انطلاقا من مسئولية الجامعة الإسلامية عن نشر الدعوة الإسلامية وأداء لواجبها الأسمى نحو المسلمين في كل مكان تتحرك الجامعة بأجهزتها المختلفة في الإجازة الصيفية لتلتقي بالمسلمين في أوطانهم لتتعرف حاجاتهم، وتطلع على أحوالهم.. وتسهم مع قادتهم في حل قضاياهم وتقديم ما يحتاجون إليه من دعم مادي أو معنوي في سخاء من غير من ولا أذى، وإنما تقدم جهودها وفاء بحق المسلم على المسلم.
وعلى جبهات كثيرة في العالم حيث يكون المسلمون في الشرق أو الغرب تجد الجامعة الإسلامية، رئاسة وأساتذة وطلابا تشارك التجمعات الإسلامية في مؤتمراتهم وندواتهم وفي جامعاتهم ومعاهدهم ومدارسهم، تقدم العون خالصا والنصيحة مجردة من النفع أو الهوى.
ونأخذ من حركة الجامعة في صيف هذا العام (1401 هـ) اللقطات التالية:
(1)
رحلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية فضيلة الدكتور عبد الله الزايد في صيف هذا العام
قام فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد برحلة عمل في صيف هذا العام استغرقت ثلاثة أسابيع من شهر شوال 1401 هـ التقى فيها بكثير من المسلمين في المؤتمرات واللقاءات الإسلامية المختلفة.
وقد بدأت هذه الرحلة بزيارة مدينة ميونخ في جنوب ألمانيا الاتحادية. وكانت هذه الزيارة بمناسبة إقامة المؤتمر الأول للمراكز الإسلامية وقد وافق صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة على حضور ذلك المؤتمر.
ثم زار فضيلته تنزانيا تلبية لدعوة موجهة من دولة نائب رئيس جمهورية تنزانيا الشيخ عبود جمبي، وتمت هذه الزيارة بموافقة من صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى على إجابة الدعوة.
وبين هاتين المناسبتين بين ألمانيا في الغرب وتنزانيا في الشرق قام فضيلته بزيارة للمسلمين في كل من أسبانيا، وفيينا، وميلانو في إيطاليا.(23/201)
وأجاب فضيلته سؤال حول نتائج هذه الزيارات وعما قدمته الجامعة من خدمات في هذه البلاد التي زارها بقوله: ((قد وقفنا على حال المسلمين في تلك الجهات ولمسنا مدى تطلعهم إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها الرائد الحقيقي للمسلمين)) .
وأضاف فضيلته: لقد زودنا كثيرا من الجهات التي زرناها ببعض النسخ من القرآن الكريم، والكتب والمقررات الأخرى كما قررنا زيادة عدد المنح الدراسية وتخصيص عدد أكبر منها للبلدان التي تشتد حاجة أهلها إلى التعليم لعدم توافره في بلادهم أو لأسباب أخرى.
(2)
الجامعة في الدورات التدريبية لمعلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية
(أ)
دورة نيجيريا
بالتنسيق والتعاون مع الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية منذ صيف العام الماضي ترسل الجامعة الإسلامية عددا من الأساتذة وهيئات التدريس بها لتدريب معلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية الذين يقومون بتدريس العربية والإسلام غير العرب.
وفي العام الماضي عقدت دورتان إحداهما في الفليبين والثانية في نيجيريا أما في صيف هذا العام فقد أرسلت مجموعة من الأساتذة إلى نيجيريا وأخرى إلى كل من باكستان ثم بنجلاديش.
وتأتي هذه لدورات في نطاق ما تضطلع به الجامعة الإسلامية من مسئولية الدعوة الإسلامية حسب ما ينص عليه نظامها.(23/202)
وقد أقيمت دورة تدريب المعلمين في جامعة بايرو بمدينة ((كانو)) وكان مجلس الجامعة قد أصدر قرارا بإقامة هذه الدورة برئاسة الدكتور على بن محمد بن ناصر فقيهي عميد شئون المكتبات، وقررت انتداب خمسة عشر عضوا من هيئة التدريس، وقد أعد المسئولون عن الدورة من الجامعة والاتحاد العالمي للمدارس العربية برنامجا للتدريس لمدة شهرين وقد اشترك في هذه الدورة التدريبية أكثر من ثلاثمائة معلم نيجيري ممن يقومون بتدريس العربية والدين لأهل بلادهم من غير العرب، وكانوا جميعا من الولايات الشمالية بنيجيريا.
وقد أثمرت هذه الدورة التدريبية ثمارها في المعلمين إذ تقدم للامتحان في نهاية الدورة 230 معلما منحوا شهادة إتمام هذه الدورة في اللغة العربية والثقافة الإسلامية من قبل الاتحاد العالمي للمدارس العربية.
ولم يقتصر أثر أساتذة الجامعة الإسلامية على قاعات الدرس بل تجاوز ذلك إلى آفاق أوسع وأرحب في المجتمع المسلم من نيجيريا، فقد اشترك الأساتذة في إلقاء محاضرات دينية وتوجيهية في قاعة مدرسة العلوم العربية طوال شهر رمضان، كما كان بعضهم يلقى دروسا دينية في الوعظ والفقه والإرشاد في مسجد جامعة بايرو، وتولى أحدهم إلقاء خطبة الجمعة خلال فترة التدريب كل ذلك كان يتم بناء على رغبة المسئولين الرسميين في نيجيريا.
وكان التعاون تاما والحمد الله بين المسئولين في الجامعة، ومسئولي الاتحاد العالمي للمدارس العربية إيمانا من المسئولين بأن تدريس اللغة العربية لغير العرب هو أسهل الطرق لدعوة المسلمين- وغيرهم من أهل البلاد إلى الإسلام بلغة يفهمونها من بنى وطنهم.
(ب)
الدورة التدريبية في باكستان وبنجلاديش لمعلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية(23/203)
وامتدادا للأهداف والغايات في دورة تدريب معلمي اللغة العربية لغير العرب التي أقيمت في نيجيريا أقيمت دورتان إحداهما في مدينة بيشاور في باكستان وثانيتهما في ((دكا)) عاصمة بنجلاديش، وقد قرر مجلس الجامعة إقامة دورتي ((دكا وبيشاور)) برئاسة الدكتور محمد السيد الوكيل ومعهم مشرف إداري هو الشيخ عبد الكريم صلاح المطبقاني وقد أقيمت دورة بيشاور بكلية التدريب لتطوير القرى واشترك فيها من معلمي اللغة العربية مائة معلم واستمرت الدورة ثمانية عشر يوما.
وقد قام أعضاء وفد الجامعة بكثير من النشاطات خارج قاعات الدرس حيث زار الوفد ممر خيبر على حدود أفغانستان وزار معسكر الجمعية الإسلامية الأفغانية والكلية العسكرية وأقام الحزب الإسلامي برئاسة المهندس حكمت يار حفل عشاء تكريما للوفد ... كما أقام كل من معالي وزير الأوقاف بإقليم مسرمد، ونائب رئيس جامعة بيشاور وضابط الاتصال المسئول عن مخيمات المجاهدين حفلات غداء وعشاء تكريما لوفد الجامعة الإسلامية.
أما دورة دكا في بنجلاديش فقد استغرقت 35 يوما واشترك فيها 174 وكان مقر إقامتها كلية تدريب المعلمين بمدينة دكا.
وقد نشط وفد الجامعة الإسلامية في نشر الدعوة الإسلامية من خلال المنابر التي أعطيت لرئيس الدورة أو أعضاء هذا الوفد فقد عقدت ثلاث ندوات موسعة في القاعة الكبرى للكلية وألقيت محاضرات ودروس في مساجد دكا بعد صلاة الجمع بالتنسيق مع المسئولين في السفارة السعودية وبعض رؤساء الجماعات الإسلامية.(23/204)
وقد أقيم للوفد حفلات تكريم متعددة منها على سبيل المثال حفل أقيم في المركز الإسلامي وآخر في الجامعة القرآنية، ومن جمعية أهل الحديث، ومن اتحاد الطلاب بجامعة دكا. وفي حفل توزيع الشهادات أقام الاتحاد العالمي للمدارس العربية حفلا كبيرا لتوزيع الشهادات دعي إليه رئيس الوزراء الذي أناب عنه وزير المواصلات، ووزير التعليم وكبار الشخصيات رؤساء الجماعات والجامعة الإسلامية.
وقد حققت هذه الدورات أثارها الحسنة والحمد لله- وذلك كما ذكر أحد مرافقي الدورة تمثل في التحسن الذي طرأ على نطق معلمي اللغة العربية وكتاباتهم وفي فهمهم لطريقه الأسئلة والإجابة، كما أسهمت الدورة في توعية المسلمين من أهل البلاد عن طريق المحاضرات والندوات في المساجد ودور العلم وتم ذلك بالتنسيق مع رجال سفارة المملكة العربية السعودية.
(3)
المعسكر الصيفي للطلاب المقيمين في المملكة خلال عطلة الصيف
تمنح الجامعة طلابها من مختلف أنحاء العالم تذكرة سفر جوية ذهابا إلى أوطانهم في نهاية العام الدراسي وإيابا في بداية العام الجديد. وبالرغم من هذه التسهيلات التي تمنحها الجامعة لطلابها فإن بعضهم يرغب في قضاء العطلة الصيفية في المملكة لأسباب مختلفة، منهم من تحول الظروف السياسية في أوطانهم دون العودة إليها، ومنهم من يرغب في التزود بزاد روحي في قربه من بيت الله الحرام في مكة، ومن المسجد النبوي في المدينة.
وفي صيف هذا العام أقامت الجامعة الإسلامية مركزا صيفيا في مكة المكرمة ليتحقق الهدف الروحي المنشود عند هؤلاء الطلاب الذين يفضلون البقاء بجوار بيت الله الحرام يتزودون بزاد من الإيمان والتقوى.. وقد اختيرت دار الحديث بمكة مقرا لهذا المركز ومقرا لإسكان هؤلاء الطلاب واستمر هذا المعسكر أغلب أيام شهر رمضان.(23/205)
وقد وضع لهؤلاء الطلاب برنامج تربوي فيه العديد من الأنشطة الدينية والفكرية والرياضية وكان الطلاب يحرصون على أداء الصلوات الخمس يوميا في المسجد الحرام ويصلون صلاة التراويح وقد قسم الطلاب إلى أربع أسر: أسرة أحمد بن حنبل وأسرة ابن تيمية وأسرة ابن القيم، وأسرة محمد بن عبد الوهاب ويشرف على كل منها أحد المدرسين ورائد من الطلاب، وقد تنافست الأسر في مجالات النشاط المختلفة من صحافة ولافتات وملصقات وإلقاء كلمات وأناشيد وتمثيليات- وقد حفل المعسكر بالمحاضرات الدينية القيمة التي كان لها تأثيرها في الطلاب، وقد قضى طلاب المركز الصيفي يوم عيد الفطر في زيارة الطائف والتقوا بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الذي ألقى فيهم كلمة إرشادية حثهم فيها على طاعة الله والإقبال على طلب العلم.
(4)
وفد نيجيري في زيارة الجامعة
حضر إلى الجامعة الإسلامية وفد من جامعة عبد الله بايرو بمدينة ((كانو)) بنيجيريا يتكون من 20 طالبا بالسنة النهائية بقسم الدراسات الإسلامية والعربية. وكانت جامعة بايرو قد طلبت من فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية اشتراك هؤلاء الطلاب في المعسكرات التي تقيمها الجامعة، ولتعذر الحجز في شركات الطيران وصلوا متأخرين بعد انتهاء المعسكر الصيفي الذي أقامته الجامعة لطلابها في مكة، ولكن نائب رئيس الجامعة أمر بأن تعد لهم عمادة شئون الطلاب برنامجا تربويا حافلا بألوان النشاط الثقافي والرياضي.
وقسم هذا الوفد الطلابي النيجيري إلى أسر أسند أمر الإشراف عليها إلى طالب من الدراسات العليا، وقد أقام هذا الوفد على ضيافة الجامعة حتى أدوا فريضة الحج.
(5)
الجامعة الإسلامية ومخيم جامعات الخليج في الحج(23/206)
اشتركت الجامعة الإسلامية وجامعات المملكة مع جميع جامعات دول الخليج في إقامة مخيم يبلغ عدد طلابه من مختلف الجامعات المشتركة فيه 1500 ألف وخمسمائة طالب منهم 1000 طالب من الجامعة الإسلامية اختيروا من أحسن الطلاب خلقا وسلوكا ونشاطا ومن طلبة الدراسات العليا والسنوات النهائية في كليات الجامعة.
وقد التزمت الجامعة الإسلامية بتقديم كثير من الخدمات لهذا المخيم الإسلامي الكبير ومن ذلك تأمين وسائل الانتقال من مكة والمدينة لضيوف الرحمن في هذا المخيم من خارج المملكة بعدد 15 حافلة كبيرة (أتوبيس) وتأمين وايت ماء وسيارة جيمس وأربع سيارات وانيت واستضافة عدد 500 طالب و.2 مشرفا أثناء زيارتهم المدينة المنورة بعد الحج وتحمل نفقات 100 طالب من خارج المملكة تبلغ نفقاتهم خمسين ألف ريال.
(6)
مساهمة الجامعة مع الأمانة العامة للتوعية في الحج
تمّ ترشيح 20 طالبا للقيام بواجب الترجمة لدى الأمانة العامة للتوعية الإسلامية في الحج بمكة المكرمة من 15/ 11 إلى 20/ 12/ 1401 هـ وروعي في اختيارهم تمثيلهم لكافة لغات العالم الإسلامي مثل الأردية والفارسية والهوسا واليورا والسواحلية إلى جانب اللغات الأوربية.
(7)
الإعداد لمؤتمر الدعوة والدعاة في الجامعة الإسلامية
وافق صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة على إقامة مؤتمر الدعوة وإعداد الدعاة في مقر الجامعة في طيبة الطيبة.
وقد صرح فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة بأن الجامعة الآن تتخذ الإجراءات لإقامة هذا المؤتمر إذا توفرت البحوث العلمية الكافية إن شاء الله ولذا تكونت لجنة لمتابعة البحوث التي ترد من علماء المسلمين في كل مكان وكذا لوضع الخطط اللازمة علميا لإنجاح هذا المؤتمر حتى يؤتي ثماره المرجوة خدمة للإسلام ونفعا للمسلمين.(23/207)
إزالة الشبهة عن حديث التربة
فضيلة الشيخ عبد القادر السّندي
المحاضر بكلية الحديث الشريف بالجامعة
معنى الحديث
وأما معنى هذا الحديث فهو معنى واضح كما يظهر ذلك من ترجمة الباب التي عقدها الإمام النووي رحمه الله تعالى إذ قال: (باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام) أي أنه قصد رحمه الله تعالى من هذه الترجمة أن ابتداء الخلق كان يوم السبت كما في هذا الحديث لا في يوم الأحد كما زعمه من زعمه من بعض أهل التفسير والتاريخ وقد تكلم على هذا الموضوع الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه (تاريخ الأمم والملوك) وذهب إلى إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد بناء على سياقه تلك الأسانيد الضعيفة الواهية الآتية ثم رد عليه الإمام الفقيه المحدث والمؤرخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبى الحسن الخثعمي السهيلي المولود بمدينة مالقة سنة 508 هـ والمتوفى بمصر سنة 581 هـ في كتابه البارع النفيس الروض الأنف في تفسير ما اشتمل عليه أحاديث السيرة النبوية للإمام عبد الملك بن هشام المتوفى سنة 218هـ. وأنا أسوق تلك الأسانيد والمتون التي ساقها الإمام أبو جعفر ثم اعتمد عليها ولا يجوز الاعتماد عليها كما سوف يظهر لك جليا واضحا إن شاء الله تعالى إذ قال رحمه الله تعالى في تاريخه [1] : واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه خلق السموات والأرض، فقال بعضهم: ابتدأ في ذلك يوم الأحد ثم قال: ذكر من قال ذلك ثم ساق إسناده بقوله: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن الشيباني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال عبد الله بن سلام: أن الله تبارك وتعالى ابتدأ الخلق، فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين.(23/208)
قلت: رجال هذا الإسناد كلهم ثقات ولكنه موقوف على عبد لله بن سلام رضي الله تعالى عنه وهو معروف رضي الله عنه بروايته عن أهل الكتاب وليس في قوله هذا حجة وقد ثبت أنه روى هذا القول عن أهل الكتاب وليس هو بمرفوع كما سوف يأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى، ثم ساق أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الثاني عن طريق أبا معشر السندي عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه بنحو ما تقدم آنفا وهذا الإسناد لا يحتج به لكونه ضعيفا ولكن المعنى قد ثبت عن طريق الإسناد المتقدم، ثم ساق إسناده الثالث عن طريق شيخه محمد بن حميد الرازي أبي حيان- وهو متهم بالكذب عن كعب الأحبار، وفيه: إن الله بدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد والاثنين وهذا الإسناد لو كان صحيحا لما كان فيه حجة لما قلت بمثله في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار رحمه الله تعالى، أكثر رواية عن أهل الكتاب. وقد أجمع علماء التفسير على ذلك ولكن الإسناد ضعيف جدا لا يحتج بمثله.
ثم ساق الإمام أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الرابع في هذا الموضع بقوله: حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا على بن الهيثم.- هكذا في المطبوعة- والصحيح على بن الميثم بالميم- عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام} قال من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة ابتدأ الخلق يوم الأحد اهـ.
قلت: هذا إسناد موضوع مكذوب مختلق على الإمام الضحاك بن المزاحم الهلالي أبى القاسم الخراساني وهو من الطبقة الخامسة، وكانت وفاته بعد المائة بمدة وفي إسناد هذا المتن المقطوع على بن الميثم العوفي أحد الرافضة، قال الحافظ في لسان الميزان [2] حكى عنه النظام قال: كنا نكلمه فيذكر ما يذهب إليه ثم ذكر الحافظ بقية الكلام وفيه أثبت أنه كان كذابا.(23/209)
وفي هذا الإسناد رجل يسمى المسيب بن شريك قال الإمام الذهبي في الميزان: هو أبو سعيد التميمى الشقرى الكوفي، عن الأعمش، قال يحيى: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري سكتوا عنه، وقال مسلم وجماعة: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف ثم ذكر بقية الجرح.
قلت: لا يصلح للاعتبار والشواهد، والمتابعات فضلا أن يكون حجة والله تعالى أعلم.
ثم ساق أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الخامس بقوله: حدثنى المثنى، حدثنا الحجاج. حدثنا أبو عوانة. عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدأ الخلق يوم الأحد.
قلت: المثنى فما هذا الإسناد هو المثنى بن إبراهيم الآملى ولم أجد له ترجمة في المراجع التي بين يدي والغالب على الظن أنه مجهول ولو كان الإسناد صحيحا لما كان فيه حجة لأنه كلام مقطوع من قول مجاهد بن جبر المكي رحمه الله تعالى وقد خالف قوله هذا نص صحيح مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي قريبا.
وأثر مجاهد السابق أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره [3] وهو برقم 14773 وقال في تفسيره بعد سياق الإسناد عن مجاهد رحمه الله تعالى بدأ خلق العرش والماء، والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وجميع الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود يوم السبت ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون ثم استوى على العرش اهـ. هكذا ساق الإسناد والمتن في التفسير عن مجاهد بن جبر المكي يرحمه الله تعالى وكان من الواجب عليه رحمه الله تعالى أن يسوق الإسناد والمتن المرفوع الصحيح الذي ساقه في تاريخه وهو إسناد صحيح ومتن مرفوع عن طريق شيخيه القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي كما سوف يأتي قريبا وقد مضى في تخريج الحديث سابقا.(23/210)
والجواب عن هذا الإسناد الأخير مع صحة إسناده إلى مجاهد بن جبر المكي رحمه الله تعالى بأنه متن مقطوع ولو كان موقوفا صحيح الإسناد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم تكن فيه حجة البتة لثبوت حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والبيهقي في الأسماء والصفات والنسائي في السنن الكبرى وابن مردويه في تفسيره وابن جرير الطبري في تاريخه وهو ينص على أن ابتداء الخلق كان في يوم السبت كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون كان ابتدأ الخلق يوم الأحد فما حدثنا به هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: وقرأت سائر الحديث أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين أه.
قلت: الإسناد الأول الذي ساقه عن محمد بن إسحاق عن طريق محمد بن حميد الرازي أبى حيان وهو متهم بالكذب وقد مضى الكلام فيه ولا يثبت بمثل هذا الإسناد شيء الا إنما اسند إلى ابن إسحاق من قوله من ابتداء الخلق عند أهل التوراة وأهل الإنجيل، وأهل الإسلام فهو ثابت عنه رحمه الله تعالى وقد حذفه الإمام العلامة ابن هشام المعافري عند اختصاره سيرة ابن إسحاق وقد أثبته الإمام المحدث الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في الروض الأنف وهو شرحه لأحاديث سيرة ابن هشام المختصرة كما يأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في موضعه.(23/211)
وأما سياق الإسناد الذي ساقه الإمام أبو جعفر الطبري عن طريق شيخه هناد بن السري التميمي، والذي فيه إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد والاثنين فهو إسناد ضعيف جدا ولا يحتج بمثله- ولا يصلح للاعتبار فضلا أن يكون حجة لأن في إسناده راويين ضعيفين وهما أبو بكر بن عياش الكوفي المقرئ قال الإمام الذهبي في الميزان [4] قال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطا منه، وكان يحيى بن سعيد لا يعبأ به إذا ذكر عنده كلح وجهه، وقال الإمام أحمد: كثير الغلط جدا وفي إسناد هذا الخبر أبو سعد البقال وهو سعيد ابن مرزبان العبسي مولاهم أبو سعد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس، قال الإمام الذهبي في الميزان [5] : كوفي مشهور تركه الفلاس، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس، وقال البخاري منكر الحديث.(23/212)
قلت: هذا الإسناد الذي ساقه الإمام محمد بن جرير الطبري في تاريخه لا يحتج به لو كان منفردا فكيف إذا عارضه حديث صحيح أخرجه مسلم والإمام أحمد في مسنده وابن جرير الطبري في تاريخه بإسناد صحيح. ثم قال أبو جعفر: وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت فما حدثني به القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن على الصدائي قالا: حدثنا حجاح قال: ابن جريج أخبرنا إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبى هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم ذكر الحديث الذي أنا بصدد الكلام حوله، ثم قال أبو جعفر رحمه الله تعالى -في نهاية هذا الحديث الصحيح إسنادا ومتنا-: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره فيه خلق السماوات والأرض يوم الأحد لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك، فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك فإنه إنما استدل بزعمه على أن ذلك كذلك؛ لأن الله عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة وذلك يوم السابع وفيه استوى على العرش وجعل ذلك اليوم عيدا للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحة قوله، فيما حكينا عنه من ذلك، هو الدليل على خطئه فيه؛ وذلك أن الله تعالى أخبر عباده في غير موضع من تنزيله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ذكر الإمام أبو جعفر هذه الآيات القرآنية التي نصت على أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام اه.(23/213)
قلت: وكان من الواجب على الإمام أبى جعفر رحمه الله تعالى أن يقارن بين هذه الأسانيد التي ساقها في ترجيح أحد القولين في ضوء صحة هذه الأسانيد، وإلا لم يكن لسياقه هذا لتلك الأسانيد الكثيرة كبير فائدة، مادام ذهب أخيرا إلى تركها كليا؛ لأن القرآن يعارضها وكان يكفي له رحمه الله تعالى في أول القول أنها معارضة بآيات القرآن الكريم كما فصل أخيرا دون أن ينظر نظرته العلمية في ترجيح هذه الأسانيد صحة وضعفا، ومن هنا قد تصدى له في الرد عليه الإمام العلامة الحافظة عبد الرحمن السهيلي في الروض الأنف [6] إذ قال رحمه الله تعالى (قال المؤلف) أي ابن إسحاق: وكان اليهود إنما اختاروا السبت لأنهم اعتقدوه اليوم السابع ثم زادوا في كفرهم، أن الله استراح فيه -تعالى الله عن قولهم-، لأن بدأ الخلق عندهم الأحد، وآخر الستة الأيام التي خلق الله فيها الخلق الجمعة وهو أيضا مذهب النصارى، فاختاروا الأحد لأنه أول الأيام في زعمهم وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم للفريقين بإضلال اليوم وقال في صحيح مسلم: أن الله خلق التربة يوم السبت، فبين- الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث- أن أول الأيام التي خلق الله فيها الخلق السبت، وآخر الأيام الستة الخميس وكذلك قال ابن إسحاق فيما ذكر عنه الطبري اه.(23/214)
قلت: هكذا رد العلامة السهيلي على القائلين بأن الأحد هو الأول من الأيام التي وقع فيه الخلق مستدلا من هذا الحديث الذي أنا بصدد الكلام حوله، وعليه اعتمد ابن إسحاق في قوله وغيره من أصحاب الحديث والتاريخ والسير. ثم قال العلامة السهيلي في الروض [7] : في تسمية هذه الأيام بالاثنين إلى الخميس ما يشد قول من قال أن أول الأسبوع الأحد وسابعها السبت كما قال أهل الكتاب، ليس الأمر كذلك؛ لأنها تسمية طارئة وإنما كانت أسماءها في اللغة القديمة شيار، داول، واهون، ذجبار، ددبار، ومونس، والعروبة، وأسماءها بالسريانية قبل هذا أبو جاد، هو، زحطى، إلى آخرها، ولو كان الله تعالى ذكرها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة على المسمى به، ولكنه لم يذكر فيها إلا الجمعة والسبت وليسا من المشتقة من العدد، ولم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا لتسميتها، ولعل قومه إن يكونوا قد أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فالفوا عليها هذه الأسماء أتباعا لهم، وإلا فقد قدمنا ما ورد في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد الحديث. والعجب من الطبري على تبحره في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث، واعنف في الرد على ابن إسحاق وغيره، ومال إلى قول اليهود في أن الأحد هو الأول ويوم الجمعة السادس لا وتر، وإنما الوتر في قولهم يوم السبت مع ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله إليه وما احتج به الطبري من حديث آخر فليس في الصحة كالذي قدمناه اهـ.(23/215)
قلت: هكذا رد العلامة السهيلي على الإمام أبى جعفر الطبري مع تبحره في العلم على ترجيحه بلا مرجح، وذهابه إلى قول اليهود والنصارى وتركه هذه السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ساق إسنادها عن طريق شيخيه القاسم بن بشر بن المعروف والحسين بن على بن يزيد الصدائي وكلاهما معروف بالعدالة والضبط. وأما تعارض هذا الحديث أعني حديث أبى هريرة رضي الله تعالى عنه بنص القرآن الكريم الوارد في سبع مواضع في كتاب الله تعالى فسوف يأتي الكلام حوله عند الكلام على معنى خلق آدم عليه الصلاة والسلام الذي ورد ذكره في هذا الحديث الشريف وأن خلقه قد تأخر عن خلق السماوات والأرض وما بينهما بآلاف السنين وليس هناك تعارض البتة كما يأتي مفصلاً.
وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى في الأنوار الكاشفة [8] في الرد على أبي رية:
أما الوجه الثالث فالآثار القائلة إن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير- أي حديث أبى هريرة الذي أنا بصدد الكلام حوله والذي أخرجه مسلم وغيره- وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام، وكعب ووهب ومن يأخذ عن الاسرائيليات اهـ.
قلت: وقد بحثت هذه الأسانيد التي أشار إليها العلامة المعلمي رحمه الله تعالى، فإن الأمر كما ذكر رحمه الله تعالى بل أشد وأعظم مما ذكر ثم قال رحمه الله تعالى: وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت، وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها، لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت، وانتشرت لا يعد اعترافا بمناسبتها لما أخذت فيه أو بينت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك، وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام اهـ.(23/216)
ثم قال رحمه الله تعالى: إن هذا ذكره السهيلي في الحوض الأنف وهو كما قال رحمه الله تعالى، وكلامه كما ترى وجيه سديد. وهنا اكتفى بالكلام حول الجزء الأول على معنى الحديث وقد ثبت بهذا أن ابتداء الخلق كان يوم السبت كما في هذا الحديث الصحيح.
وأما الكلام حول الجزء الثاني من معنى هذا الحديث فهو خلق آدم عليه السلام ثم عدم ورود ذكر خلق السماوات في الحديث لفظا فإني أفرد الكلام حوله مبتدءً على خلق آدم عليه الصلاة والسلام وأنه خلق متأخر عن خلق السموات والأرض بآلاف السنين ثم جمع في هذا الحديث بين الخلقين المتقدم والمتأخر، ومن هنا ظهر التعارض الظاهري بين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف الذي تكلم عليه تخريجا وإسنادا.
وإلى هذا المعنى الواضح البين أشار الإمام أبو عبد الله الحاكم في مستدركه.
متى كان خلق آدم(23/217)
أخرج الحاكم أبو عبد الله في مستدركه [9] حديثا بإسناده الصحيح، إذ قال رحمه الله تعالى: أخبرني عبد الله بن موسى الصيدلاني، ثنا إسماعيل بن قتيبه، ثنا أبو بكر بن أبى شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكر، بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها أحد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقد كان فيها قبل أن يخلق- آدم- بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يعنون الجن بني الجان، فلما افسدوا في الأرض بعث عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، قال: فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها كما فعل أولئك الجن بنو الجان؟ قال: فقال الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم قال الحاكم -مبينا درجة إسناد هذا الحديث-: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الإمام الذهبي في التلخيص: صحيح وعزاه السيوطي في الدر المنثور [10] إلى الحاكم في المستدرك وصححه ثم ذكر الحديث بطوله.(23/218)
والشاهد في هذا الحديث هو أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يكن خلقه داخلا في الأيام الستة المذكورة في القرآن الكريم وإن خلقه قد تأخر عن خلق السماوات والأرض مدة طويلة، كما في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وابن أبى حاتم في تفسيره ونقله ابن كثير في تفسيره [11] بإسناد ابن أبى حاتم، وفيه خطأ في إسناده في النسخة المطبوعة، وهو بعد ذكر الإسناد يقول عن مجاهد عن عبد الله بن عمر وهذا خطأ مطبعي وقع في جميع نسخ ابن كثير المطبوعة والصحيح عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن كان قد ثبت سماع مجاهد عن العبادلة الأربعة إلا أن هذا الإسناد الذي ساقه ابن كثير عن تفسير ابن أبى حاتم وهو مخطوط لا يصح السماع عن طريقه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما والله أعلم بالصواب. ولهذا يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في "الأنوار الكاشفة" [12] : ويجاب عن الوجه الثاني بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق أدم في أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهرا، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السماوات والأرض. فتدّبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله تعالى أن دعوة مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد اهـ.(23/219)
قلت: وقد نص القرآن الكريم على تأخير خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} والشاهد في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى أخر خلق آدم عليه الصلاة والسلام عن خلق الملائكة كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتقدم والذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وابن أبى حاتم في تفسيره كما نقله الإمام ابن كثير وإلى هذا المعنى يشير قوله جل وعلا في سورة الرحمن {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
قال العلامة الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره [13] حدثنا أبو كريب قال ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبى حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة يخلق بكل نطرة، ويحيا ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.
وقد أورده الإمام ابن كثير في تفسيره [14] وسكت عن بيان درجة إسناده.(23/220)
قلت: وفي إسناده أبو حمزة الثمالي واسمه ثابت بن أبى صفية الثمالي بضم المثلثة، قال الحافظ في التقريب [15] : كوفي ضعيف رافضي من الخامسة، مات في خلافة أبي جعفر ورمز له بأنه من رجال أبى داود في السنن وابن ماجة، والشاهد في هذه الرواية الضعيفة التي هي تصلح للاستشهاد هو معنى كل يوم هو في شأن أي: يخلق، ولهذه الهواية الموقوفة التي لها حكم الرفع لو صح إسنادها شاهد قوي أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره وذلك من مرسل قتادة بن دعامة السدوسي إذ قال ابن جرير الطبري حدثنا ابن بشار قال: ثنا مروان، قال ثنا أبو العوام، عن قتادة {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} قال: يخلق خلقا، ويميت ميتا، ويحدث أمرا.. هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات يحتج بهم وقد ثبت بذلك هذا المعنى أي أنه يخلق كل يوم ويميت ويحدث الأمر، ويوم السبت داخل في الأيام التي يخلق فيها الرب سبحانه وتعالى خلقه فلو كان الأحد هو أول الأيام التي ابتدأ الله فيها الخلق لكان قول اليهود والنصارى صادقا كما سبق الرد عليه من قبل العلامة السهيلي على الطبري. ومع أن تلك الأسانيد التي ساقها الإمام أبو جعفر وفيها أن الأحد هو أول الأيام الستة هي موضوعة ومنكرة كما مضى تحقيقه وبيانه في الكلام على إسناد حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وأما قول الشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية [16] وقد روى مسلم أيضا خلق الله التربة يوم السبت، واتفق الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق وأن ابتداء الخلق يوم الأحد.(23/221)
فقلت: لم أقف على هذا الاتفاق الذي أشار إليه العلامة القرشي رحمه الله تعالى وإنما هو قول للعلامة أبي جعفر الطبري في تاريخه ولم ينقل الاتفاق وكان يرد بذلك على الإمام محمد بن إسحاق صاحب السيرة القائل بأن ابتداء الخلق كان في يوم السبت وقد أيده العلامة السهيلي في الروض الأنف كما مضى، ورد على ابن جرير الطبري ردا علميا ونقله العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة وأيده بالأدلة العقلية والنقلية كما مضى أنفا. وخالفهم الإمام العلامة الحافظ ابن القيم في المنار المنيف [17] إذ قال رحمه الله تعالى: ويشبه هذا ما وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة، ثم ذكر الحديث، ثم قال وهو في صحيح مسلم ولكن وقع الغلطة في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير. وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام والله تعالى أعلم. اهـ.
وهكذا نقل الإمام ابن كثير في تفسيره ثم ذهب إلى تضعيف الحديث، وأمانة العلم تقتضي نقل كلام أهل العلم هنا في هذا الموضع، وإني مع ضعف إدراكي وقلة بصيرتي وحيلتي أطمئن إلى ما قاله الإمام البيهقي في الأسماء والصفات والعلامة ابن إسحاق صاحب السيرة والسهيلي في الحوض الأنف وأخيرا العلامة عبد الرحيم بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة، وأزال التعارض الظاهري الواقع بين الحديث ونص القرآن الكريم. وما ذكره الشيخ عبد القادر القرشي من الاتفاق فغير موجود، بل نصُّ القرآن الكريم يخالف هذا الاتفاق إن وجد {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} كما سبق تفسيره عن ابن عباس وقتادة رضي الله تعالى عنهما. وأما ما نقله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى- عن أبو هريرة عن كعب وهو أصح.(23/222)
قلت: وقد ثبت عن كعب الأحبار أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد كما سبق بيانه وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم لو كان ما ذكره الإمام البخاري في تاريخه صحيحا لكان التعارض واقعا بين قولي كعب الأحبار كما لا يخفى فما هو الراجح.
وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي في الفتح الرباني [18] بعد إيراده حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: وقوله يوم السبت فيه رد زعم اليهود أنه ابتدأ في خلق العالم يوم الأحد وفرغ يوم الجمعة، واستراح السبت، قالوا: ونحن نستريح فيه كما استراح الرب. وهذا من جملة غباوتهم، وجهلهم، إذ التعب لا يتصور إلا على حادث. قال تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ثم ذكر تخريج الحديث. وأورد في الحديث الساعاتي في نفس المجلد [19] وأحال على الصفحة الثامنة من هذا المجلد.
والمقصود من هذا النقل هو بيان ما وقعت فيه شبهة التعارض بين نص القرآن الكريم وبين حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي صححه الحفاظ والنقاد، كمسلم، ويحيى ابن معين، والدولابي، والبيهقي، والثقفي وابن مندة، كما نقل هذا التصحيح فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير [20] ويقول أنه تكلم على هذا الحديث في الأحاديث الصحيحة برقم 1833 وهذا الجزء لم يطبع حتى الآن، ولما جمع حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في متنه التخليقين في وقتين متغايرين ظهر التعارض الظاهر وإلاّ فليس هناك تعارض البتة كما قيل ونقل أنفا.
لماذا لم يرد ذكر خلق السماوات في الحديث؟(23/223)
ولما لم يرد ذكر خلق السماوات في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أثار الإشكال في بعض الأذهان مع بقية التعارض الظاهري. قال الإمام المناوي في فيض القدير [21] وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، ثم ذكر بقية الكلام، وهكذا نقل عنه الشيخ أَحمد الساعاتي في الفتح الرباني [22] أجاب عن هذا الإشكال العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة [23] ، إذ قال رحمه الله تعالى أما الوجه الأول فيجاب عنه بأن الحديث وإن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس النور، وفي السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الإجرام السماوية. والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في الخطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن اهـ.
قلت: هذا الذي ذكره لم يعزه إلى النقل الصحيح من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو إلى مصادر أخرى ينبغي الاعتماد عليها. وأنا قد سألت عن هذا الموضوع بعض من يدرس العلوم الكيماوية والجيولوجية فقال: أن الأمر لصحيح مائة في المائة وقد تكلم على هذا الموضوع كلاما طويلا، ولكن البحث في حاجة إلى التدقيق والتحقيق العلمي والله تعالى أعلم بالصواب.
خلق آدم في يوم الجمعة(23/224)
ثم تعرض حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في آخر ألفاظه لخلق آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال الإمام النووي عند عقده الباب على هذا الحديث في شرحه على مسلم إذ قال رحمه الله تعالى: "باب ابتداء الخلق"، وخلق آدم عليه السلام، وجاء في هذا الحديث أن آدم خلقه الله تعالى يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. وفي هذا اللفظ إشارة واضحة إلى تأخير خلق آدم عليه الصلاة والسلام عن خلق السماوات والأرض- في أخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره وأشار إلى هذا المعنى الواضح، نص القرآن الكريم في سورة البقرة كما مضى بيانه وإيضاحه وتحقيقه، ولهذا المعنى الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه شواهد كثيرة وهي صحيحة. وإني أحب إيرادها في هذا المقام لكي يتضح المعنى ويرفع الغبار وينجلي الشك.(23/225)
فقد أخرج مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن، وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيريهما وكذا بن المنذر -كلهم- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط عنها، وفيه مات، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة" وقد تعرض لهذا الموضوع الحافظ في الفتح [24] : واثبت خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بروايات عديدة، وآثار كثيرة وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه [25] بإسناد صحيح، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده هذا المعنى بإسناد صحيح في مواضع عديدة [26] ؛ وذلك في مسند أبي ريبة رضي الله تعالى عنه، وقد أخرج هذا المعنى أيضا الإمام أحمد في مسنده [27] بإسناد حسن، وذلك في مسند أبي لبابة بن المنذر البدري رضي الله تعالى عنه إذ قال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير يعني ابن محمد، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبى لبابة البدري بن المنذر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عنده، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر، ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال، خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ... "، ثم ذكر الحديث بطوله، وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه من هذا الوجه [28] ، وأخرج أيضا هذا المعنى بإسناد صحيح [29] وذلك في مسند أوس ابن أبي أوس الثقفي وهو أوس بن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وفيه: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علّي من الصلاة"، وقد عزا الإمام السيوطي في الدر المنثور [30] هذا الحديث إلى ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.(23/226)
قلت: وأخرجه أيضا القاضي الإمام إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة 282 هـ في رسالته فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم [31] حديث رقم 22 وهذه هي الشواهد الكثيرة التي فيها أن الله خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، وهي تؤيد معنى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أنا بصدد الكلام حوله، والدفاع عن صحة إسناده، والرد على الشيخ أبي رية وغيره من أهل العصر الذين يتكلمون في مثل هذه المواضيع بدون علم ولا فقه، ثم يطعنون في السنة النبوية كلها، مع بعدهم عن حقائق هذه الدراسة الإسنادية والتخريجية؛ ومن هنا كان كلامه واتهامه لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في وضع هذا الحديث من تلقاء نفسه دون أن يكون هناك صدق مما أخبر به الله تعالى عنه في زعم أبي هريرة، ولذا يقول العلامة المعلمي رادًّا عليه في هذا الاتهام: أقول: لم يقع شيخنا رضي الله تعالى عنه في هوة ولا قال أحد من أهل العلم أنه وقع فيها، أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق -إن شاء الله تعالى- فواضح. وأما على ما زعمه ابن المديني فلم يصح عن أبي هريرة ولا عمن روي عنه ولا عن الثالث شيء من هذا، قوله أخذ رسول الله بيدي فقال: "خلق الله التربة"، وأما على حدس البخاري، فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران أحدهما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: فذكر حديثا صحيحا غير هذا والثاني قال كعب: خلق الله التربة يوم السبت فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع مقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم اهـ.(23/227)
قلت: هكذا العلم والتحقيق، وأما اتهامكم أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بالكذب قبل دراسة أحوال الرواة وظروفهم فهذا الشيء ينبئ عن عداوة شنيعة قبيحة في القلب، والله تعالى أعلم بها، وأما الجهل بحقيقة الحال أو وجود كلا الأمرين في الرجل، فالله تعالى أعلم به، وإني مع هذه النقول الكثيرة وقلة الإطلاع على ما قاله السلف في هذا الموضوع لا ادعي الصواب فيما نقلته واعتقدته من صحة هذا الحديث إسنادا ومتنا، وواقعة ولي حق أن أطمئن إلى أحد الطرفين في ضوء الحجة، فإني أدين الله تعالى بما ذهب إليه جملة كبيرة من أهل التحقيق والعلم من صحة هذا الإسناد والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
العلم.. والمثل العليا
إن الفصل بين الواقع الإنساني والمثل العليا، مهد للعلم المنشق عن الدين أن يزعم أنه يتعامل مع الموجود المادي الملموس، أي أنه لا يتعامل مع غايات الحياة وأهدافها ومقاصدها الرفيعة، وهكذا نجد أن كلّ نقد يوجه للدين الجزئي يمكن أن يوجه للعلم الجزئي كذلك، فالدين الذي يتجاهل الواقع البشري ويتعامى عن مشكلاته يتطابق مع العلم الذي يتعامى عن العقائد والمثل العليا ويفصلها عن الحياة. فإذا كان الأول يتجاهل الحياة الواقعية القائمة ويتجاهل خبرات الإنسان نفسها، فإن العلم القاصر عن المثل العليا يهبط إلى المادي الملموس والمسموع والمنظور، مجرداً من القيم الإنسانية، ويصبح سلعة تكنولوجيا يمكن لأي شخص أن يشتريها لأي غرض، ويصبح العلماء مرتزقة يتكسبون بالعلم في أي مكان، كما حدث لعلماء الإيمان الذي عملوا للأهداف النازية والشيوعية والأمريكية.(23/228)
لقد علمتنا العقود الأخيرة القليلة بأن العلم قد يصبح خطراً يهدد مقاصد الإنسان العليا، وأن العلماء قد يصبحون وحوشا طالما أن العلم أصبح كلعبة الشطرنج، متعسفاً لا هدف له، غايته الوحيدة اكتشاف الوجود المحسوس. وبذلك ارتكب العلم الخطأ الفادح المصيري الذي يقصي أسمىَ الخبرات الذاتية من ميدان الوجود القابل للاكتشاف.
المجلة الإسلامية المغربية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تاريخ الطبري 1/22-24
[2] لسان الميزان 1/265
[3] تفسير الطبري: 12/482
[4] الميزان،4/ 499-503
[5] الميزان، 2/157-158.
[6] الروض الأنف، 2/270.
[7] الروض الأنف، 2/271.
[8] الأنوار الكاشفة، ص191
[9] المستدرك، 2/261.
[10] الدر المنثور،1/44-45.
[11] تفسير ابن كثير، 1/123.
[12] الأنوار الكاشفة،190.
[13] تفسير الطبري، 27/ 135.
[14] تفسير ابن كثير،6/ 491.
[15] التقريب،1/116.
[16] جواهر المنية في طبقات الحنفية، 2/429.
[17] المنار المنيف، ص84.فصل19.
[18] الفتح الرباني،8/20.
[19] الفتح الرباني،28/20.
[20] صحيح الجامع الصغير،3/ 113.
[21] فيض القدير، 3/448.
[22] الفتح الرباني،8/30.
[23] الأنوار الكاشفة، 190.
[24] فتح الباري، 3/356.
[25] تاريخ الطبري، 1/58.
[26] مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/418. 2/486. 2/504. 2/512. 2/540.
[27] مسند الإمام أحمد بن حنبل، 3/430.
[28] تاريخ الطبري، 1/56.
[29] تاريخ الطبري، 4/85.
[30] الدر المنثور، 6/226.
[31] فضل الصلاة على النبي، ص 11.(23/229)
مسلك القرآن الكريم في إثبَات البعث
د. علي بن محمد بن جبر الفقيهي
تمهيد:
خلق الله العباد لطاعته، وكلفهم بعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات آية 56) ، وقد رسم لهم سبيل الخير، كما بين لهم طرق الشر، ولما كانت الطبيعة البشرية فيها الاستعداد لقبول الخير والشر، كما قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (سورة الشمس آية 7- 8) فقد يطغى جانب الشر أحيانا على جانب الخير، استجابة لداعي الشهوة الموجودة في الطبيعة البشرية، فهي غالبا ما تجنح بصاحبها إلى تعدي الحدود التي يتحتم على المرء ألا يتجاوزها، فيوقع الظلم على الآخرين.
وواقع الحال يبين لنا أن كثيرا ممن ارتكبوا تلك الجرائم في حق غيرهم، وأوقعوا الظلم بالآخرين قد غادروا هذه الحياة الدنيا، ولم ينل المظلوم حقه منهم، مع العلم بأن كل ذلك واقع بعلم الله القوي القادر السميع البصير، الذي يمهل ولا يهمل، والذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما.(23/230)
ولما كان الظالم والمظلوم قد غادرا هذه الحياة الدنيا، ولم يأخذ المظلوم حقه من ظالمه ولما كانت عدالة الله تعالى تقتضي القصاص، وأن يأخذ المظلوم حقه من الظالم كان لا بد من حياة أخرى، غير هذه الحياة، يتم فيها تقاضي الحقوق بين العباد ويقتص فيها للمظلوم من الظالم. هذه الحياة هي التي تكون في الآخرة، حين يبعث الله الناس من قبورهم، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (المعارج آية 43) ولذا كان من المحتم على المرء الاعتقاد، بوقوعه وتحققه. وهذا أمر يرشد إليه العقل، ويحتمه المنطق، وتدل عليه النصوص الدينية، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون آية 115) .
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثم كان ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (القيامة الآيات من 36- 40) .
لكن كثيرا من الناس قد ضلوا في هذا الباب، فقصرت عقولهم عن إدراك هذا المعنى فأنكروا البعث بعد الموت، بلا دليل، سوى أنه استبعدوا وقوعه بعد تفتت الأجساد وتمزقها.
قضية البعث:(23/231)
ولما كانت قضية البعث والحساب، وإعادة الحياة إلى الموتى بعد تفتت تلك الأجساد واختلاطها بأجزاء الأرض، من معضلات العقيدة، شأنها في ذلك شأن قضية الوحدانية، في الغرابة والاستبعاد، وقد اقتضى هذا الاستبعاد تعجب المنكرين للبعث ووقوعه، ممن يقولون به، ويؤمنون بوقوعه؛ قال تعالى -مبينا وموضحا تعجب هؤلاء المنكرين-: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق آية 1- 3) .
لذلك فقد سلك القرآن الكريم لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، فتارة يذكر الشبهة ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل أولا وبعد استقامته يورد القضية، وحيناً يخبر عن وقوع ذلك البعث والحساب خبرا قاطعا، مع طي الدليل لوضوحه.
وقد تجلى مسلك القرآن الكريم في عرضه للقضية بأسلوبه الفطري السهل الواضح؛ لأنه خطاب للفطرة البشرية بما هو في متناول إدراكها وقد عنى القرآن الكريم بقضية البعث عنايته بقضية الوحدانية، فكما تعددت الآيات الدالة على إثبات الوجود الإلهي ووحدانيته فقد كثرت الآيات التي تقرر البعث. وتؤكد وقوعه.
وأعظم حجة لدى المنكرين للبعث، والأحرى أن نسميها أعظم شبهة لديهم هي:
استبعاد إعادة الأجسام بعد تمزقها، وتفتتها، ثم اختلاطها بأجزاء الأرض، إذ تصبح متصورة بصورة التراب، فكيف يمكن إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها من قبل!؟
هذا أمر غريب على عقول المنكرين، وعجيب في نفس الوقت عندهم، والحديث عنه خرافة، والمتحدث به، إما مفتر على الله الكذب، وإما مجنون سلب عقله، فخيل له جنونه ذلك الحديث وأجراه على لسانه.
وقد عبر شاعرهم عن ذلك الإنكار، مبينا أن الحديث عنه خرافة بقوله:
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
أيوعدني ابن كبشه أن سنحيا(23/232)
وكيف حياة أصداء وهام [1]
ويقول الحق جلّ شأنه، مخبرا عن ذلك الجحود العنيد والإنكار الشديد، ونسبتهم إلى قائله الجنون، أو الكذب والافتراء على الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (سبأ آية 7- 9) .
فقد عجب كفار قريش من هذا الحديث الذي لم تستوعبه عقولهم، فظنوا أن هذا الإيجاد عبث لأن الحديث عن بعث هذه الأجسام لمجازاتها على أعمالها في حياتها الدنيا حديث خرافة، أو حديث كذب وافتراء على الله، أو مس من جنون أصاب قائله، فأجرى على لسانه هذا الحديث العجيب الغريب، ولذا فقد انطلقوا يخاطب بعضهم بعضا، بهذا القول الذي حكاه الله عنهم، قائلين {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} أي يحدثكم أو يخبركم بما تتعجبون منه لغرابته، وهو: إنكم إذا مزقتم كل ممزق، فتفرقت أجسامكم، واختلطت بأجزاء الأرض، فأصبحتم ترابا. {إِنَّكُمْ} بعد ذلك كله {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ؛ أي ستخلقون خلقا جديدا فتعودون كما كنتم. ثم قالوا بعد ذلك التعجب والاستغراب: إن هذا الحديث الصادر من هذا الرجل، ما هو إلا افتراء على الله وكذب عليه، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أو أن قائله مسلوب العقل فجنونه يوهمه ذلك الأمر ويلقيه على لسانه {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} .(23/233)
وقد بين الله سبحانه وتعالى. أن الأمر ليس كما ذكروا، فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله، كما أنه لم يمسه جنون، وإنما الأمر راجع إليهم هم، فعدم إيمانهم بالآخرة المترتب على عدم الإيمان بقدرة الله، هو اختلال في العقل، وغاية الضلال عن الفهم الإدراك، لقدرة الخالق وجلال حكمته لا سيما وأدلة القدرة على ذلك مشهودة ومعاينة، ثم ذكرهم بتلك الأدلة فقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً} الآية: أي دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدل على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى، وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} ، ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كل من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .
مسالك القرآن الكريم:
ذكرنا في التمهيد أن القرآن الكريم في معالجته لقضية البعث والجزاء، تارة يعرض شبهة المنكرين ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل على البعث أولا، وبعد أن يتقرر ويتضح يورد القضية، وحينا يخبر عن وقوع البعث والجزاء خبرا قاطعا مع طي الدليل لوضوحه. ولما كان القرآن الكريم قد أستوعب عددا كثيرا من الآيات التي تعالج هذا الموضوع فسنعرض نماذج منها تحت المسالك المشار إليها، إذ لا سبيل إلى استيعاب تلك الآيات كلها في هذا البحث.
المسلك الأول: عرض الشبهة ثم الرد عليها:(23/234)
أشرنا في التمهيد إلى أن أعظم شبهة عند المنكرين للبعث، هي شبهة الاستبعاد، فقد قالوا: كيف يمكن إعادة الأجسام إلى حالتها الطبيعية التي كانت عليها، بعد أن صارت ترابا؟؟ ذلك أمر غير معقول عندهم.
وفي النموذج التالي عرض لهذه الشبهة، وبيان لإنكارهم وتعجبهم ممن يؤمنون بالبعث، ثم دحض لتلك الشبهة، وبيان لزيفها بالأدلة الواضحة البينة المشهودة.
يقول الله تعالى حاكيا عن المشركين استبعادهم وقوع البعث بعد الموت، وعدم
إمكانه، وتعجبهم من شأنه وشأن القائل به:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} .
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} .
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق. آية ا- 3) .
يقسم تبارك وتعالى بالقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو تنزيل من حكيم حميد، وجواب القسم هو مضمون الكلام الآتي بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه [2] ، ثم يحكي تعجب المشركين من أن يأتيهم منذر منهم، أي بشر من جنسهم، ولم يكون من جنس آخر كالملائكة مثلا؟
ثم يتبع ذلك بما هو أعجب عندهم من دعوى النبوة، وهو إخبار الرسول لهم، بأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، وهي بعثهم من قبورهم أحياء، مرة ثانية، للحساب والجزاء على الأعمال الكائنة منهم في تلك الحياة الماضية، إذ كيف يمكن وقوع ذلك الحساب بعد ما تمزقت الأجسام وتفرقت بحيث أصبحت ترابا؟؟.
إن القول برجعة تلك الأجسام مرة أخرى أمر مستبعد، ومستحيل في اعتقادهم،
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} .
لكن هذه الاستحالة وذلك الاستبعاد الذي يعبرون عنه بالنسبة لمن؟؟(23/235)
هل يكون بالنسبة للقدرة الإلهية التي إذا أرادت الشيء قالت له كن فيكون في نفس اللحظة من غير توقف على شيء آخر أصلاً؟؟.
أو يكون بالنسبة لقُدَرهم العاجزة؟؟
الواقع أنهم يعبرون بذلك عن أنفسهم، ويستبعدون البعث ووقوعه ظنا منهم أن قدرة الله تشبه قدرتهم، فقاسوا قدرة الله على قدرتهم، وقياس الغائب على الشاهد باطل في نظر العقلاء، ولذلك صور الله عز وجل هذا الظن الخاطئ في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس آية- 78) ، ولذا فقد استعظمت عقولهم هذا الأمر، وجعلته في حكم المستحيل، وإلا فلو نظروا بغير هذه النظرة القاصرة، وتأملوا في أنفسهم في مبدأ خلقهم، وفيما بين أيديهم من الآيات الدالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء متى ما أرادته لما صدر منهم هذا القول المنكر.
وبعد ذكره تعالى للشبهة التي يتكئون عليها يبدأ في الرد عليهم فيقول:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} .
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} .
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} .
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق الآيات من 4- 11) .(23/236)
فنراه تبارك وتعالى يحشد في هذه الآيات عددا من الأدلة، المعنوية منها والحسية المشاهدة، التي تخاطب العقل وتستثير الوجدان.
أ- الأدلة المعنوية (العقلية) :
بين سبحانه وتعالى في الآية الأولى، أنه لا مكان لهذا الجحد، ولا وجه لذلك الاستبعاد، فإعادة الأجسام إلى ما كانت عليه أولا، بعد تمزقها واختلاطها بأجزاء الأرض من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية، ذلك أن إعادة الشيء المتفرق أجزاء، أو المستحيل عن صورته إلى صورة أخرى، كتحول الجسم البشري إلى صورة التراب مثلا، يتوقف على أمرين:
أحدهما: العلم بتلك الأجزاء المتفرقة، أو بتلك الصورة المستحيلة عن صورتها الأصلية.
ثانيهما: القدرة على إعادة تلك الأجزاء- أو تلك الصورة إلى حالتها السابقة وقد أوضحت الآية الكريمة أن علم الله شامل ومحيط، فهو تعالى يعلم أين ذهبت تلك الأجزاء وكيف تفرقت فقد عم علمه جميع الكائنات، صغيرها وكبيرها، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، فإذا كان ذلك معلوما لله تعالى، ومكتوبا ومحفوظا، كما قال تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} فكيف يستبعد عليه إعادتهم –بعد حالتهم تلك- أحياء كما كانوا؟!.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما، قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق [3] .(23/237)
فدل الحديث على نقص جسم الإنسان وتحلله، وذهابه في الأرض، إلا ذلك الجزء وهو عجب الذنب، الذي قيل أنه كحبة الخردل [4] ، وفيه يركب الإنسان، فيبقى بعينه، والحديث على ظاهره عند جمهور العلماء. وقد خالف المزني فقال: إنّ ((إلا)) بمعنى الواو، أي وعجب الذنب أيضا يبلى. ورد قوله هذا بما جاء مصرحا به في رواية مسلم من أن الأرض لا تأكله أبدا. ونص الرواية في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة" قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول الله قال: "عجب الذنب" [5] ذاك دليل العلم.
أما دليل القدرة على الإعادة، فقد بينته الآيات التالية لهذه الآية، وهى الآيات المشتملة على الأدلة الحسية المشاهدة، كخلق السماء، والأرض، فالقادر على خلقهما مع عظمهما، قادر على إعادة الإنسان الضعيف من باب أولى، ثم إن الإعادة للمعدوم الممكن، من الأمور الممكنة عقلا.
فالعقل لا يمنع من أن مَن قدر على إيجاد الشيء أولاً، قادر على إعادته بعد عدمه ثانيا فإن ذلك من الأمور الممكنة التي لا يستطيع العقل السليم إنكارها.
وبعد أن بين الله لهم شمول علمه، وإحاطته بالجزئيات والكليات –إذ أن العالم بجزئيات الأشياء لا تخفى عليه كلياتها- بين لهم سبب اضطرابهم في أمر البعث وأنه تكذيبهم للحق الذي جاءهم من خلقهم، إذ الأخبار عنه حق، والمخبر به صادق قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي مضطرب غير مستقر.(23/238)
ب- الأدلة الحسية: وبعد ذكره تعالى لشمول علمه واحاطته، ثم بيانه لسبب اضطرا بهم في أمر البعث، اتجه إلى نوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الحسية المشاهدة، الدالة على كمال قدرته سبحانه وتعالى، فقال تعالى منكرا عليهم عدم اعتبارهم بهذه الأدلة المشهودة على القدرة الإلهية: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} فهذه السماء التي يدرجون تحتها أفلا ينظرون إلى إبداعها وحسنها، وأحكام بنائها، وما زينت به من كواكب ثابتة وسيارة، ألم يأخذوا منها دليلا على القدرة المبدعة التي لا يعجزها شيء.
وهذه الأرض التي يسعون عليها، أفلا ينظرون إليها، كيف مدت لهم وأرسيت بالجبال لئلا تضطرب بهم، وما أنبتنا فيها من الأنواع المختلفة الطعوم والأشكال رزقا للعباد قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، ثم بين تعالى أن هذه الآيات الكونية جميعها أوجدها تبارك وتعالى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} أي تبصيرا وتذكيرا {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه.
ثم تابع الأدلة الحسية على البعث، فضرب لهم مثلا بإحياء الأرض بعد موتها فقال:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
فهذا مثل ضربه الله لمنكري البعث بما يشاهدونه من حال الأرض قبل نزول المطر عليها وهى جدباء مقفرة، فحين ينزل عليها الماء تهتز وتربو فتنبت من كل زوج بهيج، أي: حسن المنظر، وذلك بعد ما كانت يابسة لإنبات فيها، فأصبحت تهتز خضراء [6] .(23/239)
فهذا مثال للبعث والإحياء بعد الموت والهلاك، ولذلك يقول جل شأنه {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} يقول جل شأنه أي مثل ذلك الإخراج للنبات من الأرض يحيي الله الموتى فيخرجهم من قبورهم أحياء للحساب والثواب والعقاب.
فهذا المشاهد بالإحساس من آثار قدرته تعالى أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث؛ كخلق السماء والأرض قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف آية 33) وإحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (فصلت آية 39) .
وكما رأينا في هذا العرض لبراهين القرآن الكريم على إثبات البعث، تلك البراهين التي لا تدع مجالا للشك عند العقل الفطري السليم في إمكان وقوعه وعدم استبعاده.
فبالمقابل، ليست لدى المنكرين لوقوعه حجة يستندون إليها في إنكارهم إلا الاستبعاد المستند إلى الوهم والظن، كما قال تعالى {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} (الجن آية 7) إذ ليس هناك علم يقيني بامتناع البعث بعد الموت وعدم إمكانه، وإنما هناك ظن ووهم ناتج عن تكذيبهم بالحق الذي جاءهم من الله تبارك وتعالى، فالله هو الحق وقوله الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين، ولذلك فإن المكذب بالحق مضطرب ليس لديه أساس متين يستند إليه قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي مضطرب غير مستقر.
النموذج الثاني- من المسلك الأول:(23/240)
وقد أوضحت الآيات التالية من سورة يس، ذلك الإنكار الشديد المستند إلى شبهة استبعاد إعادة الأجساد إلى حالتها الأولى بعد أن أصبحت عظاما رميماً تذروها الرياح
يقول تعالى:
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} .
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} .
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} .
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس الآيات 77-83)
سبب نزول الآيات:
ذكر المفسرون لهذه الآيات، أن أبي بن خلف أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم يفته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أنه الله يبعث هذا؟؟ فقال رسول الله: "نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار". فنزلت الآيات من آخر سورة يس.
وفي رواية أن العاص بن وائل السهيمي، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بين يديه، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرم؟؟(23/241)
قال: "نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم" فنزلت الآيات [7] فقد تبين لنا من أسباب النزول اعتراض بعض المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم في تقريره البعث، وقد أكدوا إنكارهم ذلك بما ضربوه من المثل لله تعالى، فكان ضروريا أن يرد عليهم إنكارهم، وأن يبطل لهم مثلهم، والآيات وإن كان سبب نزولها خاصا، فهي عامة في كل منكر للبعث، لما هو مقرر في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والألف واللام في قوله {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَان} للجنس فيعم كل منكر.(23/242)
بينت الآيات أن استبعاد الإعادة للأجسام بعد الموت آت من إنسان لم ينظر في مبدأ خلقه أولا، إذ لو نظر في نشأته الأولى نظر تبصر واعتبار، لكفاه خلقه من نطفة، ضعيفة حقيرة، دليلا على إعادته بعد موته، فنِسيانه لمبدأ خلقه من تلك النطفة هو الذي دعاه لهذا الإنكار، ثم ضربه المثل لله القادر، بقدرة الإنسان العاجز {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَان} نشأته، أي ألم يعلم {أَنَّا خَلَقْنَاهُ} أي ابتدأنا خلقه وإيجاده {مِنْ نُطْفَةٍ} من مني يمنى وما أضعف النطفة وأعجزها {فَإِذَا هُوَ} بعد العجز والضعف إنسان قوي ناطق {خَصِيمٌ مُبِينٌ} ؛ أي: بعد تلك الأطوار الضعيفة أصبح يخاصم ويجادل أبيَن جدال وأبلغ خصام، ومن ذلك خصامه وجداله في أمر البعث والجزاء، ينكر قدرة خالقه الذي أنشأه أول مرة، ويدعى عدم قدرته على إعادته ثانيا، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} أي صفة غريبة عجيبة يعارض بها قدرتنا الثابتة بالدليل القاطع على إعادته، فجعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم، ثم بين تعالى أن سبب ذلك هو ذهوله وعدم التفاته إلى خلقه الأول فقال: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وكان من حقه ألا ينسى فيستدل به على إمكان عودته كما بدأه، ولو تأمل في ذلك لعلم أن القدرة التي سوته أولا لا يعجزها بأي حال إعادته ثانيا بعد أن صار كما يرى عظما رميما مفتتاً، وأن تلك الرجعة ليست بعيدة على القوى القادر، وقد قدم قوله {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} على ضرب مثله تنبيهاً على جهله وغبائه وغفلته، عما في نفسه وبين يديه من الأدلة، وماذا قال في مثله الذي يعتمد عليه في تأييد دعواه؟؟ (قال: من يحيى العظام وهى رميم) بالية متفتتة. فقد أتى ذلك المنكر للبعث المستبعد لوقوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بيده عظما رميما يفته ويذروه في الهواء، قائلا للنبي صلى الله عليه وسلم: أترى يحيى الله هذا العظم بعد ما أرم؟؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم ويدخلك النار". وقد دفع(23/243)
سبحانه وتعالى هذه الشبهة بقوله {قُلْ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أي ذكّر هذا الناسي لفطرته الدالة على حقيقة الأمر وكمال القدرة {يُحْيِيهَا} أي يخلق الحياة فيها {الَّذِي أَنْشَأَهَا} أوجدها من العدم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} في بدء الخلق والنشأة، فهو الذي أنشأ هذا العظم الذي تفته بيدك من نطفة ماء- لا عظم فيه، فالقادر على إنشائه أولا، ثم إحلال الحياة فيه لا يعجزه إعادته مرة أخرى، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه..}
يقول الفخر الرازي: (ومنهم- أي المنكرين- من ذكر شبهة، وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد، وهي على وجهين: أحدهما أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟ وثانيها أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع؟ بل لو أكل إنسان إنسانا آخر فكيف الإعادة؟ وقد رد على الشبهة الأولى بقوله {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا.
أما الشبهة الثانية فقد أبطلها بقوله {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ثم ذكر الأجزاء الأصلية في الإنسان، والأجزاء الفضيلة، والله عالم بكل ذلك فهو يعيد كل جزء إلى صاحبه ثم يعيد فيه الحياة) [8] .
فعلم الله شامل بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد- إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها، كما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قادر على إعادتها على النمط السابق الذي كانت عليه كما قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه} والبنان أدق شيء في الإنسان وأصغره.(23/244)
ثم أتبع ذلك بالأدلة المحسوسة الدالة على كمال القدرة الإلهية مبينا لهم أنه لا وجه لهذا الاستبعاد، إذ كيف يكون ذلك وبين أيديهم من الآيات الكونية الدالة على أن الخالق لا يعجزه شيء ما يكفيهم لو نظروا فيه بعين البصيرة والتأمل.
فقال تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .
فهذه آية عظيمة دالة على كمال القدرة الإلهية التي توجد الضد من ضده، فهذا الشجر الغض الذي يقطر ماء، أحدث منه الخالق القادر هذه النار المضادة له، وهذا أمر أعجب وأغرب من إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فطرأت عليه اليبوسة والبلى.
كما أن هذه الآية متضمنة للرد على شبهة يوردها المنكر لإعادة الحياة بعد الموت؛ ذلك أن الموت بارد يابس، والحياة طبعها الرطوبة والحرارة، فإذا حل الموت لم يكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لما بينها من التضاد.
والحقيقة أن الشبهة واهية وغير واردة على موضوع البعث أصلا، ذلك أن الممتنع هو الجمع بين الضدين في آن واحد، أي بأن يكون الجسم حيا وميتا في وقت واحد، والبعث بعد الموت ليس من هذا الباب، لأنه حياة بعد موت، لا مع موت، فحينما حل بالجسم الموت ارتفعت الحياة فبقى ميتا إلى حين وقت البعث، فلما عادت إليه الحياة مرة ثانية ارتفع الموت. فليس هناك جمع بين ضدين.(23/245)
وقد تابع أدلة الرد على المنكرين للبعث والحساب، منكرا على الإنسان استبعاد وقع البعث الجسماني وإمكانه قائلا: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ومتى قدر على ذلك فهو قادر على إعادة أعيانهم- ولو اتجه الإنسان مع فطرته الصحيحة التي فطره الله عليها، لأجاب بقوله {بَلَى} أي هو قادر على ذلك؛ لأن هذه الإجابة هي مقتضي ما يعترفون به ولا ينكرونه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (سورة العنكبوت آية 61) .
ولأنه تعالى {هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} أي كثير الخلق، وكثرة الخلق ناشئ عن كمال القدرة، وهو {الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه شيء، فعلمه شامل بجزئيات الأشياء وكلياتها. كما قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سورة سبأ آية 3) .
وقال تعالى {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (سورة الأعراف آية 7)
ثم دل على كمال قدرته ونفاذ مشيئته فقال {إِنَّمَا أَمْرُهُ} أي شأنه، (إذا أراد شيئا من الأشياء {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فيحدث ما أراده من غير توقف على شيء آخر فكيف يصعب على من هذه قدرته إعادة هذا الإنسان بعد بلاه وتمزقه.(23/246)
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ذكر رجلا فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم- قال كلمة [9] يعني أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أيّ أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فانه لم يبتئر [10]-أو لم يبتئر عند الله خيرا وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني- أو قال فاسحكوني- فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل، كن فإذا هو رجل قائم. قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك- أو فرق منك- قالت: فما تلافاه أن رحمه عندها، وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها"، فحدثت به أبا عثمان فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: "أذروني في البحر أو كما حدث" [11] .
فقد دل هذا الحديث على كمال القدرة التي لا يعجزها شيء فكل ما أراده الله عز وجل متوقف على قوله له {كُنْ} فإذا هو كائن كما أراد.
وقد أورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} حديثا رواه الإمام أحمد عن أبى ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئا فإنما أقو ل له كن فيكون" [12] ثم نزّه نفسه عما ينسبه إليه الكافرون من العجز؛ فقال {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فبيده مقاليد السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، وإليه ترجع العباد في يوم المعاد، فيجازي كل عامل بعمله.
النموذج الثالث- من المسلك الأول:(23/247)
وفي سورة الإسراء يذكر الله عز وجل تلك المحاورة بين منكري البعث والرسول صلى الله عليه وسلم فيقول تعالى:
{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} .
{أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء آية 49- 52) .
فقد حكى شبهة منكري البعث في الآية الأولى، تلك الشبهة هي استبعاد وقوع المعاد فإن عقولهم لم تتصور إمكان الإعادة ووقوعها، بعد تمزق الأجساد وتفرقها. وقد بين لهم عز وجل أنه لا مكان لهذا الاستبعاد، ولا مجال له مع القدرة الإلهية، ولهذا وبخهم بهذا الأسلوب التعجيزي، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: (قل) يا محمد مجيبا هؤلاء المنكرين لقدرتنا، على إعادة أجسامهم الضعيفة إلى حالتها الأول التي أوجدناها عليها، {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} أو أي نوع يعظم عندكم عن قبول الحياة، لكمال المباينة، والمنافاة بينهما وبينه، فإنكم مبعوثون، ومعادون للمجازاة على أعمالكم لا محالة، ولكنهم بعدما سمعوا، أمعنوا في جحودهم، فقالوا: إذا كنا كذلك من حجارة أو حديد، (من يعيدنا) ؟ فجاءهم الجواب بما هو مسلم عندهم لو عقلوا {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . أي هو الذي أنشأكم أولا، ولم تكونوا شيئا مذكورا، هو القادر على إعادتكم ثانيا، وأنتم تعترفون بأنه خالقكم، ومنشئكم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... } (الزخرف آية 87) فكيف تستبعد عليه الإعادة؟؟(23/248)
غير أنهم لم يعيروا هذا الدليل اهتماما. ولذا فهم يحركون رؤسهم استهزاء وسخرية قائلين استبعادا لوقوعه (متى هو؟) أي متى سيكون هذا الأمر الغريب الذي تعدنا به، فبين لهم سبحانه أنه قريب، ذلك لأنه آت، وكل آت قريب، {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} وذلك يوم يدعو الله الخلائق فيستجيبون لتلك الدعوة. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الروم آية 35) أي إذا أمركم بالخروج منها، فإنه لا يخالف أمره ولا يمانع، {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} حين تكون ما وعدتم به؛ كقوله تعالى {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} النازعات آية 46) ومثل هذه الآيات في السورة نفسها قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً} (الإسراء آية 97- 99) .(23/249)
فقد أخبر تعالى في الآية الأولى عن حشر المنكرين للبعث على أقبح صورة جزاء لهم على كفرهم به تعالى، وإنكارهم لآياته وتكذيبهم لأنبيائه، ولما استعظموا إعادتهم خلقا جديدا بعد أن صاروا رفاتا؛ أي: مفتتة أجسادهم، أجابهم بما يقرون به وهو خلق السموات والأرض وهي أعظم من خلقهم، فالقادر على إيجادها قادر على إعادتهم من باب أولى، إذ القادر على خلق الأكبر، لا يعجزه خلق أو إيجاد ما هو أصغر منه في بدائه العقول {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر آية 57) فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم ... } ومتى قدر على خلق مثلهم فهو قادر على إعادة أعيانهم، كما قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ... } (الروم آية 27) .
المسلك الثاني: تقديم الدليل، ثم إيراد القضية بعد استقامته ووضوحه:
1 - النموذج الأول: من المسلك الثاني
يقول الله تعالى، من سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون آية 13- 16) .(23/250)
في هذه الآيات قدم الله سبحانه وتعالى الاستدلال على إمكان البعث والجزاء يوم القيامة، بخلق الإنسان في أطواره المتعددة حيث خلقه من طين، والمراد به آدم عليه السلام، ثم جعل نسله، أي ولده من بعده من ماء مهين، كما قال تعالى في سورة السجدة: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة آية 7- 8) .
وقيل المراد بالإنسان، الجنس في ضمن خلق آدم.
ثم شرع يبين تلك الأطوار المتعددة التي مر بها خلق الإنسان إلى أن أصبح بشرا سويا، عاقلا ناطقاً فقال {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} ماءً، وهو المني المهين أي الممتهن {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي مستقر؛ وهو الرحم: ثم بين تحول هذه النطفة من حالة إلى أخرى، خلقها علقة، أي دما جامدا، ثم خلق العلقة مضغة لحم لا تمايز فيها، ثم خلق تلك المضغة عظاما، بأن جعلها عمودا للبدن على هيئات وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة الإلهية، ثم كسوة تلك العظام لحما على مقدار ما يناسب كل عضو. ويليق بهيئته حتى يكون خلق الإنسان في أحسن تقويم وأجمله، كل ذلك التحول من حالة إلى أخرى يتم في ذلك المكان المظلم الضيق، بقدرة العليم الحكيم {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاث} (الزمر آية 6) .
ثم تحويله إلى خلق آخر مباين للخلق الأول، مباينة ما أبعدها، فقد أصبح إنسانا حيا، سميعا بصيرا، متكلما عاقلا، بعدما كان جمادا، نقلة هائلة بين النطفة الضعيفة الميتة، وبين الإنسان الحي الناطق، فلا علاقة عقلية، ولا تلازم بينهما، اللهم إلا القدرة الإلهية، التي تقول لشيء كن فيكون؟ {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (الروم أية 19) .(23/251)
ولما كانت هذه الأطوار لخلق الإنسان، من أعظم الدلائل على القدرة الإلهية والحكمة الربانية، فقد أثنى سبحانه وتعالى على نفسه بقوله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
هكذا يعرض الله تبارك وتعالى، هذا الدليل على المخاطبين بحيث لا يمكنهم إنكاره لأنه من مشاهداتهم، فمن منهم لا يعرف عن كيفية خلق الإنسان شيئا، كل واحد منهم يعلم من نفسه أنه وجد على هذه الأطوار التي ذكرها القرآن الكريم، كما يعلم ذلك عن طريق مشاهداته، لوجود أبنائه، وأبناء جنسه.
وهكذا بعد أن اتضح الدليل واستقر، وهو أنه تعالى، قادر على الإنشاء والإيجاد من العدم، أورد قضية البعث بعد الموت في يوم القيامة، فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي بعد تمام خلقكم. ثم خروجكم من بطون أمهاتكم، واستيفائكم آجالكم {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أحياء من قبوركم، فتحاسبون على أعمالكم، وتنالون جزاءكم، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء آية 47) .
2- النموذج الثاني: من المسلك الثاني:
يقول تعالى من سورة السجدة: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}(23/252)
{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة الآيات 7- 13) ، يخبر تعالى أنه أحسن الأشياء التي خلقها فأتقنها وأحكمها، كما قال تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} ومن تلك الأشياء المخلوقة المتجلية فيها بدائع الصنعة خلق الإنسان، ثم شرع في بيان بدء خلقه فقال {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} .
ويعني به خلق آدم عليه السلام كما قال تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} ثم جعل نسله، أي قدر خلق ذريته من تلك النطفة التي تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة مذكرا لهم بنعمه التي منحهم إياها، من السمع والبصر والعقول، كل تلك القوى التي قلَّ شكرهُم لله عليها أنشأها من تلك النطفة التي عبر عنها بالشيء الممتهن لحقارته، وبعد ذكره تعالى لنشأتهم الأولى المتمثلة في خلق أبيهم آدم. ثم بيانه لكيفية تناسلهم من بعده- وما أنعم به عليهم من القوى الظاهرة والباطنة مما يدلهم على قدرته وحكمته، أورد قضية البعث، إذ لا يعقل- إن كانوا يعقلون- أن يخلقهم الله ويعدهم هذا الإعداد عبثًا، ذلك ظن الذين كفروا.(23/253)
فقال: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْض} أي اختلطت أجسامنا بعد تمزقها وتفتتها بأجزاء الأرض، من قولهم- ضل السمن في الطعام- أي اختلط به، {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أإنا لنعود بعد تلك الحال إلى حالتنا السابقة، استبعادًا منهم لذلك الأمر، وهذا الاستبعاد الذي يعبرون عنه، هو بالنسبة لقدرهم العاجزة، إذ قصرت عقولهم فظنوا أن قدرة الخالق كقدرهم كما قال تعالى حكاية عنهم {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَه..} (يس آية 78) .
- وضارب المثل بعضهم لكنهم متفقون على ذلك- فسبب الإنكار المستند إلى شبهة الاستبعاد ناشئ عن نسيان الخلق الأول، ولذا فالمولى عز وجل يذكرهم بتلك النشأة قال تعالى حكاية عنهم {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (مريم آية 66- 67) .
ولو أنهم التفتوا إلى مبدأ خلقهم لعلموا أن القدرة التي أنشأتهم أولا لا يعجزها إعادتهم ثانيا.(23/254)
ولما كان استبعادهم لإعادتهم للحياة مرة أخرى بعدما شاهدوا من الأدلة لا مكان له، أتبعه بالإخبار القاطع بوقوعها فقال: (قل) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قل يا محمد مخبرا ومنذرا منكري البعث {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} فهو إخبار قاطع بتلك الإعادة مستند إلى الدليل السابق، وهو النشأة الأولى، مؤكد بتلك الحالة التي يكونون عليها بعد رجوعهم إلى ربهم، في حالة كونهم معترفين بذنبهم، طالبين الرجوع إلى الحياة الدنيا مرة أخرى. ليصلحوا أعمالهم، بعد أن رأوا الخبر اليقين. قال تعالى حاكيا تلك الحالة عنهم وما يقولونه {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قائلين {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} والله يعلم أنهم لكاذبون في دعواهم إصلاح أعمالهم إذا رجعوا للحياة مرة أخرى. قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الأنعام آية 37- 38) .
2- النموذج الثالث: من المسلك الثاني:
وفي مطلع سورة الرعد نموذج، يهز المشاعر ويستثير الوجدان، إذ يحتوى على آيات الله الكونية التي يعترف المخاطبون بأنها أنشئت بقدرة الله القوى العزيز يقول تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}(23/255)
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد الآيات من 2-5) .(23/256)
تبدأ الآيات الكريمة برسم المشاهد الكونية الدالة على القدرة الإلهية، السماء وما شملت من أفلاك، والأرض وما حوت من أنهار وجبال، وما أخرجت من ثمار، ثم التعجب من حال من ينكر البعث والحياة مرة أخرى بعد أن شاهد هذه الآيات المعروضة على العقول والأبصار، يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وهو إخبار منه تعالى عن كمال القدرة وعظيم السلطان، فبأمره رفع السموات عن الأرض، هذه السموات التي لا يحيط بها البصر إدراكا، ولا يعلم مقدار سعتها وعظمتها، إلا خالقها رفعها بأمره، ويمسكها بقدرته أن تزول، مستشهدا على ذلك برؤية المخاطبين لها مرفوعة بغير عمد تسندها، محكمة البناء لا شقوق فيها ولا تصدع، فنحن نكرر النظر إليها مرات ومرات، فترجع أبصارنا كآلة من غير أن تدرك شيئا مخلا، في هذا البناء الهائل والسقف المرفوع، وإنما تدرك فيه الإبداع والاتقان المنبئين عن الحكمة والتدبير {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، والعرش من الأمور المغيبة عنا، والله هو وحده العالم بسعته وعظمته وقد استوى عليه استواء يليق بجلاله كما أخبر. وتنقلنا الآيات من معهد السماء المرفوعة بغير عمد، إلى مشهد التسخير والتقدير {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} فقد خلقهما بقدرته وسخرهما بإرادته يجريان، دائبين لا يفتران، إلى أجلهما المسمى، وقد خص كلا منهما بخاصته فجعل الشمس سراجا وهاجا، وجعل القمر نورا، كلاهما ترتبط بها حياة الإنسان في نفسه، وفي جميع شئون حياته اليومية والشهرية والسنوية، أمور تلمس القلوب وتخاطب المشاعر بما يحسه الإنسان ويدركه كجزء من حياته.
{يُدَبِّرُ الأَمْرَ} كله، فله الخلق والأمر، فمن تدبيره: خلق السموات وحفظها، ومن تدبيره وتقديره: خلق الشمس والقمر، وتسخيرهما يجريان إلى أجلهما المسمى.(23/257)
{يُفَصِّلُ الآياتِ} الكونية المشاهدة الدالة على عظيم القدرة ونفاذها، والآيات الدينية المبينة للطريق السوي الذي يلزم المكلف سلوكه والحقائق الغيبية التي لابد من الإيمان بها، واعتقادها، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} .
{لَعَلَّكُمْ} حين رؤيتكم لآياته الكونية المفصلة، وإدراككم لما فيها من إتقان وإحكام، دالين على قدرة من فصلها وبينها {تُوقِنُونَ} بأن وراء هذا التدبير المحكم مدبرا حكيما، وأن لهذا التفصيل والتوضيح مفصلا عليما حكيما لا بد من لقائه، في الحياة الأخرى. لمجازاتكم على أعمالكم، فذلك اللقاء، وتلك المجازاة، مما يوحي به ذلك التدبير والتفصيل، فالخلق يكون عبثا إن لم تكن هناك مجازاة على الإحسان والإساءة، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .
تلك مشاهد العلو الكونية، عرضت على المخاطبين، ذلك العرض الموحى بالقدرة المبدعة من ورائها، ليأخذ منها الإنسان المنكر للبعث، أن خالقها، وحافظها، قادر على إعادته بعد موته.
ثم تأخذ الآيات القرآنية بيد المخاطب، إلى هذه الأرض التي يعيش عليها، قائلة، إذا لم تكتف أيها المرتاب في قدرة خالقك، بما تشاهده ببصرك من فوقك، فالتفت إلى ما تحت قدميك، وما هو مبسوط أمام عينيك، من هذه الأرض التي مدت، فوسعت، وأرسيت فاستقرت، وشقت بالأنهار الجارية. وأنبتت من كل الثمرات. ثم تعاقب الليل والنهار المستمر لما فيه سعادتك وقوام حياتك، كل هذه آيات تدعو الإنسان للتفكير فيها وفيما توحي به.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} المتقدم ذكره من رفع السماء بلا عمد وتسخير الشمس والقمر، وخلق الأرض، ومدها وحفظها وشق أنهارها، واخرج زروعها وثمارها، {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وتمضى الآيات القرآنية، في توضيحها لآيات الله الكونية، فبعد عرضها الإجمالي لما تنبته الأرض، من أزواج الثمار المختلفة.(23/258)
تعود إلى توضيح جزئية منها، لتضع المنكر للبعث أمام القدرة الإلهية، تلك الجزئية التي يشاهدها الإنسان ببصره، ويمارس عمليتها بيده، ويتذوق ثمارها بفمه، فهو دليل تبصره العين، وتلمسه اليد، ويذوقه الفم، فأي دليل أقرب وأمس بحياة الإنسان، من هذا الدليل الذي يلمسه الإنسان بنفسه، فيقول تعالى موضعا ذلك: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} بعضها لاصق في بعض لا يفصل بينهما جنس غريب من غير جنسهما، {وَجَنَّاتٌ} تحمل أنواعا من الأشجار المختلفة، ففيها الأعناب، والزروع، والنخيل الصنوان وغير الصنوان، هذه الأنواع كلها {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} إما من السماء كماء المطر- أو المستخرج من الأرض، كماء الآبار، والعيون وتنبت في تربة واحدة، وصلة الأحوال الطبيعية بها، كالحرارة والبرودة واحدة، ومع ذلك، تأتي ثمارها مختلفة الطعوم، وألوانها مختلفة الأشكال، فمن أين جاء لها ذلك الاختلاف في اللون والشكل، وتفضيل بعضها على بعض في الطعم والذوق، مع أن كل الأسباب الظاهرة واحدة؟؟.
ليس من الجواب على هذا السؤال، إلا أن ذلك من فعل الخالق العليم، والمدبر الحكيم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لآيات، أي دلالات واضحات على كمال القدرة المبدعة، لمن أعمل فكره وعقله، في مخلوقات الله تعالى.(23/259)
هذه الآيات الكونية، العلوية منها والسفلية، تهدي المتفكر فيها، المستعمل لعقله الفطري، الذي فطره عليه خالقه، على أنها قد أوجدت، وأحكمت، ونظمت بتدبير حكيم عليم قادر، تقتضي حكمته رجوع الخلائق إليه، وملاقاتهم له، وتدل دلالة واضحة على أن من طلب دليلا غير هذه الأدلة، على قدرة الله لإعادته للحياة مرة أخرى أنه ممن يعجب من قوله، ويستهزأ من طلبه، وهكذا نرى أن الله تبارك وتعالى، بعد أن عرض هذه الأدلة على المخاطبين المنكرين للبعث، وبعد أن اتضح الدليل لديهم بما لا يدع مجالا للشك في قدرة الخالق على إعادتهم، أورد قضية البعث معجبا رسوله صلى الله عليه وسلم من الجاحدين لقدرته تعالى، على إعادتهم خلقا جديدا، بعد أن تفتت أجسامهم فصارت ترابا، فيقول جل شأنه، {وَإِنْ تَعْجَبْ} يا محمد {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، ولم يكن هذا الإنكار الصادر منهم لعدم الدليل على البعث، وإنما كان بسبب كفرهم المتأصل في نفوسهم.
فاستحقوا أن يحكم الله عليهم، بعد أن أقام عليهم الحجة البالغة، بالأغلال في أعناقهم، والسلاسل يسحبون بها في النار المصاحبة لهم، المستمرة معهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فيخلدون فيها جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء آية 56) .
النموذج الرابع: من المسلك الثاني:
يقول تعالى في سورة الحج:(23/260)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . (الحج آية 5- 7) .
إن أسلوب القرآن في مخاطبة الناس لإقامة حججه وبراهينه لا يختص بفئة من الناس ذات صفات معينة، ذلك لأنه يخاطب الفطرة البشرية في عموم أفرادها. وكل فرد منهم يستطيع أن يأخذ من ذلك الخطاب الموجه بقدر ما أوتى من ذكاء وفطنة.
وهذه الآية الكريمة من سورة الحج تمثل هذا الأسلوب القرآني الواضح فهي تقوم على مقدمات صادقة، ترتبت عليها نتائج قطعية، مع ما تمتاز به من السهولة والوضوح في إدراك ما تضمنته من معان من غير كد ذهني أو إجهاد فكري، وذلك لبعدها عن أقيسة المناطقة وتعقيدات الفلاسفة.(23/261)
يقول تعالى موجِّها خطابه للناس جميعا، والمقصود الذين يتشككون في أمر البعث فيستبعدون وقوعه، بعد أن تفرقت الأجسام وتلاشت فذهبت في الأرض، وصارت ترابا، يقول لهؤلاء {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي في شك من قدرتنا على إعادة هذه الأجسام، المختلطة بالتراب، استبعادا لإمكان ذلك وشكا في وقوعه، فانظروا في بدء خلقكم الأول فإنا خلقناكم من تراب وذلك في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام ثم جعلنا خلقكم بعده في صورة أغرب ما خلق الإنسان من تراب، فقد خلقناكم من نطفة ماء، ثم أخذت تلك النطفة أطوارها المتعددة وصورها المختلفة، فقد كان هذا الإنسان الجاحد لإعادته مرة أخرى، نطفة ماء، ثم تحولت تلك النطفة إلى علقة أي دم جامد ثم تحولت إلى مضغة لحم، مخلقة، أي متبينة الخلق مصورة، وغير مخلقة لم يبين خلقها وصورتها، تلك أطوار النطفة التي تمر بها في رحلتها إلا أن تصبح جنينا يتحرك في ذلك القرار المكين {مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} قدرتنا على الخلق والإعادة، {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} من تلك النطف بعد تمام الخلق {مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وهو وقت الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالا تتنسمون الحياة، مزودين بجميع الوسائل اللازمة لمواجهة الحياة الجديدة على هذه الأرض من رئة يتنفس بها، ويسمع، ويبصر وأيد يبطش بها، وأرجل يمضي بها. الخ ما هنالك من صفات وأعضاء وضعها الخالق العظيم في الإنسان مما يدل دلالة قطعية على أن هذا الإنسان قد أعد إعداده هذا عن علم وحكمة، وبعد خروجه لهذه الحياة رباه خالقه بنعمه إلى أن أصبح شخصا قويا، {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} .(23/262)
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي فيخترم الله بالوفاة في أجله المعلوم من يشاء، ويعمر من يعمر منكم حتى يبلغ من العمر أرذله، فيرتد عقله وتصوراته ومشاعره إلى حالة الطفولة الأولى، فيجهل بعد العلم، ويضعف بعد القوة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، تماماً مثل يوم خلق وبرز وجوده لهذه الحياة طفلا. فالآية الكريمة تخاطب المنكر للبعث، قائلة له: إن من كانت هذه قدرته في خلقك وإنشائك، في حياتك الأولى، وفي أطوارها المتعددة التي مرت بها أيعجزها إحياؤك بعد موتك، وإعادتك بعد فنائك؟؟
كيف يكون ذلك وهو القادر على كل شيء وهو الخلاق العليم.
وبعد أن استكملت الآية الاستدلال بالعالم الإنساني في نشأته الأولى، وكيفية تنقله في أطوار خلقه المتعددة، أتبعه باستدلال آخر، يكثر ضربه في القرآن، استدلالاً به على البعث؛ ذلك هو احياء الأرض بعد موتها.
فقال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
فهمود الأرض عبارة عن يبسها، وإقفارها من النبات، بمنزلة الذات المسلوبة الحياة، فهي ميتة يابسة، لا نبات لها.
واهتزازها وربوها وتحركها بالنبات بعد نزول المطر عليها، بمنزلة الحياة تسرى في الموات، فتنبت من كل زوج بهيجا وذلك بمنزلة خروج الأموات من قبورهم.(23/263)
وبعد أن يتقرر الدليل ويتضح لدى المخاطبين بما لا يدع مجالا للشك في قبول النتيجة يورد القضية المستدل عليها فيقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فالله هو الموجود بذاته لذاته، ومن شأنه إحياء الموتى، فهو الذي خلق الموت والحياة. وهو القادر على الخلق بدءاً وإعادة، لأنه على كل شيء قدير {وَأَنَّ السَّاعَةَ} وهى موعد الحياة الثانية {آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} لوضوح دلائلها، ثم ختمت الآية بالنتيجة المطلوب، وهى القضية التي يرتاب فيها المنكرون للبعث، فقال تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} تلك القبور التي تحتوي على أجساد الموتى، التي تفتت، ورمت، واختلطت بغيرها. ذلك أن الله تعالى قادر على إعادتها، ليوفيها الحساب على عمدها في الحياة الدنيا.
المسلك الثالث: هو إخبار الله تعالى بوقع البعث من غير أن يذكر الدليل على ذلك.
ذكرنا في أول هذا المبحث، أن أعظم شبهة يستند إليها منكروا البعث، هي استبعادهم إعادة الأجسام إلى ما كانت عليه، بعد أن صارت ترابا، واختلط بعضها ببعض: وعرفنا مسلك القرآن الكريم لعلاج تلك الشبهة ودحضها في المسلكين السابقين. وهما: إما أن يورد الشبهة أولا ثم يبين بطلانها بالدليل.
