بها جلالة الملك فهد بن عبد العزيز تأتي زيارة جلالته إلى ألمانيا الغربية بتاريخ 16/7/1398هـ فقد حققت هذه الزيارة الأهداف والغايات التي تسعى السياسة السعودية في الوصول إليها فيما يتعلق بقضية الشعب الفلسطيني التي وصفها جلالة الملك فهد بأنها قضية المملكة الأساسية في المجال العربي والدولي وأنها تقع في صلب المبادئ والقضايا التي تتمسك بها المملكة ولا ترى لها حلاً بدون عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه المغتصب وإقامة دولته الشرعية فيه بعودة الأراضي العربية السليبة إلى أوضاعها الطبيعية بما فيها مدينة القدس العربية.
ولأل مرة في التاريخ اتخذت ألمانيا الغربية موقفاً رسمياً مما أكدت فيه على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة ولأول مرة أيضا أدان المستشار الألماني شميت صراحة سلبية الموقف الإسرائيلي من قضية تحقيق السلام العادل في المنطقة.. هذا وقد سمحت محادثات جلالة الملك فهد بإجراء تبادل شامل للآراء في جو من الثقة المتبادلة حيث أشاد الجانب الألماني بالدور الذي تقوم به المملكة في المجال النفطي والنقدي العالمي واهتمام بون بالتصورات السعودية التي طرحتها فيما يتعلق بالإعداد لمؤتمر القمة الاقتصادي الغربي الذي انعقد في بون.
وأكد الجانبان السعودي والألماني تطابق وجهات نظرهما حول تطورات الوضع في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي وقلقهما المتزايد إزاء النفوذ السوفيتي في القارة الإفريقية.
زيارة باكستان
قام صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز بزيارة رسمية إلى باكستان المسلمة من 1 إلى 3 صفر 1401هـ.(26/143)
وكان الاستقبال الرسمي والشعبي الحافل الذي لقيه جلالته صورة حية جلية لأواصر الصداقة والأخوة الإسلامية بين المملكة وباكستان على مستوى القادة والحكومتين والشعبين وذلك للمكانة التي تحتلها المملكة مبعث الدين الإسلامي الحنيف لدى الشعوب الإسلامية قاطبة.
وقد قام جلالته بزيارة عدة مدن باكستانية ومخيم اللاجئين الأفغانيين الذين شردهم الغزو السوفيتي السافر من وطنهم وديارهم..
وقد عبر الجانبان عن إرتياحهما الشديد لاضطراد التعاون المستمر بين البلدين في كافة الميادين خاصة الاتصال الدائم بين البلدين على أعلى المستويات.. والتعاون المتبادل في المجالات الفنية الاقتصادية وعلى توفير الفرص لدعم العلاقات الثنائية في ميدان المبادلات التعليمية والثقافية وزيادة حجم التجارة والمشاريع المشتركة.
انطلاقاً من القناعة بأن تقوية وتوثيق التضامن والتعاون بين الدول الإسلامية في مختلف المجالات لا تفيد الدول الإسلامية فحسب بل تشكل أيضا عنصراً فعالاً وإيجابياً لاستتباب السلام والأمن الدوليين.. وعلى هذا الأساس اتفق الجانبان على دعم الجهود المبذولة لتقوية منظمة المؤتمر الإسلامي لتقوم بدورها الطبيعي على أمثل وجهة.
وأعرب الجانبان عن قلقهما العميق إزاء الموقف المتردي في الشرق الأوسط نتيجة لتعنت وصلف العدو الصهيوني وأكدا ضرورة انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة وخاصة مدينة القدس الشريفة واستعادة الشعب الفلسطيني لجميع حقوقه الوطنية خاصة حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه بقيادة ممثله الشرعي الوحيد منظمة التحرير الفلسطينية.
وكرر الطرفان إدانتهما القرار الصهيوني بضم مدينة القدس الشريفة وجعلها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني وعمليات العدوان السافرة والمتكررة على جنوب لبنان كما أكدا على ضرورة انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان.(26/144)
وعبرا عن حزنهما العميق للخلاف المستمر الدامي بين البلدين المسلمين الشقيقين العراق وإيران ووجوب إنهاء هذا النزاع والدخول في مفاوضات للوصول إلى حل سلمي للنزاع.
زيارة الجزائر والمغرب
بدأ جلالة الملك فهد بن عبد العزيز في اليوم الحادي عشر من الشهر السابع 1400 هـ بزيارة كل من الشقيقين المغرب والجزائر وذلك لتحقيق الحد المطلوب والواجب من التضامن العربي الذي يسمح بمواجهة التحديات التي تحيط بالنضال العربي والإسلامي.
ولبلوغ الهدف أتى التحرك السعودي لرأب الصدع وتجاوز الخلافات الهامشية والعمل على تنفيذ قرارات اللقاءات العربية في بغداد وتونس.. هذا وقد تركت زيارة جلالة الملك إلى المغرب والجزائر أصداء طيبة وعبرت الأوساط السياسية هناك عن ارتياحها وتفاؤلها للنتائج التي يمكن أن تسفر عنها هذه الزيارة.
الولايات المتحدة الأمريكية
تربط الولايات المتحدة الأمريكية بالمملكة علاقات تقليدية من الصداقة والتعاون البناء المثمر والمتكافئ في شتى المجالات.
ومن هذا المنطلق ونظرا للمكانة السعودية الرائدة في العالم العربي والإسلامي وموقف المملكة الواضح والصريح من قضية فلسطين اكتسبت دوماً الاتصالات المباشرة بين كبار المسئولين السعوديين والأمريكيين أهمية بالغة على مستقبل الأمة العربية والإسلامية ومصيرها.
مثال ذلك أنه خلال زيارة جلالة الملك فهد إلى أمريكا في الشهر السادس من عام 1397هـ اتفق زعماء العالم العربي عامة وزعماء دول المواجهة مع العدو الإسرائيلي خاصة على أن يكون حديث جلالته في واشنطن باسم الجميع وكذلك على الحفاظ على ما تحقق من التضامن العربي والاستمرار في مخاطبة الدول الكبرى من منطلق الثقة بالقدرة العربية وبعدالة الأهداف وتنسيق الخطوات العربية على كافة المستويات ضمن استراتيجية واحدة وذلك للدور الذي تضطلع به المملكة كقوة سياسية أساسية ذات فعالية وتأثير.(26/145)
وما فتئ هذا الدور الرائد يتأكد يوماً بعد يوم كما تدل عليه زيارة جلالته الرسمية إلى أمريكا في الخامس عشر ربيع الثاني عام 1399هـ التي واصل فيها مع جيمي كارتر الحوار حول مجموعة القضايا بروح التعاون والتشاور الوثيقين التي تتسم بها العلاقات بين البلدين والشعبين.
زيارة فرنسا
في الفترة ما بين 12 و 14/6/ 1397هـ قام جلالة الملك فهد بن عبد العزيز بزيارة رسمية إلى فرنسا حيث عقد اجتماعات قمة مع الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان في العاصمة باريس.
وقد ناقش الزعيمان عدداً من القضايا الهامة عكست اهتمام سموه والمملكة لتحقيق تسوية عادلة وشاملة في منطقة الشرق الأوسط وكانت هذه المحادثات السياسية والاقتصادية ناجحة مع الرئيس الفرنسي وحققت تأييداً فرنسياً للحق العربي العادل تجاوباً مع المواقف العربية الإيجابية والصريحة.
إذ أكد جلالة الملك فهد بن عبد العزيز أن التسوية يجب أن تضمن حقوق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه.
وقد أشار الرئيس ديستان إلى العلاقات السعودية الفرنسية الممتازة والنتائج الإيجابية للمباحثات التي سبق أن أجراها في وقت سابق بالرياض مع المرحوم جلالة الملك خالد ابن عبد العزيز وكبار المسئولين السعوديين.
الزيارة إلى إيطاليا
كانت الزيارة الرسمية التي قام بها جلالة الملك فهد بن عبد العزيز إلى إيطاليا بداية من يوم 20/ 6/ 1399هـ حلقة أخرى من حلقات الاتصال المكثف والباهر بين المملكة وبين الدول الصديقة.(26/146)
وعلاوة على بحث توطيد العلاقات الثنائية السعودية والإيطالية وتقارب وجهات النظر بين البلدين بشأن القضايا الدولية الاقتصادية والسياسية تناولت المباحثات الرسمية أهم قضايا العالم العربي والإسلامي التي تستأثر بأهمية بالغة في السياسة السعودية خاصة التركيز على قضية الشرق الأوسط وتسوية المشكلة الفلسطينية وفى هذا الاتجاه حققت زيارة جلالته ومحادثاته مع السيد أندريوتي رئيس وزراء إيطاليا الأهداف التي تعلقها عليها الأمة العربية والإسلامية في كسب المزيد من تأييد الرأي العام الدولي وتفهم لقضايانا الرئيسية.
زيارة إسبانيا
كانت أسبانيا تلك البوتقة التي انصهرت فيها الحضارة العربية والحضارة الأوربية والغربية عموماً مرحلة أخرى من مراحل زيارات جلالة الملك فهد بن عبد العزيز وبالذات في الفترة من 13 إلى 16 جمادى الثانية عام 1397هـ وخلال إقامة سموه في إسبانيا لاقى والوفد المرافق له استقبالاً اتسم بالصداقة وكرم الضيافة من لدن جلالة الملك خوان كارلوس والحكومة والشعب الأسباني تعبيراً عن عمق الروابط التاريخية والعلاقات الممتازة بين المملكة وإسبانيا.
وقد انصب اهتمام جلالته على الوضع في الشرق الأوسط واتفق الجانبان أن قلب المشكلة هو قضية الشعب الفلسطيني الذي حرم بالقوة من وطنه وأكدا أن أي حل ينبغي أن يعترف بالحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني وأن ينص على ضرورة انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 م.
وأكدت المملكة وإسبانيا رغبتهما في العمل على إيجاد نظام اقتصادي عالمي جديد مبني على مزيد من التعاون بين الدول المتقدمة والدول النامية وذلك لضمان حياة كريمة للإنسان ورفاهيته.
وأعرب الجانب الإسباني عن تقدير إسبانيا للدور المعتدل الذي تمارسه المملكة العربية السعودية في الحقلين السياسي والاقتصادي.(26/147)
وفيما يتعلق بالعلاقات الثنائية القائمة بين البلدين أكد الجانبان السعودي والأسباني عزمهما على تطوير هذه الروابط بمزيد من التعاون في مختلف المجالات وأعرب الجانبان في هذا الصدد عن عزمهما على إنشاء المركز الإسلامي والثقافي مدريد.
دعوة الفهد إلى الجهاد
هذه كلمة لحضرة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز كتبها جلالته في العام الماضي حين دعا المسلمين إلى الجهاد:
عندما بدأت الحركة الصهيونية مدعومة بعصاباتها الإرهابية التي كان مناحم بيجن يتزعم واحدة منها باغتصاب أجزاء من فلسطين عام 1948 أعلنت بعض الأوساط العربية حينذاك الجهاد المقدس ضد تلك الغزوة الصهيونية وقد أخذت أوربا بل الغرب كله وما يسمى بالعالم المتمدن على العرب اتجاههم لإضفاء الطابع الديني على صراعهم مع العدو الصهيوني بسبب إطلاق شعار الجهاد المقدس.
ولأسباب كثيرة تتعلق بالرغبة في ضبط الأمور والاعتدال والأمل في سلام عادل يحفظ للعرب حقوقه الشرعية لم تكن الدعوة إلى الجهاد المقدس هي الغالبة في صراعنا مع الأعداء الصهاينة واليوم بعد أن اكتمل لإسرائيل اغتصاب كامل أراضي فلسطين بالإضافة إلى أراضي عربية أخرى تعلن إسرائيل كل القدس عاصمة موحدة وأبدية لها متحدية مشاعر العرب والمسلمين وقرارات الأمم المتحدة..
وهنا لا بد من التساؤل: ماذا أفاد الاعتدال وهل هذا هو مفهوم الغرب بالنسبة للسلام العادل؟
وأين هو إطار السلام الشامل الذي تصوروا وهما أنهم وضعوه في كامب ديفيد ووعدونا به..(26/148)
ألم تكن دعوة العرب والمسلمين إلى الجهاد المقدس الطويل والدؤوب هي الرد الوحيد على هذه الغطرسة الصهيونية الدينية والعنصرية وهل يلومنا العالم بعد اليوم إذا ما أخذنا الأمور بأيدينا وتصدينا للدفاع عن مقدساتنا ضد هذه العملية الصهيونية الدينية والعسكرية.. إن الكلام لم يعد يفيد ولا التصريحات تجدي في هذه اللحظات الدقيقة والحرجة فالأمة العربية والإسلامية تواجه تحدياً فريداً من نوعه مدعوماً من أعنى القوى العسكرية في العالم.. والمسألة هي أن نكون أو لا نكون..
لقد سقطت جميع الأقنعة والحديث عن السلام مع إسرائيل أصبح ضرباً من ضروب الخيال أما مسألة الحكم الذاتي للفلسطينيين فإنها تحتاج من الذين مازالوا يراهنون عليها إلى وقفة إباء وشمم تعترف بالفشل وتتراجع عما جرى ويجري.. ونحن في المملكة العربية السعودية بتنا نعتقد اعتقاداً راسخاً أن العدو الإسرائيلي الذي يلتهم الأراضي العربية تدريجياً فيقوم بضم الأراضي العربية المحتلة في الوقت المناسب لتصبح جزءاً من إمبراطورية إسرائيلية من هنا أقول إن إعادة ترتيب البيت العربي بسرعة أصبح مطلباً ضاغطاً وملحاً على قائمة أولوياتنا وقد بادرت المملكة بالتعاون مع الأشقاء العرب إلى جمع الشمل حتى نقف وقفة واحدة في معركة واحدة مهما طال زمنها وثمنها نضع فيها كل الإيمان والتصميم والطاقات والإمكانيات وكل غال رخيص ولن يهدأ لنا بال حتى تتحرر أراضينا العربية المحتلة ويعود الشعب الفلسطيني الشقيق معززاً مكرماً إلى وطنه ليقيم دولته المستقلة وعاصمتها القدس العربية بإذن الله.
عظة راشدية(26/149)
علينا التمسك بشرع الله، وأن ننتهي إذا سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نبحث عن الحق دائما، ومن أحدث في هذه الأمة شيئا فقد زعم أن محمدا خان الدين ولم يكمل الرسالة ويبلغها للناس، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا، فإذا كان الدين قد أكمله الله وأتم النعم فلا مجال لإحداث زيادة.
عمر بن عبد العزيز في أول خطبة له عقيب البيعة(26/150)
أخبار الجامعة
إعداد الشيخ محمود محمد سالم
العلاقات العامة
توديع واستقبال
أقامت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء الموافق الثالث عشر من ذي القعدة 1402 هـ حفلا تكريمياً تودع فيه فضيلة الدكتور عبد الله الزايد لانتهاء عمله في نيابة رئاسة الجامعة وتستقبل فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد لصدور التوجيه السامي الكريم بتعيينه نائبا لرئيس الجامعة خلفا للدكتور الزايد.
بدأ الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم من الشيخ إبراهيم الأخضر. وقدم الحفل الدكتور حمزة زهير حافظ وكيل عمادة شئون الطلاب الذي قدم فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام ليلقي كلمة الجامعة بهذه المناسبة: وقد ألقى فضيلته الكلمة التالية:
كلمة الأمين العام
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد
فبمناسبة توديعنا للدكتور عبد الله الزايد لانتهاء عمله بالجامعة أقدم باسمكم جميعا أساتذة وإداريين له خالص الشكر على ما لمسناه فيه، وما لقينا منه من جميل إخاء وحسن مودة وأسأل الله أن يجزيه على ما قدم من خير لهذه الجامعة، وأن يوفقنا وإياه جميعا للعمل بما يرضيه أينما كنا وحيثما حللنا، وحتى نلقى الله. وباسمكم جميعا أقدم للدكتور العبيد جميل التهنئة بالثقة الكريمة للعمل في نيابة الجامعة، وأدعو الله أن يجعل عهده عهد يمن وخير وسعادة إلى المستوى الذي يحقق الخير للإسلام والمسلمين.