وإما أن يذكر الدليل على البعث والإعادة أولا، وبعد وضوحه وتقريره يورد القضية وهناك مسلك ثالث سلكه القرآن الكريم في قضية البعث، وهو أنه يذكر رأي المنكرين للبعث من غير أن يذكر شبهتهم، بل يذكر دعواهم مجردة عن الدليل، ثم ينكر القرآن على هذه الدعوى بالرفض والإبطال، ويبين أن البعث واقع لا محالة، ويؤيد هذا الوقوع بالقسم منه جل وعلا، ولعله لم يذكر الدليل في هذه الآيات، بل طواه، نظرا لأنه ذكره أكثر من مرة في آيات متعددة، وليس بلازم أن يذكر الدليل عند كل مناسبة. فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً.(23/264)
وسأذكر هنا نماذج لهذا المسلك في القرآن الكريم
أولا: أقسام المنكرين للبعث بأن الله لا يبعث من يموت.
يقول تعالى في سورة النحل:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل الآيات من 37- 40) .
فالآية الأولى تصور لنا هذا الإنكار الشديد المؤكد بالأيمان المغلظة بأن الله لا يبعث من يموت أبدا، فنراهم يجزمون بعدم وقوع البعث. بعد الموت وينفونه نفيا قاطعا بلا شك عندهم ولا تردد، من غير أن يرد في كلامهم ما يتضمن شبهة لذلك النفي، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} .
ولعل هذا الإنكار الصادر منهم مستند إلى الشبهة الأولى، وهى شبهة استبعاد أن يعيد الله الموتى مرة ثانية ولكنها لم تذكر هنا لظهورها واستقرارها عند المنكرين.(23/265)
ولما كان قولهم هذا يتضمن الطعن في الحكمة الإلهية، ونسبة العبث إلى الله في خلقه العباد وتركهم سدي، إذ يقتضي ذلك التسوية بين المحسن والمسيء وبين الخير والشر، وهما لا يستويان عند الله، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية آية 31) وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} (غافر آية 58) وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} (السجدة آية 18) .
لذلك فقد رد الله عليهم شبهتهم هذه وأكد لهم أن البعث أمر محتم، لابد من وقوعه، فهو وعد عليه حقا، لابد من إنجازه، ذلك لأن الله تعالى قد وعد به، ووعده حق ثابت لابد من وقوعه، قال تعالى {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} .
وإنما كان البعث حقا وواقعا، لأن هذه الحياة الدنيا، ليست هي النهاية بل هي وسيلة إلى حياة أخرى، ومعبر يعبر عليه الإنسان إلى الحياة الباقية، كي يجازى فيها على ما عمله في هذه الحياة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم المنكرون للبعث لجهلهم بالله تعالى {لا يَعْلَمُونَ} ما يتضمنه البعث من العدل بين العباد.
تم بين لهم حكمته في المعاد، فقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ففي ذلك اليوم يظهر لكل مخالف في شيء (ما) الحق فيما خالف فيه، ويجازي فيه كل عامل على عمله، كما قال تعالى {… لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم آية 31) .(23/266)
{وَلِيَعْلَمَ} في ذلك اليوم {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله وكذبوا رسله فيما أخبروهم به من البعث والجزاء على الأعمال. {أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} في أيمانهم تلك التي أكدوا بها إنكارهم للبعث بعد الموت، وأن البعث واقع، والجزاء حق وعدل.
ثم أخبر تعالى عن قدرته على ذلك. وأنه لا يخرج على مشيئته وإرادته فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} في الأرض أو في السماء {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ومن ذلك المعاد، فإذا أراد الله وقوعه، فإنما يأمر به مرة واحدة؛ إذ لا يحتاج أمره بالشيء إلى تكرار، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقال مخبرا عن تلك القدرة {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَة} وقال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما
يقول له كن قولة فيكون [13]
ثانياً: نفيهم مجيء الساعة، وزعمهم عدم وقوع البعث:
يقول تعالى من سورة سبأ.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ آية 3- 3) .
ويقول تعالى من سورة التغابن:
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن آية 7) .(23/267)
يخبر تبارك وتعالى، عن إنكار الكفار للآخرة، ذلك الإنكار الناشئ عن عدم إدراكهم لحكمة الله تعالى وتقديره، فحكمته لا تترك الناس سدى، يحسن من شاء منهم أن يحسن، ويسيء من شاء ذلك، ثم لا يجازي أحداً منهم على عمله.
ولذلك فهم ينكرون مجيء الساعة التي وعد الله بمجيئها، والتى ينال فيها كل إنسان جزاء عمله، فيقولون: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ينفون مجيئها نفيا جازما بدون دليل، مع أن مجيء ساعة، ووقتها من الأمور الغيبية وهم لا يعلمون من الغيب شيئا.
فيرد الله عليهم إنكارهم هذا ردا مؤكدا جازما، فيأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على إتيانها ووقوعها قسما مؤكدا فيقولا: {قُلْ} يا محمد مخاطبا هؤلاء الجاحدين للساعة النافين لمجيئها {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} فهو إخبار مؤكد بوقوعها من عالم الغيب، وقد تبع ذلك بما لله عز وجل من صفة العلم المحيطة وشاملة لما في هذا الكون كله كبيره وصغيره {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ} أي لا يغيب {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} فمَن كان عمله محيطا بدقائق الأمور بحيث لا يخفى عليه شيء منها، كيف يعجزه إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه مرة أخرى؟؟.
ثم بين الحكمة من البعث وقيام الساعة فقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ} المؤمنون العاملون {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لما بدر منهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا من فيه ولا تعب.
كما يجازي الله الكافرين به والمكذبين لرسله الساعين للصد عن سبيله بالعذاب المهين {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} والرجز سوء العذاب كما قال قتادة [14] .(23/268)
وفي آية التغابن، يحكى الله تبارك وتعالى، إنكار الكفار للبعث بعد الموت وقد عبر عن ذلك الإنكار بالزعم، فقال {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} أي المنكرين منهم للبعث، والزعم يشعر بعدم التأكد والجزم من القائل بما يقوله لعدم علمه من أن قوله هذا يوافق الحق والصواب، ولذلك كان الزعم كنية الكذب، كما يقوله ابن عمر [15] رضي الله عنه.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يرد على ذلك الزعم الباطل، ويؤكد نفيه بالقسم بربه على تحقق البعث ووقوعه، ويبين لهم ما يترتب على ذلك البعث من جزاء وهو أنهم سينبؤون بما عملوا، ثم يجازون على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، قال تعالى: {قُلْ} يا محمد {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية {. .. قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ما نصه:
(هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم، على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
والثانية هذه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .
والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن آية 7) .
ثالثا: الإخبار بقيامهم من قبورهم:
يقول تعالى من سورة يس:(23/269)
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُون فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس الآيات من 31- 34) .
تصور لنا هذه الآيات هذا المشهد العظيم من مشاهد يوم القيامة، وذلك حين النفخ في الصور المؤذن بانتشار الناس من القبور {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} هي القبور {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} أي يمشون مسرعين كما قال تعالى: في سورة المعارج {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (المعارج آية 43) قائلين بعد خروجهم من قبورهم {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} أي من قبورنا، التي كنا نرقد فيها، ونعتقد أننا سوف لا نخرج منها أحياء مرة أخرى أبدا، فلما ظهر صدق ما كذبوا به، قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم قال الله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وهذا القول… الخ. إما حكاية عن المنكرين للبعث، إذ علموا عند المعاينة أن ما أخبرتهم به الرسل صدق وحق وإما من قول المؤمنين لهم ذلك، وهذا ما اختاره ابن جرير في تفسيره الآية [16] .(23/270)
ثم بين تعالى أن جَمْعَ الخلائق جميعا في ذلك اليوم من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية فما هي إلا صيحة واحدة توجه إليهم، فإذا هم في اللحظة محضرون عند خالقهم {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُون} كما قال تعالى {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر آية 50) . في ذلك اليوم يقام ميزان العدل بين العباد فلا تظلم نفس شيئا، وإنما تجازي على عملها الذي أسلفته في حياتها الدنيا، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا مسلك القرآن في إثبات البعث، وسنتبعه بآراء العلماء في ذلك لا للمقارنة، وإنما ليتبين للقارئ سهولة أسلوب القرآن الكريم في مخاطبته البشرية على اختلاف مستوياتهم، لقول القائل: فبضدها تتبين الأشياء.
آراء العلماء في البعث
سأتناول هذا الموضوع بالدراسة من ناحيتين:
الأولى: ذكر آراء العلماء في حقيقة البعث، هل هو جسماني فقط، أو روحاني فقط، أو روحاني وجسماني.
الثانية: بيان كيفية البعث (الإعادة) عند من يقول بإعادة الأجسام.
أولا: آراء العلماء في حقيقة البعث:
بعد أن عرضنا مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، وهو المقصود من هذا البحث، فقد رأينا من المناسب أن نذكر أقوال العلماء في هذا الموضوع باختصار، لنرى مدى موافقة هذه الأقوال، أو مخالفتها لما جاء في القرآن الكريم في موضع البعث، فأقول وبالله التوفيق: إن الأقوال الواردة في البعث، والمذكورة في كتب العقائد الإسلامية خمسة أقوال:
الأول: ثبوت المعاد الروحاني فقط.
الثاني: ثبوت المعاد الروحاني والجسماني.
الثالث: ثبوت المعاد الجسماني فقط.
الرابع: عدم ثبوت شيء من ذلك.
الخامس: التوقف في هذه الأقسام جميعا [17](23/271)
وأما القول الأول: وهو ثبوت المعاد الروحاني فقط، فهو قول الفلاسفة الإلهيين. وذلك لأن البعث عندهم، عبارة عن مفارقة النفس لبدنها. واتصالها بالعالم العقلي، الذي هو عالم المجردات. وسعادتها، وشقاوتها، إنما تكون بفضائلها النفسانية ورذائلها [18]
يقول ابن سينا في كتابه: الإشارات والتنبيهات، النمط الثامن:
(والعارفون المتنَزهون إذا وضع عنهم درن مقارفة البدن، وانفكوا عن الشواغل خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانشغلوا بالكمال الأعلى، وحصلت لهم اللذة العليا وقد عرفتها.
وأما البله فإنهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم، ولعلهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيلات لهم، ولا يمنع أن يكون ذلك جسما سماويا، أو ما يشبهه، ولعل ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المسعد الذي للعارفين) [19]
وأما القول الثاني: وهو ثبوت المعاد الروحاني والجسماني معاً، فهو قول منسوب إلى الحليمي، والغزالي. والراغب، وأبي زيد الدبوسى، ومعمر من قدماء المعتزلة، وجمهور من متأخري الإمامية، وكثير من الصوفية، فإنهم قالوا: إن الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة، وهى المكلف، والمطيع والعاصي، والمثاب، والمعاقب، والبدن يجري منها مجرى الآلة، والنفس باقية بعد فساد البدن. فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق، خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق به، ويتصرف فيه كما كان في الدنيا [20] .
وأما القول الثالث: وهو ثبوت المعاد الجسماني فقط، فهذا القول منسوب لأكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة وهو قول أهل السنة.
وأمّا القول الرابع: وهو إنكار المعاد الروحاني والجسماني جميعا، فهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين.(23/272)
والقول الخامس: وهو التوقف في هذه الأقسام كلها، فهو المنقول عن جالينوس، فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج، فينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها، أو هي جوهر باق بعد فساد البنية، فيمكن المعاد حينئذ.
هذه هي أقوال العلماء المحكية عنهم في حقيقة البعث، فما مدى موافقتها أو مخالفتها
لما جاء به القرآن الكريم في ذلك؟
نقول ومن الله التوفيق:
إن القول الرابع- وهو إنكار البعث مطلقا، والقول الخامس وهو الشك في وقوعه، فسنضرب صفحا عن الرد عليهما ومناقشتهما وذلك لأن مسلك القرآن الكريم الذي سبق أن عرضناه، فيه الكفاية، لدحض شبه المنكرين لإمكان البعث، والمتشككين في وقوعه، لأن إنكار البعث حلقة متصلة اعتنقها المكذبون لأنبيائهم من كل أمة كما قال تعالى حكاية عنهم، {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: آية 81- 83) .
فالشبهة واحدة ورد القرآن على طائفة واحدة، هو رد على كل طائفة منكرة للبعث، أو متشككة في وقوعه، فلو ناقشنا هذين القولين وبينا فسادهما، ووجه الرد عليهما، لاعتبر ذلك تكرار لما سبق وإنما الذي سنناقشه هنا، هي الأقوال الثلاثة الأخرى، القائلة بالبعث. فهى التي يمكن أن ننظر في مدى موافقتها، أو مخالفتها لما جاء به القرآن الكريم في موضوع البعث، وسنبدأ برأي الفلاسفة حسب ترتيبنا لهذه الأقوال.
أولا: رأي الفلاسفة:(23/273)
أما قول الفلاسفة الإلهيين إن البعث روحاني فقط، وإنكارهم للمعاد الجسماني فلا شك في مصادمته للنصوص الشرعية الواردة في الكتاب العزيز، والثابتة في السنة النبوية، فالمنكرون للبعث الذين رد عليهم القرآن الكريم، لم ينكروا إلا إعادة هذه الأجسام بعد استحالتها ترابا. وأوردوا شبههم استبعادا لتلك الإعادة، فرد عليهم القرآن الكريم وبين لهم زيف شبهتهم، ووضح أن الإعادة ممكنة.
ثم إن كلامهم هذا يتضمن إنكار كل شيء محسوس، كالجنة والنار، والصراط والميزان. وكل الحقائق الأخروية التي أخبر الشارع عنها، ولذلك كفّرهم العلماء.
وأمما قول القائلين: بأن المعاد روحاني وجسماني فإنه مبنى على القول بأن الروح جوهر مجرد ليس بجسم، ولا قوة حالة بالجسم، وإنما تتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف، وأنها لا تفنى بفناء البدن، وعليه فالمعاد شيئان، جسم- وروح تعاد إليه. ولكن هل الجسم المعاد هو عين الأول أو غيره؟
الكلام الذي نقلناه عن شرح المواقف والذي نسبه إلى الحليمي. والراغب والغزالي وآخرين يوحي بأن الجسم المعاد غير الأول، نأخذ ذلك من قوله حكاية عنهم، أو نسبة إليهم: "فإذا أراد الله تعالى حصر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق ويتصرف فيه كما كان في الدنيا".(23/274)
وهذا القول -وإن كانت نسبته لا تصح إلى الإمام الغزالي، كما يأتي توضيح ذلك. ولا نعلم مدى صحة نسبته إلى الآخرين لعدم المراجع المتوفرة بأيدينا حاليا-. فإنه قول قد قيل ومتداول في كتب العقائد، ولذلك فإننا سنبحث الموضوع من حيث هو؛ لنبين مدى موافقته أو مخالفته لما جاء به القرآن الكريم، بغض النظر عن نسبته إلى قائله، فنقول وبالله التوفيق: إن مشكلة البعث التي عالجها القرآن بطرقه المختلفة، مع المنكرين له المستبعدين لوقوعه. هي إعادة هذه الأجسام بعينها مرة أخرى بعد أن أصبحت عظاما بالية مفتتة مختلطة اختلاطا كليا بأجزاء الأرض، كما قال تعالى حكاية عنهم:
(1) {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . (ق: آية 3) .
(3) {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . (السجدة: 10)
(3) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سبأ: آية 7) .(23/275)
فالآيات تحكى أقوالهم الصادرة منهم في إنكارهم للبعث، وإعادة الحياة بعد الموت مرة أخرى لهذه الأجسام المتفتتة، فلم تتسع عقولهم ومداركهم، لإعادة هذه العظام خلقا جديدا، بعد أن صارت ترابا، فمنهم من لم ينكروا على الله عز وجل قدرته على إيجاد خلق جديد وإنشاؤه لأنهم يعلمون أنه خالق السموات والأرض، وخالقهم وهم يشاهدون مخلوقاته تحدث باستمرار أمام أعينهم، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . فالخلق والإيجاد مستمر، وإنما أنكروا الإعادة لعظام تفتت، كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} . وقد أشرنا في سبب نزولها، أن أبي بن خلف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار".
هذا ما أنكروه على الرسول صلى الله عليه وسلم واستبعدوا وقوعه، حينما دعاهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء في اليوم الآخر، ولذلك فقد ردّ الله على شبههم تلك- فقال ردا على قولهم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
وقال تعالى ردا على قولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} .(23/276)
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَه بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: آية 3، 4) ، وقال تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: آية 706) وفي القبور تلك العظام المفتتة، فهو القادر على إعادتها ومما يؤكد ذلك ويزيده وضوحا، من أن المعاد هو عين الأول، لا مثله، قوله تعالى.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: آية 19- 33) .(23/277)
فهذه الآيات تدل صراحة على أن أعضاء الإنسان، وجوارحه التي كانت في الدنيا هي نفس التي تبعث، فتشهد عليه يوم القيامة بما اقترف من سيئات متسترا عن أعين الناس، ظنا منه أن الله لا يعلم عمله ذلك. ولم يدر بخلده أن أعضاءه ستشهد عليه يوم القيامة، بكل ما اقترف في الحياة الدنيا، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُم} . ومن رحمة الله وعدله أن لا يؤاخذ عباده، إلا ببينة تشهد عليهم بما عملوا وإن كان هو يعلم السر وأخفى. ولذا فقد جعل مع كل إنسان من يدون عليه حركاته وسكناته، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: آية 18) .
وقال الله تعالى: {كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار: آية 11- 13) .
وشرط الشهادة، أن يكون الشاهد حاضرا ومطلعا على ما يشهد به؛ فدلا ذلك على أن هذه الأعضاء التي تشهد على الإنسان، هي الأعضاء الموجودة في الدنيا حين اقترف تلك الجريمة. لا أعضاء جديدة وجدت، إلا لقالب صاحبها، لخالقه: إن هذه الأعضاء لم تكن حاضرة معي في الدنيا حتى تشهد علي.
أما نسبة القول -بخلق أجسام جديدة غير التي كانت في الدنيا- إلى من أشار إليهم شارح المواقف، ومنهم الغزالي، فالذي يبدو إن نسبة هذا القول للغزالي خطأ. ذلك أن قوله صريح في أن المعاد هو عين الأول لا مثله، وما نقل عنه من القول بإعادة بدن جديد تتعلق به الروح كما هو مذكور في كتابه: تهافت الفلاسفة- فقد صرح في كتابه- الاقتصاد في الاعتقاد- أن ذلك على سبيل الإلزام منه للفلاسفة بما يعتقدون. ولا أنه هو المذهب الحق الذي يعتقده، ولكون الغزالي متهما في هذه المسألة حتى من أتباعه. فسننقل عنه ما ذكره في كتابه المشار إليه -وإن طال لبيان الحقيقة- يقوله تحت فصل- في باب قضاء العقل بما جاء الشرع به من الحشر النشر:(23/278)
(أما الحشر فيعنى به إعادة الخلق. وقد دلت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء فإن الإعادة خلق ثان، ولا فرق بينه وبين الابتداء وإنما يسمى الإعادة بالإضافة إلى الابتداء السابق، والقادر على الإنشاء والابتداء قادر على الإعادة، وهو المعنى بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإن قيل فما تقولون؟ أتعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا. أو تعدم الأعراض دون الجواهر، وإنما تعاد الأعراض.
قلنا كل ذلك ممكن وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وأحد الوجهين أن تعدم الأعراض ويبقى جسم الإنسان متصورا بصورة التراب -مثلا- فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والتركيب والهيئة وجملة من الأعراض، ويكون معنى إعادتها أن تعاد إليها تلك الأعراض بعينها أو تعاد إليها أمثالها، فإن العرض عندنا لا يبقى، والحياة عرض، والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر، والإنسان هو ذلك الإنسان باعتبار جسمها فإنه واحد، لا باعتبار أعراضها فإن كل عرض يتجدد هو غير الآخرة، فليس من شرط الإعادة فرض إعادة الأعراض، وإنما ذكرنا هذا المصير بعض الأصحاب إلى استحالة إعادة الأعراض. وذلك باطل: ولكن القول في إبطاله يطول.
والوجه الآخر: أن تعدم الأجسام أيضا، ثم تعاد الأجسام بأن تخترع مرة ثانية، فإن قيل فبم يتميز المعاد عن مثل الأول؟ وما معنى قولكم إن المعاد هو عين الأول، ولم يبق للمعدوم عين حتى تعاد؟؟(23/279)
قلنا المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له وجود، وإلى ما لم يسبق له وجود. كما أن العدم في الأزل ينقسم إلى ما سيكون له وجود، وإلى ما علم الله تعالى أنه لا يوجد، فهذا الانقسام في علم الله لا سبيل إلى إنكاره، والعلم شامل والقدرة واسعة، فمعنى الإعادة أن نبدل بالوجود العدم الذي سبق له وجود، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود. فهذا معنى الإعادة، ومهما قدر الجسم باقيا ورد الأمر إلى تجديد أعراض تماثل الأول حصل تصديق الشرع، ووقع الخلاص عن أشكال الإعادة، وتمييز المعاد عن المثل. وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتابنا التهافت، ومسلكنا في أبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحيز عندهم. وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الإنسان أو غيره، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده. فإن ذلك الكتاب مصنف لإ بطال مذهبهم، لا لإثبات المذهب الحق) [21] . وقد أشار إلى هذا المعنى في كتاب الأحياء ج 4 ص 213.
وأما القول الثالث: وهو أن المعاد جسماني، فقط، فهو مبنى على القول بأن الروح جسم لطيف سار في البدن. فالمعاد وهو كلّ من الروح والبدن جسم، فيكون المعاد جسمانيا فقط. ودليل أن الروح جسم قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر". وفي رواية أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا: بلى. قال: فذلك حين يتبع بصره [22] نفسه"وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (الفجر: آية 29) .
فدل ذلك على أن الروح جسم يرى بالعين. كما أن الدخول في الأبدان ينافى التجرد، لأن المجرد يكون داخلا في البدن- لا بكونه جزء منه ولا قوة حالة فيه، وإنما هو عبارة عما ليس بجسم، ولا قوة حالة بالجسم، بل المجرد لا مكاني فلا يقبل إشارة حسية) [23](23/280)
وهذا القول الذي هو إعادة الجسم بعينه، ثم حلول الروح فيه، هو الذي دل عليه القرآن، وبين أنه واقع لا محالة، وذلك لأنه هو الذي استبعد المنكرون للبعث إمكانه.
الناحية الثانية: هل الإعادة عند القائلين بإعادة الجسم، عن عدم محض، أو عن تفريق؟
للعلماء في كيفية الإعادة بعد الموت مذهبان:
المذهب الأول: أن تنعدم أجزاء البدن انعداما كليا بحيث لا يبقى لها أثر أصلا، ثم أن الله تبارك وتعالى يعيد تلك الأجزاء بعينها بعد فنائها، ويوجدها إيجادا ثانيا، كما كانت أولا، ذلك أن الإيجاد الثاني للبدن بعد عدمه الطارئ عليه، كالإيجاد الأول، من حيث أنه ليس ممتنعا لذاته، ولا لشيء من لوازم ذاته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} . فالموجود ثانيا، هو الموجود أولا أعيد بعينه، على وفق علمه تعالى، فهو بكل خلق عليم، وقد استدل القائلون بهذا الرأي بآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} .
وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} .
على معنى إنما الهلاك والفناء- إعدام عين الشيء وزواله، لا تغير صورته التي كان عينها في الدنيا إلى صورة أخرى مباينة لتلك الصورة.
المذهب الثاني: أن الأجزاء التي يتألف منها البدن، لا تنعدم، وإنما تتفرق فتكون متصورة بصورة التراب مثلا، وإنما الذي يزول عنها الحياة واللون، والهيئة والتركيب.
فإذا جاء يوم المعاد، جمع الله سبحانه وتعالى بقدرته تلك الأجزاء، المتفرقة وألفها تم أعادها كما كانت في الدنيا وذلك أن الأجزاء قابلة للجمع، والله سبحانه وتعالى عالم بجميع الأجزاء لأي بدن من الأبدان. لعموم علمه وإحاطته بكل شيء علما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} وقال تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [24] .(23/281)
وقد استدل القائلون بهذا.. القول من القرآن الكريم بقصة إبراهيم عليه السلام، في إحياء الطير إذ كان جمعا لأجزائها بعد تفرقها. فإن إبراهيم عليه السلام قطع تلك الطيور أجزاء، كما أمره الله تباَرك وتعالى، وخلط بعضها مع بعض، ثم فرقها على رؤوس الجبال المجاورة له، ثم دعاها، فاجتمع كل جزء إلى الجزء الآخر وتألفت تلك الأجزاء طيورا، كما كانت أولا، ثم جاءته حية تسعى.
موقف القرآن:
إذا نظرنا في كتاب الله الكريم، نجد آيات كثيرة تدل على القول بتفرق الأبدان ثم إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها، فمن تلك الآيات قصة إبراهيم عليه السلام في إحياء الطير السابق ذكرها ونص الآية كما يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: آية 360) فدلت الآية على أن إحياء هذه الطيور وإعادة أجسامها كان بجمع أجزائها المتفرقة، وضم بعضها إلى بعض فإن واهب الحياة أمر إبراهيم أن يدعو تلك الطيور. فاجتمع كل جزء مع الجزء الآخر، ثم جاءته حية تسعى.
ثانيا: قصة الرجل الذي مر على القرية الخاوية على عروشها، وقد استبعد إعادتها إلى ما كانت عليه بعد مشاهدته لما حل بها إذ قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . وقد أراه الله تعالى آياته الدالة على قدرته رؤية عيان ومشاهدة، فأماته مائة عام ثم بعثه، وأراه كيف يجمع العظام بعضها إلى بعض وهى أجزاء حماره المتفرقة عنه يمينا وشمالا، ثم كسوتها لحما بعد اجتماعها، وإعادة الحياة إليها، يقول تعالى مخبرا عن تلك الواقعة.(23/282)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: آية 359) .
وهناك آيات تحكى عن المنكرين للبعث، وصفهم للحالة التي يصيرون إليها. كتمزق أبدانهم قطعا. وتحلل أجزائها واختلاطها بأجزاء الأرض. وصيرورتهم عظاما مفتتة، وأخرى تصف تصورهم بصورة التراب.
ومن تلك الآيات قوله تعالى:
1- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سبأ: آية 7) .
3- {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} (السجدة: آية 10) .
3- {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: آية 78) .
4- {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: آية 3) .(23/283)
فهذه الآيات جميعا تحكي عن الجاحدين استبعادهم لإعادتهم بعد تفرق أبدانهم وتحولها عن هيئتها وتركيبها، وزوال صورتها الأصلية البشرية إلى الحالة التي وصلت إليها، إذ أصبحت أجزاء مختلطة بغيرها. وأبلغ تغير هو تحولها إلى صورة التراب بحيث لا يستطيع الإنسان تميز أجزائها من أجزائه، وليس في هذا دليل على الإعدام النهائي المطلق، وإنما هو دليل على التغير الكامل. لأنهم صاروا ترابا والتراب شيء موجود. وهو أصلهم الذي أنشئوا منه. ثم أُعيدوا إليه. وأخيرا يخرجون منه تارة أخرى، يقول تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: آية 55) .
وهناك آيات أخرى هي نص صريح في موضوع الجمع، من الله تبارك وتعالى، يقول تعالى في سورة الحج. بعد ذكره دليل الإعادة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .
ومعلوم أن الذي في القبور أجزاء الموتى بعد أن تفتت، واختلطت بأجزاء الأرض فالله قادر على تمييزها. ثم تأليفها إعادتها إلى حالتها الأولى.
وفي سورة القيامة آيتان صريحتان في جمع أجزاء الإنسان المتفرقة. بل إنهما أقوى دليل على ذلك وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية. يقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة آية 3) .(23/284)
فقد صرحت الآية بجمع عظام الإنسان المتفرقة، كما نصت على تسمية بنانه، وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر، إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فقد ثبت علميا اختلاف بصمات أفراد البشرية في هذا العالم كله- أي اختلاف بنانهم.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى (أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخر ى.
وبالتالي فالآية نص صريح في جمع الأجزاء المتفرقة حتى أصغر جزء منها، ودليل على أن بدن الإنسان يتفرق ولا ينعدم.
الراجح من القولين:
وبعد عرض هذه الآيات من القرآن الكريم، يتبين لنا أن الأولى بالترجيح هو القول بتفرق بدن الإنسان، لا إعدامه، ذلك التفرق الذي تذهب معه الصورة الأصلية لأجزاء بدن الإنسان وتتغير تغيرا كليا، بحيث تصبح متصورة بصورة التراب، وهذا ليس معناه عدما فإن التراب موجود، وهو أصل مادة الإنسان فمنه وجد وإليه يعاد ومنه يخرج مرة أخرى. قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: الآية 55) إلا ما نصت السنة الصحيحة على بقائه بعينه، وعدم تحوله عن صورته.(23/285)
أولا: عجب الذنب: الذي منه يركب خلق الإنسان، فقد ثبت في الصحيحين بقاؤه بعينه، وأن الأرض لا تأكله أبدا. ففي صحيح البخاري. عن أبى هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون. قالوا: أربعون يوما؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة.؟ قال: أبيت. ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحدا وهو عجب الذنب. ومنه يركب الخلق يوم القيامة" [25] .
وفي رواية مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الإنسان عظم لا تأكله الأرض أبدا. فيه يركب يوم القيامة. قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول الله. قال: عجب الذنب" [26] .
ثانيا:- أجساد الأنبياء فقد حرم الله على الأرضي أن تأكلها.
فقد روى النسائي وأبو داود من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي يقولون قد بليت. قال: إن الله عز وجل. قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام" [27] .
ويقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة ما ملخصه:(23/286)
((ما خلقه الله سبحانه وتعالى فقد أوجده لحكمة في إيجاده، فإذا اقتضت حكمته إعدامه جملة واحدة، أو تغييره وتحويله من صورة إلى صورة، بدله وغيره وحوله، ولم يعدمه جملة، قال: ومن فهم هذا فهم مسألة المعاد، وما جاءت به الرسل فيه، فإن القرآن والسنة، إنما دَلاَّ على تغيير العالم وتحويله وتبديله لا جعله عدما محضا وإعدامه بالكلية، فدل على تبديل الأرض غير الأرض والسموات، وعلى تشقق السماء وانفطارها وتكوير الشمس، وانتشار الكواكب، وسجر البحار، وإنزال المطر على أجزاء بنى آدم المختلطة بالتراب، فينبتون كما ينبت النبات، وترد تلك الأرواح بعينها، إلى تلك الأجساد التي أحيلت، ثم أنشئت نشأة أخرى ... فهذا هو الذي أخبر به القرآن والسنة، ولا سبيل لأحد من الملاحدة الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد الذي جاءت به الرسل بحرف واحد.
وإنما اعتراضاتهم على المعاد الذي عليه طائفة من المتكلمين أن الرسل جاؤوا به، وهو أن الله يعدم أجزاء العالم العلوي والسفلي كلها فيجعلها عدما محقا، ثم يعيد ذلك العدم وجودا، ويا ليت شعري أين في القرآن والسنة أن الله يعدم ذرات العالم وأجزاءه جملة ثم يقلب ذلك العدم وجودا.
وهذا هو المعاد الذي أنكره الفلاسفة، ورمته بأنواع الاعتراضات، وضروب الالزمات، واحتاج المتكلمون إلى تعسف الجواب وتقريره بأنواع المكابرات، وأما المعاد الذي أخبرت به الرسل، فبريء من ذلك كله، مصون عنه لا مطمع لعقل في الاعتراض عليه، لا يقدح فيه شبهة واحدة وقد أخبر سبحانه أنه يحيي العظام بعد ما صارت رميماً، وأنه قد علم ما تنقص الأرض من لحوم بنى آدم وعظامهم، فيرد ذلك إليهم عند النشأة الثانية، وأنه ينشئ تلك الأجساد بعينها بعدما بليت نشأة أخرى، ويرد إليها تلك الأرواح ... الخ [28] .(23/287)
وإذا كنا رجحنا القول بأن الإعادة عن تفريق، لاعن عدم محض، وأن الله عز وجل يفرق أجزاء الأجسام، ثم يعيدها، فما هو الجواب على ما استدل به القائلون بانعدام الأبدان، من قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: آية 88) . وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: آية 26) .
يرى القائلون بتفرق الأبدان أن الاستدلال بهاتين الآيتين على انعدام الأبدان كلية ضعيف. ذلك أن التفريق هلاك كالإعدام، لأن هلاك الشيء هو خروجه عن صفاته التي كان عليها وزوال التأليف والتركيب الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم به منافعها ومثل الهلاك الفناء عرفا، فإن البدن إذا تغير بحيث أصبح ترابا، فقد صار في حكم المعدوم من حيث تغير صورته، وكل ما يمتاز به من مقوماته، وقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} إنه إخبار من الله تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون، أجمعون. وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم فإن الرب تعالى. هو الحي الذي لا يموت. قال: وهذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [29] فعلى هذا التفسير يتضح أن المقصود من الآيتين هو موت الأحياء جميعا، وتغير صورهم، بل وصور الأشياء جميعا، كما تقدم توضيحه في كلام ابن القيم.
والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام ص 126ج 6.
[2] ابن كثير، التفسير ج212.
3]] محمد بن إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التفسير باب ونفخ في الصور ... رقم الحديث 4814 من فتح الباري ج 8 ص 551.
وقول أبو هريرة ((أبيت)) معناه أبيت أن أجزم بأن المراد أربعون يوما ... الخ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة وذلك الذي سمعت.(23/288)
وقد روى الحديث الإمام مسلم في صحيحه في/كتاب الفتن/باب 28 ما بين النفختين/رقم الحديث 141 ج4 ص227 ترقيم عبد الباقي وفيه ((ثم ينزل الله من السماء فينبتون كما ينبت البقل)) وبهذه الزيادة رواه البخاري أيضا في كتاب التفسير/باب يوم ينفخ في الصور ج8 ص689 في فتح الباري رقم الحديث 4935.
[4] جاء ذلك في حديث أبي سعيد عند الحاكم وأبي يعلى قيل يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال "مثل حبة خردل"والعجب بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة ويقال له ((عجم)) بالميم أيضا عوض الباء وهو: عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان في رأس الذنب من ذوات الأربع فتح الباري ج8 ص552.
[5] مسلم صحيح مسلم /كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب ما بين النفختين رقم الحديث 143ج4ص2271 ترقيم عبد الباقي.
[6] ابن كثير، التفسير، ص222.
[7] محمد بن جرير الطبري، التفسير ج 23ص 31.30. الطبعة الثانية سنة 1373هـ وابن كثير التفسير ج3 ص 581، 1954مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
[8] الفخر الرازي التفسير الكبير ج 26 ص109 الطبعة الثانية الناشر دار الكتب العلمية طهران.
[9] قوله قال كلمة فسرها بقوله: أعطاه الله مالا وولدا أي الكلمة التي قالها قبل ذكر القصة.
[10] لم يبتئر فسره قتادة لم يدخر.
[11] محمد إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التوحيد/باب 35 قول الله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله} من فتح الباري ج13 ص466-467 رقم الحديث 7508 ورواه في كتاب الرقاق/باب 25 الخوف من الله/من فتح الباري ج11ص312،313 رقم الحديث 6481. رواه مسلم في كتاب التوبة/باب 4 في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه رقم الحديث 25. ورواه الإمام أحمد في سند ج5 ص269.
[1 2] ابن كثير التفسير ج3 ص582.
[13] ابن كثير: التفسير ج2 ص569
[14] أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي، التفسير ج 4ص242(23/289)
[15] ابن جرير الطبري، التفسير ج28ص121
[16] ابن جرير الطبري، التفسير. ج23ص17.
[17] الايجي شرح المواقف ج 8 ص 297، الطبعة الأولى سنة 1325هـ 1907م مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر
[18] الايجي، شرح المواقف ج 8 ص 297
[19] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، النمط الثامن ص 774-778 تحقيق د. سليمان دنيا/ملتزم الطبع والنشر دار المعارف بمصر 1960م
[20] الايجي، شرح الموافق جـ8 ص 297
[21] محمد أبي حامد الغزالي، كتاب الاقتصاد في الاعتقاد ص96.الطبعة الأولى سنة 1320هـ تصحيح مصطفى القباني الدمشقي.
[22] مسلم صحيح مسلم، كتاب الجنائز/باب/في إغماض الميت والدعاء له إذ حضر، و/باب/شخوص بصر الميت يتبع نفسه، رقم الحدثين 920،921.جـ 2ص 632،635. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
[23] كمال الدين محمد بن محمد بن أبي شرف القدسي، شرح المسايرة ص 23
[24] الايجي، شرح المواقف جـ8 ص 295،الغزالي، الاقتصاد في علم الاعتقاد ص96
[25] محمد بن إسماعيل البخاري.
[26] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب يوم ينفخ في صور فتأتون أفوجاً، رقم الحديث 4935،من فتح الباري جـ 8ص 689.690،ومسلم في كتاب الفتن/باب ما بين النفختين، رقم الحديث 141جـ 4ص2271 ترقيم عبد الباقي.
[27] النسائي، سنن المجتبي، كتاب الصلاة/فضل يوم الجمعة جـ3 ص 75الطبعة الأولى 1383هـ –1964.
قال المناوي في فيض القدير، قال الحاكم على شرط البخاري، انتهى، وليس كما قال الحافظ المنذري وغيره ليس له علة دقيقة أشار أليها البخاري وغيره وعقل عنها من صححه كالننوي في الرياض والأذكار جـ2 ص 535 رقم الحديث 2480
[28] ابن القيم، مفتاح دار السعادة جـ 2ص 53
[29] ابن كثير، التفسير جـ 4 ص372، 373(23/290)
مفهوم الأسماء والصفات
(الحلقة الخامسة)
سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
من الأسماء الحسنى التي ذكرتها في الحلقة الرابعة- إضافة لما ذكرت من أسماء- أسم (المولى- والولي) سبحانه وتعالى، وبينت بعضا من معاني اسم (المولى) . وأسلفت أنه ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة.
ثم بدأت في بيان بعض معاني اسم (الولي) سبحانه. وذكرت أنه ورد في القرآن الكريم ست عشرة مرة.
ومن ثم يكون عدد أسماء الله الحسنى التي سقتها في الحلقات الأربع الماضية إحدى وأربعين اسما، تكرر ذكرها في مواضع مختلفة من القرآن الكريم. فضلا عن السنة المشرفة مرات بلغت (3786) ستا وثمانين وسبع مائة وألفي مرة، وأعود فأؤكد ما سبق إلى تأكيده في الحلقات السابقة أن تكرار أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم بهذا الحشد الوفير له مفهومه ومغزاه، وهو أن هذه الأسماء لها من خطورة الأمر، وأهمية الذكر، ما يحتم على كل مسلم ضرورة معرفتها؛ ليعرف منها صفات الله جلى وعلا، ومن ثم يستطيع أن يعبد إلها يعرفه بأسمائه الحسنى وصفات كماله العلياء؛ فيستطيع توحيده، وتجريد العبادات له جميعا؛ لتتحقق لها شروط القبول لدى الله عز وجل.
وبالنظر إلى أن اسم (المولى) سبحانه لم يفرغ ما يسر الله إلى من بحث فيما يدور حول معانيه. فإنني أستعين بالله تعالى- بحوله وقوته- وأشرع في إتمام ذلك البحث فيما يلي:-
وورد اسم المولى كذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (الجاثية آية 19) .
وقد جاءت هذه الآية عقب قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية آية 18) .(23/291)
ومعنى الآيتين فيما يقوله الإمام ابن كثير: اتبع ما أنزل إليك من ربك يا محمد، وأعرض عن المشركين، فإنهم لا يغنون عنك بل ولا عن بعضهم شيئاً ولا يزيدون أنفسهم إلا خساراً ودماراً وهلكاً، والله ولى المتقين، أما الكفار فلا مولى لهم إلا الطواغيت الذين يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
ويقول الإمام الشوكاني: الشريعة في اللغة: المذهب، والملة، والمنهاج، ويقال: لمشرعة الماء وهي: مورد شاربيه شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالمراد بالشريعة هنا: هو ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع- أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق، فاعمل بأحكامها في أمتك، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم. فهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده الله إن اتبعت أهواءهم، إذ أن الظالمين أنصار ينصر بعضهم بعضا، والله ناصر المتقين وهو وليهم، لأنهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي [1] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: المعنى: شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي. فاتبعها فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح. ولا تتبع أهواء الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وكل من خالف هواه وإرادته شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من أهواء الذين لا يعلمون. فهؤلاء لا ينفعونك عند الله فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك الشر، إن اتبعتهم على أهوائهم، ولا يصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإياهم متباينون، ولذلك كان الظالمون بعضهم أولياء بعض. والله ولي المتقين يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته [2] .(23/292)
ويقول صاحب صفوة التفاسير: في معنى الآيتين: المعنى جعلنك يا محمد على طريقة واضحة. ومنهاج سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيم ولا تتَّبع ضلالات المشركين؛ أي: آراء الجهال التابعة للشهوات وهم رؤساء قريش حيث قالوا: ارجع إلى دين آبائك. فهم لن يدفعوا عنك شيئا من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم. وإن الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة، والله ولى المتقين أي ناصر ومعينٌ المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة [3] .
وأقول: إن أعظم شريعة، وأوسع شريعة، وأكمل شريعة عالجت كلّ جوانب الحياة في الدنيا والآخرة، والتي تولى الله سبحانه وتعالى تشريعها تفضلاً، ورحمةً، وهدايةً لأقوم طريق، وأنجى سبيل، خاتمةً للشرائع التي أنزلها الله تعالى إنما هي شريعة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. ومن ثم كان أمره تعالى إليه بقوله: {فَاتَّبِعْهَا} بمعنى أن يلتزمها ويأخذ بها نفسه. ثم يدعو إليها الناس جميعا، ليلتزموها ويأخذوا بها أنفسهم كذلك منهجا لكل نواحي حياتهم لينالوا فوز الدارين.
ومن ثم يبين لنا أنه لا نجاة للبشرية من حمأة الضلال، ودركات الفسق ووهدة الإلحاد، إلا باطّراح ما شرع البشر من قوانين صماء عمياء لا تبصر ما يصلح للإنسان، وما يهيئ له الحياة الطيبة، والانطلاق سريعا إلى اتباع الله تعالى الذي يعلم من خلق وما يُصلِحُ حياته، وهو اللطيف الخبير. ذلك بأن الله جل وعلا يتولى أمر المتقين الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله وقاية تقيهم عذابه فهو سبحانه وليهم، وناصرهم بالحق على الباطل وأعوانه، وأما الظالمون فقد وكلهم سبحانه إلى أنفسهم يتولى بعضهم أمر بعض، فضاعوا وخسروا في الدنيا والآخرة.(23/293)
وإنني حين تدبرت قوله تعالى: {فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} بما تحمله من إثبات ونفي: الإثبات بالأمر باتباع ما أوحاه الله سبحانه من شرع، والنفي بالنهى عن اتباع أهواء الجهال المارقين عن أمر الله، حين تدبرت ذلك جال بخاطري قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وما ماثلها من الآيات بما تحمله كذلك من نفى وإثبات: النفي بأن يُكفَر بالطواغيت أيا كان نوعها من البشر، وما يشرعون من مناهج هابطة، ومن الجبابرة منهم والطغاة، ومن الموتى وما يتوهم المتوهمون من تأثيرهم في حياة الخلق وتصريفها وتدبير أمرها. والإثبات بأن يُخلَص الإيمان بالله إلها واحدا، تُجَرَّد له الأعمال وحده جميعا.
فالنفي والإثبات في معنى (لا إله إلا الله) هو أساس الإيمان: نفى العبودية لغير الله سبحانه عبادة وتشريعا واثبات العبودية له سبحانه عبادة وتشريعا. وذلك على أساس الاعتقاد الجازم بأن الله هو وحده يتولى شأن كلّ من وحَّده، ويُصَرِّف أمره على أحسن وجه، ولهذا أمره تعالى بتوحيده ونهاه عن الإشراك به؛ لأنه سبيل إحباط كل عمل، كما أمره بإتباع شرعه وحده، ونهاه عن إتباع أي شرع يصدر عن غير الله الكبير المتعال؛ لأنه لا حياة طيبة للإنسان، ولا سعادة له، ولا فوز في الدارين إلا بإتباع منهج الله الذي ضمَّنهُ شرعه.
قالَ اللهُ تعَالى:(23/294)
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . (البقرة: من الآية256 - 257)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فتح القدير الجزء الخامس ص 8.بقليل تصرف.
[2] تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص144
[3] صفوة التفاسير المجلد الثالث ص 185(23/295)
البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي
الشيخ صالح سعد السحيمي
المدرس بكلية الحديث بالجامعة
السنة والبدعة:
إذا تبين ذلك فإنه قد يرد سؤال مفاده: ما هو الفارق والميزان الذي نميز به بين البدعة والسنة؟ لأن كل مبتدع يزعم أنه على السنة، بل يرى أن بدعته بعينها هي السنة فالجواب أن نقول: السنة في اللغة هي الطريق. ولا ريب في أن أهل النقل والأثر والمتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثار أصحابه هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث- وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
هذا هو مفهوم السنة عند السلف، بعبارة مختصرة، هي: الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
هذا هو المعنى الذي يعنينا في هذا المقام وهناك تعريفات أخرى للسنة عند المحدثين والأصوليين والفقهاء ليس من غرضنا التعرض لها هنا.
وأما تعريف البدعة فإني أنقل باختصار التعريف الذي أورده الإمام العلامة الشاطبي، رحمه الله تعالى في كتابه الاعتصام.(23/296)
وأصل مادة «بدع» للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مخترعهما من غير سابق متقدم، ويقال ابتدع فلان بدعة يعنى ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. ويربط الإمام الشاطبي بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي فيقول: ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة- فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، ثم يستمر بالتمهيد للتعريف ويذكر أقسام الحكم التكليفي الخمسة حتى يتوصل إلى أن من المنهيات ما يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفاً لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود، وتعيين الكيفيات، والتزام الهيئات المعينة، أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك.
وهذا هو الابتداع والبدعة، ويسمى فاعله مبتدعا، ومما تقدم يستنتج الشاطبي تعريف البدعة في الدين فيقول: «فالبدعة إذًا عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهى الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه» . ومعنى هذا التعريف -وهو جامع مانع-كما ترى. فالطريقة والسبيل والسنن ألفاظ مترادفة، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين لأن صاحبها يضيفها إليه. وخرج بذلك الطريقة المخترعة في الدنيا كالصناعات مثلا فإنها لا تسمى بدعة في الدين بهذا القيد وإن كانت مخترعة.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم إلى قسمين ... فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها.(23/297)
خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع في الدين، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع. وقوله في التعريف تضاهى الشرعية- يعنى أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة، على رأس تلك الأوجه اتهام الشريعة بالنقص وعدم الكمال، وهذا معلوم البطلان من الدين بالضرورة كما تقدم. وقوله (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة، والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى.
فأراد أن يسلكه بأي وجه، ولم يتبين له أن الشارع قد وضع لذلك حدودا وضوابط وقوانين لا يجوز أن يزاد فيها أو ينقص.
أمثلة من البدع الشائعة بين المسلمين:
إذا تبين الفرق بين السنة والبدعة من خلال التعريف، فإني أورد أمثلة للبدع التي عمت وطمت في أرجاء العالم الإسلامي، حتى أصبحت عند كثير من الناس سنة متبعة، في الوقت الذي تركت السنن، وهجرت تعاليم الإسلام. وسأذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، منها: نذر الصيام قائما لا يقعد أو ضاحيا لا يستظل، والانقطاع للعبادة وترك الكسب الحلال، وإقامة المآتم وقراءة القرآن فيها، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة؛ كالذكر على هيئة الاجتماع بصوت واحد.(23/298)
ومنها التزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة: كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته، والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج، وتخصيصه بعبادة معينة، علما بأن تاريخه قد اختلف في تحديده، وحتى لو عرف فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة، وغير ذلك من البدع التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين الذين كان لهم قصب السبق في الذب عن حياض الإسلام، والدفاع عن السنة المطهرة.
أصل بدعة المولد:
ولما كانت البدع كثيرة، يجل عنها الحصر، فإني سوف أقصر الكلام بإيجاز على بدعة خطيرة، ومحدثة عظيمة، تمس شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ألا وهى: بدعة الاحتفال بعيد مولده صلى الله عليه وسلم.
وإن المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل، بل ولا في القرون المفضلة، حتى جاءت الدولة الفاطمية، والتي انتسبت إلى فاطمة ظلما وعدوانا، بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي يقال لهم العبيديون، وهم أبناء ميمون بن ديصان المشهور بالقداح، قيل: إنّه يهودي، وقيل مجوسي، وقد استمرت دولتهم في مصر من (357- 467 هـ) وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبى طالب، وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا.
فهم أول من أحدث ذلك كما ذكر المقريزى وغيره. وظلت هذه البدعة يعمل بها حتى جاء (بدر الجمالي) الوزير الأول للخليفة الفاطمي (المستعلي بالله) ، وكان هذا الوزير شديد التمسك بالسنة، فأصدر أمرا بإلغاء هذه الموالد، وما أن مات (بدر الجمالي) حتى عادت البدعة من جديد.(23/299)
واستمر الأمر على هذا الحال حتى جاء عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان -أيضا- من المتمسكين بالسنة، فألغى هذه الاحتفالات، وتم تنفيذ هذا الإلغاء في كل أنحاء الدولة الأيوبية، ولم يخالف في ذلك إلا الملك المظفر الذي كان متزوجا من أخت صلاح الدين.
وقد ذكر المؤرخون أن احتفالات الملك المظفر بالمولد كان يحضرها المتصوفة، حيث يكون الاحتفال من الظهر إلى الفجر، وكان ما ينفق في هذا الاحتفال يزيد عن ثلاثمائة ألف دينار.
واستمرت بعد ذلك هذه الاحتفالات إلى يومنا هذا، بل توسعوا فيها حتى امتدت إلى الاحتفال بمولد كل عظيم في نظر العامة، إن كان من الملحدين، بحجة أنه من الأولياء. ولا يخفى على الجميع مدى المنكرات والموبقات التي ترتكب في أسواق الموالد، من شرب للخمر، ولعب للميسر، ورقص وغناء تؤديه النسوة في مجامع الرجال وغير ذلك من الكبائر، حتى أصبحت كلمة المولد يضرب بها المثل في كل المجالات، للفوضى والاستهتار، وأعظم من هذا كله اعتقاد هؤلاء الجهال أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، بل يزعم بعضهم أنه يصافحه وهذا من أعظّم الباطل، بل هو غاية الجهالة والضلالة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس- بل هو مُنْعم في قبره، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع".
ونحن لا نلوم العامة الذين يفعلون مثل هذه الأمور وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.(23/300)
ولكن اللوم يوجه إلى العلماء المنتسبين إلى العلم، أولئك الذين يعرفون طريق الحق ولكنهم يحيدون عنها، ولا يذكرون أن الاتباع أولى من الابتداع، ولكنهم يتجاهلون هذا الحق الذي لا يجادل فيه، فكيف يجهل هؤلاء أن حقيقة الحفاوة بذكرى مولد الرسول عليه السلام تتركز في اتباع ما جاء به، وإحياء سنته، وأن هذه الذكرى الطيبة ليست مؤقتة بزمن وليست محدده بشهر ربيع الأول، بل ينبغي أن نحييها ونحتفى بها في كل لحظة من لحظات حياتنا وفى كل بقعة حللنا بها، وذلك باتباع سنته والسير على نهجها وما أظن أن مسلما يجهل أن الاحتفال بفكرة ((المولد النبوي)) أو غير ذلك من الموالد فكرة مبتدعة جاءتنا متأخرة، وفيها تشبه باليهود والنصارى الذين لا يعرفون من الدين إلا الاحتفالات على رأس السنة بعيد ميلاد المسيح عليه السلام أو غيره، الذي دس عليهم وليس من دينهم- ونحن قد قلدناهم في هذا العمل كما قلدناهم في أمورٍ كثيرة. وهذا بلا شك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن". متفق عليه.(23/301)
وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أمته فقال لا تجعلوا قبري عيدا، والعيد اسم لكل ما يعود ويتكرر. أي: لا تخصصوا لقبري يوما بعينه، تعودونه فيه، فمن خصص يوما من السنة كالثاني عشر من ربيع الأول وقع تحت هذا التحذير، ونحن بهذا لا ننكر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إذا فعلت بالطريقة المشروعة، وبدون شدّ رحال أو تخصيص يوم أو شهر معين لأن شدّ الرحال من أجل العبادة خاص بالمساجد الثلاثة التي جاءت في الحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"والأعياد المعروفة في الإسلام ثلاثة أعياد فقط: عيد الفطر- وعيد الأضحى- وعيد الأسبوع الذي هو (يوم الجمعة) ، وما عدا ذلك من الأعياد المحدثة ما هو إلا ضرب من البدع الضالة التي قلدنا فيها أعداءنا. ولا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي حدت بنا إلى أن نبتدع ولا نتبع، وكيف تجتمع دعوى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخالفة أمره في النهى عن الإحداث في الدين (الضدان لا يجتمعان) على حد قول القائل:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب يطيع
وقد جعل الله تعالى ميزان محبته ودليلها هو إتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} . وبمنطوق الآية لا يعتبر محبا لله من خرج على الإتباع ولجأ إلى الابتداع، وما من شك في أنه يجب على كل مسلم أن يقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى على نفسه؛ فقد روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".(23/302)
لكن هذه المحبة يجب أن تكون في الإطار الصحيح الذي جعله الله فيه بعيدا عن الغلو والتفريط، فكأن أولئك الغلاة والمفرطين لم يسمعوا حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله". وأي غلو أعظم من قول القائل:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العممي
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
ترى ماذا ترك لله بعد أن جعل جميع الكون بما فيه علم اللوح والقلم من إيجاد البشر. إن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية عن هذا الإطراء، وحسبه فخرًا أن الله اختاره ليكون رحمة للعالمين، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وهذه المنزلة وإن كانت أشرف منزلة ينالها مخلوق إلاَّ أن ذلك لا يخرجه عن كونه بشرا تجرى عليه السنن الكونية التي تجرى على البشر، من الولادة، والحياة، والموت، وغير ذلك من سنن الله في البشر قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
إن هؤلاء الغلاة قد أساءوا كلّ الإساءة إلى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يلفقونه من الأحاديث الكاذبة والأخبار الزائفة التي تجعله في مصاف الآله، مما فتح ثغرة ينفذ منها أعداء الإسلام والمسلمين إلى السخرية من الإسلام والطعن في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.(23/303)
إننا نعتز كل الاعتزاز بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأنه سيد ولد آدم، ونعتز بتلك المعاني الحية، والمبادئ القيمة التي جاء بها من عند الله، لكن يجب أن لا يحملنا هذا الاعتزاز على الخروج عن حدود المنزلة الصحيحة التي شرفه الله بها. وأننا نتساءل ماذا سنقول بعد الثناء العطر الذي أثنى الله به عليه من نحو قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وماذا سنقول بعد أن نوه الله باسمه، ورسالته خمس مرات كل يوم كل ما رفع الأذان، وماذا سنقول بعد قول الله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وآيات وأحاديث كثيرة تتحدث عن سمو منزلته، لا يمكن حصرها في مثل هذه العجالة، وفى ما أوردناه غنية لمن تدبر وتأمل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام، تلك الشبهة التي يتعلق بها أرباب الموالد. ولا سيما مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فهمهم الخاطئ الذي ينطبق عليه قول الشاعر: وآفته من الفهم السقيمى ... وهو ما توهموه من الحديث الذي رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين، فقال صلى الله عليه وسلم "هو يوم ولدت فيه، وفيه أنزل علي" فقد تمسك هؤلاء بلفظة (يوم ولدت فيه) ثم عينوا هذا اليوم بالثاني عشر من ربيع الأول، وذلك تخصيص من عند أنفسهم. وهذا الاستدلال ظاهر البطلان لوجوه كثيرة منها:(23/304)
1- إن المطلوب في هذا اليوم أعني يوم الاثنين هو الصوم إقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. بينما نرى أصحاب تلك الموالد يخصصون ذلك اليوم الذي عينوه للأكل والشرب والطرب، فضلا عن ما أحدثوه من أذكار، وهتافات لا نجد لها برهانا ولا هدى ولا حجة صحيحة.
2- إن الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صوم يوم الاثنين من كل أسبوع دائما، ولم يقيد ذلك بسنة، أو بشهر، أو أسبوع بعينه، بينما هؤلاء يخصصون يوما واحدا في السنة هو: التاسع أو الثاني عشر من ربيع الأول على اختلاف بينهم. حتى وإن لم يوافق هذا اليوم يوم الاثنين. وبذلك يتضح وجه مخالفتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
2- إن صيام يوم الاثنين له خصوصية أخرى، إضافة إلى ما ذكر في هذا الحديث، وذلك أنه يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى، فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صومه كي تعرض أعمال العبد على ربه، وهو صائم، وذلك أحرى لقبولها، كما جاء ذلك في أكثر من حديث عنه صلى الله عليه وسلم.
فأي الفريقين أولى بالإتباع، وأقرب إلى الصواب؟ أهم أولئك الذين يصومون الاثنين من كل أسبوع. ويعيشون ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل لحظة من لحظات حياتهم بمتابعته والصلاة والسلام عليه كلما ذكر. أم أولئك الذين لا يعرفون ذكراه إلا يوما واحدا في السنة بلا هدى، ولا كتاب مبين {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
دفع توهم:(23/305)
وإذا كان القرآن والسنة النبوية، وما جاء عن سلف الأمة على رأسهم الصحابة قد دل على التحذير من البدع، وأن هذه الأمور التي ذكرناها آنفا بما فيها الاحتفال بالموالد دخيلة على الدين، فإن ثمة سؤالا مفاده ما هي الشُّبَه، والأدلة التي تشبث بها المبتلون بحب هذه البدع؟ والجواب على ذلك أن نقول: إن هذه الشُّبه لا تخرج عن أمرين -إما نصوص صحيحة يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويصرفونها عن معانيها الحقيقية، وإما أحاديث واهية أو موضوعة شحنوا بها كتبهم، ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا.
مثال ذلك حديث ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وحديث اختلاف أمتي رحمة، وحديث توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم، وغير ذلك من الأحاديث الملفقة، والتي تصدى لها علماء السنة بالبحث والتنقيب وبينوا عللها وخطورتها وما تنطوي عليه تلك الأحاديث المنكرة من المعاني الخطيرة، والدس الرخيص على الإسلام، وإتاحة الفرص لنيل الأعداء من الإسلام، ولكن الله قيض لهذه الأمة من طهر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الدخيل؛ وذلك بعلم الإسناد الذي لا شك أنه من أعظم ما ميز الله به هذه الأمة. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله (لولا الإسناد لقال في السنة من شاء ما شاء) .
ولما كانت هذه الأحاديث التي تعلقوا بها كثيرة، فإني لن أتوسع في سردها وإنما أحيل إلى كتب السنة، وما ألف في خدمتها ففيها غنية لمن رزقه الله العقل وحسن البصيرة، ولكن الذي سنلقي عليه الضوء بشيء من الكشف والبيان، هي تلك النصوص التي صرفوها عن ظاهرها، زاعمين أنها تؤيد ما أحدثوه من البدع. منها:(23/306)
أولا: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". فقد تمسكوا بلفظه "من سن في الإسلام سنة حسنة" وفرعوا على ذلك الفهم أن البدع قسمان بدعة حسنة وبدعة قبيحة، ففسروا السنة هنا بالبدعة وكأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من سن) أي من أحدث وابتدع وهذا مردود. من أربعة وجوه.(23/307)
الوجه الأول: سبب وجود الحديث فقد قال جرير رضي الله عنه: "كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى فيهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى ثم خطب فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} والآية التي في الحشر {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تصدق رجل من ديناره، من درهمه من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة"قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سن…" وذكر الحديث. فقد ظهر أن سبب ورود الحديث هو حاجة هؤلاء القوم؛ لذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فبادر هذا الصحابي بصدقته، وتبعه الناس في ذلك على أمر أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، فضلا عما ورد في القرآن من الحث على الصدقة، فهذه القصة نفسها تنقض مفهومهم الخاطئ.
الوجه الثاني: ما تقدم من الفرق ببن السنة والبدعة من أن السنة هي: الطريق المتبع، والبدعة هي: الإحداث في الدين. هذا المفهوم هو الذي عليه علماء الأمة خلفا عن سلف، ولم ينقل عن أحد منهم أنه فسر السنة الحسنة بالبدعة التي يحدثها الناس من عند أنفسهم ولم ينزل الله بها من سلطان.(23/308)
الوجه الثالث: فهم السلف قاطبة من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة" أي أحيا سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يميتها الناس، ويتبعه الناس في هذا الإحياء الذي دعاهم إليه، يوضح ذلك حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء" فإن قوله من دعا إلى هدى تفسير لما أجمل في قوله من سن سنة حسنة وبالمقابل "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيء".
وقد دلت الأحاديث على أن كل بدعة ضلالة، بدون استثناء لأي نوع من البدع، فمن دعا إلى بدعة محدثة في الدين فقد دعا إلى ضلالة، سواء سماها بدعة حسنة أو لم يسمها كذلك.
الوجه الرابع: قالوا بأن البدعة قسمان- حسنة وقبيحة- وهو تقسيم من عند أنفسهم، وبمحض عقولهم الفاسدة، ونحن نوجه إليهم هذا السؤال: كيف نعرف أن هذا العمل حسن أو قبيح؟ وبالطبع سيجيب كل عاقل بأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، ولا يعرف هذا إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فيقال لهم حينئذ إن الكتاب والسنة قد دلا على ذم البدع كما تقدم في الأدلة فما وجه تقسيمكم هذا؟
ثانيا: يستدل كثير من أهل البدع بما يروى عن عمر رضى الله عنه من قوله نعمت البدعة هذه، ردًّا على من أنكر عليه أمرَه الناس بصلاة التراويح جماعة في المسجد، خلف أبى ابن كعب، يستدلون بهذه القصة توهما منهم أن ما فعله عمر بدعة وهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن عمر رضي الله عنه لم يفعل بدعة، وإنما فعل سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة كما بيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينه الناس عن فعلها مما يؤكد بقاء سنتها.(23/309)
الوجه الثاني: أنه قال هذه الجملة على سبيل المجاز، فتسميتها بدعة باعتبار أنها لم تفعل في عهد أبي بكر رضي الله عنه تجوزا؛ لأن عمر هو الذي بدأ إحياء هذه السنة، خصوصا وقد زالت علة خشية الفرضية بانتقاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الوجه الثالث: ربما قال عمر ذلك تهكما بمن قال له: إنك فعلت بدعة، فلعلم عمر أنها ليست بدعة ردَّ عليه بهذه الجملة على سبيل الإنكار.
هذا وهناك شُبه أخرى قد يتعلقون بها، ولو تأملناها لوجدناها لا تخرج عن هذا الإطار الذي هو تحميل النصوص ما لا تحتمل من المعاني الفاسدة الباطلة.
وهناك تقسيمات للبدع ذكرها القرافي وغيره، لا نجد لها مستندا أو معيارا صحيحا يمكن أن يؤخذ به، كتقسيمهم البدع إلى حقيقية وإضافية، أو حسنة وسيئة، أو كلية وجزئية، أو بسيطة ومركبة، أو فعلية وتركية، أو غير ذلك من التقسيمات المصطنعة المتكلفة التي لا تستند إلى دليل.
وخلاصة القول أن كل ما أحدث في الدين، ولم يقم عليه دليل في الكتاب ولا في السنة لا بعمومه ولا بخصوصه فهو بدعة محدثة.
الحق لا يعرف بكثرة الأتباع:
وأنه مما يؤسف له أن نرى تلك البدع والمحدثات قد طغت وانتشرت وتهافت عليها الناس تهافت الفراش على النار، في الوقت الذي ضيعوا فيه الفرائض، وأهملوا الواجبات، وغرقوا في المنكرات، حتى أصبح الكثير منهم يمثل قول ابن زيدون:
مساوىء لو قسمنا على الغواني
لما أمهرن إلا بالطلاق(23/310)
ومن الغريب حقا أن يرمى هؤلاء المبتدعون أهل السنة، والمتمسكين بها بالجمود والتزمت، وغير ذلك من الألقاب التي يطلقونها زورا وبهتانا، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا مآربهم فإن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قد بشرنا ببشارة عظيمة وهى قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة منصورة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". لذا فإنه لا ينبغي لعاقل أن يغتر بما يفعله سواد الناس، ودهماء العامة في سائر الأقطار من البدع والمحدثات فإنَّ الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية. قال تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} . وقال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وقال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى.
فالحق أحق بالإتباع ولو خالفه الناس، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ وهو لزوم جماعة المسلمين، والتمسك بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، فهما مصدر كل عِزٍّ وفلاحٍ ونجاحٍ في الدارين. وفقنا الله جميعا للإتباع وجنبنا الزلل والابتداع، إنه ولى ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه.
طريق الجنة
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ...
وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ... "(23/311)
رخصة الفطر في سفر رمضان وَمَما يَتَرَتب عَلَيهَا مِن الآثارِ
(الحلقة الثانية)
للدكتور أحمد طه الريان
الأستاذ المساعد بكلية الحديث
(المطلب الثاني) : في بيان مقدار المسافة في السفر المرخص فيه بالفطر:
اختلفت النقول عن السلف رضي الله تعالى عنهم، في تحديد المسافة التي يباح الفطر فيها لمن أراد قطعها أو تجاوزها، اختلافا كثيراً، فقد نقل عن دحية بن خليفة «أنه خرج من قرية بدمشق إلى قرية عقبة من الفسطاط [1] وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم أنه أفطر وأفطر معه أناس، فكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته، قال: والله قد رأيت أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك [2] .
ونقل ابن حزم بسنده إلى اللجلاج قال: كنا نسافر مع عمر بن الخطاب ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر ويقصر [3] . كما نقل بسنده إلى وكيع عن مسعد بن كدام عن محارب بن دثار قال سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر [4] وأيضا بما رواه بسنده إلى سحيم عن ابن عمر: لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة [5] .
كما روى بسنده إلى يزيد بن أبي حبيب، أن كليب بن ذهيل الحضرمي أخبره أن عبيد بن جبر، قال كنت مع أبا بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع- وفي رواية: فدفع- ثم قرب غذاءه، قال اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل، ثم قال ابن حزم: «والروايات في هذا كثيرة» [6] .(23/312)
ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قصر الصلاة في سفره إلى ذي الحليفة- وهى على ستة أميال من المدينة- ونسب ذلك إلى إقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال جبير بن نفير «خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين فقلت له: فقال رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» [7] .
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر قصر الصلاة إلى خيبر [8] ، كما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر الصلاة إلى خيبر. وقال: هذه ثلاث قواصد يعنى ثلاث ليال [9] ، وروى نافع عن سالم بن عبد الله أن أباه عبد الله بن عمر: ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد [10] .
كما روى مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسير ذلك، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد [11] ، وقررت هذه المسافة في المصنف لعبد الرزاق بمقدار ثلاثين ميلا [12] ، ولكن ابن عبد البر قد رجح تقدير مالك بكونها أربعة برد، يعني أنها ثمانية وأربعون ميلا [13] .
وعن مالك بلغه: أن عبد الله بن عباس كان يقوله: تقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وجدة، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، قال مالك: وذلك أربعة برد [14] .
وقد روى الشافعي عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف، وزاد في المصنف فإن قدمت على أهل لك أو على ماشية فأتم الصلاة [15] .
وروى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة [16] ، وعن عطاء بن أبي رباح أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك [17] .(23/313)
تعليقات هامة حول هذه النقول عن السلف رضى الله عنهم:
(أ) يتبين من هذه النقول لأول وهلة أن مسألة تحديد المسافة، التي هي مناط الرخصة في القصر والفطر، ليست سهلة كما يظن بعض أهل العلم من المعاصرين، بل هي مسألة قد تباينت فيها آراء السلف تباينا كبيرا، فقد ترواحت تقديراتهم من ثلاثة أميال إلى مسيرة ثلاثة أيام كما أوضحتها هذه النقول:-
(ب) إن تحديد هذه المسافة هي مناط الرخصة في القصر والفطر، فما يصلح دليلا لقصر الصلاة يصير تلقائيا دليلا على تحقق رخصة الفطر في السفر، فقد قال عطاء: تفطر إذا قصرت وتصوم إذا أوفيت الصلاة [18] .
كما صرح بذلك كثير من أهل العلم [19] .
(جـ) كثرة هذه الآراء في تحديد مسافة الفطر في السفر تشير بوضوح إلى أنه لم يرد دليل صريح من السنة يحدد هذه المسافة التي تناط فيها الرخصة، وكل ما ورد في ذلك، أمران:
أولهما: ما ورد في غزوة الفتح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:"أولئك العصاة أولئك العصاة " [20] .(23/314)
قال القاضي عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكل في قضية واحدة، وكلها متقاربة، والجميع من عمل عسفان [21] . يشير القاضي عياض إلى رواية ابن عباس السابقة والتي تفيد أنه أفطر بالكديد. وهذه الرواية التي تنص على أنه أفطر بكراع الغميم وغير ذلك من الروايات، إلا أن هذه الاختلافات لا تأثير لها على الحكم؛ لأن هذه المواضع كلها كما قالت القاضي عياض: من عمل عسفان، وعسفان على سبعة مراحل من المدينة المنورة، وقد ظل صلى الله عليه وسلم صائما منذ خروجه من المدينة حتى أفطر قرب عسفان، ولا يمكن أن تعتبر هذه المسافة هي مناط الرخصة؛ لعدم وجود ما يدل على نفي الفطر فيما دونها، ولما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عمل بالرخصة في الصلاة عند وصوله إلى ذي الحليفة، خارجا من المدينة، ومقدار المسافة التي تناط بها الرخصة في الصلاة والصوم واحدة.
الأمر الثاني: ما ورد من حديث أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين" [22] . وقد فهم منه أكثر العلماء: على أن هذه المسافة هي ابتداء العمل بالرخصة يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة إلى سفر بعيد كان يبدأ القصر للصلاة بعد مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ من المدينة [23] ، وسيأتي لهذا الحديث مزيد بيان أثناء الكلام على رأي الظاهرية في تحديد مسافة القصر. إن شاء الله.(23/315)
(د) بناء على ما سبق يمكن القول: أن الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم كان له مجال في تحديد هذه المسافة التي تناط بها الرخصة، فمنهم من اعتمد على عموم لفظ السفر في الآية فأجاز الأخذ بالرخصة مطلقا، ومنهم من أخذ ببيان المراد من السفر من وقائع أخرى: مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وبن عمر رضي الله عنهم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم" [24] ، فاعتبر مسيرة اليوم والليلة، هي التي يطلق عليها اسم السفر التي تناط به الرخصة وهكذا.
(هـ) اختلاف السلف على هذا النحو المتقدم انعكس أثره على مواقف أهل العلم من الأئمة المجتهدين فيما بعد والذي سنبينه فيما يلي:-
مواقف أهل العلم من تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة وأدلتهم:
الأول: موقف ابن حزم الظاهري:
يرى ابن حزم: أن من سافر ميلا أو تجاوزه أو قاربه، فإنه يجب عليه الفطر، وقد بطل صومه بمجرد بلوغه نهاية الميل [25] .
وقد استند إلى إطلاق لفظ السفر في الآية ... {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وعدم وجود ما يدل على تحديد للمعنى المراد من لفظ السفر الوارد في السنة المطهرة، وكل ما يستفاد من حديث ابن عباس وحديث جابر في غزوة الفتح- وقد سبقت الإشارة إليهما قريبا- وحديث أنس المتقدم: هو جواز القصر في هذه المسافات. وليس في هذه الأحاديث، ولا في غيرها ما يفيد المنع من الفطر أو القصر في أقل من هذه المسافات، وقد جاءت في التحديد روايات مختلفة عن الصحابة رضي الله عنهم ليس بعضها أولى من بعض [26] .(23/316)
ويناقش مستند ابن حزم هذا، بأن لفظ السفر وإن جاء مطلقا في الكتاب الكريم، وفي السنة المطهرة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح المراد منه، في منعه المرأة من السفر بدون زوج أو محرم ثلاثة أيام، حسب ما جاء في روايات أبي هريرة السابق، فعلم من ذلك أن أدنى المسافة التي يطلق عليها لفظ السفر، هي مسيرة هذه المدة من الزمن. وقد فهم كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم هذا المعنى، فقد روى عبد الرزاق عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى، قال: سمعت سويد بن غفلة يقول: إذا سافرتَ ثلاثا فاقصر الصلاة [27] .
كما روى عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنت أن آتى أهلي بالكوفة فأذن.. وشرط على ألا أفطر، ولا أصلى ركعتين حتى أرجع إليه [28] .
وعن مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سافرتَ يوما إلى العشاء فأتم الصلاة. فان زدت فأقصر [29] .
وما يضعف قول ابن حزم رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قباء والى أحد وإلى بني سلمة وإلى غير ذلك من المواضع حول المدينة، وكل هذه الأماكن على مسافة تزيد كثيرا عن الميل، ولم يثبت عنه أنه قصر الصلاة أو أفطر في رمضان حينما كان يخرج إلى أي من هذه الأماكن.
كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم مزارع في الجرف والعقيق والغابة وغيرها، بل كان بعضهم يسكن الجرف والعوالي بل وذا الحليفة ولم يصل إلى علمي أن أحدا منهم قصر الصلاة أو أفطر حينما كان يأتي إلى المدينة.
الثاني: موقف الظاهرية: يرى الظاهرية- ما عدا ابن حزم- أن المسافة التي تتحقق بها الرخصة في الفطر والقصر، مقدارها ثلاثة أميال [30] .
وقد استدل لهم بحديث أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" شعبة الشاك [31](23/317)
ومما رواه عبد الرزاق بسنده إلى أبي سعيد رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سار فرسخا نزل يقصر الصلاة" [32]
ولعل حديث أبي سعيد قد بين المراد من أحد التقديرين اللذين تردد بينهما شعبة ورجح بأن المسافة التي كان يحدث فيها القصر، هي ثلاثة أميال؛ لأن الفرسخ الوارد في حديث أبي سعيد، مقداره ثلاثة أميال.
وهذا المستند وإن كان قويا، لأنه نص صحيح صريح في الموضوع إلا أن المناقشة التي أشرنا إليها من قبل- والتي تتلخص في أن هذا المقدار كان بداية العمل بالرخصة. أي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بدأ سفرا بعيدا ابتدأ القصر بعد مسيرة ثلاثة أميال- تقلل من شأن الاستدلال به، وتجعل الاعتماد عليه في القول بهذا التقدير، محل نظر.
وقد استبعد الحافظ ابن حجر هذا الاحتمال الوارد في المناقشة السابقة. وقوى هذا البعد بما جاء عند البيهقي، عن يحي بن يزيد الهنائي: قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة- يعنى من البصرة- فأصلى ركعتين حتى أرجع، فقال أنس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ... الحديث [33] .
يشير الحافظ بذكر هذا السياق: إلى أن أنس كان يقصد أن القصر كان يحدث ولو كان السفر قصيرا كثلاثة أميال.
لكن مع ذلك: فالاحتمال ما زال واردا، إذ يحتمل أن أنسا يريد من الرجل ألا يبدأ القصر إلا بعد ثلاثة أميال من المكان الذي خرج منه. ولم يرد ببيان مقدار مسافة القصر.
ومما يقوى هذا الاحتمال -في نظري على الأقل- ما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذل الحليفة ركعتين وكان خرج مسافرا" [34] .(23/318)
وعند البخاري بلفظ "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل" [35] . أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر عملا بالرخصة حينما كان يصل إلى ذي الحليفة وهو في طريقه إلى مكة. ومعلوم أن ذا الحليفة على بعد فرسخين أو ثلاثة من المدينة.
وما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني ابن المنكدر عن أنس بن مالك "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا وصليت معه بذي الحليفة العصر ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يريد مكة" [36] .
لذلك أرى- والله أعلم- أن مقدار الثلاثة أميال أو الثلاثة فراسخ الواردة في حديث أنس هي بداية القصر وليست هي مقدار المسافة التي تناط بها الرخصة، وإنما حديث أنس المشتمل على بيان هذا المقدار، وإن ورد مطلقا عند مسلم، لكنه جاء مقيدا عند البخاري وغيره، بأن ذلك كان بداية القصر أو بداية العمل بالرخصة.
الثالث: موقف الأوزاعي ومالك: نقل عن الأوزاعي ومالك، أن حدّ المسافة التي يباح فيها الفطر وتقصر فيها الصلاة، تقدر بمسيرة يوم وليلة، وهو اختيار البخاري، حيث ذكر بعد ترجمته للباب بقوله: باب: في كم يقصر الصلاة- وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة [37] .
ومستند هذا الرأي هو حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة" [38] حيت أطلق صلى الله عليه وسلم السفر على مسيرة يوم وليلة وبمعنى أوضح: أن لفظ السفر وإِن جاء مجملا في الآية وبعض الأحاديث النبوية، إلا أن هذا الحديث وما ورد في معناه يعتبر مفسرا له.(23/319)
ولم ينقل عن الأوزاعي تحديداً لمسيرة اليوم والليلة بالأميال أو بالفراسخ، كما أنه لم يوضح فيه كيفية السير، هل هي بالإبل المثقلة، أو بالأقدام أو بغير ذلك.
وقد قدر مالك مسيرة اليوم والليلة أو اليوم التام -كما يسميه-: بأربعة برد، وقد قيد بعض علماء المالكية كابن المواز وغيره هذا التقدير بأن مسيرة اليوم التام: أيضا تقدر بأربعة برد، إذا كان ذلك في وقت الصيف وكان، لسير جادا [39] .
وقد نقل عن مالك بعد ذلك، أنه ترك التحديد بمسيرة اليوم التام وتمسك بتحديد المسافة بأربعة برد، فقد سئل عن الرجل يخرج إلى ضيعته على ليلتين أيقصر صلاة؟ قال: نعم، وأبين من ذلك، البرد والفراسخ والأميال، على كم ضيعته منه من ميل أو فرسخ؟ فقال: على خمسة عشر فرسخا فذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال: نعم أرى أن تقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك [40] .
والحقيقة أن مالكاً قد أخذ هذا التقدير مما نقل عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، فقد قال البخاري في صحيحه- تعليقا بصيغة الجزم- (وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهى ستة عشر فرسخا) [41] وقد أخرج البيهقى هذا الأثر موصولا عن عطاء بن أبي رباح أن عبد اللِّه بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك [42] ويناقش مستند هذا الفريق بما يلي:
أولا: أنا الاستدلال بحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم في هذا الموضع لا يتم، لأن هذا الحديث وارد في حق المرأة إذا عزمت على السفر مسيرة يوم وليلة، فإنه لا يحق لها الشروع في ذلك إلا إذا صحبها زوجها أو محرم. بينما المستدل عليه هو تحديد مسافة السفر الذي شرع فيه القصر أو الفطرة وشتان بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة نظرا لأنها ستمر بطرق منقطعة، كما أنها ستضطر للمبيت في بعض الطريق، وفي هذا ما فيه.(23/320)
أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر والمشقة قد تحصل بدون ذلك.
ثانيا: أن الحديث قد ورد بيوم وليلة ويومين وثلاثة أيام، فاختيار رواية اليوم والليلة دون اليومين أو الثلاثة تحكم.
ثالثا: تقدير مسيرة اليوم التام- أو اليوم والليلة- بأربعة برد أيضا فيه تحكما لاختلاف الناس والدواب من حيث الجد في السير وعدمه والقدرة على تحمل سير المسافات الطويلة ودون ذلك، فقد تقطع هذه المسافة في أقل من يوم بالدواب السريعة النشيطة ومن باب أولى إذا كان السفر بالسيارة أو الطائرة، وقد يبطئ في السير فيقطع هذه المسافة في أكثر من هذه المدة.
ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:
بالنسبة للمناقشة الأولى: بأن الاستدلال بحديث ابن عمر وأبي هريرة- الوارد في حق منع المرأة من السفر يوما وليلة إلا إذا كان معها محرم- هو استدلال تام وفي موضعه، لأن القصد من الإتيان به، ليس هو قياس السفر الذي تناط به الرخصة على سفر المرأة، حتى يقال بوجود الفارق بين الأمرين، بل المراد منه هو تفسير لفظ السفر، بأنه ما كان مسيرة يوم وليلة، أي أن لفظ السفر الوارد في الآية كان محتملا لسير المسافات البعيدة القريبة دون تحديد فجاء هذا الحديث وأطلق لفظ السفر على ما كان مسيرة يوم وليلة. أي أن المسافة إذا كانت تقطع في أقل من هذا الزمن عادة بالدابة المتوسطة، فلا يطلق على من قطعها أنه سافر سفرا تتحقق فيه رخصة الفطر أو القصر.
وبالنسبة للمناقشة الثانية، فان اختيار رواية يوم وليلة دون بقية الروايات الأخرى الواردة في حق سفر المرأة ليس فيه تحكم؛ لأن ما ورد في هذه الهواية هو أقل ما يطلق عليه لفظ السفر الذي تناط به الرخصة؛ لأن هذا الحديث يعتبر مبينا للمعنى المراد من السفر ومحددا له. والحدود يؤخذ فيها بأقل ما قيل فيها، كما يقال إن أقل الجمع ثلاثة، وفي لسان الشرع: الجماعة اثنان فما فوقهما وهكذا.(23/321)
وبالنسبة للمناقشة الثالثة: فإن اختيار مقدار الأربعة برد لتقاس بها مسيرة اليوم والليلة، إنما روعي فيه العادة بالنسبة للدابة الوسط وقد كانت ركوبة أكثر الناس. فالقياس عليها أولى من القياس على الدابة السريعة أو البطيئة. والله أعلم.
الرابع: ما نقل عن الشافعي، ومالك، وأصحابهما، وأحمد، وإسحاق، والليث، كما نقل عن الأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم، من أن الرخصة في الفطر أو القصر لا تتحقق إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين [43] ، وحددت مسافتهما بثمانية وأربعَّين ميلاً هاشمية [44] .
وقد حمل بعض العلماء ما نقل عن مالك هنا بأنه قول آخر له، إلا أن بعض علماء المالكية قد جمع بين قوليه، بأن مسيرة اليوم والليلة إذا كانت الدابة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا، وأما مسيرة اليومين والليلتين، فهو إذا ما كانت ثقيلة بطيئة ولم يكن هناك جد في السير؛ ويؤيد هذا الجمع بأن مالكا لم يختلف تقديره للمسافة في القولين، إذ حددها في كليهما بثمانية وأربعين ميلا [45] .
وقد استدل لهذا الرأي بحديث أبي سعيد: "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها" [46] ، وقد قدرت مسيرة هذا الزمن بثمانية وأربعين ميلا. وبذلك يلتقي هذا الرأي مع الرأي السابق في تقدير المسافة التي يباح الفطر فيها للمسافر، إذا عزم على بلوغ نهايتها أو تجاوزها، بالرغم من الاختلاف في مقدار الزمن، إلا أنه يمكن الجمع بين اختلاف المقدار في الزمن بين هذا الرأي والرأي السابق بما جمع به بعض علماء المالكية بين قولي مالك في المسألة. وقد أشرنا إلى ذلك قريبا.
ويناقش مستند هذا الفريق بعدد من المناقشات، من أهمها ما يلي:(23/322)
أولا: أنّ الاستدلال بحديث أبي سعيد هنا لا يتم، لما قلناه سابقا، من أنه وارد في منع المرأة من السفر بدون محرم لها أو زوج مدة يومين، بينما المستدل عليه هو السفر المبيح للفطر، وهناك فارق كبير بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة ... أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر، والمشقة قد تحصل بدون ذلك.
ثانيا: أن الأحاديث الواردة في منع المرأة من السفر وردت باليوم، واليومين. والثلاثة، فاختيار حديث اليومين دون غيره تحكم.
ثالثا: تقدير مسيرة اليومين بأربعة برد يتساوى مع تقدير مسيرة اليوم والليلة، بهذا المقدار، مع أن ما يقطعه المسافر في اليومين والليلتين، ضعفه ما يقطعه في اليوم والليلة ...
ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:-
بالنسبة للمناقشة الأولى:-
فيجاب عنها بما أجيب به سابقا، وهو أننا لا نستدل بالحديث لأجل قياس السفر الذي تتعلق به الرخصة على سفر المرأة، بل إنما يستدل به من حيث إطلاق لفظ السفر على مسيرة اليومين. أي أن الاستدلال بهذا الحديث في هذا الموضع هو من قبيل التفسير والبيان لتحديد المراد من لفظ السفر الوارد في الآية..
ويجاب عن المناقشة الثانية:
بأن اختيار حديث اليومين ليس من قبيل التحكم، لأنه أوسط الأزمان الثلاثة الواردة في الموضوع. وأعدل الأمور هو أوسطها..
أما المناقشة الثالثة:
فيجاب عنها بما أشرنا إليه سابقا، من أن لا يقطع من المسافة في مسيرة اليومين بالدابة البطيئة، مع عدم الجد في السفر وكون الوقت شتاء فإنه يتساوى مع ما يقطع منها في اليوم والليلة، إذا كانت خفيفة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا.(23/323)
الخامس: موقف أبي حنيفة ومن معه: يرى أبو حنيفة والثوري والشعبي والنخعي والحسن بن صالح: أن المسافر إذا عزم على السفر وكان سفره مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، سيرا وسطا على الدواب المحملة أو بالأقدام، فإنه يرخص له في الفطر.
ويرى أبو يوسف تقدير المدة، بيومين وأكثر اليوم الثالث.
والتقدير بالزمن هو الصحيح عند علماء الحنفية، ومقابله: التقدير بالفراسخ، فقيل بأحد عشر فرسخا، وقيل بثمانية عشر وقيل بخمسة عشر، وكل من قدر بقدر منها أعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام..
وإنما صح عندهم التقدير بالزمن فقط دون التقدير بالأميال أو الفراسخ لأنه لو كان الطريق وعرا، بحيث لو قطع في ثلاثة أيام أقل من خمسة عشر فرسخا فإنه يقصر بالنص، وإذا جرى على هذه التقديرات فإنه لا يقصر، فيكون معارضا للنص، وعلى ذلك فلا يعتبر إلا التقدير بسير الثلاثة أيام.
وقد ورد عليهم اعتراض، وهو ما الحكم إذا كانت الدابة سريعة كدواب البريد وقطعت المسافة -المقدر سيرها بثلاثة أيام- في يوم واحد؟ فأجاب البعض بجواز القصر والفطر لأنه يصدق عليه أنه قطع المسافة المقدرة بثلاثة أيام.
ومنع آخرون فطره وقصره، لانتفاء علة المشقة المنوط بها علة القصر والفطر في السفر [47] .
ولا أدري بماذا يجيب الحنفية على من يقطع هذه المسافة الآن في ساعة أو بعضها بسبب السرعة التي دخلت على ميدان المواصلات.
وقد استدل الحنيفة على التحديد بثلاثة أيام بالتوقيت الوارد في المسح على الخفين: فقد روى عن شريح بن هانئ، قال: أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان على يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه، فقال: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم" [48] .(23/324)
فتحديد الرسول عليه الصلاة والسلام لرخصة المسح في السفر بثلاثة أيام يلزم منه، أن تكون هذه المدة هي المعيار الشرعي في السفر لكل رخصة سواء كانت للمسح أو للقصر أو للفطر أو لغير ذلك، والجامع في ذلك مشقة السفر في كل.
المناقشات الواردة على هذا الاستدلال؟
أولا: يناقش هذا الاستدلال بأنه من باب القياس، والقياس لا يلجأ إليه إلا عند عدم النص، والنص موجود وهو حديث أنس السابق: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخٍ … الخ فإنه بالرغم من الاحتمال الوارد عليه، لكنه لا يزال هو النص الوحيد الوارد في الموضع.
ثانيا: بأن تمسك المذهب الحنفي بالتحديد الزمن دون وضع معيار ثابت بالمقادير المساحية، كالأميال وغيرها، يقلل الفائدة من العمل بهذه الرخصة وخصوصا بعد أن تطورت وسائل المواصلات في العصر الحديث تطورا يكاد يكون مذهلا، إذ ما كان يقطع في ثلاثة أيام فيما مضى صار الآن يقطع بالسيارات العادية في أقل من ساعة. فمعنى ذلك أن المسلم لا يتاح له العمل بالرخصة الآن إلا إذا سافر عدة آلاف من الأميال، كما أنه لن يستفيد من الرخصة إذا ما سافر بالطائرات.
ويجاب عن المناقشة الأولى: بأن الاستدلال بحديث أنس في تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة كان محل نظر، وقد أوضحنا ذلك سابقا، ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
أما المناقشة الثانية: فلا أدري بما يجيب الحنفية عنها. اللهم إلا إذا أخذ بما يقابل القول الصحيح وهو التقدير بالفراسخ أو الأميال.
وقد استدل سفيان الثوري على رأيه- المتفق مع الحنفية- بأن الرخصة لا تتحقق إلا بمسيرة ثلاثة أيام- بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم" [49] .(23/325)
فقد نقل عبد الرزاق عن الثوري قوله: (وقولنا الذي نأخذ به: مسيرة ثلاثة أيام. قلت: من أجل ما أخذت به؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر امرأة فوف ثلاث إلا مع ذي محرم") [50] .
وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع المرأة من السفر خلال هذه المدة إلا إذا كان معها زوجها أو محرم، وتعليقه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمدة الثلاثة أيام يفهم منه: أن سفر الثلاثة أيام هو الذي ينصرف إليه اسم السفر عند الإطلاق، فينبغي أن يقيد به.
ونرد على استدلال الثوري بهذا الحديث عدد من المناقشات التي وردت على بعض أصحاب الآراء السابقة، ونجملها فيما يلي:
أ- إن الحديث وارد في تحديد المسافة التي لا يجوز للمرأة أن تسافر فيها بدون محرم بينما المستدل عليه هو حدّ السفر المبيح للفطر وشتان بين الأمرين.
ب- إن هذا الحديث قد ورد بعدة روايات، فالتمسك بإحداها دون بقيتها فيه تحكم.
ج- عدم وجود تقدير مساحي لتحديد هذه المسافة بالأميال أو الفراسخ جعل التحديد الزمن بمسيرة ثلاثة أيام قليل الفائدة.
ويمكن الرد على هذه المناقشات بما يلي:
أ- أما المناقشة الأولى: فقد سبقت الإجابة عليها أكثر من مرة.
ب- أما المناقشة الثانية: فيجاب عنها، بأن التمسك برواية الثلاث أولى من التمسك بغيرها، لأن الثلاث أكثر ما ورد، والتمسك بأكثر ما ورد، فيه أخذ بالحيطة، وهى مطلوبة في الدين.
ج- أما المناقشة الثالثة: فيجاب عنها، بأن العلة في الرخصة هي المشقة، والمشقة إنما تتحقق في سفر الثلاثة أيام.
ويمكن على هذه الإجابة السؤال التالي:
ما الحكم إذا قطعت هذه المسافة- مسيرة الثلاثة أيام- في ساعة أو بعض الساعة كما هو حاصل الآن بالسيارات السريعة فضلا عن الطائرات، فماذا تكون الإجابة؟.(23/326)
هذه هي أهم الآراء في تقدير المسافة التي تتحقق بها رخصة الفطر للمسافر، وقد أضربنا عن ذكر بقية الآراء، لعدم وجود مستند صحيح لها.
الرأي المختار:
واضح من استعراضنا لآراء الفقهاء ومستنداتهم في هذه المسألة أن الرأي الثاني أقوى الآراء إذ يستدل بحديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ- شك شعبة- صلى ركعتين"؛ إذ هو نص صريح صحيح في الموضوع. وإنما التحديد بالثلاثة فراسخ أولى، لأنه القدر المتيقن.
لكن وجود الاحتمال الذي أشرنا إليه سابقاً من أن ذلك كان ابتداء القصر، وأن هذا الاحتمال ليس ببعيد -بعد أن ذكرت بعضا من الأحاديث الصحيحة التي تفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ القصر من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة، من فرسخين إلى ثلاثة، كما يحمل فعل عمر رضي الله عنه على ذلك- يضعف هذا الاستدلال. لذا أرى أن الأخذ برأي الفريق الذي حدد المسافة بأربعة برد هو الأولى لما يأتي:
1- امتياز هذا التحديد بالوضوح، فقد حددت فيه المسافة بمقياس مساحي وهو أربعة برد. وأن هذا القياس ارتكز على علامات مادية يمكن الرجوع إليها للتأكد من مقداره وضبطه؛ وهو من مكة إلى عسفان، ومن مكة إلى الطائف ومن مكة إلى جدة، ومن المدينة إلى ذات النصب ومن المدينة إلى ريم.