ليس غريبا أن نستقبل شخصا ونودع آخر، لأن ذلك من سنة الله في الحياة وإنما الغريب والجميل أن يوفق الإنسان فيملأ حياته بأعمال صالحة ينفع بها نفسه وأمته، وإني لأرجو الله ملحا أن يكون لمن نودع ولمن نستقبل من هذا التوفيق أجزله وأخلصه وأصفاه.(26/151)
إن العمل في هذه الجامعة وفي المدينة المنورة التي يأرز إليها الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها، ومع هذه الوفود التي رمت بها الأمم إلينا من أفلاذ أكبادها لخير عظيم ساقه الله إلينا أو ساقنا الله إليه، وهو يقتضي منا شكر الله المنعم، ويستلزم منا عملا جادا وتفكيرا عميقا في سبل إسداء الخير والنصح والتوجيه والقدوة لهذه الوفود التي ستعود إلى بلادها، وتطبق على أممها ومجتمعها ما جنته من خير، وما تأثرت به من انطباعات إبان وجودها بين ظهرانينا، وهي في الحقيقة تستفيد وتتأثر من الخطوة والنظرة والكلمة واللفتة من الكبير والصغير فلا يستقلن أحد منا نفسه، ولا يغفلن عن ثغرته هذه لأننا على ثغرة من ثغور الإسلام.(26/152)
وأَود أن أختم كلمتي هذه بقصة طالب إفريقي سبق أن ذكرتها ولا أزال أتذكرها خلاصتها أنه قدم إلى مطار المدينة المنورة فلم يجد أحدا يستقبله فاستأجر سيارة توصله إلى مقر الجامعة وعندما وصل إليها طالبه السائق بأجرته وهو محق في ذلك فلم يجد الطالب ما يدفعه له فأغلظ السائق عليه وإذا بأخ مستخدم يسمع هذا الكلام فيتأثر ويدفع للسائق أجرته ثم يصحبه إلى مقر الرياسة ثم إلى إدارة القبول- حينذاك- وينهي إجراءاته وأخيرا دفع له عشرين ريالا يستعين بها ريثما يستلم من الجامعة مكافأته ويشاء الله أن يتخرج الطالب- ويعود إلى بلاده. ويشاء الله أيضا أن أزور تلك البلاد في رحلة تفقدية من قبل الجامعة فألقى الطالب وقد أصبح شخصية كبيرة في بلاده، فيسألني- وقد استقبلني في المطار- عن المستخدم الذي ساعده أول وصوله إلى المدينة والجامعة قبل أن يسألني عن أي شخص فأجبته. وعندما كان اليوم الثاني زارني وأعاد علي السؤال نفسه فاسترعى انتباهي تكرار سؤاله عن هذا المستخدم فقلت له: ما السبب في سؤالك المتكرر عن هذا الشخص؟ فقال لي بالحرف الواحد: إن لم أسأل عن هذا الشخص اليوم وغدا وإلى أن ألقى الله فلا وفاء ولا كرامة عندي. وذكر لي القصة. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وبعد: فلعلي وفقت في نيابتي عنكم في إجزاء الشكر الجزيل لمن سلف، والتهنئة والأمل الطيب لمن خلف، وأسأل الله تعالى للجميع الهدى والتقى والعفاف والغنى. وصلى الله وسلم على آله وصحبه وسلم.
كلمة الدكتور الزايد
ثم ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد كلمة بهذه المناسبة جاء فيها:
إن العمل للإسلام فريضة الله على المسلم أينما حل وفريضة الله على عبده المؤمن في كل الظروف، ولا يرتبط بأشخاص ولا يقتصر على زمان ولا مكان بل يرتبط بالقدرة على التحرك للعمل للإسلام.(26/153)
واعترف أن العمل في الجامعة الإسلامية هو أفضل فرصة لمن يوفقه الله للإخلاص في العمل، لأنه يقدم خدمة للأمة الإسلامية جمعاء في أشخاص أبنائها، ناهيكم عن الوفود التي تتوافد على الجامعة وعن يسر الاتصالات بما هيأ الله من فرص التلاقي بين الشعوب من الأمة الإسلامية هذه الفرص التي تهيأت على يد حكومة هذه البلاد وفقها الله إلا كل خير وأن العمل للإسلام يتطلب همة وصدقا وصبرا وإخلاصا، وإني لأرجو الله أن نوفق لصدق العمل للإسلام.
وأضاف فضيلته قائلا:
أجدني مدعوا بحكم أخلاقيات الإسلام ومبادئه أن أزجى الشكر والاعتراف بالجميل لكل الذين ساعدوني وتعاونوا معي من كل منسوبي الجامعة، وأعتقد أن أي موظف مسئول لا يستطيع أن يتحرك إلا بتعاون جميع منسوبي الجامعة، الذين لولا الله ثم جهودهم ما تمكنت من القيام ببعض ما قمت به من مهام وأعمال فلهم مني الدعاء أن يجزيهم الله خيراً على ما قدموا من جهد وعون.
ولا أنسى أن أشكر حكومة جلالة الملك فهد، ومن قبله جلالة الملك خالد، فهم السبب الرئيسي الذين بالله ثم بهم كان العمل في الجامعة وفي غير الجامعة، وأسأل الله أن يجزيهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء بما مكنونا من فرص العمل للإسلام.
وأضاف: وإنني- وأنا أودعها ولا أدعها- أودعها وأنا منشرح الصدر مغتبط بأن الراية تسلمها من هو خير من سلفه وأرجو له حسن التوفيق وسداد الرأي، وأدعوكم أن تضاعفوا من جهودكم للسير بهذه الجامعة قدما، واعلموا أن الحياة نضال من الخير والشر، ولا قيمة لها إذا لم تكن كفاحا ضد الشر، وعملا مبروراً برضا الله، وإنني مع الجامعة وللجامعة ابن بار أينما حللت وحيثما توجهت.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة الدكتور عبد الله العبيد
ثم ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد نائب رئيس الجامعة بهذه المناسبة الكلمة التالية:(26/154)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الخلق أجمعين وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: إنه لشرف عظيم أكرمنا الله به أن جعلنا من خدمة دعوته فشرفنا بالانتساب إلى هذا المرفق الذي تميز عن كل ما سواه من المرافق التعليمية في المملكة العربية السعودية وغيرها.
وأجدها فرصة أن أشكر الدكتور عبد الله الزايد على ما قدمه من خدمة هذا القطاع وأسال الله أن يمده دائما بالعون والتوفيق لإكمال مسيرته في الدعوة إلى الله التي لا تعرف زمانا ولا مكانا.
ولعل أول من يتقبل هذه الأفكار هم الذين عملوا في التعليم، لأن أي وظيفة إدارية تعتبر محدودة في الزمان وفي المواقع وإنما هي أمور تتعلق برسالة الله يتولاها من يريد الله ليقدم من خلالها ما يوفقه الله إليه.
وأضاف فضيلته:
أن العمل في الجامعة جهد مشترك لجميع العاملين ولا يقتصر على شخص، وإذا كانت الأخوة من الأساتذة والمشايخ والعاملين قد عاشوا زمنا أطول في الجامعة فإن الجديد عليها يحتاج أكثر ما يحتاج إلى جهد كل واحد منهم من أجل العمل بإخلاص ورغبة في أداء الرسالة في هذا الموقع.
إن الجامعة الإسلامية تستمد أصالتها من العقيدة التي بنيت عليها وأرجو أن يوفقني الله بمعونتكم على إكمال هذه المسيرة التي تعتمد في عقيدتها على عقيدة السلف الصالح وفي شريعتها على الفقه الإسلامي الرشيد.
أيها الإخوة: إن هذه الجامعة تمثل العالم الإسلامي بخلفياته وبكل آلامه وآماله وتطلعاته وإن مكاننا فريد، والدعم قوي، والنية ندعو الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم، فنسأل الله التوفيق والسداد والمعونة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ثم ألقى كل من الشيخ محمد المجذوب المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين والشيخ ضياء الصابوني الموجه بالجامعة قصيدة بهذه المناسبة.(26/155)
واختتم الحفل، بآيات من القرآن الكريم.
وأعقبه حفل شاي أقامه منسوبو الجامعة تكريما للعالمين الجليلين.
بطاقة تعريف
قدم الدكتور حمزة حافظ زهير وكيل عمادة شئون الطلاب بطاقة تعريف لكل من فضيلة الدكتور عبد الله الزايد وفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد، في الكلمة التي قدم بها كلا منهما في الحفل التكريمي الذي أقامته الجامعة لهما.
1- الدكتور عبد الله الزايد:
اسمحوا لي يا صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله الزايد ... أن أقدم نبذة بسيطة عن حياتكم العلمية والعملية.
- ولد فضيلته في مدينة الأفلاج.
- وتربى في بيت علم وفضل ودين.
- وبدأ في تلقي علومه على شيوخ بلدته، ودخل المدارس النظامية بعد ذلك.
- وكان أثناء دراسته يعمل عملا خاصاً كالإشراف على أعمال بعض تجار بلدته.- ولما فتح المعهد العلمي ترك العمل وواصل دراسته في المعهد، إلى أن تحرج منه ثم التحق بكلية الشريعة وتخرج منها.
- تولى منصب مدير الإدارة العامة في الجامعة الإسلامية عام 1381 هـ.
- انتقل إلى الرياض عام 1386 هـ.
- واصل دراسته العليا في المعهد العالي للقضاء، وحصل على درجة الماجستير.
- سجل في جامعة الأزهر، وحصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عن ابن حزم الظاهري عام 1393 هـ.
- في عام 1396هـ تولى إدارة المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالرياض.
- وفي عام 1399هـ عاد إلى الجامعة الإسلامية نائبا لرئيسها.
- وجدير بالذكر، أنه تلقى العلم على يد أفاضل علماء المملكة، منهم سماحة مفتى الديار السعودية- سابقا- الشيخ محمد بن إبراهيم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وعبد الله بن حميد، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرازق عفيفي، وعمر الوسيدي.(26/156)
وفي هذا اليوم الثالث عشر من ذي القعدة عام 1402 هـ تودعه الجامعة الإسلامية ابنا بارا لها، أمضى فيها ثلاث سنوات يدير دفتها بكل ما أوتي من جهد، عاقدا العزم على أن يخدم المسلمين من خلالها مضحيا براحته ووقته.
يا صاحب الفضيلة: إن الجامعة حين تودعك، إنما تودع فيك المعلم القدوة، والأب الحنون، والخل الوفي، أحببناك، فكنت فينا ملء العين والبصر، أحببناك بقلوبنا، وكيف لا يصدق القلب صاحبه!.
إن الرجال الذين صنعتهم بالحب والإخلاص والتعفف لن ينسوك، ولن ينسوا ذكراك، وسيواصلون المسير لخدمة أبناء المسلمين، ويرفعون راية الحق، ولا يخافون في الله لومة لائم.
عزاؤنا الوحيد ثقتنا بالله أنه- تعالى- سيرعى هذه الجامعة بعنايته، وأنه قد وضع الراية في يد أمينة، تشرفت بخدمة مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتعطرت بشذا الإخلاص والتقوى.
أدعوك يا سيدي إلى كلمة حب ووداع، تودع بها أحباءك.
2- الدكتور عبد الله الصالح العبيد:
الكلمة التي قدم بها الدكتور حمزة حافظ فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد.
صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله العبيد اسمحوا لي أن أقدم نبذة بسيطة عن حياتكم العلمية والعملية.
- ولد فضيلته في القصيم عام 1361 هـ.
- درس في القصيم، ثم سافر إلى الرياض، والتحق بكلية اللغة العربية، وتخرج منها.
- عمل في الوظائف الحكومية من عام 1382 هـ في كل من رئاسة تعليم البنات ووزارة الدفاع والطيران، والقوات الجوية الملكية السعودية.
- وعمل مدرسا ومنسقا للبرامج وقائدا لجناح التعليم في كلية الملك فيصل الجوية منذ عام 1387 هـ.
- سافر إلى أمريكا، وتخصص في المناهج والتعليم، وحصل على درجة الماجستير والدكتوراه في هذا الفن عام 1399.
- عمل وكيلا مساعدا للشؤون الإدارية بالرئاسة العامة لشئون الحرمين من 1/5/1400 هـ.(26/157)
- ثم نائبا للرئيس العام لشؤون الحرمين للحرم النبوي الشريف.
وفي هذه الأيام تستقبله الجامعة الإسلامية نائبا لرئيسها، وقائدا لمسيرتها، معلقة الآمال على ربها سبحانه وتعالى ثم عليه، ليكمل المسيرة، ويزيد البناء قوة إلى قوته.
ويسعد منسوبي الجامعة أن يستمعوا إلى كلمة توجيهية منكم.
تطور رئاسة الجامعة في سطور
- أنشئت الجامعة الإسلامية عام 1381 هـ وكان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية أول من تولى رئاسة الجامعة.
- وكان ينوب عن سماحته في رئاستها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وكان التعاون بينهما تاما في رعاية الجامعة والعمل على كل ما يرقى وينهض بها.
- وحين توفي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم أسندت رئاسة الجامعة إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وظل سماحته يتولى منصب رئاستها إلى أن صدر الأمر الملكي السامي بتعيينه رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
- ثم عين فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائبا لرئيس الجامعة عام 1395 هـ.
- وخلفه بعد ذلك فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائباً لرئيس الجامعة في شهر ذي القعدة عام 1399 هـ.
- وأخيراً صدر التوجيه الملكي السامي الكريم رقم 83870/ في 27/10/ 1402 هـ المبلغ إلى الجامعة بكتاب معالي وزير التعليم العالي رقم 1301/ ب في 27/10/1402 هـ بأنه نظراً لانتهاء فترة تعيين الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد على وظيفة نائب رئيس الجامعة الإسلامية فقد تم تكليف الدكتور عبد الله بن الصالح العبيد وكيل رئيس الحرمين الشريفين بالمدينة المنورة بالقيام بعمل نائب رئيس الجامعة الإسلامية بطريق الندب.(26/158)
وأسر تحرير مجلة الجامعة تدعو الله أن يثيبهم جميعا على ما قدموا للجامعة من جهد مشكور كان عاملا على ترقيتها والنهوض بها في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية ونشر عقيدة السلف الصالح.
لقاءٌ وَوداع
للشيخ محمد المجذوب
نظم الشاعر هذه الأبيات في زمنين مختلفين، فقد نظم الأبيات الستة الأولى منها في ذي القعدة 1399هـ حين استقبلت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائبا لرئيس الجامعة، ونظم آخرها وهي تودعه بعد انتهاء مدة عمله بالجامعة وتستقبل فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد في منصبه الجديد نائبا لرئيس الجامعة والشاعر فيها بين الوفاء والرجاء يودع ويستقبل في عاطفة تفيض بالتقدير والعرفان للعاملين في سبيل خدمة الإسلام من خلال القلعة الإسلامية الراسخة (الجامعةالإسلامية) بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقاء
يا أميراً لركبنا خير قائد
ألف أهلا ومرحباً بابن زائد
إنما أنت في الحقيقة رائد
لست بالوافد الجديد عليه
يهفو لذكريات الأماجد
معقِل العلم في العقيق كما تعهد
وزمان ابن باز عهدَ المحامد
ليس ينسى أيامك الغرَّ فيه
فاليمن في ركابك عائد
فهنيئاً له بعَودك عبدَ الله
ـمحُ منه على الوجوه شواهد
وهنيئاً لك الوَدادْ الذي تلـ
17/ 11/ 1399 هـ
ووداع
فكانت كالطيفِ في جفن راقد
وقضينا الثلاث في ظلك البرَ
بك للكل من صديق ووالد
حزت فيها حب الجميع، وأنعم
صادر عنه بعد عذب الموارد
كل ذي منصب، وإن طال عمراً
بعيد الآفاق أروع راشد
ولنا في ابن صالح خلفٌ منك
الله في مهْيع الهدى وهو صاعد
وبه الركب سوف يمضي بعون
يجمع المجدَ من طريف وتالد
فلْتحطه عناية الله حتى
13/11/1402هـ
توديع واستقبال(26/159)
من قصيدة للأستاذ محمد ضياء الدين الصابوني في حفل التوديع واللقاء
فشيخي (عبد الله) بالفضل يذكر
إذا ذكرت يوما مآثر فاضل
جليلِ، فلا يُزْهى ولا يتكبر
ولله درُّ الشيخ من متواضع
له خلق سام وفكر منوَّر
ولست بناسٍ ما حييت وداده
ومن يشكر المعروف فالله يشكر
لك الشكر من قلب يفيض محبة
مناها، وآمالاً كبارا ستزهر.