2- اتفاق ابن عمر المعروف بتشدده، وابن عباس بتيسيره على هذا القدر يومي- ولو من بعيد- إلى أنه ربما يكونا قد استلهماه من مشكاة النبوة، ومعلوم أنهما كانا من الملازمين له صلى الله عليه وسلم في أسفاره [51] .
وأما ما ورد من قول ابن عمر رضي الله عنهما، أنه يقصر في سفر ساعة ونحو ذلك مما يتعارض مع التحديد السابق، فقد قال بعض أهل العلم: إن التحديد بأربعة برد وما في معناه هو أصح الروايتين عن ابن عمر [52] .(23/327)
3- كان هذا الرأي هو محل اختيار أغلبية رجال الحديث الذين أنفقوا حياتهم في الاشتغال بالسنة رواية ودراية، فإطباق هذه الكثرة على الأخذ بهذا التحديد يشير بوضوح إلا عدم وجود نص صريح ثابت من السنة في الموضوع.
4- عدم تجويز كل من ابن عمر وابن عباس للقصر في مسافات أقل من هذا المقدار. يدل على مدى تمكنهما من تحديد هذا المقدار، فقد سبقت الإشارة إلى ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل أتقصر الصلاة إلى عرفة، فقال: لا. ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف وما روي عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الغابة- وهى على بريد من المدينة- فلا يفطر ولا يقصر [53] .
كما نقل عن أبي جمرة قوله: قلت لابن عباس: أقصر إلا الأبله [54] . قال أتجيء من يومك؟ قلت: نعم. قال: لا تقصر [55] .
وما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة [56] ، وأما ما جاء في قصة دحية فقد قال الخطابي عنها: ليس الحديث بالقوى، وقال صاحب العون: إن ابن عمر وابن عباس خالفا دحية وهما أفقه من دحية وأعلم بالسنن [57] وأما أبو بصرة الغفاري فلعله كان يقصد سفرا بعيدا كان كذلك، فله أن يفطر في بداية سفره.
5- إن الأخذ بهذا التحديد، فيه أخذ بالأحوط، إذ لم يخرج عنه إلا من قال بتحديد مسيرة ثلاثة أيام. وقد عرفنا ما أخذ على التحديد بهذا المقدار، والله أعلم.
بيان هذه المسافة حسب المقياس المعلوم لدى أغلب المسلمين اليوم وهو القياس- بالكيلومتر-:
يقدر البريد بأربعة فراسخ، والفرسخ يقدر بثلاثة أميال. وعلى ذلك فتكون المسافة مقدرة بثمانية وأربعون ميلا.(23/328)
أما الميل- وهو فارسي معرب- فقد اختلف في تقديره اختلافا كبيرا وفيما يلي إشارة إلى أهم أقوال العلماء في بيانه وما شهر أو صحح منها وبيان المراد منه بالمتر المعروف الآن: القول الأول: الميل: هو منتهى مدّ البصر من الأرض؛ لأن البصر يميل عن وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وبذلك جزم الجوهري.
الثاني: أن ينظر إلى شخص بعيد يقف على أرض مستوية فلا يدرى أرجل هو أو امرأة.
الثالث: ما قاله النووي: أنه ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، وشهر هذا القول الحافظ ابن حجر ثم قال: قد حرر بذراع الحديد المشهور في مصر والحجاز في هذه الأعصار، فوجد ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا: يكون الميل -بذراع الحديد في القول المشهور- خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا.
الرابع: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان.
الخامس: هو أربعة آلاف ذراع.
السادس: ثلاثة آلف وخمسمائة ذراع، قاله الخرشي، وصححه بعض العلماء.
السابع: ثلاثة آلاف ذراع.
الثامن: ألفا ذراع.
التاسع: خمسمائة ذراع وصححه ابن عبد البر [58] .
وإذا ما رجعنا إلى الأقوال المشهورة أو المصححة وهى الأقوال المنسوبة إلى النووي والخرشي وابن عبد البر، فإننا نجد أن أصح هذه الأقوال -من حيث مطابقته للواقع-: هو قول الخرشي. ونبين ذلك فيما يلي:
أ- طول المسافة على ما قاله النووي -إذا عرفنا أن الذراعين يقدران بمتر واحد، وأنّ كل ألف متر تقدر بكيلو متر واحد- هو 127 كم (سبعة وعشرون ومائة) كيلو مترا.
ب- وعلى ما قاله الخرشي فإن طول المسافة هو 84 كم (أربعة وثمانون) كيلو مترا.
جـ- وعلى ما صححه ابن عبد البر يكون طول المسافة هو (12) كم (اثنا عشر) كيلو مترا.(23/329)
وإذا ما راجعنا هذه الأطوال على العلامات المادية التي ضبطت عليها المسافة التي أنيطت بها الرخصة، وهى من مكة إلى جدة، ومن مكة إلى الطائف، ومن مكة إلى عسفان، فإننا نجد أن المسافة مقدرة الآن بين مكة وجدة بـ 75 كيلو مترا (خمسة وسبعون) كيلومترا، وبين مكة وعسفان بحوالي 80 كم (ثمانون) كيلومترا. وبين مكة والطائف من 80 إلى 85 كم (من ثمانين إلى خمسة وثمانين) كيلومترا.
وإذا لاحظنا الاتساع العظيم لمكة وجدة، مما جعل العمران يزحف إلى الطريق الموصل بينهما فيقتطع منها حوالي 10 كم عشرة كيلومترات؛ أي خمسة من كل ناحية، إذا عرفنا ذلك: وجدنا أن أمثل الأقوال هنا في تحديد مقدار الميل: هو قول الخرشي.
وبناء على هذا فإنه يمكننا القول: بأن المسافة التي تناط بها رخصة الفطر والقصر هي 84 كم (أربعة وثمانون) كيلو مترا أو ما يقاربها. والله أعلم.
من الحكمة
وقّرْ مَن فوقَك، ولِنْ لِمَن دونَك، وأحسِنْ مواتاة أكفائِك، وليكن آثرَ ذلك عندك مواتاةُ الإخوان، فان ذلك هو الذي يشهد لك أن إجلالك مَن فوقَك ليس بخضوع منك لهم، وأن لينَك لمِن دونك ليس لالتماس خِدمِتهم.
ابن المقفع
في الأدب الصغير
ثلاثة لثلاثة
أمورهنَّ تَبَعٌ لأمور: فالمروءات كلّها تبع للعقل، والرأيُ تَبَعٌ للتجربة، والغبطةُ تبعٌ لِحُسن الثناء، والسروز تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة، والعمل -المنصب- تبع للقَدْر، والجدَةُ تبع للإنفاق.
ابن المقفَّع
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قرية عقبة: اسم للمكان دفن فيه عقبة بن عامر الجهني، الصحابي المعروف والذي كان واليا لمعاوية على مصر، والفسفاط: مكان آخر بمصر كان قد نصب عمرو بن العاص عليه خيامه حين فتحه لمصر.
[2] السنن الكبرى للبيهقي جـ4ص241 دار الفكر ببيروت(23/330)
[3] المحلى جـ 6ص11
[4] المحلى جـ 6ص366
[5] المحلى جـ 6ص366
[6] المحلى جـ 6ص 367.
[7] صحيح مسلم جـ 2ص 145.
[8] السنن الكبرى للبيهقي جـ 3ص 136 والموطأ جـ 1ص 298 من شرح الزرقاني عليه.
[9] المصنف جـ 2ص 523. السنن الكبرى جـ 3ص 136.
[10] السنن الكبرى جـ 3ص136 والموطأ جـ 1ص 298. من شرح الزرقاني عليه.
[11] السنن الكبرى جـ 3ص 336 والموطأ جـ 1ص 298 من شرح الزرقاني عليه.
[12] المصنف جـ 2ص 525.
[13] شرح الزرقاني على الموطأ جـ 1ص 298.
[14] السنن الكبرى جـ 2ص 137 والموطأ جـ 1ص 299 مطبوع مع شرح الزرقاني عليه.
[15] المصنف جـ 2ص 524 والسنن الكبرى جـ 3ص 137.
[16] الموطأ جـ1 ص 299 من شرح الزرقاني عليه. والمصنف جـ 2ص 523. السنن الكبرى جـ 3ص 137.
[17] السنن الكبرى جـ 3ص 137.
[18] المصنف جـ 3ص 270.
[19] المجموع جـ 6ص 217 ونيل الأوطار جـ 4ص 253 والمحلى جـ 6ص 365
[20] صحيح مسلم جـ 3ص 141. والكراع بضم الكاف وفتح العين، واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به، والكراع: كل أنف سال من جبل أو حرة. شرح عمدة القارئ جـ 11ص 46 دار الفكر.
[21] شرح عمدة القارئ جـ 11ص 46.
[22] صحيح مسلم جـ 2ص 145.
[23] نيل الأوطار جـ 3ص 234.
[24] صحيح مسلم جـ4 ص103، صحيح البخاري جـ13 ص128 ص129 مع شرحه عمدة القارئ.
[25] المحلى جـ 6ص 364.
[26] المحلى جـ 6ص 365.
[27] المصنف جـ 2ص 526.
[28] الصنف جـ 2ص 527.
[29] المصنف جـ 2ص 525.
[30] نيل الأوطار جـ 3ص 234.
[31] صحيح مسلم جـ 2ص 145.
[32] المصنف جـ 2ص529.
[33] السنن الكبرى جـ 3ص 146.
[34] المصنف جـ 2ص 529.
[35] صحيح البخاري جـ 9ص 10 مع شرحه عمدة القارئ.
[36] المصنف جـ 7ص 124 دار الفكر.(23/331)
[37] صحيح البخاري جـ 7ص 124 دار الفكر.
[38] صحيح البخاري باب في كم يقصر الصلاة جـ 7ص 129 مع شرحه عمدة القارئ.
[39] شرح الزرقاني على الموطأ جـ 1ص 299.
[40] حاشية الرهوني على الزرقاني جـ 2ص 122.
[41] صحيح البخاري باب في كم الصلاة انظر مع شرحه عمدة القارئ جـ 7ص 125.
[42] السنن الكبرى جـ 3ص 137.
[43] هكذا نص عليه الشافعي. وهو النص المتفق عليه بين أصحابه. من نصوصه الأخرى في الموضوع إذ حدد بستة وأربعين. وحده بأكثر من الأربعين. وبأربعين وبيومين وليلتين وبيوم وليلة. وبعض أصحابه حاول أن يجمع بينها وقال إنها كلها ترجع إلى معنى واحد وهو ثمانية وأربعين ميلا. المجموع جـ 4ص190.
[44] الهاشمية: نسبة إلى بني هاشم؛ وذلك احترازا عن الأميال الأموية فإنها تقدر المسافة بأربعين ميلا لأن الأميال الأموية أكبر من الهاشمية إذ كل ستة أميال هاشمية تقدر بخمسة أميال أموية. المجموع جـ4 ص190
[45] الزرقاني على الموطأ جـ 1 ص 299.298. والمجموع جـ4 ص 190.189. والمغني جـ2 ص189. وحاشية الرهوني جـ2 ص122.
[46] صحيح مسلم جـ3 ص102.
[47] نيل الأوطار جـ3 ص234. المجموع جـ4 ص191.فتح القدير للكمال جـ2 ص31.30 مطبعة مصطفى الحلبي.
[48] صحيح مسلم جـ1 ص160.
[49] صحيح البخاري، باب في كم يقصر الصلاة جـ7 ص126 مع شرحه عمدة القارئ. وصحيح مسلم جـ4 ص102
[50] المصنف جـ2 ص527. وصحيح مسلم جـ4 ص103
[51] وقد جاء في ذلك حديث ضعيف، فقد خرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان". قال الترميذي بعد ذكره له. هذا حديث ضعيف. إسماعيل بن عياش لا يحتج به وعبد الوهاب بن مجاهد ضعيف جدًا. والصحيح أن ذلك من قول ابن عباس. السنن الكبرى جـ3 ص138.137(23/332)
[52] عون المعبود جـ4 ص69 طبعة المجد بالقاهرة.
[53] السنن الكبرى جـ3 ص137. وسنن أبي داود جـ7 ص59 مع عون المعبود.
[54] الأبله (على وزن حبلى) : موضع بأرض بني سليم بين مكة والمدينة.
[55] السنن الكبرى جـ1 ص137.
[56] السنن الكبرى جـ3 ص137.
[57] عين المعبود جـ7 ص59.
[58] انظر هذه الأقول وغيرها في نيل الأوطار جـ3 ص233 مطبعة مصطفى الحلبي الطبعة الأخيرة. والمجموع جـ4 ص190 وحاشية الرهوني على الزرقاني جـ2 ص122.(23/333)
الحدود في الإسلام
للدكتور جمعة علي الخولي
رئيس قسم الدعوة بالجامعة
الحدود في الإسلام جزء من نظام إلهي كامل أنزله رب العالمين على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ليكون نظاما يكفل لمن أتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (سورة البقرة 138) .. وأساس الحدود في الإسلام أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معا. فمن حق الفرد على الجماعة تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها والعمل على حمايته ليس فقط من غيره بل من نفسه أيضا. وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف. وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى إلى اضطراب المجتمع، وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه.
وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة، والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام. وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه، ومن هجر هذه الأسباب ونفر منها وسعى في الأرض فسادا، دون رادع من خلق أو وازع من ضمير. فهو كمن يتمرغ في الوحل مختارا، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه ليحمى الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.(23/334)
والإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيرا من الانحرافات والمحرمات، اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، وترك تقدير عقابهم الدنيوي للقاضي حسبما يراه كافياً في التأديب والتعزير، ويتلاءم مع أثر المخالفة في المجتمع وذلك مثل الكذب، والرياء، وأكل الربا، وشهادة الزور، وخيانة الأمانات، وأكل الميتة، والمحرمات، والغش في المعاملات. والتطفيف في الكيل والميزان. وعقوق الوالدين. والغيبة والنميمة. الخ.. أما الجرائم التي أرصد لها الإسلام حدودا معينة فهي جرائم محدودة بعضها جاء به القرآن الكريم، وبعضها الآخر ورد في السنة وهى.. السرقة، الزنا، القذف، شرب الخمر، الردة، البغي، الحرابة (وهى التي تسمى بقطع الطريق) ، ثم جريمة قتل العمد، والقتل شبه العمد والقتل الخطأ، والعقوبة المقررة للجرائم السبعة الأولى تسمى حدًّا، بمعنى أن العقوبة المقررة فيها هي حق الله تعالى.
وحينما يقول الفقهاء: إن العقوبة حق الله تعالى يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط لا من الفرد المجني عليه، ولا من الجماعة أو ولي الأمر، وهم يعتبرون العقوبة حقاً لله كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الأمن والسلامة لهم [1] .. أما العقوبات المتعلقة بجرائم القصاص والدية فلا تسمى حدا [2]- عند بعض الفقهاء-؛ لأنها حق الأفراد، بمعنى أنه إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص أو الدية سقطا.(23/335)
وعلة التفريق هنا أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، أما جرائم القصاص والدية، فمع مساسها بكيان المجتمع، إلا أن ضررها المباشر يصيب الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة، ولقد كانت الشريعة عملية واقعية في إعطائها حق العفو للمجني عليه بالنسبة للقصاص والدية؛ لأنهما يتصلان اتصالا وثيقا بشخصه، ولأن العفو هنا لا يكون إلا بعد حصول التراضي، والتنازل، وصفاء النفس بين الطرفين، وذلك هو غاية عقوبة القصاص والقصد من ورائها.
لكن يلاحظ هنا أن الشريعة أباحت في حال عفو المجني عليه، وسقوط القصاص أو الدية عن الجاني، أباحت لولي الأمر معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة لظروف الجريمة والمجرم [3] ، أوجب ذلك الإمام مالك [4] ؛ حتى لا يستغل أسلوب الإغراء المادي للإفلات من العقاب، أو يساء استعمال حق العفو عن المجني عليه.(23/336)
والعقوبات المقررة في الإسلام عقوبات ملائمة للجرائم المرصودة لها، وقد شرعت على أساس محاربة الدوافع الخاصة بكل جريمة، فهي في الزنا الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن وتغريب عام، وهي في السرقة القطع، وفي القذف والشرب الجلد، وهى في الحرابة وقطع الطريق كما قال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (سورة المائدة 33) . وهي في الردة والبغي القتل، وهي في القتل والجرح العمد القصاص، وفي القتل الخطأ الدية. وعلة التشديد في هذه الجرائم بالذات أنها من الخطورة بمكان، والتساهل فيها يؤدى إلى انهيار الأخلاق، وفساد المجتمعات، إذ هي جرائم رئيسية تتصل بالحياة العامة ولا يقتصر ضررها على مرتكبيها فقط، ولكنه يتعدى إلى الأفراد والجماعات. فالقتل العمد عدوان على الحياة التي اختص الله وحده بمنحها للإنسان، فهو عدوان على حق الله، زِد على ذلك ما يترتب على هذه الجريمة من الاستهانة بحرمة الدماء، وتأريث الأحقاد والعداوات، وإشاعة الفتن والذعر بين الناس؛ ولذلك كان قتل نفس واحدة بمثابة عدوان على البشرية كلها {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (سورة المائدة 32) ، وكان قتل النفس عمدا هو الجرم الذي لا يكفر عنه دية ولا عتق رقبة {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (سورة النساء93) ، وكان القصاص هو الجزاء العادل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 179) .(23/337)
وجريمة الزنا تشيع الفوضى الجنسية في بيئات الإنسان، وتظهر الشخص منتكسا قذرا كالحيوان، وما يترتب على ذلك من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد بنيان الأسرة والذرية.. وفي السرقة عدوان على أموال الناس، وحرمانهم من الاستمتاع بأمنهم وأموالهم اللذين من حقهم أن يستمتعوا بهما.. وقطع الطريق فيه ترويع للآمنين والاعتداء على أموال الناس ودمائهم، بشكل جماعي أشبه ما يكون بالعصابات المسلحة التي تستهين بالإنسان وما يملكه الإنسان.
والقذف فيه تجريح للأعراض، وتلويث للسمعة، وإشاعة للسوء والشكوك في جو الأسر، وتلك حالات تهدد البيوت بالانهيار. وفي شرب الخمر- أم الخبائث - سلب للعقل
- أشرف ما وهب الله الإنسان وميزه به عن الحيوان - كما أنها تعرض شاربها للعربدة والتعدي على حرمات الناس، وتحطم قوى الشباب، وتضر بنفوسهم وعقولهم وجسومهم، وكم شرح الأطباء ما لها من ضرر جسيم على النفس والجسم، وأجمعوا على ضرها البالغ وأثرها السيئ على الأمة في دينها ورجالها وأخلاقها [5] . وفي الردة كفر بالإسلام ونظامه، وتجريحٍ له واستهانة به، وخروج على نظام الجماعة المسلمة، ذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة، أو دين ودولة، فالخارج عن الإسلام أقل ما يوصف به أنه خارج على نظام الدولة، وهو يشبه في أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمى، وعقوبتها الإعدام، يقول الأستاذ علال الفاسي: "وقع إجماع المسلمين منذ إنشاء المذاهب الفقهية على قتل المرتد مستدلين بحديث "من بدل دينه فاقتلوه" ولكنهم لا يعتبرون قتله عقابا له على كونه لم يعد مسلما، إنما يعتبرون ذلك نتيجة خيانته للملة الإسلامية التي انخرط في عداد أفرادها ثم غدرها فلو ستر كفره لم يتعرض له أحد، ولم يثق على بيضة قلبه كما كان يقع للمنافقين" [6] .(23/338)
أما ما عدا هذه الجرائم من مخالفات، وسبق ضرب أمثلة لها- فقد ترك التصرف بشأنه لولي الأمر فيؤدب المخطئ عن طريق ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتعزير، والتعزير: التأديب؛ وهو عقوبة لم تحدد الشريعة مقدارها، وتركت للقاضي التقدير الملائم لنوع الجريمة ولحال المجرم وسوابقه.. ولقد أعطى الشارع قاضي المسلمين صلاحية فرض العقوبة المناسبة والتي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه، وحماية الجماعة وصيانتها وهى تبدأ بالزجر والنصح، وتتراوح بينهما الحبس، والنفي والتوبيخ، والغرامات المالية، ومصادرة أدوات الجريمة. والحرمان من تولي الوظائف العامة، ومن أداء الشهادة.. الخ.. وقد تصل إلى أشد العقوبات كالحبس والجلد والقتل وذلك في الجرائم الخطيرة، كالتجسس لحساب العدو مثلا، أو معتاد الجرائم الخطيرة [7] .
وبعد: فإنه لا يزال البعض يتحرج من إقامة حدود الإسلام. ويثير حول عجاجة من غبار، ويصفها بالقسوة والشدة، وعدم مسايرتنا لروح العصر الذي ارتقت فيه المدارك. والطباع الإنسانية، ولكن يبدو أن هؤلاء يجهلون فقه الحدود الإسلامية، وحكمتها، ولا يعرفون متى تقام ومتى لا تقام، ومتى يؤخذ بتلابيب المجرم. ولهؤلاء وأمثالهم أسوق الفقرات التالية في مغزى الحدود والملابسات المحيطة بها، والظروف التي تراعى إقامتها، وأثرها في القضاء على الجريمة، وفي سلامة المجتمع وأمنه، فنقول والله المستعان.(23/339)
1- إن الذي شرع الحدود، وحدد العقوبات هو عالم الغيب والشهادة، الخبير بمسالك النفوس ودروبها، العليم بما يصلحها ويقومها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك 14) ، إذا كان الأمر كذلك فتشريع الله لعباده أمرا أو نهيا، حكماً أوْحَدّاً بعيدٌ عن كل معاني النقص والقصور. والمبالغة والهوى، وغير ذلك من صفات الجهل والعجز التي يتصف بها البشر وتتسم بها مناهجهم، وإذا كانت الحدود من تشريع الله، فإن الله أرأف بعباده وأرحم مما يظن القاصرون، وهو أخبر بما يصلح حياتهم ويهذب طباعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة الحدود، وشدة العقوبات، لأنه ليس أبصر بمصلحة الخلق. وأرحم بهم من خالقهم، ومن يظن غير ذلك فقد خرج من الإيمان.
2- المتأمل في تشريع الحدود يجد أن علاج النفس الإنسانية بها يتسم بالحكمة والرحمة معا: أما الحكمة فتتجلى في أن لكل جرم حدا معينا، ولكل مخالفة عقوبة خاصة دون غلو أو زيادة. ودون مبالغة أو إفراط، بحيث تلحظ أن الشارع قد سار في هذه الأمور كما سار في غيرها- على أدق المقاييس، وأعدلها، فالذي يريد أن يستمتع بنشوة اللذة عليه أن يتوقع أنه سيذوق من الألم أشده.. والذي يريد الثراء من كسب غيره يعامل بنقيض مقصوده، وتقطع منه أداة كسبه.. والذي يريد أن يحقر غيره بالقذف سيجد التحقير من الجماعة كلها، فتسقط شهادته، ويمشي بينهم لا يوثق له بكلام.(23/340)
وهكذا.. وهكذا.. ناسبت كل عقوبة جريمتها، ووضعت على أساس محاربة الدوافع التي تدفع إليها كل جريمة، فهي لم توضع اعتباطا، وإنما وضعت على أساس طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقله. ولهذا كانت العقوبة في الشريعة الإسلامية قائمة على واقعية علمية فنية تامة الضبط والإحكام، لأنه مما لا شك فيه أن العقوبة التي تقوم على أساس العلم بالطبيعة البشرية، وفهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح. لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وداخله، قبل أن تحاربه في حسه وظاهره، الأمر الذي يجعل الشخص يبتعد حتى عن مجرد التفكير في اقتراف المنكر.(23/341)
يقول الإمام ابن القيم: "لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل متشعب، ولعظم الاختلاف، فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، وأنت تلحظ أن هناك تناسباً جيدا بين الجريمة وعقوبتها المقررة لها بحيث لو وضعت واحدة مكان أخرى أو لو عممت عقابا واحدا على جرائم متعددة لظهر لك على الفور الاختلال والاضطراب وعدم العدل في الأحكام.. فالشريعة مثلا عاقبت على السرقة بقطع اليد. ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان، ولم تعاقب على الزنا بالخصاء. وعاقبت في القتل بالقصاص، ولكنها لم تعاقب في إتلاف المال بالقصاص، وسبحان اللطيف الخبير" [8] .. هذا عن أن الحدود حكمة.. وأما أنها رحمة.. فهي كذلك بالنسبة للمنحرف ذاته، وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه.. أما بالنسبة للمجتمع فذلك ظاهر لما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية الأموال والدماء! وبما تدفعه عنه من أذى العدوان والقلق والترويع. فإذا أرخص الإسلام دم قاتل، فلكي يحقن ألوف الدماء ويحيط الجماعة كلها بما يحفظ عليها حياتها وأمنها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 179) أي حياة هادئة مطمئنة لا بغي فيها ولا عدوان.(23/342)
زد على ذلك ما في إقامة الحدود من بركات تعم المجتمع بأسره، وفي الحديث: "حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا" [9] وفي رواية "أربعين ليلة"، أما أن الحدود رحمة بالمعتدي فيتجلى ذلك في مغفرة الله ورحمته التي تحوطه بعد إقامة الحد عليه. فالحدود كفارات للآثام وجوابر لها، تغسل أثرها وتمحو ذنبها، وكون الحدود جوابر لا ينفي أنها زواجر كذلك. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ماعز: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم" [10] وعن الغامدية: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم" [11] كما جاء في السنة: "من أصاب في الدنيا ذنبا، فعوقب به فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة" [12] . وروي أن "السارق إذا تاب سيقت يده إلى الجنة وإن لم يتب سيقت يده إلى النار" [13] ، فالحد أشبه بجرعة من الدواء الكريه يشربها الإنسان ليحصل بعد ذلك على الراحة، وفي الحديث: "من أصاب منكم حدا فعجلت له عقوبته فهو كفارته" [14] .
يقول ابن القيم: "بلغ من رحمة الله تعالى وَجُوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها. وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة. فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة" [15] .(23/343)
3- لا يرى الإسلام العقوبة غاية في ذاتها، ولكنه يراها وسيلة - ضمن وسائل كثيرة أخرى - لتقويم النفس الإنسانية وكفها عن الانحراف؛ ولذلك فإن الإسلام لا يتربص بالمجرم لكي يوقع عليه العقاب، ولا ينتظر عثرة العاثر ليبطش به أو ينتقم منه، إنه طالما نصح بالستر عليه لعله يتوب أو يستغفر، دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" [16] ، وعنه صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد" [17] ، وقال عليه الصلاة والسلام: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" [18] . ويكره الإسلام أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا حتى لا تجرح أعراض الجماعة المسلمة. ويلوث جَوَّها بالقيل والقال.. ولما جاء ماعزا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال - رجل حرضه على الإقرار-: "لو سترته بثوبك كان خير لك" [19] . ويروى أن ماعزا مرّ على عمر قبل أن يقر فقال له عمر: "أأخبرت أحدا قبلي"، قال: "لا". قال: "فاذهب فاستتر بستر الله تعالى وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، والله تعالى يغير ولا يعير، فتب إلى الله تعالى ولا تخبر به أحدا". وذهب إلى أبى بكر فقال مثل ما قال عمر، ثم ذهب إلى هذا الرجل الذي لامه النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بما أقر به [20] .. وهذا يدل على أن الجريمة إذا ارتكبت في غير إعلان ينبغي سترها وعدم كشفها.(23/344)
4- إذا ضبط الجاني وجيء به إلى القاضي هل يقام عليه الحد فوراً.. لا.. إنه يدرأ ما كان هناك مخرج منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ فيالعقوبة " [21] . . فحين توجد أي شبهة، فمبدأ الإسلام هنا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" [22] . ولذلك يقول عمر بن الخطاب: "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى أن أقيمها بالشبهات" [23] ، ولهذا لم يقطع عام الرمادة عندما انتشرت المجاعة [24] ، ولم يقطع كذلك عندما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة ناقة رجل من مزينة بعد أن تبين أن سيدهم يجيعهم، وغرم السيد ضعف ثمن الناقة تأديبا له [25] . ولعل القصد من وراء الأخذ بمبدأ الشبهة التي تدرأ الحد هو التقليل من العقوبات ما أمكن. إذ القليل منها كاف في الزجر والتخويف [26] . ومن أمثلة ذلك ما ذكره الفقهاء من أنه لا قطع إذا كان السارق والدا أو زوجا [27] . أو كان في ظروف مجاعة. وبالنسبة للقذف قالوا لا حد بالتعريض [28] ، وبالنسبة للزنا قالوا لا حد إذا لم يصرح الشهود أو المقر بالعبارات الدالة عليه من غير احتمال فإن الحد يقام [29] كما جاء في كتاب المغني لابن قدامة أنه إذا ادعى أحد الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر رضي الله عنه قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة، ولأن مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير أهل العلم [30] فالتضييق في الحدود أمر محبب في الإسلام حتى يكون العقاب قليلا مانعا بدل أن يكون عاما جامعا. على أن الفقهاء وإن كانوا اتفقوا على أن الشبهات تدرأ الحدود، إلا أنهم لم يتفقوا على كل الشبهات، فما يراه البعض شبهة صالحة للدرء قد لا يراه الآخرون كذلك، وتلك أمور كلها من مصلحة المتهم، ومن أمثلة ذلك أن كل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة أو المتزوجة أو المعتدة أو المطلقة ثلاثا يدرأ(23/345)
فيه أبو حنيفة الحد ولو كان الجاني عالما بالتحريم لأن العقد في رأي أبي حنيفة شبهة والشبهة تدرأ الحد [31] ، ولا يرى مالك والشافعي وأحمد درء الحد في هذه الحالات؛ لأنهم لا يعتبرون العقد شبهة [32] .
ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة في المال تدرأ الحد عن سارقه، ويرتب على ذلك ألا قطع في التراب والطين والتبن والحصى وأشباهها إلا إذا أخرجته الصنعة عن تفاهته كان القطع واجبا، ويخالف مالك والشافعي وأحمد مذهب أبي حنيفة، ولا يهون شبهة في تفاهة المال ما دام يبلغ النصاب [33] .
ولا يرى أبو حنيفة الحد في سرقة ما يتسارع إليه الفساد كالطعام والرطب والبقول واللحم ولا في سرقة باب المسجد لشبهة عدم تحريزه [34] ، ويرى مالك والشافعي وأحمد القطع في كل هذا [35] .(23/346)
5- يوفر الإسلام الضمانات الكاملة والكافية لكل متهم، حتى لا يؤخذ بغير دليل ثابت ولذلك كان من المبادئ المقررة في الشريعة أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجاني ارتكب جريمته، فإن كان هناك شك في ارتكاب الجاني لجريمته، ولم تتقرر بالنسبة له أدلة الإثبات وجب العفو عنه، وأصل ذلك المبدأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" [36] . ومن جهة أخرى نجد أن أدلة الإثبات التي قررتها الشريعة في الحدود دقيقة قلما ثبتت إلا على محترفي الإجرام.. فهي في الزنا مثلا الإقرار أو أربعة شهود رجالا يقرون برؤية الفعل، فإذا لم يتكامل العدد أربعة وأصر واحد أو اثنان أو ثلاثة على قولهم اعتبر من أصر قاذفا ويحد حد القذف [37] وذلك لقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور آية 4) . وفى القذف بشهادة اثنين أو بالإقرار بعد الدعوى [38] ، وفي السرقة الاعتداء على مال الغير المتقوم المحرز خفية…ِ الخ تلك الشروط. ولابد معها من الإقرار وشهادة اثنين [39] . وفي الشرب مثل السرقة بالإقرار أو بشهادة اثنين [40] . ومثل هذه الشروط لا تنطبق إلا على المصر المجاهر بمعصيته الذي تكررت منه حتى أمكن أن تقع منه علنا. ويضبط متلبسا بها، ومن حق المجتمع أن يحمي نفسه ممن لا يأبه بحرمة الله دون استثناء لأي اعتبار كان. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقيم حدود الله دون مجاملة، وقد رفض الشفاعة فيها من أعز أحبابه أسامه بن زيد وقال له: "أتشفع في حد من حدود الله، إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(23/347)
[41] ، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره" [42] .
6- ذهب بعض العلماء إلى أن توبة الجاني تسقط الحد عنه وتكون سببا للتجاوز عنه وإخلاء سبيله. واستدل هؤلاء بقوله تعالى بعد آية المحاربة {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة المائدة 34) .. وحجتهم في ذلك أن القرآن نص على سقوط عقوبة المحارب بالتوبة، وجريمة الحرابة هي أشد الجرائم. فإذا دفعت التوبة عن المحارب عقوبته، كان من الأولى أن تدفع التوبة عقوبة ما دون الحرابة من الجرائم، وأنَّ القرآن لما جاء بعقوبة الزنا الأولى رتب على التوبة منع العقوبة، وذلك قوله تعالى {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (سورة النساء16) .. وذكر القرآن حدّ السارق وأتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (سورة الأنفال 38) .(23/348)
وقد أيد ابن القيم هذا الرأي ودافع عنه بقوله: "وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره، فيقال أين في نصوص الشارع هذا التفريق، بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه. إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى. فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابة مع شدة ضررها وتعديه. فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأخرى. وقد قال الله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (سورة الأنفال 38) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" [43] والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا، فليس في شرع الله وقدره عقوبة تائب البتة، وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل وقال يا رسول الله: "إنما أصبت حدا فأقمه علي قال: ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله قال: ليس قد صليت معنا، قال نعم، قال فإن الله تعالى قد غفر لك ذنبك". قال ابن القيم: "فهذا لما جاء تائبا بنفسه - من غير أن يطلب - غفر الله له، ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به، وهو أحد القولين في المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب.. فإن قيل فماعز جاء تائبا، والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد قيل لا ريب في ذلك، وبهما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخا عن ذلك فأجاب بما مضمونه أن الحد مطهر وأن التوبة مطهرة، وهما اختاروا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله(23/349)
عليه".. ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال -لصاحب الحد الذي اعترف به-: "اذهب فقد غفر الله لك"، وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامة الحدّ وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردهما النبي صلى الله عليه وسلم مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما ثم يقول: "وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول تجوز إقامته بعد التوبة. ومن مسلك من يقول لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط [44] ، لكنه إذا أخذ بهذا الرأي الذي يسقط الحد بالتوبة. فإنه ينبغي أن يراعى ما يأتي:
أ- أن يكون ذلك فيما يتعلق بحق الله تعالى كشرب الخمر مثلا ولا يكون مما يمس حق الأفراد، كالقتل أو الضرب، فلا بد في ذلك من عفو أصحابهما.
ب- أن تكون تلك التوبة عن الجريمة الأولى، فإذا عاد إلى انحرافه مرة أخرى وضبط وادعى التوبة، فينبغي أن يعاد النظر في قبول توبته حتى لا يتعطل القضاء، أو يستهين بحدود الله تعالى، فقد يكون كاذبا قد خدع القضاء بها أولا فلا يخدعه ثانياً؛ لأن فعله هذا يثبت أن التوبة الأولى لم تكن صحيحة. لأن شرط التوبة الصحيحة، التي تقبل الغفران ألا يقع الشخص في الفعل الذي تاب منه مرة أخرى، ولا شك أن الثانية من نوع الأولى ولا فرق بينهما، ثم إن النفس إذا تمرست بالمعصية أحاطت بها واستولت عليها، ولذلك قال الله تعالى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . (سورة البقرة 81) [45] .(23/350)
7- كثير من هذه العقوبات منصوص عليها في التوراة. وصدق عليها الإنجيل لأن ما لا نص عليه في الإنجيل بالمنع أو الإباحة تتبع به نصوص التوراة، لأن عيسى عليه السلام قال: "ما جئت لألغي الناموس بل جئت لأحيي الناموس". ويقول الله عز وجل في هذا الشأن {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} (سورة المائدة 46045) .. ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق منهم الشريف تركوه وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد" [46] . وفي سفري الخروج [47] والتثنية [48] أمثلة على عقوبات القتل والغدر والضرب وسائر أنواع القصاص [49] ، فالذي يهاجم الإسلام من الأوربيين في تشريع العقوبات فهو يهاجم الأديان السابقة كذلك. على أنه إذا كان اليهود والمسيحيون قد تركوا تلك الأحكام واستغنوا عنها فنحن المسلمين ليس عندنا استعداد لترك ديننا، والتخلي عن شريعتنا، لأننا لا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.(23/351)
8- إذا تعلل بعض الرقعاء بأن الحدود لا تناسب أذواق العصر ومداركه؛ لأنها وضعت لنفوس قاسية غير مدركة، أما الآن فقد أرهفت الأحاسيس، وعلت المدارك فلا سبيل إلى مثل هذه العقوبات، قلنا لهم: مصداق هذا الادعاء ألا توجد أسبابه، فلا توجد السرقة التي أوجبت عقوبتها، ولا يوجد الزنا الذي أوجب عقوبته..وهكذا.. ولكن الجرائم مازالت قائمة، وقد تعددت أسبابها، وتفتحت أبوابها، وتفننت العقول في طرائقها، وتصفح أي جريدة في أي بلد في العالم تجدها لا تخلو من جرائم السرقة والقتل والنصب والاختلاس. حتى صار الشخص لا يأمن على نفسه وماله في كثير من بلدان العالم.
ولقد نشرت جريدة الأخبار القاهرية منذ سبع سنوات ما يلي: -نقلا عن وكالات الأنباء- قتل المجرمون في الولايات المتحدة أكثر من عشرين ألف شخص خلال عام 1973م، وسرق اللصوص ممتلكات وأشياء تزيد قيمتها على ألفين وستمائة مليون دولار، وذلك بعد أن زادت موجة الجريمة خلال سنة 1974 بنسبة 18% عن العام الأسبق.
وذكر تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالية في عام 1974 أن عشرة ملايين ومائة ألف جريمة خطيرة وقعت في الولايات المتحدة، وذلك بزيادة مليون ونصف مليون جريمة عن عام 1973، وكان ثلث الذين اعتقلوا لارتكاب الجرائم الخطيرة من الشباب المراهق تحت العشرين [50] .. ومثل ذلك كثير في البلدان التي لا تقيم حدود الله، فكثرة أسباب العقوبة دليل على شدة الحاجة إلى الحدود والعقوبات ودليل على أنَّ النفوس لم تسم عن نفوس السابقين، وإن ارتفعت في مجال العقل والفكر، لأن العقل وحده لا يكفى، بل لا بد له من خلق كريم يسيره، وهداية إلهية تهديه سواء السبيل.
وإذا بدا للبعض أن العقوبات شديدة موجعة، فذلك شأن العقوبة دائما، فاسمها مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبا وعبثا. أو شيئا قريبا من هذا [51] .(23/352)
أما العقوبات فشأنها أن تكون رادعة بحيث تكف عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا وقعت كانت كفيلة بتأديب الجاني وزجر غيره، وإلا ما حققت المقصود منها؛ يقول أحد الفقهاء عن العقوبات: "إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده" [52] أي العلم بشرعيتها يمنع الأقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه، ثم أن عدم الردع في العقوبات الحاضرة دليل على الحاجة إلى العقوبات السماوية، وإذا كان السجن الآن هو أبرز العقوبات على مخالفات العصر، أو هو العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم بسيطة كانت أوْ خطيرة فهل ترى ذلك أغنى شيئا؟.
إن الجرائم لم تقلّ، بل هي في ازدياد مستمر.. كما تدل على ذلك سجلات المحاكم وملفات المحامينِ، وفوق أن السجن لم يقض على الجريمة، ولم يوقف نشاطها فإن العلاج به فيه كثير من العيوب نشير إلى بعضها:
1- تكليف الدولة كثير من النفقات والأموال الباهظة التي لا بد من رصدها للإنفاق على نزلاء السجون، وموظفيها وعمالها، زيادة على تكاليف بنائها وإنشائها، وكم يرصد من أجل ذلك من أموال. إن ميزانية السجون بين الميزانيات الضخمة التي يدفعها المجتمع وهو في حاجة إليها دون فائدة أو جدوى، ذلك أنك تسأل هل استطاعت السجون المسماة بدُور الإصلاح والتقويم أن تقوم بهذا الغرض فعلا من حيث علاج المجرم والقضاء على الجريمة.
إن الواقع يؤكد عكس هذا، فإن الحبس لا يمنع المجرم من مزاولة هوايته إلا مدة لحبس فقط، ثم يعود بعده سيرته الأولى كأعتى ما يكون، لأنه يعيش بين قوم ألفوا الإجرام واعتادوه، فيخرج من سجنه وقد أصبح أستاذا في الجريمة بعد أن أخذ قواعدها من مدرسة الجريمة، ولذلك فانه قد يكون في الحبس بعض من لم يتمرس على الجريمة لأنه ليس مجرما حقيقيا. ولكنه باختلاطه مع زملائه، وتبادل المعلومات والخبرات معهم يخرج وقد أصبح خبيرا متخصصا.(23/353)
2- يحول السجن بين اللصوص وبين العمل خلال فترة السجن، وغالبا ما يكونون أصحاب قدرة ونشاط، وفي ذلك تعطيل للمواهب والقدرات، وكان من الممكن- لو أنهم عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم، كان من الممكن أن يستغلوا جهدهم المعطل في العمل فيستفيدوا ويفيدوا مجتمعهم.
3- كثيرا ما يعود السجن على السجين بالضرر البالغ في صحته وجسده نظرا للازدحام الموجود فيه، وعدم الرعاية الصحية والنظافة الكاملة، ولذلك فالسجن غالبا ما يكون وسيلة لنقل الأمراض ونشرها بين المسجونين، وسببا لإفساد أخلاقهم.
4- السجن فيه إهدار لانسانية الإنسان، لأن السجين ينادى عليه هناك برقمه لا باسمه وفي ذلك إلغاء لشخصية الإنسان وذاته، وإشعاره بالإهانة وعدم الكرامة، ومن شعر بفقد كرامته وانحطاط إنسانيته هانت عليه كثيرا من الجرائم.
5- في مدة حبس السارق تكون النتيجة اضطراب أسرته، وعدم استقرارها وفي ذلك من تيسير الانحراف وطرق الإجرام ما فيه.
6- بعد أن يخرج السارق من السجن نجده محكوما عليه بالموت الأدبي إن لم يكن المادي أيضا- وذلك لأن الجمهور ينبذه ولا يفتح له صدره أو ييسر له طريقا لاستئناف حياة نظيفة. وقد يضطره ذلك إلى أن يزاول الإجرام من جديد، وبصورة فيها تصميم على الانتقام، فيمرن عليه ويتشبع بدمه ويصبح عنده حرفة وعادة. وكثيرا ما قرأنا في الصحف عن أشخاص خرجوا من السجن، ولما نووا الاستقامة، أخذوا يبحثون عن عمل شريف فأوصد المجتمع في وجوههم أبوابه، ووصمهم بعار الانحراف والخيانة، ولذلك كانوا يناشدون المجتمع في حياة أنقى، وسيرة أطهر.
وبعد.. فلقد أخفقت عقوبة الحبس في تأديب المجرمين، كما أخفقت سائر القوانين الوضعية في تنظيف المجتمع من الانحرافات والسوءات، فهل لنا أن نعود إلى طريق الكمال(23/354)
والطهر والعفاف.. إلى شرع الله.. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سورة الأحقاف 31، 33) .
جريمة قتل كل 22 دقيقة في أمريكا ...
كشفت وزارة العدل للولايات المتحدة الأمريكية في تقرير صدر أخيراً أن سير الجرائم في الولايات المتحدة قد ازداد بنسبة تسعة في المائة بالنسبة للعام السابق. وبنسبة خمسة وخمسين في المائة خلال اثنتي عشرة سنة أخيرة. وطبقاً للتقرير تقع كل جريمة وعمل عنيف كل 34 دقيقة. وجريمة قتل كل 23 دقيقة، وانتهاك حرمة كل 6 دقائق وكشفت الإحصائيات الرسمية أن عدد القتلى بلغ إلى 33 ألف و 544 وأكثرهم تتراوح أعمارهم بين عشرين وتسعة وعشرين عاماً.
الرائد الهندية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التشريع الجنائي الإسلامي. عبد القادر عودة جـ1/79.
[2] ذهب البعض إلى أن الحدّ يطلق على عقوبة مقدرة بتقدير الشارع سواء كان جريمة الاعتداء فيها على حقوق الله. أم كان الاعتداء فيها على حقوق العباد. انظر فتح القدير جـ5 /4ط دار إحياء التراث العربي بيروت. وكتاب العقوبة للشيخ محمد أبو زهرة ص70 ط1974
[3] التشريع الجنائي الإسلامي. عبد القادر عودة جـ1/245 ط دار الكتاب العربي- لبنان.
[4] مواهب الجليل جـ2/268 عن المرجع السابق.
[5] انظر كتاب الإسلام والطب الحديث د/عبد العزيز إسماعيل.
[6] مقاصد الشريعة الإسلامية ط الرباط سنة 1963 ص 249(23/355)
[7] التشريع الجنائي جـ1/688 نقلا عن طريق الحكيمة لابن القيم /106 الحسبة لابن تيمية/58 حاشية ابن عابدين 4/647.على أن الشافعية ومعظم المالكية لا يبيحون القتل تعزيرا ويفضلون أن يحبس الجاني الذي يستضر بجريمة إلى غير أمد لكف شره عن الجماعة ويؤيدهم في هذا الاتجاه بعض الحنابلة (انظر المرجع السابق) .
[8] إعلام الموقعين جـ2/83.82.
[9] ابن ماجة-باب إقامة الحدود.
[10] رواه الخمسة واللفظ للترميذي انظر التاج 3/25
[11] رواه الخمسة، انظر التاج جـ3/27.
[12] ابن ماجة، باب الحد كفارة.
[13] العقوبة في الفقه الإسلامي جـ2/265
[14] ابن ماجة، باب الحد كفارة.
[15] إعلام الموقعين 2/83.
[16] الحاكم والبيهقي: تنظر جمع الجوامع 472
[17] رواه البيهقي 8/330 والحاكم 4/244. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة جـ/272.
[18] ابن ماجة باب الحدود.
[19] أبو داود باب الحدود.
[20] العقوبة في فقه الإسلامي، محمد أبو زهرة 219.
[21] الترميذي، باب الحدود.
[22] البيهقي والدارقطني. انظر فيض القدير جـ1/228.
[23] التشريع الحنائي جـ1/208.
[24] العقوبة في فقه الإسلامي ص259 دار الفكر.
[25] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 265 ط دار الهلال.
[26] لا ينكر قاعدة درء الحدود بالشبهات إلا أهل الظاهر الذين لا يسلون بصحة ما ورد عن الرسول والصحابة في هذا المجال (انظر فتح القدير 4/139.)
[27] العقوبة في فقه الإسلامي 226.
[28] العقوبة في فقه الإسلامي 259.
[29] العقوبة في فقه الإسلامي 242.
[30] التشريع الجنائي جـ1/210 عن فتح القدير 4/148.143.
[31] المرجع السابق 232.
[32] المرجع السابق عن شرح الزرقاني جـ8/77.76 وأسني المطلب جـ4/127.(23/356)
[33] المرجع السابق نقلا عن فتح القدير 4/148،وبدائع الصنائع جـ7/68.67.
[34] المرجع السابق عن فتح القدير 4/230.
[35] المرجع السابق عن شرح الزرقاني 8/99 وأسني المطالب 4/140.
[36] الترمذي، باب الحدود.
[37] المغني جـ10/72 ط أولى سنة 1389. والجريمة في الفقه الإسلامي 78 وذكر المغني عن الشافعي في المسألة قولين أحدهما لأحد عليهم.
[38] الجريمة في الفقه الإسلامي 83.
[39] المرجع السابق 81.
[40] المرجع السابق.
[41] رواه الخمسة، انظر أبواب الحدود.
[42] مجمع الزوائد جـ6/259ط ثالثة.
[43] ابن ماجة في الزهد. والبيهقي في شعب الإيمان.
[44] إعلام الموقعين جـ2/64 ط دار الكتب الحديثة سنة1389.
[45] انظر العقوبة في الفقه الإسلامي 276.
[46] رواه الخمسة، انظر أبواب الحدود.
[47] الإصحاح 35.21.
[48] الإصحاح 9.
[49] لا نذكر هذه الشواهد على أنها صحيحة لأن فيها أمورا تخالف النقل والعقل مثل من شتم أباه أو أمه يقتل. كما لا نذكرها على أنها التوراة الحقيقة، وإنما لنلطم به وجه الذين يطعنون في عقوبات الإسلام وثبت لهم وللأروبيين أن القصاص وكثيراً من عقوبات موجود في الكتب السابقة.
[50] جريدة الأخبار 18/11/1975-ص2.
[51] التشريع الجنائي جـ1/564 فقرة 462.
[52] المرجع السابق نقلا عن شرح فتح القدير 4/112.(23/357)
العدد 52
فهرس المحتويات
1- نعمة يحب أن تشكر..: للدكتور أحمد عطية الغامدي
2- لا خيرة للمؤمن إذا قضى الله ورسوله: الشيخ أبو بكر الجزائري
3- كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور: للشيخ حماد الأنصاري
4- مفهوم الأسماء والصفات: لفضيلة الشيخ سعد ندا
5- فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
6- رخصة الفطر في سفر رمضان وَما يترتب عليها من الآثار: للدكتور أحمد طه ريان
7- فريضة الحج وجواز النيابة فيها: للدكتور محمد عبد المقصود جاب الله
8- الرق في الجاهلية والإسلام: للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
9- دراسات في أصول الفقه تدرج علم الأصول عبر الأجيال والعصور: للدكتور علي أحمد محمد باكر
10- إنما المؤمنون إخوة: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
11- أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم: الدكتور أبو المجد سيد نوفل
12- التربية الإسلامية ومراحل النّمو: للدكتور عباس محجوب
13- حقوق الإنسان في الإسلام (3) : الشيخ عبد الفتاح عشماوي
14- نماذج أخرى من الدعاة الصالحين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للشيخ أبو بكر الجزائري
15- قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى (3) : د. محمد عبد المقصود جاب الله
16- جيش العسرة يحمي المدينة… ويؤَمِّن حدود الجزيرة: للدكتور عبد العظيم حامد خطاب
17- من أعلام الدعوة الإسلامية في الهند: الشيخ زين العابدين بن علي المعبري المليباري
18- لماذا أسلم هؤلاء..؟ عرفت الإسلام بالمراسلة ثم هربت إلى بلد إسلامي لتعلن إسلامها
19- رسائل لم يحملها البريد: الشيخ عبد الرءوف اللبدي
20- حول الشعر التعليمي (1) : للدكتور صالح آدم بيلو
21- الرّاغب الأصفهاني وجهوده في اللّغة: للدكتور عمر عبد الرحمن السّاريسي
22- صفحة لغة - قل..ولا تقل: للشيخ ضياء الدين الصابوني
23- برهان الحق في الخلق (2) : د. عز الدين علي السيد
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (2) : للشيخ يوسف الهمذاني الشافعي
25- أنا الكنز والمجد: لشاعر العربية في إندونيسيا الشيخ عبد الله نوح
26- ذكريات من المدينة: للشيخ عبد الحميد عباس
27- في المشارق والمغارب جنوب شرقي آسيا (1) : الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
28- إلى الذين يبثون الألغام في طريق الإسلام: للشيخ محمد المجذوب
29- كتاب في رؤية الله تبارك وتعالى (2) : تأليف: أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد، تحقيق وتخريج الشيخ محفوظ الرحمن بن زين الله السلفي
30- فتاوى شرعية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
31- نظرة إسلامية إلى البحث والكشف والابتكار (1) : للدكتور أبو الوفاء عبد الآخر
32- الكتاب: دور الدول الاشتراكية في تكوين إسرائيل: الدكتور إبراهيم الشرقي
33- مراكز تقدمية: من كتاب (مشكلات الجيل في ضوء الإسلام)
34- في ندوة الإسلام في كوريا: سمو الأمير نايف ينجح في التوسط لدى الحكومة الكورية بإنشاء جامعة إسلامية
35- الأمي الذي أصبح دكتوراً - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
36- تعليقات وتحليلات: للشيخ محمود محمد سالم
37- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(23/358)
نعمة يحب أن تشكر..
للدكتور أحمد عطية الغامدي
عميد كلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله الأمين نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين؛ أما بعد:
فإن نعم الله علينا كثيرة لا تحصى، إلا أن أجلها نعمة الإسلام الذي ختم الله تبارك وتعالى به الأديان، ولذلك كان رسوله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة، وكان غيره من الرسل يبعث إلى قومه خاصة. وإذا كان الإسلام للبشرية كلها إذ لا دين يقبل من أهله بعده سواه، فإن عمومه يقتضي صلاحه لجميع البشر في جميع الأماكن والأزمان، وقد أودع الله فيه من الخصائص العظيمة التي انفرد بها عما سواه من الأديان الأخرى ما جعل الفطر السليمة ترتاح إليه فتعتنقه عن قناعة تامة لأنه هو الدين الحق الذي تجد فيه النفوس ما تنشده من الهدى، إذ كتابه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقد وعد الله سبحانه وتعالى بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .وإذا كان الله تعالى قد رضي الإسلام لنا دينا، فإنه- سبحانه- قد أوضح أركانه التي لا يقوم بغيرها، وأصبحت معرفة هذه الأركان من الأمور البديهية التي لا تخفى على أي مسلم مهما كان.(23/359)
إلا أن الأمر الذي قد يخفى على كثير من المسلمين هو ما يجب تصوره عن حقيقة تلك الأركان، فهي ليست مجرد أفعال تقوم الجوارح بأدائها، بل إن الشهادة ليست قولاً أجوف ينطق به اللسان فحسب، والصلاة ليست مجرد أفعال وحركات يمارسها المصلي في اليوم خمس مرات، والزكاة ليست مجرد اقتطاع جزء من المال لأدائه إلى فئة معينة، والصوم ليس تحسساً لمضايقات الجوع والعطش، والحج ليس مجرد تحمل لمشاق السفر من أجل طواف بالبيت أو التنقل بين المشاعر المقدسة. ليست هذه الأركان أفعالاً جوفاء خالية من المعاني السامية والحكم العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها حالة أدائه لها، ولا يهمنا هنا الحديث عن هذه المعاني لتلك الأركان جميعها بل من المناسب- وهذا العدد يصدر في فترة الحج- أن نذكر بأن هذا الركن الذي هو الخامس من أركان الإسلام قد فرضه الله تبارك وتعالى على كل من استطاع إليه سبيلا من أبناء هذه الأمة لحكم عظيمة أرادها، علمنا منها ما علمنا وخفي علينا الكثير. فالمسلمون حينما يتجهون إلى قبلتهم تلبية لنداء الله تعالى لأبينا إبراهيم الخليل عليه السلام إذ أمره بقوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} , واستجابة لأمر الله القائل {عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإنهم بذلك يحصدون من المكاسب العظيمة ما ينفعهم في الحياة الدنيا، ومن الثواب الكبير ما تقر به أعينهم في الآخرة. وإذا كانت المكاسب الدنيوية المباحة ثمرة من ثمار الحج، فإن الحج المبرور الذي وعد صاحبه بالجنة في قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" أعظم ثمرة يجنيها الإنسان ليتزود بها من دار الممر إلى دار المقر, حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إلا أن لتحقق هذه الثمرة المرجوة من الحج شروطا حتمية(23/360)
ذكر الله تبارك وتعالى أبرزها حين قال سبحانه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} وإن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الذين أكرمهم الله بأن وفقهم لأداء هذه الفريضة ليشعرون بالغبطة والسرور حينما يجدون أنفسهم في حشد بشري هائل، تتوفرله كل سبل الراحة والأمن والاطمئنان، ولذلك وجب عليهم شكر الله تبارك وتعالى على هذه النعمة التي لا تعدلها نعمة، فإن الأمن في عصرنا الحاضر يكاد يكون مفقوداً في أرقى دول العالم التي استطاعت أن تبتكر من الوسائل التي تحاول بها التخلص من الجريمة وتثبيت الأمن ما لم يتوفر لمجتمع على مر التاريخ البشري، ومع ذلك عجزت عن تحقيق مفهوم الأمن فيه مجتمعاتها، فقد استشرت الجريمة وانتشر الفساد ودخل الرعب إلى كل قلب، ناهيك عن الدول التي تفتقر لمثل هذه الوسائل فلم تحصل منها إلا على ما مكنتها منه مواردها وطاقاتها المحدودة، فإنها لم تستطع ولن تستطيع أن توفر لمجتمعاتها ما تبحث عنه من أمن وراحة بال، وما ذلك إلا لأن هذه وتلك إنما تعتمد على ما شرعته لها قوانينها البشرية القاصرة.
أما المجتمع الإسلامي الذي تعتبر المملكة العربية السعودية أسمىمثل له في عصرنا الحاضر، فإنه- بفضل الله- قد تحقق له من الأمن ما عجز الآخرون عن تحقيقه رغم وفرة الوسائل العلمية الحديثة وكثرة التشريعات. وسبب هذا الأمن الوارف المكين ما اعتمدته حكومة هذه البلاد منذ أول أيامها على يد جلالة الملك عبد العزيز- رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الحديثة من إلزام نفسها بتطبيق شريعة الله، والسير على هداها، والذود عن حياضها، فكان ثمرة ذلك العز والنصر والتمكين، فلا أمن يعدل أَمنها الذي ينعم به شعبها في هذا العصر الهائج المائج المضطرب، كما أن كل وافد إلى هذه البلاد ينعم بهذا الأمن ويجد فيه ضالته التي طالما نشدها.(23/361)
وإن من أبرز مظاهر الأمن الذي أنعم الله به على هذه البلاد ما نشهده كل عام من أداء ملايين الحجاج لفريضتهم بيسر واطمئنان بعد أن كانوا في أَحقاب تاريخية سالفة يغادرون أهليهم مودعين وداع اليائس من الرجوع، وذلك لأن النهب والسلب والقتل كان شبحاً يهدد حياة كل حاج وهو في طريقه إلى بيت الله الحرام وحين عودته إلى أهله أما اليوم فليهنأوا وليطمئنوا، فإن الله تعالى قد هيأ لهذه البلاد المقدسة حكومة مسلمة تحكم شرع الله وتربط مصالح المسلمين في إطار هذه الشريعة الغراء، وقد قامت بواجبها إزاء حجاج بيت الله الحرام خير قيام، فكان الأمن وكان اليسر وكان الرخاء.
إلا أن مما يجب الإشارة إليه أن أعداء الإسلام حريصون كل الحرص على النيل من هذه البلاد وهي حصن الإسلام الحصين، إلا أن كيدهم يعود دائماً إلى نحورهم {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . وليس بعيداً عنا ما حدث خلال موسم حج هذا العام من محاولة يائسة لتعكير صفو الأمن السائد بين الحجيج، والتي تتمثل فيما قامت به زمرة ضالة مسخرة من قبل مطايا الصهيونية المعاصرة، أحفاد السبئية الحاقدة، التي لا تخفى مواقفها من الإسلام والمسلمين على مر التاريخ.
إلا أن الله تبارك وتعالى خيب مقاصدهم لأن الحق دائما مؤيد بتأييد الله، وستبقى حكومة هذه البلاد إن شاء الله غصة في نحور أعداء الإسلام، وحامياً أميناً لمقدسات المسلمين، ومحكماً عادلاً لشريعة الله وبذلك سيظل الأمن مسيطراً، والرخاء سائداً، وراية الإسلام مرفوعة بإذن الله, أما أعداء الإسلام فسيجرون أذيال الخيبة والخذلان.
والله نسأل أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأن يديم علينا ما نحن فيه من أمن ورخاء، وأن يعيننا على شكر نعمه، إنه نعم المولى ونعم النصير.(23/362)
إنما المؤمنون إخوة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
فيما يلي نصيحة عامة لرؤساء الدول الإسلامية وعامة المسلمين:
الحمد لله رب العالمية والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يبتلي عباده بالخير والشر والصحة والمرض والفقر والغنى والقوة والضعف لينظر كيف يعملون وهل يكونون مطيعين له في حال الرخاء والشدة قائمين بحقوقه سبحانه في كل الأوقات والأحوال قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إذا علم هذا فإن الله سبحانه يختبر العباد ويمتحن شكرهم وصبرهم لينالوا الجزاء منه كل حسب حاله وما صدر منه فالواجب على المسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة المال أن يتذكر أخاه الفقير فيواسيه من ماله ويعينه على تحمل أعباء الحياة ويؤدي حق الله الواجب في المال وأن يتذكر دائما قوله سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان المسلم معافى في بدنه قويا في جسمه فينبغي له أن يتذكر إخوانه وجيرانه المرضى والضعفاء العاجزين فيعينهم على قضاء حوائجهم ويبذل ما يستطيع لتخفيف وطأة المرض عليهم. ومثل ذلك إذا كان قويا في علمه فعليه أن ينفع عباد الله المسلمين الذين حرموا نعمة العلم فيرشدهم إلى ما ينفعهم(23/363)
في أمور دينهم ودنياهم ويعلمهم ما أوجب الله عليهم، كما أن على المسلم الفقير أو المريض العاجز أن يصبر على ما أصابه ويرجو الفضل من عند الله سبحانه ويجتهد في فعل الأسباب المباحة التي يكشف الله بها ما أصابه وليتذكر الجميع قول الرب سبحانه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وما يقال بالنسبة للأفراد يقال بالنسبة للأمم المسلمة إذ يجب على الأمة القوية في مالها أو رجالها أو سلاحها أو علومها أن تمد الأمد المستضعفة وأن تعينها على الحفاظ على نفسها ودينها وتمنع عنها الذئاب من حولها المتسلطة عليها وأن تؤتيها من مال الله الذي أتاها فهذا هو مقتضى الأخوة الإسلامية التي عقدها الرب سبحانه بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذ يقول جل شأنه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .(23/364)
فيا أيها الزعماء والقادة ويا أيها المسلمون في كل مكان أدعوكم إلى تطبيق مقتضى الآية الكريمة والعمل على إقامة الأخوة الحقيقية بين كل المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وأن يكون المسلمون يدا على من سواهم واعلموا وفقكم الله أن وسائل الابتلاء في هذا العصر أكثر منها في العصور الخالية ذلك أن الله سبحانه أفاض أنواعا من النعم على طوائف من المسلمين وابتلى طوائف أخرى بالفقر والجهل وتسلط الأعداء من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، وابتلى الناس بمخترعات جديدة وآلات حديثة يسرت اطلاع بعضهم على أحوال بعض واتصالهم فيما بينهم وجعلتهم أعظم مسؤولية وأكثر قدرة على النصر ومد يد العون إذا هم أرادوا ذلك. فالمسلمون اليوم يسمعون أو يرون ما يحل بإخوانهم في الفلبين وأفغانستان وأريتيريا والحبشة وفلسطين وبلدان أخرى كثيرة، بل إن هناك أقليات مسلمة في دول شيوعية كافرة والمسلمون قد فرطوا في حقها ولم يقوموا بما يجب من نصرتها وتأييدها وإعانتها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" ويقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه" وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة", وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وهذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضح ما يجب أن يكون عليه(23/365)
المسلمون من التعاون والشعور بحاجة بعضهم إلى بعض. ولقد قرر العلماء رحمهم الله أنه لو أصيبت امرأة مسلمة في المغرب بضيم لوجب على أهل المشرق من المسلمين نصرتها فكيف والقتل والتشريد والظلم والعدوان والإعتقالات بغير حق كل ذلك يقع بالمئات من المسلمين فلا يتحرك لهم إخوانهم ولا ينصرونهم إلا ما شاء الله من ذلك فالواجب على الدول الإسلامية والأفراد من ذوي الغنى والثروة أن ينظروا نظرة عطوف ورحمة إلى إخوانهم المستضعفين ويعينونهم بواسطة سفراء الدول الإسلامية الموثوق بهم أو بواسطة الوفود التي يجب أن ترسل بين حين وآخر باسم الدول الإسلامية لتفقد أحوال المسلمين في تلك الدول الإسلامية أو الأقليات المسلمة في الدول الأخرى، وإذا كانت الأمم النصرانية واليهودية والشيوعية وغيرها من الأمم الكافرة قد تحفظ حقوق أي فرد ينتسب إليها ولو كان يقيم في دولة أخرى بعيدة عنها وتصدر الاحتجاجات وترسل الوعيد والتهديد أحيانا إذا لحق بواحد منهم ضرر ولو كان مفسدا في الدولة التي يقيم في أراضيها فكيف يسكت المسلمون اليوم على ما يحل بإخوانهم كحروب الإبادة وضروب العذاب والنكال في أماكن كثيرة من هذا العالم؟ ولتعلم كل طائفة وأمة لا تخف لنصرة أختها بأنه يوشك أن تصاب هي بمثل ذلك البلاء الذي تسمع به أو تراه يقطع أوصال أولئك المسلمين فلا تجد من ينصرها أو يعمل على رفع الظلم والعذاب عنها فالله سبحانه المستعان وهو المسؤول بأن يوقظ قلوب العباد لطاعته وأن يهدي ولاة أمور المسلمين وعامتهم إلى أن يكونوا يدا واحدة وصرحا متراصا للقيام بأوامر الله والعمل بكتابه وسنة رسوله ونصرة المسلمين ومحاربة الظالمين المعتدين عملا بقول الله سبحانه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ(23/366)
الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التبشير في إندونيسية..!!
عدد الكنائس البروتستانتية في إندونيسية يبلغ أكثر من 9319 أما القسيسين فعددهم 23970 بينما يبلغ عدد المبشرين المتفرغين 4 50 6.
وللمبشرين سفن وطائرات تنتقل بين 3000 جزيرة تمثل جمهورية إندونيسية.
في منطقة كلمنتان الغربية 17 مطارا للمبشرين. (النور المغربية)(23/367)
أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم
الدكتور أبو المجد سيد نوفل
أستاذ بجامعة الأزهر
8- العقيدة في أساليب المحاورة والمحاججة:
والمحاورة: مصدر حاور. وأصله: حار، أي رجع، ويحاوره يرا جعه. وهى أسلوب يقتضى وجود طرفين أو أكثر يدور كلام بينهم في صورة حوار يقصد من ورائه الحكم على أمر ما إيجابا أو سلباً وهى طريقة من طرق توضيح المعنى وتثبيته، وهى تتميز بجذب انتباه السامع أو القاريء نحو الموضوع الذي تتحدد معانيه، وتنكشف أبعاده بطريقة تقوم على السؤال والجواب , والأخذ والرد، والاعتراض والمراجعة ولا يخفى مافي ذلك من عناصر الجذب والمتابعة والتشويق التى تساعد على إدراك الحقيقة العلمية إدراكا واضحا لا خفاء فيه.
والمحاججة: نوع من المحاورة، وهى تتميز بوجود عنصر الإلزام والافحام، واضحا بارزاً بينما يكثر في المحاورة أسلوب العرض والوصفِ.. وقال العلماء: إت المحاجة أسلوب قدم الله فيه مخاطباته مع مخلوقاته في أجلى صور ليفهم العامة من جليها ما يقنعهم وتلزمهم الحجة، ويفهم الخواص من أثنائها ما يرمي على ما أدركه فهم الخطباء وقد اتخذ الأنبياء والمرسلون، والأئمة الهداة.. هذه الأساليب كثيرا في دعوتهم الناس إلى العقيدة والإ يمان بالله سبحانه تعالى.
ولقد عرض القرآن الكريم الكثير من هذين اللونين لاشتمالهما على ما ينشط الذهن ويهيء الفكر للوقوف على الحقيقة والإيمان بالحق.(23/368)
ومن المحاورة ما ورد في القرآن الكريم بين الله تعالى وبين ملائكته وبين آدم ... وفيه بين الله سبحانه وتعالى هذه الحقائق العقائدية، فهو سبحانه الرب المالك لكل شيء وهو الذي خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهو سبحانه القادر عل كل شيء، والعالم بكل شيء والذي يعلم مخلوقاته من علمه سبحانه، ويمنح منهم من يشاء من فضله وكرمه، فيجعل خلافته في الأرض في آدم لا في الملائكة، وأنه سبحانه وتعالى الفاعل المختار، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} البقرة/30-33.
ومن مواقف نوح، وهود، وصالح، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين الكثير من أساليب الحوار مع أقوالهم لبيان الحق وعرض العقيدة وطلب الإيمان بالله تعالى.(23/369)
ومن المحاججة ما ورد في القرآن الكريم بين إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه وبين عدو الله الذي حاج إبراهيم في ربه. فلقد قال إبراهيم له وهو يدعوه إلى الإيمان: أن الرب هو الذي يحيى ويميت، وأنت مخلوق من مخلوقاته يميتك ويحييك. فيقول النمرود: أنا رب مثل ربك لأني أحيى وأميت، آمر بقتل الناس فيموتون فأنا أميت, وأعفو عنهم فلا يموتون ويحيون, فأنا أحيى. لكن إبراهيم عليه السلام الذي آتاه الله رشده وعلمه من علمه يأتي للعدو بحجة أخرى لا يقوى على دفعها ولو ظاهرا. فيقول له إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت صادقا في ادعائك الألوهية فأت بها من المغرب, وهنا لا مجال إلا الهزيمة لعدو الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة/258.
9- العقيدة في أسلوب القصة
والقصة جمعها قصص بكسر القاف، وهي من قصص، والفعل قص، والمصدر قصص بفتح القاف قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ …} يوسف/3, والقصص بفتح القاف إما مصدر بمعنى الاقتصاص أي نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص من كتب الأولين وفي التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن.(23/370)
أو بمعنى المقصوص أي نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسن لما يتضمنه من العبر والحكم والعجائب {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب..} يوسف/111 ويشتق القصص من قص أثره إذا أتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن إذا قرأ، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية.
والقصة: هي أحد أنواع النثر الفني، ونمط من أنماط الأساليب الجمالية، تقوم على عوامل كثيرة، من التشويق، والحوار، والحبكة، والوحدة الموضوعية، وحل المشكلات عن طريق تسلسل الأحداث وربط المشاهد بعضها ببعض.
والقصة عامة كلون من ألوان الأدب قديما وحديثا تقدم الحقائق المختلفة، كما تقدم إلى جانب ذلك الخيالات والمبالغات، والأساطير، وما إليها.
وقد يكون هدفها التعبير، والنصح، والتوجيه،.. كما يكون هدفها مجرد المتعة الذهنية والعاطفية … وقد تتخذ وسيلة للحق أو للباطل، وللخير أو للشر....
لكن القصة في القرآن الكريم تتميز عن سائر أنواع القصص بأنها منزهة عن أي نقص في شكلها وفي مضمونها، ومنزهة عن الخيالات والأوهام، والأساطير، والأباطيل ...
وهي عفيفة الأسلوب، طاهرة اللفظ والمعنى، حيية السياق والعرض، بارعة التركيب، سامية القصد، حسنة الهدف ...
وهي تضم إلى جانب الإيضاح، والتعليم، والنصح ... جوانب الإقناع الذهني والنفسي والعلمي والأدبي، وتضم إلى جانب عرض الحقائق الدينية الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية ...
ومن هنا جاءت القصة في القرآن الكريم تحمل لواء الدعوة إلى الإسلام وتعرض مبادئه، وكانت أسلوبا من أساليب الدعوة إلى الله {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف/111.(23/371)
والقصص في القرآن الكريم كثيرة، منها قصة إبراهيم عليه السلام مع الأوثان والنمرود.... وقصص نوح وهود وصالح مع أقومهم.. وقصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل، وقصة مريم وزكريا وعيسى مع اليهود والرومان ...
وكلها تعرض دعوة الحق والتوحيد، وتقيم الأدلة على صحتها وسلامتها، وتبين آثارها ونتائج الأخذ بها واعتناقها..
كما تعرض العقائد الفاسدة من عبادة الأوثان، والأصنام، واتخاذ الآلهة مع الله ... وتقيم البراهين على فساد هذه العقائد، وما حل بالكافرين والمشركين، والعصاة من عذاب وعقاب ومن هذه القصص القصة التي جمعت سليمان عليه السلام، والهدهد وملكة بلقيس.
وستظهر لنا من خلال تتبعنا لمشاهد هذه القصد عظمة القصص القرآني، وروعة صياغته وعظيم نفعه، وتصدره قمة القصص الرفيع الذي حوى كل أصول الأدب العالي، من جودة العرض وجمال الصورة، وإيضاح الفكرة، وقوة الحركة، وتناسب المشاهد، وحسن العرض. إن هذه القصة إثبات للخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته، ودعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ غيرها من سائر العقائد الفاسدة..
وهي ذات مشاهد وأحداث، وأبطال، وصراعات، ومفاجآت ... وأعاجيب تفوق الأساطير، بيد أنها حقائق واقعة بقدرة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا تشاهد في هذه القصة آدميين فحسب، وإنما تشاهد فيها الجن، ومن هو فوق الجن قوة وعلما.. كما تشاهد فيها الطيور تتكلم، والحشرات تنطق، كل بلغته، وكل يؤدي دوره في صدق، وقوة وإخلاص بين يدي سيده سليمان الذي علمه الله منطق الطير وآتاه من كل شيء فضلا منه سبحانه وتعالى عليه.
في القصة تنطق النملة بنصح قومها وإشفاقها عليهم.. ويدعو الهدهد إلى الإيمان بالذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما خفي وما علن..
ويعمل الجن بين يدي الملك، ومن يزغ منهم عن أمره يذقه من عذاب أليم.(23/372)
والذي عنده علم من الكتاب يأتي بما هو أقوى من الخيال، لكنه حقيقة أجراها رب العالمين على يديه، حيث استطاع هذا العالم أن ينقل عرش الملكة من اليمن إلى الشام وهي مسافة لا تقل عن خمسة آلاف كيلو مترا في أقل من لمحة، أو قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
في القصة قوة الأنبياء وحكمتهم، وعظمة الملوك وحنكتهم، ومشورة أهل الرأي وإخلاصهم وسهر الحاكم على رعيته الكبير منها والصغير حتى الحيوان والطير.. وجرأة المحكوم وحريته في القول والتعبير والعمل مادام يؤدي دوره بصدق ويقوم بواجبه.. وفيها رجوع أهل الفضل إلى الحق بعد ما تبين لهم....
وكل هذه العناصر من القصة هدفت في الأصل إلى أمرين:
أولهما: بيان العقيدة الصحيحة التي يمثلها سليمان وجنوده، وهي عقيدة التوحيد وبيان عقيدة الشرك التي تمثلها بلقيس وقومها قبل إسلامهم.
وثانيهما: تسخير كل مقومات الأمة، وتوجيه طاقاتهاِ إلى الدعوة إلى وجود الله ووحدانيته وصبغ أبناء الأمة بالصبغة الدينية..ِ فهذا الهدهد ينفق جهده وقته في البحث عما يخدم العقيدة ويعلي أمرها، ويعزز شأنها ... وتحتوي القصة على مشاهد كثيرة، كل منها يؤكد ما ذهبنا إليه ويقرره.
وأول هذه المشاهد يبين قوة الملك، واتساع ملكه، وعظمة سلطانه، وكثرة أتباعهِ … فسليمان ملك سخرت له الرياح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص وجمع له الإنس والجن والطير والحيوانات والحشرات، وهو عالم بلغات هؤلاء وهؤلاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ, وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} النمل/16-17.(23/373)
وثانيها: يبين قوة هذا الملك العلمية والروحية، فهو قادر على سماع كل ما يدور في مملكته وقادر على سماع حديث النملة، ومعرفة لغتها، وهو يبتسم ضاحكا من قولها لبني قومها تنصحهم بدخول مساكنهم حتى لا يحطمهم سليطان وجيشه..
ثم هو يرجع الفضل في هذه النعمة وغيرها إلى صاحب الفضل اعترافا منه بعظيم منّه وكرمه سبحانه وتعالى عليه، وهو يرجوه توفيقه لينال رضاه {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} النمل/18-19.(23/374)
وثالثها: يبين مدى حب هذا الملك لرعيته، وحرصه على سعادتها، وتوفير الحرية والأمن لها.. فهو دائب التفقد لشئونها، وهو الساهر على سلامتها، وهو السائل عن غائبها والمعين لحاضرها، وهو الشديد في الحق، لا تأخذه فيه لومة لائم، وهو الغاضب لمحارم الله إذا انتهكت، والمقيم للعدل بين سائر أفراد رعيته، الإنس والجن والحيوان والطير إنه لا يرى الهدهد بين الجمع الذي جمع له فيسأل عنه، ويعلن ذلك على الملأ.... وفيه ما فيه من إحاطته بجميع أجزاء مملكته وكافة أفراد رعيته … كما يعلن غضبه من تخلف الهدهد إلا أن يكون عنده عذر أو حجة مقبولة: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ, لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} النمل/20-21 وكانت المفاجأة عندما يتقدم هذا الغائب من الملك العظيم غير خائف ولا مرتاع وقي قوة واعتداد واعتزاز.. ليقول: ما غبت إلا لأمر هام عرفته أنا ولم تعرفه أنت أيها الملك وأحطت به ولم تحط به أنت. لقد رأيت أثناء طيراني ملكة لا تعبد الذي يخرج الخبء في السموات وفي الأرض ... وإنما تعبد الشمس هي وقومها من دون الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.(23/375)
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} النمل/22-26.
ورابعها: يبين موقف سليمان من الهدهد، فهو يأمره بإقامة البينة على دعواه، ويكلفه بعمل ما يثبت قوله، ويأمره بنقل خطاب إلى هذه الملكة يدعوها فيه سليمان إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ونبذ عبادة الأوثان والأصنام هي وقومها.
ويطير الهدهد بالكتاب من الشام إلى اليمن ويلقيه بين يدي الملكة، فتطلب من ذويها الرأي والمشورة فيرجعوا إليها الأمر لأنها العارفة بأمور السياسة والمطلعة على سير الملوك وأحوالهم أما هم فأهل الحرب والقوة..(23/376)
ثم تقدم الملكة على عمل تجربة تتبين من ورائها مدى قوة هذا الملك وقصده، فهل هو كسائر الملوك الذين يسعون إلى جمع المال وقوة السلطة. وهو يسعى إلى هدف نبيل وغاية سامية كما جاء في كتابه فإن كان من الأولين فهو قابل لما ترسله إليه من هدايا مبق على عقيدتها.. فتنقض عليه بعد أن عرفت خباياه.. وإن كان من الآخرين فهو على حق ولا قبل لها به وعليها أن تستسلم إليه: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} النمل27- 35.(23/377)
وخامسها: يعود بالقصة من اليمن إلى الشام ليقدم رسل بلقيس الهدايا إلى سليمان، فيغضب النبي عليه السلام ويقول لهم {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ. قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ. قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل 36-44) .(23/378)
وهكذا عرضت هذه القصة العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة، وأقامت الدليل على صدق الأولى {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وعلى فساد الثانية {.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} .
وما انتهت إليه هذه المشاهد من غلبة الحق وأهله، وهزيمة الباطل وجنده، واستسلام الملكة وإذ عانها أَخيرا للحق بعد ما تبين لها {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
بقي بيان عقيدة البعث والإيمان بالآخرة وبالقدر. وبيان العقيدة في أساليب المثل والأساليب النفسية، وأساليب الترغيب والترهيب، والأساليب البرهانية والوصفية والموضوعية، وغيرها.. وهى في مقال تال إن شاء الله. والله الموفق.(23/379)
التربية الإسلامية ومراحل النّمو
للدكتور عباس محجوب
أستاذ مساعد بكلية الدعوة بالجامعة
قسم علماء التربية التربية إلى مستويات تختلف باختلاف مراحل نمو الإنسان باعتبار التربية عملية ملازمة للإنسان في نموه الطبيعي ونمو استعداداته وميوله وقدراته، ومع الاختلاف البسيط في هذه التقسيمات إلا أننا يمكن أن نأخذ بالتقسيم التالي:
ا- مرحلة ما قبل الولادة.
2- مرحلة الطفولة.
2- مرحلة المراهقة.
4- مرحلة الشباب.
أولا: مرحلة ما قبيل الولادة:(23/380)
حض الإسلام على الزواج باعتباره حاجة فطرية للإنسان فطره الله عليها وهيأه لها ووجهه إليها ليقوم بواجبه في الحياة من المحافظة على النوع الإنساني وتكاثر هذا النوع وزيادته, وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: آية 1) . وقد وضع الإسلام ضوابط لاختيار الزوج حتى يختار كل منهما الشريك الأصلح لأداء هذه المهمة في الحياة، فالرجل مطالب باختيار المرأة ذات الدين التي تفهم واجباتها الشرعية في البيت والحياة والتي يقوم سلوكها على أساس السلوك الإسلامي والآداب الإسلامية، وإذا لم يكن الدين بمعناه الواسع هو أساس الاختيار لم يكن البناء قائما على أسس سليمة وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها وبارك لها فيه" [1] .. كما يقول: "ولا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل" [2] .. فذات الدين هي التي تقوم بحق الله وحق الزوج وحق الأمة في تربية الجيل المؤمن بالله السائر على هديه.(23/381)
كما أن على الزوج أن تختار زوجها ممن يتوفر فيه الشروط المناسبة لها وأهمها الدين والخلق حتى يمكنه أن يقوم بواجبه، واجب الرعاية والقوامة والتربية "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [3] واشتراط الدين والأخلاق أمر مهم حتى تعيش الأسر في أجواء شريفة مؤمنة وفي كنف رجال صالحين يتقون الله في نسائهم وأولادهم وحتى تتحقق السعادة في ظل البيت المؤمن وتنشأ الأجيال مؤمنة بالله متحملة المسؤوليات ناقلة للصفات الطيبة من الأبوين الطيبين، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التهاون في الاختيار وترك الصفات الإسلامية المطلوبة من أصالة وصلاح وشرف فقال: "إياكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" [4] .. وقد أثبت العلماء أن الصفات الخِلْقِيةَ والخُلُقِيةَ تنتقل عن طريق الوراثة كما تنتقل الصفات المادية وإلى هذا أشار القرآن الكريم في استنكار المستنكرين لمريم حيث قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (سورة مريم 28) وقد رأى بعض علماء النفس والتربية أن الإصابة بمرض الزهري أو وجود أي نوع من العيوب الوراثية العقلية بعين الزوجين يؤدي إلى إنجاب أطفال يحملون المرض نفسه كما أن الأطفال الذين يولدون لأبوين يدمنان السكر والمخدرات بأنواعها خاصة في ساعات التلقيح كثيرا ما يصابون بأمراض عقلية وعصبية قل أن يشفوا منها لأن الأبوين لا يورثان الصفات الجسمية فقط بل الصفات النفسية ولذلك يرى بعض العلماء أن الرجال المتفائلين ينجبون أولادا متحررين من العادات القبيحة والخوف والأوهام, أما الحمقى والموهومون والسكارى فينجبون أولادا عصبي المزاج مصابين بمركب نقص، يعانون من العقد والإحساس بالضعف وعن ذلك يقول كريس مورسون: "إن الجينات جزء من خلايا الوراثة, غير أن خلايا الوراثة لا(23/382)
تشترك فى التكوين العام للجسم، ولكنها منعزلة ولا تسهم في أي وجه من وجوه النشاط الأقل أهمية التي تقوم بها الكائنات الحية، إن هذه الخلايا تحفظ الشبه الكامل للنوع، ويبدو أنها لا تتأثر بمسلك الوالدين إلا أن سوء الخلق، أو المرض، أو الحوادث، قد تمدها بمواد جد فقيرة لتشتغل بها. إن الوالدين القويين قد ينسلان أطفالا أقوياء، ولكن ذلك لأنه كان هناك أسلاف أقوياء، وان الوالدين قد يمنحان طفلهما مبدأ طبيعيا ليعيش فيه، أوقد يهبانه مباءة لا تصلح مكانا لنفس خالدة".
إن الأبوة والأمومة هما أعظم تبعة تقع على عاتق الإنسان والله سبحانه وتعالى يقول {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: آية 32) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يطلب اختيار وانتقاء الزوج من النساء فيقول: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء" [5] وقد سئل سيدنا عمر رضي الله عنه عن حق الولد على أبيه فأجاب "أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه, ويعلمه القرآن". إن نشأة الأجيال على الطهارة والعفة والاستقامة تعتمد على الصفات التي يتوارثها الأبناء عن الآباء خلقية أو جسمية أو عقلية، وقد حثت الأحاديث النبوية على تحسين النسل بتفضيل المرأة البعيدة أو التي لا صلة قربى تربطها بالرجل حرصا على انتفاء العيوب الوراثية التي يحملها الزوجان عن الأبناء وقد أثبتت التجارب العلمية في اختبارات الذكاء صحة هذه النظرية التي تنادي بالتغرب في الزواج حتى لا يأتي نسل ذوي القرابة ضعفاء الجسم والخلق وغيرها من العيوب الوراثية.(23/383)
ولأن تربية الأبناء تبدأ قبل الولادة كما قلنا فإن الأمر لا ينتهي باختبار كل من الزوجين الصحيحين لبعضهما بل لابد من تعهد الجنين فترة الحمل بتعهد الأم نفسها وإبعادها عما يسبب لها الضعف والقلق النفسي وإحسان معاشرتها ومعاملاتها لأن الحالة الصحية والنفسية للحامل تؤثر كثيرا على الجنين ولذلك يرى الدكتور (الكسيسى كاريل) : "أن للحمل قواعد يجب أن تتعلمها النساء في مدارس خاصة لذلك من حيث السلوك الذي يجب اتباعه أثناء الحمل والنواحي الغذائية التي تهتم بها والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها المولود أثناء الحمل والرضاعة من جراء إسراف النساء في التدخين وشرب القهوة والمسكرات والمخدرات" [6] .
فالتربية قبل الولادة هي التي يطلبها الإسلام في زوجة صالحة وامرأة منجبة خالية من الأمراض والعيوب وزوج يتميز بالاستقامة وحسن الرعاية والإنفاق وحسن المعاملة وحسن التربية لأنه مسؤول عنها أمام الله سبحانه وتعالى بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أو ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" [7] .(23/384)
وقد ثبت مما تقدم أن العامل الوراثي له أثر كبير في مستقبل الطفل وتربيته فكانت أهمية مراعاة هذه الجوانب في اختيار كل من الزوجين للآخر كما أن العوامل البيئية لا نستطيع إغفالها أو التقليل من دورها، وعلى رأس هذه العوامل الناحية الغذائية للأم من حيث كمه وكيفه لأن الأم التي تعاني من نقص غذائي قد تلد طفلا يعاني نقصا جسمانيا أو عقليا أو اضطرابا نفسيا حادا، كما أن المرض الذي يصيب الأم عامل هام في التأثير على نمو الجنين هذا بالإضافة لعامل الإفراط في تناول المكيفات كالتدخين وشرب الخمر والمخدرات وكلها تعوق نمو الجنين في بطن أمه ثم تؤثر في مستقبل حياته الصحية والنفسية والعقلية، ولذلك كله لابد من الاهتمام بالمرأة الحامل نفسيا واجتماعيا وغذائيا حتى يتهيأ للطفل الذي يراد تربيته الظروف المساعدة لإيجاد بيئة صالحة للنمو.
الطفولة الأولى:(23/385)
تبدأ هذه المرحلة في الغالب من فترة الولادة إلى ست سنوات أو سبع كما يرى كثير من علماء التربية والنفس وإن كانت هناك تقسيمات أخرى.. وقد اهتم الإسلام بالطفل من حيث تربيته على أسس معينة منذ ولادته وتبدأ بالتهنئة والبشارة بالمولود ذكرا كان أو أنثى، وفى القرآن ما يشير إلى ذلك كما في قصة زكريا {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 39) وقوله: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} (مريم: 7) ، ويمكن أن تكون التهنئة مادية بتقديم الهدايا وغيرها، كما يستحب له التأذين في الأذن اليمنى والإقامة في اليسرى حتى يكون الأذان والإقامة من أول ما يسمع الطفل كما أن في ذلك رمزاً إلى المهمة التي جاء بها في الوجود وهي عبادة الله وتلبية النداء إلى العبادة وقد فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي كما يستحب تحنيكه وحلق رأسه يوم سابعه والتصدق بوزنه فضة أو ذهبا على الفقراء وكلها قد فعلها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بل إن الإسلام يحدد نوع الاسم الذي يستحسن تسمية المولود به لما للاسم من دلالة على المسمى فإذا كان الاسم جميلا متفائلا ذا دلالة طيبة سر به صاحبه وإن كان قبيحا متشائما كان مثار سخرية واستهزاء بصاحبه، ولهذه الدلالة النفسية للأسماء على أصحابها غير الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من أصحابه أمثال حزن وحرب بسهل وسلم وغيرهما والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم" [8] كما دعا الإسلام أن لا يسمى بأسماء الله كالملك والوهاب والصمد وغير ذلك ولا الأسماء الدالة على تعظيم غير الله أو المعبودة غيره كعبد يغوث(23/386)
وعبد العزى وعبد الرسول وعبد النبي وغيرها ويدخل في هذا ما نرا5 في بلاد العرب من يسمون أبناءهم بأسماء لينين وخرشوف وقاقارين وغاندي وأتاتورك أو من يسمون بأسماء النصارى واليهود مثل جوزيف وألين ومارية وغيرها أو التسميات المائعة التي يسمى بها كثير من الأولاد والبنات.
ويحض الإسلام على اختيار أسماء الأنبياء وما يدل على العبادة لله فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله "تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة" [9] .
والرضاعة تمثل جانبا مهما في حياة الطفل المستقبلية ولذلك جعلها الإسلام من وظيفة المرأة وحدد لها مدة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) ، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن للرضاعة أثراً كبيراً في تربية المولود وأخلاقياته، فالمرأة السيئة الخلق الكثيرة الانفعال تؤثر في المولود، وقد اشترط كثير من علماء المسلمين اختيار المرضع للطفل لأن اللبن يعدى كما رأوا أن تكون المرضع صالحة تأكل من الحلال لأن طباع الطفل تتأثر باللبن وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إرضاع الحمقاء، ولأن الرضاع وظيفة خاصة بالمرأة فلا يجب استبدال الرضاع الطبيعي بالصناعي لأن اللبن الصناعي لا يعطي الأطفال القيمة الغذائية الكاملة التي يحتاجون إليها ولأن له تأثيراً على العواطف والطباع.(23/387)
أما بالنسبة للحضانة وهى التي تستمر إلى السابعة فإن الأم هي التي تقوم بها لأنها مهيأة بعواطفها ورقتها وحنانها ورحمتها للقيام بذلك الدور فالطفل السوي هو الذي ينشأ في حضن والديه مستمتعا بدفء عواطفهما ورحمتهما بعيدا عن الاضطرابات النفسية والعصبية والنقص في النمو وغير ذلك من الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الطفل الفاقد لوالديه أو لأمه فالظروف التي ينشأ فيها الأطفال هي التي تؤثر في مستقبل حياتهم ونموهم فقد أثبتت الدراسات النفسية أن كثيرا من الانحرافات التي تظهر في الكبار راجعة إلى مواقف وظروف عاشها الشخص في طفولته، ولذلك يرى علماء التربية أن إحساس الطفل بالأمن والاستقرار والمحبة هو الذي يسهل له عملية التكيف والتوافق المطلوبين من كل عضو من أعضاء المجتمع فإذا عاش الطفل في وسط عائلي يحيطه بالرعاية والحب ويشعره بمكانته في المنزل ويقدم له الكثير في سبيل إسعاده أحس بالأمن والطمأنينة ونما نموا طبيعيا خاصة إذا عاش في عائلة مستقرة متجانسة غنية في القيم الاجتماعية الإسلامية ثابتة في أساليب تعاملها مع الطفل لا يحس بالتناقض في معاملة والديه له ولأن الأسرة تمثل البيئة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل اهتم الإسلام بنظام الأسرة وتنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة وقيام هذه العلاقة على أساس من الرحمة والمودة والعطف والاحترام المتبادل وأداء كل واحد لما عليه من حقوق نحو الآخر وغض الطرف من الجانبين عن بعض نواحي النقص خاصة من الرجل ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" [10] .(23/388)
إن حضانة الأم لطفلها من أهم العوامل المساعدة على تحقيق النمو الكامل له كما أنه العامل المهم في إحداث التكيف بين الطفل والمجتمع الذي يعيش فيه أما إذا انشغلت المرأة عن حضانة أطفالها بالانشغال بالعمل خارج المنزل أو بالانفصال عن زوجها أو بالتعالي على الحضانة وترك الأمر للخادمة في البيت أو الحضانة الصناعية في المدارس والمؤسسات- إذا حدث ذلك نتيجة لهذا الحرمان من الأمومة أدى ذلك إلى التأخر في نواحي النمو المختلفة وتعرض الأطفال للاضطرابات النفسية في حياتهم المقبلة، وقد أجريت بحوث على عدد من الأطفال بلغوا 123 طفلا أعمارهم بين عام وأربعة أعوام يعيشون في مؤسسات مختلفة وقارنوا هذا العدد بأطفال مثلهم يعيشون مع أسرهم ولكنهم في الصباح يذهبون الى دور الحضانة نسبة لانشغال الأمهات بالعمل فكانت النتيجة أن نمو الأطفال في المؤسسات يختلف عن النمو مع أسرهم لأن حرمان الطفل من أمه يعطل نموه جسميا وذهنيا واجتماعيا وإن القليل من عناية الأم قد تثمر [11] ، أما إذا عاش الطفل كل وقته تحت حضانة أمه فإن نموه سيكون متكاملا والدليل على ذلك رجوع كثير من الدول التي تعتمد على الحضانة الصناعية إلى تشجيع الحياة العائلية وتكريم الأمهات اللائي يتفرغن لتربية أطفالهن.