وتهفو قلوب (للعبيد) وترتجي
فلما اجتمعنا زاد ما كنت أكبر
عرفتك [1] عن بعد فأكبرت فضلكم
يقوم أخوه بالبناء ويعمر
رجال وأكفاء إذا راح (نائب)
وقلب (عبيد) بالمحبة يزخر
فكنتَ الأبَ الحاني على كل طالبٍ
سيبقى لك الذكر الجميل المنضّر.
فدوما لنا نبراس علم وحكمة
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الضمير يعود على الدكتور عبد الله العبيد.(26/160)
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: إنها مناسبة طيبة أن يصدر هذا العدد من مجلة الجامعة الإسلامية لثلاثة شهور مباركة: رجب وشعبان ورمضان، وأن يكون في كل شهر منها ليلة مباركة وهي ليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر من رمضان.
وإنا بعد تفسير هذه الآية المباركة تفسيراً موجزاًَ نتحدث مع القراء الكرام على الشهور الثلاثة ولياليها المباركة، والتي ذهب كل شهر مبارك بواحدة منها، فكانت ليلة الإسراء في رجب الأصب، وليلة النصف في شعبان، وليلة القدر في الوتر من أواخر رمضان.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} :
هذه الآية المباركة هي جواب قسم لله تعالى في قوله: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} ويلاحظ أنه عز وجل أقسم بالقرآن- إذ هو المراد من الكتاب المبين- على إنزاله له في ليلة مباركة.
واقتضى المقام الإقسام على هذا الخبر لأن مشركي العرب وبخاصة مشركي مكة أنكروا أن يكون القرآن الكريم وحياً أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالغوا في الإنكار والجحود حتى قالوا فيه: إنه أساطير الأولين، وإنه سِحْرٌ يُؤْثَر. فاقتضى المقام الإقسام جرياً على أساليب العرب في مخاطبتهم، فالشاك في صحة ما يلقى إليه من الخبر يؤكد له بأداة من أدوات التوكيد كإن والقسم: ليطمئن قلبه إلى صدق المخبر وصحة ما أخبر به.(26/161)
والمراد من إنزال القرآن إما بداية نزوله: إذ أول ما نزل منه آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثم توالى إنزاله حتى تَمَّ في خلال ثلاث وعشرين سنة. وإما إنزاله كله جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومثل هذا لا يقال بالرأي، فهو إذاً من المروي المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد من الليلة المباركة إحدى ليلتين: وهما ليلة القدر من رمضان أو ليلة النصف من شعبان، كما ذهب إلى ذلك أحد الجلالين: المحلي أو السيوطي في تفسيرهما المبارك.
وعدم تعيين الجلالين أي الليلتين أراد الله تعالى بقوله في ليلة مباركة غير مانع من أن يجزم المحققون من أهل التفسير والحديث بأنها ليلة القدر كما جزم بذلك الإمام النووي والإمام ابن كثير رحمهما الله تعالى، وخلق لا يحصون عدّاً، وذلك لقوله تعالى: من سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وقوله من سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} . ولما ثبت بحجة التاريخ أن جبريل عليه السلام فاجأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي وهو في غار حراء فأقرأه قول الله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآية، وكان ذلك في شهر رمضان بدليل الحديث الصحيح: "انقطع الوحي، ولم يبق إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".(26/162)
ومعنى كونها جزءاً من ستة وأربعين جزءاً: أن مدة الوحي كانت ثلاثاً وعشرين سنة منها نصف سنة أي ستة أشهر كان الوحي فيها مناما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وإذا قسمنا الثلاثة والعشرين سنة أنصافاً كانت ستة وأربعين نصفاً، وهو الجزء المعبر عنه في الحديث، ولما كان الوحي قد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول كما قال: "شهر ولدت فيه وبعثت فيه" يعني ربيع الأول فإن شهر رمضان هو الشهر السابع من أشهر الوحي الستة، وعليه فبداية نزول الوحي يقظة لا مناماً كانت في رمضان ومن ثم كان المراد من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} أَنها ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؟ إذ القرآن بدأ قوله في رمضان بدليل قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الآية....
ومعنى مباركة: أنّ الله تعالى جعل فيها خيراً كثيراً وأثبته لها وأدامه عليها فلا تزال كذلك أبداً، وبذلك كانت خيراً من ألف شهر، فالعبادة فيها تعدل العبادة في غيرها بنسبة ألف إلى واحد فلذا يطلب الصالحون إحياءها بالعبادة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "التمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وحسب هذه الليلة شرفاً وخيراً وبركة أن الله تعالى ابتدأ فيها نزول كتابه المبارك فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} .
وجملة {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} ذكرها تعالى علة لإنزاله الكتاب المبين فلو قال قائل: لِمَ أَنْزَلْتَ يا ربّ هذا الكتاب. لكان الجواب: لأنذر به بواسطة عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عبادنا المقيمين على الشرك بالله تعالى والمعاصي عاقبة شركهم وعصيانهم، إذ عذاب الآخرة مرتّب على الشرك بالله تعالى والفسق عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(26/163)
وإنزال الربّ تبارك وتعالى الكتاب وإرساله الرسول للإنذار مظهر من مظاهر الرحمة الإلهيّة، إذ لولا رحمته بعباده لما أنذرهم وتركهم للعذاب، ولذا قال في سياق هذه الآيات: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فلله الحمد، وله المنة.
والآن وفاء بما وعدنا من الحديث على الشهور الثلاثة والليالي الثلاث نقول: إن شهر رجب من الأشهر الحرم بل هو أعظمها ويقال له رجب مضر لما كانت قبيلة مضر تعظمه وترجّبه وتحترمه، فلا تحل القتال فيه أبدأ، ويقال له رجب الأصبّ؛ لاعتقاد أن الخير يصب فيه صباً، ويقال له رجب الأصمّ لعدم سماع قعقعة السلاح فيه احتراماً له وتعظيماً، وفي الحديث الصحيح: "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وكان المشركون يذبحون فيه ذبيحة يسمونها العتيرة، فجاء الإسلام فأبطلها، لأنها من عادات الجاهلية وأعرافها. ففي الحديث: "هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تُسمونها الرجبيّة".
وبهذا ثبت أن رجباً كان معظماً في الجاهلية والإسلام، ووجب على كل مسلم أن يعظمه وذلك بالإكثار فيه من الطاعات وفعل الخيرات، فالصوم فيه ذو أجر عظيم، ولكن يصام فيه ويفطر، لا أن يصام كله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكمل صيام شهر قط إلا رمضان. ومن مظاهر تعظيم رجب بتعظيم الإسلام له أن لا يعصى فيه الله تبارك وتعالى بترك فرائضه، أو بارتكاب مناهيه. فالذي يعجز فيه عن الإكثار من الطاعات والمنافسة في الخيرات كإطعام الطعام، والصلاة والناس نيام، فليكفّ عن معصية الله والرسول فيه، فذلك من تعظيم رجب وفيه خير كبير.
وزاد رجباً شرفاً وفضلا قيل: إن ليلة الإسراء والمعراج كانت به وهي ليلة الخامس والعشرين منه إن صح الخبر.(26/164)
والذي ينبغي أن يعلمه المسلم عن ليلة الإسراء هو أن الروايات مضطربة ومختلفة في كون الإسراء والمعراج كانا في رجب، وفي كون ليلة الخامس والعشرين منه هي تلك الليلة التاريخية التي تمت فيها أكبر معجزة في تاريخ الأنبياء بل البشرية جمعاء.
ومن هنا أنكر أهل العلم على العوام إتخاذ ليلة الخامس والعشرين من رجب موسماً يحتفل فيه بأنواع من الطعام، أو بضرب من أَنواع العبادات ويسمونه بالرجبيِّة، وهذا الاسم كان لأهل الجاهلية، وقد تقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه وهو "هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبيّة". وقد شاع اليوم بين المسلمين زيارة المسجد النبوي في شهر رجب، وأطلقوا على هذه الزيارة لفظ الرجبيّة، وهي بدعة أنكرها أهل العلم، ومازالوا ينكرونها على العوام ولكنهم لا ينتهون.
وأَذكر أني مراراً أقول في هذه المناسبة: أيها الناس تعالوا نحتفي بهذه الذكرى الطبيبة، ثم أقول هيا بنا نحتفي ونحتفل! ولكن فماذا نصنع، ما الذي وضع لنا الشارع من العبادات، ما الذي نقول؟ ما الذي نفعل؟ فلم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لهذه الذكرى قولاً ولا عملاً، بل ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يثبت ذكرها مجرد ذكر، فننتهي إلى القول بأنها بدعة يجب تركها والتنبيه عليها لأن الذي لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ديناً لا يكون اليوم ديناً، ومالم يكن ديناً يتقرب به إلى ربنا ويطلب به رضاه فلا خير فيه وتركه واجب والإعراض عنه لازم.(26/165)
أما شعبان فإنه لم يكن من الأشهر الحرم، ولم يرد في فضله شيء غير أنه يستحب الإكثار من الصوم فيه حيث صحت في ذلك أحاديث، منها حديث البخاري ونصه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان".
فهذا الحديث دليل واضح على استحباب الإكثار من الصيام في شهر شعبان.
وقد ورد في بيان علة الإكثار من الصوم في شعبان والحكمة في ذلك حديث النّسائي وأبي داود وابن حبان وصححه قوله صلى الله عليه وسلم- وقد سأله أسامة بن زيد قائلاً: لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى ربّ العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" كما وردت في فضل الصوم فيه أحاديث أخرى بيد أنها ضعيفة فلا حاجة إلى ذكرها وما ذكرناه من الصحيح يغني ويكفي في التّرغيب في الصوم في هذا الشهر.
ليلة النصف منه:(26/166)
أما ليلة النصف منه وهي ليلة الخامس عشر من شهر شعبان فقد رأى كثير أنها هي الليلة المباركة التي قال فيها الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والمراد من فرق الأمور فيها أن يفصل من اللوح المحفوظ =كتاب المقادير= كل أحداث السنة من حياة وموت، وحرب وسلم، وخصب وجدب، وخير وشر، ويسلم إلى مدبرات الأمور من الملائكة، فيتم ذلك حسب تقدير الله تعالى بلا زيادة ولا نقصان، ولا تبديل ولا تغيير، بل يقع كل شيء على صفته وفي زمانه ومكانه كما جرى به القلم قبل خلق السماوات والأرض، وهكذا في كل سنة من هذه الليلة المباركة يفصل من كتاب المقادير العام كل ما يحدث في خلال السنة مما قضاه الله وقدر وقوعه فيها من الأرزاق والآجال وغيرها من الأحداث الكونيّة وجزئياتها حتى إن الرجل ليتزوج ويولد له وهو في عداد الموتى.
وهذا مما يرجح أن تكون هذه الليلة هي ليلة القدر من رمضان وليست ليلة النصف من شعبان بقرينة قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر، ِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .
فقوله {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} إشارة إلى فرق الأمور فيها وفصلها عن اللوح المحفوظ، وتسليم ذلك إلى المدبرات من الملائكة: ميكائيل، وإسرافيل وعزرائيل ...
ويؤكد هذا أن الأحاديث الواردة في ليلة النصف من شعبان لم يصح منها شيء بل كلها ضعيفة، ولم يخرجها أصحاب السنن، وإنما ذكر بعضها الثعالبي والزمخشري، وأمثلها حديث: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، يقول ألا مستغفر فأغفر له؟ أَلا مبتلىّ فأعافيه؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا كذا أَلا كذا حتى يطلع الفجر".(26/167)
وخلاصة القول: إن فضل هذه الليلة لا يبعد أن يكون واقعاً، وعليه فلو أن مؤمناً صام يومها أو قام ليلها احتساباً وسأل الله تعالى يُرجى أن يثاب ويستجاب له غير أن اختصاص هذه الليلة بالقيام، ويومها بصيام لا يحسن إلا إذا كان يصوم قبلها أو بعدها، وكان يقوم في غيرها من الليالي طوال العام؛ إذ قيام الليل سنة فاضلة. وطريقة حميدة لا يحرم منها إلا محروم.
وأخيراً رمضان
إن شهر رمضان حقاً هو شهر مبارك وهو شهر هذه الأمة المباركة فرض الله صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، شهر تضاعف فيه الحسنات، وتزداد فيه الخيرات والبركات، وتعتق فيه الرقاب، وتجاب فيه الدعوات، فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين"رواه البخاري في كتاب الصوم.
وماذا عسانا أن نقول عن رمضان والله تعالى يقول {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ؟ فحسبه شرفاً وفضلا أَن جعله الله تعالى ظرفاً لنول أعظم خير وهو القرآن الكريم.
وإنما الذي نقول: إن على المؤمن أن يعظم هذا الشهر بتعظيم الله تعالى له، فلا يغشى فيه ذنباً بترك واجب من الواجبات وما أكثرها، ولا بارتكاب منهيّ عنه من المنهيات، وأن يكثر فيه من الطاعات، ويسابق فيه في الخيرات، لأنه شهر الإغتنام فلا يفرط المؤمن في مثله، وهو قادر عليه. والله المستعان.
ليلة القدر فيه
أمّا ليلة القدر فهي من أفضل لياليه، وبها زاد شرف رمضان وعظم فضله على سائر الشهور، وهي ليلة ذات قدر كبير وشرف عظيم، حيث عدلت ألف شهر لا ألف ليلة وهي هدف القائمين وبغية المتهجدين، جاء في الصحيح "من صام رمضان إيماناًَ واحتساباًَ غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباًَ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه".(26/168)
أَجمع المسلمون على فضل هذه الليلة وفضل قيامها، وأن من ظفر بها فقد ظفر بخير عظيم، وقد تطلع إليها أصحاب رسول الله ولازموا المسجد من أجلها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "تَحَرَّوْا ليلةَ القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان". فتحدد بذلك زمانها وهو شهر رمضان فلا تكون في غيره، وتعين موطن احتمال وجودها وهو الوتر من العشر الأواخر كالواحد والعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين من آخر رمضان.
وخير طريق للفوز بها هو الاعتكاف في العشر الأواخر، ومن جدَّ وجد، ومن طلب النفيس هان عليه ما يَبذلُ من الرخيص، وما أرخَصَ من شهوات النوم والجماع، وكثرة الأحاديث مع الأهل والإخوان!!
وأخيراً أرجو أَن أكون قد وفيت بما وعدت من الحديث على الشهور الثلاثة والليالي الثلاث. والله أسأل أن ينفع القارئ بما قرأ، والسامع بما يسمع من الخير والهدى، وأَن لا يحرمني أجر ما كتبت وما قلت إنه قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(26/169)
والذين لايشهدون الزور
للدكتور جمعة علي الخولي
رئيس قسم الدعوة بكلية الدعوة وأصول الدين
وصف الله عز وجل عباد الرحمن في سورة الفرقان ضمن صفات سابقة وصفات لاحقة بأنهم {لا يَشْهَدُونَ الزُّور} (الفرقان آية 73) .
والزور أصله "الميل" ويطلق على الكذب لأنه ميل عن الحقيقة وعلى كل باطل من الأقوال والأعمال لأنه ميل عن الحق.
وعدم شهادة الزور تحمل معنيين:
الأول: لا ينطقون لشهادة الزور بمعنى أنهم لا يكذبون في شهاداتهم.
الثاني: لا يحضرون مجالس الزور.. سواء كانت مجالس كذب أو باطل أو لهو،.. ولا يرونها، وإذا أرادوها أعرضوا عنها.
وحديثنا هنا عن هذا الجانب الثاني.. لأنه أعم وأغلب كما ذكره ابن كثير في تفسيره [1] .