وفي هذه المرحلة يرى علماء التربية من المسلمين أمثال ابن سينا والغزالي أن الطفل يجب إبعاده عن الرذائل وقرناء السوء، وأن يبعد عن الكلام الفاحش واللغو واللعن والشتم ومن تعود على ذلك من الأطفال لأن أصل تأديب الصبي حفظه من قرناء السوء [12] .
الطفولة الثانية:(23/389)
تبدأ هذه المرحلة من السابعة إلى الثانية عشرة وهي المرحلة التي يلتحق فيها الطفل بالمدرسة بعد أن تعلم القراءة والكتابة وهي المرحلة التي يمكنه أن يتذكر ما يحدث أمام بصره وسمعه نتيجة لقوة ذاكرته وقدرته على الحفظ وتعلم اللغات فيها، ولذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة هي مرحلة أمر الطفل بالصلاة حيث يقول: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" [13] ، وفي هذه المرحلة يعلم الطفل امتثال أوامر الله سبحانه واجتناب نواهيه ويعرف بالحلال والحرام ويوجه إلى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله" [14] كما أنه يلقن آداب الأكل والشرب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمر بن أبي سلمة الذي يقول: "كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عديه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله تعالى، وكل بيمينك وكل مما يليك" [15] .(23/390)
وفي هذه المرحلة يتعرف الطفل على زملائه في المدرسة ويكون مع بعضهم صداقات وهو ما يسمى في علم النفس الحديث بشلة الرفاق ولأن الحاجة إلى الأصدقاء والرفقاء من الأمور الطبيعية والمهمة فقد اهتمت التربية الإسلامية بذلك، ودعت إلى أن يختار الأب لابنه الأصدقاء المؤمنين والجلساء الصالحين ليس بطريقة مباشرة وإنما باختيار أصدقائه هو ممن لهم مثل أبنائه وتوطيد صلته بهم حتى تنشأ العلاقة بين الأطفال بحكم سنهم، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي" [16] , ويقول: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، أو تشتري منه، أو تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا منتنة" [17] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم- مبينا أن الفرد يقارن بخليله سيئا كان أم حسنا-: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [18] , والقرآن يوضح أن أصدقاء الشر أعداء لبعضهم يوم القيامة وأن أصدقاء الخير والتقوى سعداء حتى في الآخرة {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف 67) ويقول تعالى موضحا أثر رفقة السوء على الإنسان وندمه على ذلك {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان 27- 29) وقد نبه علماء التربية في الإسلام أمثال ابن سينا والغزالي وغيرهما إلى أهمية هذه الناحية في التربية وأثر اختيار الأصدقاء على مستقبل الأطفال وتوجيههم إلى الخير والشر، فابن سينا يرى أن الطفل يتأثر برفيقه ويكتسب منه كثيرا من العادات لما ركب فيه من نزعة التقليد والمحاكاة فيقول:(23/391)
"وينبغي أن يكون مع الصبي صبية من أولاد الحلة حسنة آدابهم مرضية عاداتهم فإن الصبي عن الصبية ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس" [19] أما الغزالي فيقول: "وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فَأنْ يصونه عن نار الآخرة أولى. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر، فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال" [20] ويقول: "ويمنع الطفل من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والشتم ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء" [21] .
ومن أهم الحاجات التربوية في هذه المرحلة غرس الإيمان بالله في نفس الطفل وتبسيط مبادئ العقيدة وتنشئته على الخوف من الله وإحساسه بأن الله مطلع عليه مراقب لأعماله وأن عليه أن يستعين بالله ويلجأ إليه ويدعوه ويطلب منه الهداية للخير، وعلى الوالد ألا يدع فرصة إلا واستفاد منها في ترسيخ المثل العليا واليقين في الله ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فقد روى ابن عباس قوله: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" [22] .(23/392)
ولابد أيضا من الاهتمام بالجانب العملي في العقيدة بتعليم الصبي أمور دينه وحثه على المواظبة على الصلاة واعتياد المساجد وتقوية صلته بأبناء حيه ممن يشهدون الصلاة في المساجد.
مرحلة البلوغ:
مرحلة البلوغ من المراحل الطبيعية في النمو إذا سارت في مجراها الطبيعي وهي المرحلة التي تسمى في علم النفس بمرحلة المراهقة وهي التي تبدأ في حوالي الثانية عشرة من العمر وتقابل في مراحل التعليم المرحلة المتوسطة والثانوية "والمراهقة لفظ وصفي يطلق على المرحلة التي يقترب فيها الطفل وهو الفرد غير الناضج انفعاليا وجسمانيا وعقليا في عشر السنوات التالية من الحياة غاية النضج الانفعالي والجسمي والعقلي والمراهق هو فرد، ولد أو بنت في مرحلة بين الطفولة والرجولة أي بين المرحلة التي يكون النضج فيها غير كامل وبين مرحلة النضج الكامل" [23] وهذه المرحلة تبدأ في الغالب من الثالثة عشرة إلى حوالي الواحدة والعشرين وتختلف من فرد إلى آخر ومن مكان إلى مكان وهي مرحلة نمو طويلة قد تمتد إلى عشر سنوات كما أنها مرحلة من الناحية الاجتماعية مرحلة تكليف وتحمل المسؤوليات والواجبات فلذلك ربطت الإسلام بين هذه المرحلة وبين القيام بالتكاليف الشرعية ولم يخرج علماء الشريعة الإسلامية في تحديد سن المراهقة عن الفترة ما بين العاشرة والتاسعة عشرة وهي التي حددوها بالاحتلام عملا بحديث رفع القلم عن ثلاث منهم الصبي حتى يحتلم وترتبط هذه المرحلة بالتفكير في الزواج والحياة الأسرية، لذلك كان على المجتمع أن يهيء أذهان الشباب للاتجاهات الصحيحة للزواج وللأفكار السليمة عنه لأن الزواج يكمل النمو النفسي للإنسان ولذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب على الزواج: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" [24] ومن أهم الظواهر في هذه الفترة ظاهرة النمو العقلي الذي يقتضي التركيز على التربية(23/393)
الخلقية والتي تأتي في قمتها توجيه البالغ إلى الإيمان بالله على أساس من القناعة والحجة لا يتزعزع في مستقبله بما يتعرض له من وسائل التشكيك والتغيير، وقد علمنا القرآن كيفية التدرج في ذلك من الحسي إلى المعنوي في آيات كثيرة تدعو إلى التفكير في السماء والنبات والليل والنهار والبحار والنجوم والجبال والأنهار الخ ... والتفكير في خلق الإنسان {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} (الطارق/4- 10) والتفكير في السماء والأرض وما فيها، وتفكير الإنسان في طعامه كيف نبت وتشكل وتنوع لونا ورائحة ومذاقا وهو يسقى بشيء واحد هو الماء ويخرج من مكان واحد هو الأرض ويتغذى بعناصر طاهرة هي الشمس والهواء وغيرهما. والتفكير بهذا الأسلوب القرآني يفتح البصائر وينير العقول ويدفع إلى الخشوع والخضوع لعظمة الله ومراقبته في السر والعلانية والإخلاص له والتوجه إليه بكل عمل لأن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا له وابتغى به وجهه.. ولا بد من التركيز على العوامل المؤدية إلى الشعور الدائم بمراقبة الله عز وجل مثل تجنب الشهوات الباطلة والحسد والبغض إلا في الله والحقد والكذب والنميمة وما إلى ذلك من العوامل التي تبغض إليه الرذيلة وتحببه في الفضيلة.
ولأن المراهق يعيش مرحلة الإحساس بالذات فإنه يشعر بالخجل ويهتم بالبطولات الأمر الذي يتطلب التركيز على دراسة جوانب البطولة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ومغازيه وسيرة الصحابة والسلف رضوان الله عليهم وفي ذلك يقول سعد بن أبي وقاص: "كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم".(23/394)
أما الخجل فظاهرة تحتاج إلى تغيير ليحل محله الحياء لأن الخجل انكماش وسلبية وانطواء والحياء التزام بالفضيلة وتجنب للرذيلة ومظهر من مظاهر الإيمان وسكينة للنفس وضبط للتصرفات وصحوة للضمير وخجل من الله والنفس والناس وتقتضي التربية هنا تعليم النشء الحياء من النظر إلى المحرمات والاستماع إليها والقرب من المنكرات ونزاهة اللسان عن الفحش والبذاءة والخوض في الباطل وفي ذلك يقول الغزالي: "فينبغي أن يحسن مراقبته وأول ذلك ظهورا أوائل الحياء فإنه إن كان يحتشم ويستغني ويترك بعض الأفعال فليس ذاك إلا لإشراق نور العقل عليه حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحيي من شيء دون شيء وهذه هدية من الله تعالى وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحيي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تمييزه" [25] .
والتربية في هذه المرحلة تنتقل من مرحلة التقليد والمحاكاة إلى التوعية العقلية بالأسباب والقوانين المتعلقة بالتزام الفضيلة والبعد عن الرذيلة وصيانة اللسان والبطن والفرج من المحرمات خوفا من الله وحياء منه، وعن ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول الله- والحمد لله- قال: ليس ذلك.. الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى, ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة، وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" [26] .
إن هذه الفترة تحتاج إلى سياسة حكيمة واحترام لمشاعر البالغ ورغبته في الاستقلال والإحساس بنفسه وشخصيته وإقامة علاقة من الثقة والاحترام بينه وبين والده حتى يمكن توجيهه بما يساعده على النمو والنضج والاتزان.
التربية الجنسية:(23/395)
من أهم الظواهر في هذه الفترة قلة اعتماد البالغ أو المراهق على والديه في سبيل تطلعه إلى الاستقلال بنفسه إذ أنه يعتبر نفسه رجلا وليس ذلك الطفل الذي كان يأتمر بأمر والديه في كل صغيرة وكبيرة فهو قد أصبح ناضجا يحتاج إلى تطوير علاقاته مع الأصدقاء والمجتمع, والإسلام لم يهمل هذه الناحية من التربية وأول المبادئ التي يرى الإسلام قيام حياة الفرد عليها هي الاستقامة على قوانين الفطرة الطبيعية في الإنسان واتباع هذه القوانين وعدم الخروج عليها، وقوانين الفطرة تقتضي تربية الناس على حياة الطهارة والشرف والعفة والفضيلة والتقوى, وإن الخروج على هذه التربية والانحراف عنها إنما هو خروج على القوانين التي خلق الله عليها الكون والسموات والأرض والكائنات ومنها الإنسان {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه/50) فإذا تجاوز الإنسان الحدود التي وضعها الله له والقوانين التي أمره بالتزامها في الدنيا فإنه بسلوكه يظلم نفسه ويعرض نفسه لعقوبات تفرضها عليه قوانين الله الطبيعية المودعة فيه؛ لأن من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه, ولذلك حرم الإسلام الزنا وكل علاقة غير شرعية وحرم الوسائل والأبواب المؤدية إليها، ولذلك فإن التربية الإسلامية القائمة على الإيمان الكامل والعقيدة الثابتة وعلى الطهر والبراءة والخوف من الله ومراقبته في السر والعلانية والعبودية المطلقة لله فإنها تخلق العفة في النفوس وتحبب حياة الشرف والفضيلة والعفة، وهذه المراقبة الدائمة هي التي تجعل الشاب المسلم في موقف القوي أمام غواية الشيطان ونداء الشهوة والله تعالى يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف 201،200) .(23/396)
ولا يكفي البقاء على حياة العفة ولذلك دعا الإسلام إلى الزواج باعتباره الوسيلة الطبيعية لمشكلة الجنس، وقد ذكرنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته للشباب أن يغض بصره ويحصن فرجه بالزواج وإلا فعليه بالصوم لأن الصوم يقلل من حدة الشهوة ويزيد طاقة الإنسان الروحية، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويحاط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب، وإذا بلغ تسع سنين عزل عن فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة والصوم، فإذا بلغ ست عشرة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة" [27] .
فالآباء مسئولون عن تربية أبنائهم وتعليمهم وتزويجهم حصانة لهم أو مساعدتهم على ذلك فإذا لم يتيسر للشباب الزواج تحصّنَ بالتعالي على الغريزة والاستعفاف والتمسك بالفضائل وتصريف الطاقات في عبادة الله وفي ذلك يقول تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النور/33) وليس ذلك الطلب للرجال فقط بل للنساء أيضا وقد خصهن الله بعد تلك الآية العامة بآية خاصة إذ يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} (النور/60) .(23/397)
والمسلم الذي يتمسك بحياة العفة والشرف أمام الإغراء ولا يلين جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله وهو شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين, وفي القرآن مثال لذلك المسلم الشاب في قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه وهددته وتوعدته بالسجن والإذلال ففضل السجن على معصية الله والتخلي عن العفة واستنجد بالله طالبا منه أن يقف معه في محنته ويصرف عنه كيدها فاستجاب الله لدعائه لعلم الله بإخلاصه وصدق دعواه وطهارة نفسه {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف/24) . ولم تكتف التربية في الإسلام بذلك إنما سد الأبواب التي يمكن أن تثير الشهوة وتؤدي إلى الفساد ومنها غض البصر للرجال والنساء {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (النور 30. 31) وعلى النساء أيضا ألا ينظرن إلى الرجال فقد روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟ " [28] .(23/398)
ومنها تحريم خلو الرجل بالمرأة الأجنبية لأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، وقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال له رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ قال: انطلق فحج مع امرأتك" [29] ومن الاحتياطات التي اتخذها الإسلام لحفظ الرجال والنساء وحماية المجتمع مما يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي والفوضى في العلاقات الجنسية الأمر بالاحتشام والنهي عن السفور والتبرج وإظهار المحاسن من النساء لأن هذه الأشياء هي التي تثير الشباب وتحرك غرائز الرجال وتجعل كلا من الجنسين يبحث عن الآخر لإرضاء شهوته المثارة دائما والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (النور/31) .(23/399)
ولا يشك مسلم في حرمة ما نرى من لباس تلبسه النساء تبعا لخطوط (الموده) ونزولا لرغبة بيوت الأزياء العالمية وكثير منها لا يستر شيئا وقد يحدد كل شيء في جسم المرأة ويظهر مفاتنها ثم تلبس مع ذلك (باروكة) تزيدها فتنة وإغراء ولا تتورع عن كشفه ما وجدت لذلك سبيلا وهن اللائي قصدهن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو هريرة حيث يقول: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" [30] ومن تربية الإسلام في تحديد علاقات الرجال بالنساء أمر الله بالسؤال من وراء حجاب طهارة للقلوب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب/53) كما أمر المرأة ألا يكون في حديثها ما يدعو إلى الفتنة والإغراء والإثارة {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب/33) كما أمر النساء بالقرار في البيوت إلا لحاجة وعدم التبرج والحشمة في اللباس واللسان والمشي {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب/33) .(23/400)
ومن تربية الإسلام في تنظيم العلاقات وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم حتى ينشأ الجيل سليما معافى محترما لحرمة الحريات الشخصية للرجال والنساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور/ 58- 59) .(23/401)
ومن تربية الإسلام في العلاقات الجنسية تحريم الشذوذ في أنواعه المختلفة حتى لا يتجه الناس إلى تفريغ طاقاتهم الجنسية في أوجه أخرى يظنونها غير محرمة كما حرم المظاهر الشاذة في تشبه الرجال بالنساء واسترجال النساء فقد روى ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء كما لعن المتشبهين من الجنسين بالجنس المغاير لهما سواء أكان هذا التشبه في الأصوات أو الحركات أو فعل شيء هو من خواص جنس دون آخر كلبس بعض الرجال للباروكات وإطالة الأظافر والشعور ولبس الكعوب العالية ووضع مساحيق الزينة واستعمال أدوات التجميل ولبس السلاسل الذهبية على المعاصم والنحور وتزجيج الحواجب وأخذ الحقن التي تزيد نسبة هرمونات في الأنوثة في الرجال حتى لا يظهر الشعر في الشارب والذقن وحتى يتكور الصدر ويبرز كالنساء وكلبس الملابس الشفافة المبينة للعورة وغيرها، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل" [31] .(23/402)
أما الشذوذ المتمثل في اللواط والسحاق بين النساء فإن الإسلام قد حرم ذلك وأغلظ في العقوبة لما في هذين النوعين من إفساد خلقي كبير ودلالة على تحلل الأمة وسوء خلقها وتحكم الشهوات فيها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا (من عمل عمل قوم لوط) كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم مدى خوفه على أمته من انتشار تلك الظاهرة فيها والتي استنكرها القرآن الكريم في حكايته لقوم لوط {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (العنكبوت/29) ويقول: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (الشعراء/165) .(23/403)
ومن مظاهر الشذوذ مزاولة كثير من الشباب للعادة السرية نتيجة لما يتعرض له الشباب من مثيرات للغرائز في مظاهر الفتنة من النساء في الشوارع والأمكنة العامة وأمام دور العلم والعبادة وما يقدم على أجهزة التلفاز من تمثيليات مثيرة وأغان مائعة ودعايات للبلاد والأزياء كلها تدعو إلى الفحش والرذيلة، زيادة على ما يعرض في المكتبات من مجلات فاضحة وقصص مثيرة وأفلام جنسية هابطة وأجهزة عرض رخيصة لهذه الأفلام، زيادة على الكتلوجات الجنسية التي تعرض الجنس ممارسا والصور التي تباع لذلك- أمام هذا الإغراء كله يتجه كثير من الشباب والرجال بعامة إلى مزاولة الزنا واللواط والاستمناء عن طريق اليد أو عن طريق آخر مع ما في هذه العادة من تحطيم لشباب الأمة وقواها الجسدية والعقلية والنفسية ومع ما فيها من آثار في مستقبل الشاب الجنسية وعلاقاته الزوجية ومع ما في ذلك من أضرار اقتصادية باهظة واجتماعية مخيفة ولعل هذا هو المقصود مع غيره في قوله تعالى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المعارج/31) وذلك بعد أن بين القرآن أن من صفات المؤمنين أنهم يحفظون فروجهم إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم.(23/404)
إن حياة النقاء والطهر لا تكون إلا بتشجيع الآباء والدولة لشبابها بالزواج المبكر فإذا كانت الدولة تنشئ بنوكا عقارية لبناء المنازل من الطين والأسمنت عن طريق السلفيات المادية فإن بناء الأسر والبيوت أولى من ذلك لتحصن الدولة أبناءها وتعد جيوشها وتحمي حماها بشباب مؤمن طاهر نقي بدلا من الشباب المخنث المائع المنهوك القوى من الانسياق وراء الشهوات والملذات هذا بالإضافة إلى تشجيع الشباب على الصوم مرتين في الأسبوع ليسمو بروحه على غرائزه وليقوى إيمانه بعبادته وإقامة مجتمع إسلامي نظيف تحكم العلاقة بين الرجال والنساء منهم وشريعته ونظامه من حيث المناهج الدراسية والمواد الإعلامية وتزجية أوقات الفراغ بأنواع الرياضة الممارسة في أجواء صافية حتى يسود الأمن والاستقرار النفسي والجنسي بالتزام أوامر الله والخوف منه ومراقبته.
إن الإسلام لا يحتقر الطاقة الجنسية ولا يطالب بالابتعاد عنها لأن الرغبة الجنسية في الإنسان هي التي تؤدي إلى تعمير الأرض وكثرة التوالد الذي يؤدي إلى بقاء النوع واستمراره.. فلذلك اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم في العلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته صدقة فقد قال عليه الصلاة والسلام: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون عليها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وضعها في حلال فله عليها أجر" [32] .(23/405)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا في معالجة كثير من الأمور المتعلقة بالجنس والذي كان القرآن ينزل بها فقد روى الإمام أحمد أن اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها فيسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي عن ذلك فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا وروي أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: "السلام على النبي وعلى أهله فقالت: عائشة مرحبا مرحبا فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أسألك عن شيء وأنا أستحي فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض فقالت: له كل شيء إلا فرجها" [33] والأحاديث كثيرة في ذلك فليرجع إليها من أحب وقد روى أبو داود عن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل من امرأتي وهي حائض قال: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل".(23/406)
والإسلام يحدد مكان الجماع إبعادا للمسلم عن ممارسة الشذوذ مع زوجته فيقول الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (البقرة/223) أي في الفرج وأكد ذلك بقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} (البقرة/ 223) ومما ذكر عن سبب نزول هذه الآية ما روته أم سلمة من أن الأنصار كانوا يجبون نساءهم وكانت اليهود تقول: إن من أجب امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجبوهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت فسألته أم سلمة فقال: ادعي الأنصارية فدعتها فتلا عليها هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} والحرث هو مكان الولد وولا يكون الولد إلا في الفرج، أما قوله {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} فيقصد به تسمية الله عند الجماع فقد جاء في البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا" [34] .(23/407)
وقد رخص الله للمسلمين مجامعة النساء في ليل رمضان إذ كان المحلل في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء فمن نام أو صلى العشاء حرم عليه ذلك كله فوجد المسلمون مشقة في ذلك وكان البعض يخونون أنفسهم [35] فنزل قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (البقرة/187) .(23/408)
ولأن الإسلام يدعو الشباب الذي لم يتزوج إلى التسامي والعفة فإن أسلوب الإقناع الفكري والمنطقي من الأمور التي عالج الرسول صلى الله عليه وسلم بها مشكلة محاولة الانحراف والزنا فقد جاء شاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالزنا فزجره الصحابة وأسكتوه إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدناه منه في رفق ودون غضب وسأله "أتحبه للأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، وسأله أتحبه للإبنتك" واستمر يسأله عن أخته وعمته وخالته ويخبره بأن الناس لا يرضونه لهم كما لا يرضاه هو لأهله ثم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على قلب الشاب وسأل الله أن يغفر له ذنبه ويطهر قلبه ويحصن فرجه فلم يلتفت الشاب إلى شيء بعدها، فهذا نموذج من أسلوبه صلى الله عليه وسلم في علاج مشاكل الشباب خاصة ما يتعلق بالجنس فالشباب يوجه إلى بذل الجهد العقلي أو الروحي أو الجسدي في سبيل التسامي وتوجيه طاقاته إلى العمل النافع والاستغراق في عبادة الله والاهتمام بالرياضة البدنية والقرآن يبين لنا كثيرا من المواقف التي تسمو فيها النفس المتجهة إلى الله على نداء الجسد وسعار الشهوة فسيدنا يوسف عليه السلام كما ذكرنا سابقا مثال للشاب المؤمن الذي نشأ على تقوى الله ومراقبته فصمد أمام إغراء ملكة جميلة وأذل كبريائها وهي تدعوه لنفسها وقد حسبت أن ذلك أمر يعجز كل الرجال عن رفضه وإذا بيوسف ثابت شامخ ذاكر نهي الله وجميل العزيز عليه فيقول: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ولم ينسَ الالتجاء إلى الله وطلب العون منه {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ(23/409)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف/33، 34) .
والشاب المؤمن الذي يرفض الفاحشة ويعف نفسه خوفا من الله من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
إِن الإسلام لا يكبت الرغبات الجنسية كما يظن من لا يفرقون بين الكبت والضبط-لأن الإسلام يضبط الرغبات ويوجهها لتكون أداة بناء وتعمير لا أداة هدم وتخريب للمجتمع فالطريق السوي لمشكلة الجنس هو الزواج لان من صفات المؤمنين أنهم يحافظون على فروجهم إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم لأن الجنس في الإسلام وسيلة متاع وسكن ومودة ورحمة به يحقق الإنسان غاية وجوده وهو انتشار النوع وتعمير الأرض وعبادة الله.
ولم يكن الجنس وحده الذي ضبطه الإسلام بل ضبط الدوافع الفطرية الكامنة في الإنسان كلها حتى يكون المجتمع المسلم مجتمعا وسطا متوازنا في حياته الروحية والجسدية معا.
مرحلة الرشد(23/410)
وهي التي تسمى بمرحلة النضوج أو وسط العمر وتقع في الفترة ما بين الأربعين والستين وفيها يكتمل نمو الإنسان وينضج عقله وتطمئن نفسه ويبلغ أشده، وتربية الإسلام في هذه المرحلة أن يجدد التوبة وأن يرجع إلى الله ويعزم على ترك المعاصي وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف/ 15. 16) وفي تفسير الآية يقول ابن كثير مشيرا إلى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} : "أي قوي وشب وارتجل وبلغ أربعين سنة أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين" [36] .
وفي هذه المرحلة يكون المرء قد نضج أخلاقيا الأمر الذي يقلل احتمال انحرافه بعد هذه السن فهو دائم الدعاء إلى الله أن يثبته ويقويه ويعصمه من الزلل (فقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك فاقبلها وأتمها علينا" [37] .(23/411)
أما مرحلة الشيخوخة والتي تبدأ من الستين فهي مرحلة العطاء لا الأخذ والاستعانة بالله وطلب العون والانقطاع إلى عبادة الله والتضرع إليه وهي المرحلة التي يلجأ إلى أهلها من قبلهم مستفسرين سائلين يطلبون التوجيه والعون لأنهم أهل الذكر يحبهم الله ويغفر لهم ويشفعهم في أهلهم.
وهكذا نجد الإسلام قد تعهد الإنسان بالتربية والهداية والتوجيه في جميع مراحل حياته وإلى أن يفارق الدنيا ورسم له الطريق الواضح المستقيم الذي يعصم من الزلل ويقود إلى النجاة. والجنة بعون الله وفضله.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الطبراني.
[2] سنن ابن ماجه ج1 كتاب النكاح.
[3] رواه الترمذي.
[4] رواه الدارقطني.
[5] رواه ابن ماجه والدارقطني.
[6] تأملات في سلوك الإنسان ص110.
[7] رواه البخاري ومسلم في الإمارة والترمذي في الجهاد.
[8] رواه أبو داود.
[9] رواه أبو داود والنسائي.
[10] رواه ابن ماجة والدارمي في باب النكاح.
[11] د/مصطفى فهمي –الصحة النفسي ص92-93.
[12] الغزالي-احياء علوم الدين ج3 ص73.
[13] رواه الحاكم وأبو داود عن عمرو بن العاص.
[14] رواه الطبراني.
[15] متفق عليه رياض الصالحين ص332.
[16] سنن أبي داود والترمذي.
[17] رواه البخاري ومسلم.
[18] رواه الترمذي.
[19] نقلا عن الابراهيمي، التربية الإسلامية.
[20] الإحياء ج1.
[21] المصدر السابق.
[22] رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس وهنالك رواية غير رواية الترمذي.
[23] د/ أحمد زكي صالح-علم النفس التربوي ص213.
[24] رواه البخاري في الصوم والنكاح – ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي في النكاح.
[25] إحياء علوم الدين ج أول.(23/412)
[26] رواه الترمذي والإمام أحمد في مسنده.
[27] رواه ابن حبان.
[28] رواه الترمذي وأبو داود.
[29] رواه البخاري ومسلم.
[30] رواه مسلم.
[31] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[32] رواه مسلم في الزكاة والدارمي وأحمد في مسنده.
[33] تفسير ابن كثير ج1 ص258-259.
[34] ابن كثير ص261 ج1.
[35] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
[36] ابن كثير ج4 ص 157.
[37] ابن كثير ج4 ص 158.(23/413)
حقوق الإنسان في الإسلام (3)
الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
محاضر بكلية الحديث
أما الطلاق في الخارج، والبعض في البلاد الإسلامية يطالب بتقليدهم، بل وقد يكونون أجيبوا إلى ذلك من حكامهم بالفعل، وهو أن يكون أمام القاضي في المحكمة، فهو الطلاق أخو الفضائح، عندما يتبارى الزوجان في كشف أسرارهما الزوجية عند عرض القضية، والمتفرجون الذين تغص بهم المحكمة يسمعون، والصحافة الساقطة عندهم وعندنا، والمولعة بنشر صور النساء في أوضاع الفسق، بما لم يعد يخلو منه بلد إسلامي، هذه الصحافة أيضا تتسابق في نشر فضائح القضايا الزوجية، خاصة إذا كان سبب طلب الطلاق هو الزنا، بما يسمونه أدباً بالخيانة الزوجية، وهذه هي الجريمة الوحيدة التي لا يحكم بالطلاق في الخارج إلا بوقوعها، وغالبا ما تكون من الزوجة، فتخرج من المحكمة أمام الناس ذليلة مفضوحة، وفي الصباح تعلم عن قصة نفسها وهي في الصحف منشورة، وقد تزين أيضا بنشر الصورة.
والطلاق عندنا يتم بتوجيه القرآن مستورا بين حكمين، وبعد أربع مراحل لا يعلم أحد بها إلا الزوجين، فأي حقوق للإنسان أفضل؟ التي أعطاها الله له؟ أم التي وضعها لنفسه؟ أفلم تكونوا تعقلون؟(23/414)
وعندما نريد تقديم النصوص الشرعية التي خص بها الإسلام المرأة، ورفع قدرها وصان أنوثتها لتكون كالبيض المكنون، لامتد الكلام بنا طويلا، فعشرات الآيات وعديد من الأحاديث، وضعت المرأة في صورة انفرد بها الإسلام وحده، ولكن يكفينا التمثيل بالقليل، فالقرآن يلزم الرجال بمعاملة النساء أكرم معاملة، بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} ، فكلمة (المعروف) هنا والتي تعددت في أكثر من آية خاصة بالمرأة، جامعة لكل ما يعرف أنه خير لها وتسربه، وعندما يكرهها الرجل لسبب أو لآخر بعيد عن الفاحشة، لم تتركه الآية على هواه، بل كبحت هذا الهوى وزادت أنَّ ما كرهه منها قد يكون فيه الخير الكثير.
فانظر كيف وقف الإسلام بجانب المرأة حتى عندما فعلت ما أوجب كره الرجل، والحديث الذي رواه مسلم رحمه الله يفسر هذه الكلمات من الآية، فعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر" (لا يفرك) أي لا يبغض.(23/415)
بل وكلمة المساواة التي دنستها ألسنة الغرض والسوء، قالها القرآن صادقة صافية ألزم بها الرجل، بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنّ} ، وليس لها فقط ماله في جوهر العشرة، وإنما كذلك في الشكل والمظهر، فكما يحبُّ مثلا أن يراها أمامه نظيفة وبهندام حسن، يجب عليه نحوها كذلك، فقد حدث أن امرأة ذهبت إلى عمر رضي الله عنه تطلب منه أن يطلقها من زوجها، ودعا بزوجها فرآه رث الهيئة قبيح المنظر، فأمر به فاغتسل، وألبس ثوبا نظيفا، ورُجِّل رأسه ولحيته، ثم طلب عمر المرأة فقال لها، أطلقك من الأول وأزوجك بهذا، فكان أن ضحكت وأدركت أن عمر عرف ما تريد، وعادا على وفاق بعد أن كانا على طلاق، ثم تقول الآية {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، فبعد أن ساواها القرآن بالرجل، بأن يكون لها مثل الذي عليه، لم يجعل الزيادة المفضلة له إلا بدرجة واحدة، فلم يُثَنِّها سبحانه ولم يجمعها حتى لا تضخم عند هواة التسلط على النساء، فلا ينبغي أن تفسر الدرجة بأنها فرض السيطرة أو التحكم، وإنما تفسر بأن له عليها الطاعة في غير معصية الله وخدمة بيته وبنيه، وذلك مقابل مشقة القوامة، والتي اختص بها الرجل تكليفا من ربه وبصيغة المبالغة {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، فهو تكليف أكثر من التشريف، ومع هذا رفضت المرأة (الحديثة) مجرد هذه الدرجة الواحدة، بل حتى رفضت نفس القوامة، لما وقفت امرأة بجرأة الفاقدة لحيائها أمام القاضي- وهى محامية في قانون الكفر الفرنسي- لتقول: "لقد سقطت قوامة الرجال علينا لما أصبحنا موظفات"، قالت ذلك مع علمها بتفضيل الله الرجل عليها بأمور عديدة، فهو الذي ذهب لخطبتها، وهو الذي نقلها إلى مسكنه بعد أن أعده لها، وهو الذي يسبب لها الإنجاب، وهو الذي يحميها وأولادها بساعده القوي من العاديات، وأخيرا هو الضارب في الأرض بحثا عن قوتها وقوت عيالها، ولو(23/416)
تبجحت الموظفة وقالت إنها أصبحت غير محتاجة لماله عند أول نقاش مع زوجها، وحصرت القوامة في أنها بسبب القوت، وأنكرت المفضلات الرجولية التي في الآية الكريمة، والتي ذكرنا بعضا منها.
وحتى لما حصلت المرأة (الحديثة) على الوظيفة، لم تف وظيفتها بمعظم أمْرِها بقوت نفسها، بل تنفق هذا المرتب الذي لا بركة فيه على مستلزمات الوظيفة، من شراء أحدث (الموديلات) في الأزياء، والتسابق مع الزميلات في وسائل الزينة، وفي الفيَّاح من العطور، وما إلى ذلك من وسائل التبرج، فماذا يبقى لها من مرتبها لتأكل منه؟، ويظل الرجل هو المتحمل لهموم العيش، ليعول ويربي قياما بحق القوامة، وحتى لا ينوء بهذه الأمانة الصعبة، أعانته عدالة الله بأن يكون له قدر الأنثيين، لا قدر ثلاث إناث ولا أربع، لكن الأنثى (الحديثة) لم تقبل عدل الله، وأستغفره سبحانه سلفا إذا قلت: لو لم يعطها شيئا البتة- ما دامت ستنعم في كنف القوامة ومشقة مستلزماتها- لكان تعالى هو العادل المنزه أيضا، ولكن زاد سبحانه ومكَّن لها في كيانها لما قال: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} .
وإذا كانت المرأة (الحديثة) قد جاهرت بهذه العداوة لدينها، فقد نلتمس لها عذرا باعتبارها ناقصة دين وعقل أصلا، ولكن ما هو العذر للرجال الذين استغلوا نقصها هذا، فنقصوا بعقولهم ودينهم عنها، لما راحوا يدفعونها بإصرار إلى هلاكها لتفعل ما يخالف النقل والعقل، بل ومنهم الحكام الذين دخلوا معها المعركة سافرين، وقننوا لها القوانين التي تنسخ قانون الله، فلتهنأ المرأة (الحديثة) إذاً وليهنأ معها أنصارها ألداؤها، حكاما ومحكومين.(23/417)
أما ما نراه من انطلاق المرأة في الشوارع ليل نهار في كل بلاد الإسلام، وفي صورة جامحة كاسحة لكل خلق ودين وفضيلة، فالواضح الذي لا يقبل المراء، هو أن الراعي والرعية اشتركوا في هذه المصيبة على السواء، لما قتلت فيهم النخوة وغَيْرةُ الإسلام.
فأين منا اليوم وكثيرات من نسائنا يستقبلن الرجال في البيوت نيابة عن أزواجهن، ويخرج نساء الدار أمام رب الدار بالقصير الفاضح أو السروال المحدد للعورة أو على عادة هنا برفع العباءة ليظهر الثوب تحتها قشيبا لامعا ليلفت النظر، أو تشد العباءة على خصرها أو على ثدييها، لتقلد البلاد (المتحضرة) بقدر ما تستطيع، ولا يغار القائمون على هؤلاء النسوة هنا أو هناك من زوج أو أب، لا لدينه ولا لرجولته، لقد كان من أهم غايات الشيطان كشف هذه السوءات لأنها أقوى المدمرات للقيم كلها وعلى رأسها القيم الدينية، والمجلبة لسخط الله تعالى، فقد كانت أول مهمة له في دنيا البشر، لما فعلها مع آدم وحواء عليهما السلام، بقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا … إلى نهاية الآية في قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} .(23/418)
فَلْيُسَرُّ الشيطان الآن غاية سروره، فقد تحقق له اليوم ما أراده لقد أدت مصيبة إفلات الزمام لامرأة التطور إلى مشكلة من أعقد المشاكل الاجتماعية في عصرنا هذا، وهي مشكلة إعراض الشباب عن الزواج، فبالإضافة إلى مخالفة الشرع بارتفاع قيمة المهر بغير المعقول، أخذ الشاب يتساءل؟ ماذا بقى لي من فتاتي وقد عرضت نفسها في الطرقات للفرجة بغير ثمن، فهل كل فرحتي ليلة الزفاف هو قضاء اللُّبانة، أم أنها جميعها يجب أن تكون لي وحدي؟ ، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "خير نسائكم الودود الولود، المواسية المواتية، إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم"، أي القليلات؛ لأن الغراب الأعصم قليل في نوع الغربان، روى هذا الحديث البيهقي والبغوي وغيرهما، وصحح في الجامع, أما الغلو الذي بلغ حد الخيال في المهر، وأن يكون الخاطب من ذوي المظاهر ماليا وعصريا، ولا يخطر التدين والخلق والاستقامة على بال، فإن أعظم قصة زواج في تاريخ الإسلام لهي صفعة لهؤلاء، الذين عقَّدوا الزواج وجعلوه صفقة تجارية، وهي قصة زواج الزهراء، سيدة البنات بنت سيد الآباء، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن ابنته، فقد اختار الله لها الشاب الفقير عليا رضي الله عنه وكرم وجهه، من دون الصحابة الأغنياء الذين ألحوا على الرسول كثيرا ليظفروا بمصاهرته والتشرف بابنته.(23/419)
فقد ذكر الإمام القسطلاني شارح البخاري ما حدث في زواج فاطمة رضي الله عنها من حديث أنس،: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ثم خطبهم قائلا: "الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته، جعل المصاهرة سببا لاحقا وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عزّ من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} ، فأمْرُ الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني زوجته على أربع مائة مثقال فضة، إن رضي بذلك علي، ثم دعا صلى الله عليه وسلم بطبق من بسْر، ثم قال: انتبهوا، فانتبهنا، ودخل عليّ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، ثم قال: إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة على أربع مائة مثقال فضة، أرضيت بذلك؟ فقال عليّ، قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: جمع الله شملكما، وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا".(23/420)
قال أنس: "فو الله لقد أخرج منهما الكثير الطيب"، وقد أولم عَلِىّ عَلى فاطمة بشطر من شعير وتمر وحيس، وكان جهاز فاطمة خميلة، وقربة، ووسادة من أدْم حشوها ليف، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجهاز وقال: "مرحبا بجهاز المساكين"، الله أكبر، سبحان من جعله للناس خير قدوة، ولكن.... تلك قصة زواج سيدة نساء الجنة، مهرها لا يزيد عن أقل أسورة من الفضة تلبسها أفقر نساء اليوم، وجهازها كما سمعتم بما يدمع العين من قول أبيها، وهو الذي عرضت عليه الجبال ذهبا فأباها "مرحبا بجهاز المساكين".
أما اليوم فلم يعد للمسلمين صلة بسنة نبيهم، فعقّدوا الأمر فعقده الله عليهم، وأحاطت بهم المشاكل من كل جانب.
وليس من الخير في شيء أن ننكر الميل الغريزي في المرأة، وأنه أشد منه في الرجل، لولا ما ألقى الله عليها من الحياء، فإن لم نعمل على أن نُكْفَى بما أحلّ الله فماذا يكون إذً؟ لقد سمع عمر رضي الله عنه امرأة تناجي سرير زوجها الغائب بأبيات منها.
لنُقِّض من هذا السرير جوانبه
فو الله لولا الله لا شيء غيره
بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا
وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
مخافة ربي والحياء يصدني
فسأل عن زوجها فقيل إنه في الجهاد مع جيش المسلمين، فأمر بأن يؤذن للمتزوجين منهم بالتردد على بيوتهم في فترات متقاربة حسما للفتنة.(23/421)
وعن تعليم المرأة، نقول: إن الإسلام حرص على تعليم أبنائه رجالا ونساء، لكن على أساس مهمة كل منهما التي عينها لهما الخالق في هذه الدنيا، فللحياة مكانان ليس سواهما، داخل الدار وخارجها، وجعل الدار للأنثى ليكرمها ويصونها في المكان اللائق بها، ولهذا كان أمره الصريح سبحانه إليهن {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، ولم تكن بهذا الأمر الكريم الحافظ لها تماما سجينة الدار، فقد سمح لها ولسنين وصلت بها إلى ما قبل سن الاشتهاء، أن تأخذ قسطا كبيرا من التعليم، يمكنها به عندما تُردُّ إلى مقر كرامتها في البيت أن تعرف كيف تعبد ربها وتدير بيتها، بل ويمكنها أن تقرأ وما أيسر الكتب، بما يزيدها معرفة وعلما وقت فراغها من عمل البيت، وهكذا لم يجعلها الإسلام حبيسة لا تفكر ... ولا تعبر، بل أباح لها حتى في وقت الخجل عندما تُخطب، أن تبدي رأيها في خاطبها، ثم لما تصبح زوجة لم يجعل الإسلام بيت الزوج سجنا والزوج سجّان على بابه، وإنما لو خرجت أمثلة لحاجة المرأة إلى الخروج في صلاة الجماعة والعيدين والحرب أباح لها الخروج للتزاور والعلاج وصلة القربى، فقط حتى لا تهان يكون زوجها أو أحد محارمها أو رفقة من نسوة يصاحبنها في ذلك.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت (سودة) - رضي الله عنها- زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتها بعدما ضرب الحجاب، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت عائشة: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق (اللحم المتصل بالعظام) فدخلتْ فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت عائشة: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"، أخرجه البخاري في صحيحه.(23/422)
أما عن المعاملة داخل البيت، فهي العزيزة المصونة بنصوص عديدة قرآنية ونبوية، فالقرآن زاخر بإلزام الزوج بحسن المعاملة، ذكرنا منها آنفا ما يكفي، وكذلك السنة مَلآى بنفس الأمر، فبالإضافة إلى ما سبق منها نورد حديثا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائكم"، رواه الترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان في صحيحه، ومن ناحية التساوي في الأجر جعلها الإسلام كالرجل ذرة بذرة في كتاب الإسلام الأعظم بوفير من الآيات، ولكن أعجبها في رأيي، تلك الآية، التي ساوتها بالرجل حتى في التعبير اللفظي وليس في الأجر فقط، في عشرة كاملة بالآية الآتية.(23/423)
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، بل وبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها تعدل الرجل تماما، في قصة أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها، والتي رواها مسلم في صحيحه، وكانت فصيحة حتى لقبت بخطيبة النساء، فقد أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع بعض أصحابه وقالت: يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، وقد أرسلك الله إلينا رجالا ونساء، ولكنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمع والجماعات، والحج والجهاد، ونحن قعيدات بيوتكم، نغزل ثيابكم، ونربي أولادكم، ونصنع طعامكم، ونحفظ أموالكم، ونصون عرضكم إذا رغبتم، أفلا أجر لنا معكم؟ فاستدار صلى الله عليه وسلم بكل وجهه إلى أصحابه وقال: "أسمعتم مقالة امرأة في أمر دينها كهذه؟ قالوا: لا يا رسول الله، فنظر إليها صلى الله عليه وسلم وقال: أيتها المرأة، اعلمي وأعْلِمي من خلفك من النساء، أن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله"، فانصرفت وهي تكبر حتى اختفت عن مجلسه صلى الله عليه وسلم.(23/424)
هذه هي المساواة بين المرأة والرجل، عرّفها الإسلام على حقيقتهما، وليس على ادعائها وزيفها كما ينادى بذلك جهلة اليوم من النساء والرجال على السواء، أما التي تركت البيت باسم التعليم والثقافة، وتعودت أن تخرج في الصباح ولا تعود إلا في المساء لنحو عشرين عاما أو ما يقرب، من سن السادسة حتى تخرجت من الجامعة، أيمكن بعد ذلك ردها إلى البيت كما أمرها خالقها؟ لتكون سيدة بيت ومربية أسرة؟ لا أظن، وما كنا نتمنى هذا اليوم من أيام الأمة الإسلامية، يوم أن أبيح للفتيات دخول الجامعات، فطال بذلك بعد البنت عن البيت، فأصبحت لا تراه إلا سجنا مظلما وجوا خانقا لا تطيق المكث فيه، إلا للأكل أو النوم، ولتختلط مع الفتى في الجامعة اختلاط النار بالحطب الهش وهما في سن الجموح الجنسي، باسم التقدمية ورفع الكلفة والزمالة في طلب العلم، وياله من علم، فلسفات ونظريات وانحرافات، من تعاليم الشرق والغرب في أكثر الكليات، حتى أصبحوا فتيانا وفتيات لا يعرفون شيئا عن دينهم، بقدر ما يعرفون عن الذين احتلوا عقولهم، وقد يقال إن هناك من الكليات ما ليس فيها الذي ذكرت، حيث التعليم فيها ديني وعربي، وبعضها ليس فيه اختلاط، هذا صحيح، ولكن جوهر المشكل باق، وهو التعود على هجر المقر الذي أُمرت من الله أن تقر فيه، وترك حرفتها المنزلية المرموقة والموقوفة عليها، والتي تصَدِّر بها إلى المجتمع البشري من صنع الأمومة صالح الإنتاج من بنين وبنات، فما جعل الله قلبين في جوف، فهي ما استأنفت أي نوع من التعليم بعد المرحلة المتوسطة، إلا وفي النية هجر البيت إلى الأبد، حيث اُتفِق على أن تتوظف بعد التخرج، وتترك البراعم الصغيرة الغالية في البيت للخادمة، وكم فعلت الخادمات بمكنونات البيوت، من إفساد أطفال، وسرقات، وتقويض ما بين الزوجين من صلات، وغير ذلك كثير بما نسمع كل يوم.(23/425)
فماذا علينا إذا وقفت البنت عند قدر من التعليم معين، ثم تصان في البيت حتى تأتي إلى وظيفتها الأساسية في بيت الزوجية، وقد أعدها الله أصلا لهذه الوظيفة الشريفة، فمهما هربت منها وبلغت من أمر دنياها ما بلغت، فلن يقتل ذلك فيها غريزة الميل إلى الزواج، ولن يغنيها المنصب في الإدارات والشركات عن ذلك أبدا.
إني لأعرف الكثير ممن تمسكوا بتكريم الإسلام لبناتهم، فإلى مرحلة محددة من التعليم، وقبل أن تتعود العين غير البيت، وقبل أن تتفتح الغريزة على ما شرع الله، يردونها إلى صونها في خدرها، فبسط الله لهم في زواج بناتهم، حتى لم تكد تينع الثمرة إلا وتمتد يد الحلال لتقطفها، وهذا يحطم النظرية الخبيثة، من أن البنت الآن أصبحت لا تتزوج إلا إذا تعلمت ووظفت، وثبت العكس، فأكثر العوانس منهن، فإن غامر زميل لها في العمل كان، وإلا فقلما يدق باب أهلها خاطب.
ولقد نتج عن كثرة الخريجات اللاتي يتحتم توظيفهن بعد التخرج مشكلة، أصبح خطرها عالميا، وليست فقط في أمتنا الإسلامية، فالمكان الذي كان أصلا للرجل شغلته المرأة، وأصبح على مدى الأيام تزداد البطالة بين الرجال وهم القوامون خطرها، مما كثر معه الإجرام والسرقات والمظاهرات، وحوادث الشغب والسطو على بيوت المال، وأصبحت الدول الأجنبية التي رمتنا بدائها، يعلو صراخ حكوماتها من تضاعف البطالة وانتشار الإجرام واختلال الأمن بسبب ذلك، وعلى رأس هذه الدول أمريكا الغنية (سابقا) ، التي لا يطفح غناها إلا على إسرائيل، والبطالة فيها تفتك بها بما سمعتم من إعلان حكوماتها أخيرا أكثر من مرة، ونفس الأمر وأشد في زميلتها روسيا، وهما الدولتان العظيمتان كما يقولون، وبالتالي صار عالمنا الإسلامي يعاني نفس الخطر بما هو أخطر، وتصريحات حكوماتنا تقرع أسماعنا، والعلاج معروف، والبيت مفتوح لتعود إليه مَن هجَرْته، ولكن من يضع الجلجل- الناقوس- في عنق القط؟.(23/426)
على أننا لا نغفل أن هناك من النساء من سلب أكثر حقهن إن لم يكن جميعه، وهن اللواتي يعشن في القرى والصحراء في أنحاء عالمنا العربي والإسلامي، فالكثير من الرجال هناك لازال ينظر إلى المرأة نظرة القرون الأولى، فهي ليست إلا تلك الحقيرة التي تضرب بقسوة لأقل هفوة حتى يمزق جسدها، ولا حق لها في أن تطلب بنفسها شيئا من غذاء أو كساء أو دواء، ومحرومة نهائيا من حقها في الميراث، ولكن سبب البلاء الذي أصاب هذه، وسبب الوباء الذي أصاب أختها في الحضر، هو عدم العمل بقانون السماء وتعطيل نصوصه وأحكامه، فأصبحت المرأة عندنا بين مسلوبة الحق وأخرى سالبة للحق. إن الكلام عن المرأة شيء ما أظنه ينتهي، لأنها نصف الإنس، ولكن مع الأسف نصفه الأعوج، ومع هذا كرمها الإسلام كتابا وسنة كما سمعنا القليل منه، وحسبها أن سمى الله أطول سورة بعد البقرة باسمها، وهي سورة النساء وزخرت هذه السورة وسار غيرها برفع شأنها.
ولكنها أذلت نفسها لما اتبعت الذين حرضوها ضد فطرتها وخلقتها من خارج بلادنا وداخلها، فسلخوها عن دينها وأبعدوها عن ربها، وألقوا بها في متاهات الحياة لتقاسي شظف العيش ومكاره الأيام، والتي ناء بها الرجل بله المرأة، وراحت أيضا تبتذل لتشعل الشهوة وتحرك الفتنة بالرقص والتمثيل والغناء الجنسي، يجرها إلى ذلك تجار الربح السحت من أهل السينما والمسرح والمرقص والحانة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(23/427)
ونحن الرجال إزاء هذا الأمر أنواع ثلاثة، نوع قد عوفي من هذا البلاء، ونوع غلب على أمره أمام هذا الإعصار العالي من التحرر، حتى إنه ليشعر بالغربة داخل بيته، لما قيل له من أهله {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} ، وهذا النوع المغلوب على أمره من أهله، قريب من الأول بشرط ألا يكف عن النصح ما استطاع ولو لم يصغ إليه، مداومة في الإعذار إلى الله تعالى، وهذا أضعف الإيمان بالنسبة للأب والزوج وكل من له ولاية على المرأة، فلا أحد يطلب من هؤلاء جميعا أن يضربوا أو يحطموا أو يطلقوا، عسى أن تُجْنَى ثمرة النصح يوما، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، ونوع ثالث من الرجال راض بهذا السوء غير منكر له ولا بقلبه، بل قد يدفع ويشجع، فهذا لا يعذر أبدا لا من الله ولا من الناس، لأنه (الديوث) الوارد في الحديث الصحيح، ولأنه فقد حتى صفة الحيوان الذي هو معروف بغيْرته على أنثاه.
ونختم هذا الباب بما تعودناه في الأبواب السابقة بمجموعة من النصوص للمستفيد، فعن الآيات القرآنية فقد أخذنا منها الكثير وبنينا بحثنا السابق الطويل عن المرأة من هذه الآيات.
وإليكم بعضا من الأحاديث الصحيحة.
1- عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة، إن رآها أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله" رواه البخاري.
3- وعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ثلاثة لا ترى أعينهم النار، عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كُفَّتْ عن محارم الله" الطبراني.
3- وعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يخلوَنَّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" البخاري.(23/428)
4- وعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "لأنْ يطعن في رأس أحدكم بِمخْيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" رواه البيهقي.
5- قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن"قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" أبو داود.
6- وعن خنساء بنت خدام "أن أباها زوجها وهي ثيب دون أن تستأمر فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو، فرد نكاحها" رواه ابن ماجه.
7- وعن ابن عباس رضي الله عنه"أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم"- أي بين أن تأبى أو تقبل.
وحسبنا هذا القدر من الأحاديث الصحيحة، ونقدم أقوالا ممن شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين لما غرروا بالمرأة وأخرجوها من خدرها ليزجوا بها إلى هلاكها.
8- في مؤتمر (كلفرينا) الذي انعقد لهذا الأمر، قدم بحث اعتبره أحسن البحوث التي قدمت إليه، وهو من الدكتورة (إليانورماكوبي) ،ونكتفي بأن تأخذ منه ما يلي:-(23/429)
"إن الاختلافات بين الرجال والنساء أقوى مما نظن حتى في الناحية العضوية، ففي خلال الأربعين سنة الأخيرة، وهي الفترة التي فتحت الجامعات والمعاهد العليا أبوابها للفتيات، دلت على ضعف الإنتاج النسوي والابتكار المفيد أمام ما يفعله الرجال، حتى في المجالات الأدبية، وبرز تخلف المرأة بعد دراسة حالة أربع مائة ممن حصلوا على (الدكتوراه) من النوعين، فاتضح أن عددا قليلا من هؤلاء المتعلمات حاولن الاندماج في المشكلات العلمية لابتكار نظريات جديدة، والباقيات وقفن حيث هن، ولم تكن عقبتهن الزواج ولا الأولاد، لأن الإنتاج العلمي لمن تزوجن تساوي مع من بقين بغير زواج، وحتى في بداية الدخول للجامعات كانت نتيجة التحليلات أن الذكاء الذي يؤهل للدراسات الجامعية كان متفوقا عند الفتيان أكثر منه عند الفتيات، وأن السبب هو النقص في الصفات التحليلية للعقل عند النوعين"، انتهى كلام الدكتورة (إليانور ماكوبي) .
9- وقالت الباحثة (ماريامان) : "إن النساء مصابات باضطراب عقلي- ألم نسبق نحن بقول نبينا: "ناقصات عقل ودين؟ " – يجعل الأنوثة مثلا أعلى لديهن يضمن لهن السعادة، فهن يَحْرِصْنَ على إظهار ما يلفت أنظار الرجال إليهن بالطبيعة أو بالصنعة عند خروجهن إلى وظائفهن، ولو رضين بأصل تكوينهن اكتفاء بالزواج، والتَّفَنن في طهو الطعام وتربية الأولاد ومعاونة الزوج لكان ذلك أفضل لهن، فإذا خالفت إحداهن ذلك فقد خرجت على التقاليد- ونحن قلنا: خرجت على تعاليم الإسلام- وهذا سر تخلفها العلمي لما دخلت قاعات الجامعات، ولهذا فإن قلة من النساء يحصلن على التفكير التحليلي". انتهى كلام الباحثة (ماريا) وهى واحدة منهن كان المفروض أن تتعصب لبنات جنسها.
10- وقف (المارشال، بيتان) رئيس فرنسا أثناء هزيمتها المنكرة أمام جيوش الألمان في الحرب العالمية الثانية ليقول:-(23/430)
"أيها الفرنسيون، إن سبب الهزيمة هو انغماسكم في الملذات مع الجيش المحيط بكم من السيدات، فانشغلتم بذلك بدل جيش الألمان، زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة وكل المبادئ الروحية، ولم تريدوا أطفالا فهجرتم حياة الأسرة، وانطلقتم وراء الشهوات تطلبونها في كل مكان، فانظروا إلى أي مصير قادتكم الشهوات".
وهكذا ينطقون بديننا ولو لم يؤمنوا به {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} صدق الله العظيم، تم راحوا يصنعون لنا حقوقا للإنسان، فيا عجبا! فأيهما أنفع؟ ما وضعه خالق الإنسان, أم الذي وضعه الإنسان لنفسه؟ [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تعليق التحرير: قد كان من المناسب أن يعقد الكاتب مقارنة يضمنها نبذة عن حال المرأة المهين قبل الإسلام عند كل من الرومان، واليهود، والنصارى، والهنود، ثم يخلص إلى تكريم الإسلام لها بما قرر لها من حقوق لم-ولن يقررها أي نظام بشري، ثم ينتهي إلى محاولات ذوي الأهواء-الذين طمس الله على قلوبهم- إعادتها إلى ما كانت فيه من مهانة بدعوى تكريمها، ومحاولة نيل حقوقها السلبية، ومساواتها بالرجل.(23/431)
نماذج أخرى من الدعاة الصالحين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
للشيخ أبو بكر الجزائري
الأستاذ بقسم الدراسات العليا بالجامعة
هذا هو الأنموذج الرابع والحلقة الأخيرة من السلسة الثانية لنماذج من الدعاة الصالحين ألا وهو أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه.
نسبه:
إن نسب علي بن أبي طالب هو النسب الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هما أبناء العم فمحمد رسول الله هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلي هو ابن أبي طالب بن عبد المطلب، ومن هنا وبهذا ونحيل على النسب الشريف إلى عدنان المنحدر من إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وكنيته رضي الله عنه أبو الحسن أو أبو السبطين: الحسن والحسين ابني فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أن له كنية أخرى هي من أحب الكنى إليه ألا وهي أبو تراب ولهذه الكنية سبب هو أنه خرج يوما مغاضبا لفاطمة رضي الله عنهما فأتى المسجد ونام فيه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه فقالت له فاطمة: لقد خرج مغاضبا فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في المسجد نائما والتراب قد علا بعض جسمه، فجعل صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عنه ويقول: قم أبا تراب، فكانت تلك كنيته المفضلة لديه.
علمه:(23/432)
إن من أهم جوانب حياة الداعية الإسلامي الجانب العلمي إذ العلم ضروري للداعية المسلم وفي مثل هذا الجانب تكون الأسوة، وعلي بن أبي طالب كان على جانب كبير من العلم والفقه في دين الله تعالى وحسبه شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له بقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"أخرجه الترمذي والحاكم وهو حسن الإسناد، وليس كما قيل موضوعا ولا صحيحا لذا قال السيوطي في تاريخه ومن شعب العلم التي برز فيها علي رضي الله عنه: القضاء فقد كان أقضى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهد له بذلك عبد الله ابن مسعود حيث قال: "أفرض أهل المدينة وأقضاهم علي بن أبي طالب". أخرجه ابن عساكر.
كما أخرج الحاكم قول ابن مسعود رضي الله عنه: "كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي"
وأخرج ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس قوله: "كنا إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها". وكما أخرج عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعوذ من معضلة ليس فيها أبو الحسن ومن الأقوال المأثورة "مشكلة ولا أبا حسن لها". بل هو قول عمر رضي الله عنه.
ولا عجب أن يطول باع ابن أبي طالب في العلم حتى لا يدانى أو يجارى وهو الصاحب الذي عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من يوم نُبّيء إلى أن قُبض عليه الصلاة والسلام.
أخرجه الحاكم وصححه عنه رضي الله عنه قوله: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟ فضرب صدري بيده، ثم قال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فو الذي خلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين".
وهذه الرواية تكشف عن سر علم علي وفقهه في دين الله تعالى.
وكعلمه الواسع في القضاء علمه بالتفسير والأدب والحكمة.(23/433)
فعن الأول نستشهد بما أخرج ابن سعد عنه رضي الله عنه إذ قال: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا صادقا ناطقا". كما أخرج أيضا عن أبي الطفيل قال، قال علي: "سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد علمت بليل نزلت أم بنهار، وفي سهل أم في جبل".
ويشهد لهذين القولين: قوله رضي الله عنه في الصحيح: "ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن آل البيت بشيء إلا ما في هذه الصحيفة أو فهما يؤتاه الرجل في كتاب الله".
وعن الثاني والثالث نستشهد بالروايات التالية: أخرج أبو نعيم في حليته عنه وقال قال علي رضي الله عنه: "الحزم سوء الظن, والقريب من قربته المودة وإن بعد نسبه, والبعيد من باعدته العداوة وإن قرب نسبه ولا شيء أقرب من اليد إلى الجسد وإن اليد إذا فسدت قطعت، وإذا قطعت حسمت".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عنه رضي الله عنه أنه قال: "خمس خذوهن عني: ألا يخافن أحد منكم إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، وإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، وإذا ذهب الرأس ذهب الجسد"وقال: "الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره, ألا لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فهم معه، ولا قراءة لا تدبر فيها".
سرعة بداهته وقوة حجته(23/434)
مما تميز به علي بن أبي طالب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعة البداهة فقد كان يسأل عن المعضلات فيجيب بما هو شفاء فيها على البداهة بدون ترو ولا تفكر وكان ذا حجة قوية إذا قال أو خطب، أو خاصم, ونذكر لسرعة بداهته الحادثة التالية: ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في الجزء الثالث عند الكلام على علي رضي الله عنه قال: "روي عن زر بن حبيش أن رجلين جلسا يتغذيان, مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضع الغذاء بين أيديهما مر بهما رجل فسلم، فقالا اجلس للغذاء فجلس وأكل معهما واستوفوا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم وقال: خذا هذا عوضا عما أكلت لكما ونلته من طعامكما فتنازع الرجلان في قسمة الدراهم الثمانية بينهما، وقال صاحب الخمسة الأرغفة: لي خمسة دراهم، وقال لصاحب الثلاثة: لك ثلاثة دراهم. فأبى صاحب الثلاثة الأرغفة إلا أن تكون الدراهم بينهما نصفين، فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقصا عليه قصتهما، فقال لصاحب الثلاثة الأرغفة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض، وخبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة, فقال: لا والله، لا رضيت منه إلا بغير الحق. فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد، وله سبعة. فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين, وهو يعرض علي ثلاثة فلم أرض، وأشرت علي بأخذها فلم أرض، وتقول لي الآن أنه لا يجب في مر الحق إلا درهم واحد فقال له علي: عرض عليك صاحبك الثلاثة صلحا فقلت لم أرض إلا بمر الحق ولا يجب لك بمر الحق إلا واحد. فقال الرجل: فعرفني بالوجه في مر الحق حتى أقبله فقال علي رضى الله عنه: أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثا، أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل، فتجعلون في أكلكم على السواء؟ قال بلى، قال فأكلت أنت ثمانية أثلاث، وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله(23/435)
خمسة عشر ثلثا، أكل منها ثمانية، ويبقى له سبعة، وأكل لك واحد من تسعة، فلك واحد- أي درهم- بواحدك، وله سبعة بسبعته. فقال الرجل: رضيت الآن!!! ".
فهذه الحادثة تدل دلالة واضحة على ما كان يتمتع به علي ويمتاز به من سرعة البداهة وذلك لفرط ذكائه وصفاء نفسه. ونظير هذه الحادثة قضاؤه في التي ولدت لستة أشهر بأن الولد للزوج بعد أن حكم عليهما عثمان رضي الله عنه بالرجم لكونها أتت بولد زنى. نظر علي في قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} فقال: "الحولان للرضاع، والستة أشهر للحمل، فمن ولدت لستة أشهر فما فوق فالولد للزوج، ومن ولدت لأقل فالولد لغير الزوج".(23/436)
أما عن قوة حجته فكتاب الشريف الرضى المعروف بنهج البلاغة قد حوى الكثير من خطب علي ورسائله، وحجاجه ومناظراته وهي تفيض بالبلاغة والحكمة وفصل الخطاب، فليرجع إلى ذلك الكتاب من شاء ليقف على كمال علي في بيانه وبلاغته وقوة حجته، وهي حاجة الداعي الناجح في دعوته، ولنذكر هنا وصفا له رضي الله عنه وصفه به ضرار الصدائي بأمر من معاوية، إذ روى ابن عبد البر في الاستيعاب أن معاوية رضي الله عنه قال يوما لضرار الصدائي: يا ضرار صف لي عليا فقال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لتصفنه، قال: أما إذ لابد من وصفه, فكان والله بعيد المدى- شديد القوى، يقول فضلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته, وكان غزير الغيرة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما حسن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد أنه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى سدوله، وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت! هيهات هيهات! قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها, فعمرك قصير, وخطرك قليل, آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!!!
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها.... أو قال واحدها في حجرها....
فمن هذا الوصف الصادق تتجلى كمالات علي رضي الله عنه النفسية التي هي موضع الاقتداء، ومحط الائتساء. إنها علم وحلم وإيمان وتقوى وكياسة، وحسن سياسة، شجاعة قلب، ورجاحة عقل، زهد في الدنيا شديد ورغبة في الآخرة وحب فيها أكيد.(23/437)
وفي مثل هذه الخلال الجميلة، والخصال الحميدة، يكون الاقتداء ويطلب الائتساء.
شجاعته وبطولته:
إن شجاعة علي وبطولته سارا بين الناس مسار الأمثال فما ذكرت الشجاعة ولا البطولة إلا وذكر علي بن أبي طالب معهما. إن أول فدائي في الإسلام كان علي بن أبي طالب وذلك أنه لما عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة بعد قرار قريش القاضي بقتله صلى الله عليه وسلم على أيدي جماعة من شباب القبائل القريشية ليتوزع دمه بين القبائل فلا يقدر بنو هاشم على طلبه, تركه على فراشه وخرج صلى الله عليه وسلم وظل المشركون بباب المنزل ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بالذي يخرج علي بن أبي طالب فسقط في أيديهم، ونجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم. وضرب بذلك علي أعلى مثل في الفدائية والتضحية.
والشواهد على شجاعة علي وبطولته كثيرة فلنكتف منها بذكر ما يلي:
ا- اضطلاعه رضي الله عنه يوم بدر بحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبارزته الوليد بن عتبة وقتله إياه على الفور فلم يمهله، وعلي يومئذ ابن عشرين سنة.
3- تقليد رسول الله صلى الله عليه وسلم له الراية يوم خيبر، وما أظهر رضي الله عنه من بطولات خارقة في غزوة خيبر، وحسبه أن كان فتح خيبر على يديه رضي الله عنه.
3- ثباته مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ويوم حنين وبلاؤه البلاء الحسن في هاتين الوقعتين العظيمتين.
4- شهوده كل غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اللهم إلا ما كان من غزوة تبوك حيث خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة على أهله. ولما قال علي رضي الله عنه: تخلفني يا رسول الله مع النساء والصبيان؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ... ".(23/438)
5- عدم تخلفه عن الجهاد مع الراشدين قبله أبي بكر وعمر وعثمان، ومواقفه الشهيرة في كل الحروب التي خاضها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أن توفي رضي الله عنه وأرضاه.
وموجز القول أن عليا رضي الله عنه كان مثالا عاليا في الشجاعة والبطولة وأنه أسوة صالحة في هذا الباب لمن أراد الائتساء به رضي الله عنه في شجاعته وبطولاته..
عدله وسياسته:
إن خلافة علي رضي الله عنه كانت أربع سنوات وتسعة أشهر فقط، ومع ما صاحبها من فتن داخل الجماعة الإِسلامية وأشهرها وقعة الجمل وصفين، وقتال الخوارج بالنهروان، فإنها كانت خلافة راشدة أتم الله بها العصر الذهبي في تاريخ أمة الإسلام، وقد روي في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا".
لقد ساس عليُّ الأمة الإسلامية بالعدل والرحمة، وأخذها بالعلم، والحكمة، ومن مظاهر عدله في الأمة أنه كان لا يحبس مالا في بيت المال بل يوزعه كله حتى أنه كان يكنس بيت المال بيده ويصلي فيه، رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.
ذكر الطبري في تاريخه ج 6 ص 90 عن أبي رافع خازن بيت المال في عهد علي قال: دخل علي يوما وقد زينت ابنته فرأى عليها لؤلؤة من بيت المال كان قد عرفها. فقال: من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها، فلما رأيت جده في ذلك قلت: أنا يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها؟ فسكت.(23/439)
ومن ذلك أنه فقد يوما درعه فوجدها بيد يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح، وتقدم فجلس إلى جنب القاضي وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أصغروهم ممن حيث أصغرهم الله". فقال القاضي: قل يا أمير المؤمنين فقال: نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب، فقال شريح: ايش تقول يا يهودي، قال: درعي وفي يدى، فقال شريح: ألك بينة, يا أمير المؤمنين؟ قال نعم، قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"!! فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه, أشهد أن هذا هو الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأن الدرع درعك وحسب على شهادة علي عدله ورحمته وحكمته أن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا على الحوض" رواه الطبراني في الأوسط والصغير عن أم سلمة رضي الله عنها.
ومن هنا كانت سياسة علي قرآنية تعتمد على الصدق والوفاء والعدل والرحمة والحكمة بعيدة عن الخداع والمكر والدهاء وهي عناصر تقوم عليها سياسة أبناء الدنيا في كل زمان ومكان، وأما ابن أبى طالب رضي الله عنه فما أبعده عن هذه الأجواء والمناخات الوبيئة الخانقة التي لا تصلح لحياة الربانيين مثل علي رضي الله عنه.
ونختم هذا الفصل في الحديث عن عدل علي وسياسته بكلمة قالها فيه أحد الغربيين:
قال: "كان علي يعوزه حزم الحاكم ودهاؤه, برغم ما كان يمتاز به من الفضائل الكثيرة، فقد كان نشيطا ذكيا بعيد النظر بطلا في الحرب، مشيرا، حكيما، وفيا شريف الخصومة، نبغ في الشعر والبلاغة واشتهرت خطبه وأشعاره في الشرق الإسلامي.(23/440)
وكانت تنقصه الحنكة السياسية، وعدم التردد في اختيار الوسائل أيا كانت لتثبيت مركزه، ومن ثم تغلب عليه منافسوه الذين عرفوا أول الأمر أن الحرب خدعة والذين كانوا لا يتورعون عن ارتكاب أي جرم يبلغ بهم الغاية ويكفل لهم النصر".
أثبتنا هذه المقالة لهذا الغربي لاتفاقها مع ما قرناه من بعد حكم علي وسياسته عن المكر والدهاء والخداع والتضليل التي هي سدى ولحمة الساسة والسياسة اليوم وقبل اليوم من غير الربانيين كالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وفاته رضي الله عنه:(23/441)
إن وفاة علي رضي الله عنه كانت بالكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من رمضان سنة أربعين هجرية وذلك أنه لما انتهت معركة الجمل وعاد علي رضي الله عنه إلى الكوفة، خرج معاوية بن أبي سفيان ومن معه من أهل الشام خرجوا عنه رضي الله عنه، فبلغ ذلك عليا فسار إليهم فالتقوا بصفين في شهر صفر سنة سبع وثلاثين، واقتتلوا ودام القتال أياما، فرفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها، وكان ذلك مكيدة منهم دبرها عمرو بن العاص، فكره الناس الحرب، وتداعوا إلى الصلح، وحكموا الحكمين. فحكّم علي أبا موسى الأشعري وحكّم معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا بينهم كتابا على أن يوافوا رأس الحول بأذرح [1] ، فينظروا في أمر الأمة، فافترق الناس، ورجع علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام، فخرج على علي رجال من أصحابه وقالوا لا حكم إلا لله، وعسكروا بحروراء [2] فسموا بذلك الخوارج، فبعث إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس فخاصمهم وحاجهم فرجع منهم أناس كثير إلى طاعة علي رضي الله عنه، وثبت على الباطل منهم أناس كثير وساروا إلى النهروان وعرضوا للسبيل فسار إليهم علي فقتلهم بالنهروان وذلك سنة ثمان وثلاثين. واجتمع الناس بأذرح في شعبان من هذه السنة، وحضرها سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهما من الصحابة. فقدم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري مكيدة منه فتكلم وخلع عليا، لأن أصل التحكيم كان على أساس أن يُخلع كل من معاوية وعلي، وتختار الأمة بعد ذلك برضاها من شاعت، غير أن عمرو استعمل دهاءه فقدم أبا موسى ليتكلم ويخلع صاحبه ففعل، ولما تكلم عمرو لم يخلع صاحبه- معاوية- بل أقره، وبايع له. فتفرق الناس على هذا، وصار على علي خلاف من أصحابه، حتى كان يعض على إصبعه ويقول: أعصى ويطاع. وهنا انتدب ثلاثة من الخوارج أنفسهم لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص بحجة أنهم هم الذين فرقوا كلمة المسلمين وشتتوا أمرهم، وكان الخوارج الثلاثة عبد الرحمن ملجم المرادي، والبرك بن(23/442)
عبد الله التميمي، وعمرو بن بكير التميمي وقد اجتمعوا بمكة وتعاهدوا على أن يقتل عليا ابن ملجم، ويقتل معاوية البرك، ويقتل عمرو عمرو بن بكير. على أن يتم ذلك في ليلة واحدة وهي ليلة السابع عشر من رمضان. فأما قاتل معاوية فإنه لم يتمكن منه، وأما قاتل عمرو فإنه لم يقتل عمرو، وإنما قتل خارجة، لأنه تربص بعمرو عند باب المسجد فلم يخرج عمرو تلك الليلة لأنه كان مريضا فانتدب قاضيه خارجة بن حذافة ليصلي بالناس فضربه ظنا منه أنه عمرو ابن العاص فقتله، ولما تبين له أنه لم يقتل عمرا قال أردت عمرا وأراد الله خارجة فكانت مثلا سائدا بين الناس. وأما قاتل علي فقد تمكن منه عند خروجه من منزله وهو ذاهب إلى المسجد لصلاة الصبح وبموت علي رضي الله عنه انتهت الخلافة الراشدة، وانتقلت إلى العضوض كما ورد بذلك الخبر.
واستشهد علي وعمره ثلاث وستون سنة فرضي الله عنه وأرضاه، ومن كراماته أنه قال لابنه الحسن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة وقلت له: يا رسول الله ماذا لقيت من الأمة من الأود واللدد [3] ؟ فقال لي ادع الله عليهم فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا لهم مني وما أن فرغ من قص رؤياه على الحسن حتى ناداه مناديه للصلاة فخرج من الباب ينادي أيها الناس الصلاة الصلاة فاعترضه ابن ملجم فضربه بالسيف فأصاب جبهته إلى قرنه وكان ذلك صبيحة الجمعة فأقام الجمعة والسبت وقبض ليلة الأحد فرضوان الله عليه في المؤمنين، وسلامه عليه في المسلمين.
لا تشيرن علي …
أوصى ابن هبيرة ولده فقال:
لا تكن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير، ولا تشيرن على مستبد، ولا على وغد ولا على متلون ولا لجوج.
وخف الله في موافقة هوى المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
--------------------------------------------------------------------------------(23/443)
[1] قرية من قرى الشام.
[2] حاروراء: موقع بالكوفة.
[3] الأود: الكد والتعب. اللدد: الخصومة الشديدة.(23/444)
قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى (3)
د. محمد عبد المقصود جاب الله
المدرس في كلية الدعوة بالجامعة
وانطلق سواد مكة وهو يغلي يمتطي الصعب والذلول فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً معهم مائتا فرس يقودونها، وسبعمائة بعير ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بشعر فيه ذم للمسلمين.
وزين الشيطان للمشركين أعمالهم، وأوحى إليهم بأحلام النصر، وماذا على الشيطان لو انهزموا سوى أن يتركهم وخزيهم. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال آية 48) .
ولكن أبا سفيان استطاع أن ينجو من الخطر المحدق به بتعديل سيره عن طريق ساحل البحر تاركا بدراً إلى يساره، ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم وقد نجاها الله، فارجعوا.
فقال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً" [1] .
وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول صلى الله عليه وسلم فإن دعم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت يعتبر خطراً على الإسلام ووقفا لنفوذه؛ لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجوال المسلح في هذه الأنحاء إعلاءً لكلمة الله وتوهينا لكلمة الشرك، وإظهاراً لعبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضراً.(23/445)
ومضت قريش في سيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر.
وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا بعد أن قطعوا في مسيرهم مسافة تربو على مائةٍ وستين كيلومتراً (160) وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب.
وهبط الليل فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا، والزبير، وسعداً يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يَمدّانِهم بالماء. فأتوا بهما وسألوهما- ورسول الله قائم يصلي- فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم الماء، فكره القوم هذا الخبر، ورَجوْا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل للاستيلاء على القافلة- فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما، ولما فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: "إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما [2] صدقا والله إنهما لقريش" وناقشهما الرسول عليه الصلاة والسلام حتى استنتج عدد القوم وهو ما بين التسعمائة والألف وعرف مكانهم، وعرف أن أشراف قريش قد خرجوا جميعا.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" [3] وانكشف وجه الجد في الأمر. إن اللقاء المرتقب سوف يكون مُرً المذاق. لقد أقبلت قريش تخب في خيلائها تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها الوثنية بالحكم النافذ.
ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره، وحاضره بهذا الدين الذي افتداه وآوى أصحابه.(23/446)
فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا على ضوئه ما يفعلون. والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون الأمر على عجل، تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن.
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون مادامت عين تطرف- فوالذي بعثك بالحق- لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له الرسول: "خيرا ودعا له".
وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك وأشرق وجهه عندما سمع مقالة المقداد وبايعه الناس جميعا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علَّي أيها الناس؟ " فقال عمر رضى الله عنه: "يا رسول الله إنها قريش وعزُّها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فتأهبْ لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته".(23/447)
وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ عمر من قوله سؤاله قائلاً: "أشيروا علي أيها الناس"؟ ففهم الأنصار أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقصدهم، فهم كانوا قد بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على اعتداء يقع خارج مدينتهم، فلما أحسوا أنه يريدهم قام سعد بن معاذ سيد الأوس وقال: "لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟ "فقال عليه الصلاة والسلام: "أجل" قال سعد رضي الله عنه: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاطعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منَّا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فامرنا نتّبِع أمرك. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبُرٌ في الحرب صدُق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منَّا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك".
فسُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" [4] .
ولكن هذا الذي قاله المقداد والذي قاله سعد- رضي الله عنهما- لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع الرسول- صلى الله عليه وسلم.(23/448)
فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنَّما خرجوا لمقابلة الفئة الضعيفة التي تحرس البعير، فلما علموا أن قريشا قد نفرت بخيلها ورجلها وشجعانها، وفرسانها وركبانها, كرهوا لقاءها كراهية شديدة حتى قال أحد الحاضرين: إلى مذبحة تقودنا يا محمد.
روي عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ونحن بالمدينة-: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ "فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في قتال القوم؟ إنهم أخبروا بخروجكم", فقلنا: لا والله مالنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير. ثم قال: "ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا: مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: "إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ".
قال: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.
قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [5] (الأنفال آية 5) .
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المؤمنين يومئذ وما كرهوا من أجله القتال حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الأنفال آية 6) .
وذلك بعد ما تبين الحق وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار، وأن عليهم أن يلقوا الطائفة التي قدر الله لهم لقاءها كائنة ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوك لها. أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.(23/449)
ولقد بقي المسلمون يودون أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال آية7) [6] .
هذا ما أراده المسلمون لأنفسهم يومذاك. أما ما أراده الله لهم فكان أمرا آخر {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال آية 7،8) .
أراد الله أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. نعم أراد الله للفئة المؤمنة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها سلطان وقوة، وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها، وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد، وليس بالمال والخيل والزاد، وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصالها بالقوة الكبرى التي لا تقف لها في الأرض قوة، وأن يكون هذا عن تجربة واقعية لا كلاماً واعتقادا، لتزود الفئة المؤمنة من هذه التجربة لواقعها كله.
بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم- أصحابه وعرف مقدار استعدادهم للقاء عدوهم. وجد أنه يجب على المسلمين- مهما كان الثمن- أن يسبقوا إلى آبار بدر فاخذوا في السير حتى وصلوا إِلى أعلى الوادي، وكان الوادي من الجدب بحيث لم يجدوا فيه قطرة ماء- ونَفِدَ ما كان مع المسلمين من الماء، فلما كان الغد بلغ بهم الظمأ حداً أليماً من العذاب، وانتهز الشيطان هذه الفرصة فوسوس إليهم: "انظروا إلى ما قادكم إِليه ذلكم الذي يزعم أنه رسول الله القادر.(23/450)
هاهم أولاء الأعداء لا يحصيهم العَدُّ يحيطون بكم، ولا ينتظرون إلا أن تخور قواكم من شدة الظمأ، فليلتهموكم التهام الفريسة السهلة التي لا تجد من يحميها"، وأخذت وسوسة الشيطان تدور برءوسهم، ومن حسن الحظ أن تعودهم على الظمأ في صيام شهر رمضان قوّى من صبرهم، وفي الوقت الذي بلغت فيه الحرارة أشُدَها، وأرسلت الشمس شعاعها كشواظ من نار وكاد ينفد الصبر، أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم السحب تتوج القمم والآكام، وتفجرت عن الغيث المنعش، حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطار فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام، ولم تمنعهم من السير {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية 11) .
وعلى العكس كانت هذه العاصفة ضرراً على المشركين فقد أصابهم منها ما أعجزهم [7] عن التحول فقد كانوا في أرض سبخة، وكانت إبلهم تنزلق، وتخر على الأرض وأرجلها الطويلة ممدودة وراءها في صورة تبعث على الضحك، وكانت قوائم الخيل تغوص في الأرض، وتَعْجِزُ عن إخراجها، ويحاول الفارس تخليصها من الأرض فترتمي عليه الفرس. وساد الاضطراب وعمت الفوضى، وعرقل كل ذلك من سيرهم [8] .(23/451)
والمدد على هذا النحو مدد مزدوج مادي وروحي فالماء في الصحراء مادة الحياة فضلاً عن أن يكون أداة النصر، والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يفقد حياته، والتحرج من أداء الصلاة على غير طهور بالماء لعدم وجود الماء، ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم، ويدخل الشيطان من باب الإيمان، ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب، والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها.
وهنا يجيء المدد والنجدة {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية،11) .
ذلك أن فوق ما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة؛ ليثبتوا الذين أمنوا فوق وعدهم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
وكان النوم قد جافى عيون المؤمنين من شدة الخوف حينما بلغهم أنهم سيقاتلون جيشاً يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غداً وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد ويضربون أخماسا في أسداس، ويفكرون فيما سيلاقونه في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس، غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه. ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم بقي متيقظا مستغرقا في الصلاة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ.....} (الأنفال آية 11) .(23/452)
وجاءت الساعة التي سيتقرر فيها مصير الإسلام، وكان ذلك يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وكان الحباب بن المنذر مشهوراً بجودة الرأي وإخلاص النصيحة، فخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً: "يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. امض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر (نطمس ونردم) ما وراءه من القلب (الآبار) ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي" ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ النصيحة خطوة فخطوة، فلم يجئ نصف الليل [9] حتى تحولوا كما رأى الحباب وامتلكوا مواقع الماء.....
وتحدد بذلك مكان الموقعة، فسيضطَرُّ المشركون بلا شك إلى الحضور، لينازعوا المسلمين على الماء فليس في الوادي غيره.
وبنى المسلمون عريشا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليجلس فيه بناءً على اقتراح سعد ابن معاذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويُسْدِي النصائح، ويذكر بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى العريش الذي هيء له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن.....
ووقف أبو بكر بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكثر الابتهال والتضرع بعد أن شاهد قوة المشركين وكثرة عددهم، وينشد الله ما وعده به، وأخذ يردد "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعدها في الأرض".
وما زال يدعو ربه حتى سقط رداؤه, وجاء أبو بكر يرد الرداء على منكبيه ويقول له: "يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك" [10] .(23/453)
والتقى الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين إِذ برز الأسود المخزومي وكان معجبا بقوته، وصرخ بحيث يسمعه المسلمون والمشركون قائلاً: "وحق اللات والعزى لأشربن من حوضهم أو لأهْدِمَنَّه، أو لأموتن دونه". وخرج له من صفوف المسلمين حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة ضربةً أطاحت بنصف ساقه، ووقع على ظهره والدم يسيل من رجله، ثم حبا إلى الحوض في مهارة مدهشة، وأسرع نحوه يريد أن يشرب منه، ولكن حمزة أدركه فقضى عليه.
وخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد فدعا للمبارزة فخرج له ثلاثة إخوة من الأنصار هم: معوذ ومعاذ وعوف.فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار, فقال لهم: مالنا بكم حاجة نريد قومنا، يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
وقيل: إِن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه هو الذي استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو في مثل هذا الموقف. فقال: "قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة بن عبد المطلب، وقم يا علي بن أبي طالب ,قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إِذ جاءوا ببطلانهم؛ ليطفئوا نور الله..".
فبارز عبيدة عتبة، وحمزة شيبة وعلي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل علي مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة فقد جرح كلاهما الآخر فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما فجاءوا به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرشه الرسول عليه الصلاة والسلام قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة، وقال يا رسول الله: لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:
ونذهل عن أًبنائنا والحلائل ونسلمه حتى نصرع دونه
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "أشهد أنك شهيد" ثم أسلم الروح [11] .(23/454)
بعد هذه المبارزة الفردية التي أثارت العواطف الحربية بين جوانح المحاربين لا يمكن أن يطول انتظار الغزاة، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل جيشه كتفا بكتف في صفوف متلاصقة كالبنيان المرصوص. وأخذ يكبح شكيمة هؤلاء المتعجلين الذين يريدون أن يتقدموا الجميع إلى القتال فيلاقوا مصرعهم دون فائدة تعود على المسلمين، ومن هؤلاء سواد بن غزيَّة، فقد برز من صفه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح (سهم) كان في يده وقال: "استو يا سواد". فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فَأقِدْني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتصً مني" فقال سواد كيف وقد ضربتني على بطني العريان.
- وهنا يتجلى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إقامة العدل بين أمته، ليبين أنه لا فرق بين حاكم ومحكوم ولا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وواحد من قومه في ميزان العدل لنأخذ منه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة:
فيكشف له الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويقول: "استقد يا سواد"؟ فاعتنقه سواد فقبل بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا يا سواد"؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك"فدعا له رسول الله بخير [12] .(23/455)
واستشاط الكفار غضبا للبداية السيئة التي صادفتهم فأمطروا المسلمين وابلاً من سهامهم ثم حمي الوطيس، وتهاوت السيوف وتصايح المسلمون أحد أحدٌ. وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين وهم يرابطون في مواقعهم وقال: "إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا". فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبي صلى الله عليه وسلم في عريشه يدعو الله سبحانه وتعالى، ويرقب بطولة رجاله وجلدهم قال ابن إسحاق: "خفق النبي خفقة في العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع" [13] .
لقد انعقد الغبار فوق رءوس المقاتلين وهم بين كرٍّ وفرٍّ، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور، فأغراهم أن يغالبوا القدر.
فلا عجب إِذا نزلت ملائكة الخير تنفث في قلوب المسلمين روحَ اليقين وتحضهم على الثبات والإقدام.
ونزل قول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال آية 13) .
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكانه إِلى الناس فحرضهم قائلاً: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً إِلا أدخله الله الجنة". وأخذ الرسول- صلى الله عليه وسلم- حفنة من حصباء فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه".
ثم قال لأصحابه: "شدُّوا" [14] , فشدُّوا فنزل قول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال آية 17) .(23/456)
ولما دنا المشركون قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"والتأميل في الآخرة هو بضاعة الأنبياء. وهل لأصحاب العقائد، وفداء الحق من راحة إلا هناك، وعمل هذا التحريض عمله في القلوب المؤمنة.
فقال عمير بن الحمام الأنصاري: "لا يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض: قال: "نعم". قال: بخ بخ. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما يحملك على قول: بخ بخ، قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاء أن أكون من أهلها؟. فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "فِإنك من أهلها".
فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: "لئن أًنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إِنها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول رضي الله عنه:
إلا التقى وعمل المعاد ركضا إلى الله بغير زاد
وكل زاد عرضة النفاد والصبر في الله على الجهاد
غير التقى والبر والرشاد [15]
فما زال حتى قتل رحمه الله [16] .
واشتد القتال، وقتل سادات قريش، لأن المسلمين كان هَمُّهم الأكبر هو استئصال سادات قريش، فقد عذبوهم بمكة، وصدوهم عن المسجد الحرام. وقُتل من قُتل، وفرّ من فر, وانتصر جيش المسلمين وكانت معركة بدر في صالح محمد- صلى الله عليه وسلم- ورجاله وولى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم لا يكاد أحدهم يلتقي بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلاً من سوء ما حل بهم جميعا.
ثالثا: تسجيل لمواقف الخزي والعار بالنسبة لقريش ورجالها
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال آية 19) .(23/457)
حينما خرج المشركون من مكة إلى بدر- أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله قائلين: "اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين وخير القبيلتين".
وروي أن أبا جهل قال يوم بدر "اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة".
وأنه قال عندما التقى الجمعان في ذلك اليوم: "اللهم ربً ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم" [17] .
وتحقق طلب قريش وأبي جهل، فجعل الله الدائرة عليهم تصديقاً لاستفتاحهم؛ لأنهم طلبوا من الله أن يفتح عليهم وأن يهلك الضالين, وهذه حقيقة فقد دارت الدائرة على الفريق الضال الصاد عن سبيل الله وهزموا هزيمة منكرة.
وهذا نموذج للإجابة لا يسر ولا يشجع على إعادة الاستفتاح من جديد.
ولقد كان أبو جهل أشد المشركين عداوة للإسلام ولما وجد سيل الهزيمة النازل بقومه من المشركين- أقبل يصرخ فيهم، وغباوة الغرور لا تزال ضاربة على عينيه "واللات والعزى لا نرجع حتى نفرِّقهم في الجبال ... خذوهم أخذاً" [18] .
ولقد كان أبو جهل تمثالاً للطيش والعناد إلى آخر رمق، وكان يقاتل في شراسة وغضب وهو يقول:
بازل عامين حديث سني ما تنقم الحرب الشموس مني
لمثل هذا ولدتني أمي
وكان المسلمون يعلمون أن أبا جهل هو المحرك لكل المؤامرات التي تحاك ضد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاخذوا يبحثون عنه، وتمكن معاذُ بن عمرو من الوصول إِليه وضربه ضربةً أطارت قدمه بنصف ساقه، وأسرع عكرمة بن أبي جهل لإنقاذ أبيه، فضرب معاذاً على عاتقه فطوحت يده....(23/458)
ثم مر بأبي جهل فتيان من الأنصار وهما ولدا عفراء وهو على فرسه فطعناه حتى هوى عن فرسه واهتم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن مصير أبي جهل وأمر أن يلتمس في القتلى فذهب عبد الله بن مسعود للبحث عنه فوجده بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه كما يضع الإنسان رجله على أفعى يريد أن يقضي عليه، وتحرك أبو جهل يسأل عن الدائرة اليوم؟. قال: "لله ورسوله", ثم استتلى عبد الله قائلا له: "هل أخزاك الله يا عدو الله؟ "قال: وبماذا أخزاني هل أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس في عبد الله ثم قال له: "لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم"، فجعل عبد الله يهوي عليه بسيفه حتى خمد. وجزّ رأسه وجاء بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحينما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجه عدوه الدامي قال: "الله الذي لا إله غيره" ثم قال: "هذا فرعون هذه الأمة" [19] .
ولقي مثل هذا المصير المفجع أمية بن خلف وغيره من صناديد قريش حتى بلغوا سبعين صنديداً من رؤوس الكفر بمكة دارت عليهم الدائرة، وتجرعوا كؤوس الردى صاغرين, وسقط في الأسر سبعون كذلك, وفر بقية التسعمائة والخمسين يرددون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار، وهذا جزاؤهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ويقال لهم: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (الأنفال آية 14) .
وانتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، والقلة الضعيفة على الكثرة القوية المستعدة.
وسيحدث ذلك في كل معركة بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وولايته وتوفيقه فمن ذا الذي ينتصر على من كان الله معينه وناصره؟ من يهزم جمعا معه الله.