والمسلم مأمور من دينه أن يبتعد عن كل مجالس السوء في هذه الحياة.. تلك المجالس التي تظهر فيها المعاصي والموبقات. وتتنزل عليها اللعنات، كحفلات الغناء والرقص الماجنة. وأماكن شرب الخمر ولعب القمار.. وشبه ذلك من مجالس الفسوق التي يصول فيها الشيطان ويجول.. ولا يكفي أن ينكر المسلم ويجلس على طريق المجاملة مثلاً. لأن بقاءه في هذه المجالس يدل على الرضا بما يجري فيها، وفيه إقرار لأهل الباطل على باطلهم. ومشاركة لهم فيه.
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام آية 68) .
كما صب الله لعنته على بني إسرائيل لرؤية بعضهم المنكر وتركه يمرّ دون نكير أو اعتراض {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة:78)(26/170)
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" [2] .
ونظرة إلى المجتمع الإسلامي الأول تريك كيف كان يعالج الأخطاء ويتعامل مع المخطئين.
إن هذا المجتمع مع ما كان يتسم به من طهر واستقامة. وعفاف وتقوى كانت تظهر فيه لبعض الأفراد بوادر وسقطات، كما هو شأن البشر دائما، والعصمة للأنبياء.
فكيف كان يقابل مثل هذه الأمور، وما الذي كان يشعر به المقصرون ومرتكبو بعض الأخطاء؟
إن المخطئ كان يرى نفسه غريبا بين إخوانه لا يطيب له مقام بينهم حتى يبدأ يبرأ من علته.
أما المجتمع فكان يقظا يرقب الأخطاء، ويلاحق أصحابها باللوم والتثريب حتى لا تتسع دائرة الشرور.
وإليك هذه الصورة من حديث كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر عن الاشتراك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوكِ قال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس حتى تنكرت لي في نفس الأرض فما هي بالتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة وكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ … حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتني يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل أمرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل أعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي: ألحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر" [3] .(26/171)
ثم كان ما كان من توبة الله عليهم....
قارن بين هذه الصورة لبعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجلاء، وانظر كيف وقف منهم المجتمع في عصرهم- وهم من هم في مكانتهم وتقواهم.
ألا يستحق من ينشرون بذور الشر والتحلل في المجتمع الإسلامي من وقفة تظهر الغيرة على محارم الله ضد هؤلاء الساقطين.؟
وقد نبه على ذلك الحسن البصري فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم قال: "يا سبحان الله هؤلاء الثلاثة - يقصد المخلفين - ما أكلوا حراماً، ولا سفكوا دماً حراماً، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف بمن يواقع الفواحش الكبار " [4] .
هذا وقد بحث الفقهاء موضوع السلام على العاصي والمبتدع، وأجازوا ترك السلام على مقارف الذنب، وترك رده عليه تأديبا له وعلاجاً، حتى إذا أحس هو ومثله باحتقار المجتمع المسلم لمساويهم، وعدم الرضا عن أفعالهم ثابوا إلى رشدهم. ودخلوا في زمرة الراشدين ...
من ذلك ما ذهب إليه ابن تيمية من مشروعية الهجر للمخطئ وإن كان من أهل الفضل في جوانب أخرى [5] .
وكان إبراهيم بن المنذر الحزامي من ثقات العلماء، روى عنه البخاري وابن ماجة وروى له الترمذي والنسائي بواسطة، لكنه أثناء محنة خلق القرآن لأن وخلط فذمه الإمام أحمد ولم يرد عليه السلام.. [6] .
كما تحدث البخاري في أكثر من مكان من صحيحه في هذا الموضوع فكان مما جاء فيه (باب.. هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه) [7] ثم أورد حديث الثلاثة الذين خلفوا كدليل على الجواز. وجاء أيضا (باب ما يجوز من الهجران لمن عصى) [8] وأورد حديث الثلاثة أيضا كما فصل ابن حجر الحديث في هذا الموضوع في (فتح الباري) فكان مما قال: "وفيه ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث. وأما النهي من الهجر فوق ثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا" [9] .(26/172)
وقال: قال المهلب - أحد شراح البخاري - ترك السلام على أهل المعصية سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة، وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح واللهو، وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك. وحكى ابن رشد قال: قال مالك: "لا يسلم على أهل الأهواء"، قال ابن دقيق العيد: "ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم.."وقال النووي: "وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قال جماعة من أهل العلم"، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك، قال: "وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور" [10]
لكن ينبغي أن يتناول موضوع الهجر هذا من قبل المسلمين بحكمة وفقه، حتى لا تحدث ردود فعل عكسية، ويتولد من التطرف في الفهم وسوء المعاملة ما يسيئ أكثر مما يحسن..
قال ابن حجر: قال المهلب "غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلا، أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام" [11]
أجل.. نحن بحاجة إلى حكمة ولباقة في معاملة المذنبين.(26/173)
فبدل الشتم والتجريح يكون القول الحسن، والوعظ الهادئ الجميل قال سبحانه {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (سورة البقرة آية 83) وقال: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء آية 63) . وقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء آية 33) وبدل الحماسة والاندفاع وتجاهل طبيعة المخطئ مما قد يولد في نفسه عزة بالإثم.. بدل هذا تكون الدعوة الودود، والتوجيه المتأني. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة. فمع شدة بغضه للمعصية، لكنه كان يعالج الأمور بحكمة فائقة، فإذا المخطئ أسير حب رسول الله ووده.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه "أن غلاماً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله: أتأذن لي في الزنا؟ فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إدنه". فدنا منه قريبا، قال: فجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبه لأمك؟ "قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم". قال: "أتحبه لابنتك؟ "قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك.. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"قال: "أتحبه لأختك؟ "قال: لا والله جعلني الله فداك.. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم". ثم ذكر العمة والخالة وهو يقول لا كل واحدة: لا والله جعلني الله فداك. قال: فوضع رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ... ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" [12] .
ومر أبو الدرداء على رجل أصاب ذنباًْ، والناس يسبونه، فقال لهم: "أرأيتم لو كان في بئر أكنتم مستخرجيه؟.قالوا: نعم. قال: فاستغفروا لأخيكم. واحمدوا الله الذي عافاكم. فقالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي" [13] .(26/174)
فأبو الدرداء يعلم حسن نية المنكرين على العاصي، وصدقهم في كراهية المنكر، لكنه لم يشأ أن يغلق على الرجل باب الإنابة والتوبة، وذلك عن طريق كلمة راشدة قد تستيقظ بها نفسه، فإذا هو مستقيم وجل. كما كان الحالة مع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن.. ما الحكم إذا لم ينفع هذا الأسلوب مع العصاة، ولم يفد في تأديبهم؟ هنا. لا بد من الهجر والمقاطعة السلبية التي تحدثنا عنها آنفا..
هذا إذا لم تكن هناك مخالفات شرعية توجب حدا أو تعزيزا فيجب إقامتها طبعاً..
وقد استشكل البعض كون هجران الفاسق أو المبتدع أمراً مشروعا، على حين لا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرماً؟.
وقد أجيب.. بأن الهجران على مرتبتين.. الهجران بالقلب، والهجران باللسان. فهجران الكافر بالقلب، وبترك التودد والتعاون والتناصر لا سيما إذا كان حربياً، وإن لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالباً، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها" [14] .
وبعد: فلابد- حفاظاً على كيان المجتمع المسلم- أن يكون هناك حدود لكل منكر - يظهر على أرضه، أو انحراف يطفو على سطحه، وهذا مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" [15] .
ولو أن الخطائين، وأرباب العهر والفساد أحسوا بنبذ المجتمع لهم، واحتقاره لمساويهم، فقد يراجعون أنفسهم، أو يبحثون لهم عن مكان أخر في غير مجتمع الإسلام.(26/175)
لكن كيف يتراجعون، والمجتمع يفتح ذراعيه لهم، ووسائل الإعلام تؤيدهم، وطلاب المتعة والهوى يشجعونهم. بل وبعض المسئولين في بعض بلاد العروبة والإسلام يكافئونهم، ويؤازرونهم في محافل رسمية وشعبية تمنح فيها أموال الشعب سيلا غدقاً على الذين يقفون وراء كل سفه فاشٍ، وذهول لاغب.
على حين يلقى العاملون للإسلام كل غمط وتجاهل.