الجواب على هذا لا أحد إن شاء الله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد آية7) .(23/459)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو الفداء عن ابن إسحاق 3/266، ابن هشام 1/618-619.
[2] صحيح مسلم بشرح النووي 12/125، مسند أحمد رقم 948، ابن هشام 1/618،أبو الفداء 3/265
[3] ابن هشام1/618، أبو الفداء 3/265.
[4] ابن هشام 1/614 – 615،أبو الفداء 3/ 264،فتح الباري7/287.
[5] فتح الباري 7/278-288.
[6] أبو الفداء 3/264.
[7] الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266.
[8] الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266.
[9] ابن هشام 1/620، أبو الفداء 3/267 عن ابن إسحاق.
[10] أبو الفداء 3/272، 275. فتح الباري 7/278، الروض الأنف 5/98-130.
[11] أبو الفداء 3/279،الروض الأنف 5/103، فقه السيرة ص 237.
[12] أيو الفداء3/271،الروض الأنف 5/104.
[13] ابو الفداء 3/276.فقه السيرة ص238، الروض الأنف 5/105.
[14] أبو الفداء 3/284.
[15] أبو الفداء 3/277، الروض الأنف 5/105-106،فقه السيرة ص239.
[16] أبو الفداء3/277.
[17] أبو الفداء 3/282-283.
[18] أبو الفداء 3/283.
[19] أبو الفداء3/287-290 ورواه أبو داود والنسائي بإسنادهما والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك. الروض الأنف 5/113-115 142-145.(23/460)
جيش العسرة
يحمي المدينة … ويؤَمِّن حدود الجزيرة
للدكتور عبد العظيم حامد خطاب
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
ألقت الهجرة على المدينة المنورة عبء الدفاع عن الإسلام والتكلم باسمه، إذ أصبحت مقر الحكومة الإسلامية, وملاذ المهاجرين بدينهم، والقلعة الأولى من قلاع التوحيد.. منها تخرج السرايا والجيوش لحماية الإسلام. ولبثِ الرهبة في قلوب أعدائه لكي يأخذ الإسلام مساره إلى كافة الأرجاء دون معارضة أو صدود..
ألا يكفي أن الإسلام خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة؟ هل يسكت حتى يخرج من المدينة أيضا؟.. لم يكن بوسع الرسول صلى الله عليه وسلم القائد النابه أن يسكت على الضيم، أو يدعْ رسولا من رسله يقتل، أو مبشراً بدعوة الإسلام يغتال أو قافلة من قوافل المسلمين تصادر, أو عهداً من عهوده ينقض بلا عقاب رادع، وجزاء فوري، يرد للمسلمين هيبتهم، وللمدينة كلمتها العزيزة المنيعة.
بل لابد للمهاجرين- المصادَرةُ أملاكهم في مكة, المطرودين من ديارهم فرارا بدينهم- أن يستردوا حقهم.. أو يثأروا للظلم الذي وقع عليهم.. ولا بد للدولة الناشئة الفتية الجديدة أن تثبت وجودها، في وسط هذا البحر الهائج بوحشية الكفر وبربرية الوثنية الباقية على الأرض العربية.
وإذا كانت الغلبة في مثل هذا الجو للقوة المسلحة وقلوب الرجال وسواعدهم، فلا بد من أن يتخذ الإسلام جانب القوة حتى يتغلب على الكفر والبربرية, ليمكن أن ينشر بين الناس فيح تعاليمه العبقة وينشر أزاهيره النضرة، ويضيف إلى المجتمع أسمى تعاليم، لبناء الحياة خضوعا لله ذي القوة والجبروت. فالإسلام هنا اتخذ أهبته الحربية بالإضافة إلى سمو تعاليمه وقوة رجاله وفدائيتهم. وأخذ بأسباب النصر.. ومن هنا كان دفاع الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة..(23/461)
يمكن القول بأن أول الغزوات التي استهدفت حماية المدينة من ناحية الشمال والمحافظة على تجارتها القادمة من الشام.. تلك الحملة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر شهر ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة النبوية إلى منطقة عرفت (بدومة الجندل) [1] وبينها وبين دمشق خمس ليال.. وكان بهذه البلدة عصابة تعرضت لتجارة المدينة، وأضرت بها ضررا بليغا.. بل بلغ من فسادها أن فكرت في الإغارة على المدينة ذاتها.
أما عن أخبار هذه الغزوة المباركة فقد ذكر مؤرخو السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في ألف من المسلمين. كانوا يسيرون ليلا ويكمنون نهارا, حتى وصلت بعد خمس عشرة ليلة إلى (دومة الجندل) وفاجأ الرسول أهل هذه البلدة الظالمة فاستاق النّعَم والشاء وهرب أهل البلدة ورجال حربها وتفرقوا. فأقام صلى الله عليه وسلم أياما وبث السرايا في أنحاء المناطق المجاورة, ثم رجع الرسول بعد أن أقام أياما بما غنم, وقد خلع القلوب رهبة من فدائية رجاله.. وهيبة جلاله.. ولعل هذا الامتداد إلى الشمال هو الذي دفع الأحزاب أن تتماسك وتتعاهد على محاربة الرسول في المدينة مرة أخرى بعد غزوة أحد.(23/462)
وكان لمشروع مهاجمة المدينة والقضاء على دولة التوحيد أنصار ودعاة. فأول الدعاة لهدم هذه المدينة المناضلة هم اليهود. ومن الغريب العجيب في غزوة الأحزاب أن اليهود وهم أهل كتاب منّزل تحالفوا مع قريش الوثنية على محاربة الرسول والقضاء على دعوته مع أنهم يعرفون صدقها ويجدون ذلك في كتابهم ولكنه الغل والحسد والتكبر. ويروى أن قريشا قالت: "يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم.. أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد … أديننا خير أم دين محمد؟. فنحن نعمر البيت وننحر الإبل ضيافة ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام "فماذا كان رد اليهود؟ قالوا: "لا اللهم أنتم أولى بالحق منه" فأنزل الله تعالى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [2] .
وتحصن المسلمون بالخندق الذي أشار بحفره سلمان الفارسي. رغم ما في مشروعه من الجهد والمشقة. وسلمت المدينة من الحصار؛ حصار الأحزاب للمدينة المنورة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} وتفرقت الأحزاب, وانهار آخر أمل للكفار في القضاء على المدينة وسيادتها وزعامتها, بل ازدادت قوة … ففي شعبان من السنة السادسة خرج الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف إِلى (دومة الجندل) أميراً على سبعمائة رجل، ويقال إِن الرسول صلى الله عليه وسلم نقض عمامته [3] بيده الكريمة، وعممه بعمامة سوداء وأرخى له ذؤابة (عذبة) بين كتفيه منها ثم قال له: "هكذا فاعتم يا ابن عوف" وزوده بنصيحة، أو إن شئت بأمر فقال له: "اغزُ باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغُل ولا تغدر، ولا تقتل وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم".(23/463)
وخرج ابن عوف مقلدا بعمامة الرسول مزودا بأمره متوكلا على ربه فلما بلغ الجيش (دومة الجندل) مكث عبد الرحمن بها يدعوهم إِلى الإسلام ثلاثة أيام, فأسلم ملكهم (الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة) فتزوج عبد الرحمن بابنته تماضر، تنفيذا لوصية الرسول له حين وجهه إليه, وأسلم بإسلام الأصبغ ناس كثيرون من قومه, وأقام من أقام على إعطاء الجزية التي كانت أقل من ضرائب الروم وإتاواتهم.
الفرس والروم
كانت القوى المسيطرة على شمال الجزيرة العربية في العراق والشام تتمثل في الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) وكان بينهما نزاع طويل حول السيطرة على الشام ومصر. وكان الفرس قد استولوا في الفترة بين (615- 626 م) على بيت المقدس ومصر جميعا. مع ما لبيت المقدس من مركز مرموق في الدولة البيزنطية المسيحية، فكان استلاب الأماكن المقدسة المسيحية ضربة قاسية أثارت الروم. فأرسلوا عدة حملات استهدفت إعادة الأرض المقدسة ومصر إِلى أًقاليم وسيطرة الدولة. وبالفعل تمكن الإمبراطور هرقل الأول إمبراطور الروم (610- 641 م) من إِعادة مصر والشام إِلى الحكم البيزنطي.
وفي الوقت الذي ارتقبت فيه الدولتان فترة هدوء حقيقي تستردان فيها قوتهما، وتعيدان تعمير بلادهما بعد الصلح الذي تم بينهما في (7 هـ/ 628 م) وصل إلى كليهما رسول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهما إِلى الإسلام، ونبذ ما يعبدان من دون الله.
لم يكن العرب من قبل خطرا يهدد الدولتين وبخاصة أن أحلافا قد عقدت بين هاتين الدولتين والقبائل العربية المنتشرة في الشمال الشرقي والغربي للجزيرة العربية. ولم يكن يدور بخَلَد أي من الدولتين أن قبائل العرب المشتتة المتفرقة قد تتحد يوما، فضلا عن أن تصبح خطرا جديدا يعمل له حساب....(23/464)
في هذا الوقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عمل على توحيد شبه الجزيرة العربية بعد فتح مكة ونزل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . ودانت أغلب قبائل الجزيرة العربية بالإسلام.
كان المسلمون يتحرقون شوقا إلى حمل رسالة السماء إلى أنحاء الأرض ولم يكن المنفذ الطبيعي للدعوة والمكان المرتقب للامتداد البشري للجزيرة العربية، إلا أرض هاتين الدولتين الفرس والروم في بلاد العراق والشام. وكان على هؤلاء المسلمين أن يقوموا في وجه أكبر قوتين حربيتين في العالم في ذلك الوقت، مع ما توافر لكل منهما من الخبرة الحربية والعدة والأموال الضخمة والبراعة العسكرية.
اتجهت حملات الرسول صلى الله عليه وسلم صوب القبائل العربية المتعاقدة مع الفرس والروم بهدف إِخضاع تلك القبائل وعرض الإسلام عليها، لعلها تحمل رسالة الإِسلام إلى ما وراءها من هذا العالم. فقد وجه الرسول قبل فتح مكة عدة غزوات في هذا الاتجاه، منها الحملة العسكرية ضد دومة الجندل التي أشرنا إليها. ثم غزوة مؤته [4] التي لاقت جموعا كبيرة من الروم. وتحرف خالد بن الوليد فاستنقذ المسلمين من عدوهم وعاد بهم ظافرين. وغزوة ذات السلاسل [5] التي استنفر فيها الرسول أصحابه نحو الشام لحرب قضاعة بأرض جذام، وجعل أمير جيش المسلمين عمرو بن العاص السهمي، وأمده بجيش جعل أميره أبا عبيدة بن الجراح ومعه كبار المهاجرين كأبي بكر وعمر وكبار الأنصار.
وقد حققت تلك الغزوات أهدافها من حيث إظهار القوة الإسلامية، وتمزيق الأحلاف مع غير الإسلام. كما أذاعت الإسلام على حدود دولتي الفرس والروم، وأجبرت القبائل التي بقيت على المسيحية على التعاقد مع الإسلام والخضوع لقوته.
جيش العسرة(23/465)
علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعوا جيوشهم مرة أخرى على الحدود المتاخمة لجزيرة العربية. وقد اجتهد هرقل إمبراطور الروم المنتصر على الفرس بالأمس القريب، أن يجمع جيشا أراد به أن يتوج حياته بنصر كبير يحفظ للإمبراطورية البيزنطية هيبتها.
لم يكن أمام المسلمين اختيار بين السلم والحرب، وإنما فرضت الحرب نفسها عليهم وعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على مواجهة جيوش الدولة البيزنطية والاصطدام معها, بل والانتصار لمعركة مؤتة والأخذ بثأر جعفر بن أبي طالب وشهداء الإسلام.
ولكن.. في أي ظروف اختار الرسول وقت المعركة.. لم ينتظر عليه السلم، خشية أن تهاجم جيوش الروم أرض الإسلام, فأسرع فأمر بتجهيز الجيش وأمر بالجهاد يقول ابن إسحاق: "كانت غزوة في زمن عسرة من الناس وجدب من البلادِ والناس في شدة" [6] . وحين أمر بالجهاد كانت الثمار قد طابتْ فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص لأن السفر طويل ومرهق، والعدو قوي وله ماض في الحروب طويل.
المبادرة لأمر الرسول
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج لغزوة ورىَّ [7] بغيرها، إلا في هذه المرة فإِنه ذكر أنه يعتزم إخضاع الروم ومنازلتهم. وما فعل ذلك إلا لقوة العدو، وبُعد الطريق، وبذل غاية القوة. فحضَّ عليه السلام على الجهاد ورغب فيه وبعث إلى قبائل الجزيرة وإلى مكة يستنفر أهلها على عدوهم، فوفد المسلمون يتسابقون إلى مرضاته وطاعته, وأمر بالصدقة وتجهيز الجيش. فحملت الصدقات الكثيرة إليه صلى الله عليه وسلم.(23/466)
فأول من حمل صدقته أبو بكر الصديق جاء بماله كله: أربعة آلاف درهم وما أبقى لأهله شيئا وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي الله عنه فقال: "ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه" [8] . وحمل العباس بن عبد المطلب تسعين ألف درهم, وعبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية من الذهب, وجهز عثمان بن عفان ثلث الجيش, ثم جاء بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم". وتبادر المسلمون في النفقة، حتى كان الرجل يأتي بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، ويأتي أحدهم بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: "هذا بينكما تعتقبانه" [9] . وتبرعت النساء بكل ما قدرن عليه فكن يلقين في ثوب مبسوط بالمعاضد والخلاخل والخدمات والأقرطة والخواتيم [10] .
وأنفق صلى الله عليه وسلم كل ذلك على الجيش حتى فرغت النفقة، وجاءه رجال يطلبون منه أن يجهزهم للحرب، فاعتذر عن ذلك, والمشهور من بينهم سبعة رجال وهم من يقال لهم: (البكاؤون) , جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة فقال لهم: "لا أجد ما أحملكم عليه"فتولوا يبكون قائلين: "ليس عندنا ما نتقوى به على الخروج ونحن نكره أن تفوتنا غزوة في سبيل الله".
ولقد حقق الله أملهم فحمل العباس رضي الله عنه رجلين، وحمل يامين بن عمرو ابن كعب رجلين منهم، فأعطاهما بعيرا يرتحلانه، وزود كل منهما صاعين من تمر, وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة رجال [11] .(23/467)
وفي الوقت الذي يتبادر فيه المسلمون إلى تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بعض الأعراب يعتذرون، فلم يأذن لهم الرسول. وجاء المنافقون يستأذنون من غير علة فأذن لهم. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول قد عسكر وحده عند جبل ذباب [12] ، أسفل معسكر المسلمين عند ثَنية الوداع [13] فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه في طائفة من المنافقين وأهل الرِّيَب [14] . وأراد أن يوهن قلوب المؤمنين فرجع قائلا: "يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، أيحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ وقال: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الحبال" [15] .
خرج الرسول في رجب من السنة التاسعة للهجرة على طريق التصميم والجهاد وحوله المسلمون؛ ثلاثون ألف جندي وعشرة آلاف فرس اثنا عشر ألف بعير, وقيل عدد الجيش سبعون ألفا [16] . وأمر الرسول بأن لا يخرج رجل إلا ومعه دابة قوية ذلول. وحدث أن خرج رجل على بعير صعب القياد فعدا به فصرعه في الطريق، فقال الناس: "الشهيد.. الشهيد" فبعث الرسول مناديا ينادي "لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إِلا نفس مؤمنة، ولا يدخل الجنة عاص" [17] فمخالفة أمر الرسول عصيان ويحبط العمل. وفي الطريق إِلى تبوك جهد المسلمون جهدا شديدا، ولكنهم رأوا ما يثّبت قلوبهم على الحق، من علامات النبوة ورعاية الله سبحانه وتعالى لرسوله وللمجاهدين في سبيله، فقد تقَوَّل المنافقون على الرسول، فأظهره الله على مقالتهم وأعلمه ما يقولون.. وجمع الرسول بين الظهر والعصر. فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر ثم يجمع بينهما حتى رجع من تبوك [18] .(23/468)
وعارضه في مسيره حية عظيمة، فأقبلت حتى رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا، والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق.. فأقبل الناس حتى لحقوا رسول الله، فقال لهم: "هل تدرون من هذه..؟ " قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: "هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآنس [19] ، فرأى عليه من الحق حين ألم رسول الله ببلده أن يسلم عليه، وهاهو ذا يقرئكم السلام، فسلموا عليه, فقال الناس جميعا: وعليه السلام ورحمة الله" [20] .
الثمرات السبع: كما ظهرت معجزات للرسول كثيرة منها: البركة في الطعام القليل.. والمثل لذلك ما ذكر من أن العرباض بن سارية [21] كان يلزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر, فترك الباب قليلا ليقضي حاجة له، ثم عاد وقد تعشى الرسول ومن معه من أضيافه، وهو يريد أن يدخل قبته على أم سلمة أم المؤمنين, فلما رأى العرباض سأله عن غيبته فأخبره, ثم جاء جعال بن سراقة، وعبد الله بن مغفل المزني وثلاثتهم جياع، فطلب عليه الصلاة والسلام في بيته شيئا ليأكلوه فلم يجدْ فنادى بلالا:"هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ " فقال لا.. والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جرُبَنَا وحُمُتَنَا [22] قال: "انظر عسى أن تجد شيئا", ورغم أن بلالا يعلم تماما أنه ليس بالجرب شيء من التمر, ولكن امتثالا لأمر الرسول أخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا.. فتقع من بعض الجرب التمرة والتمرتان حتى اجتمع له سبع تمرات, فوضعها عليه السلام في صحفة وسمى الله تعالى تم قال: "كلوا باسم الله" فأكلوا ... وأحصى العرباض أربعا وخمسين تمرة أكلها، يعدها بيده, وأكل كل واحد من الآخرين خمسين تمرة, ورفعوا أيديهم فإذا التمرات السبع كما هي.. فقال الرسول: "يا بلال، ارفعها في جرابك فانه لا يأكل منه أحد إِلا نهل شبعا".(23/469)
وبات الثلاثة حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام يتهجد على عادته, فلما صلى بالناس الصبح جلس بفناء قبته، وحوله عشرة من الفقراء فقال: "هل لكم في الغداء؟ " فقال عرباض في نفسه: أيُ غَذَاء؟ فدعا بلالا بالتمر فوضع يده عليه في الصحفة ثم قال: "كلوا باسم الله" فأكلوا حتى شبعوا، وإذا التمرات كما هي فقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أني أستحي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد المدينة عن آخرنا". فلما رجع إلى المدينة طلع غليم من أهل المدينة فدفعهن إلى ذلك الغلام فانطلق يلوكهن [23] .(23/470)
واستطرادا لمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي ظهرت في هذه الغزوة, نذكر أنه حدث في عودتهم من تبوك أن فرغ الزاد فاستأذن المسلمون في نحر ركائبهم من الإبل، فأذن لهم رسول الله، وعلم عمر بن الخطاب بذلك فطلب إلى الناس أن يمسكوا ولا يفعلوا حتى يراجع رسول الله, ودخل عمر فقال للرسول: "أذنت للناس في حمولتهم يأكلونها؟ "فقال: "أذنت لهم أن تنحر الرفقة البعير والبعيرين ويتعاقبون فيما فضل من ظهر, وهم قافلون إلى أهليهم" فقال: "يا رسول الله، لا تفعل فإن يَكُ في الناس فضل من ظهر يكن خيراً، ولكن ادع بفضل أزوادهم، ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية فإن الله سيستجيب لك ... "فنادى مناديه: "من كان عنده فضل زاد فليأت به"، وأمر الأنطاع [24] فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد من الدقيق والسويق أو التمر، أو القبضة من الدقيق أو الكسر، فيوضع كل صنف على حدة، وكل ذلك قليل. ... ثم توضأ صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم نادى مناديه: "هلموا إلى الطعام خذوا منه حاجتكم ". فأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه, فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرة من خبز وقبضة من تمر, ثم رأيت الأنطاع تفيض، فجئت بجرابين فملأت أحدهما سويقا والآخر تمراً، وأخذت في ثوبي دقيقا كفانا إلى المدينة, فجعل الناس يتزودون حتى اكتفوا عن آخرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم واقف يقول: "أشهد أن لا اله إلا الله وأني عبده ورسوله, وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وقاه الله حر النار" [25] .
نبع الماء من بين أصابع الرسول(23/471)
وحديث آخر يثير الدهشة والعجب في هذه الغزوة، ومع جيش العسرة التي كانت آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، إذ افتقد المسلمون الماء فأغاثهم الله بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم، فقد كان مع أبي قتادة أداوة ماء توضأ منها رسول الله وفضلت فضلة, فقال الرسول: "يا أبا قتادة، احتفظ بما في الأداوة والركوة, فإن لهما شأنا" ثم صلى الفجر بعد طلوع الشمس [26] فقرأ بالمائدة، فلما انصرفنا بعد الصلاة قال: "أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا"، وكان الجيش قد سبق سائرا نحو المدينة فأراد كل من أبي بكر وعمر أن ينزل الجيش في موضع الماء فأبوا عليهما, ولكنهم فقدوا الماء بعد ذلك فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض.
ركب رسول الله فلحق بالجيش عند زوال الشمس، فوجد الجيش قد لحقه عطش شديد، حتى كادت تنقطع أعناق الرجال والخيل عطشا. فلما أبصر الرسول حالهم وما هم عليه من الشدة، دعا بالركوة من أبي قتادة فأفرغ ما في الاداوة فيها. ثم وضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى ترووا وأرووا خيلهم وركابهم وإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل عشرة آلاف، والناس ثلاثون ألفا, فظهر سر قول رسول الله لأبي قتادة "احتفظ بما فيهما فإن لهما شأنا" [27] .
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لراوية ماء اشتراها أُسيد بن حضير من امرأة من (بَلّى) [28] . في الطريق فأتى بها إلى الرسول فقال للناس: "هلموا أسقيتكم".. فلم يبق معهم سقاء إلا ملأوه, ثم دعا بركائبهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت وانبسط الماء حتى يصف عليه المئة والمئتان [29] . وهكذا تحول العسر يسرا، وكأن الله سبحانه أراد أن يُثَبِّتَ المؤمنين ويلزم المنافقين الحجة، ويؤيد رسوله في آخر غزواته بما لا يسع أحداً إنكاره.
على مشارف الشام(23/472)
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك جمع الناس فخطب فقال: "أيها الناس.. أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى". وختم بقوله: "ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي " (قالها ثلاثا) ثم قال: "استغفر الله لي ولكم" [30] .
علم الروم بأمر هذا الجيش الذي خرج لمواجهتهم بقيادة الرسول الكريم وعلموا قوته وعدده وحماسته فآثروا الانسحاب إلى حمص، ورجعت قوة الحدود لتتحصن داخل بلاد الشام وحصونها.. وعرف الرسول بأمر الانسحاب، ونمى إليه ما أصابهم من خوف.. فلم ير محلا لتتبعهم داخل الشام.
وقد يكون الروم قد قصدوا أن لا يسيروا إلى المسلمين لقتالهم، لأن تبوك في الجنوب الأقصى من بلاد الشام, أو لأن هرقل إمبراطورهم اعتقد بأن النبي محمد رسول من الله حقا, وتُورد بعض الصادر الإسلامية أن هرقل أرسل رجلا من غسان لينظر في صفة النبي وعلامته [31] ، فجاء الرجل إلى النبي وهو في تبوك فوعى أشياء ذكرها لهرقل. ولذا لم يتحرك من موضعه لمقابلة جيش المسلمين الواصل إلى تبوك بقيادة الرسول نفسه.
أقام جيش العسرة المتعطش لمدافعة الأخطار الخارجية في تبوك: وهي مدينة على الطريق بين المدينة ودمشق على مسيرة اثني عشر يوما من المدينة. (الطرق الحديثة الحالية تبلغ 686 كيلو مترا) وتقع على الحدود الشمالية للجزيرة العربية، وعلى حدود الإمبراطورية البيزنطية.(23/473)
ويذكر المؤرخون أن سكان تبوك من الروم وعاملة وجذام هربوا عندما بلغهم وصوله صلى الله عليه وسلم. وذلك راجع إلى ما ظهر عند أول احتكاك فعلي بين الروم والمسلمين العرب في غزوة مؤتة, فقد حدث بعد مقتل أمرائها الثلاثة أن أخذ الراية خالد بن الوليد, وكان الله قد جَلّى لنبيه ميدان المعركة فقال: "ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، اللهم إنه سيف من سيوفك أنت تنصره". ثم قال: "الآن حمي الوطيس". فقتل المسلمون من الروم وحلفائهم من العرب مقتلة لم يقتلها قوم، وهزم الله العدو وأظهر المسلمين [32] .
فقد شهد الروم أن المسلم يريد أن يموت في سبيل الله ولا يعنيه كيف مات ما دام قد قتل عددا قبل استشهاده. ولأن المسلم كان في ذروة حماسته لدينه على حين كان الرومي ولو أنه محارب مدرب، إلا أنه لم يكن متحمسا دينيا وذلك للنزاع بين المذاهب المسيحية، فضلا عن أن الحرب مع الفرس كانت قد قضت على خيرة المحاربين الرومان، بالإضافة إلى أنهم لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر.
أقام الرسول صلى الله عليه وسلم وجيش العسرة على حدود الإمبراطورية البيزنطية [33] ، عشرين يوما على أرجح الأقوال، يتحدى من يشاء أن ينازله أو يقاومه، وقصد من بقائه هذه المدة الطويلة أن يعمل على كفالة وضمان حدود الجزيرة العربية في الشمال، حتى لا يتخطاها من بعد ذلك أحد [34] .
وكان يوحنا بن رؤبة صاحب أيله (العقبة) أحد الحكام الموالين للروم على حدود الجزيرة العربية, فأنذره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذعن أو يغزوه، فاقبل يوحنا، وعلى صدره صليب من ذهب, وقدم والهدايا معه، وتقدم بالطاعة، فصالح الرسول وأعطاه الجزية [35] . كما صالح الرسول أهل جرباء وأذرح ومقتا فقدموا الجزية رمزا للخضوع والإذعان وكتب لهم الرسول كتبا بالأمان [36] .
أسر أكيدر ومصالحته(23/474)
لم يكن بعد انسحاب الروم خوف من هجومهم المباشر, ولكن خشي الرسول انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة الجندل، ومعاونة جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته, وتأتي أهمية دومة الجندل، أن حولها جموع القبائل الكثيرة العدد والمسلحة بأسلحة الرومان, فكان لا بد من إخضاعه لتأمين منطقته.
لذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك ومعه أربعمائة وعشرون فارسا إلى أكيدر وأمره بأن يعتقله ولا يقتله ويأتي به أسيرا. ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أن خالدا قال: يا رسول الله كيف لي به وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في عدد يسير فقال له: "إنك ستجده يصيد البقر فتأخذه فلا تقتله وائت به إلي" [37] . وما يظن أحد إلا أن الصيد يكون بعيداً عن الحصون والعمران, ولكن خيل السرية المسلمة الممتثلة لأمر رسوله الله، المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله، سارت بقيادة خالد نحو الحصن, إذ أين يبحث عنه في مسارح الصيد ومشاربه ووهاد الصحراء؟.
قَدم خالد حتى إذا كان من حصن دومة بمنظر العين، ربض ينتظر غِرّة فيهجم، وكان من عادته أن لا يبيت إلا على تعبئة, وأعطاه الله بصيرة بالحرب نافذة, لَبِث حتى مضى جزء من الليل، فإذا بقول رسول الله يتحقق!..ِ
كانت ليلة مقمرة مضيئة، وكان أكيدر على سطح قصره وحصنه ومعه امرأته، فأقبلت البقر الوحشية إلى قصر أكيدر جماعة تحك بقرونها باب الحصن تستنزل صاحبه … فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد.(23/475)
فنزل فأمر بفرسه فاسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، منهم أخ له يقال له حسان، فركب وخرجوا معه، ففرت البقر أمامهم فطاردوها, وبينما هم كذلك، تلقتهم خيل رسول الله بقيادة خالد, فأسرت أكيدر وقتلت أخاه, فلما صار في أيدي المسلمين صالح خالد، ودخل به الحصن فافتتحه ومن معه من الفرسان, وكان صلحه على ألفي بعير وثلاثمائة رأس من الرقيق، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح. وتوجه خالد ومعه أكيدر يطلبان الرسول، الذي كان قد انصرف عن تبوك عائدا إلى المدينة, فقدم إليها خالد ومعه أسيره، وما صالح عليه أهل الحصن فأقرّ الرسول ما أمضى خالد [38] .
وعجب الناس لهذه الحادثة وقول رسول الله "ستجده يصيد البقر" فقال رجل من طيء: "وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته"، لتصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذُكر أن أكيدر قال عن البقر: "والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة. وقد كنت أضمر لها اليومين والثلاثة، ولكن قَدَّر الله". فقال صاحب طيء:
رأيت الله يهدي كل هاد [39]
تبارك سائق البقران إني
وأطلق رسول الله أكيدر وكتب له أمانا كما كتب لغيره [40] . ولعل إصدار هذه الكتب من الرسول يدل على سيادة المسلمين على هذه المناطق. أي السيطرة على حدود الجزيرة العربية في الشمال. وبهذا حقق الرسول هدفه من تأمين حدود شبه الجزيرة، وأقام من هذه البلاد والحصون معاقل متقدمة بينه وبين الإمبراطورية البيزنطية، حتى يأتي دور إخضاعها نهائيا.
المنافقون والتآمر(23/476)
أشرت فيما مضى أن قطاعا من المنافقين رجع من ثنية الوداع [41] . ولكن صحب المجاهدين أفراد من المنافقين, فكانوا قوة هدامة، اشتد عداؤها للرسول رغم ما ظهر أمامهم من آيات واضحة لكل ذي قلب أو ألقى السمع. ولكن النفاق غلف قلوبهم، وعشى أبصارهم فلا وَعْي ولا بصيرة, بل حدث في هذه الغزوة جريمة كبيرة، حين تاَمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ولكن لم يشأ صلى الله عليه وسلم وهو يعرفهم أن يقتلهم عندما كشف مؤامرتهم.
كان المنافقون قد تآمروا على أن يطرحوا الرسول عندما يبلغ إحدى العقبات على الطريق فلما بلغ صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أراد المنافقون أن يسلكوها معه, فاعلم الله نبيه نبأ هذه المؤامرة, فأمر الناس أن يسلكوا بطن الوادي، وسلك صلى الله عليه وسلم العقبة فكان مناديه حين أنذرهم بأمره قد قال لهم: "إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد" [42] .. وأمر عمار بن ياسر بأن يأخذ زمام الناقة, وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق خلفه.
وبينما رسوله الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حِسَّ القوم قد غَشوه فغضب وأمر حذيفة بأن يردهم، فرجع إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم، فانحطوا مسرعين من العقبة حتى خالطوا الناس, وأتى حذيفة فِساق به, فلما خرج من العقبة سأله الرسول: "هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ " قال: "يا رسول الله …. عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم ملثمين فلم أعرفهم من أجل ظلمة الليل؟ [43] .
قال ابن اسحق: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان. وذكر الحافظ البيهقي أنهم كانوا أربعة عشر رجلا أو خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, وعَذَر ثلاثة منهم أنهم قالوا ما سمعنا المنادي، ولا علمنا ما أراد القوم [44] .(23/477)
وكانوا قد أسرعوا برسول الله فسقط بعض متاع رحله ... يقول حمزة بن عمرو الأسلمي: "فنور لي في أصابعي الخمس فأضاءت حتى كنا نجمع ما سقط … السوط … والحبل وأشباهها، حتى ما بقي من المتاع شيء إلا جمعناه" [45] .
هذا موقف عدائي للرسول أطلعه الله عليه, ومع ذلك لم يأذن له لأن يقتدهم. فلما أصبح الرسول قال أسيد بن حضير: ما منعك يا رسول الله من سلوك الوادي فقد كان أسهل، فقال: "يا أبا يحي أتدري ما أراد البارحة المنافقون, وما هموا به؟ , قالوا نتبعه في العقبة فإذا أظلم الليل قطعوا أنساع راحلتى ونخسوها، حتى يطرحوني عن راحلتي ". قال أسيد بن حضير الأوسي الأشهلي وهو أحد النقباء يا رسول الله: قد اجتمع الناس ونزلوا فمر كل بطن أن تقتل الرجل عشيرتُه … وإن أحببت فنبئني بهم, فوالذي بعثك بالحق لا تبرح حتى آتيك برؤوسهم، فإن مثل هؤلاء لا يتركون … يا رسول الله، حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذلة, وقد ضرب الإسلام بجرانه، فما نستبقي هؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم "يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لماّ نقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه" … قال يا رسول الله ليسوا بأصحابِ … قال: "أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله … " قال: "بلى ولا شهادة لهم". قال: "أو ليس يظهرون أني رسول الله"، قال: بلى. ولا شهادة لهم.... قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وقد نهيت عن قتل أولئك" [46] .
والملاحظ أن الرسول اشتد بعد ذلك في معاملته للمنافقين-. وقد بدأ بأن أمر بإحراق مسجد الضرار، وتقويض أركانه وفضح بناته ورواده؛ ذلك لأنه بني ضرارا لمسجد رسول الله بالمدينة أو لمسجد قباء، بني كفراً بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله, وهو أبو عامر الفاسق. وكان المنافقون مجتمعين فيه بين المغرب والعشاء فاحرقه رسولا النبي صلى الله عليه وسلم وهدماه حتى وضعاه في الأرض [47] .(23/478)
وقد ارتعدت فرائص المنافقين بعد هذا الحادث, وأدركوا- أنه قد انكشف أمر نفاقهم وأن الرسول يعرفهم تماما، من تخلفهم ومن رجوعهم ومن مؤامراتهم. وفقد المنافقون بعد العودة من تبوك شيخهم عبد الله بن أبي بن سلول، فمات بعد شهرين من عودة الرسول من تبوك، وبوفاته انهار ركن المنافقين ونزل قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [48] . ويبدو أن من بقي آثر السلامة، بعد أن اعتبر بما سلف منهم والله أعلم بالسرائر.
المتخلفون عن جيش العسرة
كان قد تخلف عن رسول الله نفر من المسلمين أخطأت بهم النية من غير شك أو ارتياب كما تخلف رهط من المنافقين, وبعد عودة الرسول إلى المدينة جاء المخلفون إليه يعتذرون، فقبل منهم علانيتهم وإيمانهم. وحلَفوا فصدقهم. واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وكان ممن تخلف ثلاثة نفر هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيعة وهلال بن أمية. فأما كعب فقد قدم على رسول الله وهو جالس في المسجد فسأله: "ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " [49] . قال:
"بلى يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر.. ولقد أعطيت جدلا. ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضى عني، ليوشكنّ الله أن يسخط عليّ. ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا، تَجِدُ عليّ فيه. إني لأرجو عقبى الله فيه.. والله ما كان لي عذر. والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك". فقال عليه السلام: " أما أنت فقد صدقت. فقم حتى يقضي الله فيك" [50] .(23/479)
وقام إليه رجال من قومه يقولون له: "أما كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك". وظلوا به حتى كاد أن يرجع فيكذب نفسه, فلقيه معاذ بن جبل وأبو قتادة فقالا له: "لا تطع أصحابك، وأقم على الصدق فإن الله سيجعل لك فرجا ومخرجا إن شاء الله ".
فقال لهما: "هل أتى هذا أحد غيري؟ "، قالا له: "نعم، مرارة بن الربيع وهلال بن أمية " [51] يقول: "فذكرا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ولي فيهما أسوة". ومضى حتى يقضي الله فيه.
ونهى رسول الله عن كلام الثلاثة فاجتنبهم الناس، وتغيروا لهم، حتى تنكرت لهم أنفسهم، فلبثوا على ذلك أربعين ليلة. ثم بعث رسول الله بأن يعتزلوا نساءهم. فلما انقضت خمسون ليلة. أنزل الله توبته عليهم التي فرح بها المجتمع الإسلامي كله وهو قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة ... } الآية.
وهكذاِ.. كان من نتائج هذه الغزوة تأمين الجزيرة العربية ضد القوى المسيحية والوثنية في الشمال، وكشف العناصر المخادعة من المنافقين في الداخل، والضرب على أيديهم، وتنقية المجتمع الإسلامي من الشوائب الضارة.
ولا ريب أن هذه الغزوة إلى الحدود الشمالية تشير إلى الاتجاه الذي أراده الرسول للفتوحات الإسلامية من بعده. وضرورة إخضاع دولتي الفرس والروم لإزالة سيطرتهما عن العراق والشام، حتى ينطلق الإسلام إلى ما وراءهما, بل كان آخر عمل للرسول صلى الله عليه وسلم، إعداده جيش أسامة بن زيد لقتال الروم, ووصيته للصحابة بأن لا يتخلفوا عنه. والتي ساهم فيها كبار الصحابة وكان لها آثار طيبة على مستقبل الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------(23/480)
[1] بضم الدال وفتحها من أعمال المدينة. سميت بدوم بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وهي بلدة وحصن بين الشام والمدينة أنظر: ياقوت: معجم البلدان، العباسي، أحمد بن عبد الحميد: عمدة الأخبار في مدينة المختار ص 210.
[2] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية ج 2 ص 214، 215.
[3] يذكر ابن هشام أنه كان قد اعتم بعمامة من كرابيس (من قطن) سوداء: انظر السيرة النبوية ج 2 ص 632.
[4] مؤتة قرية من قرى البلقاء من أرض الشام. وكانت الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان: ابن هشام: السيرة النبوية 2/373.
[5] ماء بأرض جذام وراء وادي القرى على عشرة أيام من المدينة. وهي أرض بني عذرة: انظر العباسي، أحمد بن عبد الحميد: عمدة الأخبار ص 224، ابن هشام: السيرة النبوية ج 2 ص 623.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 516؛أبو الحسن الندوي: السيرة النبوية ص 412-416.
[7] اظهر أنه يريد غير الوجه الذي يتجه إليه.
[8] المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع تحقيق محمود محمد شاكر ج1 ص 446.
[9] يعتقبانه أو يعتقبان عليه أي يتناوبانه وفي الحديث: فكان الناضح يعتقبه منا الخمسة أي يتداولون في الركوب عليه (لسان العرب) .
[10] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع تحقيق محمود محمد شاكر ج1 ص 446.
[11] انظر: المرجع السابق ج1 ص 449.
[12] جبل بالمدينة وهو الذي عليه مسجد الراية: انظر: العباسي: عمدة الأخبار في مدينة المختار 212.
[13] تقع شمال المدينة خلف سوقها القديم بين مسجد الراية على جبل ذباب ومشهد النفس الزكية قرب سلع: المرجع السابق ص186.
[14] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 519: ابن سيد الناس: عيون الأثر ج2 ص 218.(23/481)
[15] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع ج 1 ص 450: ابن هشام: السيرة النبوية 2 ص 525.
[16] انظر: المقريزي: المرجع السابق ج 1 ص 450.
[17] المرجع السابق ص 449.
[18] انظر: ابن كثير. أبو الفداء، إسماعيل: السيرة النبوية تحقيق مصطفى عبد الواحد ج 4 ص 22.
[19] استشهد ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} وإن ذلك كان بوادي نخلة على ليلة من مكة منصرف النبي من الطائف وذكر أنهم كانوا سبعة نفر من جن نصيبين قاعدة ديار ربيعة: انظر: ابن هشام السيرة النبوية ج1ص422.
[20] المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع تحقيق محمود محمد شاكر ج1 ص 459.
[21] ذكر حديث العرباض أيضا ابن كثير: شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه ص223، 224.
[22] الجرب واحده جراب وهو الوعاء لحفظ الزاد. والحمت جمع حميت وهو وعاء من جلد لا شعر عليه يحفظ فيه السمن. المعجم الوسيط ج1 ص 114، 195.
[23] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 472: ابن كثير: شمائل الرسول ودلائل نبوته ص 224.
[24] الأنطاع جمع نطع وهو البساط من الجلد. المعجم الوسيط ج2 ص938.
[25] راجع: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص474: راجع أيضا ابن كثير: السيرة النبوية ج4 ص 18 ولكنه يذكر أن الرسول قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ".
[26] كان الرسول قد عرس ومعه أبو قتادة وثلاثة من المسلمين فلم يوقظهم إلا حر الشمس: انظر المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 475
[27] المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 476.
[28] بلّى بطن من قضاعة.
[29] المقريزي: إمتاع الأسماع ج 4 ص 24، 25: المقريزي: إمتاع الأسماع ج 1 ص 460.(23/482)
[30] ابن كثير السيرة النبوية ج4 ص 24، 25: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 460.
[31] أورد ابن كثير خبر رسول قيصر الروم ورسالته التي حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من حمل الرسالة رجل من تنوخ وهي إحدى القبائل الغسانية المتحالفة مع الروم: انظر البداية والنهاية ج5 ص 15، 16.
[32] وقد ذكر ابن إسحاق من أن خالد إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم (ابن هشام: السيرة ج2 ص 380) أما موسى بن عقبة والواقدي فصرحا بأنه هزم جمع الروم والعرب الذين معهم وهو ظاهر حديث أنس مرفوعا ورواه البخاري: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه " (ابن كثير: البداية والنهاية ج4 ص 248) .
[33] تسمى الإمبراطورية الرومانية الشرقية كما أسلفنا أو دولة الروم أيضا.
[34] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 473.
[35] انظر: المرجع السابق ج1 ص 468.
[36] كتب الأمان يمكن الرجوع إليها في مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة لمحمد حميد الله الحيدر أبادي وانظر أيضا: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 525، 526: ابن كثير: السيرة النبوية ج4 ص30: المقريزي إمتاع الأسماع ج1 ص 466_469.
[37] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع ج1 ص 463.
[38] راجع: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 526: إمتاع الأسماع ج1 ص 464-465.
[39] راجع: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 526/527.
[40] انظر: ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ج2 ص 221: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 466.
[41] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 519: ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ج2 ص 216.
[42] راجع: ابن كثير: السيرة النبوية ج4 ص 37.(23/483)
[43] المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع ج1 ص 477، 488.
[44] ابن كثير: السيرة النبوية ج4 ص 35- 37، المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 479.
[45] انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع ج1 ص 478.
[46] انظر: المقريزي: المصدر السابق ج1 ص 479.
[47] في عودة الرسول إلى المدينة عندما اقترب منها أعلمه الله بأمر مسجد الضرار فأمر مالك بن الدخشم السالمي وعاصم بن عدي العجلاني فانطلق مالك فخرج بنار من عند أهله فحرقاه وهدماه (راجع: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 530.المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 480/481.
[48] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 552، ابن كثير، البداية والنهاية ج5 ص 34.
[49] أي اشتريت ما تركبه للسفر معنا، والخروج مع الجيش.
[50] انظر: لبن هشام: السيرة النبوية ج2 ص 533: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 485.
[51] راجع: المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص 485/486.(23/484)
من أعلام الدعوة الإسلامية في الهند
السيخ زين العابدين بن علي المعبري المليباري
للدكتور محيي الدين الألوائي
أستاذ مساعد بالجامعة
كان الشيخ زين الدين بن علي من جلة العلماء الهنود في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) وصاحب مؤلفات عديدة باللغة العربية في العلوم الإسلامية والدعوة والإرشاد والفقه والتاريخ والنحو والصرف والعروض وغيرها. ولعائلة الشيخ زين الدين يد طولى في نشر العلوم الإسلامية واللغة العربية وآدابها في الهند. ولا تزال عائلته معروفة في بلدة (بوناني) في (مليبار) بولاية (كيرالا) الهندية، عائلة علم وأدب ودعوة، ويطلق عليها أهالي مليبار (عائلة المخدومين) ويدعى كل فرد منها بلقب (مخدوم) .
موطنه ومولده:
ولد زين الدين بن علي عام 873هـ _1468م في منطقة (معبر) الواقعة في الجنوب الشرقي لساحل مليبار بشبه القارة الهندية. ومنطقة (كورا مندال) في أقصى جنوب الهند كان يسميها العرب المؤرخون (معبر) لأن الموانئ المنتشرة في هذه المنطقة الممتدة بين مدينة (كويلون) في جنوب كيرالا وبين مدينة (نلّور) بمقاطعة مدراس، وكانت مركزا لارتياد السفن التجارية للعرب في السواحل الهندية، كما كانتا بمثابة معبر رئيسي للسفن القادمة من سواحل جزيرة العرب والخليج العربي في طريقها إلى سيلان والصين وجاوا وغيرها من بلاد الشرق الأقصى. وكذلك استوطنت في شواطئها جاليات عربية منذ عصور قديمة.
معبر (مفتاح الهند)(23/485)
ونظرا لمركز (معبر) الجغرافي والاقتصادي، عرف ملكها باسم (ديور) أي الغني، وكانت لها علاقات تجارية وثقافية مع جهات الهند والبلدان المجاورة، حتى اشتهرت معبر بين التجار العرب وغيرهم باسم (مفتاح الهند) . وكان ملكها (سوندرا بانديا) يحب التجار العرب كثيرا لما لهم من دور كبير في تنمية اقتصاد البلاد ورخائها، فقد اختار الملك مسلما عربيا وهو (تقي الدين بن عبد الرحمن بن محمد الطيب) المولود في المدينة المنورة ليكون مستشارا له في الشئون التجارية والاقتصادية، ثم عينه واليا على مقاطعة- كايل باتنام- إحدى الموانئ الرئيسية في (معبر) .
ارتحاله إلى مليبار:
وفي بداية القرن العاشر الهجري ارتحل الشيح زين الدين بن علي وأسرته من مسقط رأسه بمعبر إلى مليبار (كيرالا) التي نزلت في مدينة (كوتشين) ، ثم انتقلت إلى مدينة (بوناني) إحدى المراكز الأولى للمستوطنين العرب في شواطئ جنوب غربي الهند على بحر العرب. ثم بنى الشيخ مسجدا جامعا كبيرا في بوناني ليكون مركزا لنشر الدعوة الإسلامية واللغة العربية بين أهالي مليبار.
مركز (بوناني) العلمي:(23/486)
وبعد وصول الشيخ زين الدين بن علي إلى بوناني وبناء مسجده المدرسي فيها، أصبحت هذه المدينة منار النور والعرفان ومحط رجال العلم والأدب القادمين من أرجاء الهند ومن مصر وسوريا، فكان من بين المدرسين في هذا الجامع الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي (المتوفى سنة 909 هـ) . ووضع الشيخ تصميم هذا المسجد الجامع، بحيث يصلح لأن تعقد فيه حلقات الدروس، ويقيم في زواياه وأروقته طلبة العلم الذين يفدون إليه من خارج المدينة. وقام بالتدريس فيه كبار أساتذة العلوم الإسلامية والعربية مثل الشيخ (ابن حجر الهيتمي) المذكور. وتخرج من هذا المركز العلمي عدد كثير من العلماء الأعلام في علوم الإسلام واللغة العربية، منهم نجل الشيخ زين الدين وحفيده، الشيخان عبد العزيز بن زين الدين، وزين الدين بن عبد العزيز المعروف بزين الدين الثاني، فكانوا من جلّة العلماء الهنود في الفقه والتوحيد والتاريخ الإسلامي في الهند، وأصحاب مؤلفات عديدة باللغة العربية في هذه المواضيع.
وكان من العلماء الدعاة الذين درسوا العلوم الإسلامية في هذا الجامع المدرسيّ الشهير والدي المرحوم الشيخ مقار المولوي- المتوفى سنة 1969م- الذي قضى سنوات عمره كله في الدعوة إلى الله بالوعظ والإرشاد. وبتوجيه من والدي، قضيت فترة من الزمن, في الثلاثينات من هذا القرن، في مدينة (بوناني) أتلقى العلوم الإسلامية والعربية في جامع الشيخ زين الدين، حسب النظام القديم المتبع فيه جيلا بعد جيل.
مؤلفاته العربية:(23/487)
من مؤلفات الشيخ زين الدين بن علي في اللغة العربية، (مرشد الطلاب) في الوعظ والإرشاد، و (تحفة الأحباء) في السيرة النبوية، و (إرشاد القاصدين) وهو مختصر لكتاب (منهاج العابدين) للإمام الغزالي، و (شعب الإيمان) وهو ترجمة عربية لكتاب فارسي بهذا الاسم للسيد (نور الدين أيجى) و (كفاية الفرائض) في علم الميراث، وكتب أيضا هي شروح قيمة باللغة العربية لبعض كتب العروض والنحو، ومنها كتاب (القافية) لابن حاجب، و (الألفية) لابن مالك، و (تحفة) لا بن الوردي، و (الإرشاد) لابن المقري.
مؤلفاته المنظومة:
وصنف الشيخ زين الدين بن علي بعض الكتب منظومة باللغد العربية منها (أرجوزة) بالعربية باسم: (تحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصلبان) . وهو في بيان قصد احتلال البرتغاليين لسواحل مليبار ومظالمهم للمسلمين، وفيها يحث الهنود على الجهاد لطرد المستعمرين.
وفيما يلي مقتطفات من شعره:
حمدا يوافي برّه المتكاملا
الحمد لله المفوق للعلا
وتباع أهوا رأس شرّ حائلا
تقوى الإله مدار كل سعادة
وقال مشجعا الناس على التمسك بالورع والعزيمة للوصول إلى السعادة الأبدية:
ويغوص بحرا ثم درا حصلا
من رام دراً للسفينة يركب
ثم يقول في التوبة:
وبعزم ترك الذنب فيما استقبلا
أطلب متابا بالندامة مقلعا
ولهذه الأركان فَارْع وكملا
وبراءة من كل حق الآدمي
تنهاك تقصيرا جرى وتساهلا
وأقم دواما بالمحاسبة التي
الأ عضا جميعا فأجهدن ولا تكسلا
وبحفظ عين واللسان وسائر
ويقول في التوكل:
عن مكسب لعياله متوكلا
أما المعيل فلا يجوز قعوده.
في ما لهم أو جاههم متذللا
لا تبذلن للناس عرضك طامعا
وفي الإخلاص:
الدنا(23/488)
لماذا أسلم هؤلاء..؟
عرفت الإسلام بالمراسلة ثم هربت إلى بلد إسلامي لتعلن إسلامها
مازال بعض المغرضين الكارهين للدين الإسلامي يحاولون بكل جهودهم أن يلصقوا بالإسلام تهمة الانتشار بحد السيف.
والإسلام من هذا الاتهام بريء تماما.
والدليل على ذلك، أننا في القرن الخامس عشر الهجري، لا نجد إلا ازدياد الداخلين بالأفواج في دين الله.
ولا سبيل لحصر الجنسيات التي تجد نفسها وملاذها الحقيقي، في اعتناق الدين الحنيف، والعمل بتعاليمه، وشريعته التي لا تقهر.
والداخلون في دين الله، يوميا، يعدون بعشرات المئات، في مشارق الأرض ومغاربها وهنا تقع على الكارهين الكوارث حيث أن كل داخل إلى الدين بلا سيف أو عصا يشكل أمامهم قوة حقيقية في أن الإسلام قوي وأن الإسلام باق رغم كراهتهم العمياء له.
وتجيء الردود على كارهي الإسلام، من ذويهم الذين يعملون على قمعه والتشهير به، منذ أوحاه الله تعالى على محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه. وقد قدمنا في عدد ماض قصة اثنين اعتنقا الإسلام وكان أحدهما من النمسا والآخر من ألمانيا.
ونزف في هذا العدد هذه الصورة المشرفة لفتاة عرفت الإسلام وآمنت به، بعد دراسة عميقة متأنية، بعدها لم تستطع أن تخفي إسلامها، فأشهرته، وأعلنته رغم كراهية أبويها اللذين يعملان في بعثات تبشيرية تحرض على الإسلام وتعمل بكل قوتها على استكراه الناس فيه، واعتناقهم الدين الذي يدعون إليه، ويبشرون به.
ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن الإسلام قوي في حجته وبراهينه فهو بلا وسيط إلى الخالق يدعو، وبلا وساوس يؤكد وجود الإنسان الذي هو امتداد حقيقي لكرامة الإنسان حرا في هذا العالم رغم التيارات المناوئة التي قتلت في الإنسان حياته.(23/489)
والفتاة التي نعرض لها قصة تعرفها على الإسلام هي جاكلين هيربرت ماكينزي التي نشأت بين أسرة متدينة تواظب على الذهاب إلى الكنيسة وبصفة مستمرة فأبوها له قراءات دينية ويعمل علاوة على ذلك مدرسا للتربية الدينية والأم واحدة من الأخصائيات الاجتماعيات التي تأثرت بتدين زوجها في عملها فأرخت لتعليماته كل السبل لتنجح في عملها.
الأسرة أمريكية تعيش في ولاية ميتشيجان.
وترى الفتاة أبويها يؤَديان يومهما بروتينية بعثت في نفسها الضجر، الذي انفجر بتساؤلات السن الخطيرة- السادسة عشر- التي كانت تجد لها دائما الإجابة عند أمها وأبيها.
الفتاة غير مقتنعة بكل الإجابات التي تأتيها على أسئلتها من أمها وأبيها وهي تحب القراءة وميالة للانفراد بنفسها، وتأمل الحياة من حولها.
تقول جاكلين:-
حاول أبواي أن يدفعاني إلى الصدقات التي يعترف بها المجتمع الأمريكي لكني كنت استبعد كل خواطر هذه الصداقات من عقلي وقلبي ولم يستطع أبي رغم تدينه أن يجعلني امتدادا له.
لم آبه بكل تصرفاته التي كان يتعمد أن يفعلها أمامي لاستقي منها شيئا ربما يجذبني إلى حظيرته الدينية التي كنت أنظر إليه فيها بشيء من عدم الاستقرار الذي كنت أعتقد أنه يعانيه تمثيلا أمامي.
ولم تستطع أمي رغم ذكائها الشديد أن تأخذني إليها، فكانت ترضخ لتأملاتي وانفرادي بنفسي كثيرا لكني سمعتهما في حديث هامس عني ذات يوم أن هذه الانفرادية التي أقوم بها متأملة الكون من حولي ما هي إلا الطريق إلى تدين عميق ويجب أن نتركها بعض الشيء حتى تعود إلينا فنعرف كل شيء ولم أضع لحديثهما أي اعتبار في حياتي فأنا ابنة السادسة عشر لم أمارس أي شيء يمكن لرفيقات عمري ممارسته في جو عادي يكفل ذلك لكل البشر فيه.
وتقول جاكلين:(23/490)
وكنت أدرس في إحدى المدارس العادية، حتى وقعت في يدي إحدى المجلات التي تهتم بالمراسلة وأخذت المجلة من زميلتي أتصفحها في هدوء، ووقع اختياري على هذا الاسم لفتاة في مثل سني هي: خديجة محمد عمر الشويحى، من المملكة المغربية، وأخذت أنقل عنوان الفتاة التي وقع اختياري عليها لأكتب لها.
وبالفعل كتبت لها رسالة أطلب فيها معلومات عن المغرب، وجاءني رد صديقتي هادئا.
وتوالت مراسلتي مع صديقتي المغربية وتعرفت من خلالها على تاريخ المغرب والآثار الإسلامية فيه.
وسألت صديقتي عن الإسلام، فراحت تكتب لي بحب شديد عن الإسلام، وكأنه عاشق استهواه قلبها، وجلست أقرأ ما كتبته لي عن الإسلام بأسلوب السهل البسيط، فوجدت أنها تكتب لي من قلبها عن دين يحمل في تعاليمه الخير للبشرية جميعا، ويحمل للإنسان الروح الخالية من التعصب والتعقيد، ولما سألتها عن المعجزات التي قدمها محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره نبي الإسلام قالت أكثر من مرة في رسالتها أنه القرآن الكريم.
ووقفت أمام رسالة صديقتي المغربية متسائلة عن المعجزة (القرآن الكريم) وسألت أبي، باعتباره رجل دين، يجب أن يكون ملما وعارفا ببقية ما نزل من أديان، لكنه استشاط غضبا حينما وجدني أسأله عن القرآن الكريم، معجزة الإسلام.
وأصبحت معاملة أبي لي جافة بعيدة عن الأبوة وقلدته أمي تماما حتى أيقنت أني لست ابنتهما، وإنما وجداني في الطريق ولامتني أمي برفق ذات مرة لمراسلتي خديجة المغربية التي قلبت أحوالي وغيرت كل شيء في حياتي حتى أني رحت أقلدها في ارتدائها الزي المغربي الذي أرسلته لي ذات مرة بعد إعجابي بصورتها وهي ترتدي هذا الزي الجميل.(23/491)
وإزاء ارتدائي الزي المغربي في إجازتي الأسبوعية راح أبي في همجية يمزق رسائل صديقتي المغربية خديجة، وحزنت حزنا شديدا على ذلك وفي اليوم التالي أمسك أبي بالزي المغربي وأحرقه أمامي وكأنه يريد أن يقطع صلتي بالصديقة التي أحببتها دون أن أراها.
وأمام هذا الإصرار على عدم موافقتي لميولهم طرداني من المنزل ذات ليل قارس البرد، وجلست مع نفسي في مكان قريب من منزلنا، وعدت إليه في الصباح، واستقبلني أبي بصرامة شديدة وكذلك أمي ولما سمعا أني عدت إلى حظيرتهما سعدا سعادة لا حدود لها. وجلست هذا اليوم معهما ولم يذهبا إلى عملهما، ولم أذهب إلى مدرستي، احتفالا بعودتي إليهما وإلى الدين الذي أراداني أن أعرفه عنهم، وأنا غير مقتنعة بما يفعلان.
وتقول جاكلين:-
ورحت أراسل صديقتي المغربية في سرية تامة، حتى كانت إجازة الدراسة وكنت قد جمعت مبلغا من المال هو ثمن تذكرة ذهابي إلى الرباط حيث تعيش صديقتي المغربية خديجة.
وحملت حقيبتي الصغيرة وذهبت إلى المغرب تاركة رسالة لأبي وأمي أقول لهما فيها:
"أنا ذاهبة إلى صديقتي التي كرهتموها لأنها حدثتني عن القرآن الكريم معجزة الإسلام، لأعرف منها حقيقة هذه المعجزة التي سببت لكما هذا الإزعاج, أرجو ألا تغضبا مني".
واستقبلتني صديقتي خديجة المغربية كأنها تعرفني من سنوات طويلة وأحسست، براحة شديدة في لقائي بها وجلست مع أسرتها المغربية المسلمة التي رحبت بي تماما ووجدت في نفسي لاستعداد الفطري للإسلام، حيث رحت أسأل وأجد الإجابات الهادئة مليئة بالحب والتقدير للإسلام ونبي الإسلام والقرآن الكريم.(23/492)
ولم أتردد لحظة واحدة في اعتناقي الدين الإسلامي، فقد وجدت نفسي من بداية خلقي مسلمة، ولهذا تفهمت التعاليم الإسلامية في سرعة شديدة وأصبحت مسلمة مؤمنة بالله وبرسوله، وبمعجزة الإسلام، القرآن الكريم التي عرفت فيه حياة الإنسان الصحيحة التي سار عليها لعاش حياة آمنة سعيدة مطمئنة دون رياء ودون خجل من شيء فالقرآن أتى بكل شيء وفصله تفصيلا.
وكان لا بد لي أن أختار اسما إسلاميا فوجدت أن اسم خديجة صديقتي المغربية خير اسم يمكن أن أسمي نفسي به واشتهرت في المغرب باسم: خديجة الأمريكية وواصلت دراستي هناك وعشت حياتا بعيدا عن رياء التدين غير الطبيعي الذي حاول أبي أن يزج بي إليه ولم يستطع.
الإسلام.. حقيقة أعطت للوجود طعما، فرضته تلك التعاليم البسيطة السهلة التي جاء بها إلى العالم.
ولم يفرض الإسلام تعاليمه العظيمة بحد السيف، كما يدعي الكارهون والمغرضون، لكنه بالحب والسلام، والتعاليم التي لم تخل من كل ما يكرم الإنسان، استطاع أن يفرض نفسه.
ومع افتراء الكثيرين على طريقة انتشار الإسلام، نجد أن الداخلين إليه يوميا، يؤكدون أنه الحق الذي لا يجارى وأنه الحب الحقيقي، والسلام القائم على التكامل الاجتماعي، دون ما زيف لكل ما يحاولون تقديمه في أطر خالية من أي جوانب إنسانية.
.. وأسرة أخرى فرنسية:
وهذه أسرة فرنسية، لها مع الإسلام قصة لا يمكن إلا أن تكون شهادة جديدة تضيف لسوء القلوب، أن الإسلام، ما فرض تعاليمه، إلا بالخلق الكريم الذي بعث الله به نبي الإسلام.
ونترك الدكتور جورج بالو، ليقدم لنا قصد إسلام أسرته منذ البداية:-(23/493)
يقول دكتور جورج: ولدت لأب فرنسي وأم ألمانية عشنا في باريس غالبية حياتنا، تتكون أسرتي من أخ وأخت كان والدنا يعمل يومه كي يوفر لنا حياة هانئة هادئة فقد كان حبه لنا لا يجارى وكانت أمي تحرص دائما على توفير جو السعادة لأسرتنا وقد سمعت أبي ذات يوم يتحدث لأمي بصوت عال، وبطريقة لم أعهدها في أحاديثهما، وخرجت أمي بعدها متجهمة الوجه عابسة، فحزنت وأنا الطفل الصغير الذي ما زال يدرس في مراحل التعليم الأولى.
ويقول د. جورج:
حاولت أن أسألها عن سبب غضب أبي وعبوسها بعد ذلك، فصمتت بعد سؤالي، وكررت على صمتها الحزين السؤال مرة ومرات، خاصة بعد أن تكررت حادثة غضب أبي منها بعد ذلك مرات كثيرة.
وتحت إلحاحي المستمر، لمعرفة سبب ثوراته الدائمة عليها، قالت هادئة النبرات، دامعة العينين: إنه لا يريدني أن أقرأ هذا الكتاب وكان الكتاب (الشرق كما يراه الغرب) لمؤلفه (ألينزيه دينيه) ، ونظرت إليها في تساؤل، فقالت: إن هذا الكتاب يتحدث عن الدين الإسلامي، وأخلاق نبي الإسلام، ورؤية الغرب السطحية لهذا النبي، وهو لا يريدني أن أتعرف على الشرق والدين الإسلامي، ونبي الإسلام، رغم ما يحمل هذا الكتاب من افتراءات أحسستها في لهجة مؤلفه.
ويضيف دكتور جورج:
وحقيقة الأمر، أذهلني حبها الشديد لنبي الإسلام ولما قلت لها ذلك قالت: إنه نبي أرسله الله سبحانه وتعالى، برسالة هي الدين الإسلامي.
وكان لوقع كلمة- الله- على عقلي وقلبي وقعا كبيرا، وتساؤلات راحت أمي تشرحها لي شرحا وافيا، وعرفت أن الله واحد، لا شريك له، ولا يجب أن يعبد سواه، هو الذي رفع السماء، وبسط الأرض، وهو الذي اختار كل الأنبياء والرسل، وختمهم بمحمد، الذي أدبه فأحسن تأديبه، حتى أنزل عليه القرآن الكريم الذي لو اتبعه البشر، لساد الحب الحقيقي العالم.(23/494)
ولنبي الإسلام صفات عظيمة، في خلقه وأخلاقه ومن أجل هذا أحببته، وأحببت دينه وتعاليمه البسيطة، وخلقه الكريم.
ويستطرد قائلا: حاولت أن أنهى أمي عن قراءة هذا الكتاب حتى لا يشب شجار بينها وبين أبي في كل وقت وحين، لكنها بلطف نهرتني وأحسست وراء تمسكها بالكتاب وغيره، من الكتب الإسلامية التي أخفتها عن أبي قوة خفية تجذبها إلى هذه القراءات.
وذات يوم.. ذهبت أمي إلى مكان كتبها، فلم تجد أي كتاب منها، وثارت وهاجت وعرفت من سخرية أبي أنه أخذ الكتب وتصرف فيها وعلا صوتها، وأقسمت بالله الواحد، أن تشري غيرها بأي طريقة.
وجلست مع أبي أتحدث معه عن ترك أمي تقرأ ما تشاء، لكنه أصر على أن الذي تفعله مضيعة للوقت وأن عليها أن تنصرف لقراءة أي كتب أخرى، وصرح لي أبي أنه أحرق الكتب. وغضبت في نفسي، وأحسست أنه أحرق أمي بحرق كتبها العزيزة على نفسها، والتي حدثتني عنها في حب شديد ورحت ألوم أبي على فعلته، وأحدثه عن نبي الإسلام حديث الحب الذي روته لي أمي بطريقة هادئة، فثار أبي ووعد أن يحرق أي كتاب في هذا البيت يتحدث عن الإسلام وتعاليمه.
وأحسست أن الإسلام في ذاته يشكل خطورة على أبي، ولهذا جلست أعطي أخي وأختي ما طلبا معرفته عن الإسلام الذي قهر أبي دون أن يتعرف عليه.. ووجدت أنهما يريدان معرفة المزيد، فطلبت من أمي أن تقص علينا ما عرفته وتعرفه عن الإسلام، وابتسمت أمي في سعادة اطمأن لها قلبي وقلب أخوتي.(23/495)
وكثيرا ما جلسنا معها تقول لنا ولا شيء غير السعادة والحب يملآن قلبها وهي تحكي لنا، وذات يوم دخل علينا والدنا، فوجدها تتحدث معنا عن الإسلام فثار وكاد أن يفتك بها أمامنا، وهاج.. يبحث عن كتب جديدة عن الإسلام أتت بها أمي دون أن يراها فوجد كتبا أخرى غير التي أحرقها، فثار وهاج، وراح يمزقها في عصبية شديدة، وتحدثنا إليه أن يستمع معنا إليها وهي تحدثنا عن الإسلام وتعاليمه، وعن نبي الإسلام وأخلاقه الكريمة.
وغضب لأننا أصبحنا نسمع منها وأننا تأثرنا بها، وأقسم أن يخرج من البيت وألا يعود إليه مرة أخرى.
ويقول دكتور جورج:
وبالفعل خرج أبي، وانتظرنا عودته كثيرا، لكنه لم يعد، واضطرت أمي أن تعمل، وعملت أنا الآخر بجانب دراستي وازدادت مع الأيام والسنين ثقافتنا الإسلامية وقررنا أن نقف على أحوال المسلمين في باريس فذهبنا إلى إحدى الجمعيات الإسلامية المنتشرة هناك وتعرفنا كثيرا على الإسلام وترددنا على الجمعية الإسلامية التي رحب العاملون فيها بالأسرة الفرنسية التي خرج عائلها ولم يعد.
وتدرجت- الحديث للدكتور جورج- في تعليمي حتى أصبحت في سنوات الجامعة النهائية، وكنا قد تشبعنا بالإسلام دينا، وقررت مع أمي أن أعلن إسلامي، وذهبت إلى الشيخ مع أسرتي، وأعلنت الأسرة جميعا إسلامها وأصبح اسمي محمد عبد الله، وأمي أصبحت فاطمة، وأخي أصبح أحمد، وأختي أصبحت خديجة، وأصبحنا نؤدي شعائر ديننا الإسلامي الحنيف، علانية دون خوف من أحد.
ورحت أدعو إلى الإسلام وأنا مازلت طالبا بالجامعة والتف حولي كثيرون من زملائي، كنت أحدثهم عن الإسلام إلا أني كنت أسرح وأنا معهم في أبي الذي تركنا صغاراً نواجه الحياة.
ويقول دكتور جورج- أقصد دكتور عبد الله- وكذلك كان حال أمي وإخوتي إذا ما ران الصمت علينا في أي وقت.
وكانت أمي تقول لنا إنه سيعود، وسيكون مسلما إن شاء الله مهما مرت السنون، ومهما طال غيابه.(23/496)
ويقول الفرنسي المسلم محمد عبد الله:
وكثيرا ما دعونا الله في صلاتنا أن يعيد إلينا والدنا الذي خرج غاضبا ثائرا، ليرى تلك الأسرة التي تركها، وقد أصبحت دكتورا وتخرج إخوتي من الجامعة ورحنا نمارس حياتنا مسلمين بلغة القرآن الكريم التي تعلمناها في مركز باريس الإسلامي أثناء دراستنا وكانت أمي هذه السيدة العظيمة هي صاحبة الفضل في كل ذلك.
ويقول: ومرت الأيام، ودخل علينا ذات يوم والدنا الذي انتظرناه طويلا، فاستقبلناه بحفاوة بالغة، وكان الشيب قد خط في شعره كثيرا ولحفاوتنا به ولقائه بنا، اغرورقت عيناه بالدموع، فأمسك بيدي أمي، وراح يعتذر لها، ويعتذر لنا..
وجلس والدنا بيننا نملأ عيوننا وقلوبنا به، فقد غاب عنا سنوات طوال.
وحدثتنا أمنا بالعربية أن نقوم إلى الصلاة لنشكر الله على عودة أبينا إلينا، ونظرنا إليه في حب عظيم، وراح أبي يبتسم في هدوء وفاجأنا بأنه يتحدث العربية إذ قال: سأصلي معكم صلاة الشكر على أنني رأيتكم جميعا مسلمين، فأنا الآن مسلم واسمي عبد الله، دعوني أصلي معكم.
(جريدة المدينة)(23/497)
رسائل لم يحملها البريد
الشيخ عبد الرءوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
صديقي مرض السكر،
ومن عجب أن أنادِيَك صديقا وأنت الداء الذي أعيا على الدواء، والمرض الذي عزّ فيه الشفاء، ففي كل يوم تقنص آلاف الفرائس من بني آدم، وفي كل عام تقتات مئات الآلاف من الناس.
لا أذكر ذلك اليوم الذي زرتني فيه على غير موعد، ولا أدري في أي يوم من أيام حياتي نزلت علّي ضيفا دائم الإقامة، ربما كان ذلك منذ ثلاثين عاما، غير أني لم أتبين صورتك واضحة إلا منذ عشرين.
لم أحفل بك بادئ الأمر وما كرثني قدومك، غير أنك استطعت فيما بعد أن تشد وثاقي وأن تسلك بي الطريق الذي تريد.
لم أوجه إليك أيّ دعوة، لم أدعك بلساني، وما دعوتك بقلمي، ولم تك لتخطر لي على بال، غير أن الأطباء يقولون إنك لا تزور الناس تطفلا، ولا تنزل بساحتهم دونما استئذان.
لقد عدت إلى ما غبر من حياتي أستعيده وأستذكره، وأحاول أن أرى- على بعد الشقة وطول الزمن- ما اصطبغت به تلك الحياة من ألوان العيش، وما أصابها في هذه الدنيا من مصائب، أحاول ذلك لعلي أبلغ الأسباب أسباب قدومك إليّ بلا رحيل وصحبتك إياي بلا فراق.
عشت أول حياتي التعليمية في منزل داخلي لإحدى المدارس الثانوية أقوم مع جماعة من زملائي المدرسين على تدبير شؤون الطلاب الداخلية بعد انتهاء في دوامهم المدرسي، وكان المنزل يقدم إلينا- معشر المدرسين الموكلين بالإشراف على أولئك الطلاب- طعاما فيه سخاء وفيه تنوع وفيه طيب مذاق، ولقد عشت من قبل سنينا تسعا عجافا في تقشف وكفاف أطلب العلم بعيدا عن أهلي والوطن، فكان أن أقبلت على هذا الطعام الجديد إقبالا لا يخلو من إسراف ونهم، ناسيا قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} ، وغافلا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه".(23/498)
وفي خلال عامين دراسيين ارتفع وزن جسمي من اثنين وسبعين (كيلو) - وهو الوزن الصحّي لمن كان في مثل طولي- إلى خمسة وتسعين.
كان العقاب سريعا على ما فرطت في نهى الله وفي نصح رسول الله، فصرت بليد الذهن كثير النسيان، لا أستطيع القراءة الواعية أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم، وإذا ما ارتقيت درجا عاليا أو سرت على درب صاعد سقطت من الإعياء, صرت آكل ولا أشبع، وأشرب ولا أرتوي، وأنام ولا أجد الراحة.
مضى على ذلك حين من الدهر وأنا لا أدري أني مصاب بك يا مرض السكر، حتى إذا تمكنت من جسمي وأقمت فيه (القواعد) وأصبحت ذا أمر ونهي وسلطان وجهت إليّ إنذارا غليظ القول شديد النبر: إما الموت وإما الحمية والحرمان، في بضعة أشهر وعلى منهجْ "حسب ابن آدم لقيمات يُقِمن صلبه" استطعت أن أسقط عن جسمي ما اكتسبه من طعام ذلك المنزل، وعدت إنسانا آخر: نشاط جسم، ونشاط عقل، وقدرة على العيش طويلا بين الكتب.
لكنك لم ترحل يا مرض السكر!!
لِمَ تؤثرُ أن تبقى ضيفا،
ضيف ضِرارٍ وخصام لا ضيف وِداد ومحبة؟!
لِمَ تؤثر أن تبقى مستترا،
تنتظر الغفلة مني والعثرة،
لتكشّرَ عن نابٍ ولترميني بحرابٍ ولتسقيَني مرّ عذاب؟!
من أجلك هجرت أطعمة شتى!
من أجلك هُجرتْ أطعمة حلوة!
من أجلك كان طعاميَ قُلاًّ كان شرابيَ ماء!
علامَ تقيمُ وفيمَ تقيمُ وأيان تكون الرحلة؟!
ما أكثر ما ثارت نفسي يا سكر!!
ثارت لتحطّم أغلالك ولتكسر قيدَك،
لكني عدت كسيرا وحسيرا،
أسمع نصحك لي ووعيدك:
أسمع نصحك لي يا مرض السكر:
إنك في أمن وسلام ما دمت قليل طعام،
إن عدتم عدنا والبادئ أظلم.
وصرتُ قليل طعام يا مرضي،
أحيا معك حياة وئام.
لكنك لم ترحل يا مرض السكر!
ما زلت تقيم خفيّا مستترا،
مستترا من خلف حجاب،
تنتظر الغفلة منا والعثرة،(23/499)
لتكشر عن ناب ولترميني بحراب ولتسقيني مرّ عذاب!!
قال الطبّ المهزوم أمام حِرابك:
ما أكثر ما تعتاد الجسم لأسباب أخرى غير السمنة:
فهناك القلق الدائم والأزمات النفسية،
وهناك الإحساس المكبوت على أرض الحرية،
وهناك الخوف المجنون،
وهناك السجن الدائم في غير سجون.
وعدت أفتش أيامي،
أيام حياتي ومقامي في أرض الله المدحوّة،
وتذكرتُ ولا أنسى أني كنت أخاف (الحاكم) ،
أخاف الحاكم أن يطردني من عملي فأعيش فقيرا.
ما كان الرؤساء ذوي دين،
ما كان الزملاء جميعا يَخشَوْنَ الله،
ما كان العدل له ظل يغشى الناس.
فأنا في قلق دائم.
كنت أرى المنكر مختالا يتحداني،
يتبختر يصرخ ملء العين وآذاني،
فأهِمّ بتغيير المنكر بيدي،
لكني لا أفعل فأنا خائف،
وأهم بتغيير المنكر بلساني،
لكني لا أقدر فأنا خائف،
لا أملك إلا الحسرة مكبوتة،
لا أملك إلا الغضبة مخنوقة،
لا أملك إلا قلبا يتميز من غيظ مسعور.
ما أكثر ما اشتاقت نفسي أن تبدي رأيا،
حين ترى الأصحاب تخلّوا عن واجب،
حادوا عن درب لاحب،
لكني لا أجرؤ أن أُبديَ شيئا،
فأنا أخشى غضبتهم،
آسى لضياع مودتهم،
قد يَزْوَرُّون وينتقمون،
فالعيش بدونهم غربة،
وأنا من بعدهمُ مسجون.
ألهذا القلق الدائم أنت تقيم؟!
ألهذا الخوف الجاثم أنت جثوم؟!
أَلإِحساساتي المخنوقة لا ترحل؟!
ماذا تطلب مني يا سكر؟!
هل تطلب جسما خِفا؟!
ها هو ذا جسمي قد ذاب وأصبح مثل سراب!
هل تطلب من نفسيَ أَمناَ وطمأنينة؟
أن يحيا قلبي بسلام وأمان وسكينة؟!
أن يتبلّد إحساسي فأعيش دفينا؟!
في معظم بلدان الإسلام عذاب وحراب ودماء مطلولة!!
في معظم بلدان الإسلام يتامى عُدم وأرامل مهزولة!!(23/500)
في معظم بلدان الإسلام عداوات تغلي وضغائن مغلولة!!
فكيف أعيش سلاما وأمانا وطمأنينة؟!!
ستظل رفيق حياة وهموم يا سكر!
لن ترحل عن داري في ذي الدنيا حتى أرحل!
لكني أشكر ربي أن كنت وما كان بلاءٌ أكبر!
الأمل الأخير
وليس إلا عندك الدواء
إليكَ يا مولاي أشكو علتي
منك وقد ضاق به الفضاء
فارحمْ عبَيداً يعصِف الخوف به
فيعتريه اليأس والحياء
يذكر ما أسلفَ مِن آثامهِ
في قلبه فيورقُ الرجاء
ويرسل الإيمانَ من إشعاعِه
لم يبق لفي في غيره شفاء
فلا تخيّب يا إلهي مأملا
(المجذوب)(24/1)
لا خيرة للمؤمن إذا قضى الله ورسوله
الش يخ أبو بكر الجزائري
الأستاذ بالدراسات العليا بالجامعة
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب الآية: 36)
ببين يدي الآية
الحمد لله. وبعد: فإن هذه الآية الكريمة تعتبر لدى المتأمل فيها دليل الإيمان الذي به يعرف وجوده مِن عَدَمِه. وإلى القارئ الكريم بيان وجه ذلك:
لقد شاع بين العرب - في الجاهلية وفى صدر الإسلام أيضا- شاع بينهم عادة التبنّي وهي أن ينسب المرء ولد غيره إليه, فيكون ابنه بالتبني ويترتب على ذلك أحكام البنوَّة تامة من إرث ودية وعقل وحرمة نكاح. ولما كانت هذه العادة قائمة على أساس الباطل من الكذب والزور، إذ ابن الرجل لا يكون ابن غيره بمجرد الدعوى والانتساب، كما قال تعالى في المظاهر منهن من الزوجات: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} ولما كانت هذه العادة الباطلة مظهراً من مظاهر الخلخلة والضعف في المجتمع نزل القرآن الكريم بإبطالها نهائياً وإلقائها خارج المجتمع الإيماني كغيرها مما هو باطل وشر مما كان سائداً في المجتمع الجاهلي.(24/2)
قال تعالى من سورة آيتنا هذه التي نريد تفسيرها للقراء الكرام: {مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، أي بأن يُقَالَ لمن كان مُتَبَنّيً: أخي، أو مولاي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنّى في الجاهلية قبل أن يوحى إليه زيد بن حارثة الكلبي, وسبب ذلك أن زيداً جاء به حكيم بن حزام بن خويلد مع رقيق من الشام فدخلت عليه عمته خديجة وهى يومئذ زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لها حكيم: اختاري يا عمتي من هؤلاء الغلمان ما شئت فاختارت زيداً، ثم استوهبها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبته إياه فاعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه, فكان يعرف بزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم, وجاء الإسلام فأسلم زيد أول من أسلم من الموالي ولما نزلت الآية المذكورة آنفاً وفيها: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} قال زيد: أنا زيد بن حارثة راغباً عن نسبة التبني إلى نسبة البنوة الحقة.
وكونه يتخلى عن النسبة الكلامية هذا أمر سهل، ولكن الصعب التخلي عن أحكام التبني كنكاح امرأة المتبني مثلا، فهذا لا يقدر عليه إلا شجعان العقول والقلوب. وأراد الله تعالى القضاء على هذه العادة نهائياً وبكل تبعاتها، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يزوج مولاه زيداً، وأعلمه أنه سيطلقها بإرادته واختياره، وأنه سيزوجه بها بعد طلاق زيد لها.(24/3)
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب لمولاه زيدا ووقع اختياره على ابنة عمته: زينب بنت جحش رضي الله عنها فخطبها, فظنت أنها مخطوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهشت لذلك وأسرت فرحها, غير أنه بعد قليل تبينت أنها مخطوبة على زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهنا آثرت لشرفها وكرامتها على خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقالت: مثل هذا لا يكون: شريفة تتزوج مولى من موالى العرب ماذا يقول الناس إذا سمعوا؟؟ ووقف إلى جنبها أخوها القائد البطل عبد الله بن جحش وأعلنا التأبي الكامل والامتناع التام- وإذا أراد الله أمراً لا بد أن يكون، فأنزل الله تعالى آيتنا هذه التي نعتزم شرحها: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ... } الخ
وفهم عبد الله وأخته رضي الله عنهما أنهما مقصودان بالذات، وأن الآية وضعت حداً بين الكفر والإيمان ولم يبق لهما مجال للاختيار، إذ هو الكفر أو الإيمان فقط، وآثرا الإيمان على الكفر وأسلما أمرهما لله، ونفذا حكم الله وحكم رسوله فيهما وتزوجت زينب زيد بن حارثة وهى طائعة مختارة, وضحت بالكرامة الاجتماعية والصرف القبلي.
وتزوج زيد ولم يطق الحياة مع امرأة ليس هو كفؤاً لها في شرف النسب, والمكانة الاجتماعية إذ زيد مولى وزينب شريفة قرشية, فما كان منه إ لا أن طلقها بعد أن بذل رسوله الله صلى الله عليه وسلم جهداً فى حمله على الصبر معها والإبقاء على رابطة الزوجية بينهما ولم يفلح في ذلك؛ لأن قدر الله كان مقدوراً, وفي هذا المعنى يقول الله تعال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله} , وطلقها زيد وزوجها الله تعالى رسوله، فأصبحت بعد ذلك أم المؤمنين رضي الله عنها.(24/4)
والشاهد أيها القارئ من هذه المقدمة أن تعلم أن هذه االآية الكريمة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} هي معيار الإيمان ودليل وجوده أو عدمه؛ فمن جاءه أمر الله أو أمر رسوله الجازم ورده بوصفه أنه حر ومختار في تصرفاته الشخصية إن شاء قبل الأمر أو رفضه، وإن شاء نفذ حكم الله تعالى وحكم رسوله أو نبذه وأهمله، فهذا العبد ما هو بمؤمن ولا يعد فرداً من أفراد المؤمنين إذ الآية تنفي وجود إيمان صحيح مع اختيار حر بالرفض والقبول لأحكام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأعد قراءة الآية وتأمل فإنك ترى ذلك واضحاً بحمد الله تعالى.
تفسير الآية الكريمة
سبب نزولها:
قال القرطبي رحمه الله فى تفسيره الجامع لأحكام القرآن عند شرحه لهذه الآية:
"روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته, فظنت أن الخطبة لنفسه, فلما تبين أنه يريدها لزيد مولاه كرهت وأبت وامتنعت وأمتنع معها أخوها عبد الله بن جحش لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبداً, إلى أن نزلت هذه الآية فقال له أخوها مرنا بما شئت, فزوجها من زيد".
مباحث بعض ألفاظ الآية
(ما كان لمؤمن) : هذه الصيغة من التعبير يؤتى بها لنفي الشأن والحال لأنها أبلغ من نفي الفعل فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً} أبلغ مما لو قال لا يقتل مؤمن مؤمنا لأن الأولى لنفى الشأن أي أن هذا الفعل لا يتأتى لصاحبه مع الإيمان بحال من الأحوال. وأما الثانية فهي لنفي الفعل فقط.
كما أن هذا التعبير في الآية أبلغ مما لو قال: لا يختر مؤمن على قضاء الله ورسوله قضاء غيرهما ولا على حكمهما حكم سواهما.
القضاء: الحكم بالشيء والأمر به على وجه الإلزام فعلا كان أو تركا.(24/5)
الأمر: يكون بمعنى الطلب وجمعه أوامر، وصيغته افعل, ويكون بمعنى الشأن والحال، وهو المقصود في هذه الآية.
الخِيرَة: مصدر بمعنى الاختيار. وهو بكسر الخاء وفتح الياء على وزن طِيرة وفعل الأول تخير والثاني تطير وزنتهما هذه غريبة ولا نظير لها في المصادر ويقال بشذوذ الخِيْرة والطِيرة بسكون الياء فيهما مع كسر الأول منهما.
المعصية: مخالفة الأمر أو النهي مع القدرة على عدم المخالفة, وتكون المعصيّة كفراً وتكون دون ذلك, وأخوف آية في القرآن في باب المعصيّة قوله تعالى من سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} إذ حكمت على العصاة بالنار والخلود الأبدي فيها وهذا لا يكون إلا مع الكفر والعياذ بالله تعالى.
الضّلال: مجانبة الطريق الموصل إلى القصد, وتنكبه والبعد عنه بقصد أو بغير قصد، وكل عاص لله ورسوله فى أحكامهما فهو ضال، لأن المعصيّة توجب له الشقاء والخسران، وهو يريد الربح والسعادة، فلما عصى سلك للربح والسعادة غير طريقهما فهو لذلك ضال.
معنى الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ... } .
أي ليس من شأن المؤمن ولا مما يتأتى له أو يصح منه بحال: أن يحكم الله تعالى في شيء أو يأمر به أمر إيجاب, وكذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره المقتضي للوجوب, ويكون المؤمن مختاراً معه إن شاء نفّذ الحكم وإن شاء تركه، إن شاء امتثل الأمر وإن شاء أهمله، فمثل هذا الاختيار مع حكم الله ورسوله وقضائهما لا يجامع الإيمان ولا يخالطه أبداً فمتى كان الاختيار ذهب الإيمان، ومتى انتفى الاختيار ثبت الإيمان وهذا الذي فهمه عبد الله بن جحش وأخته زينب رضي الله عنهما حين نزلت الآية ومن ثَم عدلاَ عن رأيهما واختيارهما وقبلا حكم الله تعالى ورسوله ونفذاه فوراً وقال عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرني بما شئت.(24/6)
فَمنْ أراد التخيّر في قضاء الله ورسوله فقد آثر الكفر على الإيمان والمعصيّة على الطاعة، ومن يعص الله ورسوله فيما يأمران به وينهيان عنه مما هو عقائد وشرائع وأحكام فقد ضلّ طريق الفلاح والنجاح وسلك سبيل الخيبة والخسران والعياذ بالله.
هداية الآية:
إن من هداية هذه الآية وضعَها الحد الفاصل بين الكفر والإيمان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" فجعل إقام الصلاة حداً فاصلاً بين الكفر والإيمان.
فكذلك هذه الآية، فإنها أفهمت أن من يزعم أن له حق الرفض والقبول في شرائع الله تعالى والتخيّر بينها فما وافق مصالحه وناسب هواه وشهواته، اعتقده أو قال به أو عمله وما تنافى مع مصالحه أو هواه أو شهواته رفضه معتذراً أو غير معتذر، فإنه كافر غير مؤمن ولا مسلم, فإما أن يراجع دين الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح، وإلا فليس هو بمؤمن؛ وذلك لأن الإيمان يثمر الإسلام وهو الإذعان والانقياد لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم. ودلالة الإسلام على الإيمان كدلالة الثمر على الشجر، فلا يتصور وجود ثمر بلا شجر, كما لا يتصور وجود إيمان بلا إسلام, هذه حقيقة قررتها هذه الآية، وبالرجوع إلى سبب نزول الآية والتأمل فيه -وقد تقدم- تتجلى هذه الحقيقة واضحة أكثر، والله المستعان.
ثمرة الإسلام لله تعالى:(24/7)
إذا كان الإيمان يثمر الإسلام فإن الإسلام يثمر الرفعة وعلو الشأن, إن زيداً لما أسلم لله، وتخلى عن أحب شيء إليه وأعزه عنده وهو نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يدعى زيد بن محمد فأصبح يدعى زيد بن حارثة الكلبي, أثمر له إسلامه لله تعالى وانقياده له عزّاً ورفعة لم يظفر بهما سواه فخلد الله ذكره. فاسم زيد الذي هو علم عليه يقرأ في كتاب الله الليل والنهار من ملايين المسلمين وذلك الدهر كله, ولم يكن ذلك لأحد من المسلمين إلا لزيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه ...
وإن زينب بنت جحش رضي الله عنها قد أثمر لها إسلامها رفعة لا تسامى وشرفا لا يرام، فقد تنازلت عن كرامتها وشرفها لله تعالى فعوضها الله أعظم منهما فأصبحت بعد زواجها من زيد المولى زوجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُماً لكل المؤمنين وزاد في شرفها وعلو قدرها ورفعة مكانتها أن تولى لله تعالى عقد نكاحها, فكانت تفخر بهذا الشرف على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول:"ما منكن امرأة إلا وتولى وليها عقد نكاحها، إلا أنا فقد تولى الله تعالى عقد نكاحي من فوق سبع سماوات". وتقريراً لهذه الحقيقة نورد حديث أبي هريرة عند مسلم وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفوِ إلا عزاً, وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله ".
ما في الآية من مسائل:
(1) المسألة الأصولية المعروفة وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ سبب نزول الآية كان امتناع زينب من الزواج بزيد، ولكن حكمها عام في كل مؤمن ومؤمنة كما دلت عليه الصيغة الكلامية.
(2) وجوب الستر على المؤمن وعدم التصريح باسمه عند وعظه أو نصحه؛ إذ المقصود في الآية زينب وأخوها عبد الله رضي الله عنهما, ولكن التعبير كان بلفظ مؤمن ومؤمنة.(24/8)
(3) ما بين الكفر والإيمان إلا الإسلام، فمن لم يسلم بالإعلان عن استعداده التام لطاعة الله ورسوله فليس بمؤمن؛ إذ الآية نفت الإيمان عمن لا يرى ذلك ولا يباشره بفعل الواجبات وترك المحرمات.
(4) طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبارة عن نهج يفضي بسالكه إلى دار السعادة وهي الجنة فمن ترك طاعة الله ورسوله فقد خرج عن ذلك النهج، وسار في نهج آخر يفضي بسالكه إلى دار الشقاوة والخسران، وهي النار، والعياذ بالله تعالى.(24/9)
حول الشعر التعليمي (1)
للدكتور صالح آدم بيلو
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
تعريفه:
هو هذا اللون من الشعر الذي يهدف به الشعراء إلى تعليم الناس شئون دنياهم وأخراهم، وتزويدهم بالحقائق والمعلومات المتعلقة بحياة الفرد والجماعة، وأسرار الطبيعة وما وراء الطبيعة..
1- فهو يعالج الأخلاق والعقيدة والعبادة، ويتناول الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وما ينبغي الإنسان أن يكون عليه، وما يجب أن يتحاشاه ويتباعد عنه … يسلك الشاعر في ذلك أساليب الترهيب والترغيب والنصح والعظة..
2- ويتناول التاريخ والسير: فيقرر ويبين الأنساب والأصول والفروع، وتسلسل الحوادث وترتيبها، ويبحث العلل والأسباب، ويربط النتائج بمقدماتها …
3- ويعرض للعلوم والفنون والصناعات، فيقرر الحقائق المتعلقة بشأنها، ويضع لها القواعد ويستنبط لها القوانين.
يقوم الشاعر بكل أولئك ليقدمها لقمة سائغة لمن يريد تعليمه، فتعيها ذاكرته، وتسجلها حافظته، فيسهل عليه استدعاؤها واستحضارها في الوقت المناسب.
وبهذا ترى أن الميادين التي يعمل فيها هذا اللون من الأدب، أو الشعر الذي نسميه (تعليميا) ثلاثة ميادين:
(1) أصول الأخلاق والعقائد.
(2) السير والتاريخ.
(3) الحقائق والمعارف المتعلقة بالعلوم والفنون والصناعات.
عند اليونان:(24/10)
عرفت اليونان هذا اللون من الأدب عند جماعة من شعرائها القدامى، ومن أشهرهم (هزيود) في القرن الثامن قبل الميلاد، وكان من أهم الأعمال المنسوبة إليه قصيدتان: أولاهما التي تتناول موضوعي الأخلاق والعقائد، والمعارف والحقائق المتعلقة بالفنون والصناعات. فهي تتحدث عن الجانب الخلقي وتوجه مجموعة نصائح وعظات بصدد العدالة، والظلم والقناعة والجشع، وعناصر كلٍّ منها، وأصوله ونتائجه بضرب الأمثال والحقائق التاريخية والسماوية والأرضية … كما تعرض أعمال الحقل وما يتصل بها، فيبين فصول السنة وما يلائمها من ضروب الزراعة، وما تحتاج إليه من أداة وفن ...
والقصيدة الثانية هي: (التيوجونيا) .. أو أنساب الآلهة، وتعرض للآلهة، فتبين نشأتهم وأنسابهم وأصولهم وشعبهم، وتترجم لكل منهم، فتفصل وظائفه وأعماله وتاريخ حياته [1] .
وعند الهنود:
وعرف الهنود أيضا هذا الضرب من الشعر، فراحوا ينظمون به جملة من المعارف والعلوم التطبيقية، مما دفع (البيروني) إلى الشكوى من أنهم كانوا يعمدون إلى نظم قواعد الرياضيات والفلك، لأن ذلك يخرجهم أحياناً عن ضبط القواعد وما يستلزمه من دقة في التعبير لا تتسنى في النظم [2] .
لدى العرب:
أما بالنسبة للأدب العربي؛ فيذهب الذاهبون إلى أن العرب لم يعرفوا هذا اللوّن من الأدب إلاّ في وقت متأخر نتيجة اتصالهم بالفكر الوافدِ فهناك من يرى أن هذا التأثير ناشئ عن الثقافة الهندية التي اتصل بها العرب في العصر العباسي، ومن هؤلاء الأستاذ أحمد أمين [3] وشكري فيصل [4] ، ويرى آخرون أن ذلك من مكتسبات الثقافة اليونانية [5] .(24/11)
على أن الدكتور طه حسين يرى أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي هو مبتكر هذا الفن في الأدب العربي، إذ يقول: " ... يظهر أن أبان هو أول من عني بهذا الفن [6] ... ". ويقول عنه في موضع آخر" ... فهو إمام طائفة عظيمة من الناظمين، نعني أنه ابتكر في الأدب العربي فنّاً لم يتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعليمي" [7] .
ويذهب شوقي ضيف إلى رأيين متناقضين كلّ التناقض، متعارضين التعارض كلّه، ولا ندري على أيهما استقر رأيه النهائي بإزاء المسألة!.. ففي كتابه: العصر العباسي الأول، يرى أنه "فن استحدثه الشعراء العباسيون، ولم تكن له أصول قديمة، ونقصد فن الشعر التعليمي الذي دفع إليه رقى الحياة العقلية في العصر، فإذا نفر من الشعراء ينظمون بعض المعارف أو بعض السير والأخبار" [8] … بينما يذهب الدكتور شوقي ضيف في كتابه الآخر (التطور والتجديد في الشعر الأموي) مذهباً آخر يوشك- في رأينا- أن يكون صائباً، ولكنه لم يسر فيه إلى آخر الشوط، كما سنرى بعد …
فهو يذهب ههنا إلى أن الشعر التعليمي ذو نشأة عربية خالصة في آخر القرن الأول الهجري وأول الثاني، أو قل في أواخر دولة الأمويين.. إذ أن أراجيز الرُّجاز وبخاصة رؤبة والعجاج قد كانت متوناً لغوية، وبالتالي فهو النواة والبذرة التي انبنى عليها الشعر التعليمي في جانب الكلام المنظوم، وتطور في جانب النثر فكانت المقامات ... ويقول الكاتب: "ونحن نؤمن بأن هؤلاء الرّجاز-وفي مقدمتهم رؤبة- هم الذين أعدوا شعراء العصر العباسي لا للشعر التعليمي فحسب، بل لاقتباسهم للغريب في أشعارهم، فالغريب أصبح جزءا هاما في مادة الشعر عند الشعراء الممتازين من أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام ... " [9](24/12)
ويقول عن رؤبة وعن أبيه العجاج: "والإنسان لا يلم بديوانيهما حتى يقطع بأنهما كانا يؤلفان أراجيزهما قبل كل شيء من أجل الرواة، ومن اجل أن يمداهم بكل غريب، وكل أسلوب شاذ، ومن هنا كنا نسمي هذه الأراجيز متونا لغوية، وقد بلغت هذه المتون صورها المثالية عند رؤبة، فهو النمو الأخير لهذا العمل التعليمي الذي أرادته المدرسة اللغوية من جهة، والذي استجاب له الرجّاز من جهة أخرى. ولعل هذا ما جعل اللغويين يوقرونه أعظم التوقير، فأبو الفرج يقدمه في ترجمته بقوله: "أخذ عنه وجوه أهل اللغة: وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماماً.." [10] ويقول الدكتور ضيف: "والأرجوزة الأموية من هذه الناحية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية.. [11] " ويقول: " ... ومهما يكن فقد ألهمت الأرجوزة الأموية الشعراء في العصر العباسي أن يقوموا بنظم شعرهم التعليمي، كما ألهمت أصحاب النثر وضع المقامة" [12] .
وهذا الذي ذهب إليه الكاتب يوشك أن يكون صواباً لولا أنه قصر به قليلا ... ذلك أننا نرى أن هذا اللون من الأدب لم تكن بذرته قد بذرت في هذه المرحلة من العصر الأموي، ولكن البذرة قد نبتت واستوت على سوقها منذ زمن بعيد بعيد!!.
من أين أتت الخدعة؟
ونحن نرجح تخطئة الذين ذهبوا إلى أن الشعر التعليمي إنما عرفه الأدب العربي مع ما عرفه من الثقافة الدخيلة، والفكر الوافد- شرقيّة وغربيّة، هنديّة ويونانيّة- أو ابتكر في هذا العصر العباسي ابتكاراً بسبب امتزاج الأفكار والثقافات وتوالدها، أو أن الأرجوزة الأموية هي التي وجهت إليه الشعراء العباسيين!..ِ(24/13)
إن الخطأ قد أتى هؤلاء الكاتبين من جهة (التطبيق) .. فهم يُعَرِّفون الشعر التعليمي تعريفاً نظرياً جيداً، واضح الحدود والمعالم، بيّن القسمات والسمات، وحين تأتي مرحلة التطبيق العملي يجانبهم التوفيق، ولا يجدون إلا بعض الجزئيات أو الأقسام في فترة معينة من الزمان تنطبق عليها هذه النظريات، ومن هنا ينطلقون إلى القول بأن هذا الفن كان عدما فيما مضى ثم أصبح له وجود منذ هذه الفترة التي اسُموها بالعصر العباسي، أو على أحسن الفروض العصر الأموي!..
إن هؤلاء الكتّاب يعرفون الشعر التعليمي بمثل ذلك التعريف الذي صدّرنا به هذا الحديث، ثم يقسمونه ثلاثة أقسام كما رأينا.
كل ذلك في أسلوب يخلو في الغالب من المقومات الفنية كالخيال والأسلوب الطلي الجميل بقصد تسهيل الحفظ والتذكر [13] .
ثم هم حين يأتون إلى مرحلة النظر في الأدب العربي منذ جاهليته، وهل حوى نماذج من الشعر التعليمي، يذهبون تلك المذاهب التي أشرنا إليها فيما تقدم!.
رأينا:
ومع أن ما في الشعر التعليمي- في عمومه- من مآخذ وعيوب أكثر مما فيه من حسنات وفضائل (وأن ما فيه من مثالب ونقائص لا يدعو إلى الدفاع عنه، والتحمس للقول بأن العرب قد عرفوه في أدبهم، نقرر أن الأدب العربي منذ جاهليته قد شارك في هذا اللون من الفن بكل أقسامه التي قدمناها:
(1) فبالنسبة للتاريخ وذكر القرون الخالية والأمم البائدة، قد امتلأ الأدب العربي بشعر الشعراء في ذلك، وقد كان ذلك أحد المنطلقات التي انطلق منها جماعة من الشعراء خصوصاً أولئك الذين كانوا على شيء من الثقافة الدينية والعلمية كأمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد ... [14] الخ من ذلك قصيدة عدي في منشأ الخلق وقصته خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة التي يقول فيها:
عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
اسمع حديثاً كما يوماً تُّحدثه
فينا، وعرّفنا آياته الأُولا
أن كيف أبدى إله الخلق نعمته(24/14)
وظلمة لم تدع فتقاً ولا خللا
كانت رياح وماءٌ ذو عرانية
وعزل الماء عما كان قد سفلا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت
تحت السماء سواء مثل ما فعلا
وبسط الأرض بسطاً ثمّ قدّرها
بين النهار وبين الليل قد فصلا
وجعل الشمس مصراً لا خفاء به
وكان أخرها أن صوّر الرجلا
قضى لستة أيام خليقته
بنفحة الروح في الجسم الذي جبلا
وعاه آدم صوتاً فاستجاب له
ثم استمر الشاعر يتحدث عن خلق حواء وإسكانها مع زوجها الجنة، ونهيهما عن أكل الشجرة، إلى أن أخذ يتحدث عن العقاب الذي أنزل بالحية جزاء ما أغوت آدم وزوجه، فيقولن:
طول الليالي ولم يجعل لها أجلا
فلاطها الله إذ أغوت خليفته.
والترب تأكله حزناً وأن سهلا [15]
تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت
وينظم عدي قصة الزّباء وجذيمة وقصير، تلك القصة التاريخية المشهورة: [16]
ألم تسمع بخطب الأولينا
ألا يا أيها المثرى المرجّى
جذيمةُ حين ينجوهم ثبينا
دعا بالبقة الأمراء يوماً.
وكان يقول- لو تبع- اليقينا
فطاوع أمرهم وعصى قصيراً
ليملك بضعها ولأن تدينا
ودست في صحيفته إليه
ويبدي للفتى الحَين المبينا
فأردته ورغب النفس يرد
ولم أرمثل فارسها هجينا
وخبّرت العصا الأنباء عنه
وألفى قولها كذباً ومنينا
وقدمت الأديم لراهشيه.
وهن المنديات لمن منينا
ومن خدر الملاوم والمخازي
ليجدعه، وكان به ضنينا
أَطفّ لأنفه الموسي قصير
طلاب الوتر مجدوعاً مشينا
فأهواه لمارنه فأضحى
غوائله وما أمنت أمينا [17]
وصادفت امرءاً لم تخش منه
وهكذا تسير القصيدة في تصوير الحادثة وقصها ... الخ.(24/15)
(2) فإذا انتقلنا إلى لون آخر من الشعر التعليمي في الجاهلية، وهو ذلك الذي أسموه (حقائق الفنون والعلوم والصناعات) وجدنا له مثالاً صارخاً للشاعر الجاهلي (الأخنس بن شهاب) … وهذه القصيدة يذكر فيها سكنى قبائل نجد قبيلة قبيلة، فهي من هذه الناحية تدخل في علم تقويم البلدان- أو ما يسمى بالجغرافية- فمما جاء في هذه القصيدة:-
يسائل أطلالا بها لا تجاوب
فمن يكُ أمسى في بلاد مقامه
كما نمّق العنوان في الرّق كاتب
فلا بنة حطّان بن قيس منازل
عروض إليها يلجؤون وجانب
لكل أناس من معدِ عمارة
وإن يأتهم ناس من الهند هارب
لكيز لها البحران والسِّيف دونه.
جهام أراق ماءه فهو آيب
تطاير من أعجاز حوش كأنها
يحل دونها من اليمامة حاجب
وبكر لها برُّ العراق وإن تخف
لها من جبال منتأى ومذاهب
وصارت تميم بين قفٍ ورملة
إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب
وكلب لها خبّ، فرملة عالج
يجالد عنهم خسّر وكتائب
وغسّان حيّ عزّهم في سواهم
لهم شرك حول الرصافة لاحب
وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم
برازيق عجم تبتغي من تحارب
وغارت إياد في السّواد ودونها
مع الغيث ما نلقى ومن هو غالب
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
كمعزى الحجاز أعوزتها الزّرائب [18]
ترى رائدات الخيل حول بيوتنا
فالقصيدة- كما ترى- من الشعر التعليمي دون ريب؛ ذلك لأن المقصود منها هو بيان مساكن هذه القبائل في جزيرة العرب والعراق وما إليهما.(24/16)
(3) أما القسم الثالث من الشعر التعليمي، وهو الذي يتناول العقائد والأخلاق, فهو في الشعر الجاهلي أكثر من أن يحصى عدداً، خصوصاً عند هؤلاء الشعراء من أمثال أمية بن أبي الصلت وعدي، وزهير ... فإذا جئنا إلى العصر الأموي، وجدنا هذا الضرب من الشعر قد تمثل بوضوح في عدة موضوعات، أولها: أنه نظمت به الكيمياء- أو الصنعة كما كانوا يسمونها..-ِ فلقد روى المسعودي أن حكيم آل مروان- خالد بن يزيد بن معاوية الذي اشتهر باهتمامه بالكيمياء قد وضع منظومة في هذه الصناعة، ذكر فيها طريقة تحويل المعدن الخسيس إلى جوهر نفيس، يقول فيها:
وما يوجد في الطرق
خذ الطّلْق مع الأشْقِ
فدبِّره بلا حرق
وشيئاً يشبه البرقا
فقد سوِّدت في الخلق [19]
فإن أحببت مولاكا
كما استخدم هذا الشعر في تعليم غريب اللغة كما قدمنا في صدر هذا الحديث عند الكلام عن الأرجوزة الأموية، التي أسهمت في إبراز صورة الشعر التعليمي العباسي، وفي المقامة في جانب النثر فيما بعد.. ولقد وقعت محاولة لاستخدام هذا اللون في شرح فروع الدين - في رأي عبد الملك بن مروان - من أحد شعراء العصر، فوقف عبد الملك في سبيلهِ..وذلك فيما يروى من أن الشاعر الأموي (الراعي النميري) قد أنشد عبد الملك بن مروان قصيدته التي يشكو فيها السعادة وهم يأخذون الزكاة، حتى إذا بلغ قوله:
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
أخليفة الرحمن إنّا معشر
حق الزكاة منزلا تنزيلا
عرب نرى لله في أموالنا
قال عبد الملك: ليس هذا شعراً، هذا شرح إسلام وقراءة آية [20] ! ...(24/17)
وهكذا استمر الأمر، نرى شيئا من الشعر التعليمي في هذا الموضع أو ذاك، حتى إذا جاء العصر العباسي، رأينا الشعراء ينظمون به في جملة موضوعات ومسائل علمية وتاريخية وقصصية إظهاراً للبراعة، ودلالة على قدرتهم على التجديد والابتكار، وتدليلاً على أنهم قد ألموا بمعارف العصر، وثقافات الأمم الأخرى التي نقلت إلى العربية.. وأنهم قد صاروا على شيء من هضم هذا الذي ترجم، فهم يسهمون بدورهم في نقله وإيصاله إلى الآخرين عن طريق هذا اللون من الشعر!.. ومن أوائل هؤلاء الشعراء الذين أخذوا من هذا الفن بطرف السيد الحميري (105- 173 هـ) الذي كان مفتوناً مغرماً بنظم القصص والمناقب والأخبار التي تروي عن علي وأبنائه. من ذلك ما يروى من أنه سمع محدثاً يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نعم المطيّ مطيكما!.."فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولنعم الراكبان هما"!.. فانصرف السيد الحميري من فوره، فقال في ذلك:
وقد جلسا حجره يلعبان
أتى حسن والحسين النبي
وكانا لديه بذاك المكان
فغدّاهما، ثم حيّاهما
فنعم المطية والراكبان
فراحا وتحتهما عاتقاه
حَصان مطهّرة للحصان
وليدان أمّهما بَرَّة
فنعم الوليدان والوالدان [21]
وشيخهما ابن أبى طالب
ومن ذلك ما يروى من أن علياً كرم الله وجهه. عزم على الركوب، فلبس ثيابه وأراد لبس خفيه فلبس أحدهما، ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه، فانقض عقاب من السماء فأخذ الخف وحلّق به ثم ألقاه، فسقط منه أسود- ثعبان- وانساب فدخل جحراً، فلبس الخف، وحين سمع السيد ذلك قال في سرعة:
لخف أبي الحسين وللحباب
ألا يا قوم للعجب العجاب
لينهش رجله منه بناب
أتى خفاً له وانساب فيه
من العقبان أو شبه العقاب
فخرّ من السماء له عقاب(24/18)
به للأرض من دون السحاب
فطار به، فحلق ثم أهوى
بعيد القعر لم يرتج بباب
إلى جحر له فانساب فيه
حديد النّاب أزرق ذو لعاب
كريه الوجه أسود ذو بصيص
نقيع سمامه بعد السياب [22] .
ودفع عن أبي حسن على
وسيد هذا الميدان غير مدافع هو أبان بن الحميد اللاحقي المتوفى سنة 200 هـ الذي برع فيه حتى ذهب كثير من الكاتبين إلى أنه مبتدع هذا الفن ومبتكره في الأدب العربي على غير مثال سابق، فنظم في السير والتاريخ الفارسي، إذ نظم سيرة أردشير وسيرة أنو شروان [23] وكتاب بلوهر, وكتاب حكم الهند [24] ، كما نظم القصيدة المسماة (ذات الحلل) في نشأة الخلق وأمر الدنيا وضمنها شيئاً من المنطق. ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنها لأبان [25] . وليس بين أيدي الناس من كلّ أولئك الآن شيء- ونظم كذلك في فرائض الصوم والزكاة أرجوزة مزدوجة، ونظم كليلة ودمنة في خمسة آلاف بيت [26] ، أو في أربعة عشر ألف بيت [27] ... لم يبق منها إلاّ جزء يسير أورده الصولي في الأوراق, كما أثبت شيئاً من مزدوجة الفرائض.
يقول أبان في مزدوجة الفرائض شارحاً أحكام الصوم والزكاة:
لكل ما قامت به الشرائع
هذا كتاب الصوم وهو جامع
فضلاً على من كان ذا بيان
من ذلك المنزل في القرآن
من عهده المتبع المرضيِّ
ومنه ما جاء عن النيِّ
كما هدى الله به وعلّما
صلى الإله وعليه سلّما
من أثر ماضٍ ومن قياس
وبعضه على اختلاف الناس
رأي أبي يوسف مما اختاروا
والجامع الذي إليه صاروا
فرمضان صومه إذا عرض
قال أبو يوسف: أمّا المفترض
من حنث ما يجري على اللسان.
والصوم في كفارة الأيمان
الصوم لا يدفع بالإنكار
ومعه الحج وفي الظهار
لرأسه فيه الصيام فافهم
وخطأ القتل وحلق المحرم(24/19)
وصومه مفترض موصوف
فرمضان شهره معروف
مظاهر يوماً على محرر
والصوم في الظهار إن لم يقدر
فإن ذاك في الصيام مثله
والقتل إن لم يك عمداً قتله
متصلان لا مفرّقان
شهران في العدة كاملانِ
ثلاثه أيامها موصوله
والحنث في رواية مقبولهْ
للمحرم الحالق في الإحرام
ومثلها في عدة الأيام
لا بأس إن تابعها أو فرّقا [28]
ثلاثة يصومها إن طلقا
وهذا أنموذج من نظمه لكليلة ودمنة، يقول في المقدمة:
وهو الذي يدعى كليل دمنه
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو كتاب وضعته الهند
فيه دلالات وفيه رشد
حكاية عن ألسَن البهائم
فوصفوا آداب كل عالم
والسخفاء يشتهون هزله
فالحكماء يعرفون فضله
لذّ على اللسان عند اللفظ
وهو على ذاك يسير الحففا
في حب مذموم كّان قد زالا
يا نفس لا تشاركي الجهّالا
في طلب الدنيا ولا تمنيِّ
يا نفس لا تشقي ولا تُعَنيّ
إذا تولىّ ذاك عنه وسدم
ما لم ينله أحد إلا ندِمْ
كثيرة الآلام والأحزان
دنياك بالأحباب والإخوان
آفاتها وغمها كثير
وهي وإن نيل بها السرور
ويقول في باب الأسد والثور:
يرضى من الأرفع بالأخس
وإنّ من كان دنيءَ النّفس
يفرح بالعظم العتيق اليابس
كمثل الكلب الشقي البائس
شيء إذا ما كان لا يغنيهم
وإن أهل الفضل لا يرضيهم
ثم يرى العير المجد هربا
كالأسد الذي يصيد الأرنبا
ويتبع العير على أدباره
فيرسل الأرنب من أظفاره
بلقمةٍ تقذفها في فيه.
والكلب من رقته ترضيه
ويقول في الباب ذاته:(24/20)
كطارح في سبغ ما يبذره.
وباذل النّصح لمن لا يشكره
إن هو لم يحمده عند المخبر
لا خير للعاقل في ذي المنظر
خير إذا لم يك ذا وفاء
وليس في الصديق ذكر الصفاء
كأس سمو واقتدار يبطره
الرجل العاقل من لا يسكره
لا تقدر الريح على تحويله
فالجبل الثابت في أصوله
يطغى إذا ما نال أدنى منزله
والناقص العقل الذي لا رأي له
مالت به فأقبلت وأدبرت [29]
مثل الحشيش أيّما ريح جرت
وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقيانه المكافأة الجزيلة من البرامكة، وبإقبال الناس عليه، أقبل غيره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله.
ومن هنا تدافع الشعراء ينظمون الشعر التعليمي في عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه في الصراع العقدي والمذهبي، وفي الحكمة والموعظة، وفي الفلك والنجوم، والسيرة والتاريخ، وفي اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانينه! ...
ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي:
كان بشر بن المعتمر يفيد من هذا اللون الشعري في الصراع المذهبي، وتأييد وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذين أثارهم بشار بن برد بما ذهب إليه من تفضيل النار على الأرض، وإبليس على آدم في أبياته التي يقول فيها:
فتبينوا يا معشر الأشرار [30]
إبليس أفضل من أبيكم آدم
فتصدوا له يردون عليه مبينين أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فيها (بالقوة) ، وأنّ في الأرض أعاجيب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى ...(24/21)
فلبشر قصيدتان طويلتان رواهما الجاحظ في الحيوان، أولاهما في ذمّ فرق الإباضية والرافضة والحشوية، وذكر فيها أصنافاً من الحيوان، وتحدث عن أعاجيبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال:
وكلهم من شأنه الختر
الناس دأباً في طلاب الغنى
لها عواء ولها زفر
كأذؤب تنهشها أذؤب
كل له في نفسه سحر
تراهم فوضى وأيدي سبا.
بين يديه النفع والضر
تبارك الله وسبحانه
الذيخ والتيتل والعفر
من خلقه في رزقه كلهم
ويعدد أصناف الحيوان، وكيف تعيش وتقتات، حتى ينتهي من ذلك إلى قوله:
فالله يقضي وله الأجر
إني وإن كنت ضعيف القوى
كرافضي غرّه الجفر
لست إباضياً غبيّاًولا
سَفْراً، فأودى عنده السفْر
كما يغرّ الآل في سبب
فعاله عندهما كفر
كلاهما وسّع في جهل ما
عابوا الذي عابوا ولم يدروا [31]
لسًنا من الحشو الجفاة الألى
والقصيدة الثانية تتحدث عن العالم وما فيه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ويعدد الشاعر الحيوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يهتدي به الناس، وألاّ يتخذوا غيره رائداً مرشداً كما يفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقليد:
يقصر عنها عدد القطر
أما ترى العالم ذا حشوة
وكل سبع وافر الظفر
أوابد الوحش وأجناسها
وبعد أن يعدد أجناساً من الحيوان، يقول:
خفية الحسبان في قعر
فكم ترى في الخلق من آية
يحار فيها واضح الفجر
أبرزها الفكر على فكرة
وصاحب في العسر واليسر
لله در العقل من رائد
قضية الشاهد للأمر(24/22)
وحاكم يقضي على غائب
ثم يعود الشاعر فيعدد الحيوان ويذكر طبائعه، وأنه في طلب رزقه يقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم في هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون في الدين، ومتفاوتون في الرأي والقدر، وقد تحكمت فيه واستولت عادة الاتباع والتقليد:
وعنصر أعراقه تسري
وكل جنس فله قالب
مثل صنيع الأرض والبذر
وتصنع السرفة فيهم على
يحتال الأكبر بالفكر
والأضعف الأصغر أحرى بأن
أحوجه ذاك إلى المكر.
متى يرى عدوه قاهرا
صاح فجاءت رسلاً تجري.
كما ترى الذئب إذا لم يطق
يحجم أو يقدم أو يجري
وكل شيء فعلى قدره
والفيل كالأعلم كالوبر
والخلد كالذئب على خبثه
والأبغث الأعثر كالوبر
والعبد كالحرّ وإن ساءه
تفاوتوا في الرأي والقدر
لكنهم في الدّين أيدي سبا
فناصبوا القياس ذا السَّبر
قد غمر التقليد أحلامهم
فإنما النجح مع الصبر
فافهم كلامي واصطبر ساعة
يكره أن يجري ولا يدري [32]
وانظر إلى الدنيا بعين امرئ
وحين أنشأ بشار قصيدته المتقدم ذكرها في تفضيل النار وإبليس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاري قصيدته المضادة في تفضيل الأرض وآدم، فقال:
وفي الأرض تحيا بالحجارة الزند
زعمت بانّ النار أكرم عنصراً
أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد
وتخلق في أرحامها وأرومها
من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
وفي القعر من لج البحار منافع
زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد
وفي قلل الأجبال خلف مقطم
لهن مغارات تبجس بالنقد
وفي الحرّة الرجلاء تلقي معادن
تروق وتصبي ذا القناعة والزهد
من الذهب الإبريز والفضة التي(24/23)
ومن زئبق حي ونوشادر يسدي
وكلّ فلزّ من نحاس وآنك
من الأرض والأحجار فاخرة المجد
وكلّ يواقيت الأنام وحليها
ومستلم الحجاج من جنة الخلد [33]
. وفيها مقام الحل والركن والصفا
كما شارك في الرد على بشار أيضاً سليمان الأعمى_ أخو مسلم بن الوليد قائلاً:
من أن تحيل إليها كلّ مغروس
لابدّ للأرض إن طابت وان خبثت
فحملها أبداً في إثر منغوس
وتربة الأرض إن جيدت وإن قحطت
لكل جوهرة في الأرض مرموس
وبطنها بفلزّ الأرض ذو خبر
وكل منتقد فيها وملبوس
وكلّ آنية عمت مرافقها
وكلها مضحك من قول إبليس [34]
وكل ما عونها كالملح مرفقة
في ميدان الموعظة والحكمة:
ومن أبرز الشعراء الذين استخدموا الشعر التعليمي في الموعظة والحكمة أبو العتاهية الذي كانت له عدة قصائد تعليمية أسهم بها في ميدان نقل العلم والمعرفة للآخرين، و " ... أخذت مكانها في تربية الذوق الإسلامي وتهذيب الناشئين 000" [35] ... ومن أبرز قصائده هذه أرجوزته المعروفة بذات الأمثال التي يقف فيها موقف المعلم من تلاميذه، أو الحكيم الواعظ الذي يوجه الناس ويريهم سبيل الرشاد من منبره ... وهي أرجوزة مزدوجة ينفرد كل بيت فيها بقافية يشترك فيها شطران، ويذكر أبو الفرج أنها طويلة جداً [36] . وفيها أربعة آلاف مثل [37] ولكنه لم يثبت منها في أغانيه إلاّ ثلاثة وعشرين بيتاً [38] إلاّ أن جمع ديوانه قد أورد منها ما يقرب من الخمسين بيتاً [39] .(24/24)
وأبو العتاهية في ذات الأمثال هذه يأتينا بحكم أخلاقية وأمثال سائرة سجّل فيها خلاصة تجاربه وآرائه في الحياة مصوغة صياغة مضغوطة مركزة في أخصر عبارة بحيث تبدو في صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فيسهل تداولها، ويسرع في الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا يحتسبها من يحتسبها في الشعر التعليمي [40] ، ويضعها من يضعها في أدب الحكمة!..
والقصيدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بيت يعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبيات في عرض فكرة، ولكن يظل كل بيت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة [41] . يقول أبو العتاهية:
ما أكثر القوت لمن يموت
... حسبك ما تبتغيه القوت
من اتّقى الله رجا وخافا
الفقر فيما جاوز الكفافا
فكل ما في الأرض لا يغنيكا
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا
إن الصفاء بالقذى يكدّر
إن القليل بالقليل يكثر
ومنها:
وأوسط وأصغر وأكبر
لكل شيء معدن وجوهر
أصغره متصل بأكبره
وكل شيء لاحق بجوهره
ممزوجة الصفو بألوان القذى
مازالت الدنيا لنا دار أذى
لذا نتاج، ولذا نتاج
الخير والشر بها أزواج
يخبث بعض ويطيب بعض
من لك بالمحصن وليس محصن
خير وشر وهما ضدان
لكل إنسان طبيعتان
بينهما بؤن بعيد جدا
والخير والشر إذا ماعدّا
وهكذا تمضي الأرجوزة التي يتضح فيها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذي رّبما كان السبب فيه أنها لم تنظم في وقت واحد، وإنما نظمت في أوقات متباينة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جديرة بالتسجيل أسرع إلى تسجيلها رجزاً وألحقها بدفتره [42] .(24/25)
ومن شعره هذا مذكراً بالموت وسكراته، لائماً على نسيانه والسهو عنه:
أحسبت أن الموت في اسمك يغلط
حتى متى تصبو ورأسك أشمط
ويلي، وربك إنه لمسّلط
أو لست تحسبه عليك مسلّطا
جثث الملوك وتارة يتخبط
ولقد رأيت الموت يفرس تارة
ستشط عمن تألفن وتشمط
فتألف الخلان مفتقداً لهم
نضواً تقلص بينهم وتبسط
وكأنني بك بينهم واهي القوى
بالموت في غمراته يتشحظ
وكأنني بك بينهم خفق الحشا
في ريطتين ملفف ومخيط
وكأنني بك في قميص مدرجاً
روح الحياء ولا القميص مخيط [43]
لا ريطتين كريطتي متنسم.
ويمكن النظر في هذه النصوص التي أوردناها من قبل لبشر بن المعتمر، وصفوان الأنصاري، وسليمان الأعمى- باعتبارها نماذج للحكمة والموعظة، بل هي من صميم ذلك دون ريب، كما يمكن اعتبار آداب وأشعار الوعاظ والزهاد من الأدب التعليمي في الصميم!..
الاستعمار.. ودوره في تخريب التعليم في البلاد الإسلامية
يقول المستشرق الإنكليزي (هاملتون جب) :
"لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين- ولو من غير وعي منهم- أثرا يجعلهم في مظهرهم العام (لا دينيين) إلى حد بعيد، ولا ريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار) .
ويقول الدكتور عبد الحليم محمود- شيخ الجامع الأزهر السابق رحمه الله:(24/26)
(إن الأمر قد وصل بالاستعمار أن صاغ خريجي كليات الحقوق، بحيث لا يفهمون بعد (الليسانس) كتابا عربيا في المواد التشريعية، وليس الأمر بغريب، إن جدول التدريس في كليات الحقوق يخصص عشرين محاضرة في الأسبوع للقوانين الأوروبية، ومحاضرتين فقط للشريعة الإسلامية) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأدب اليوناني القديم للدكتور علي عبد الواحد وافي-دار المعارف ص99.
[2] تحقيق ما للهند من مقولة ص71 وضحى الإسلام ج1/246.
[3] ضحى الإسلام ج1/ 246.
[4] ناهج الدراسة الأدبية ط دار العلم للملايين ص 108 وانظر اتجاهات الشعر في القرن الثاني للدكتور هدارة ص355.
[5] الشعر في بغداد في القرن الثالث الهجري للدكتور أحمد عبد الستار الجواري –دار الكشاف بيروت ص250.
[6] من حديث الشعر والنثر ص286.
[7] حديث الأربعاء ج2/220.
[8] العصر العباسي الأول ص190.
[9] التطور والتجديد في الشعر الأموي ص352.
[10] المرجع نفسه ص345.
[11] المرجع نفسه ص348.
[12] المرجع نفسه ص353.
[13] انظر حديث الأربعاء ج2/220 ومن حديث الشعر والنثر ص385 والعصر العباسي الأول ص290 واتجاهات الشعر لهداره ص355 والأدب اليوناني القديم ص88 والشعر في بغداد ص 182.
[14] انظر عدي بن زيد للدكتور محمد علي الهاسمي ص 133-177.
[15] الحيوان للجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون ج4 ص197-199.
[16] انظر القصة في تاريخ الطبري ج2/31_36 ومروج الذهب للمسعودي طبعة دار التحرير ج2/290 ومجمع الأمثال للميداني، ودائرة المعارف الإسلامية مادة (تدمر) .
[17] انظر بقية القصيدة في الشعر والشعراء لابن قتيبة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ص 227.(24/27)
[18] المفضليات للضبي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر والأستاذ عبد السلام هارون ص 203 وحماسة أبي تمام طبع سعيد الرافعي ج1/299 ببعض اختلاف.
[19] مروج الذهب للمسعودي طبع دار التحرير بالقاهرة ج2/514.
[20] الموشح للمرزباني بتحقيق الأستاذ البجاوي-لجنة البيان العربي ص249 وانظر خزانة الأدب للبغدادي الطبعة السلفية بالقاهرة ج2/134 وجمهرة أشعار العرب ص172.
[21] الأغاني (دار الكتب) ج1/259.
[22] الأغاني ج7/257.
[23] انظر ترجمته في الأوراق للصولي، قسم أخبار الشعراء،والأغاني طبعة الساسي.ج20/70 وطبقات ابن المعتز ص240 والوزراء والكتاب للجهشياري ص211.
[24] الفهرست لابن النديم ص119.
[25] الأغاني – الساسي ج20/73.
[26] طبقات ابن المعتز ص241.
[27] الوزراء والكتاب للجهشياري ص211.
[28] الأوراق للصولي –قسم أخبار الشعراء ص51.
[29] الأوراق ص46 وما بعدها.
[30] رسالة الغفران بتحقيق بنت الشاطئ ص310.
[31] الحيوان للجاحظ ج6/84-91.
[32] الحيوان ج6/291-297.
[33] البيان والتبيين ج1/91.
[34] المرجع السابق ج1/41-43.
[35] دراسات في الأدب الإسلامي للأستاذ محمد خلف الله أحمد ص 109 مع ملاحظة أننا نتحفظ تجاه سلبيته وانعزاليته المبالغ في الدعوة إليهما.
[36] الأغاني طبعة دار الشعب ص 1251.
[37] المرجع السابق ص 1250.
[38] المرجع نفسه ص 1250- 1251.
[39] ديوانه نشر لويس شيخو ص493- 496.
[40] دراسات في الأدب الإسلامي لمحمد خلف الله أحمد ص 109.
[41] حياة الشعر في الكوفة للدكتور يوسف خليف ص569.
[42] المرجع السابق ص561.
[43] ديوان أبي العتاهية ص244.(24/28)
الرّاغب الأصفهاني وجهوده في اللّغة
للدكتور عمر عبد الرحمن السّاريسي
كلية اللغة العربية بالجامعة
مقدمة
إن من يبحث في حياة أبي القاسم، الحسين بن مفضل، المعروف بالراغب الأصفهاني [1] ، وفي جهوده المختلفة في اللغة والأدب وغيرها يجد عنتاً شديداً. فبينا هو يرى أن كتابه (محاضرات الأدباء) لا يجهله أديب، ويلحظ أن معجمه في (مفردات ألفاظ القرآن) لم يستغن عنه مفسِر أو معجمي جاء بعده، وبينا هو يطالع قول الإمام فخر الدين الرازي (656) ، من أن أبا حامد الغزالي (505) كان يعجب بكتابه (الذريعة إلى مكارم الشريعة) ويستحسنه لنفاسته [2] ؛ إذا هو لا يكاد يجد له ترجمة في كتب الطبقات والتراجم [3] !!!.
وربما نتج عن هذا أن الرجل لم ينل حظه من الدراسة والبحث في الأبحاث المعاصرة أيضاً، فلم تفرد له دراسة مستقلة بل لم تعن به الدراسات التي تناولت أدباء العصر العباسي وفنونهم النثرية [4] .
أما المشكلة الثانية التي تجابه المتصدي للكشف عن آثار هذا الرجل وأثره فهي تحديد عصره وذكر تاريخ وفاته وشيء عن نشأته. فكل ما قيل عنه لا يعدو ذكر ميلاده في أصفهان واختلافه إلى بغداد وأنه إمام في اللغة والأدب والتفسير، وأنه قد توفى عام502 هـ.
ولقد كان الفارق الكبير بين ما يحق له من شهرة علمية مناسبة وبين هذا التنكر والتجاهل حافزاً قويا على العكوف على دراسته وتقصي أخباره مهما بعدت مظان أخباره وآثاره.
وكان مما انتهى إليه الباحث، في هذا البحث، أن خيل إليه أنه قد جَمع ما يمكن أن يكوّن صورة أولية عن حياة الراغب وعصره وعن جهوده الفكرية واللغوية.
أما في الأولى فأهم ما يزعم أنه قد توصل إليه أن صاحبه لم يتوف عام 502، كما زعم أكثر الذين ذكروه، بل إنه على المرجح أن يكون قد توفي قبل هذا التاريخ بقرن كامل من الزمان!! وهو فرق ليس باليسير في معرفة رجال التراث.(24/29)
وأما في الثانية فقد وقف على جهود للراغب في كل من اللغة والأدب والتفسير والفرق الإسلامية والتربية والأخلاق مما يستحق أن يفرد له مقالة برأسها، وهانحن هنا نحاول أن نَرصد جهوده اللغوية، والله من وراء القصد.
جهوده في اللغة:
آثاره اللغوية:
وفي بداية تعرفنا على جهود الراغب الاصفهاني في الأدب واللغة نحاول أن نتعرف أولاً على آثاره الأدبية واللغوية ولعلها تنحصر في (محاضرات الأدباء) وفي (مجمع البلاغة) وفي (المفردات في ألفاظ القرآن) ، ولم تخل سائر آثاره من الخبرة العميقة باللغة ومن استخدامها في الوصول إلى الحقائق المبتغاة.
أما (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) فلعله أشهر مصنفات الراغب على وجه الإجمال، "فهو خزانة أدب وشعر وحكم وأمثال"كما يذكر أحد الباحثين [5] , "وخير ممثل لثقافة العصر الذي عاشه الراغب"كما يقول باحث أخر [6] , يقع في خمسة وعشرين باباً، يسمي كل باب حدا، ويتضمن كل باب موضوعات تتفرع عن العنوان الأساسي للباب.
ففي الباب الأول وعنوانه (العقل والعلم والجهل وما يتعلق بهما) يبحث في الموضوعات التالية (العقل والحمق وذم اتباع الهوى، ما يحد به العقل وبنوه والحمق وذووه، الحزم والعزم والظن والشك 000) [7]
يقول في المقدمة: "وقد ضمنت ذلك طرفاً من الأبيات الرائقة والأخبار الشائقة 000" [8] ، وكان يحرص أن يجمع هذه الأخبار وهذه الأبيات من جيد المنثور والمنظوم مما سبق من عهود التراث، في موضوعات متنوعة من الثقافة والأدب والاجتماع، جرياً على عادة الكتاب في القرن الثالث والرابع الهجريين من (أن الأدب هو الأخذ من كل علم بطرف) . ويبدو أنه كان يرمي إلى أن يجعل من كتابه مادة تعليمية ينهل منها الشادون في الأدب والمتعلمون.(24/30)
وكان فيه إلى جانب الجد والأخبار لون من الهزل والغزل والمجون، فمن شاء وجد منه ناسكا يعظه ويبكيه ومن شاء صادف منه فاتكاً يضحكه ويلهيه [9] ، كما يقول.
وطريقته في التأليف فيه هي أن يجمع تحت الموضوع الذي عقده ما يناسبه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم مأثورة وأشعار مروية وأخبار سائرة وأمثال نادرة.
ويبدو أن كلمة (محاضرات) الأدباء كانت تعني مجالسهم وما يطرح فيها من أدب وأخبار.
وقد لقي هذا الكتاب عناية كبيرة فقد ترجم إلى اللغات الأوربية [10] , وهذب وشذب [11] , ونشر عدة مرات في القاهرة وفي بيروت [12] .
أما (مجمع البلاغة) فهي المخطوطة التي قمت بتحقيقها من أعمال الراغب، وقد وجدت من التحقيق أنها في أغلبها مأخوذة من كتاب المحاضرات, لذلك فهي تأخذ منهاجه ومادته إلى حد ما, ولكنها تتميز عنه بغزارة المادة اللغوية في صيغ الأفعال وصيغ الأسماء والتراكيب الأدبية، وما بين متشابهاتها من فروق دقيقة.
وقد وقعت المخطوطة في نحو من مائتي ورقة تنتظم خمسة عشر فصلا, ذكرها السيوطي فيما وقف عليه من آثار الراغب باسم (أفانين البلاغة) . وذكرها غيره من بين مخطوطاته. ويبدو أن مصنفها أراد من كلمة (البلاغة) المعنى الأدبي الذي يعني ببليغ القول وفصيحه من شعر ومن نثر، ولم يرد المعنى الاصطلاحي منها. أما كلمة (مجمع) فإنه يريد منها أنها تجمع فيها كل أركان الفصاحة والكلام البليغ.
أما كتاب (مفردات ألفاظ القرآن) فسيأتي الحديث عنه في تبيين أثر الراغب اللغوي- إن شاء الله-.
خطة بحث:(24/31)
فإذا ما حاولنا بعد ذلك التعرف على جهوده في ميدان اللغة فإننا سنجدها مبثوثة في مصنفاته الأدبية أو في مفردات ألفاظ القرآن بوجه خاص أو في سائر مصنفاته. وقد برزت له معها جهود لغوية أخرى يمكن أن نجمعها في شكل قضايا لغوية متفرقة، سنعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نقف على ما حوت مصنفاته أولاً من هذه الجهود.
أما في مصنفاته الأدبية فقد عني باللغة عناية خاصة تمثلت في تجميع مفرداتها المتلاقية المعاني المختلفة الأشكال في أسر لغوية، تجد ذلك في الأفعال وفي الأسماء وفي التراكيب التي يقترب بعضها من بعض في الدلالة وتختلف عنها في الصياغة.
ففي معنى (الكبر والضعف) يقول: "احقوقف ودنف وتأطَّر وانحنى، وخانته القوى، وخذلته الأركان، وتقوس من الكبر، وبلِي كما يبلى الشجر، غيض بصره وأجلاده، ولان أجياده، صار كعظم الرمة البالي" [13] فالأفعال الأربعة الأولى أفادت المعنى بنفسها، أما سائر أفعال هذا المعنى فلم تتضح إلا بإكمال التركيب الذي ترد فيه.
وفي جميع المفردات الاسمية التي تنتظم تحت معنى واحد وفي توضيحها ننظر إلى المثال التالي: "القَرْم أكل الصبيِ والخضْد للعقل والخَضْم للرطب والقَضْم لليابس، والقطم بأطراف الأسنان كالرمان، والكَشْم والكَشْذ كنحو القثاء، والَمسْغ والمسع كالبطيخ والكَشْب للحم، والعَلْك لكل معقود والكشّ لذوات الحافر" [14] .
أليس يذكرنا الراغب في مثل هذه المجموعات، وما أكثرها في مجمع البلاغة بوجه خاص وفي المحاضرات، بما عرف في فقه اللغة بالفروق والذي ظهر بشكل واضح في كتاب أبي منصور الثعالبي (فقه اللغة وسر العربية) ؟.
إن الباحث حينما يتعمق في هذه المجموعات اللغوية أو الأسر اللغوية في أعمال الراغب، يجد أنه لا يبعد كثيراً عن المراحل المتتالية التي قطعتها معاجم المعاني حتى ارتقت في كتاب الثعالبي في الشرق وفي مخصص ابن سيده في الغرب [15] .(24/32)
ففي (القِرى) يقول الراغب: "المأدُبة والوليمة والعُرْس والخُرْس والإعذار والنقيعة والوكيرة والعقيقة والوضيمة للدعوات" [16] ولدى البحث نجد لهذه الأسرة اللغوية أصلاً في كتاب (تهذيب الألفاظ) لابن السكيت [17] ، حيث يقول: " ... ِ والوليمة طعام العرس.. والوكرة والوكيرة الطعام الذي يصنعه الرجل عند فراغه من بناء داره فيدعو عليه، والإعذار والعذره طعام الختان.... والنقيعة طعام الأملاك.... ويقال لطعام الولادة الخُرس والذي تطعمه النفساء الخُرْسة ... " [18] .
إن مقابلة هذه المجموعة اللغوية في الكتابين تدل على أن الراغب قد اطلع على ما في تهذيب الألفاظ ولم ينهج منهاجه في التفصيل فيما بين المفردات المتشابهة من فروق. ولنتأمل المجموعة اللغوية التالية في أثار الراغب:
"تقول في إصلاح الفاسد: أصلح فاسدَه وحصد معانده وقَوَّم مائده ولمَّ شَعْثَه ورَمَّ رَثّه ومنتكثه وآسى كَلْمَه، حسم الأدواء بكيّه وإنضاجه وِادمل الجروح بطبه وعلاجه، رتق الفتوف بعد تفاقمها واستفحالها ... نهض إلى فَتْق فرتَقَه وخرْق فرقعه وشَعْثٍ فلّمه ونشرٍ فضّمه.... تألف النافَر، سد مختله واصلح معتلّه ... " [19] .
ولنتأمل معها المجموعة اللغوية الأخرى من الألفاظ الكتابية للهمذاني (320 هـ) :
"في باب معنى أصلح الفاسد تقول: لم فلان الشعث وضم النشر ورَمَّ الرث وسد الثغر ورقع الخرق ورتق الفتق وأصلح الفاسد وأصلح الخلل وجمع الشتات وجبر الوهن" [20] .
إننا نجد أن لا بد من وجود علاقة تَأثّرٍ بين المجموعتين، أو المجموعة الواحدة في الكتابين، على الأصح. فكما أن الراغب أفاد من ترتيب سابقه كذلك شقق التعابير ووسّع فيها، في إطار المعنى العام الواحد لمختلف التعابير.(24/33)
وقد صنَّف في مثل هذه المجموعات اللفظية قدامة بن جعفر، أيضا، كتابا في (جواهر الألفاظ) [21] وكان الفصل الأول فيه باب إصلاح الفاسد. وقدامة من كتاب القرن الرابع الذي أظل الراغب، فيما نرجح، وأظل أبا منصور الثعالبي. ويبدو أنهم لم يكتفوا بمرحلة السمع والتأنقات اللفظية بل تخطوها إلى التأليف في الألفاظ، كما يلاحظ باحث حديث [22] ، وهو يعني أنهم جعلوا ينظرون إلى الألفاظ نظرة تفوق ما بينها من محسنات إلى مستوى تجميعها في أسر ومجموعات.
وقد نجد أن الراغب كان يغتنم فرصة التعبير الغامض فيبادر إلى شرحه من خبرته اللغوية، شرحا معجميا، دقيقا، مثل قوله: "اللَّفَفُ أن يدخل بعض حروف في بعض، والعُقْله أن يعتقل لسانه، واللّكْنَه إذا دخل حروف العجم منه والحُكْلة نقص في آلة الكلام " [23] . وكثيرا ما يرد الكلمات إلى معانيها اللغوية الأولى التي اشتقت منها، كقوله: "كَعَمه الخوف من الكِعام الذي يوضع على أنف البعير" [24] وقوله: "المخضرم الذي لحق الجاهلية والإسلام, وقيل مخضرم الدولتين لمن لحق بني أمية وبني العباس وأصله من لحم مخضرم أو من المخضرمة وهى القطعة التي تقطع من أذن الناقة " [25] .
أما ما في المفردات ثم ألفاظ القرآن من جهود لغوية فإننا نحاول أن نتعرف عليها الآن، بعد ما حاولنا الإشارة إلى ما في هذا المصنف الكبير من أثر في التفسير القرآني ولنتعرف على منهجه في هذا المصنف وعلى غايته من تصنيفه من مقدمته، يقول فيها: " وقد استخرت الله في إملاء كتاب مستوفي فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي، فتقدم ما أوله الألف ثم الباء على ترتيب حروف المعجم، معتبرا فيه حروفه الأصلية دون الزائدة، والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب" [26] .(24/34)
إنه، أولاً، يريد أن يقيم مؤلفه على ألفاظ القرآن لا على معانيها وبذلك يقترب من عمل المعاجم التي تعنى بشروح الألفاظ.
وهو، ثانياً، ينوي أن يرتب هذه الألفاظ باعتبار أوائلها وفقا لترتيب حروف الهجاء: الألف مع الباء والألف. ثم الألف مع الباء والباء، ثم الألف مع الباء والتاء ثم الألف مع الباء إلى ... الياء، وهكذا يفعل بسائر الحروف.
وهو، ثالثا، يبدأ بالحروف المجردة للكلمة قبل أن يأخذ في مزيداتها، وهي طريقة المعاجم.
وهو، رابعا، يشرح تحت المادة المجردة كل ما اشتق منها وناسبها، أي اقترب من لفظها، من الألفاظ القرآني.
ولنختر مادة من مواد هذا المصنف، لنرى إلى أي مدى حقق الراغب عملياً هذا المنهاج، ولنبحث عما يميز كتابه هذا عن أعمال سائر اللغويين، ولتكن مادة حَسُنَ:
حَسُنَ:
الحُسْن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه. وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحسّ.
والحَسَنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله.
والسيئة تضادها، وهما من الألفاظ المشتركة، كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة، كالفرس والإنسان وغيرهما. فقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي خصب وسعة وظفر، وإن تصبهم سيئة أي جدب وضيق وخيبة. وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} . وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، أي من ثواب، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} أي من عقاب.(24/35)
والفرق بين الحُسْن والحَسَنة والحُسْنى أن الحسن يقال في الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفا، وإذا كانت اسماً فمتعارف في الأحداث، والحسنى لا يقال إلا في أحداث دون الأعيان، والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر؛ يقال: رجل حسن وحُسّان وامرأة حسناء وحسانه. وأكثر ما جاء في القران من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي الأبعد عن الشبهة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا شككت في شيء، فدع"، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي كلمة حسنة وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} .
وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} .
وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} , إن قيل: حكُمه حَسَنُ لمن يوقن ولمن لا يوقن فلم خص؟ قيل: المقصد إلى ظهور حسنه والاطلاع عليه وذلك يظهر لمن تزكى واطلع إلى حكمة الله تعالى دون الجهلة. والإحسان: يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير؛ يقال: أحسن إلى فلان، والثاني: إحسان في فعله؛ وذلك إذا علم علماً حسناً أو عَمل عملاً حسناً, وعلى هذا قول أمير المؤمنين -رضي الله عنه-: "الناس أبناء ما يحسنون"أي منسوبون إلى ما يعملون.
وما يعملون من الأفعال الحسنة قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} .(24/36)
والإحسان أعم من الإنعام؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} فالإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، فالإحسان زائد عن العدل. فتحري العدل وأجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع. وعلى هذا قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . وقوله عز وجل: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . ولذلك عظم الله ثواب المحسنين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , وقال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} , {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} .
ولدى التأمل في هذا النص قد نلاحظ الملاحظات التالية:
أولاً- إن كتاب المفردات معجم خاص , وقد توفر على الشرطين الأساسيين اللذين توفرت عليهما سائر المعاجم اللغوية وهما الترتيب والشمول [27] . فها هو ذا قد رتب مفردات القرآن الكريم جميعها تقريبا [28] حسب حروف الهجاء باعتبار أوائلها، فمادة (حَسب) تسبق (حسد) وهما تسبقان مادة خرج وهلم جرا.
ونقول: هو معجم خاص؛ لأنه يختص بما ورد في القران الكريم فقط من مواد لغوية. وبهذا قد يكون تفرد من بين أصحاب المعاجم الذين سبقوه. ولعل المعاجم الخاصة لم تظهر إلا متأخرة في اللغات الأجنبية وفي لغتنا العربية [29] .
ثانياً- ترتيب معجم المفردات على أساس حروف الهجاء مع مراعاة أوائل الأصول.(24/37)
لقد وردت مادة (حسن) في هذا المعجم في نهاية قائمة الحاء والسين وما يثلثهما: حَسّ، حسب، حَسد، حسر، حسم، حسن. ثم وردت بعد مادتها (حشر) وما يشتق منها. وهكذا يكون قد نظر إلى حرف الحاء- مثلاً- في الترتيب، وهو بذلك يخالف ما عرف قبله من معاجم ترتب المواد حسب مخارج الأصوات, أو اعتبار الحرف الأخير من المادة، كما عرف في معجم العين للخليل (170 هـ) , وتاج اللغة العربية, وصحاح العربية للجوهري (393) , ويوافق في طريقته طريقة ابن دريد الأزدي (331 هـ) في الجمهرة في اللغة, وابن فارس (395) الذي نرجح أن الراغب كان معاصراً له، في معجميه (المجمل) , (ومقاييس اللغة) .
ثالثاً- ثنائية اللغة- ويبدوا أن الراغب قد تأثر بابن دريد أكثر من غيره؛ وذلك أننا لو نظرنا إلى قائمة الحاء والسين وما يثلثهما لوجدناه يبدأ فيها بالفعل حَسَّ ثم يأتي بعده الحاء والسين والباء. وكذلك في مادة (حَضَّ) ومادة (مَزَّ) . أليس يدل هذا على أن الراغب كان يرى ثنائية اللغة وأنها أولاً ذات أصول ثنائية؟ وقد كان ابن دريد يقسم اللغة إلى ثنائي وثلاثي ورباعي وقد لاحظ هذا في الراغب العالم اللغوي الأب انستاس الكرملي, وقال: "إنه تشبث بالثنائية" [30] ، وذكر باحث آخر ذلك بإعجاب قائلاً: "إن الثنائية سمة اللغات السامية" [31] .
ومما قد يساعد على هذا أن الراغب قد أفرد للمواد الرباعية أبواباً خاصة ولم يلحقها بالثلاثي مثل: عبقر، وعسعس، وشرذم، وسرمد، وِما ذاك إلا أنه يوافق رأيه في القول مع القائلين إن الرباعي ثنائي مضعف، فزلزل مثلاً من زلّ وعسعس من عَسَّ.
رابعاً- الخبرة اللغوية - يبدو أن الراغب يدل بثقافة لغوية عريضة، يناقش فيها ما يورد اللغويون قبله بثقة اللغوي واقتدار المفكر، ففي مادة (بعض) نراه يقول:(24/38)
"بعض الشيء جزء منه..... ويقال ذلك بمراعاة كل، ولذلك يقابل به كل, فيقال: بعضه وكله.... قال أبو عبيدة: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه كقول الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
وفي قوله هذا قصور منه؛ وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب:
1- ضرب في بيانه مفسدة فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه كوقت القيامة ووقت الموت.
2- وضرب معقول يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه, ألا تَرى أنه كيف أحال معرفته على القول في نحو قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} , وقوله: "وتفكروا"وغير ذلك من الآيات.
3- وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه.
4- وضرب يمكن الوقوف عليه بما يبينه صاحب الشرع كفروع الأحكام. وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسب ما يقتضي اجتهاده وحكمته.
فإذاً قوله تعالى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} لم يرد به (كل ذلك) وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه. وأما قول الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
فإنه يعني به نفسه، والمعنى ألا أن يتداركني الموت، لكن عَرّض ولم يصرح حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته.(24/39)
بهذه القدرة اللغوية في فهم النصوص القرآنية والأشعار يناقش الراغب أبا عبيدة معمر بن المثنى أحد شيوخ اللغة والنحو في بداية القرن الثالث الهجري، ويظهر خطأه في أن معنى كلمة (بعض) في الآية {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو (كل) وذلك بفقه شرعي متميز يوضح ما يجوز لصاحب الشرع أو للنبي عليه السلام أن يبينه وما لا يجوز له أن يبينه، وبالتحاكم إلى فهم سليم لنصوص الشعر، في شطر بيت الشعر المنسوب إلى لبيد، حيث يعني نفسه ولم يعن كل الناس، وننظر إلى قوله: "وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه"، إنه يريد أن يقول هذا ظاهر في كل نظر متجرد عن الهوى وبالنظر الموضوعي، كما نقول في هذه الأيام. ولننظر إلى قوله: "حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته"أليست نظرة واقعية إلى طبائع الناس في استبعاد ذكر موتهم، في هذه الحياة؟
خامساً- تطور اللغة- ويبدو أن أبا القاسم الراغب لا يتوفر على خبرة لغوية واسعة وعلى فهم دقيق لأسرار هذه اللغة وحسب؛ بل إن خبرته اللغوية قد مكنته من إدراك التطور الذي أصاب اللغة العربية منذ مرحلة النشأة الأولى التي تبدو في مفرداتها المطلقة على الأمور المادية المحسوسة إلى مرحلة التطور والتقدم الذي أخذت فيه هذه المفردات دلالات اصطلاحية ومعنوية جديدة, ولننظر لذلك فيما قال في كلمة (الفارض) :
" (والفارض) : المسنَّ من البقر، قال: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} ، وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض أي قاطعا، أو فارضا لما يعمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنّة يصح بذلها في كل حال. فسميت المسنّة فارضة لذلك. فعلى هذا يكون الفارض اسماً إسلامياً".(24/40)
يريد أن كلمة (فارض) بمعنى المسنة من البقر معنى ظهر في اللغة بمجيء الإسلام، فهي لم تعرف هذا المعنى من قبل، وقد عرفت بدلالتها المادية في فرض الأرض أي قطعها وتشقيقها في الحراثة أو بما يماثله من الأعمال الزراعية الشاقة.
وبهذا يدل الراغب على تنبهه لمعاني المفردات في المعنى المادي وفي المعنى الاصطلاحي المعنوي الذي يواكب التطور الحضاري. وهو سبق أرَى أنه يدل على عقلية متفتحة وسبر للغة العربية نادريَن، فكثيراً ما شغل الباحثون في عصورنا الحاضرة عن الألفاظ الإسلامية التي أضفاها الإسلام على العربية [32] .
سادساً- الراغب والمعاجم اللغوية - رأينا أن مفردات الراغب في ألفاظ القرآن معجم خاص بكل ما في المعاجم من شمول وترتيب وخبرة لغوية دقيقة. ولذا فإننا لا نستغرب إذا وجدنا أنه ما من مفسر لكتاب الله العزيز أو متفرغ لمعاجم اللغة يأتي بعد عصر الراغب، الذي رجحنا أنه عاش إلى أوائل المائة الخامسة للهجرة، إلا يحتاج من هذا المعجم الفريد، بصريح الإشارة إلى المصنف أو صاحبه أو دونما إشارة.
أما القول بأن معجم (أساس البلاغة) الذي صنعه جار الله بن محمود الزمخشري (538) في اللغة، وإنه مقتفٍ لأثر الراغب في ترتيب مواده اللغوية فهو قول قد يصح ويجوز، وقد يدفعه رأي آخر بأنه تطور طبيعي بدأه ابن دريد الأزدي وسار الآخرون على سنته.
أما في سائر مصنفاته فإننا نجد الخبرة اللغوية أيضا تتضح في تناول الراغب كثيراً من مفردات اللغة بالشرح والتوضيح بين المعاني المتقاربة للألفاظ المتباعدة.
فلننظر في تناوله لكلمة (الإبداع) في أحد هذه المصنفات [33] : "فالإبداع هو إيجاد الشيء دفعة لا عن موجود ولا ترتيب ولا عن نقص إلى كمال، وليس ذلك إلا للباري تعالى، وإن كانت العرب تستعمل الإبداع فيمن يحفر بئراً في مكان لم يحفر فيه قبل".(24/41)
إنه يعيد المادة إلى معناها اللغوي المادي، وفي مصنف آخر [34] يقفنا على مراحل الكلام بدقة الخبير:
"إعلم أن المعنى إذا كان في النفس فعلْم، وإذا انتهى إلى الفكر فروية، وإذا جرى به اللسان فكلام، وإذا كتب باليد فكتابة، فهو بالذات شيء، وتختلف عليه الأسامي بحسب اختلاف الأحوال به، وذلك كما أن القطن مادام بحالته قطن، فإذا غزل فهو غزل، فإذا نسج فثوب، فإذا خيط فقميص أو جُبّة"
إنه يبين لنا (حدود) هذه الكلمات التي عندما تنتهي تبدأ حدود كلمة أخرى. وقد سوغ هذا التقسيم بأن الأسماء تختلف باختلاف الأحوال، ووضحه بمثال القطن الذي يشبه حالات المادة الواحدة الثلاث بين الصلابة والسيولة والغازية.
وفي أثر ثالث للراغب نجد الكثير مما يدل على تسخير اللغة لفهم المتشابه من آي القرآن الكريم وما بينها من الفروق الدقيقة التي تغمض لدى الكثيرين، ونعني مخطوطة (درة التأويل في متشابه التنزيل) التي يتحدث عنها في جهود الراغب في التفسير.
قضايا لغوية:
ويمكن للباحث أن يستخرج رأي الراغب في مجموعة من القضايا اللغوية التي تهم الباحثين اليوم.
الترادف:
لقد أكثر الراغب من حشد أسر الألفاظ اللغوية من أفعال وأسماء وتراكيب، كما رأينا في محاضرات الأدباء ومجمع البلاغة، بدوافع تعليمية كانت تحفزه إلى جمعها بعضها إلى جانب بعض ليفيد منها المتعلمون من أبناء عصره. وكان يجمع في الأسرة الواحدة المفردات التي تتقارب معانيها وتتباين موادها اللغوية. وهذا يحملنا على التساؤل عن موقف هذا اللغوي من الترادف في اللغة هل كان ممن يراه ويثبته أم من الذين يرون فيه رأيا آخر؟(24/42)
للإجابة عن هذا السؤال نستذكر المثال الذي ساقه لنا قبل قليل عن مراحل الكلام، حيث قال: "إذا كان المعنى في النفس فهو علم، فإذا خرج إلى الفكر فهو روية، وإذا جرى به اللسان فهو كلام، وإن كتب باليد فكتابة"؛ فإن بين العلم والروية, وبين الكلام والكتابة ما قد وضحه من فرق وحدده، وهو فرق في الدرجة أو الحالة، كما بين القطن في حالاته المختلفة من فروق. ولنتأمل قوله: "تختلف عليه الأسامي بحسب اختلاف الأحوال به"أي أن بينها من الفرق الدقيق الذي لا يوجده إلا اختلاف الحالات.
كذلك نستذكر سخريته ممن يظنون أنهم إذا فسروا قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : بالشكر لله, فقد فسروا القرآن، حيث قال في المكان نفسه إنه يريد أن يبين أن قوله تعالى {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} , وقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} , وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} مختلف بعضه عن بعض اختلاف ما بين أولي الأبصار وأولي الألباب وأولي النهى [35] .
أليس يدل هذا على أنه يصر على أن فروقا لا بد قائمة بين هذه المفردات التي يحسب المتسرع أنها واحدة في معانيها؟ ومع ذلك فإننا نبحث عن أمثلة مما طرحه من المجموعات اللغوية.
إنه مثلاً يفرق بين مقامات الكلام على النحو التالي، فيقول: "منابر الخطباء، ومقامات الشعراء، ومجالس الفقهاء ومقرأة القرآن ومدرسة العلماء ومجمع الأشهار ومجامع القصاص وحلق أهل الذكر ومهبط الوحي ومعدن التلاوة" [36] ، إنه هنا وضح لنا الفرق في هذه المقامات العلمية عن طريق إضافتها لما هي مشهورة به، ولولا هذا التوضيح بهذه الإضافة لانبهم علينا الفرق بين المجالس والمدارس والمجامع.(24/43)
ويقول في مثال ثان عن (الدَرْس) : "القراءة للتحفظ، ونحوه التلقين والمطارحة، والإلقاء للتعليم، والتقطيع للعروض، والتلاوة للقرآن، والإنشاد للأشعار وكذلك الرواية، والرواية للحديث، وكذلك السرد، والهذّ إجادة القراءة، والإملاء فيما يكتب، والتفسير والتأويل للغريب، والتعبير للرؤيا، والحل للمشكل" [37] .
إنه يقفنا بدقة الخبير اللغوي على مدى ما بين هذه المفردات المتقاربة المعاني المتباينة المباني من فروق دلالية لئلا يظن الظانون أن الواحدة منها تجوز في مكان الأخرى. إنه يلتقي في ذلك مع قول القائلين بنفي الترادف؛ "لأن في كل واحدة من الألفاظ المتجانسة معنى ليس في الأخرى" [38] .
وإذا قلبنا في مصنفاته الأدبية صفحات أكثر وجدنا أنه يسرد بعض مفردات الأسرة الواحدة دون إضافة كقوله: "ودَّه، وصافاه، وخالصه، وخادنه، وقارنه، وعاشره، وسامره، وألفه، وحالفه، وصاحبه، وواكبه.... وهي أفعال في المحبة ومعاني المعاشرة" [39] ولكنه في مجموعات أخرى يوضح الأصل والفرع كقوله: "الإثم والفجور، كنايات عن الكذب" [40] , وقوله (في أسرع) : "أسرع وألهب وأهذب، أما هب وعصف ومطر وطار وانقض واضطرم والتهب وترامى فكنايات عن العدو" [41] . وليس عبثاً قوله: "تقول في وصف سيف: ماض وحسام وصمصام ومهند ومخذم ... " [42] ، فإنه يذكرنا بالحكاية التالية التي يسوقها من لا يقبل بالترادف "قال أبو علي الفارسي: كنت بمجلس سيف الدولة بحلب, وبالحضرة جماعة من أهل اللغة, ومنهم ابن خالويه, فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسما، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسما واحداً هو السيف، قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفات" [43] .
دفاع عن القوالب الأدبية:(24/44)
لقد كثر في محاضرات الراغب ومجمع بلاغته التراكيب الأدبية التي جمعها من مأثوِر المنثور من تراث الأدب العربي حتى عصره، وذلك كقوله في الكنايات عن الموت: "قَرَض رباطه، ولعق إصبعه، استوفى أكله أي استوفى رزقه كناية عن الموت، جَرِضَ بريقه واصفرت أنامله، واستأثر الله به، ونقله إلى جواره، وتوفاه، خصه الدهر، ونقبت عنه المنية، ولاقى الذي يشعب الفتيان فانشعبا، اخترمته المخارم، وَجَبَتْ نفسه، ونضب عمره، اعلق أسباب المنية، ودع الدنيا، خلّى مكانه، وتهدم عرشه، وسالت مقامته، وشرق بدم الوتين أخنى عليه الذي أخنى على لبد، قامت عليه النوائح، هوت أمه، ضمت عليه المقابر.... طارت عقاب المنايا في سقائفه.... الخ" [44] .
وفي العصر الحديث برز على ألسنة بعض نقاد الأدب ما يقف من هذه القوالب الأدبية في الكتابة الفنية، موقفا مغايرا. فهي عندهم دلائل صنعة لفظية ظلت تخنق الإبداع في النثر قرونا من الزمان، بما فيها من أشكال أدبية تشبه (الكليشهات) القديمة التي تفرض نفسها على الأسلوب الحديث. فإن بعض هذه التراكيب قد أصبحت مبتذلة لكثرة ترديد الأجيال لها, حتى صارت تفقد معناها من كثرة الاستعمال، فهل يعرف الناس المعنى الحقيقي لقولهم: "رفع عقيرته", وقولهم: "نسج على منواله", وقولهم: "الشمس في كبد السماء كدرهم"؟ [45] .(24/45)
وقد لاحظ أحد الباحثين أن بعض هذه التعبيرات قد أصبح مبتذلاً إما لكثرة الاستعمال كقولهم: "شط المزار"مثلاً، وإما لتغير العصور كوصف العاشق لفتاته بأنها واضحة الأنياب, وإما لعدم الوقوف على المناسبات الأولى لإطلاقها كقولهم: "رفع عقيرته" [46] . ولاحظ أيضا أن ثمة تعبيرات لا يمكن الاستغناء عنها وعن ترديدها من مثل الكلمات الواضحة الدلالة التي اكتسبت عراقة الدوام مثل أسر الصبا وصروف الدهر ومثل الصفات الغالبة الباقية العقاب الكاسر، والبرج الشاهق ومن مثل تشبيهات الشعراء المتصلة بالعواطف الإنسانية الباقية مع الإنسان [47] .(24/46)
إن الباحث حينما ينظر في هذه الدعاوى يجد أن الدافع إلى هجر هذه التراكيب هو سيطرة الصنعة اللفظية على الكتابة منذ عهود القاضي الفاضل والحريري، بما فيها من إيثار للشكل وغرام بتزويق الألفاظ دونما احتفال بما تحتها من معانٍ. ولكن ما يمكن أن يكون متبعا للقديم، في عصر من العصور، لا ينبغي أن يكون سببا في الإزراء بكل ما خلفته جميع العصور من هذا اللون الأدبي. فليست العصور النثر الفني متصفة بأسرها بهذه الصفة. فلنبحث عن نثر فني ظهر في جيل وكان كبير التأثير في الناس، في عصره ولم يزل ذا تأثير مماثل إلى أيامنا هذه. وأول ما يخطر في البال في هذا الصدد الأسلوب القرآني المعجز الذي تكفل الله -جل وعلا- بحفظه مادامت السموات والأرض. ثم أتت من بعد ذلك عهود على النثر الفني كان رفيع القدر عالي التأثير في آثار كتاب العصر العباسي الأول الكثيرين. أفهل كان نثر الجاحظ والتوحيدي وابن العميد مطلقا من القوالب اللفظية؟ ولماذا جهد ابن السكيت والهمذاني وقدامة بن جعفر في التأليف في هذه القوالب وتدوينها وجمعها في أسر ومجموعات؟ ألم يقدم هؤلاء للغة والأمة والتراث خدمات جليلة فيما كانوا يرمون إليه من أهداف تعليمية يتمنون أن ينشأ عليها شداة الأدب في عصر تشعبت فيه آثار الشعوبية وفشا فيه أثر اللحن. ثم إن كان هذا يصدق في العصر العباسي الأول أفلا يصدق على أبناء العربية اليوم؟ في زمن أصبحت اللغة العربية تزاحمها اللهجات المحلية والعامية والركاكة والأساليب المستهجنة؟.
إن الحفاظ على اللغة بما فيها من تراكيب ودلالات يقع على عاتق أبنائها. فهي من مسئوليتهم القومية والدينية والحضارية قبل أن تكون تراكيب وقوالب، فإذا شاءوا أن يقفوا وراء هذه اللغة أبقوا فيها الحياة. أليس المعوّل عليه في هذه التعابير هو أن تعيش في أنفس قائليها كما قال أحد الباحثين؟ [48] .
الاشتقاق:(24/47)
عندما أراد الراغب أن يشرح في (مفردات ألفاظ القران) ، مادة (حسن) ومشتقاتها عرّف الحسن بالبهجة المرغوبة. وبعد هذا التعريف العام (للحسن) شرع في توضيح المعنى الخاص لكل المواد المشتقة من الحسن مثل الحسنة والحسَن والحسنى وأحسن والحسنيين والإحسان.
وبهذا ترى أن الراغب قد تأثر بابن دريد في (جمهرة اللغة) في الأخذ بنظرية الاشتقاق، وحينما توقف عند المعنى العام لأصل المشتقات، حيث تلتقي جميعها. وبعد أن شرح المعنى العام مضى يوضح ما تختص سائر مفرداته.
يقول ابن جني في تعريف هذا اللون من الاشتقاق، ويسميه الاشتقاق الصغير:
"فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم، كأن تأخذ أصلاً من الأصول فتقرأه فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه، وذلك كتركيب (سَلِمَ) فإنك تأخذ من معنى السلامة في تعريفه نحو سلم ويسلم ويسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ أطلق عليه تفاؤلاً بالسلامة" [49] .
ومثله قد انطلق الراغب من معنى (الحسن) الذي هو الابتهاج والرغبة, ليحدد بعد هذا المعنى العام المعاني الخاصة في الحسنة والحَسَن والحسنى..... الخ تبعاً لما تضيفه أوزانها الصرفية على المعنى الأساسي.
ويبدو أن أبا القاسم الراغب قد عرف أيضا لونا آخر من ألوان الاشتقاق:
ولتوضيح ما نقول نوضح أولاً هذه الألوان المختلفة في الاشتقاق.
فالاشتقاق "هو أخذ كلمة من كلمة أو أكثر مع تناسب بينهما فاللفظ والمعنى" [50] ، وأشمل تقسيم لأنواع الاشتقاق ما قسمه أحد الباحثين وهو:
1-الاشتقاق الصغير، ومنه المشتقات السبع المشهورة: كاسم الفاعل، اسم المفعول واسم المرة، والهيئة، والزمان، والمكان، واسم التفضيل.
2- الاشتقاق الكبير، وهو انتزاع كلمة من أخرى بتغيير في بعض أحرفها مع تشابه بينهما في المعنى، واتفاق الأحرف الثابتة وفي مخارج الحروف المتغيرة، وذلك نحو جثا وحذا، وبعثر وبحثر.(24/48)
3- الاشتقاق الكُبار، وهو ما أسماه ابن جني الكبير أو الأكبر مثل ملك وتقلباتها.
4- الاشتقاق الكبّار، بتشديد الباء، وهو المعروف عند اللغويين بالنحت كالدَمْعَزة من دام عزّك [51] .
وعن الاشتقاق الكُبار يقول ابن جني:
"وأما الاشتقاق الأكبر: فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، فإن تباعد شيء من ذلك عنه رد بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد (مثل أصل كلم الذي يؤخذ منه كمل وملك وكلم ولمك) " [52] .
ويمثل هذا اللغوي الكبير على ما يقول بمادة (جَبَر) التي تعني أصلاً القوة والشدة وما يظل قريباً من معناها هذا من تقاليبها الستة: الجبر والبرج والجراب والمجرّب.
وهذا اللون من الاشتقاق الذي شهر به ابن جني وأستاذه أبو علي الفارسي، والذي يقول أحد الباحثين إنه يدل على تطور لغوي جيد، هو الذي قلنا إن الراغب قد عرفه.
ففي مادة (فكر) في المفردات يقول:
"رجل فكّير كثير الفكرة: قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو ترك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها".
وفي مادة (وجه) يقول الراغب: "وقال بعضهم: الجاه مقلوب عن الوجه".
وفي مادة فسر يقول الراغب:
"الفَسْر والسَفْر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عن البول تفسره وسمي بها قارورة الماء، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار. فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح".
نلاحظ في هذا النص قوله عن (الفسر والسفر يتقارب معناهما لتقارب لفظيهما) وهو ما يريده الاشتقاقيون بالاشتقاق الكبير.(24/49)
وننظر في مثال آخر وهو يعرض لأنواع الأكل، وقد عرضنا له من قبل أيضاً، يقول: "القرم أكل الصبي، والخضد للبقل، والخضم للرطب، والقضم لليابس، والقطم بأطراف الأسنان كالرمان، والكشم والكشذ لنحو القثاء، والمسغ والمسع كالبطيخ".
ألا نلاحظ علاقة لفظية ومعنوية بين الخضد والخضم، وبين الخضم والقضم والقطم، وبين الكشذ والكشم، وبين المسغ والمسع؟ إنني أحسب أن الراغب لم يرتب هذه الأزواج اللفظية وهذه المفردات المتقاربة الألفاظ والمباني عبثاً، وما أحسبه حينما قال (أحد الأدباء) ألا يعني في العلاقة بين فكر وفرك، إلا أحد اثنين هما ابن جني وأبي علي الفارسي.
ولا حاجة بنا إلى أن نمثل على أثر الاشتقاق في تنمية ألفاظ اللغة على مر العصور، وعلى أثر الراغب الأصفهاني في هذه التنمية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع بروكلمان 1/ 269 والأعلام 2/279 ومعجم المؤلفين4/59.
[2] راجع بغية الوعاة 396 وكشف الظنون1/530.
[3] فلم يترجم له معجم الأدباء ووفيات الأعيان وسير أعلام النبلاء وتاريخ بغداد مثلاً.
[4] مثل أبحاث أحمد أمين وزكي مبارك وآدم متميز وكتب تاريخ الأدب العربي.
[5] جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، دار الهلال ج3.
[6] د. عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي 3/214.
[7] طبعة دار مكتبة الحياة، 1960، في مجلدين.
[8] ترجمة فلوجل-دائرة المعارف الإسلامية المجلد9 عدد1 ص 407.
[9] طبعة دار مكتبة الحياة 1960 في مجلدين.
[10] نشره إبراهيم زيدان عام 1902 مختصرا، ونشره أنور الجندي عام 1960 مختصراً، وزارة الثقافة المصرية.
[11] طبع عام 1284 بمطبعة بولاق وعام 1287 بالمطبعة العثمانية و1305 بمطبعة جمعية المعارف، 1310 بالمطبعة الشرفية، 1322 مطبعة السعادة، 1326 المطبعة العامرة.(24/50)
[12] طبعة دار مكتبة الحياة 1960 في مجلدين.
[13] جمع البلاغة ص 241.
[14] مجمع البلاغة 358 ولعله يريد بالكش صوت ذوات الحافر وهي تأكل.
[15] راجع لذلك المعجم العربي، نشأته وتطوره، د. حسين نصار. وحركة التأليف عند العرب د. أمجد الطرابلسي.
[16] مجمع البلاغة 392.
[17] يعقوب بن اسحق (244هـ) حققه وفهرسله9 لويس شيخو بيروت 1895.
[18] المصدر السابق ص614.
[19] مجمع البلاغة ص 175.
[20] من فصل من فصول الباب الأول من الألفاظ الكتابة لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، حققه ونشره لويس شيخو بيروت الوضيمة: طعام المآتم. النقيعة: ما يذبح للضيافة أو طعام الرجل ليلة عرسه.
[21] تحقيق محيى الدين عبد الحميد،القاهرة،1934.
[22] د. زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع.1/86.
[23] مجمع البلاغة ص57.
[24] مجمع البلاغة ص193.
[25] مجمع البلاغة ص53.
[26] طبع بعناية محمد سيد كيلاني.
[27] راجع لذلك حركة التأليف عند العرب وأمجد الطرابلسي، والمعجم العربي، نشأته وتطوره د. حسين نصار.
[28] أقول تقريبا لأنني اطلعت على استدراك مخطوط عليه عدد مواد قرآنية لم يتعرض لها، رقم ض448 مكتبة راغب باشا باستانبول.
[29] لم تعرف في لغتنا إلا حديثا معجم المصطلحات الزراعية، والمعاجم الطبيعية والفلسفية والاجتماعية مهلاً.
[30] راجع لذلك دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح ص162، وهذا يوافق رأي الكرملي.
[31] المرجع السابق، ص164.
[32] ولنلاحظ استخدامه لكلمة الفريضة في قوله (فريضة البقر اثنان) وهو تركيز على المعنى اللغوي لها، جاء في القاموس المحيط (أن الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة) . ولا ننس المعنى الاصطلاحي لها فيما فرض الله على الناس مت أحكام.
[33] الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص219.(24/51)
[34] مخطوطة تحقيق البيان، الورقة رقم9.
[35] مقدمة مفردات ألفاظ القرآن، للراغب.
[36] مجمع البلاغة ص71.
[37] مجمع البلاغة ص77.
[38] دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح: 343.
[39] مجمع البلاغة ص307.
[40] مجمع البلاغة ص83.
[41] مجمع البلاغة.
[42] مجمع البلاغة 300.
[43] المزهر للسيوطي 3م402 دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح 346/ 347.
[44] مجمع البلاغة ص499.
[45] على النجدي ناصف في كتاب له عن اللغة والأدب، وزكي مبارك، النثر الفني 1/180.
[46] د. زكي مبارك، النقر الفني في القرن الرابع، دار الجيل،1/180 أيضاً.
[47] المرجع السابق 1/181.
[48] د. زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الجزء الأول ص 110.
[49] عن كتاب (فقه اللغة) د. طه عبد الحمد طه، مطبعة دار التأليف، مصر، 1970، 2/152.
[50] المرجع السابق والصفحة.
[51] المرجع السابق والصفحة وهو يعني (بأحد الباحثين) الدكتور عبد الله أمين.
[52] المرجع السابق.(24/52)
صفحة لغة
قل..ولا تقل
للشيخ ضياء الدين الصابوني
الموجه التربوي للغة العربية بالجامعة الإسلامية
1- تَلعَة - تِلعة
التَلْعة: بوزن القَلْعة:
ما ارتفع وانخفض من الأرض فهو من الأضداد جمع تِلاع. قال طرفة:
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
ولستُ بحلاّل التلاع مخافةً
وهناك من يجمعها على (متالع) وهو خطأ.
ونزلتُ بتَلْعة كذا. وأعشبت الِتلاع.
2- سَنام - سِنام
السَنام: بالفتح أعلى الجمل واحد أسنمة الإبل ومنه سَنام الإسلام، وفي الحديث "وذروة سَنامه الجهاد" وهو سَنَام قومه، ورجل سَنِم: عالي القدر.
وجمل سَنم وناقد سَنمة: عظيمة السَنام.
3- نَضرة - نُضرة
النَضْرة: بالفتح بوزن البَصرة: الحسن والرونق وقد نضُر وجهه ينضُر بالضم.
(نَضْرةً) بالفتح أي حَسُنَ، ونضُر نَضْرةً ونضَارةً وفي التنزيل {نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي بريقه وروْنقه.
4- رَعبه - أرعبه
الرُعب: الخوف, رَعبَه يرعبُه كقطعه يقطعه.
رُعبا بالضم: أفزعه. ولا تقل: أرعبه.
5- معدِن - معدَن
بكسر الدال بوزن مجلِس.
تقول: فلان في معدِن الخير والكرم، وهو من مراكز الخير ومعادِنه. ومركز كلّ شيء معدِنه.
ويقال للمعادن كالحديد وغيره وللأصل معدِن أيضاً وكلّه بكسر الدال. يا أهلَ طيبة حيّا الله معدِنكم..
6- خلَق - خلِق أو خلْق
ثوب خلق: بفتح اللام أي بالٍ.
وخلَق: بالفتح يستوي فيه المذكَر والمؤنث فتقول: ثوب خلَق وملاءة خلَق.
قال الشاعر:
إنما الأحمق كالثوب الخلَق
اتّقِ الأحمقَ أن تصحَبه
7- الهناءة - الهَناء
الهناءة بالتاء: المسرّة. والهناء: القطران.
8- رُخاء: بالضم - رَخاء(24/53)
ريح رُخاء: لينة الهبوب، جاء في المختار: ورُخاء بضم الراء الريح اللينة.
وفي التنزيل {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}
9- قلْ: الحيْرة: بفتح وسكون - ولا تقل: حِيرة: بالكسر
تقول: أنا في حَيْرة من أمري.
حار الرجل في أمره فهو حائر وحَيْران. وامرأة حَيْرى.
وهم وهنّ حَيارى. والحِيرة: بالكسر مدينة في العراق بقرب الكوفة.
10- ميْدان - مِيدان
بفتح الميم.
قال الشاعر:
سُمُّ الخياطِ مع الأحباب مَيدان
رُحبُ الفلاة مع الأعداء ضيّقة
11- نضْج - نضوج
نضج نَضجاً ونُضجاً: بضم النون وفتحها.
وكثير من الكتّاب يخطئون فيها فيقولون: نضوج فكري ... والصواب نُضج فكري، نُضج اجتماعي ...
12- حماسة - حماس
الحماسة: بالفتح الشجاعة، وهم أهل السماحة والحماسة ومنه ديوان الحماسة لأبي تمام، وشعر الحماسة، وحماسة البحتري.
والحماس: ضرب من الشجر.
12- حدَب - حدْب
بفتح الدال.
الحدَب: ما ارتفع من الأرض و (الحدَبة) بفتح الدال أيضاً التي في الظهر.
تقول: جاء القوم من كلّ حدَبٍ وصوْب.
ولا تقل: حدْب: بسكوت الدال.
قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} آي من كل أكمة ومن كل موضع مرتفع.
14- أجبْ عن - أجبْ على
تقول: أجابه عن سؤاله, وأجبْ عن الأسئلة.... واستعمال بعض الأساتذة في الامتحان (أجب على الأسئلة) لحن.
15- حلْقة - حلَقة
بسكون اللام.
تقول: حلْقة الباب، وحلْقة القوم، وهم كالحلْقة المفرغة.
قال طرفة:
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
فإن تبغني في حلْقة القوم تلقني
قال أبو عمرو الشيباني: "ليس في الكلام حلَقة بالتحريك إلاّ الذين يحلقون الشعر".
16- هُرِع: بالضم - هَرع(24/54)
الإهراع: الإسراع، ويقال: أقبل الشيخ يُهرَع.
وفي التنزيل {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} .
وفلان يُهرع من الغضب والبرد والحمى.
كلمات لها معنى
قال عمر بن عبد العزيز: "إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه معاً".(24/55)
برهان الحق في الخلق (2)
د. عز الدين علي السيد
كلية اللغة العربية
مَنْ أخطَأوا سِرًها في حكمهم مانوا!
لله في الكون آياتٌ وبرهان.
عن الطعومِ..بها راوٍ وغَصانُ.
انظر ذَوَاتِ الجهنى والشِّرْبُ مستمد.
ريحاً ولوناً.. فنسرينٌ وريحان.
حلوٌ ومرّ وفي الأزهار مختلفٌ.
لها من الجنس في البستان ذكرانُ.
وانظر إناثا من الأشجار حانيةً.
إن لم تَلاَقه لبعد الدار أغصان.
لواقح الريح رُسْلُ الوصل بينهما.
له من الخلق بالإتقان إذعان.
لله في كونه المنظور برهانُ.
واسألْ بِه البحْرَ في جنبيه ركبانُ.
فاسألْ بِه النهْرَ عذْبَ الماء يُمْتعُنا.
-لُطْفاً بنا- برْزخ يعّدوه عدوان.
ملحاً أجَاجاً.. يلاقي النهر.. بينهما.
مسخرٌ.. بصنوف الخير ملآن.
لا يبغيان.. وكل في وظيفته.
ما مسًهُ الوهنُ منها وهى أطنان.
فاعجبْ له تحْملُ الأثقالَ صفحتُهُ.
فيه العجائب منها العقلُ حيران!.
في جوفه عالمٌ حيّ كعالمنا.
فكيف تحيا الماء حيتان؟.
يموتُ منا غريقُ الماء مختنقا.
من الحياة لها بالأرض حرمان!.
فإنْ عدَتهْ إلى أرجائنا اختنقَتْ.
وكيف يولد بين الرمل مرجان؟.
وكيف تحْمى بأصدافٍ لآلئُهُ.
ما غاض في الرمل أو أعياه نقصان؟.
وكيف مرَّتْ دهور وهْو ممتلئ.
بالعدل ما منهما بالخلف عصيان!.
والمدُّ والجزْرُ ينتابان شاطئه.
وكم توَلَّتْ حضاراتٌ وعمران!.
وكم أقيمتْ على أبعاده مُدُنٌ..
وكيف عنه اعتَلَتْ فلأفق ملآن.
واسألْ به السُّحْبَ مَنْ في الجو أنشأها
يسوقها قادِر.. بالخلق رحمان!.
مثل الحوامل فوق الأرض جارية.
ناءتْ بجَدُبٍ عراها فهي كثبانُ
.(24/56)
ليَفصِلَ الحمْلُ في أرضٍ لنا جُرُزٍ.
إذْ جاس في العمق منها وهو هتان.
تهتز أضلاعها من مُزْنه طرَبًا.
ما مسَّها غير كفِّ الغيث فنان!.
فتصبح الأرضُ أبهى صورةٍ خلبتْ.
وحكمةٌ لو صغَت للكون آذان!.
لله في كونه المنظور برهانُ.
فما لها عنك إن أخلصتَ كتمان.
فاسألْ به الأرضَ واسمعْ ما تُرَِّنمُهُ.
للأرض منها على الأرجاء صوّانُ.
هذى جبالٌ على الأرجاء شامخةٌ.
فتأخذَ الكون ويلاتٌ وأحزان.
تُرْسِ الجوانبَ أنْ تهتزّ مائدةً.
بيضٌ.. وحُمْرٌ.. وتلك السود غربان.
فيها عجيبٌ من الألوان.. ذي جُدَدٌ.
كأنه خالِدٌ والموتُ غفلانُ!.
وكم بها نحت الجبارُ منزله.
منها وحوشٌ.. وفُتّاكٌ.. وغزلانُ.
وكم بها استعصمتْ بين الذرى أممٌ.
يلتذُّها في الرياض الزهرُ نشوانُ!.
لم تَعْدم الرزقَ.. تلتذُّ الحياةَ كما.
فيها من الهول أسدانٌ وغيلان.
وفي السهول فيافٍ غيْر منْبته.
حلوٌ تردده للسمع قطعان.
وفي السهول مراعِ ملؤُها نغَم.
شتى المشارب أعداءٌ وأحزان.
وفي السهولٍ طيور كلُّها عجب.
نجواه للإلْف أسجاعٌ وألحان.
منها مُغَنٍّ بديعُ الوشى يفْتننا.
وصائدٌ ماهرٌ للصيد يقظان.
وكاسِرٌ خاطفٌ تُخشَى بوادرُه.
عادِ علينا بيوت الرعب طنانُ.
هذا ذبابٌ بعدْوَى الداء يزعجنا.
من الرحيق المصفّى وهي ذِبان!.
وتلك نحْلٌ لنا من بطنها عسلٌ.
لها العروس العلَى دورٌ وأكنان.
تَسْعى لكسب الجهني في سُبْلها ذللا.
لهَالَنْا كائدٌ للشر نهمان!.
لو لم تُسخَّرْ بوحي الله مبدعها.
في كل جنس بها للقلب إيقان.
سبحان من جنّس الأجناسَ مقتدراً.
لو ناله مِنْ ذوي الألْباب إمعان.
لله في كونهِ المنظور برهانُ
.(24/57)
وذي عيون بها نورٌ ونيرانُ.
هذى عيونٌ بعذب الماء دافقة.
مثل الجنين له في الخلق إبًانُ.
كم فجْرتْ ضربة في الأرض مِن ذهبٍ.
فيها لمن ناله حقْد وأضغان.
هاجتْ به حسداً بين الورى أممٌ.
يرْقى به شاكر لله نعْمانُ.
هذا يفيضُ على الأرجاء في كرم.
يشقى بها كافرٌ بالرزق خوان.
وذا يفيض سخيَّ البذل في نقم.
وكيف خُصت به في الأرض أوطان.
لم يدْر ذاك ولا هذا مصادرهُ.
أم سوف يبقى له في البذل إدمان.
وكم يعيش من الأعوام منطلقا.
كأنهم بعد طول العمر ما كانوا.
وباطنُ الأرض يَطْوى كلّ من سبقوا.
كأنه عالم غشاه نسيان.
وباطنُ الأرض يحويِ ألفَ معجبةٍ.
كما به لطغاةِ الكفر بركان.
من العقاقير والأفلاذ قد حُجَبَتْ.
لا يدفع القدَرَ الغلابَ طغيان.
فالله يملي فإن حقت مشيئتهُ.
آياته فيه عن ما غَابَ إعلانُ.
لله في كونه المنظور برهان.
مِن حولنا هو للأسرار ميدان.
هذا الفضاء الذي بالعين نشهده.
بل عالمٌ سفّ تستجليه أذهانُ.
فلا فضاءَ كما تَقْضي سذاجتُنا.
ومِنْ خلايا لها روحٌ وجثمان.
فيه البلايينُ مِنْ صوتِ ومن صورٍ.
لك الخيالُ لهما زخم وإرنان.
تدورُ أسرَعَ مما قَد يصورُهُ.
ما كان قبْلُ لها في العقل إمكان.
قد جسَّمتها لنا بالعلم أجهزة.
حدَّانِ كالسيف: إيمان وكفران.
والعلْمُ آية علام الغيوب لهُ.
لها من الإنس في الآفاق عُقبان.
شالت به للنجوم الغرِّ أجنحة.
عَلّ الحياة به تُزهَى وتزدانُ.
أرْسَتْ على البدْرِ والمريخ تذرعهُ.
فرعونُ ما اسطاعها بالأمس هامان.
أمنيَّةٌ كان قبل اليوم يسألها.
فينشْدَه الصرح مِنْ فرعون بهتان.
وربُّ موسى عن الأبصار محتجب
.(24/58)
لكنهم عن صراط الحق عميانُ!.
اليوم بالعلم للآفاق قد صعدوا.
وأنت فوق سطور الكون عنوان.
لله في كونه المنظور برهانُ.
ماء مَهينٌ يراعى منه خجلانُ.
فانظر حياتَكَ (مِكروباً) تَعَلّقَهُ.
زاد يُقاف وهذا السجنُ دَجْيان.
كيف استقرَ سجيناً في المضيق على.
فمضغةٍ وجهُها بالسحب عيمان.
يسعى به الغيْبُ من ماء إلى عَلَق.
يَدُ المهيمن مخلوقا له شان.
تغدو عظاما.. فتُكسَى اللحَم.. تخرجها.