وانظر.. كم من حفل أقيم في دول عربية لتكريم أهل الفن والرقص والموسيقى؟ ومن برزوا في ميادين اللهو والغناء.
على حين لم يذكر المجتمع علماءه الذين نافحوا عن قيمه، وأصّلوا ثقافته.
إن هذا يجعل الناشئة تشب وهي تعشق الهزل وتحترم أربابه. وترى فيهم مثلا تحتذيهم، وتقلد أعمالهم، فيشيع في المجتمع الإستهانة بالحق ورجاله، والمغالاة بالباطل وأهله.
وإذا شاعت هذه الظاهرة في مجتمع دلت على تفاهته، وآذنت بسقوطه لذا قلت: لا بد أن يشعر أهل الباطل أنهم أقزام في مجتمع الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير جـ 3/330،329 ط مكتبة الرياض.
[2] تفسير ابن كثير جـ 2/82 ط الحلبي.
[3] البخاري – كتاب الغازي.
[4] فتح الباري جـ 8/123 ط. السلفية.
[5] مجموع الفتاوى جـ 10/377 ط. أولى.
[6] تهذيب التهذيب 1/167 ط أولى.
[7] فتح الباري جـ 11/41،40 ط السلفية.
[8] المرجع السابق 10/497.
[9] المرجع السابق جـ 8/124.
[10] المرجع السابق 11/41،40.
[11] نفسه 10/497.
[12] مسند أحمد جـ 5/257،256 ط بيروت.
[13] فتح الباري جـ 10/497.
[14] صفة الصفوة لابن الجوزي ط/640 ط ثانية.
[15] مسلم – كتاب الإيمان.(26/176)
النهي عن التطوع بعد الإقامة
للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث
إذا أقيمت الصلاة، كره الاشتغال بالتطوع من أي جنس كان، وروي في ذلك عدة أحاديث منها:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد وابن خزيمة والخطيب في تاريخ بغداد [1] كل بطرق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة. قال الترمذي: حسن.
أقول: بل هو صحيح، ولعل الترمذي لم يجزم بصحته من أجل رواية بعض الثقات عن عمرو بن دينار موقوفاً على أبي هريرة. منهم حماد بن زيد عند مسلم مع إخراجه مرفوعاً عن أيوب وعند الطحاوي في شرح معاني الآثار [2] ومنهم حماد بن سلمة عنده وعند الشافعي في الأم، ومنهم سفيان بن عيينة. ففي سنن البيهقي [3] قال علي بن الحكم حدث بهذا عمرو مرة فرفعه فقال له رجل: إنك لم تكن ترفعه. قال: بلى. قال: لا والله فسكت قيل إن المعترض على عمرو بن دينار هو سفيان بن عيينة كما جاء التصريح به في بعض الروايات ونص على ذلك الترمذي عقب حديث الباب. ولكن الذي عليه الحفاظ الثقات أن هذا الحديث روي مرفوعاًَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام مسلم بثلاثة طرق وهي: ورقاء بن عمرو، وزكريا بن إسحاق، وأيوب السختياني كلهم عن عمرو بن دينار مرفوعاً.(26/177)
وقال الترمذي بعد رواية الحديث بطريق زكريا بن إسحاق. هكذا روى أيوب، وورقاء بن عمرو، وزياد بن سعيد، وإسماعيل بن مسلم، ومحمد بن جحادة، عن عمرو ابن دينار عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى حماد ابن زيد، وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ولم يرفعاه، والحديث المرفوع أصح عندنا، ثم قال: وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، عياش بن عباس القتباني المصري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"انتهى.
وقال البيهقي: "وقد رفعه عن عمرو بن دينار سوى من ذكرنا زياد بن سعيد، وأبان ابن يزيد العطار، ومحمد بن مسلم الطائفي وجماعة".
ورواية عياش بن عباس التي أشار إليها الترمذي أخرجها أحمد [4] قال ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا عياش بن عباس القتباني، عن أبي تميم الزهري، عن أبي هريرة مرفوعاً ولفظه: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت".
ورواه أيضا الطحاوي [5] قال ثنا فهد، قال ثنا أبو صالح، قال حدثني ليث، عن عبد الله ابن عباس القتباني عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً مثل لفظ أحمد قال الحافظ وأبو تميم الزهري مجهول قاله الحسيني وهو من طريق ابن لهيعة وقد تفرد بهذا اللفظ، الحديث في الأصل مشهور [6] ثم اختلف الرواة عن سفيان بن عيينة وحماد بن سلمة، فروى أكثرهم منهما مرفوعاً عند أبي داود، والدارمي، والبيهقي في المعرفة.
وقد اجتمع النقاد على أن الرفع مقدم على الوقف. لأن في الرفع زيادة علم، وهي مقبولة عند الجمهور إذا رواها الثقات.
ولذا انتقد الإمام النووي على من صحح الوقف بقوله "الرفع مقدم على الوقف"على المذهب الصحيح، وإن كان عدد الرفع أقل، فكيف إذا كان أكثر، وهو رأي الترمذي والبيهقي أيضاًَ.(26/178)
وقال الإمام البغوي "المرفوع أَصح، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم إن الصلاة إذا أقيمت فهو ممنوع من ركعتي الفجر، وغيرها من السنن إلا المكتوبة" [7] . وقال الحافظ "فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم لا".
وقد بوب البخاري بحديث أبي هريرة في كتاب الأذان فقال: باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وإن لم يخرجه في صحيحه لأن الحديث الذي ذكره في الباب يغني عن حديث أبي هريرة فكأنه توقف عن إخراجه لأجل الخلاف بين رفعه ووقفه والصحيح أنه مرفوع كما نص عليه الحفاظ.
2- حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل. وفي رواية: أنه رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس: وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصبح أربعاًَ، الصبح أربعاً".
رواه البخاري ومسلم والنسائي والطحاوي وأحمد [8] واللفظ للبخاري. ولفظ مسلم، "أنه مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا، نقول ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاًَ".
وقوله لاث به الناس: أي اجتمعوا حوله.
وقوله عبد الله بن مالك ابن بحينة: عبد الله هو صاحب القصة، وله صحبة، والرواية، وبحينة أمه. وكلاهما أسلما. وأما مالك فلم يذكره أحد من الصحابة، وهو ابن القشب قدم مكة في الجاهلية وحالف بني مناف وتزوج بحينة بنت الحارث بن المطلب واسمها عبدة وبحينة لقبوها.(26/179)
ويسمي شعبة في رواية البخاري، مالك ابن بحينة وتابعه على ذلك أبو عوانة، وحماد بن سلمى، فتواتر الناس على هذا الخطأ فإن بحينة ليست والدة مالك، بل هي زوجته، والصحبة ليست لمالك بل لابنه عبد الله. فينبغي أن يكتب ابن بحينة بزيادة ألف، ويعرب إعراب عبد الله كما في محمد بن علي ابن الحنفية. وقد حكى ابن عبد البر خلافاً لبحينة هل هي أم عبد الله أو أم مالك والصواب كما قلت ودليل ذلك أيضاً ما صنعه الإمام أحمد في مسنده فإنه ذكر الحديث المتقدم بجميع طرقه في مسند عبد الله بن مالك ولا يوجد لمالك عند أحمد مسند.
ووقع نحو هذه القصة لابن عباس أيضا. قال: أقيمت صلاة الصبح فقمت لأصلي الركعتين، فأخذ بيدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتصلي الصبح أربعاًَ"رواه ابن حبان، وابن خزيمة، والطيالسي، والحاكم والبيهقي، والطبراني في الكبير، والبزار، وأبو يعلا [9] كلهم بطرق عن أبي عامر، عن عبد الله بن مليكة، عن ابن عباس. وأبو عامر صدوق كثير الخطأ.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
3- حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان بأي الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك، أَم بصلاتك معنا؟ ".
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي [10] ، وللحديث شواهد أخرى ذكرت أكثرها في كتابي "أبو هريرة في ضوء رواياته" [11] . وهذه الأحاديث تدل على كراهية التطوع عند الإقامة. أي إذا شرع في الإقامة، كما صرح بذلك محمد ابن جحادة، عن عمرو بن دينار فيما أخرجه ابن حبان بلفظ "إذا أخذ المؤذن في الإقامة".(26/180)