للقلب حبُّ وإيثارٌ وتحنانُ!.
يشاهد النورَ إنساناً بطلعته.
من العناصر ذات الدفع مَنّانُ.
مركباً بدقيق السرِّ.. ركّبه.
على الفصول.. وقد ضمتْك أحضانُ.
دون الحرارة.. فوْق البرد.. مُحتمَلٌ.
وقد بَدَا لك في الفكين أسنانُ.
حتى انتعشْتَ به عامين في حَدَبٍ.
منها عن الثدْي للعينين سلوان.
لتتْرُكَ الثدْيَ لِلّذاتِ في اُكُلٍ.
تُطْوَى به من كتاب العمر أزمانُ.
فانقلْ خُطاكَ معي نسعَى على عجلٍ.
مضى به الطيّ يُهذِي وهو أسيان
كم فاجأ المرْءَ بين الأهل مِن مرضٍ
وقد أُعِدَّتْ ليفْش الصبرَ أكفانُ.
لم يُجْدِهِ العلم محتالاً ليشْفيه.
وعاد في الأرض يجرِي وهو عجلان.
هذا بجرعة ماء زال قاتِلُه.
فراح.. ما ردًهُ أهلٌ وخلان!
. .
وفارهُ الجسم عاق الِموتُ خطوتَهُ.
قد كان! قد كان! والمفجوع ولهان!
تقول: قد كان مِنْ تَوِّي يحدثني!.
بَدْءُ الحياة وإن نالتك أشجان!.
تلك المنايا التي تخشى نوازلها.
فالْقبرُ في جوْفِهِ نار وبستان.
مَنْ مات قامَتْ وما نَدْرِي قيامَتُه.
مِنْ دونها مالكٌ يرنُو ورضوان.
يطُّلُّ فيه على مثواك نافذةٌ.
.يُسعِدُكَ في ظله رَوْحٌ وريحان.
فاعملْ لمثواك في ظل التقى ورعاً
.(24/59)
فكل ما في الورى للفِكر بَيان.
وامْشِ الهونَي بفكر للورى يقظٍ.
إذا انْجَلَى بالهدى عن قلبك الرانُ!.
وإصْبَعٌ منك فيها ألْفُ واعظةٍ.
سبحانَ مَنْ صنعهُ في الخلق فرقانٍ!.
واهتفْ إذا راعك الإعجازُ من عجبٍ.
فالنفسُ أمارة والشر فتان.
واسألْهُ للملتَقى مِن عصمةٍ قبسًا.
والعجْزُ عن كُنهِ ما أبدَعْتَ برهان!.
شهدْتُ أنك يا ألله ديانُ
.(24/60)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (2)
للشيخ يوسف الهمذاني الشافعي
المدرس بالمعهد الثانوي
فما يبالون من ضيق ونقصان.
كم بين صومهمو والصبرِ من رحم.
الصبر بالله لا صبر بحسبان.
فشأنه الصبر: معناه وغايته.
قد أيقنوا بمصير حق إيقان.
صبر احتساب وتسليم لقدرته.
والحكم في كل حال حكم رحمن.
الله مالكهم لله مرجعهم.
أو ما يقوتهمو من باطل فان.
فما يَضيرُهُمو مما يُصيبهمو.
من الإساءة في سر وإعلان.
نعم الصيام زكاة النفس جُنّتها.
فالصوم والذكر في التطهير خِدْنان.
يخفف الصوم أوزارا تنوء بها.
والصوم سد منيع دون شيطان.
الذكر يوقظها من غفلة حجبت.
فيه تجدد غرم بعد إيهان.
فيه صفاء وإطفاء لسورتها.
فلا تذل لإغراء وطغيان.
هو الجهاد جهاد النفس يعصمها.
حتى تتسم به عن كل سلطان.
تصوم عن شهوات البطن طائعة.
وعن ديار وعن أهل وخلان.
تصوم لله عن مال وعن ولد.
يعده لجليل القدر والشان.
تَجَرُّدٌ العبد للرحمن يرفعه.
بردَ الشراب وكم فيه لظمآن.
يأبى على نفسه والقيظ يلهبها.
من متعة العين أو من حظ أبدان.
يأبى عليها لحق الله ما رغبت.
ودون سِرِّ ثوى في طيِّ وِجدان.
ولا رقيب له من دون خالقه.
سرَّ الصيام فلم يعلَق بأدران.
تَعَففٌ وحياء صان طهُرهما.
مغلولة تتهاوى دون صَوَّان.
الجوع والوجد والإغراء أسلحة.
عن الدنايا عفيفا غير خَوَّان.
من عَفّ عن سَوْرَة الحاجات تحسبه.
أحق أن يستحي من كلِ عدوان.
من استحى لا يراه غير خالقه.
عن التعلق بالُمسْترْجَع الفاني.
نعم الصيام فطام النفس يصرفها
..
والعين ما استمرأتْ يغري بنسيان
.(24/61)
إن التعلق بالرحمن غايتها.
حتى تبوء بطغواها لخسران.
هذا التكاثر يلهيها ويطمعها.
للصائم الحق عند الله عيدان.
من يصدق الله يصدقه مثوبته.
وحصل الخير من آت ومن دان.
قد نال ما نال من قرب وتزكية.
بالبذل والسعي في صدق وإتقان.
ولا يزال به يرقى مراقية.
في ليلة التِّمِّ في فضل وفي شان.
حتى يجوز التي يرنو الجميع لها.
ما لا ينال بأعمار وأزمان.
في ليلة جمعت في الخير ما جمعت.
بشارتهُ فيها المؤمل من خط ورضوان.
(من فاز فيها) من بَشّرن فقد صحَّت.
مواسمٌ لعظيم الفضل هتان.
إن الكريم له من فيض رحمته.
وللمقصر دهرا جبر نقصان.
فمن سعى لمزيد فهي فرصته.
يُقيضُ ما لم يَطُلّهُ وهم إنسان.
مهما يضاعف فمازالت خزائنه.
يأتيه هرولة منه بغفران.
من يأته بخطى ساع يؤمله.
تلك المنازل لا تُزْرِي بسكان.
خير المنازل عند الله تطلبها.
ولا تحد بعمر أو بعمران.
ولا يحول بها حال ولا دول.
فعدتمو بِقِراب منه ملآن.
نَهْبٌ لكم إن قصدتم وجه خالقكم.
وكل ساع وما أبلى بميزان.
فلا تزاحم لاستئثار يمنعها.
لمن تطهر من رجس وأوثان.
مراتب ومقامات مطهرة.
في هذه الأرض عند الناس من شان.
ما ضر من نالها ألا يكون له
.(24/62)
أنا الكنز والمجد
لشاعر العربية في إندونيسيا الشيخ عبد الله نوح
وَمَالي سِوَى الزُهرِ النُّجومِ أساتِي
لقَد طَالَ لَيلِي وَالْفِرَاقُ شَكاتِي.
تَمُوتُ حَيَاةُ الخلع قَبلَ مَمَاتِي
يَقولونَ مَاتَتْ قُلْتُ مهلاً فَإِنمَا.
تَلِينُ قَنَاة الدًهرِ دونَ قَنَاتِي
وَقَالوا عَجوزٌ قُلْتُ كَلاّ فَإِنّني.
وَروح كِتَاب الله سر حَيَاتِي
وكَيفَ يمَنِي نفسَه الشّر حَاسد.
وَأرعى مَعَانِي الحَقِ وَهْيَ رُعَاتِي
سَأحْفَظ عَهدَ اللهِ حِفظ وثائقِ.
أنا الحافظ الجماع شملَ شَتاتِ
إذاَ فَرَّق الخطب الخَؤُون فإنّنِي ...
وَلودٌ وَهذا الْحسن بَعضُ بَنَاتِي
وَقَالوا جَمَال الفَنِ قُلْت فَإننِي
يُؤَكّدْنَ مَالِي مِن بدِيْع صِفاتِ كَأنّ السمَاءَ الطّرْسُ والزهْرُ أحْرف
يُخَبّرْكَ عَنيّ وَهْوَ بَعْض بَنَاتِي
سَلِ الْكَوْكَبَ الدُّرِيّ في أُفُقِ الدّجى
بَدِيعَ الْمَعَانِي حَالِمَ النّظَرَاتِ
أنا الفن كمْ ألْهمتُ حُسْنا مُغيّباً
وَلاَ أبْحُر يَبهرْن بِالصدَفَات
أنَا الكَنْزُ لاَ تُغنِيكَ عَنِي مَعادِنٌ
أثِيل فَسِيح الرَحْبِ والجَنَبَاتِ
أنا الْمَجْدُ كَم مِن شَامِخ قَد بَنَيْتُه
(عبد الله بن نوح) بوقور- إندونيسيا(24/63)
ذكريات من المدينة
للشيخ عبد الحميد عباس
أني مقيم على (العلياء) [1] أرعاها.
أيا نسيم الصّبا بلّغ أحبتنا.
وفي مرابعها ذكرى حفظناها
..
ففي نسيماتها آثار نشركمُ.
تروي النخيل ويشفى الناس ريّاها.
حيث العقيقُ وبطحانٌ وأقنية.
بردَ الربيع وعادات ألفناها.
وحيث وادي قبا والماء يلبسُه.
يا حبذا هي مرتاداً وسكناها.
وفي العوالي وفي قربانَ أوديةٌ.
وكم به من ليال طاب مثواها.
ما أنس لا أنس وادي السُّدّ يجمعنا.
سقيا لأَيامها ما كان أحلاها!.
وبالأحبة شمس الوصل مشرقة.
في القلب ماثلةٌ تحيا ونحياها.
مرَت كحُلم ولم تبرح معالمها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العلياء: مزرعة من ضواحي المدينة.(24/64)
في المشارق والمغارب
جنوب شرقي آسيا (1)
الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله خير خلق الله محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فقد عرض علي فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية سابقا (فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد) السفر إلى إندونيسيا في آخر السنة الدراسية قبل الماضية (1398/ 1399 هـ) للاطلاع على أحوال المسلمين هناك- ولا سيما المؤسسات الإسلامية المهتمة بالدعوة إلى الله والقيام بما يستطاع من الدعوة والتوجيه) فاعتذرت آنذاك مضطرا لا مختارا، لأن رغبتي في زيارة العالم- ولا سيما البلدان الإسلامية- شديدة، لما في ذلك من العبر والاطلاع على الجديد المفيد في سلبه وايجابه، يستفيد المسلم من الأحوال الطيبة التي يراها في العالم فيعمل بمقتضاها، وهى ايجابية، ويستفيد من الأحوال السيئة التي يشاهدها فيزداد بصيرة بها وابتعادا عنها ونهيا عنها، وان كانت سلبية- وقبل حينذاك فضيلته عذري ...
.. وفي هذه السنة 1399/1400 هـ. عندما علمت أن السفر مقرر بادرت بنفسي فطلبت من فضيلة نائب رئيس الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد أن تكون أندنوسيا هي التي أتوجه إليها إن كان ثمة سفر فحبذ ذلك فضيلته وكنت راغبا كذلك في زيارة بعض البلدان … في الطريق إلى أندنوسيا وهي الهند، وسيرالانكا، وتايلند وماليزيا، وسنغافورة ثم في العودة هونغ كونغ، وحددت تلك البلدان لفضيلة النائب فوافق أيضا عليها ولكن موعد السفر الذي تقرر في 29/ 7/1400هـ أجل إلى 15/ 8/1400هـ. لمصالح تتعلق بالجامعة فكان ذلك سببا في حذف الهند وسيرالانكا وتايلند وسنغافورة، وإن كان هذان البلدان الأخيران قد مررنا بهما مرورا عاجلا.
واخترت للسفر معي فضيلة الشيخ عبد القوي عبد المجيد لثلاثة أمور:(24/65)
الأمر الأول: تجربتي السفر معه قبل ذلك إلى بنغلادش، إذ وجدته يجمع صفات يستفيد منها رفيقه عبادة وترويحا.
الأمر الثاني: أنه يحفظ كتاب الله ويتلوه تلاوة ممتعة ونحن قد تقرر أن نكون في رمضان في إندونيسيا ويناسب أن يصلي بالمسلمين هناك صلاة التراويح.
الأمر الثالث: إن عنده ما يفيدنا في المطارات والفنادق والأسواق والمطاعم في التفاهم مع الناس باللغة الإنجليزية.
وعندما قدمت لفضيلة نائب رئيس الجامعة اقتراح انتدابه وافق فضيلته وعرضت الأمر على فضيلة الشيخ عبد القوي فوافق أيضا وأخذنا نتشاور ونجمع شيئا من المعلومات عن هذا البلد للاستفادة منها.
وسافر هو قبلي إلى باكستان لقضاء بعض حاجاته هناك.
وفي يوم 14 /8/1400 هـ، ذهبنا إلى المسجد النبوي أنا والابن عبد البر الذي قررت سفره معي لتتوسع مداركه ويطلع معي على أحوال إخوانه المسلمين ولاسيما الشباب الذي في مثل سنه ليحفزه ذلك على الاهتمام بدينه علما وعملا ودعوة فحص فصلينا في المسجد العصر وزرنا قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه وخليفتيه الراشدين: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعن بقية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. تاريخ طويل يمر بالخاطر في وقت قصير.(24/66)
وفي هذا الوقت- وقت أداء صلاة العصر وزيارة الحبيب وصاحبيه أخذت أجول بخاطري في نشوء الدعوة إلى الله في مكة وما ناله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من أذى في سبيلها، كما تذكرت تلك القوافل المؤمنة التي تركت البلد والأهل والمال وهاجرت بدينها راضية إلى هذا البلد الحبيب- المدينة المنورة- بعد أن هدى الله طليعة الأنصار لمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام والجهاد في سبيل الله وتذكرت تلك الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى الغار للاختفاء من جند الشيطان ثم الهجرة الشريفة إلى طيبة الطيبة التي كون بها صلى الله عليه وسلم من قاعدته الصلبة التي رباها في مكة على التوحيد والطاعة الكاملة لله ولرسوله وعلى الصبر والتحمل ومن أنصار الله ورسوله بالمدينة، كون صلى الله عليه وسلم ذلك الإخاء الفريد في حياة البشرية. وأخذت أسرح الطرف في هذا المسجد العظيم فتصورت مشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينقل الطين والحجارة وجريد النخل مع أصحابه ويبني بيده الشريفة مهوى لأفئدة أصحابه يعبدون الله فيه ويتعلمون دين الله من وحيه الذي كان ينزل به جبريل طريا صباح مساء، ويطبقون ما تعلموه عملا ودعوة.. وأخذت الأسر تتتابع في ذهني لتأسيس أول دولة إسلامية عالمية على وجه الأرض في هذه البقعة وكأني أشاهد تلك السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها للاستطلاع والاحتكاك بجند الشيطان تمهيدا لعقد الألوية وبعث الكتائب الجهادية في أنحاء الجزيرة العربية، وتلك الغزوات التي شارك فيها رسوله الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فانتصر فيها على أعدائه، وابتلي وأصيب بما أصيب به بسبب بعض المعاصي الدائرة من بعض أصحابه. وعرضت لي تلك الشعور الرائعة: وفود الناس الداخلين في دين الله أفواجا، واليهود الذين حدث لهم الأخاديد وقتلوا ودفنوا فيها جزاء غدرهم وكيدهم, وزملاؤهم الذين حزموا(24/67)
حقائبهم وخرجوا إلى غير رجعة بعد أن تمكنوا مدة طويلة من السيطرة الاقتصادية والثقافية ومن العيث في الأرض فسادا في هذه المدينة وتسلسلت حوادث التاريخ الإسلامي في ذهني إلى أن فتحت فارس والروم ثم امتدت فتوح الإسلام إلى شرق الدنيا وغربها …… ثم انتقل ذهني إلى تجار المسلمين وهم يفتحون البلدان بالقدوة الحسنة والمعاملات النظيفة الشريفة، ومن تلك البلدان أندنوسيا التي أزمعت السفر إليها.
.. وقلت في نفسي: ما الذي سأعمله في هذه الرحلة القصيرة، وما المنهج الذي أسير عليه ويفيد من سألتقي بهم في هذه المدة..
ثم خرجنا من المسجد النبوي بعد أداء الصلاة وزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، ورجعنا إلى المنزل فودعنا الأسرة وأخذنا أثاثنا وانطلقنا إلى مطار المدينة المنورة، وما كنت أفكر في قضاء رمضان خارج الحرمين الشريفين بما فيهما من روحانية إيمانية قلما توجد في غيرهما- ولكن ما أزمعت السفر من أجله كان يسليني ويذكرني بخروج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا البلد إلى غيره للدعوة إلى الله..
وفي قاعة المطار سرح خيالي إلى وسائل المواصلات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى كل بقعة في الأرض أمكنهم الوصول إليها فنشروا فيها هدى الله وراية الحق. وقارنت ذلك بما يسره الله لنا من الوسائل في هذا العصر من وسائل المواصلات وغيرها مما لو حصل أن استغله المسلمون في الدعوة إلى الله لما بقي شبر في الأرض لم تبلغه الدعوة إلى الله وأن المسلمين الآن كلهم آثمون لما يسره الله لهم من ذلك ومن عدم قيامهم بواجبهم من التخطيط العلمي الكامل والتنظيم الدقيق والسعي الجاد بكل قوة لإيصال دين الله إلى الناس كافة مسلمهم الجاهل وكافرهم الجاحد.(24/68)
وكنت قبل يوم السفر هذا بيوم واحد اجتمعت بالابن عبد البر الذي قررت سفره معي ونصحته وضربت له مثلا للمسافر الصالح وآخر للمسافر الفاسد، قلت له: المسافر الصالح يجعل قدوته النحلة التي تقطف الأزهار النظيفة ذات الرائحة الطيبة والرحيق الشافي فتخرجه عسلا مصفّى يشفي الناس من الآلام والأمراض، وهكذا المسافر الصالح ينظر إلى الأمور الطيبة والصفات الحميدة التي يجدها في الناس فيتحلى بها ويعود إلى أهله وجيرانه بأخلاق زكية يهديها لهم قبل أن يهدي شيئا من الأمور المادية.
أما المسافر الفاسد- فانه مثل الجعل الذي أعتاد أن يلقي بنفسه في وسط القاذورات المنتنة فيأخذ في تقليب أجزائها هنا وهناك إذا رآه أحد نفر منه فعليك يا ابني أن تكون نحلة لا جعلا..
وذكرت الابن مرة أخرى بهذا المثل في مطار المدينة وقلت له لا أريد أن أكرر عليك النصيحة فعليك أن تعض على نصيحتي بالنواجذ.
15 /8/1400 هـ في مطار جدة:
وفي صباح هذا اليوم أخلدنا إلى الراحة وغرقنا في بحر النوم العميق تعويضا عن فقده في الليلة السابقة.
وفي الساعة الثامنة مساء تحركنا إلى مطار جدة الدولي وتم وزن العفش في الساعة الثامنة والنصف فودعنا أصدقاءنا في جدة ودخلنا قاعة الانتظار. (ألا أيها الليل الطويل ألا انجل) .
وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأربعين صعدنا إلى الطائرة على أن يكون الإقلاع حسب الموعد في الساعد العاشرة والنصف ولكن الطائرة تأخرت إلى الحادية عشرة وذلك أمر طبيعي كثيرا ما يحصل، إلا أن المضيفة أعلنت عن وجود خلل في الطائرة يقتضي نزولنا إلى قاعة الانتظار مرة أخرى فنزلنا وانتظرنا إلى الساعة الثانية عشرة فأعلن المذيع أسفه لتأخر الطائرة مرة أخرى وأنها ستقلع في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة فانتظرنا وتخلل هذا الانتظار التسلية المعتادة: توزيع شراب العصير ثم طبق العشاء الخفيف وتمنى الابن عبد البر لو استطعنا أن ننام.(24/69)
فوضى المسلمين أزعجت بعض الكفار:
وفي الساعة الثانية عشرة والنصف أعلن عن موعد إقلاع طائرة مصرية إلى القاهرة فأخذ الركاب يتزاحمون ويتدافعون ويتصايحون والأوربيون ينظرون إليهم نظر استغراب ويتعجبون من هذه الحالة السيئة ومن هذا المنظر الفوضوي. وكان أحدهم قريبا منا يقف فينظر متعجبا ثم يقعد ثم يذهب بنفسه إلى المسافرين لينظر إليهم من قريب ويسمع أصواتهم ثم يعود فيجلس فقلت للأخ الأندنوسي سل هذا الأوروبي من أين هو؟ فسأله فقال له: من إيطاليا، قلت له: هل يجيد اللغة الإنجليزية؟ فقال: لا ولكنه يتفاهم بها قليلا.
انظر إلى صفوف المسلمين في الصلاة:
قلت: فلنجعله في موقف الدفاع بعد أن نعتذر له من هذا المنظر ونبرئ منه الإسلام فقلت: أخبره بأن هذا المنظر لا يقره الإسلام وأن المسلمين الأصل فيهم الإيثار والصبر والنظام وسبب هذا هو جهل المسلمين بدينهم وبعدهم عنه فقال: لي ثلاث سنوات في المملكة العربية السعودية وقد تكرر هذا المنظر أمامي فقلت له: قل له: هل رأى المسلمين عندما يقفون في صفوف الصلاة في المسجد وراء الإمام؟ قال: نعم: قلت: هذا نظام الإسلام في المسجد وفي الحرب وفي الحج وفي كل مكان ولكن جهل المسلمين هو السبب.
دعوة إلى الإسلام:
سألناه هل يعرف شيئا عن الإسلام؟ فأجاب قليلا عن طريق بعض الكتابات الصحفية. وهل ترغب في دراسة الإسلام والدخول فيه؟ فأجاب أنا- مثل المسلمين- أعتقد أن إله الكون واحد، وإن كنت مسيحيا.
فطلبنا منه أن يدرس الإسلام وأن يدخل فيه لأن القرآن آخر ما نزل من الكتب السماوية وهو محفوظ والرسول آخر الرسل وخاتمهم والدين الإسلامي هو الدين الذي لا يرضى الله دينا سواه واتفقنا على أن نراسله ونبعث له بعض الكتب عن مبادئ الإسلام.
وكان باستمرار يشرب الدخان، فأشرنا إلى أضرار التدخين فاعترف بذلك ولكنه قال: (بروبلم) أي مشكلة- يعني تركه صعب.(24/70)
وفي الساعة الواحدة والثلث أعلن عن استعداد الطائرة فصعدنا إليها وتحركت الطائرة في الساعة الثانية إلا عشر دقائق وفي الثانية والدقيقة الثانية عشرة كرر الأسف وعادت الطائرة إلى مكانها بعد جولة في الأرض لا بأس بها ووعد المذيع بإعطاء معلومات جديدة وفي الساعة الثالثة نزلنا إلى القاعة مرة أخرى وأعلن أن الإقلاع سيكون في الرابعة.
ويسر الله تعالى أن أقلعت الطائرة فعلا في الساعة الرابعة والنصف صباحا بدلا من العاشرة والنصف مساء، فكانت تلك الليلة طويلة علينا كطولها على امرئ القيس إلا أن السبب مختلف والهدف الذي كان يود هو أن يصبح من أجله- والإصباح عنده غير مفيد- غير الهدف عندنا ونحن على يقين أن ما اختاره الله كان خيرا ولكنا بشر نستعجل والحمد لله على كل حال.
كان الابن عبد البر والأخ عبد الله بن سعيد باهرمز- أحد الطلبة الأندنوسيين في كلية اللغة العربية- في الدرجة السياحية، وأنا في الدرجة الأولى لأن تذكرة سفري الرسمية كانت كذلك، وما كنت أظن أني أجد صعوبة في طائرة سعودية في التخاطب. عندما أقلعت الطائرة جاءت المضيفة فخاطبتني باللغة الإنجليزية فقلت: (نو اسبيك إنجلش) قالت: (نو اسبيك أربيك) فأشرت إليها أن تأتي بمن يكلمني باللغة العربية والظاهر أنها لم تفهم فواصلت المحاولة فقالت: (يو وونت تي) قلت: (يس) ، فجاءت بالشاي ثم قدمت طعام الإفطار، واستغرقت بعد ذلك في النوم ونزلت الطائرة في مطار الظهران في الساعة السادسة والدقيقة الثامنة وواصلت أنا في المطار على مقعدي النوم. والظاهر أن المضيفة غيرت فجاءت مضيفة أخرى فأيقظتني قبل إقلاع الطائرة وكانت هذه المرة عربية فقالت لي أتريد أن تستمر في النوم أم أصحيك بعد إقلاع الطائرة قلت: عجيب أمرك توقظيني من نومي لتسأليني هذا السؤال قالت: نعم لأجل الفطور فقلت دعيني فقد أفطرت.(24/71)
وفي الساعة السابعة والنصف أقلعت الطائرة من مطار الظهران وواصلت بعد ذلك نومي حتى سمعت المضيفة تعلن اقترابنا من مطار كراتشي. وهبطت الطائرة في مطار كراتشي في الساعة العاشرة إلا عشر دقائق بتوقيت المملكة.
من كراتشي إلى فيصل آباد:
وعندما انتهينا من الإجراءات اللازمة في الجوازات وتسلمنا أثاثنا قابلنا الأخ سهيل بن الشيخ عبد الغفار حسن الطالب بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأخبرنا بأنه قد تم الحجز لنا في الطائرة التي تقلع إلى لاهور في الساعة الثانية وخمسين دقيقة حسب رغبة الشيخ عبد الرحيم أشرف رئيس جامعة تعليمات الإسلامية الذي كان الابن الحسن عنده حيث تم الاتفاق معه على الإشراف عليه ليحفظ القرآن الكريم عند بعض حفاظ القرآن وكان قد سافر قبلنا مع الشيخ عبد القوي في 5/8/ 1400/ هـ. ويقيم الشيخ عبد الرحيم أشرف في مدينة فيصل آباد.
وقد سميت باسم جلالة الملك فيصل رحمه الله بعد استشهاده.
وبقينا في مطار كرتشي إلى أن أقلعت بنا الطائرة إلى لاهور في الثالثة إلا عشر دقائق وهبطت بنا في مطار لاهور في الساعة الرابعة والربع.
استقبلنا أحد موظفي المطار بإيعاز من الشيخ عبد القوي الذي كان في مدينة فيصل آباد، ونزلنا بفندق أمباسدور فنمنا نومة طويلة عوضنا عما فاتنا في الليلة الماضية.
وفي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الاثنين 17 / 8 جاءنا الشيخ عبد القوي الذي كان قد وصل إلى مدينة لاهور من مدينة فيصل آباد ليلا في القطار واصطحبنا إلى موقف السيارات فسافرنا إلى فيصل آباد في إحدى حافلات النقل الجماعي وكان خروجنا في الساعة السابعة.
وفي الطريق كنت ألتفت يمنة ويسرة فأرى العمل الجاد من الشعب الباكستاني هذا يحرث، وهذا يزرع، وهذا يحصد، وهذا يشق الأخاديد للمياه المتفرعة عن الأنهار.(24/72)
ورأيت استغلالا كاملا لكل الإمكانات الموجودة- الثور يحرث، والخيل ينقل، والأخشاب تمد جسورا وهكذا....
والبشر يسيطر على ذلك كله وكان وصولنا إلى مدينة فيصل آباد في الساعة العاشرة إلا ربعا.
ونزلنا في أحد الفنادق وزارنا الشيخ عبد الرحيم أشرف وتحدث معنا في شئون الدعوة والصعاب التي نواجهها وأن تلك الصعاب- أصلا- قد خطط لها الاستعمار. وقال: إن الاستعمار يحلل الشعوب بعد دراستها وممارسة نشاطه فيها مدة طويلة ثم يخطط للجيل الحاضر ليكون معبرا للجيل الجديد ثم يخطط كذلك لأجيال المستقبل وان هذا الاستعمار قد نجح في بذر أفكاره وإيجاد خدم له يقومون بتنفيذ مخططاته. وبذر الشقاق والنزاع بين الجماعات بل بين الجماعة الواحدة وإن على المصلحين أن يقوموا بواجبهم لربط الناس بلا إله إلى الله.
ودعانا لتناول طعام الغداء في منزله فقابلنا الشيخ عبد الفتاح العشماوي الذي كان قد انتدب ومعه الشيخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي والشيخ صالح الهلابي وقد كانوا أوشكوا على اختتام نشاطهم هناك إذ قد ألقوا محاضرات مدة إقامتهم وكان الشيخ العشماوي يشكو كثرة الفلفل في الطعام حتى أصبح يشك في وجود طعام بدون فلفل ولو كان مربى.
وفي 18/8:
دعينا لزيارة الجامعة وطلب مني إلقاء كلمة فكانت تدور حول وجوب اجتماع المسلمين ونبذ التفرق والخلاف وأن الجماعة المتفقة في الهدف والوسيلة إذا تفرقت كلمتها فذاك دليل على نفاق في بعض أفرادها.
وحصلت مذاكرة مع الشيخ عبد الرحيم في شأن الأستاذ المودودي فقال الشيخ كان المودودي يمتاز بأمور مهمة رفعت شأنه: وهي كثرة التفكر في أمور المسلمين وأمور الجماعة ووضع الأشخاص في مواضعهم. والأمر الثالث أنه كان يمسك زمام عواطفه بيده.
ومن أهم الكتب التي رفعت من شأن المودودي كتاب الجهاد الذي طبع باللغة الأردية.(24/73)
وكان في المساء اجتماع في فرع جامعة تعليمات الإسلامية اختتم به الموسم الثقافي للجامعة لخص فيه الشيخ عبد الرحيم أشرف فوائد المحاضرات والندوات باللغة الأردية وتحدث كل من الدكتور الأعظمي والشيخ العشماوي.
من الركشة إلى الطائرة:
19/8:
بعد أن تناولنا طعام الإفطار جاء الأخ أحمد خان وقال لنا: انتظرونا سأذهب أنا والأخ الشيخ صالح الهلابي للبنك وأمر بكم لنذهب إلى المطار، وكنا فهمنا أن موعد الإقلاع من فيصل آباد الساعة الحادية عشرة، وتأخر الأخ أحمد خان فخرجنا نلتمس سيارة أجرة توصلنا إلى المطار فلم نجد إلا ما يسمونها بالركشة وهى دراجة نارية ركبت لها ثلاث عجلات ثنتان في الوراء وواحدة في الأمام وجهزت بمقعد يتسع لثلاثة أشخاص عند الضرورة من وراء السائق وذهبنا إلى المطار في هذه الركشة وتعطلت في أثناء الطريق فنزل السائق وأخذ آلة من حقيبة عدته وركبها وأخذ في قيادتها كأن شيئا لم يكن وعندما اقتربنا من المطار في الساعة الحادية عشرة رأينا طائرة قد أقلعت من المطار فظننا أنها طائرتنا ولكن عند وصولنا المطار أخبرنا بأن الساعة الحادية عشرة هي موعد لوصول الطائرة وأعلن أن إقلاعها سيكون في الثانية عشرة غير أنها تأخرت لخلل فني- وما أكثر ذلك في طائرات بعض الدولة فلم نقلع إلا بعد الساعة الثانية والدقيقة العاشرة. وبعد خمس وعشرين دقيقة هبطت في مطار ملتان، وبعد ساعة أقلعت إلى مطار كراتشي حيث وصلنا الساعة الخامسة وأخذنا نبحث عن غرفة مكيفة في كثير من الفنادق فلم نجد لزحمة النزلاء، وبعد المغرب وجد فندق شاطئ البحر الفاخر على الساحل وهو غال الأجرة قذر المعنى، لأنه لا يرتاده إلا القذرون أو المضطرون وقد علمنا ذلك بعد نزولنا وكان الشيخ عبد الرحيم أشرف نازلا هو والشيخ العشماوي في حجرة واحدة بجوارنا.(24/74)
وعندما طلبنا العشاء أكدنا على المضيف بأن لا يوضع في الطعام شيء من الفلفل ولكن القاعدة عندهم- في هذا الباب أن يسمعوا ويقولوا: سمعنا وعصينا وهكذا كانت مطاعم أندونيسيا.
من كراتشي إلى بانكوك (20/ 18) :
غادرنا هذا الفندق إلى آخر يسمى فندق الخليج، وبقينا فيه إلى الساعة الواحدة والنصف صباحا حيث ذهبنا إلى مطار كراتشي وبعد أن وزن العفش وختمت الجوازات انتظرنا في القاعة ثم صعدنا إلى الطائرة التي أقلعت في الساعة الرابعة وخمس دقائق صباحا.
وبعد الإقلاع أخبرنا المضيفين أننا نريد أن نصلي الفجر، وكان المكان الذي نريد الصلاة فيه مجالا لخدماتهم، فبسطنا السجادة وصلينا وعندما رأونا انكفوا عن هذا المكان حتى فرغنا من الصلاة ثم عادوا لتقديم خدماتهم، وكان المضيف قد اقترب منا وبيده الزجاجة عارضا بضاعته الملعونة، وعندما رفضنا قال: وماذا قلنا: ببسي وكان أحد ال ركاب أمامنا قد شرب حتى احمرت عيناه، وذاك يسكب له في الكأس حتى أعادها مملوءة لعدم استطاعته المواصلة وبعد أن صلينا أخذت أنظر من النافذة إلى حيث شروق الشمس فكانت حمرة الأفق قانية والأفق يرتدي السحاب الذي يرى كأن نارا شديدة الاحمرار شبت فيه وأخذت تنهبه نهبا وما ذلك إلا حمرة ضوء الشمس، ولكن السحاب القريب منا يرى داكنا وكأنه مازال يغط في نومه والحمرة تمتد إليه شيئا فشيئا والظل يتقلص ولو شاء الله لجعله ساكنا.
ثم استسلمنا للنوم إلى الساعة الثامنة إلا عشرين دقيقة حيث أيقظنا المضيفون للإفطار فتمطى الشيخ عبد القوى وقال: نمنا شوية- أي قليلا- قلت: نعم ثلاث ساعات ونصف الساعة وكانت كلمة شوية نكتة تقال كلما حصلت مناسبة مماثلة.(24/75)
وعندما حلقت الطائرة على الأرض التايلندية أطللت من النافذة لأرى تلك الأرض التي غطاها خالقها ببساط أخضر من الغابات والمزارع تتخللها الأنهار والجداول المتفرعة عنها التي تبدو مثل الشرايين الدافئة، وقد وشيت تلك الغابات والمزارع بالمنازل المسنمة التي تظهر كأنها مغروزة غرزا في ذلك البساط وقد صف على سطوحها الآجر الأحمر كقطع الصابون، وهبطت بنا الطائرة في مطار بانكوك في الساعة التاسعة إلا عشرين دقيقة بتوقيت كراتشي.. ونقلتنا السيارة- على حساب شركة الخطوط الجوية إلى الفندق، وهو من الفنادق الفخمة النظيفة المظهر والقذرة المخبر، وكان النزول فيه على حساب الخطوط كذلك لأن الحجز قد تم عن طريقها إلى كوالالمبور، وكانت مدة الاستراحة في الفندق أربع ساعات تقريبا.
وفي الطريق إلى الفندق كان الابن عبد البر راكبا بجوار السائق وأنا بجوار عبد البر فأخذ السائق يتحدث مع عبد البر باللغة الإنجليزية بكلام لا يفهمه هو ولا أنا، ولكن شعرت من حركاته أنه يذكر شيئا غير لائق، فزجرته بصوت عال قائلا له: اسكت وأشرت به بإصبعي إٍلى فمي- والإشارة لغة عالمية- وقطبت له وجهي ففهم وأخذ يعتذر آي آم سوري- أسف- ولم يتكلم بعدها معنا.
وبعد فراقه سألت الأخوين الشيخ عبد القوى والأخ عبد الله باهرمز أكنت محقا في زجر الرجل قالا نعم فقد كان يعرض بضاعة فاسدة فكان زجرك إياه في مكانه.
نحن في كوالالمبور وأثاثنا في مانيلا:(24/76)
وفي الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة غادرنا الفندق إلى مطار بانكوك وتجولنا قليلا في دكاكين المطار ثم صعدنا إلى الطائرة التايلندية التي أقلعت إلى كوالالمبور في الساعة السابعة وكان ذلك عند غروب الشمس وكنت إذا نظرت إلى اليمين: جهة الغروب أرى السحاب محمرا مشربا بصفرة كأن نارا تلهبه، وإذا نظرت إلى اليسار أرى ظلمة الليل قد اختلطت ببياض السحاب واسوداد الغابات وهي تلاحق النهار لتغطيه، ولفت هذا نظري إلى آية تكوير الله النهار على الليل في النجاح كما مضى وتكوير الليل على النهار في المساء وقلت: سبحان الخالق.
عرض المضيفون الضيافة فطلبنا منهم أن يقدموا لنا خضارا وسمكا بدلا من اللحم خشية من لحوم الخنزير أو ذبح الوثنيين فأعطونا ما أردنا، وهبطت بنا الطائرة في مطار كوالالمبور عاصمة ماليزيا في الساعة التاسعة إلا ربعا. وذهبنا إلى قاعة تسلم الأثاث الذي فارقناه- في كراتشي لنتسلمه هنا، وكان الشيخ عبد القوي يستعرض الساحب بشغف ليرى علامة تدل على وجود أثاثنا إلى أن توقف الساحب منهيا الطمع في وجود أثاث آخر على هذه الرحلة فذهب الشيخ ومعه الأخ عبد الله باهرمز لإبلاغ المسئولين عن فقد أثاثنا ففتشوا الأثاث الموجود فلم يجدوا شيئا ثم أخذوا بطاقة رسمية أعدت لمثل هذه الحالة وسجلوا بها المعلومات اللازمة من تذاكر السفر والجوازات ووعدوا ببعث تلكس إلى بانكوك وطلبوا منا تحديد مكان إقامتنا في كوالالمبور ليشعرونا بوصول العفش، قلت للشيخ عبد القوي: لعل عفشنا ذهب مع الطائرة الفرنسية إلى مانيلا ليزور أساتذة كلية اللغة العربية، ومنهم وكيل الكلية- الذين كانوا يعملون في دورة تعليم المدرسين المسلمين اللغة العربية في الفلبين- وكان هذا فعلا هو الواقع. أي أن العفش حلق فوق المحيط الهادي وألقى عصا ترحاله في مطار مانيلا.(24/77)
ونزلنا في فندف: (قرين سنترال) واتصلنا بالأخ أنور إبراهيم وهو شاب نشط في بلاده فلم نجده، وكان الشيخ عبد القوي بين آونة وأخرى يتصل بهاتف أنور فيجد بعض أقربائه- الذي لا يتكلم اللغة العربية ولا يجيد اللغة الإنجليزية- فيحاول كل منهما تفهم صاحبه بصعوبة بالغة فشكا الشيخ عبد القوي من هذه الحالة فقلت له: ينطبق عليكما المثل اليمني القائل: (عمياء تخضب مجنونة) .
إن الطيور على أشباهها تقع (وهكذا الفنادق) :
22/ 8/ 1400 هـ:
وفي الصباح اتصلنا بالأخ أنور فوجدناه في الساعة الثامنة وقال لنا: بعد قليل يأتيكم من ينقلكم إلينا لنعمل لكم برنامج زيارة بعض الولايات- وما كنا قادرين على تلبية هذا الطلب وإن كان من أمانينا لضيق وقتنا لأن برنامجنا أصلا كان في أندونيسيا.
وفتحت نافذة الفندق وأطللت منها فإذا الأرض كلها خضراء بأشجار فارعة الطول مثل النارجيل ومتوسطة كالببايا وقصيرة وما كنا رأينا ذلك قبل لأنا نزلنا ليلا.(24/78)
وبعد قليل جاء إلينا مندوب الأخ أنور وهو الغزالي نواوي الذي أخذ الماجستير من الأزهر والدكتوراه من لندن عام (1971 م) وقال لنا فور وصوله: إن في هذا الفندق دعارة وخمورا لأن مالكيه والعمال فيه صينيون فلابد من خروجكم منه- ولنا مع الفنادق مشكلات ومشكلات- ولكن نحمد الله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان: فكم فندف نزلنا به في بلاد الشرق والغرب وهو يعج بالمعاصي والفساد وخرجنا منه غير مأسوف علينا من قبل أهله وهذا من فضل الله علينا وقد سبق الكلام على فندق شاطئ البحر الفاخر في كراتشي الذي نصحنا بالخروج منه الشيخ عبد الرحيم أشرف معللا بنفس العلة، وذهبنا إلى فندق شيراز ويسمى بالفندق الإسلامي عند المسلمين وقد كنا حاولنا النزول به أول وصولنا فلم نجد فيه مكانا ونقلنا صاحبه بسيارته إلى هذا الفندق ولم نجد أيضا في الفندق غرفا فارغة ولكنا جمعنا في مطعم هذا الفندق الفطور والغداء معا- جمع تأخير- ثم زرنا المركز المعروف اختصاراً بـ (أبيم) أي مركز حركة الشباب الإسلامي الذي يقع قرب مبنى الإذاعة، وهو يشتمل على مدرسة ثانوية ومتوسطة ومكتبة بها مراجع ومطبوعات إسلامية ومكاتب إدارية وأهل المركز كلهم في حركة دائبة ونشاط مستمر في الدعوة إلى الله والتعليم ونشر مبادئ الإسلام بالوسائل المتاحة لهم.
ويحاولون محاولة جادة الحفاظ على أبناء المسلمين في عقيدتهم وأخلاقهم- لا في ماليزيا وحدها، بل في كثير من مناطق جنوب شرق أسيا وقد لمسنا ثمرة جهودهم حتى في هونغ كونغ.
وقد يجمع الله الشتيتين:
وبعد أن صلينا الظهر في المركز تم الاتصال بالمسئولين عن العفش في المطار فبشرونا أن العفش قد وصل من مانيلا، فذهب الأخ عبد الله با هرمز والابن عبد البر وأحد شباب المركز فتسلموه وجاءوا به فحمدنا الله الذي جمع بين الشتيتين بعد أن ظنا ألا تلاقيا.
متع الدنيا والآخرة:(24/79)
وقام الأخ دحلان يشرح لنا نشاط المركز الذي يقوم به أعضاؤه من تدريس وتوعية وطبع كتب وتوزيعها، وإقامة مخيمات شبابية وغير ذلك مما هيأه الله لهم وهيأهم له في جنوب شرق أسيا.
طلب منا الاخوة أن نذهب إلى منطقة تسمى: (برطك) لهم فيها مقر أعارتهم الحكومة يقيمون فيه بعض نشاطهم لشبابهم من مؤتمرات ومحاضرات وندوات وغير ذلك فلبينا رغبتهم وكان قائد السيارة الذي نقلنا الشاب محمد أمين الذي كان مدرسا في المدارس الحكومية ثم انتقل يدرس في مدرسة المركز ولكنه عازم أن يعود إلى المدارس الحكومية ليقوم بواجب توعية أبناء المسلمين فيها ويفهمهم دينهم ويحميهم من التيارات الفكرية المضادة للإسلام.
وكان الشيخ عبد القوي يتمنى أن يحصل كل على فاكهة تسمى: (ليتشي) فمر بنا قائد السيارة فبحثنا عنها ولم نجدها ولكننا وجدنا فاكهة أخرى- وما أكثر الفواكه هناك- تسمى: (رامبوطن) وهي بيضاوية الشكل عليها غلاف غرز الخالق فيه ما يشبه الشوك إلا أنه ناعم، عندما يزال هذا الغلاف- وإزالته سهلة وآلتها الظفر- يظهر ما بداخله مثل البيضة في اللون والنعومة وفي داخل هذا اللب بذرة صلبة يأكل الآكل اللب ويرمي تلك البذرة وكنا نأكل ونحفظ القشرة والبذرة في السيارة ولا نرميها في الشارع التزاما بالنظام الذي يحظر رمي أي شيء في الشوارع التي ظهرت نظيفة غير محتاجة إلى جيش من المنظفين صباحا ومساء.
وقيمة الكيلو من هذه الفاكهة ريال وربع سعودي، قال الشيخ عبد القوي: "إن الكيلو من هذه الفاكهة إذا جاء به التجار إلى المملكة يباع بأربعين ريالا".(24/80)
وكانت شوارع المدينة مع نظافتها وجمالها تزداد جمالا بتلك الحلية الربانية التي منحها الخالق: الأشجار التي تحفها من الجانبين, وعندما خرجنا من المدينة زادت الدهشة من تلك الغابات التي تشبه السحب المتراكمة كالجبال بعضها فوق بعض, ولا يرى الإنسان شيئا من اليابسة في الجبال والوديان اللهم إلا ذلك الطريق الملتوي مثل الثعبان بين تلك الجبال والغابات وبعض البيوت التي تكاد تكون محتجبة ما عدا اليسير فيها، وكان في تلك الغابات الأشجار الطويلة الفارعة الطول كأشجار النارجيل التي تشبه أشجار النخيل, ومنها المتوسط, ومنها القصير, ولذلك يرى الإنسان الغابة على هيئة طبقات مثل البحر الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ومنها ذو الثمرة كالمانجو والنارجيل والباباي والموز.... ومنه ذو القيمة التجارية والاقتصادية كالمطاط, وإنها لتأخذ بالألباب إلى الخالق سبحانه.
قلت للشيخ عبد القوي: هل رأيت مثل هذا من قبل؟ فقال: لا وإن كان يوجد في الباكستان ما يشبهه في بعض المناطق. قلت: إسمع هذا الحديث عن الجنة "فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر", فازدادت القلوب شوقا إلى الجنة.
قال الأخ عبد الله باهرمز: لقد مررنا بجبل ونحن في طريقنا إلى المطار صباحا فاندهش عبد البر عندما رآه مكسوا بتلك الطبقات من الخضرة فقال: إنني أَشعر كأنني في حلم ليت عندنا مثل هذا الجبل فقلت: سبحان الذي قسم أَرزاقه بين خلقه, كم من أَمة تتمنى وجود المطر والغابات مثلنا, وكم من أمة تتمنى وجود البترول الذي يوجد عندنا, وقد خصها الله دوننا بكثرة الأمطار والغابات والفواكه.(24/81)
ولكن عندنا فوق ذلك مالا يوجد عند غيرنا: إنها الكعبة، المسجد النبوي الشريف, وإنا لأساتذة العالم بهما وبهذا الدين لو تمسكنا به, وستكون الأرض كلها شرقها وغربها شمالها وجنوبها في أيدينا لو طلبنا العزة من الخالق سبحانه وتمسكنا بدينه وجاهدنا في الله حق جهاده.
وفي أَثناء السير سأل الأخ محمد أَمين سؤالا مهما جدا هو: كيف يقدر الداعي إلى الله أن يقوي الإيمان في قلوب المسلمين ويلهب عواطفهم.؟.
قلت له: الجواب عليه هو الإجابة عن السؤال الآتي كيف يبدأ الداعي إلى الله بنفسه فيقوي إيمانه ويلهب عاطفة نفسه؟ وأخذنا نناقش هذا الموضوع, ولكنا وصلنا إلى المنطقة قبل إتمام الإجابة عنه وطلب الأخ أن نستمر في مذاكرة هذا الموضوع غدا, واستأذن ليعود إلى كوالالمبور لارتباطه ببعض الأعمال هناك وتبعد المنطقة عن العاصمة أربعين ميلا تقريبا.
وسأل الشيخ عبد القوي عن الطائف وغامد وأَبها وعن نصيبها من الأشجار والغابات, وكان عبد البر قد زار الجنوب في إحدى رحلاتنا مع طلبة الجامعة الإسلامية قبل ثلاث سنوات فقال: أين تلك من هذه يا شيخ عبد القوي؟ مستبعدا المقارنة.
واستقبلنا الإخوة المشتركون في النشاط مستبشرين بقدومنا، وكانوا هم المسئولين عن الشعبة الاقتصادية للمركز وكان نشاطهم حول هذا الموضوع مع استغلال أوقاتهم كلها في طاعة الله من قراءة القرآن والذكر وقيام الليل وغير ذلك.(24/82)
وقدموا لنا شيئا من الطعام تناولنا منه ما نريد- وهو مفلفل أيضا-, ثم ذهبوا بنا إلى غرفة كبيرة بها أسرة, كل سرير مكون من طابقين تتسع هذه الحجرة لإثني عشر شخصا، والمباني كلها من الأخشاب والزنك وهي متسعة جدا، لأنها أسست لاستيعاب أكبر عدد ممكن ممن تريد الحكومة تدريبهم من الشباب، أو إقامة مؤتمرات أو غيرها, وقال لنا الإخوة: خذوا راحتكم من الآن إلى ما بعد صلاة العشاء, ثم نأتي لكم لتلقوا محاضرة في القاعة الكبيرة, وبعد أن استحم كل منا وغيرنا ملابسنا التي بقيت علينا ثلاثة أيام لغياب عفشنا, وصلينا المغرب والعشاء جاءنا الاخوة فانتقلنا إلى القاعة حيث بدأ فضيلة الشيخ عبد القوي بتلاوة آي من القرآن الكريم ثم ألقيت المحاضرة وكانت متضمنة الإجابة عن سؤال الأخ محمد أمين الذي مضى قريبا لأنني رأيت أنه هو موضوع الساعة.
وبعد الفراغ من إلقاء هذه المحاضرة ألقى بعض الحاضرين بعض الأسئلة وأجبنا عنها كان المترجم الأخ عبد الله باهرمز لأن لغة الأندونيسيين والماليزيين مشتركة.
وطلبوا منا أن نلقي محاضرة بعد صلاة الفجر, موضوعها وسائل الانكفاف عن الربا, وإذا اتسع الوقت نجيب عن بعض الأسئلة, واستغرق وقت المحاضرة والإجابة عن الأسئلة في الليل ساعتين إلا قليلا.
كيف نقضي على الربا؟
23/8/1400هـ:
جاءنا بعض الشباب قبل صلاة الفجر بنصف ساعة فأيقظنا لنستعد للصلاة فتوضأنا وذهبنا إلى المسجد, ووجدنا الإخوة منهم من يقرأ, ومنهم من يذكر الله, ومنهم من يتوضأ, وبعد أن أذن وصلى بنا صلاة الفجر قرأ الشيخ عبد القوي ما تيسر من القرآن الكريم ثم بدأت المحاضرة وكانت مناقشة لقضايا عامة وأصول يمكن الانطلاق منها إلى المطلوب وهي:
1- هل يقبل أغلب المسلمين تنفيذ المعاملات الإسلامية عامة ومنها المعاملات الاقتصادية؟.(24/83)
2- هل يسهل تطبيق الأحكام الإسلامية كاملة في مجتمع يدين في تصرفاته بقوانين الجاهلية وأعرافها؟.
3- هل توجد فئة صالحة قادرة على السباحة ضد التيار الجاهلي في بلدان العالم الإسلامي- فضلا عن بلدان الكفر-؟.
4- كيف توجد الثقة في نفوس المسلمين بعضهم ببعض حتى يتعاونوا في تعامل بعضهم مع بعض بدلا من التعامل مع الكفار والإيداع في بنوكهم الذي يغريهم بالربا والفائدة الحرام؟.
5- بيان أن كثيرا من المسلمين لا يسلمون أمرهم في أنفسهم وفي أموالهم وفي تصرفاتهم كلها لخالقهم اقتداء منهم بأعداء الله الكافرين الذين غرسوا في نفوسهم فصل الدين عن الدولة فأصبحوا يقولون بلسان حالهم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} .
6- امتناع كثير من أغنياء المسلمين عن أداء الزكاة وإقراض المحتاج مما يؤدي إلى اضطرار كثير من المسلمين إلى أخذ المال بالربا.
7- وجوب إقناع الناس بشمول منهج الله لحياتهم كلها ومنها المعاملات المالية.
8- إقامة شركات إقتصادية بين المسلمين مبنية على أسس الشركات والمعارف الإسلامية.
9- إقناع تجار المسلمين وأغنيائهم بوجوب تقديمهم ما أوجب الله في أموالهم وفقراء المسلمين.
10- وجوب السعي الجاد للتخلص من الربا بصفة فردية وجماعية حسب الاستطاعة.(24/84)
وكانت هذه الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة الآيات: 278- 280) . هي محور المحاضرة.
واستغرقت هذه المحاضرة ساعتين تقريبا وكان المترجم الأخ عبد الله با هرمز وكانت أصوات الطيور الكثيرة المختلفة تتخلل المحاضرة.
ذهبنا بعد ذلك لتناول طعام الإفطار الذي كان مشبعا بالفلافل, قال الأخ عبد الله با هرمز: هذا الطعام حار؟ قلت: لا حاجة إلى هذا السؤال فقد أصبحنا من أهل الفلفل على رغم أنوفنا ونخشى أن نعود إلى المدينة ونحن نحمل الدعوة إلى الإكثار من الفلفل في الطعام إقتداء بالباكستانيين والماليزيين- وكذلك الأندونيسيين كما ظهر لنا بعد ذلك- الذين ربما سمعوا المثل اليمني القديم: "من دخل بلادنا حمر" فحرفوه بلسان حالهم قائلين: "من دخل بلادنا فلفل"فقد فلفلنا. ثم خرجنا نجول في الأماكن القريبة نتمتع بتلك المناظر العجيبة لنرى ألوانا من الزهور وطبقات من الأعشاب والأشجار، ونسمع خرير النهر الجاري في وسط الغابة وأصواتا موسيقية مباحة من أنواع كثيرة من الطيور، والجبال تحيط بنا مختالة بتلك الملابس الخضراء الموشاة بأنواع الزهور وقد ارتفع فوق قممها السحاب المتنوع منه الأسود الداكن الذي يكاد يعصر منه المطر الغزير، ومنه الأبيض الذي يشبه زبد الحليب الذي ارتفع عند الزناد، والجو بذلك يشبه وقت طلوع الفجر ونحن في وقت الضحى والشمس قد ارتفعت في السماء.(24/85)
وذهبنا إلى النهر الذي يجري بين صفين من أشجار الغابة يحيطان به كما يحيط الغلاف بالكتاب وفي وسطه صخور منها ما يغطيه الماء ومنها العالي الذي لا يغطيه إلا عندما تغزر الأمطار وترتفع نسبة الماء, واشتقت عندما رأيت الماء الجاري الشديد الصفا أن أبلل رجلي فيه فأخذت أقفز، كافّا ثوبي، من صخرة إلى أخرى، وكان الشيخ عبد القوي ينظر إليّ عازما على الاقتداء بي، ووقعت رجلي على صخرة تطفو عليها الماء قد كساها الطحلب فسقطت في وسط النهر بملابسي فكان ذلك إنذاراً للشيخ عبد القوي الذي قفز إلى خارج النهر بعد أن كان قد استعد للقفز من على الصخرة إلى وسطه.
وبعد أن تمتعنا بتلك المناظر الطيبة والأصوات المطربة نقلنا أحد الأعضاء بسيارته إلى قرية مجاورة حيث استأجر لنا سيارة أخرى توصلنا إلى كوالالمبور ورجع هو إلى المكان لارتباطه.
وفي طريقنا إلى تلك القرية سألت عن شجر المطاط الموجود بكثرة لِمَ لم يقطعوه؟ وكنت أظن أن الشجر يقطع ويصنع منه المطاط, فأخبرت أن المطاط لا يصنع من نفس الأخشاب وإنما يصنع من سائل يخرج منه أبيض يشبه الحليب فوقفنا لنرى تلك المادة وكيف تستخلص، فرأينا أنه ينحت الخشب بقلع شيء من قشرة الخشبة ثم يعلق إناء في أسفل هذا النحت وفيه تنزل قطرات هذا السائل الأبيض تعلو هذا السائل قشطة مثل قشطة الحليب. قلت للشيخ عبد القوي: ألاَ تذوق شيئا من هذا الحليب؟ قال: أنت أولى به.
ولقد كانت هذه الجولة إلى هذه المنطقة (برطق) متعا مادية بمباهج الحياة الدنيا, ومعنوية بالمذاكرة العلمية واللقاء الأخوي الإيماني. وعندما ركبنا في سيارة الأجرة كان السائق يحاول الإسراع بصفة مخيفة ولكنه وافق أن اليوم يوم إجازة- يوم الأحد- وكان الشارع مزحوما فلم يجد بدا من التريث الإجباري.(24/86)
ونزلنا في فندق شيراز الذي كنا حاولنا النزول فيه من قبل فلم نجد مكانا فارغا وكان يوجد به الطعام الحلال، أما الشراب فكان يوجد فيه الحلال كما يوجد الحرام. وهذا أمر يؤسف له, يقال عن بعض الفنادق إنها إسلامية ويفرح المسلم المسافر بهذا الوصف ثم يجد أنه يجاهر ببيع ما حرم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكنا متفقين مع الأخ محمد أمين أن يأتي إلينا قبيل صلاة العصر يرافقنا إلى شاطئ البحر لنجمع بين التمتع بمناظر الجبال والشعاب الخضراء وبين التمتع بمنظر البحر, ولكن الأخ محمد أمين جاءنا بعد صلاة العصر معتذرا لأن سيارته أصيبت بخلل فعرضنا عليه أن نستأجر سيارة ونذهب فاستحسن أن نتأخر إلى ما بعد صلاة الفجر ليأتي هو بسيارته أو غيرها من سيارات إخوانه فوافقنا على ذلك وبخاصة عندما علمنا أنه يبعد ستين ميلا أو أكثر عن كوالالمبور والوقت بعد العصر قصير, وعرض علينا إن كنا نحب أن نتمشى في المدينة, فرأينا ألا داعي لذلك لأنه يوم إجازة يكون الزحام فيه شديدا وفيه مالا نحمد مشاهدته- وإن كان ذلك في شعب إسلاميا- ففضلنا الراحة.
المسلمون أكبر أقلية في بريطانيا
حلّ الإسلام محل اليهودية كأكبر دين بعد المسيحية في بريطانيا، وبلغ الآن عدد المسلمين في بريطانيا، وهم ينحدرون من أصل باكستاني، وهندي وبنجلاديشي حوالي مليون ونصف مسلم، وقد كان عدد اليهود قبل سنوات، أكثر من أربع مائة ألف، فكانوا يعتبرون أكبر أقلية في بريطانيا.
ينتمي نصف عدد المسلمين في بريطانيا إلى باكستان، وبنجلاديش ويبلغ عدد المسلمين القادمين من الهند حوالي مائة ألف ومعظمهم من ولاية كجرات.
وكان أول فوج من المسلمين الذي دخل إلى بريطانيا من اليمنيين الذين دخلوا بريطانيا في عام 1899 وبمساعيهم انتشر الإسلام في البريطانيين.
الرائد الهندية(24/87)
إلى الذين يبثون الألغام في طريق الإسلام
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
المؤامرات على دين الله الحق بدأت منذ أعلن إبليس الحرب على آدم وذريته قبل هبوط الفريقين إلى الأرض، إذ قال لربه- تصريحا بما يكنه لذرية آدم من الشر-: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف15-16) , وقد فهم أولو العلم من هذا الوعيد أن عدو الله مصمم على صرف الإنسان عن شريعة الله بقعوده وذريته على منافذها لمنعهم من الوصول إليها ….
ومنذئذ جعل هذا العدو يعبيء قواه بكل ما يملك من وسائل التزوير والإغراء والإفساد لإنفاذ وعيده، فاستحوذ على الكثير من أهل الجهل والغفلة، واتخذ منهم جنودا يدعون إلى النار، ويزينون لأمثالهم طريق قائدهم، وهكذا استحالت البسيطة حلبة صراع لا ينطفيء أوارها بين الأشرار والأخيار، والأحرار والأغرار، حتى تقف مسيرة الحياة.. ويحشر المصلحون والمفسدون لأداء الحساب …
ولقد اتخذ أعداء الحق في كل واحدة من مراحل المعركة أنواعا من الأسلحة، كان أهمها الانحراف عن منهج الله، الذي زود به الإنسان لحماية نفسه وجنسه من كمائن الشيطان، فأبى أكثر الناس إلا كفورا، وألفوا الانسياق في مواكب الضلال، فكانت البدع، وكانت آلاف النظم التي عمقت الهوة بين الإنسان وخالقه الرحمن.(24/88)
تذكرت هذا كله وأنا أقرأ زاوية الأستاذ أحمد بهاء الدين (مسلم.. ثم لماذا؟) في عدد الأحد 8/ 11 / 1981 من (الشرق الأوسط) ، إذ وجدت فيها واحدة مصغرة من صور المعركة الأبدية، التي عانوا ولا يزال يعاني منها تاريخ الإسلام، تارة على أيدي منافقي المدينة، وأخرى من دسائس أهل الكتاب، وثالثة من مؤامرات الباطنية، التي بسطت سلطانها على الجاهلين والغافلين، الذين لم يكن لديهم من الوعي ما يعصمهم من الاستجابة لكل ناعق.. وليس هجوم علي عبد الرازق- في النصف الأول من العصر الحديث- على حمى الخلافة، ودعوتُه المضللة إلى تبني طريقة الغرب الصليبي اليهودي في فصل الإسلام عن ساحة الحكم، سوى خطوة جديدة في طريق الهدم لأهم قواعد هذا الدين، متمثلة في شهادة التوحيد، التي تربط المؤمنين بعهد مع الله ألا يشركوا معه أحدا، وأن يتخذوا من رسوله الأمين إماما، يتبعون سبيله في أسس الحكم، كما يتبعونه في عبادته وفي تصرفاته العامة جميعا، حتى تصبح كل حركة وسكنة من وجودهم عبادة خالصة لله..
لقد كانت دعوة هذا الشيخ الضال في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) خرقا خطيرا في جدار الإسلام، فتح الباب على مصراعيه للجهلة من حكام الشعوب الإسلامية، فاتخذوه منطلقا لتخريب مجتمعاتهم، وحجتهم في ذلك أن القائل بهذه التخرُّصات واحد من خريجي الأزهر، وأحد رجال القضاء في بلد الأزهر فرأيه في قضايا الحكم هو دون ريب رأي الإسلام!.
ومن هنا اتخذت الفتنة الحديثة طريقها الجريء إلى تقويض دعائم النظام الإسلامي في نطاق السياسة، التي أصبحت منذ ذلك اليوم ألعوبة الطواغيت، يعبثون عن طريقها في كيان المسلمين، كما تشاء لهم أهواؤهم، وكما يوحي إليهم سادتهم من شياطين الشرق والغرب..(24/89)
وخلال النصف الثاني من القرن الجاري بلغ انقضاض الطواغيت على حرمات الإسلام أشده، وأسلم معظمهم أزمته إلى ألد أعداء الإسلام، حتى لم يعودوا يتحرجون من إعلان انصرافهم عن دين الله، باعتباره قد استنفد أغراضه، ولم يعد صالحا لأي عطاء ... ولم يكتف هؤلاء بمظلة الاستبداد والاحتماء بسلاح الأعداء، فسخروا لخدمة أفكارهم الضالة عددا غير قليل من حملة الأقلام، الذين أتقنوا فن الكلام، مع الجهل التام لحقائق الإسلام، وتوزعوا مهماتهم، ففريق يعلن الحرب على هذا الدين منكرا عليه كل خير، وناسبا إليه كل شر، وآخر يتزلف إلى جماهير المسلمين بارتداء مسوح الغيرة على الدين، فيهيب بالحكام أن يبعدوا الإسلام عن جراثيم السياسة، ويقصروه على مهمته الأساسية من تهذيب النفوس، وتنمية الأخلاق الفاضلة، وتطويع الجماهير لسلطان الحكام في كل أمر أو نهي يصدرونه، حتى ولو كان من ذلك أمرهم برفع الحجاب، وإلغاء الفوارق الطبيعية بين الجنسين، وتعطيل شريعة الله في الإرث، ومصادرة الأوقاف المحبوسة لبيوت الله، وحظرهم لتعدد الزوجات، ولو أدى ذلك الحظر إلى تكديس العوانس وشيوع الفحشاء، التي تصبح تحت سلطانهم عملا مباحا بحماية القانون..
وقد نسي هؤلاء- (الغُير) على كرامة الإسلام من لوثات السياسة- أن في رأس مهام الحكومة الإسلامية تطهير السياسة من جراثيم الفساد والكذب والخداع، وذلك برد الحكم إلى وضعه الصحيح حتى يكون أمير المسلمين خادما للأمة، وحارسا لأمنها وعزتها، وحتى يكون عماله بمثابة الآباء لمن هم تحت ولايتهم من المسلمين، يعلمونهم ويسددونهم إلى كل ما هو مصلحة لهم- كما أعلن ذلك ثاني الراشدين على ملأ من جماهير الحجيج.(24/90)
ويشاء الله لبعض الطغاة، وهم في أوج قوتهم، أن يسلط عليهم بعض شركائهم فيخلعوهم، ويلقوا بهم في غيابات السجون، التي طالما شحنوها بالأبرياء ... فتكون فرصة لمراجعتهم ماضيهم، فلا يلبثون أن ينقلبوا عليه، إذ يجدون في خلوتهم القاهرة فسحةً للاتصال بكتاب ربهم يتلونه صباح مساء، فيشهدوا من آثاره وأسراره ما يردهم إلى الكثير من الخير، حتى إذا فرج الله كربهم فأفرج عنهم، غادروا سجونهم بنظر جديد وتصور ما كان ليخطر على بالهم، لولا هذه المحن المطهّرة، وإذا هم دعاة للإسلام، رافضون لكل ما سواه من أنظمة. وفي عبد السلام عارف من قبل، وفي ابن بلاّ هذه الأيام، خير مثال لهذه الحقيقة، التي تجلت في الكثيرين من الممارسين لتلك التجربة. ولكن المؤسف أن ردَّ الفعل هذا لم يقدَّر بعد لخطباء الفتنة من أصحاب الأقلام التي سخرها الشيطان لخدمة الطواغيت، ذلك لأنهم سرعان ما ينتقلون من موكب أحدهم إلى موكب خاصمه، فيستأنفون كفاحهم من جديد.. معتذرين عن ذبذبتهم بما يسميه أحدهم (عودة الوعي) !. ومن يدري فلعلهم لو جربوا محنة السجن لاستردوا في ظلماته وعيهم، ولعادوا إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها سادتهم التائبون وعلى هذا لا ندري ما الذي يجب علينا بالنسبة لهؤلاء الذين وقفوا أقلامهم على خدمة أنواع الطواغيت، سواء من الأفكار الهدامة، أو من المتسلطين الهدامين.. أندعو لهم بخلوة طويلة في سجون الظالمين تفتح لهم السبيل إلى توبة نصوح تكفر عنهم سيئاتهم؟، أم ندعو عليهم بدعوة نبي الله موسى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} على أنا بدافع من الشفقة عليهم نؤثر لهم الحسنى، فنسأل الله لفهمي هويدى، وعبد العظيم رمضان، وإحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، والباقوري، وسائر إخوانهم، من تلاميذ مدرسة علي عبد الرزاق، أن يرزقهم المحنة التي تطهرهم(24/91)
وتزكيهم وتردهم إلى ساحة النور، حتى يتولوا إصلاح ما أفسدوه من فطرة الجيل، الذي طالما أحسن بهم الظن، فدفعوه إلى حافة الهاوية الموصلة إلى ذلة الدنيا والآخرة..
ونعود إلى زاوية الأستاذ أحمد بهاء الدين لنحاوره في بعض أفكاره، التي فقدت طرافتها لكثرة الاستعمال حتى الابتذال.
لقد برع هذا الكاتب حقا في تمرير مقلبه إلى القارئ البسيط بما قدم له وما خالط كلامه من معسول الألفاظ، التي يريد بها إقناعه بأنه على غاية من الاحترام لكتاب الله، ولصحابة رسول الله، الذين لا يضن على (بعضهم) بالترضي عنه، ومن ثَم يعرض ما يريده من تشكيك لذلك القارئ البسيط في صلاحية القرآن لإقامة الحكم الصالح في بلاده..
فالقرآن باعترافه نزل لكل زمان ومكان، وتحكيمه في حياة الناس أمنية مفضلة لديه، تستحق أن يعبر عنها بـ (ياليت) إلا أنه مع ذلك لا يرى سبيلا لتحقيق هذه الأمنية في واقع الناس، لسبب واحد هو فقدان العالِم الثقة الذي يصلح لتفسير أحكامه على الوجه الصحيح ولعله يريد بالصحيح الذي يرضي مدرسته-.
ثم يمضي الكاتب في سرد الأدلة المؤكدة لما يذهب إليه من هذا الرأي، وفي رأسها الخلاف الذي نشب بين كبار الصحابة إثر وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما أفرزه من مذاهب (سنة, وشيعة, وأموية [1] , وخوارج, ومعتزلة, إلى آخره) إلى أن يقول بأن هذا الخلاف هو الذي دعا أمير المؤمنين عليا- رضي الله عنه- إلى القول: "بأن القرآن حمال أوجه"ويفسر الكاتب هذه العبارة بقوله: "أي يمكن تفسيره ألف تفسير ... "
ثم يعقب على ذلك بسرد أسماء كبار المصلحين الإسلاميين من المتأخرين، ليرينا أنهم جميعا قد عجزوا عن حل الخلاف.. ومن هنا يأخذ بالالتفاف حول الجماعات الإسلامية الذين يحملون راية الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فيتهمها بالتآمر في ليل لغرض تفسير للقرآن لا تملكه..(24/92)
وقبل الدخول في تقويم هذه المزاعم أراني مضطرا للاعتذار عن تعرضي لمناقشتها، لأن مضمونها لا يرتفع إلى مستوى العلم الذي يستوجب النقاش، ومرد ذلك كونها مجموعة من ادّعاءات لا يفوت تهافتُها نظر لبيب، ولولا خشية المسئولية أمام الله عن السكوت على المنكر لما حركت قلما في تفنيدها والله..
ثم هناك سبب آخر يشدني بقوة إلى هذا التعقيب، ذلك أن ادعاءات هذا الكاتب ليست وقفا عليه، ولكنها شنشنة يرددها تلاميذ المدرسة (العرزقية) المنبثين في أرجاء العالم الإسلامي، وكأنهم ينطلقون عن مخطط مدروس غايته الخلفية تشكيك أشباه العامة في صلاحية الإسلام للحكم، كي يكونوا مستعدين لقبول كل دعوة ينعق بها المنحرفون، ومن هنا كان تعقيبي هذا بمثابة الرد العام على مزاعم هذه المدرسة جميعا.
فلننظر الآن في مستندات الأستاذ أحمد بهاء الدين التي يعتبرها حججا لا تقبل الرد، وأهمها هو ذلك الخلاف القديم الذي نشب بين الصحابة حول تفسير القرآن- بزعمه-
والحق أنه لزعم فيه الكثير من الطرافة، ولا مردود له سوى التوكيد على جهل مطبق في تاريخ ذلك الخلاف، إذ المتفق عليه بين أهل العلم أن أول خلاف حدث بين الصحابة كان حول قضية الخلافة، ومن أحق بها من الأنصار والمهاجرين، وقد حل الخلاف برد الأمر إلى نظام الشورى، الذي قرره القرآن الكريم، وأوضحه التطبيق النبوي، فما إن طرح الموضوع على الحوار حتى انتهى الجميع إلى الرضى بحكم الله ورسوله، وتمت البيعة للخليفة الأول دون أي خلاف. فأين ما زعمه هذا الكاتب من قصر الخلاف على تباين الآراء حول تفسير القرآن!.(24/93)
وعلى أساس ذلك التعليل المهزوز يعرض لكلمة أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه- "القرآن حمال أوجه"ليؤكد بمنطقه المقلوب أن هذا القول من أمير المؤمنين اعتراف قاطع بأن لا سبيل إلى الإجماع على تفسير موحد للقرآن، وإذا كان هذا رأي ذلك الصحابي الجليل، وهو من هو علما وفقها وسعة آفاق وقربا من ظلال النبوة، فلا أمل إذن بالاتفاق على وحدة الاتجاه في فهم كتاب الله..
وأنا لا أستطيع القول بعجز الكاتب عن الإحاطة بمدلول هذه العبارة لو كلف نفسه النظر في موردها، والظروف التي قارنتها. والذي أذكر من ذلك أن عليا قد وجه هذه الكلمة إلى عبد الله بن عباس حين هم بإرساله لمحاورة الخارجين عليه، فنبهه إلى أنهم قوم محدودو المدارك يشتبه عليهم مفهوم الآي، فيدخلون في جدال لا محصول له، وإنما عليه أن يكيف أسلوبه معهم وفق مستواهم عملا بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ... " [2] .
ومعلوم أن الشرارة الأولى في خروج هؤلاء على عَلِيّ كانت إنكارهم قبوله التحكيم في موضع الخلاف بينه وبين معاوية، أخذا منهم بظاهر قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه} ومن ثَمّ رفعوا شعارهم القائل: "لا حكم إلا لله".. واعتبروا كل خارج عليه من الكافرين. ومن أجل ذلك كان توجيه علي لابن عمه أن يأخذهم بمنطق السنة المفصلة لمجمل القرآن، لعلمه أن حجتهم الوحيدة في رفض التحكيم هي تقيُّدهم بحرفية النص، وعجزهم عن الإحاطة بمضمونه الفقهي العام..(24/94)
ولكن الأستاذ أحمد بهاء الدين يأبى الوقوف من عبارة أمير المؤمنين عند حدود المناسبة الخاصة، فيحاول أن يجعلها شاملة لكل ما يتصل بتفسير القرآن، ولا محصول لذلك في النهاية سوى تعطيل علوم التفسير، ومن ثم صرف المسلمين عن كتاب ربهم، الذي لا مندوحة لهم عن الرجوع إلى الراسخين في العلم ليتعلموا منهم ما تعذر عليهم فهمه من آياته ومفرداته.. عملا بأمر الله الذي يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ..
وهكذا رأينا الكاتب يتخذ من عبارة علي- رضي الله عنه- تُكَأةً ينطلق منها إلى إنكار صلاحية القرآن لحكم الشعوب الإسلامية، وكان عليه أن يسأل نفسه إذا كان ذلك كذلك فبأي نظام إذن كان علي ومعاوية يحكمان شعوبهما؟.. وبأي الأنظمة كانت هذه الأمة تساس طوال هذه القرون..؟
ولقد علم كل ذيِ صلة بالتاريخ أن هذه الشريعة الإلهية استمرت تحكم العالم الإسلامي كل هذه الأحقاب، وفي العصر العباسي بسطت جناحيها على أربعمئة مليون من مختلف الأجناس والألسنة، فساستهم بأفضل ما عرف البشر من العدالة والأمن.. وأن كل ما تواجهه اليوم من عقبات في ديار الإسلام إنما وفد عليها من أعدائه، الذين عجزت أسلحتهم عن قهره في سوح المعارك، فعمدوا إلى تطويع جيل من أبنائه للقيام بهذه المهمة، بعد أن غسلوا قلوبهم وأدمغتهم من كل أثر له، فراح هؤلاء يرددون ما لقنهم شياطينهم من مفترياتهم عليه. وليس هجومهم على نظام الحكم في الإسلام هذه الأيام سوى واحدة من صور المعركة بينهم وبين هذا الدين الخالد.(24/95)
وليت هؤلاء قد رزقوا حظا من الإنصاف، إذن لتذكروا جيدا أن الجيل الذي قاد ملاحم الفتح، فوصل ما بين الصين وأوروبة، تحت راية القرآن، إنما حقق ذلك بفضل التزامه منهجه الأعلى، حتى إذا انتهى الأمر بالأجيال التالية إلى التهاون بذلك المنهج غلبتهم الأهواء فتفرقوا شَذَر مذَر، وفقدوا ما أورثهم السلف الصالح من الأوطان والأمان.. وكفى بهذه التجربة برهانا على أنه لا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..
ثم ليس من عاقل يشك أن هؤلاء المتطوعين لتشكيك المسلمين في صلاحية شريعتهم الإلهية، على امتداد العالم الإسلامي، يدركون قدرة هذا الدين على الصمود بوجه كل التيارات الهدامة على اختلاف صورها وألبستها، إلا أنهم مصممون على الاستمرار في طرح وساوسهم، أملا في أن تترك آثارها في نفوس البسطاء من عامة المسلمين، فهم دائبون على قرع آذانهم بمكر الليل والنهار، على الرغم من صدمات الإخفاق التي ما انفكوا يواجهونها في أوساط الشعوب الإسلامية، التي لا تدع المطالبة بتطبيق شريعة الله كلما أتاح لها الطاغوت الحاكم فرصة التعبير عن إيمانها العريق. وقد تجلت هذه الحقيقة على أتمها في استفتاءين أجراهما أنور السادات فكان محصولهما وقوف 90% بجانب الشريعة، ولكن هذه النتيجة ما لبثت أن لفها الصمت المريب؛ لأن المتسلطين على المسلمين لا يريدون حكم الله, الذي لن يكون مساعدا لحماة الفساد على البقاء في قمة السلطان..(24/96)
والغريب الذي لا نجد له تعليلا هو جرأة أصحاب الأقلام المسمومة على قلب الحقائق والعبث بنتائج الأحداث.. فهذا أحمد بهاء الدين يعترف بقداسة القرآن العظيم ويصرح بأنه (نزل لكل زمان ومكان) ويعتبر تحكيمه أمنية مفضلة لديه.. بيد أنه في النهاية يقرر استحالة تطبيقه، وإذن فلا مندوحة للمسلمين من الانصراف عنه إلى أي نظام آخر سواه، ما دام المسلمون غير مؤهلين- بزعمه- للوصول إلى تفسير للقرآن يجمعون على قبوله.. فهو بذلك كالطبيب الذي يريد علاج الصداع بقطع رأس المريض، بدلا من البحث عن الدواء المناسب.
وما إخال مثقفا من أهل الإسلام يجهل قول الله تعالى في كتابه العزيز {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ، فهذه المحكمات هي المحددة لمقاصد الشريعة على الوجه الذي لا تتباين فيه أفهام الثقات من أولي العلم على الدهر {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وهي التي يتخبط فيها مرضى القلوب ابتغاء الفتنة، ويقف أمامها الراسخون موقف التسليم لحكمة الله، التي لا ينفك الفكر البشري يكشف منها كل يوم جديدا يضاعف إيمانهم واطمئنانهم. وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف/ 109) .
ومن هذا المنطلق جاء اتساع مجال الرؤية فتباينت المدارك، وتعددت التفاسير دون أي تعارض، بل هو تباين الطاقة على مدى المكتشفات المجدِّدة للمعاني، تحقيقا لوعد الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت/ 53) .(24/97)
وحسب الكاتبُ أنه قد فرغ من تثبيت ما يريد، فتحول إلى غايته المنشودة من الطعن في ظهور المعتقلين من رجال الإسلام، جامعا أصنافهم في قَرنٍ واحد، وهو يعلم في قرارة نفسه أن بينهم القوم الذين أَحرجَ فساد الحكام صدورهم، فأخرجهم من نطاق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى منطق الصراع الدموي، وبينهم آخرون لم يفارقوا أسلوب القرآن الحكيم في إسداء النصح الخالص لأئمة المسلمين وعامتهم، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وجدالاً بالتي هي أحسن، وهو إنما يفعل ذلك آخذا بخطة الإعلام اليهودي الذي لا يذكر هؤلاء الإسلاميين إلا باسم المتطرفين، والحنفاء والسلفيين، وإنما يريد بهذا الوصف تنفير الجماهير من دعوتهم، على اعتبار أنها رجعة إلى الآراء ومنع للمسلمين من مواكبة الركب البشري في طريق التقدم!..
ولعل مروجي هذا التشويه نفسهم لا يجهلون أن الإسلام في مفهوم هؤلاء الهداة المحتجزين ليس هو إسلاما أميركيا ولا ماركسيا ولا اشتراكيا ولا صهيونيا ولا شرقيا ولا غربيا، ولكنه الإسلام الذي أنزله الله على قلب عبده محمد، قد عاهدوا الله على التزامه كله فلا مساومة على بعضه، ولا نفاق فيه لحاكم. وأكبر نعم ربهم عليهم أن جعلهم حنفاء مائلين- عن كل شبهة من الشرك، لا يفارقون في كل تصرفاتهم منهج الصدر الأول من السلف الذين سبقوهم بالإيمان.. فلئن حقق الله بهم نصر ملته وإعلاء كلمته فهي سعادتهم التي إليها يتطلعون، وإذا قدر لهم الشهادة في سجون الظالمين، وتحت سياط الجلادين، فإلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين..
ولأعداء الله وأعوانهم جهنم, وبئس مثوى المتكبرين..
الإسلام في إفريقيا
إن الإسلام ينتشر في إفريقيا بسرعة لا يتأتى عليها الوصف، وإننا لنرى الإسلام أوفق ما يكون لتهذيب الأمم المتخلفة وترقيتها, أما الديانة النصرانية فلا تنالها عقولهم وبذا قد نفع الإسلام المدنية أكثر مما نفعتها النصرانية.(24/98)
إن الإسلام يمتد في إفريقيا وتسير الفضائل معه حيث سار فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من أنصاره. ومع الأسف إن السكر والفحش والقمار تنتشر بين السكان بانتشار دعوة المبشرين!.
(إسحاق طيلر)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يلاحظ أن الرجل يعتبر (الأموية) مذهبا.. وهو رأي فات علماء التاريخ والتشريع!.
[2] رواه الديلمي عن علي مرفوعا. ويقول الألباني في (ضعيف الجامع الصغير) رقم270، هو في البخاري موقوفا، والموقوف هو الصحيح.(24/99)
كتَاب في رؤية الله تبارك وتعالى (2)
تأليف: أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد المعروف بابن النحاس 323-416هـ
تحقيق وتخريج
الشيخ محفوظ الرحمن بن زين الله السلفي
المعيد في كلية الحديث بالجامعة
6- أنا أبو الفضل يحيى بن الرببع بن محمد بن الربيع العبدي نا بكر بن سهل الدمياطي [1] نا عبد الله بن صالح [2] نا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة أنه قال: قال الناس: يا رسول الله أنرى ربنا عز وجل يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(24/100)
"هل تضارون [3] في الشمس (251/2) ليس دونها سحاب، هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا، قال: "فكذلك ترونه، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من يعبد الشمس الشمس، ويتبع من يعبد القمر القمر, ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه [4] الأمة فيها شافعوها أو منافقوها فيأتيهم جل وعز في صورة غير صورته التي يعرفونه فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله جل وعز في الصورة التي يعرفونه فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز [5] ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوة الرسل يومئذ اللهم سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب [6] كشوك السعدان [7] ،هل رأيتم شوك السعدان؟ "قالوا: نعم يا رسول الله قال: "فإنه مثل شوك السعدان غير أنه لا يدري ما قدر عظمها إلا الله عز وجل، فيتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله ومنهم المخردل [8] أو كلمة تشبهها، ثم يتجلى تبارك وتعالى فإذا أراد الله عز وجل أن يخرج من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن يقول: لا إله إلا الله, ممن أراد الله أن يرحمه ثم يعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود, حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجونهم من النار قد أحرقوا، فيصب عليهم ماء الحياة (1/252) فينبتون كما تنبت الحبّة [9] في حَمِيل السيل [10] , ويبقى رجل مستقبل بوجهه إلى النار، يقول: أي رب أصرف وجهي عنها قد قَشَبني [11] ريحها وأحرقني ذكاؤها [12] فيدعو بما شاء الله أن يدعو، فيقول: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك، فيعطي ما شاء من عهود ومواثيق، فيصرف الله وجهه عن النار، فيسكت ما شاء الله ثم يقول: أي رب قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله: قد أعطيت عهودك(24/101)
ومواثيقك لا تسأل غير ما أوتيته، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فلا يزال يدعو حتى يقول: هل عسيت إن أعطيت أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسأل غيرها، فيعطي ربه عهودا ومواثيق ما شاء الله فيدنيه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت [13] له الجنة، فرأى ما فيها من الحبرة [14] والسرور, فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول: أي رب أدخلني الجنة، فيقول: ويلك ابن آدم ما أغدرك ألم تعط عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير ما أعطيت؟ فيقول: أي رب لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله منه [فإذا ضحك منه] [15] قال له: ادخل الجنة فإذا أدخله الجنة قال الله له: تمنّ، فيتمنّى حتى أن الله عز وجل ليذكّره فيقول: بكذا وكذا، فإذا انقطعت له الأماني قال الله: ذلك لك ومثله معه".
قال عطاء بن يزيد: "وأبو سعيد مع أبي هريرة يحدث هذا الحديث لا يرد عليه شيئا من حديثه حتى إذا قال: "ذلك لك (2/252) ومثله معه"، قال أبو سعيد: أشهد لحفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك لك وعشرة أمثاله معه".
قال أبو هريرة: "وذلك آخر أهل الجنة دخولا الجنة " [16] .
7- أنا أحمد أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الأنصاري الحربي [17] نا أبو حفص عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثقفي [18] نا عثمان بن أبي شيبة أبو الحسن [19] نا جعفر بن عون العمري نا هشام بن سعد، حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: قلت: يا رسول الله هل نرى ربنا عز وجل يوم القيامة؟ قال:
"هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة صحوا ليست بسحابة؟ " قال: قلنا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليست بسحابة؟ "قلنا: لا يا رسول الله، قال: "لا تضارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما" [20] .(24/102)
8- أنا علي بن أحمد الحربي ناعمي [21] نا عثمان نا عبد الله بن إدريس عن الأعمش [22] عن أبي صالح [23] . عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. [24]
9- أنا أبو العباس، محمد بن ملاق بن نصر بن سلام العثماني نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا أسد بن موسى نا قيس بن الربيع [25] عن أبان [26] عن أبي تميمة الهجيمي [27] أنه سمع أبا موسى يحدث أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" يُبْعَث يوم القيامة منادٍ ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم إن الله عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى" [28] .
10- أنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن الورد نا أحمد (253/1) بن شعيب [29] انا عمرو به يزيد البصري [30] نا سيف [31] بن عبيد الله قال: وكان ثقة عن سلمة به عياّر [32] عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربنا؟ قال: "هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه؟ وترون القمر في ليلة لا غيم فيها؟ "قلنا:نعم يا رسول الله قال:"فإنكم سترون ربكم عز وجل حتى إن أحدكم ليحاصر ربه محاصرة يقول: عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا, فيقول: رب ألم تغفر لي: بمغفرتي صرت إلى هذا" [33] .(24/103)
11- أنا أبو مروان عبد الملك بن فخر بن شاذان المكي إملاء في صفر من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة نا عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة [34] نا يعقوب بن محمد الزهري [35] نا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن نا عبد الرحمن بن عيّاش الأنصاري ثم السمعي [36] عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب [37] [عن أبيه] [38] عن عمه لقيط ابن عامر أنه خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك ابن المنتفق قال: فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب، قال: فصلينا معه صلاة الغداة فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "يا أيها الناس إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام إلا لأسمعكم اليوم"، وذكر الحديث بطوله- وقال فيه: قلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والسباع والبلاء [39] قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي في مدرة بالية فقلت: لا تحيا أبدا ثم أرسل الله عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى [40] أشرفت عليها فإذا هي شربة [41] واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على (253/2) أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء [42] ومن مصارعكم، فتنظرون إليه ساعة وينظر إليكم", قال: قلت: يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وهو ينظر إلينا؟ قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الشمس والقمر، إنهما صغيران [43] وترونهما في ساعة واحدة وتريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منها على أن يريانكم وتروهما.."وذكره بطوله [44] .(24/104)
12- نا أبو القاسم سليمان بن داود بن سليمان البزار العسكري [45] إملاء في مسجده بالعسكر سنة ثمان [وثلاثين] [46] وثلاثمائة، نا أبو يزيد يعني القراطيسي نا أسد بن موسى نا يعقوب بن إبراهيم [47] انا صالح بن حيان [48] عن عبد الله بن بريدة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أتاني جبريل بمثل المراءة فقلت، ما هذه؟ فقال: الجمعة، أرسلني الله عز وجل بها إليك وهو عندنا سيد الأيام وهو عندنا يوم المزيد، إن ربك عز وجل اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل عن كرسيه ونزل معه النبيون والصديقون والشهداء ثم حفت بالكرسي منابر من ذهب مكللة بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت، فجلس عليها النبيون والصديقون والشهداء، ونزل أهل الغرف على كثيب [49] من المسك الأبيض فيتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى فينظرون إلى وجهه تبارك وتعالى، قال: ألست الذي صدقتكم وعدي؟ قالوا: بلى ربنا، قال: ألست الذي أتممت (254/1) عليكم نعمتي؟ قالوا: بلى ربنا، قال: هذا محل وعدي فاسألوني، قالوا: نسألك الرضى، قال: رضاي أحلكم داري وأشهدكم على الرضى عنكم, فأشهدهم على الرضى عنهم, فاسألوني, فسألوا حتى انتهت رغبتهم, فأعطاهم ما لم يخطر على قلب بشر ولم تره عين, ثم ارتفع على كرسيه جل وعز وارتفع أهل الغرف إلى غرفهم في خيمة بيضاء من لؤلوة لا فصم فيها ولا نظام، أو في خيمة من ياقوتة حمراء أوفي خيمة من زبرجدة خضراء فيها أبوابها ومنها غرفها مطرد فيها أنهارها مذلل فيها ثمارها، فيها خدمها وأزواجها فليسوا إلى شيء وأشد شوقا وأشد تطلعا منهم إلى يوم القيامة لينزل إليهم ربهم عز وجل ليزدادوا إليه نظرا، وعليه كرامة فلذلك يدعى يوم الجمعة يوم المزيد" [50] .(24/105)
13- أنا أبو العباس محمد بن ملاق بن نصر بن سلام العثماني، نا يوسف بن يزيد نا أسد بن موسى نا محمد بن خازم عن عبد الملك بن ابجر [51] عن ثوير بن أبي فاختة [52] عن ابن عمر قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه, ينظر في أزواجه وسرره وخدمه, وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله جل وعز كل يوم مرتين" [53] .
14- نا أبو عمرو عثمان بن شعبان القرظي الياسري [54] من ولد عمار بن ياسر، سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، نا أحمد بن حيان الرقي- نسبة إلى أبي جده وهو: أحمد بن يحى بن خالد بن حيان- نا إبراهيم بن خرّزاد [55] 254/2 وهو أخو عثمان بن خرّزاد نا سعيد بن هشيم [56] عن أبيه عن كوثر [57] عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إلى الله عز وجل" [58] .
15- أنا أحمد نا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الحربي نا عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير بن عبد الحميد وحماد بن أسامة قالا: نا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير البجلي قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ هذه الآية [59] {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (طه: آية 130) .
16- أنا أحمد نا علي بن أحمد الحربي نا عمر بن إسماعيل نا عثمان نا وكيع نا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(24/106)
"إنكم ستعرضون على ربكم وسترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فان استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" , ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [60] .
17- أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي نا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، نا وكيع بن الجراح وأخبرنا أبو علي الحسن بن يوسف بن مليح نا إبراهيم بن مرزوق (255/1) نا عثمان بن عمر قالا: نا إسرائيل عن أبي إسحاق [61] عن عامر بن سعد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: آية/ 26) قال: الزيادة: "النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى" واللفظ لابن مليح [62] .
18- أنا محمد بن ملاق بن نصر نا يوسف بن يزيد نا أسد بن موسى نا قيس بن الربيع [63] عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران عن أبي بكر الصديق [64] .
ومحمد بن يوسف [65] عن يونس بن أبي إسحاق [66] عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [67] .
آخر كتاب رؤية الله تبارك وتعالى
فرغ هذا الكتاب بالنسخ والمقابلة يوم الأربعاء لسبع عشرة ليلة خلت من صفر من سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فرحم الله الناسخ والقارئ والمستمع آمين رب العالمين.
(سمعت جميع هذا الكتاب على الشيخ أبي بكر محمد بن الحسن الرازي وذلك في شهر شوال. وحرر في ذي القعدة من سنة ست وأربعين وأربعمائة) [68] .
ثبت المرجع والمصادر المخطوطات:
1- أصول السنة لابن أبي زمنين، أبو عبد الله محمد المالكي (ت: 378 هـ) مصورة من ديوان كشك بتركيا.
2 - الأنساب للسمعاني، عبد الكريم بن محمد (ت: 562) مصور بالأوفست في مكتبة المثنى بغداد.(24/107)
3 - تاريخ دمشق لابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله (ت 571 هـ) مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق.
4- التصديق بالنظر إلى الله تعالى للآجري، محمد بن الحسين البغدادي (ت: 360 هـ) مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق.
5- ذيل الميزان للعراقي، عبد الرحيم بن الحسين (ت: 804 هـ) مصور من مكتبة شهيد علي بتركها.
6- الرؤية للدارقطني، علي بن عمر البغدادي البغدادي (ت: 385 هـ) مصورة من اسكوريال بأسبانيا.
7- سير أعلام النبلاء للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت: 748 هـ) مصورة من مكتبة أحمد الثالث بتركيا.
8- شرح السنن للالكائي، هبة الله بن الحسن الطبري (ت: 418 هـ) مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق.
9- العلل الواردة في الأحاديث النبوية للدارقطني علي بن عمر (ت:385 هـ) مصورة من دار الكتب المصرية.
10- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، عبد الله الجرجاني (ت: 365 هـ) مصور من أحمد الثالث.
11- مجمع البحرين في زوائد المعجمين للهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (ت:807 هـ) مصور من دار الكتب الظاهرية.
13- مسند أبي يعلى أحمد بن علي الموصلي (ت: 307 هـ) مصور من تركيا.
13- مسند إسحاق بن راهويه (ت: 238 هـ) مصور من دار الكتب المصرية.
14- المنتخب من مسند عبد بن حميد الكشي (ت: 349 هـ) مصور من أحمد الثالث.
15- الوفيات للحبال، إبراهيم بن سعيد بن عبد الله (ت: 482 هـ) مصورة من دار الكتب الظاهرية.
المطبوعات:
16- الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي. أحمد بن الحسين (ت: 458 هـ) طبع سنة 1380 هـ.
17- الإعلام للزركلي الطبعة الثانية.
18- تاج العروس للزبيدي محمد بن محمد المرتضى، دار ليبيا للنشر والتوزيع بنغازي.
19- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. احمد بن علي بن ثابت (ت: 463 هـ) ، مكتبة الخانجي القاهرة.(24/108)
20- تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين. الهيئة المصرية للكتاب.
21- التاريخ الصغير للبخاري، محمد بن إسماعيل (ت: 356 هـ) ، المكتبة الأثرية سانكله هل باكستان.
23- التاريخ الكبير البخاري، دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الهند.
23- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر سنة 1966.
24- تذكرة الحفاظ للذهبي، تصحيح عبد الرحمن بن يحي المعلمي، دار إحياء التراث العربي.
25- تقريب التهذيب لابن حجر، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت- لبنان.
26- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، دائرة المعرفة العثمانية حيدر اباد.
27- التوحيد وإثبات صفات الرب لابن خزيمة محمد بن إسحاق (ت 311 هـ)
مراجعة محمد خليل هراس، مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1387 هـ.
28- جامع البيان: تفسير القرآن لابن جرير الطبري، أبو جعفر محمد (ت: 310 هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
29- الجامع الصحيح البخاري مع فتح الباري،المطبعة السلفية- القاهرة.
30- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد الرازي (ت:327هـ) مجلس دائرة المعارف العثمانية.
31- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي، صفي الدين أحمد بن عبد الله (ت: 923 هـ) مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب 1391 هـ.
32- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم،محمد بن أبي بكر (ت: 751) مطبعة مصطفى البابي الحلبي1390هـ.
33- السنن للترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (ت: 279 هـ) مع شرحه تحفة الأحوذي. الطبعة الهندية.
34- السنن لأبي داود سليمان بن الأشعت (ت: 275 هـ) مع عون المعبود،الطبعة الهندية.
35- السنن لابن ماجة محمد بن يزيد القزويني (ت: 283 هـ) تحقيق فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية 1372هـ.(24/109)
36- السنة لابن احمد. عبد الله بن أحمد (ت:.39 هـ) المطبعة السلفية ومكتبتها، 1349 هـ
37- السنة لابن أبي عاصم تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي بدمشق.
38- شذرات الذهب في أَخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، عبد الحي بن أحمد (ت: 1089 مكتبة القدس بالقاهرة) .
39- شرح مسلم للنووي، يحيى بن شرف (ت: 671 هـ) ، دار الفكر بيروت.
40- الصحيح لمسلم بن الحجاج القشيري (ت: 261 هـ) مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة.
41- العبر في خبر من غبر للذهبي، تحقيق صلاح الدين المنجد، دائرة المطبوعات والنشر في الكويت.
42- العلو للعلي الغفار للذهبي، المكتبة السلفية بالمدينة، الطبعة الثانية 1388.
43- فتح الباري لابن حجر، المكتبة السلفية بالقاهرة.
44- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
45- لسان الميزان لابن حجر، مطبعة دائرة المعارف العثمانية الهند.
46- مسند الإمام احمد بن محمد بن حنبل (ت:341 هـ) المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بيروت.
47- المعجم الكبير للطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب، تحقيق حمدي عبد الحميد السلفي، الدار العربية للطباعة، اعظمية نجيب باشا.
48- المغني للفتني، محمد طاهر بن علي الهندي (ت:986 هـ) ، دار نشر الكتب الإسلامية باكستان.
49- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت: 597 هـ) دائرة المعارف العثمانية بحيدرأباد الهند.
50- ميزان الاعتدال للذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة.
51- النجوم الزاهرة لتغري بردي جمال الدين أبي المحاسن بن تغري بردي (ت: 874 هـ) مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
52- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير المبارك بن محمد الجزري (ت: 606 هـ) دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان.(24/110)
53- هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي، مكتبة المثنى بغداد.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بكر بن سهل الدمياطي، أبو محمد، قال النسائي: ضعيف، وقال الذهبي: مقارب الحال مات سنة تسع وثمانين ومائتين. الميزان 1/هـ34- 346، اللسان:2 / 51-52.
[2] عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه, وكانت فيه غفلة، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين. التقريب:1/ 423.
[3] تضارّون: بضم أوله بالضاد المعجمة وتشديد الراء، بصيغة المفاعلة من الضرر أي لا تضرون أحدا ولا يضركم بمنازعة ولا مجادلة ومضايقة، وجاء بتخفيف الراء من الضير وهو لغة في الضر أي لا يخالف بعض بعضا فيكذبه وينازعه فيضيره بذلك. وقيل المعنى لا تضايقون أي لا تزاحمون. فتح الباري: 11/ 446.
[4] في المخطوطة هذا والتصويب من صحيح البخاري:11/ هـ 44 (مع الفتح) .
[5] أي أكون أنا وأمتي أول من يمضي على الصراط ويقطعه. فتح الباري 1 / 452.
[6] جمع كلّوب وهي حديدة ينشال بها اللحم. تاج العروس: مادة كلب: 1/461
[7] السعدان بالسين والعين المهملتين وهي جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك، فتح الباري: 1/ 453.
[8] المخردل بالخاء المعجمة والدال المهملة وهو المرمى المصروع، وقيل: المقطع تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي في النار، يقال. خردلت اللحم- بالدال والذال- أي فصلت أْعضاءه وقطّعته. النهاية: 2/20.
[9] الحبّة، لكسر المهملة وتشديد الموحدة بذور الصحراء، والجمع حبب بكسر المهملة وفتح الموحدة فتح الباري11/458.(24/111)
[10] حَميل: بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة أي ما يحمله السيل، والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبّة فيقع جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة ففيه إشارة إلى سرعة نباتهم. المصدر السابق.
[11] قشبني: بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففا وحكي التشديد ثم موحدة، أصل القشب: خلط السم بالطعام، يقال: قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذ بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته، وقال النووي: "معنى قشبني: سمني وآذني وأهلكني.". شرح مسلم للنووي: 3/32 فتح الباري:11/459.
[12] يروى بالمد والقصر والمراد: كثرة لهبها وشدة اشتعالها ووهجها. راجع فتح الباري: 11/ 459- 460.
[13] من الفهق وهو: الامتلاء والاتساع أي انفتحت واتسعت له.
[14] الحبرة بالفتح: النعمة وسعة العيش وكذلك الحبور النهاية، 1/ 327، 3/482.
[15] الزيادة من الجامع الصحيح للبخاري 11 /.42 (مع الفتح) ..
[16] لم أجد من أخرجه بهذا السند وفي سند المؤلف: بكر بن سهل وعبد الله بن صالح كاتب الليث وفيهما ضعف كما تقدم آنفا ولكن الحديث متفق عليه فأخرجه الإمام البخاري في جامعه الصحيح في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} عن عبد العزيز بن عبد الله ثنا إبراهيم بن سعد. 13 / 419- 420 (ح 7437) وأيضا في كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، عن أبي اليمان أنا شعيب عن الزهري 11/ 444- 446 (ح 6571) .
وأيضا في كتاب الأذان، باب فضل السجود. من طريق شعيب.2/291 -292 (ح 806) .
والإمام مسلم في صحيحه ي كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية بسنده إلى إبراهيم. 10/ 163- 165 (ح 299)(24/112)
[17] علي بن احمد بن علي بن الحسن بن عيسى، أبو الحسن الأنصاري الخرجي، ولد بالحربية في سنة ثمانين ومائتين وتوفي بمصر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، قال الخطيب: "ما علمت من أمره إلا خيرا"تاريخ بغداد: 11 / 323- 324.
[18] عمر بن اسماعيل بن سلمة، المعروف بابن أبي غيلان الثقفي، كان ثقة، مات سنة تسع وثلاثمائة المصدر السابق: 11 /224.
[19] عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي. أبو الحسن، ابن أبي شيبة، الكوفي ثقة حافظ شهير، وله أوهام، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. التقريب. 2/13 -14.
[20] لم أجد من أخرجه بهذا السند ولكن الحديث متفق عليه فقد أخرجه البخاري في جامعه الصحيح في كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية بسنده إلى زيد بن اسلم في حديث طويل. 13 /.42- 422 (ح 7437) ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية عن أبي بكر بن أبي شيبة. 1 /171 (ح 303) .
[21] لم أعثر عليه.
[22] هو: سليمان به مهران.
[23] هو السمان واسمه ذكوان.
[24] ذكره الترمذي في سننه في باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى، بعد ذكر رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال: وحديث ابن إدريس عن الأعمش غير محفوظ، وحديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح، ثم قال: وقد روي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه مثل هذا الحديث وهو حديث صحيح أيضا.3/334.
وأخرجه ابن ماجه في سننه في المقدمة في باب فيما أنكرت الجهمية، بسنده إلى عبد الله بن إدريس 10/63- 64 (ح 179) .
وإسحاق بن راهويه في مسنده في مسند عائشة عن عبد الله بن ادريس4/174/1-2 وعبد الحميد بن حميد في مسنده في مسند أبي سعيد عن ابن إدريس المنتخب من مسنده: 121/2، 122/1.
وابن أبي عاصم في كتاب السنة،بسنده إلى ابن إدريس. 1/196.(24/113)
وأبو يعلى الموصلي في مسنده في مسند أبي سعيد عن أبي بكر وابن نمير قالا: ثنا ابن إدريس 1/118.
وابن خزيمة في كتاب التوحيد عن يعقوب بن إبراهيم ثنا عبد الله بن إدريس 169.
والآجري في التصديق بالنظر إلى الله تعالى بسنده إلى ابن إدريس191/ 2.
والدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى ابن أبي شيبة، وذكر الاختلاف على الأعمش، فإن عبد الله بن إدريس يروي عنه فيقول:عن أبي سعيد والآخرون يقولون عن أبي هريرة. 1/16/2-17/1, 19/1.
لم ينفرد عبد الله بن إدريس عن الأعمش في ذكر أبي سعيد بل تابعه أبو بكر بن عيّاش كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند أبي سعيد الخدري 3/16.
فيجوز أن الأعمش يروي أحيانا عن أبي هريرة وأحيانا عن أبي سعيد، فلا شك أن الحديث صحيح.
[25] قيس بن الربيع الأسدي، أبو محمد الكوفي، صدوق، تغير لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به، مات سنة بضع وستين ومائة. التقريب: 2/128.
[26] أبان بن عيّش فيروز البصري، أبو إسماعيل العبدي، متروك، مات في حدود الأربعين ومائة. التقريب: 1/31.
[27] هو: طريف بن مجالد الهجيمي-بجيم مصغرا- التقريب: 2/403.
[2 8] هذا الحديث بهذا السند ضعيف جدا لأن أبان متروك.
[29] هو الإمام النسائي.
[30] في المخطوطة: المصري والتصويب من الجرح والتعديل 3/1/270 والتهذيب:8/120.
[31] في المخطوطة: سلمة وهو خطأ.
وهو: سيف بن عبيد الله الجرمي-بفتح الجيم-أبو الحسن السراج البصري. صدوق ربما خالف، من التاسعة (مات بعد المائتبن) التقريب1/344.
[32] عياّر: بفتح العين والياء المشددة، واسم أبيه أحمد. الخلاصة: 148.(24/114)
[33] أخرجه الدارقطني في الرؤية، وقال:"هذا حديث غريب من حديث سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهو مما تفرد به أبو عبد الرحمن بهذا الإسناد. وهو حديث صحيح من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب. لأن شعيب بن أبي حمزة وعقيل بن خالد وعبيد الله تن أبي زياد الوصافي-وهم من الثقات-رووه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي جميعا عن أبي هريرة رضي الله عنه. فصح القولان جميعا عن أبي هريرة 10/34/2_35/1.
وابن أبي عاصم في السنة من طريق شعيب عن الزهري مختصراً. 1/198.
[34] عبد الله بن أحمد بن زكريا بن الحارث المكي. أبو يحيى بن أبي مسرة. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بمكة ومحله الصدق. الجرح والتعديل:2/2/6.
[35] يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد الزهري المدني، نزيل بغداد، صدوق، كثير الوهم والرواية عن الضعفاء، مات سنة ثلان عشرة ومائتين. التقريب2/377.
[36] عبد الرحمن بن عياش –بتحتانية ومعجمة- ويقال: بموحدة ومهملة -السمعي- بفتح المهملة والميم بعدها مهملة –المدني القبائي- بضم القاف بعدها موحدة-.مقبول, من السابعة: التقريب: 1/494.
[37] دلهم-بسكون اللام وفتح الهاء- ابن الأسود بن عبد الله بن حاجب العقيلي-بضم العين- حجازي، مقبول من السابعة. المصدر السابق:1/336.
[38] الزيادة من مسند أحمد4/13 وكتاب التوحيد لابن خزيمة: 186.
وهو الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر المنتفق –بضم الميم بعدها نون ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم فاء مكسورة بعدها قاف-.مقبول من السادسة.التقريب:1/76.(24/115)
[39] قال ابن القيم: وإقرار رسول الله صلى الله عليه وملم له على هذا السؤال رد على من زعم أن القوم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل ولم يكونوا يفهمون حقائق الإيمان، بل كانوا مشغولين بالعلميات وأن أفراخ الصائبة والمجوس من الجهمية والمعتزلة والقدرية أعرف منهم بالعلميات. زاد المعاد:3/67.
[40] الزيادة من مسند أحمد 4/13 والتوحيد لابن خزيمة 187.
[41] شربة بفتح الراء الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون الحنطة، يريد أن الماء قد كثر فمن حيث شئت تشرب، وعلى رواية السكون: يكون قد شبه الأرض لخضرتها بالنبات بخضرة الحنطة واستوائها. زاد المعاد3/66.
[42] الأصواء. القبور وأصلها من الصوى: الأعلام فشبه القبر بها. النهاية 3/62
[43] في مسند أحمد وغيره: آية صغيرة منه.
[44] أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد في باب ذكر البيان أن رؤية الله التي يختص بها أولياؤه يوم القيامة.. الخ عن محمد بن منصور ثنا يعقوب ثم ساق السند والمتن طويلا 186- 190 وأحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن المغيرة.4/13-14.
وابن أحمد في كتاب السنة بسنده إلى عبد الرحمن: 155- 158.
وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/ 286- 289.
وأيضا مختصرا 1/231 وفيه: عن جده بدل عن أبيه.
إسناده ضعيف فإن فيه يعقوب وعبد الرحمن بن عياش ودلهم والأسود وقد تقدمت تراجمهم آنفا، والله أعلم.
[45] من عسكر مصر وكان ثقة، توفي سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. الأنساب 390/2.
[46] الزيادة لا بد منها لأن المؤلف ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. والله أعلم.(24/116)
[47] يعقوب بن إبراهيم ابو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة، قال البخاري:تركوه، وقال الفلاس: صدوق كثير الخطأ, وقال أبو حاتم: بكتب حديثه, وقال النسائي: ثقة, وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثا منه إلا أنه يروي عن الضعفاء مثل الحسن ابن عمارة وغيره وكثيرا ما يخالف أصحابه ويتبع الأثر وإذا روى عنه ثقة وروى هو عن ثقة فلا بأس به، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. الجرح والتعديل 4/2/201-202، الكامل 3/2/164، تاريخ بغداد: 14/ 242-262، الميزان:4/447-448, اللسان: 6/ 300-301.
[48] صالح بن حيان القرشي الكوفي ضعيف من السادسة. التقريب: 1/ 358.
[49] على الحاشية كثب.
[50] لم أجد من أخرجه بهذا السند والمتن.
وأخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة صالح بن حيان مختصرا وقال: عامة ما يرويه غير محفوظ.2/1/176.
وذكره الذهبي في العلو للعلي الغفار وقال: صالح ضعيف تفرد به عنه القاضي أبو يوسف.
االحديث ضعيف بهذا السند ولكن ورد في هذا المعنى وبأسانيد أخرى عن أنس بن مالك فأخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد راجع مجمع البحرين:81،476 والدارقطني في كتاب الرؤية 1/53/1-65/2.
فالمتن حسن وقد أطال فيه الكلام الشيخ عبد القدوس في رسالته التي قدمها لنيل درجة ماجستير عنوانها أحاديث الجمعة.
[51] عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر- بالموحدة وجيم- ثقة من السادسة (مات بعد المائة) . التقريب:1/519.
[52] ثوير- مصغرا- ابن أبي فاختة- بمعجمة مَكسورة, ومثناة مفتوحة- سعيد بن علاقة- بكسرالمهملة- أبو الجهم، ضعيف، رمي بالرفض, من الرابعة (مات بعد المائة) المصدر السابق:1/121.
[53] أخرجه الدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى محمد بن خازم: 2/113/2.
واللالكائي في شرح السنن بسنده إلى محمد بن خازم 109/2-110/1.(24/117)
وعبد بن حميد في مسنده في مسند ابن عمر بسنده إلى ثوير. المنتخب من مسنده:108/1.
وابن جرير الطبري في تفسير آية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية. بسنده إلى ثوير 29/139.
هذا الحديث بهذا السند ضعيف لأن مداره على ثوير وهو ضعيف كما تقدم آنفا.
[54] عثمان بن شعبان أبو عمرو القرظي الياسري-بفتح الياء وكسر السين المهملة وفي آخرها الراء- من أهل مصر حدث عن عثمان بن معاوية ومحمد بن جعفر الإمام،روى عنه أبو محمد عبد الرحمن البزار- الأنساب195/1.
[55] هو إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن خرزاد- بضم المعجمة وتشديد الراء بعدها زاي- أخو عثمان, التقريب ترجمة عثمان 2/11.
[56] سعيد بن هشيم، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت: 2/1/71.
[57] كوثر بن حكيم، قال أحمد: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث وذكره في (ما بين عشر إلى ستين ومائة) .
التاريخ الكبير: 4/1/245، التاريخ الصغير: 181، الجرح والتعديل: 3/2/176.-
[58] أخرجه الدارقطني في كتاب الرؤية 2/114/1.
االحديث ضعيف جدا لأن مداره على كوثر وهو متروك الحديث.
[59] أخرجه الطبراني في الكبير بسنده إلى ابن أبي شيبة 2/332 (ح2227-2228) والدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى ابن أبي شيبة 1/68/1-2.
االحديث صحيح؛ فقد أخرجه الإمام البخاري في جامعه الصحيح في كتاب التفسير، تفسير سورة (ق) عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير ابن عبد الحميد 8/597 (ح 4851) .
[60] تقدم تخريجه في الحديث رقم:1.
[61] هو السبيعي.
[62] أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن وكيع 4/174/2.
وابن أبي عاصم في السنة:1/206.
وابن خزيمة في كتاب التوحيد في باب ذكر سياق أن رؤية الله التي يختص بها أولياءه.. الخ عن سلم عن وكيع: 183.
وأيضا بسنده إلى إسرائيل: 183.(24/118)
والدارقطني في الرؤية بسنده إلى وكيع 2/119/2.
واللالكائي في شرح السنن بسنده إلى وكيع 103/2.
وابن جرير الطبري في تفسيره بسنده إلى إسرائيل 11/104.
والبيهقي في الاعتقاد بسنده إلى أبي إسحاق:48-49.
[63] تقدمت ترجمته في الحديث رقم:9.
[64] أخرجه ابن جرير في تفسيره في تفسير سورة يونس بسنده إلى قيس 11/104-105.
والدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى قيس 2/120/2-121/1-2.
[65] هو الفرياتي.
[66] يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلا، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة على الصحيح. التقريب:2/384.
[67] أخرجه الدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى يونس 2/120/1.
وذكره في العلل وقال: والمحفوظ من ذلك قول إسرائيل ويونس ومن تابعه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر 1/24/1-2.
وأخرجه ابن أبي الزمنين في أصول السنة بسنده إلى يونس 31/1.
[68] ما بين القوسين لعله نقل من الأصل الذي نسخت منه هذه النسخة.(24/119)
كشفُ السُتور
في نهي النساء عن زيارة القبور
للشيخ حماد الأنصاري
الأستاذ بالدراسات العليا بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فلما كان حكم زيارة النساء للقبور من المسائل المختلف فيها بين العلماء ما بين مبيح ومانع ومفصل، والحاجة إلى معرفة حكم الله فيها تهم الجميع، رأيت من الواجب علي أداءً للنصيحة للخاصة والعامة بيان الحق الذي يجب أن يدين به كل مسلم غيور. بذكر النصوص الصحيحة المانعة من زيارة النساء للقبور على الإطلاق، مبيناً أن الاستدلال على الجواز برواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" غير مسلم به، كما أن تضعيف رواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" ليس صحيحاً؛ لما سأذكره عن أئمة الشأن الذين يجب الرجوع إليهم في مثل هذا الميدان. هذا وقد سميت هذه العجالة "كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور"مرتباً لها على العناوين التالية:
1- اختلاف العلماء في هذه المسألة.
2- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً.
3- تفصيل روايات المخرجين.
4- سند حديث (زائرات) بطريقيه.
5- الكلام على سندي هذا الحديث.
6- ضبط زاي (زوارات) .
7- تفصيل أدلة المنع.
8- أدلة المجيزين والجواب عنها.
9- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة.
10- خاتمة: في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع.
والآن الشروع في المقصود ومن الله المدد المزيد.
1- اختلاف العلماء في هذه المسألة:
اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمه الله:(24/120)
أولاً: الكراهة من غير تحريم كما هو منصوص الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايات عنه، واستدل له بحديث أم عطية المتفق عليه "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" وإليه ذهب أكثر الشافعية وبعض الحنفية.
ثانياً: أنها مباحة لهن غير مكروهة، وبه قال أكثر الحنفية والمالكية وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى. واستدل له بحديث مسلم عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". وبحديث عائشة في زيارة أخيها عبد الرحمن؛ وبحديثها أيضا عند مسلم "ما أقول لهم؟ قال قولي" الحديث. وبحديث أنس رضي الله عنه "مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر" الحديث.
ثالثا: التحريم لأحاديث اللعن وغيرها مما يعضدها وهو مذهب بعض المالكية والشافعية والحنفية، وإليه ذهب أكثر أهل الحديث وهو الرواية الثالثة عن الإمام أحمد رحمه الله. كما حكاها العلامة علي بن سليمان المرداوي في كتابه (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) قال ما نصه: "وعنه أي عن الإمام أحمد رواية ثالثة: يحرم كما لو علمت بأنه يقع منها محرم، ذكره المجد واختار هذه الرواية بعض الأصحاب، وحكاها ابن تميم وجها. اهـ
قلت: وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والنووي في مجموعه والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وكثير من أئمة التحقيق الآتي ذكر أقوالهم بعد إن شاء الله تعالى.
واعلم أن القائل بالإباحة مقيد لها بما إذا لم تشتمل زيارة النساء للقبور على ما يفعله كثير من نساء زماننا من المنكر قولاً وفعلاً، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضا، فلا خلاف إذاً في الحرمة كما لا يخفى على المطلع الخبير إذا حصل ما ذكر.(24/121)
وهذه مذاهب العلماء في هذه المسألة. وقد ذهب بعض أَهل زماننا إلى جواز زيارة النساء للقبور ما لم تتكرر محتجا برواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" على أنها للمبالغة مضعفاً رواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" تقليداً لمن فهم ذلك قبله من غير تحقيق، وهو خلاف لا يعتد به إذ ليس له حظ من نظرٍ وقد قيل:
إلا خلاف له حظ من النظر
وليس كل خلاف جاء معتبراً
أي من نظر صحيح وسيأتي الجواب عن أدلة الجميع إن شاء الله تعالى غير منكرين ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كما قال العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله تعالى: "ندين الله بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا، فنقر ما لنا على ظاهره ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره، بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه، بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابلها بالسمع والطاعة، ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها، فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها، بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها منزلته ووضعه بموضعه والله المستعان وعليه التكلان".
2- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً:
1- أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه حديث النهي عن زيارة النساء للقبور من ثلاثة طرق:
أولاً: من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانياً: من طريق أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ثالثاً: من طريق عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي الله عنهما.
2- وخرجه أبو داود 3- والنسائي 4- وأبو داود الطيالسي عن ابن عباس فقط.
وكذلك 5- خرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة وابن عباس، 6- والحاكم عن حسان بن ثابت رضي الله عنه.
3- تفصيل روايات المخرجين:
أما الإمام أحمد فقد رواه بلفظين:(24/122)
أولاً: رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور".
وأيضاً: عن حسان مثله.
ثانيا: عن ابن عباس بلفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
وأما أبو داود والنسائي وأبو داود الطيالسي فقد أخرجوه كلهم عن ابن عباس مثل لفظ الإمام أحمد المتقدم عنه. وكذلك ابن حبان فقد رواه عن ابن عباس وأبي هريرة مثله. وأما الترمذي فقد رواه من طرق الإمام أحمد الثلاثة المتقدمة ولفظه عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور" وعن أبي هريرة وحسان بلفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور". بعد أن ترجم لها بقوله: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن.
ورواه أيضا ابن ماجه في سننه من الطرق الثلاثة المتقدمة عند الإمامين أحمد والترمذي كلها بلفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زُوَّارات القبور", بعد أن بوب لها بقوله: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور, وقال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات.
فتبين من هذا أن لفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" جاء من الطرق الثلاثة المتقدمة أعني: عن ابن عباس، وثانيا عن أبي هريرة وثالثا عن حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.
وأن لفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" جاء من طريقين.
أولاً: عن ابن عباس عند الإمام أحمد وأبى داود والنسائي والترمذي وابن حبان وأبي داود الطيالسي.
وثانيا: عن أبي هريرة عند ابن حبان والله أعلم.(24/123)
4- سند حديث "زائرات" بطريقيه:
وسند الجميع عن ابن عباس ما يلي:
قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى عن شعبة حدثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره.
ومثله بإسناده عند من تقدمت الإشارة إليهم, إلا أن ابن حبان رواه أيضا بسند آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" فهذا الحديث روي عن كل من أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم بلفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور"، وبلفظ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور"، كما صرح به الترمذي في جامعه، وابن ماجه في سننه، فلهذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لكثرة طرقه، وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى: هذا مع أنه ليس في الإسنادين من يتهم بالكذب ومثل هذا حجة بلا ريب، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن شاذاً، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أَحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب وذاك عن آخر فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
5- الكلام على سند هذا الحديث:
1- وأما أبو صالح الراوي عن ابن عباس، فقد اختلف في اسمه على قولين:(24/124)
القول الأول: أنه ميزان البصري أبو صالح، وبهذا جزم ابن حبان في الصحيح في النوع السادس من الثاني وفى التاسع والمائة من الثاني أيضا بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة، وأقره ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود وقوّى هذا القول بأنه (ميزان) ولكن صحف في طبعة مختصر سنن أبي داود بلفظ: (مهران) والصحيح أنه (ميزان) كما في تهذيب التهذيب لابن حجر. وميزان هذا قال فيه يحيى بن معين- وهو من أشد الناس مقالة في الرجال-: "إنه ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحاكم في الصحيح: "هو ثقة". ولم يذكره المزي ولا الخلاصة ولا الميزان ولا لسانه. وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: "إن أبا صالح ميزان روى الترمذي عن طريقه في كتاب الجنائز من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أيى صالح عن ابن عباس"يشير إلى هذا الحديث.
القول الثاني: أن أبا صالح هذا هو (باذام مولى أم هانئ) ويقال بالنون (باذان) وجزم بهذا الحاكم وعبد الحق الإشبيلي في الأحكام وابن القطان وابن عساكر والمنذري وابن دحية وغيرهم قاله في التهذيب.(24/125)
فعلى كلا القولين فإن الحديث برواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" حديث صحيح سواء كان من رواية (ميزان) أو من رواية (باذام مولى أُم هانئ) فقد قال أبو حاتم في الجرح والتعديل: "لم أر أحداً من أَصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه سعيد ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان", وقال يحيى بن معين: "أبو صالح مولى أُم هانئ ليس به بَأس فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ومرة عن أبي صالح"اهـ. وهذا والله أعلم هو أعدل الأقوال في أمر أبي صالح مولى أُم هانئ كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر, قال في حاشيته على مسند الإمام أحمد: "والحق أن أبا صالح مولى أم هانئ ثقة ليس لمن ضعفه حجة وإنما تكلموا فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي ودعوى ابن حبان أنه لم يسمع من ابن عبا س غلط عجيب، فإن أبا صالح تابعي قديم روى عمن هو أقدم من ابن عباس كأبي هريرة وعلى بن أبي طالب وأم هانئ والله أعلم".
2- الطريق الثاني: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة فذكر الحديث. وعمر هذا هو: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف أخو مسلم مديني الأصل، قال أبو حاتم: "هو عندي صالح صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به يخالف في بعض الشيء". وقال الذهبي: صحح له الترمذي حديث "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور"، فناقشه عبد الحق وقال: "عمر ضعيف عندهم"- فأسرف عبد الحق. وقال ابن معين في رواية أحمد بن أبى خيثمة عنه:"ليس به بأس"وذكره ابن حبان في الثقات وقال الحافظ في التقريب:"صدوق يخطئ مات سنة 132 هـ".(24/126)
وبكلام الحافظ ابن حجر هذا عرفنا أن عمر المذكور وإن كان يخطئ إذا انفرد كما يشير إليه كلام الحافظ، ولكن مع وجود طريق آخر لهذا الحديث عن (ميزان البصري) على الصحيح وعن مولى أم هانئ على قول يتبين أن عمر في هذا الحديث لم يخطئ فصح على هذا تصحيح الترمذي لهذا الحديث كما صرح بتصحيح الترمذي له الذهبي وبإسراف الإشبيلي في تضعيفه. فتبين من هذا صحة هذا الحديث من غير مدافعة والله أعلم.
6- ضبط زاي زوارات:
هذا مع أن رواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" هي بمعنى زائرات لأن زوَّارات بضم الزاي المعجمة كما قاله الجلال المحلي في شرح المنهاج والسيوطي وأقره السندي والمناوي وصاحب تنقيب الرواة شرح المشكاة قال هؤلاء: "الدائر على الألسنة ضم الزاي من زوارات، جمع زوار جمع زائرة سماعا وزائر قياساً. وقيل زوّارات للمبالغة فلا يقتضي وقوع اللعن على وقوع الزيارة إلا نادراً. ونوزع بأنه إنما قابل المقابلة بجميع القبور، ومن ثم جاء في رواية أبي داود زائرات بلا مبالغة"انتهى. فعلى هذا الضبط فهي بمعنى زائرات لا للمبالغة كما ظنه كثير من طلبة العلم فصيغة المبالغة بفتح الزاي لا بضمها، كما أن الصيغة الدالة على النسب بالفتح أيضا كقوله عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وذلك معلوم عند أهل التصريف قال ابن مالك في ألفيته:
بكثرة عن فاعل بديل
فعّال أو مِفعَال أو فعُول
وقال في النسب:
في نسب أَغنى عن اليا فقبل
ومع فاعل وفعَّال فعل(24/127)
فيكون معنى زوّارات القبور: ذوات زيارة القبور على أن الصيغة للنسب. فاتفقت الروايتان على منع النساء من زيارة القبور مطلقاً. فعلى هذا فليس في هذه الرواية دليل على جواز زيارة النساء للقبور إن لم تتكرر، كما يقول به بعض الناس، مع أن صحة رواية "زائرات" كما تقدم نص صريح في أن زوّارات ليست للمبالغة. بل إما أن تكون هذه الصيغة على ما تقدم من أنها بالضم وإما أن تكون للنسب توفيقاً بين الدليلين فإن الجمع بين الدليلين متى أمكن فهو أولى من طرح أحدهما أو دعوى التعارض بينهما، قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كانت زيارة النساء للقبور مظنة وسبباً للأمور المحرمة والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع"إلى آخر ما سيأتي من كلامه إن شاء الله تعالى.
فإذا استقر وضوح دلالة هذا الحديث على المنع مطلقا وأن اختلاف اللفظين لفظي ليس بينهما فارق على ما ذكرنا فاعلم أن هناك نصوصاً صحيحة تؤيد ما أسلفناه دافعة لتأويل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مالا يحتمله النص إلا بتكلف ظاهر، مقررة لذلك المعنى العظيم وتلك القاعدة الشرعية الكبرى التي أجمعت عليها الأمة، وذلك أن سد الذرائع مطلوب ومقدم على جلب المنافع قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} , وفي الحديث الصحيح "ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم" مع العلم أنه ليس هناك مصلحة راجحة في زيارتها للقبور كما هو الحال بالنسبة للرجال والله أعلم.
7- تفصيل أدلة المنع:(24/128)
أولاً: ما تقدم عن ثلاثة من سادات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرين عنه بلعنه زائرات القبور، وهو إما خبر عن الله فهو خبر صدق, وإما دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا ويل من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا اللعن مفيد لحكمين هما: التحريم والوعيد فهذا الوعيد الشديد دليل على أن زيارة النساء للقبور محرمة بل وكبيرة من الكبائر، لأن معنى اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) - ما نصه: "إن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم، وإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها في الوعيد خاصة، فأما بالتحريم فليس فيه خلاف معتد به"إلى أن قال: "بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب".
ثانيا: روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي في سننهما، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك من حديث ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبُلى عن عبد الله بن عمرو قال: "قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما حاذينا به وتوسط الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت: يا رسول الله رحمت على أهل هذا الميت ميتهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك بلغت الكُدَى - يعني: المقابر، بضم الكاف وفتح الدال المهملة مقصورا- قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال: لو بلغت معهم الكُدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. فسألت ربيعة عن الكُدى فقال: القبور".(24/129)
ثالثا: روى ابن ماجه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: هل تغسلن؟ قلن: لا، قال: هل تدلين فيمن يدلى؟ قلن: لا، قال فارجعن مأزورات غير مأجورات". وهذا كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى "يدل على أن اتباعهن الجنائز وزر لا أجر لهن فيه إذ لا مصلحة لهن ولا للميت في اتباعهن لها، بل فيه مفسدة للحي والميت"اهـ.
رابعاً: روى البخاري ومسلم وأحمد وابن جرير وأبو يعلى الموصلي والطبراني عن أم عطية قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت وفيه ونهانا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".
والدلالة من الأحاديث الثلاثة المتأخرة- على منع النساء من زيارة القبور- ظاهرة، إذ في منعهن من اتباع الجنائز دليل على منعهن من زيارة المقابر، والعلة بين الحكمين مشتركة وسيأتي ما يشد المنع ويؤيده.
وفى حديثي عبد الله بن عمر وعلي رضي الله عنهم دليل على أن نهي النساء عن اتباع الجنائز في حديث أم عطية نهي تحريم لا نهي تنزيه كما قال به بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى. وقد رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نساءً في جنازة فطردهن وقال: "والله لأرجع إن لم ترجعن وحصبهن بالحجارة"، ذكره ابن الحاج في المدخل والله أعلم.
8- أدلة المجيزين والجواب عنها:
استدل المجيزون لزيارة النساء للقبور بما يلي:
أولاً: بحديث أم عطية المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدتنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن خالد عن أم الهذيل عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".(24/130)
ثانياً: حديث أنس عند البخاري قال في صحيحه: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتق الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
ثالثاً: حديث بريدة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور. فزوروها فإنها تذكر الموت".
رابعاً: حديث عائشة عند مسلم والنسائي وفيه قالت: "كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث.
خامساً: حديث عبد الله بن أبي مليكة عند الترمذي في زيارة عائشة رضي الله عنها قبر أخيها عبد الرحمن بن أبى بكر قال ابن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشى، فحمل إلى مكة فدفن فيها فلما قدمت عائشة رضي الله عنها أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فذكر الحديث وفيه أنها قالت: "لو شهدتك لما زرتك".
سادساً: رواية البيهقي عن بسطام بن مسلم عن أَبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة "أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: كان نهى ثم أمر بزيارتها".(24/131)
سابعاً: ما رواه الحاكم في مستدركه قال: حدثنا أبو حميد أحمد بن محمد بن حامد العدل بالطابران- حدثنا تميم بن محمد، حدثنا أبو مصعب الزهري، حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، أخبرني سليمان بن داود عن جعفر بن محمد عن أَبيه عن علي بن الحسين عن أبيه أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده.
قال الحاكم: "رواته عن آخرهم ثقات", وتعقبه الذهبي في تلخيصه فقال: "هذا منكر جداً وسليمان ضعيف".
هذه جملة ما استدلوا به على الجواز وقد أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية وفصّل الجواب عنها في كثير من كتبه، كما استوفى ذكرها والجواب عنها شمس الدين بن القيم- رحمه الله تعالى- وذلك في تهذيبه لسنن أبي داود ونحن إن شاء الله نلخص ما ذكره هذان الإمامان وما ذكره غيرهما مع ما يفتح الله به علينا في هذا المقام والله المستعان.
أما حديث أم عطية رضي الله عنها: فمحل استدلالهم من قولها "ولم يعزم علينا"، والجواب عنه كما قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله قال ما نصه: "وأما قول أم عطية: (ولم يعزم علينا) فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي وهذا يقتضي التحريم وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظن غيره". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما قول أُم عطية فهو حجة للمنع وقولها ولم يعزم علينا إنما نفت فيه وصف النهي وهو النهي المؤكد بالعزيمة وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم بل مجرد النهي كاف، ولما نهاهن انتهين لطواعيتهن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فاستغنين عن العزيمة عليهن, وأم عطية لم تشهد في ذلك النهي وقد دلت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة فهي مثبتة للعزيمة فيجب تقديمها".(24/132)
قلت: وفي حديثي عبد الله بن عمرو وعلي رضي الله عنهم المتقدم ذكرهما ما يدل على أن نهيهن عن اتباع الجنائز نهي تحريم لا تنزيه، وفي ذلك دليل واضح على منعهن من زيارة القبور إذ العلة بين الحكمين مشتركة فصح أن الاستدلال به في جانب المنع أولى وأَرجح والله أعلم.
وأما حديث أنس عند البخاري: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأَة تبكي عند قبر على صبي لها، فقال: اتق الله واصبري" الحديث؛ فهو كذلك حجة للمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرها بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أَمر به وترك ما نهى عنه ومن جملتها النهي عن زيارة النساء للقبور وقال لها: "اصبري"ومعلوم أن مجيئها للقبر وبكاءها مناف للصبر، فلما أبت أن تقبل منه لأنها لم تعرفه انصرف عنها، فلما علمت أنه صلى الله عليه وسلم هو الآمر لها جاءته تعتذر إليه من مخالفة أمره. فأي دليل في هذا الحديث على جواز زيارة النساء للقبور؟ ومع هذا فلا يعلم أن هذه القضية كانت بعد لعنه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، ونحن نقول إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع، أو تكون دالة على المنع لأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها على الجواز، وعلى كلا التقديرين فلا تعارض هذه القضية أحاديث المنع ولا يمكن دعوى نسخها بها والله أعلم.
وأَما حديث بريدة رضي الله عنه: فقد قال المجيزون: إن هذا الخطاب يتناول النساء بعمومه، بل هن المراد به فإنه إنما علم نهيه عن زيارتها للنساء دون الرجال وهذا صريح في النسخ لأنه قد صرح فيه بتقديم النهي ولا ريب في أن المنهي عن زيارة القبور هو المأذون له فيها والنساء قد نهين عنها فيتناولهن الإذن.(24/133)
والجواب عن هذا: أَن الصيغة في هذا الحديث هي خطاب للذكور, والنساء وإن دخلن فيه تغليباً فهذا حيث لا يكون دليل صريح يقتضي عدم دخولهن, وأَما حديث التحريم فمن أظهر القرائن على عدم دخولهن في خطاب الذكور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام قد نهي عن زيارة القبور صيانة لجانب التوحيد وقطعاً للتعلق بالأموات وسدا لذريعة الشرك، التي أصلها تعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فلما تمكن التوحيد من قلوبهم واضمحل الشرك واستقر الدين أذن في زيارة يحصل بها مزيد الإيمان وتذكير ما خلق العبد له من دار البقاء فأذن حينئذٍ فيها فكان نهيه عنها للمصلحة وإذنه فيها للمصلحة. وأما النساء فإن هذه المصلحة وإن كانت مطلوبة منهن لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام من فتنة الأحياء وإيذاء الأموات والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا بمنعهن منها أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة، والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به، فمنعهن من الزيارة من محاسن الشريعة". اهـ، من كلام ابن القيم ملخصاً.
وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الخطاب في الإذن في قوله: فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند الجمهور فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص، إذ قد يكون قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" بعد إذنه للرجال في الزيارة يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أن اتخاذها المنهي عنه محكم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة والصحيح أَن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:(24/134)
الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم "فزوروها" صيغة تذكير وصيغة التذكير إنما تناول الرجال بالوضع وقد تتناول النساء أيضا على سبيل التغليب لكن هذا فيه قولان.
الثاني: أَن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر الموت ويرقق القلب ويدمع العين ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وقلة الصبر، وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة وكما حرمت الخلوة بالأجنبية وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فانه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها", إلى أن قال رحمه الله: "إن قوله صلى الله عليه وسلم "من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان" معلوم أنه أدل على العموم من صيغة التذكير المتقدمة فإن لفظ (من) يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك لا يدخلن في العموم المتقدم بطريق الأولى ... فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز مع ما في ذلك من الصلاة على الميت فأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه بطريق الأولى، وعلى هذا فيكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً بالرجال، وخص بلعنه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور فيكون من العام المخصوص"اهـ وبمثل هذا قال العلامة النووي في شرح مسلم: "هذا من الأحاديث التي تجمع الناسخ والمنسوخ وهو صريح في نسخ نهي الرجال عن زيارتها، وأَجمع على أن زيارتها سنة لهم، أما(24/135)
النساء ففيهن خلاف لأصحابنا وقدمنا أن مَنْ منعهن قال: النساء لا يدخلن في خطاب الرجال وهو الصحيح عند الأصوليين"اهـ. منه بلفظه.
وأما حديث عائشة: عند مسلم والنسائي الذي فيه قالت: "كيف أقول لهم"الحديث فالجواب عنه من وجوه:
أولها: حمل سؤالها للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه إياها على ما إذا اجتازت بقبر في طريقها بدون قصد للزيارة، ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة عند من خرّجه بل قالت: ماذا أقول لهم؟ ولذلك صرح العلماء- رحمهم الله تعالى- بأنه يجوز لها أن تدعو بهذا الدعاء في هذه الحال، بل ولا تسمى زائرة والحالة هذه، فكأنها رضي الله عنها قالت ماذا أقول إذا جزت بقبر في الطريق فقال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث.. ولا أدل على ذلك من قولها في زيارتها لأخيها عبد الرحمن "لو شهدتك لما زرتك"وإلا لما كان لقولها هذا كبير معنى، وإن في حمل الحديث على هذا جمعاً بينه وبين أدلة المنع ودفعاً للتعارض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الجمع بين الدليلين متى أمكن فهو أولى من طرح أحدهما أو دعوى التعارض بينهما قال صاحب مراقي السعود في ذلك:
إلا فللأخير نسخ بينا
والجمع واجب متى ما أمكنا
وثانيها: أن حديث عائشة هذا يحتمل احتمالاً قوياً أَنه كان على البراءة الأصلية ثم نقل عنها إلى التحريم العام فنسخ نهي الرجال عن الزيارة وبقي نهي النساء على عمومه كما أشار إلى ذلك المنذري رضي الله عنه بقوله: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور نهيا عاماً للرجال والنساء ثم أذن للرجال في زيارتها واستمر النهي في حق النساء لورود ما يقتضي تخصيصهن في ذلك الحكم من أحاديث اللعن وغيرها".(24/136)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد قرن الرسول صلى الله عليه وسلم لعننة الزائرات بلعنة المتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أَن اتخاذ المساجد والسرج، لم يقل أحد من العلماء بجوازه فكذلك ما قرن به من لعنة الزائرات والله أعلم.
والثالث: أن عائشة رضي الله عنها ليست كغيرها من النساء لما تحلت به من الآداب اللائقة بزيارة القبور لقوة إيمانها وعظيم صبرها وكمال عقلها ووفور فضلها، قال الله تعالى في عموم نساء النبي صلى الله عليه وسلم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب / 33) وقال عليه الصلاة والسلام: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" أما غيرها من النساء فإنه لا يؤمن ممن زارت القبر لجهالتها وضعف عزيمتها وقرب جزعها أن ترتكب شيئا من المحظورات كالنياحة والجزع والتعديد خصوصا في زماننا هذا الذي انضم إلى ما ذكر كثرة تبرج النساء وارتكابهن فتنة العري والتبرج والاختلاط، ومن له غيرة في الدين وبصيرة بقواعد الشريعة عرف وجاهة ما ذكر والله المستعان.(24/137)
الرابع: حمل سؤالها للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه إياها على أنها مبلغة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا في السنة كثير في تعلمها وأخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تخبر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم مع عدم شرعيته في حق النساء. قال الزركشي- في الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة- أخرج مسلم عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها نم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها تم رجع كان له من الأجر مثل أحد" فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت. وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة" اهـ.
وقد لاح لك مما تقدم من الأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لورود النهي الخاص من النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباعهن الجنائز فكذلك ما هنا فاحفظ ذلك وكن به حفيا وتدبر بعين البصير بمرامي الشريعة وقواعدها فسيظهر لك بمعونة الله صحة ما ذكرناه ورجحان ما أبديناه ولا حوله ولا قوة إلا بالله.
وخلاصة القول أن في حمل الحديث على أحد الوجوه المذكورة جمعاً بعين الأحاديث وتأليفاً لسنن كثيرة نذكر فيها ما يلي:
أولاً: موافقته للنهي الخاص من النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور كما في أحاديث اللعن وما في معناها كحديثي عبد الله بن عمرو وعلي رضي الله عنهم.(24/138)
ثانياً: أن في حمل الحديث على ذلك جمعاً بينه وبين قولها المتأخر قطعاً على ذلك - لو شهدتك لما زرتك- وإلا لما كان في قولها هذا كبير معنى.
ثالثاً: موافقته لحال الصحابة رضوان الله عليهم حيث لم ينقل فيما نعلم أَن نساءهم كن يزرن المقابر، ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا بالنهي وأقروه على ظاهره كما جاء من غير بحث ولا نظر، وهذا هو مذهب أهل الحديث وأئمة التحقيق كثر الله سوادهم، قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله: "وما علمنا أن أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال"اهـ بلفظه.
رابعاً: أن المحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة محضة أو راجحة وزيارة النساء للقبور تشتمل على مفاسد كثيرة في الغالب فالتحريم إذاً ألصق بأصول الفرع ومقاصده.
خامساً: أن أحاديث النهي تضمنت حكماً منطوقاً به، وحديث عائشة عند مسلم صحيح غير صريح فيما استدل به عليه، إذ لم تقل ماذا أقول إذا زرت القبور بل قالت ما أقول لهم، وهذا يحتمل الزيارة وغيرها. قال أبو بكر الحازمي في كتابه الاعتبار: "الوجه الثالث والثلاثون من وجوه الترجيح أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً"اهـ. أي فيجب تقديم ما هو منطوق به.
سادساً: أن عامة العلماء قد رجحوا الدليل الحاظر كحديث اللعن في هذا المقام على دليل الإباحة كحديث عائشة عند مسلم على احتماله، فمن ادعى بعد ذلك أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان لاسيما وقد ذكر هذا الوعيد الشديد في جانب المنع فالمسألة إذاً لا مسرح فيها للاجتهاد والله أعلم.(24/139)
سابعاً: أن مما يرجح به أحد الحديثين على الآخر كثرة العدد في أحد الجانبين وهى مؤثرة في باب الرواية لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر كما حكى ذلك الحافظ أبو بكر الحازمي في اعتباره.
قلت: وقد لاح لك مما تقدم أن عدد جانب المنع أكثر والاستدلال بها أظهر وبالله التوفيق.
والجواب عن حديثها في زيارتها لأخيها عبد الرحمن هو كما قال الحافظ بن القيم في تهذيب السنن: "إن المحفوظ في هذا الحديث حديث الترمذي مع ما فيه، وعائشة إنما قدمت مكة للحج فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه وهذا لا بأس به، إنما الكلام في قصدها الخروج لزيارة القبور ولو قدر أنها عدلت إليه وقصدت زيارته فهي قد قالت: "لو شهدتك لما زرتك"وهذا يدل بالصراحة أن من المستقر المعلوم عندها أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور وإلا لم يكن في قولها ذلك معنى"اهـ.(24/140)
وأما رواية الحاكم التي فيها أن عائشة قالت لمن سألها نهى عنها ثم أمر بزيارتها فقد قال الإمام تقي الدين بن تيمية: "لا حجة في حديث عائشة هذا، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ وهو كما قالت رضى الله عنها ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة ولكن عائشة بينت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول فلم يصلح أن يحتج به, وهو أن النساء على أصل الإباحة، ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجل ولم تقل لأخيها لما زرتك". وقال ابن القيم رحمه الله في هذه الرواية: إنها من رواية بسطام بن مسلم، ولا صح فإن عائشة رضي الله عنها تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء في الإذن، والحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي، وتأويل الراوي إنما يكون مقبولاً حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه وهذا الحديث قد عارضه أحاديث منع زيارة النساء للقبور"اهـ.
(تنبيه) : قول ابن القيم رحمه الله تعالى إن هذا الحديث من رواية بسطام ابن مسلم ولو صح قد يفهم منه أن هذا الحديث ضعيف من جهة بسطام هذا وليس الأمر كما يظن بل بسطام بن مسلم ثقة كما قال الحافظ في التقريب: "بسطام بن مسلم بن نمير العوذي بفتح المهملة وبسكون الواو، بصري ثقة من السابعة" اهـ. وقال أحمد: "صالح الحديث ليس به بأس", وقال ابن معين وأبو زرعة: "ثقة" والله أعلم.
وأما ما رواه الحاكم أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة الحديث. فهو حديث ضعيف منكر كما قاله الذهبي في تلخيصه وتضعيفه من سليمان بن داود وقال البيهقي في سننه الكبرى بعد سياقه لهذا الحديث: "إن حديث فاطمة رضي الله عنها في زيارتها قبر عمها حمزة منقطع"اهـ.(24/141)
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام بشرح بلوغ المرام- ما نصه: "وما أخرجه الحاكم من حديث علي بن الحسين أن فاطمة رضي الله عنها كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. قلت: وهو حديث مرسل فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وعموم ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً: "من زار قبر الوالدين أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب باراً" "اهـ.
فهذا الحديث كما رأيت قد رمي بالضعف والنكارة والانقطاع والإرسال فلا يكون مثل هذا حجة في الدين والله أعلم.
9- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة:
قال أبو العباس على بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي في ترتيبه اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ما نصه: "ونهي النساء عن زيارة القبور هل هو نهي تنزيه أو تحريم فيه قولان: وظاهر كلام أبى العباس ترجيح التحريم لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه، ورواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وأنه لا يصح ادعاء النسخ بل هو باق على حكمه، والمرأة لا يشرع لها الزيارة الشرعية ولا غيرها اللهم إلا إذا اجتازت بقبر في طريقها فسلمت عليه ودعت له فهذا حسن"اهـ.
وقال صاحب المهذب: "ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور".(24/142)
وقال السيوطي في كتابه زهر الربى على المجتبى للنسائي عند الحديث المتكلم عليه في النهي: "وبقين أي النساء تحت النهي لقلة صبرهن وكثرة جزعهن". قال السندي: "وهو الأقرب لتخصيصهن بالذكر"والله أعلم. وقال ابن حجر الهيثمي الشافعي في كتابه الزواجر ما نصه: "الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والعشرون بعد المائة اتخاذ المساجد أو السرج على القبور وزيارة النساء لها، وتشييعهن الجنائز" فساق حديث ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر ثم قال: "تنبيه: عد هذه الثلاثة هو صريح الحديث الأول في الأولين لما فيه من لعن فاعلها وصريح الحديث الثاني في الثانية وظاهر حديث فاطمة في الثالثة بل صريح رواية النسائي: ما رأيتن الجنة إلى آخره. ولم أر من عد شيئاً من ذلك بل كلام أصحابنا في الثلاثة مصرح بكراهتها دون حرمتها فضلاً عن كونها كبيرة فليحمل كون هذه كبائر على ما إذا عظمت مفاسدها كما يفعل كثير من النساء من الخروج إلى المقابر وخلف الجنائز بهيئة قبيحة جداً إما لاقترانها بالنياحة وغيرها أو بالزينة عند زيارة القبور بحيث يخشى منها الفتنة.." إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
قلت: وقد تقدم كلام النووي رحمه الله -وهو من كبار الشافعية- مصرحا بالتحريم وأما حمل ابن حجر الهيثمي التحريم على ما إذا عظمت الفتنة فهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما نعلم وقد صرح بذلك غير واحد، وأما بدون اقتران ذلك فتبين لك مما تقدم ومما يأتي أن مقتضى نصوص الشريعة وقواعدها التحريم وما أحسن ما قاله العيني رحمه الله تعالى: "إن زيارة القبور مكروهة للنساء بل حرام في هذا الزمان ولاسيما نساء مصر لأن خروجهن على وجه الفساد والفتنة وإنما رخص في الزيارة لتذكر أمر الآخرة وللاعتبار بمن مضى وللتزهيد في الدنيا"قاله صاحب عون المعبود نقلاً عنه.(24/143)
وهذا قاله العيني في نساء مصر القرن التاسع فكيف لو رأى هو وأمثاله من الغيورين على الإسلام نساء القرن الرابع عشر وما يرتكبنه من التبرج والسفور وفتنة العري والاختلاط لما تردد هو وأمثاله في منعهن من الزيارة قولاً واحداً والله أعلم.
وقال الساعاتي في الفتح الرباني: "قال صاحب المدخل المالكي: قد اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال: أولاً المنع مطلقاً. ثانياً الجواز على ما يعلم في الشرع من الستر والتحفظ عكس ما يفعل اليوم. ثالثاً: يفرق بين الشابة والمنجالة أي العجوز-. ثم قال: اعلم أن الخلاف في نساء ذلك الزمان أما خروجهن في هذا الزمان فمعاذ الله أن يقول أحد من العلماء أو من له مروءة في الدين بجوازه".
وقال العلامة صديق بن حسان البخاري في كتابه حسن الأسوة: "الراجح نهي النساء عن زيارة القبور وإليه ذهب عصابة أهل الحديث كثر الله سوادهم". وقال صاحب المرعاة: "قال أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: النهى ورد خاصا بالنساء والإباحة لفظها عام والعام لا ينسخ الخاص بل الخاص حاكم عليه ومقيد له".
وقد سئل سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف عن حكم وقوف النساء -عند دخولهن المسجد النبوي الشريف- على قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأجاب رحمه الله بفتوى قال فيها بعد أن ذكر أحاديث اللعن: "إن التعبير برواية زائرات القبور يدل على عدم تخصيص النهى بالإكثار من الزيارة كما توهمه بعضهم من التعبير في الروايات الأخرى بلفظ "زوّارات القبور"ثم قال بعد أَن ذكر تحقيقاً جلياً في المسألة "والخلاصة: أنه لا يجوز للنساء قصد القبور بحالة ولا يدخلن في عموم الإذن بل الإذن خاص بالرجال والله أعلم".(24/144)
قلت: فالقول بالتحريم مطلقاً هو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، إذ هو الموافق لأمر رسول الله ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته فأما موافقته لأمره فإنه صلى الله عليه وسلم حكم على المرأة التي تبكي عند قبر على صبي لها بمنافاة ذلك للصبر والتقوى فأمرها بقوله لها: "اتق الله واصبري" فهذا موافق لأمره, وأما موافقته لنهيه فلقوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" فاجتمع في هذه المسألة أبلغ الطرق لإثبات هذا الحكم من أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم. وأما موافقته لقواعد شريعته ومصالح أُمته فمن وجوه عديدة نذكر منها ما يلي:
أولاً: من المستقر المعلوم من قواعد الشريعة المطهرة: أن درء المفاسد مغلب على جلب المنافع لاسيما عند عظمة المفاسد كالحالة هذه إذ ليس في زيارة النساء للمقابر أي مصلحة راجحة كما هي في حق الرجال، والخروج في حقهن لا يكون إلا لحاجة فكيف يقدم ما ليس بواجب على الواجب بل كيف إذا لم يكن مشروعاً.
ثانيا: إن النساء ناقصات عقل ودين مع ضعف صبرهن وكثرة جزعهن ومن جراء هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزع المؤدي إلى لطم الخدود وشق الجيوب وزيارتهن مجددة للحزن والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن الناتجة من نقصان الدين والعقل وقلة الصبر وكثرة الجزع فلو لم تحرم زيارة النساء للقبور إلا من هذا الباب لكفى فكيف إذا ترتب عليها من المخالفات الباطلة مالا يخفى على كل من شهد ما يقع منهن في زماننا هذا من تبرج بزينة واختلاط وغير ذلك مما أنكره الشرع.(24/145)
ثالثاً: إن حرمة التبرج والاختلاط- معلوم بالضرورة من الدين والعقل السليم. فخروج المرأة من بيتها لغير ضرورة يؤدي في الغالب إلى ارتكاب هذه الممنوعات شرعا بل والى ترك ما هو أهم من إحصانها وقرارها في بيتها والقيام بحقوق زوجها كما قال الله عز وجل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} بل يؤدي إلى أعظم مما تقدم من وقوع اللعنة عليها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شهد ما يقع في عصرنا هذا عند مزارات قبور الصالحين وغيرهم لاسيما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه علم غاية العلم أن ما ذكرناه من المفاسد المترتبة على فتح هذا الباب أمر واقع لا يحتمل الشك والارتياب وأن منعهن من زيارة القبور هو مقتضى شرعه وحكمه ومن محاسن شريعته. وكم من مسائل منعها الشارع لا لذاتها ولكن لما يتوصل إليه بأسبابها من ذلك نهيه عن تجصيص القبور وتشريفها والبناء عليها وعن الصلاة إليها وعندها وعن شد الرحال إليها- كل ذلك لئلا يكون ذريعة إلى اتخاذها أوثانا, ً وهذا التحريم عام في حق من قصد ومن لم يقصد، كل ذلك حماية لجناب التوحيد وسلامة الفطرة، والمحافظة على ذلك معروفة بطبيعة العقائد الإسلامية والله المستعان.
خاتمة في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع:(24/146)
لا يخفى على كل من كان هدفه التمسك بآداب شريعة الإسلام أن الخير كله في اتباع السلف وأن الشر في ابتداع الخالفين، فمن ثم لما لم ينقل عن القرون المشهود لها بالخير أن نساءهم يزرن المقابر تيقنا يقينا لا يساوره شك أنهم فهموا المنع من الشارع من غير قيد، ومن المعلوم أيضا لما هم عليه من قوة التمسك بالسنة والولوع بها ومن الورع وحب التسابق إلى الخير وتبليغ ما جاء عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، أنه لو كانت زيارة النساء خيراً لسبقونا إليها ولنقل عنهم جوازها كما نقل عنهم منعها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد قال الأول:
والحق يعرفه ذوو الألباب
والحق أَبلج لا تزيغ سبيله
فلنفعل كما فعلوا وليسعنا ما وسعهم من الاستغناء بما أحل الله عما حرمه فما أحسن الاقتصار على الطريقة المأثورة عن سلف هذه الأمة فإنهم كانوا أعلم بشريعة الله وأقوى تعظيما لأوامره وأوامر رسوله من سائر الأمم، ومن ظن أن في قدرته وإمكانه أن يفوقهم في تعظيم أوامره فقد خاب ظنه ورجع بخفي حنين فوالله لو أنفق أحدنا مثل أحدٍ ذهباً لما بلغ مد واحد منهم ولا نصيفه كما ورد عنه ذلك عليه الصلاة والسلام ويذكر أن الإمام مالكاً رحمه الله كثيراً ما ينشد:
وشر الأمور المحدثات البدائع
وخير أمور الدين ما كان سنة
فما من بدعة تحدث في الإسلام إلا ويرفع في مقابلتها سنة من سنن الهدى، وحسبك في وجوب الاتباع والتحذير من الابتداع ما رواه المقدسي في المختارة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته".(24/147)
وساق الشاطبي في الاعتصام من حديث: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا" وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث وهو وإن كان مختصاً بالمدينة فغيرها أيضا يدخل في المعنى ... ويروى عن أبي أويس الخولاني أنه قال: "لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق". وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب فتنة فتنهُ هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه". وقال أبو عمير عيسى بن محمد النحاس في صفة الإمام أحمد رحمه الله: "عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين ما كان ألحقه، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها، وخصه الله بنصرة دينه والقيام بحفظ سنته ورضيه لإقامة حجته ونصر كلامه حين عجز عنه الناس".
ويروى عن الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً".
وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه وكان ذلك في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها الله آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين والحمد لله الذي بتوفيقه تتم الصالحات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/148)
فتاوى شرعية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
إطلاق حرِّية العقار مواقف للشرع والمصلحة العامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في الصفحة السادسة من جريدة الندوة الصادرة بتاريخ 7/11/1401هـ بعنوان (حرية العقار) فوجدتها تتضمن تحبيذ الكاتب تأجيل إطلاق حرية العقار عدة سنوات … الخ.
وأقول:-وبالله التوفيق- لا شك أن هذه المسألة من المسائل الشرعية العامة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله القاطع الذي ليس لأحد معه رأي ولا اجتهاد ولا استحسان. فالواجب على صاحب المقال وغيره تقوى الله والتعلم والامتثال لحكم الله ورسوله قال الله تعالى. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء الآية 65) , {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب الآية 36) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكما هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا", فلا يحل أخذ مال امرئ مسلم بأي وجه من الوجوه إلا بحق شرعي, ومعلوم من قواعد الشرع المطهر لكل ذي علم وبصيرة أَن تقييد حرية العقار بأجرة معينة أو نسبة معينة يعتبر ظلما لمالكه وأخذاً لماله بغير حق ومصادمة للنصوص الشرعية ومخالفة لأمر الله ورسوله وحكما بغير ما أنزل الله واجتهادا في غير محله.(24/149)
فالله سبحانه وتعالى هو العليم بمصالح عباده وبعواقب الأمور كلها وهو أحكم الحاكمين وأرحم بالخلق من أنفسهم لذلك شرع لهم من الأحكام ما يصلحهم في كل زمان ومكان. أما ما ذكره صاحب المقال من المشاكل التي يتوقع حصولها بعد إطلاق حرية العقار فهذا استعجال للأمر قبل أوانها بل إن ذلك من إيحاء الشيطان وتوهيمه كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة الآية268) . وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة الآية 168_169) .
فالواجب على المسلم أن يكون قوي الثقة بربه سبحانه في جميع أحواله وأموره, حسن الظن به, بعيدا عن التوهمات والتوقعات التي تثبطه عن تنفيذ أمر الله والرضى بحكمه, وأن يعتقد اعتقادا جازما أن تطبيق أحكام الشرع المطهر لا ينتج عنه إلا كل خير في العاجل والآجل, بل إن الشر والضجر في عدم تطبيقها أو الإخلال بذلك.(24/150)
ولقد أحسن صاحب المقال المنشور في الصفحة السادسة من جريدة عكاظ الصادرة في 11/11/1401 هـ بعنوان (ما هي أبعاد إطلاق حرية العقار مع بداية عام 1403هـ) فجزاه الله خيرا وأكثر من أمثاله فإن الدولة -وفقها الله- ساهمت في حل أزمة العقار مساهمة إيجابية ظهرت آثارها لكل منصف وذلك بالعطاءات السخية من القروض ومنح الأراضي وشجعت على توفير المباني السكنية وقد استفاد الكثير من المواطنين من صندوق التنمية العقارية وبنك التسليف كما استفاد أيضا الكثير من التجار والشركات والمؤسسات في بناء الفنادق والأسواق التجارية والمشاريع السكنية وبذلك انحلت الأزمة وتوفرت المساكن والمحلات التجارية وانخفضت الأجور بشكل ظاهر. بل إن كثيرا من المساكن والمحلات مقفل بسبب نزول أسعار البيع والإيجار ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر. أما ما قد يقع من المشاكل بين المؤجر والمستأجر فالمحاكم الشرعية كفيلة بحلها والحمد لله.
وبذلك يعلم أن إطلاق حرية العقار هو الأمر المتعين شرعا وهو الموافق للمصلحة العامة والسياسة الحكيمة.
فنسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويرزقهم التمسك بشريعته والثبات عليها إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي (عبد الله ناصر أحمد) ، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة والسؤال هو: لي أخ من أبي، وله أخت من الرضاع، ولها بنت، هل يجوز أن أتزوجها (أي بنت المرأة التي رضعت مع أخي من أبي) ؟
والجواب:(24/151)
إذا كانت المرأة التي تريد الزواج بابنتها رضعت خمس رضعات فأكثر وكان في الحولين فلا يجوز لك الزواج بابنتها، لأن الراضعة أختك أيضا من الرضاع، وتكون خالا لابنتها، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصاحبه.
متى تكون الذبيحة حلالا لنا أو حراما علينا …؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، على السؤال المقدم من صالح بن أبي بكر عيسى العالي، إلى سماحة الرئيس العام، والمحال إليها من الأمانة العامة برقم 735/ 2 وتاريخ 4/5/1296هـ.
ومضمونه أن جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير الله، ويدعو غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، إذا ذكروا عليها اسم الله، مستدلين بعموم قوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام الآية 118) . وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام الآية 119) ويرون أن من يحرم ذلك من المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير عالم.
ويقولون: إن الله فصل لنا ما حرم علينا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..} (المائدة الآية 3) وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (النحل الآية 115) إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا.(24/152)
ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا عليها اسم الله.
فهل قولهم هذا صحيح؟ وبماذا نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين؟ ما هو الحل في ذلك مع الدليل؟
الجواب:
يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين، فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه وذكر اسم الله على ذبيحته، أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا, فذبيحته حلال بإجماع المسلمين، لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام الآية 118-119) .
- وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا، وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بإجماع لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (المائدة الآية 5) .
وإن لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره عليها ففي حل ذبيحته خلاف، فمن أحلها استدل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد، وبالنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام الآية 121) وهذا هو الظاهر.
- وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها،! كأن يقول باسم العزير، أو باسم المسيح، أو الصليب، لم يحل الأكل منهما لدخولهما في عموم قوله تعالى آية ما حرم من الطعام: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . إذ هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .(24/153)
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا، بلا خلاف فيما نعلم إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" [1] ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية كأهل الكتاب فيباح صيدهم وذبائحهم.
وقد أنكر عليه العلماء ذلك واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف, قال ابن قدامة في (المغني) : "قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون لذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور.
ومما رويت عنه كراهية ذبائحهم: ابن مسعود، وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومرة المهراني والزهري ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال أحمد: ولا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة.
ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار ولأنهم لا كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، ثم قال ابن قدامة: "وإنما أخذت منهم الجزية، لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم احتياطا للتحريم في الموضعين ولأنه إجماع، فإنه قول من سمينا، ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافا"انتهى من (المغنى) .
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب، فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا، ودل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار، وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة.(24/154)
وكذا من انتسب إلى الإسلام وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار الوثنيين والزنادقة فلا تحل ذبائحهم كما لا تحل ذبائح أولئك الكفار لشركهم وارتدادهم عن الإسلام.
وعلى هذا فالإجماع على تحريم ذبائحهم ودلالة مفهوم الآية على ذلك كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} , وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية.
فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله بعد البيان له وإقامة الدليل عليه فإن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى.
كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم واستنجد بغير الله فيما هو من اختصاص الله إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة فان ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة، لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينقص أصل إيمانهم وإصرارهم علما ذلك بعد البيان.(24/155)
ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين ومجرد دعوى لا يشهد لها ما نقل عنه رحمه الله بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله، من ملك مقرب أو نبي مرسل، أو عبد صالح، فيما لا يقدر عليه إلا الله، بأنه مشرك مرتد عن الإسلام، بل شركه أشد من شرك أهل الكتاب, وإن ذكروا عليها اسم الله؛ لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة، فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه، لقوله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام الآية 88) . والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مالك في الموطأ في كتاب الزكاة ((باب جزية أهل الكتاب والمجوس)) 2: 374، ((عن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" قال ابن عبد البر: هذا الخبر منقطع إلا أن معناه متصل من وجوه حسان.
ورواه عبد الرزاق في ((مصنفه)) في كتاب أهل الكتاب ((باب أخذ الجزية من المجوس)) 6:69،وفي كتاب أهل الكتابين ((باب هل يقاتل أهل الشرك حتى يؤمنوا من غير أهل الكتاب، وتؤخذ منهم الجزية)) 10: 325 وروى عبد الرزاق في البابين من طريق أخرى ((عن الحسن بن محمد بن علي)) نحو هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي آخره: "ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح منهم امرأة" قال البيهقي في ((السنن الكبرى)) 9: 192و285)) هذا الخبر مرسل،وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده.(24/156)
نظرة إسلامية إلى البحث والكشف والابتكار (1)
للدكتور أبو الوفاء عبد الآخر
صيدلي بمستشفى الجامعة
الحمد لله ... خلق الإنسان واستخلفه في الأرض، وأنعم عليه بخصائص فاق بها سائر الخلق … والصلاة والسلام على أكرم المرسلين، وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد
فلقد تميز التفكير الإنساني بالقدرة على التعلم والحفظ والنمو، وهذه من أفضل وأعظم خصائص الجنس البشري، وبها أصبح الإنسان قادراً على النظر والتأمل، وعلى التعلم والبحث والاكتشاف والابتكار.
ولقد كانت الأمة الإسلامية في عصور نهضتها الفكرية، أمة باحثة ومبتكرة، ثم تخلفت عن ركب الحضارة وأصبحت أمة مقلدة، تلتقط فتات الفكر الحضاري من موائد غيرها من الأمم ... ثم بدأت صحوة المسلمين من جديد، وظهرت في العالم الإسلامي بشائر البحث والكشف والابتكار، في ميادين الطب والصيدلة والعلوم الطبيعية، وفي ميادين الصناعة وغيرها من مطالب الحياة.
ولهذا أصبح من الضروري زيادة الاهتمام (بإعداد الباحث المبتكر) ، وإيقاظ ملكات البحث والكشف والابتكار، بين أبناء الأمة الإسلامية، حتى تصير أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، في ركب الحضارة بقدرتين متلازمتين: قدرة العمل، وقدرة البحث والكشف والابتكار، وحتى تصبح أمة قائدة لا مقودة، ومبتكرة لا مقلدة.
مفاهيم:
البحث: هو الوسيلة التي بها يتوصل الإنسان إلى الاكتشاف والابتكار.
الاكتشاف: هو التعرف على الموجودات بالكون من مواد وقوانين، والتي لم تكن معروفة من قبل.(24/157)
الابتكار: هو بمفهومه العام، كل ما أوجده الإنسان، مما لم يكن له سابق عهد به، سواء كان مادة في حالة معينة، أَم جهازاً وآلة، أم فائدة جديدة لشيء معروف، أم أسلوبا جديداً للعمل والأداء والكشوف والابتكارات، منها الهام الذي يكون بمثابة نقلة ثورية في العلم ومطالب الحياة، كالمضادات الحيوية في علاج الأمراض.. (والصفر) العربى في الحساب. وهناك التطوير والتحسين، وهما أقل درجة من الابتكار.
مصادر البحث والكشف والابتكار:(24/158)
أولا: الكون، بأرضه وسمائه، فقد علم (الله سبحانه وتعالى) آدم، أسماء المسميات {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، ثم استخلفه في الأرض، وقد جعلها- سبحانه وتعالى- وما فيها مسخّرة لآدم وذريته {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . وأودع- وهو اللطيف الخبير- في بني آدم الخصائص المناسبة التي تعينهم على التعلم والبحث والاكتشاف والابتكار {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل الآية 78) , {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق- الآيات 3، 4، 5) وأشار- في كتابه العزيز- إلى الأرض وما عليها، والسموات وما بينها، كموضوعات للنظر والتفكير والتأمل {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران- الآية 191) , {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية (يونس الآية 101) , {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت- الآية 20) , {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ..} الآية (فصلت- الآية 53) , {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن- الآية 33) .(24/159)
وما دام الله سبحانه وتعالى قد أودع في بني آدم القدرة على البحث والاكتشاف والابتكار، ومادام الكون بأرضه وسمائه وآفاقه هو المستهدف للنظر والتأمل والمعرفة، فإن أرجاء الكشف والابتكار فسيحة، وفسيحة جدا، وسوف يصل الإنسان في العلم والمعرفة والسيطرة آمالا بعيدة يظن بها أنه أَصبح قادرا على الأرض- وهذا يذكره الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس- الآية 34) .
بل إنه قد يصل الحال بالإنسان إلى محاولة التغيير في خلق الله سبحانه وتعالى اتباعا لأمر الشيطان واستعلاء وكفراً وطغيانا، فيحكي القرآن على لسان الشيطان {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} (النساء- الآية 119) ، ومن محاولات الإنسان في هذا المجال ما يقوم به من تحويل بعض خصائص الإناث إلى الذكور وبعض خصائص الذكور إلى الإناث، وما يقوم به من دراسات ومحاولات لتغيير بعض صفات الجنين، اعتمادا على التحكم في بعض عناصر التغيير، وبهذا يتدخل في فطرة المخلوقات ويعمد إلى تغيير حالتها الطبيعية دون أن يكون من وراء ذلك فائدة محققة، وإنما تماديا في اللهو، {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ..} وتطرفا في العناد والخصام {أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (يس- الآية 77) .(24/160)
ثائيا: القرآن الكريم: وهو كلام الله، وكتابه الذي يخاطب به عباده، وهو المعجزة الخالدة التي تقوم شاهدا على أن (الإسلام) هو دين الله وخاتم الأديان، وهو حجة الله على عباده بإعجاز الخلق، إعجازا غير موقوف على فصحاء العرب ومن لف لفهم في الفصاحة والبيان؛ ولكنه إعجاز لا بد أن يتضح لكل إنسان ولو كان أعجمي اللسان، لتلزمه حجة الله إن أبى الإسلام، ابتداء من نزول القرآن وبعثة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وإلى أن تقوم الساعة، ويرث الله الأرض ومن عليها.
هذا النوع من النظر والتفكير يؤدي إلى نتيجة لازمة: أن لإعجاز القرآن نواحي غير الناحية البلاغية، وغير ناحية التنبؤات التي كانت غيبا حين نزل القرآن، ثم حققها الله فعلا فيما استقبل الناس من زمان.
الواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه، لكني لست أريد أن أتناوله إلا من تلك الناحية التي لا يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد، هذه الناحية هي الناحية العلمية من الإعجاز.
فضلا عن ذلك فإن الإعجاز يشمل الناحية النفسية، إذ قد اقتاد القرآن النفس لردها إلى فطرتها. كما يشمل الإعجاز الناحية التشريعية، والتاريخية التي كشف عنها التنقيب الأثري فيما بعد. وكذلك شمل الإعجاز الناحية الكونية، لما فطر الله عليه الكائنات في الكون.
هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث، ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، واستظهار أسرار آياته التي اتصلت بالعلوم جميعا. ولا غرابة في أن يتصل القرآن بالعلوم كلها [1] .(24/161)
والعلماء من عباد الله المؤمنين الذين يقوله عنهم الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ، يغوصون في أعماق هذا القرآن الكريم، ويتتبعون تصريحاته وإشاراته، ليستخرجوا منها الحقائق العلمية ويستلهموا منها سر الآيات الكونية التي تفتح لهم أبواب البحث، وتقودهم إلى ينابيع المعرفة والابتكار والكشف.
ولديهم أيضا السنة المشرفة، يبحثون فيها عن الحقائق العلمية التي تقودهم إلى أعظم الاكتشافات. وعلى ضوء هذا الإدراك السليم لكتاب الله سوف يزداد المسلم نفعا به، فيتلوه كتابا تعبديا، ويقرؤه حقائق علمية. وما ينطبق على كتاب الله الكريم، ينطبق على سنة رسوله الصادق الأمين.
هدف الكشف والابتكار:
إن الهدف الأسمى للكشف والابتكار هو التعرف على آيات الله، ليزداد المؤمن إيمانا, وليحققوا الحكمة من خلقهم في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} .
أما الأغراض الدنيوية من الكشف والابتكار فهي تنظيم أمور الحياة وتيسيرها، وتوفير أسباب الأمن والصحة والراحة بما يتناسب وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
لهذا يجب أن يراعى في تقييم الكشوف والابتكارات ما يلي:
- مدى مواءمتها للطبيعة البشرية.
- مدى تحقيقها للمصلحة الإنسانية على أساس النظرة الصائبة الشاملة، باعتبار كون الإنسان جسداً وروحاً، وكذلك على أساس النظرة المرتبطة بالأخلاقيات والقيم والغايات التي بينها سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ودعى إليها رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.(24/162)
ولو أننا فرضنا أن ابتكارا يحقق راحة عضلية، أو لذة حسية، أو متعة نفسية، ولكنه يعطل العمليات التنسيقية للجسم أو يسبب إرهاقا للحواس، أو يتعارض مع مكارم الأخلاق، أو يصرف الإنسان عن طاعة الله، فيجب أَن نقيم الابتكار، واضعين في الاعتبار أن هذه الأمور من النقائص التي إذا استفحل خطرها، يجب التخلي عن هذا الابتكار.
تحذير وذكرى:
على المؤمن أن لاينبهر، ولا ينخدع بأية اكتشافات أو ابتكارات تزيد من قدرات الإنسان وتحكمه وسيطرته على هذه الأرض وما حولها، وعليه أن يصمد أمام كل مفاتن العلوم والاكتشافات والابتكارات، وفتنها؛ بجانب هذا التحذير، فإنني أذكرِّ بالحقائق التالية، وإن الذكرى تنفع المؤمنين:
الإنسان مطالب من قبل المولى سبحانه وتعالى بالنظر والتأمل والبحث في آيات الله في الكون، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إذاً فالكون من سموات وأرضين، سخره الله سبحانه وتعالى وأمر الإنسان بالنظر فيه متدبراً متفكراً دارساً وباحثا.
يعلم الحق سبحانه وتعالى بني أدم- على مر العصور، من خزائن علمه- كثيراً من أسرار الكون وسننه كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ....} الآية, (فصلت الآية 53) {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الأنبياء80) , {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل الآية 8) , {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر الآية 31) .(24/163)
إذاً فسيحصل الإنسان على معارف كثيرة عن الكون, وكل ما يتعرف عليه الإنسان من أسرار الكون، وما يصل إليه من اكتشافات وابتكارات، ليس تحدياً لقدرة الله.. بل هو عطاء من عند الله، وتعطف على الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه وتعالى بالعقل والعلم {عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
ومهما عرف الإنسان من أسرار الكون وأسرار الحياة، ومهما حقق من اكتشافات وابتكارات، فنهايته الموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت الآية: 57) , ومهما عرف الإنسان عن جسمه وعن الأمراض وعلاجها ومهما حاول وفعل لإطالة عمره، فهو إلى موت وفناء, ثم إلى بعث وجزاء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} (الرحمن آية 26. 27) , {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة الآية 6) .
سيصل الإنسان لبعض أسرار الكون، وسيصل باكتشافاته واختراعاته إلى درجة فائقة من التحكم والقوة، يخيل إليه أنه قادر ومسيطر على كل شيء في هذه الحياة الدنيا. وعندما يصل إلى هذه الحالة من التحكم والسيادة، ومن الغرور والطغيان، ستكون نهاية الأرض التي يعيش عليها {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس الآية 24) .(24/164)
إذاً فأمام الإنسان الكثير من الاكتشافات والابتكارات في كل ميادين الحياة على وجه الأرض التي يعيش عليها، يزداد بها سيطرة، ويزداد بها رخاء وتَرَفا غير أَنه في كل خطوة يخطوها نحو هذا الكسب الدنيوي، يزداد قربا من لحظة الفناء لهذه الأرض التي يعيش عليها.
الإعجاز العلمي للقرآن:
إن لكل رسول معجزة، ومعجزة نبينا (محمد) - صلوات الله وسلامه عليه- هي (القرآن الكريم) أساسا، وهو المعجزة الخالدة، الباقية في تحديها لكافة الإنس والجن، والمتجددة في تحديها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومعجزة هذا شأنها، لابد أن تكون متعددة الجوانب في إعجازها، حافلة بالأسرار في أعماقها، دائمة الخير في عطائها. ولمَّا كانت أمة الإسلام في صدر الإسلام، تتميز بالفصاحة والبيان، ولمَّا كانت اللغة العربية عند العرب- أول من دعوا إلى الإسلام- هي صناعتهم المفضلة التي برزوا فيها، وفَنَّهم الأصيل الذي تفاخروا به، وتحدوا بعضهم بعضا نظما ونثرا.... فقد ظهر الإعجاز البلاغي للقرآن أكثر الجوانب إشراقا، وبرز في وجه الكفرة والمنافقين سلاحا فتاكا للتحدي والإعجاز وقد ظل (هذا الإعجاز البلاغي) ، حتى يومنا هذا في الصَدَارة، وكاد أَن يحجب ماعداه من أوجه الإعجاز الأخرى. بشدة وَلَع علماء المسلمين به على مر العصور، ولانصراف المفسرين إليه دون غيره قرنا بعد قرن، حتى سيطر على عقول الكثيرين أن (الإعجاز البلاغي والبياني للقرآن الكريم) هو الوجه الأوحد لتلك المعجزة الكبرى.(24/165)
ولقد كان من الواجب والمناسب أن يهتم علماء الأمة الإسلامية، بذلك الإعجاز ويقتصروا على دراسته- دون باقي أوجه الإعجاز القرآنية- في وقت كان له بين العرب وفصحائهم: قوة الإقناع، وعلو الحجة وشدة التأثير، وكان موضوع التحدي للمعارضين الذين كانوا على قمة الفصاحة في اللغة العربية، هذا بالإضافة إلى عدم اتساع دائرة العلوم الطبيعية والدراسات الكونية، والاكتشافات، وعدم اهتمام الحضارات السابقة بهذا الجانب الفكري مما جعل البشرية قاصرة عن إدراك الإعجاز العلمي للقرآن. أما وقد وصلت الدراسات الإسلامية عن (الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن) شأنا عظيما، وتأصلت أهمية ذلك الإعجاز، هذا بالإضافة إلى سيادة العلوم الطبيعية على الحضارات المعاصرة وما حققته من إنجازات ضخمة في حياة الإنسان، فقد برزت أَهمية (الإعجاز العلمي للقرآن) كحجة على الإنسانية المعاصرة أعجميها وعربيها؛وما دام منطق العصر وأدلة الإقناع، صارت مستمدة من العلوم الطبيعية (التطور- المادية- العلوم التجريبية- الخ) فقد أصبح الإعجاز العلمي للقرآن، أكثر إقناعا من الإعجاز البياني والبلاغي، لهذا أَصبح من الواجب ومن الضروري على علماء المسلمين- في كل مجالات الفكر والمعرفة- أن يشمروا لدراسته وإظهاره للفكر الإنساني المعاصر، أَكثر اشراقا، وأعظم أثرا وأقوى حجة من ذي قبل.(24/166)
وبالرغم من كون (الإعجاز العلمي للقرآن) حقيقة يدركها كل من يتلو القرآن بفهم وتدبر، خاصة أولئك الذين لديهم معرفة أو إلمام بالعلوم الكونية، ومن يتابعون الثقافات المعاصرة المليئة بمعطيات العلوم الطبيعية ومعارفها، فإن هناك من يحملون حملة شعواء على من يحاول إظهار ما استكن في القرآن من آيات الله في الخلق وسنن في الفطرة، سبق إليها القرآن قبل أَن يكشف عنها علماء العصر الحديث. وهناك من يتخوفون ويشككون في الإقدام على دراسة هذا الجانب الإعجازي للقرآن، ويعترضون على أَهل التفسير العلمي لكونيات القرآن ويقولون بأن المعارف العلمية متغيرة، فلا يجوز أن نربط تفسير آيات القرآن الكريم بهذه المتغيرات العلمية، والتي تتمثل في الافتراضات والاكتشافات الأولية والنظريات.. الخ ويسوقون الحجج بنظرة موضوعية ضيقة، فيقولون بأن القرآن الكريم كتاب تعبدي وليس كتابا تعليميا، ولم يبعث به الرسول الخاتم -صلوات الله وسلامه عليه- ليعلم المسلمين دروسا في الفلك والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية.. الخ.
وهؤلاء وأَولئك من المعترضين على أهل التفسير العلمي للقرآن، يرتكبون بمعارضتهم هذه خطأ فاحشا، وكأنهم يريدون أن لا يُفهم القرآن إلا كما كان يفهمه العرب الذين نزل القرآن بينهم، وغاب عنهم أن القرآن ليس مراداً به العرب وحدهم وقت نزوله،، بل أريد به البشرية كلها في كل مكان وزمان بحيث يفهم من آياته أهل كل عصر بقدر ما قدر الله سبحانه وتعالى لهم من العلم. والمعترضون باعتراضهم هذا يعطلون تجديد حجة الله سبحانه للناس بتجدد إعجاز القرآن العلمي من خلال فهمه على ضوء المعطيات الحديثة للعلوم.(24/167)
وهناك الرأي الآخر الذي يدعو إلى دراسة (الإعجاز العلمي للقرآن) ، وأنصار هذا الرأي يدركون أهمية هذا الجانب الإعجازي للقرأن، ويعملون جاهدين على إظهاره للناس, وتدعيما للدعوة إلى الإسلام، بين محصّلي العلم الحديث، وتحديا متفوقا ضدّ (الأيديولوجيات) المادية.
ويقول أستاذنا الأستاذ الدكتور [2] محمد أحمد الغمراوي (رحمه الله) : "هذا التدرج في إتمام المطابقة بين القرآن والفطرة أمر لا مفر منه في الواقع، ثم هو مطابقة لحكمة الله سبحانه وتعالى في جعل الإسلام آخر الأديان، وجعله للقرآن معجزة الدهر، أي معجزة خالدة متجددة، يتبين للناس منها على مر الدهور، ما لم يكن قد تبين، فيكون هذا التجدد في الإعجاز العلمي تجديد للرسالة الإسلامية، كأنما رسول الإسلام- صلوات الله وسلامه عليه- قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ويريهم دليلا على صدقه آية جديدة من آيات تطابق ما بين الفطرة وبين القرآن" [3] (انتهى) .
وكان أستاذنا- رحمه الله- من أبرز علماء المسلمين المتخصصين في العلوم الكونية في العصر الحديث، الذين اهتموا بالإعجاز العلمي للقرآن، وقاموا بتفسير الآيات الكونية على ضوء المعارف العلمية الحديثة. وكتابه (الإسلام في عصر العلم) ومحاضراته بكلية أصول الدين وكتاباته بمجلة الأزهر الشريف، تعد من أمتع الدراسات لهذا الجانب من الإعجاز القرآني وبها كثير من التفسيرات القرآنية التي تتمشى مع المكتشفات العلمية الحديثة، ومن أئمة علماء المسلمين الذين كان لهم السبق في هذا النمط من التفسير: الزمخشري والفخر الرازي، من قدامى المفسرين، والإمام الشيخ محمد عبده من المحدثين.(24/168)
بل إن هذا الإعجاز القرآني، قد شد انتباه بعض العلماء من غير المسلمين الذين قاموا بدراسة الكتب السماوية دراسة موضوعية، فلم يجدوا غير (القرآن الكريم) كتابا سماويا، يحوي الكثير من الحقائق العلمية- إشارة أو تفصيلا- وكان هذا دليل صدق وإعجاز لمن أَراد منهم الإيمان، وحجة بالغة على من كفر بالرحمن.
ولا يقول الفريق المناصر لدراسة (إعجاز القرآن العلمي) والمطالب بتفسير كونيات القرآن تفسيرا علميا مطابقا لأحدث المعارف والدراسات الكونية، بأن كتاب الله العظيم، جاء ليعطي دروسا في الرياضيات والفلك وعلوم الأرض والطب والنبات والهندسة … الخ، بل ينظرون إلى هذا (الكتاب الإلهي) ، باعتبار أن كلماته وآياته، تشير إلى حقائق في شتى العلوم البشرية، وباعتبار أن كلماته: عبارات وإشارات تنبههم طبق ما تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى في مخاطبة خلقه، وباعتبار أن الآيات الكونية من القرآن الكريم يجب أن تفهم على ضوء الحقيقة ولا يعدل من ترك الحقيقة إلى المجاز إلاّ إذا قامت القرينة الواضحة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمله على مجازه.
كما يرى الفريق المناصر لقضية الإعجاز العلمي للقرآن أن لا يفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالفيوض ولا بالنظريات التي لا تزال موضع بحث وتمحيص، فكلمات الله الكونية ينبغي أن تفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية.(24/169)
وهم لا يرون أي مبرر للخوف أو الانزعاج إذا ما تغيرت نظرة علمية عن سنة كونية، فالخطأ يرد إلى المفسرين نتيجة حتمية لقصور الفكر الإنساني، ولا يردُ إلى ما طرأ من انفكاك في المقابلة بين السنة الكونية ونظيرتها القرآنية. ولا يغيب عن بالنا أن (المتعرضين لتفسير كتاب الله عرضة للخطأ، وإلاَّ لاشترطنا في المفسر أن يكون معصوما من الخطأ، وهو شرط مستحيل تحققه في غير نبي، وتكون النتيجة تحريم تفسير آيات القرآن على كل لسان بعد عهد النبي عليه الصلاة والسلام، يستوي في ذلك التفسير الكوني وغير الكوني من آيات القرآن [4] .
كما أن ظاهرة اختلاف المفسرين في تفسيرهم لكتاب الله، لم يوقف المسلمين عن تفسيرهم لكتاب الله عصراً بعد عصر وجيلاً بعد جيل، ورغم ما قد يوحي به هذا الخلاف من وجود تناقض بين معاني آيات القرآن الكريم، ولم نر من يطالب بعدم التعرض لكتاب الله شرحاً أو تفسيراً أو إظهاراً لغريب كلماته، أو بيانا لإعجازه لغويا، وقد قام الخلاف المعروف ولا يزال بين مدارس اللغويين والنحويين بشأن تفسير القرآن الكريم.
بل إن علماء (الطبيعة) في بحثهم عن أسرار الكون، قد يصلون إلى نتائج قد تحتاج إلى تعديل فيما بعد لأنها- دائما- في حدود التجارب التي يقومون بها، ناظرين إلى تجاربهم كأنها مطلقة: فقالوا: -مثلا- إن الذرة لا تنقسم، وغفلوا عن أن ذلك في تجاربهم كان خاصا بالتفاعلات الكيميائية، ثم وفقهم الله سبحانه وتعالى إلى الكشف عن العناصر المشعة، وقاموا بأبحاثهم التي صححت معلوماتهم ونتائجهم عن الذرة.(24/170)
وقالوا: إن المادة لا تفنى ولا تتجدد، ونسوا أَن ذلك لا يصدق، إلاَّ على التفاعلات الكيميائية، فهداهم الله من تركيب الذرة وتحولها إلى ما استيقنوا معه أَن المادة تفنى بتحولها إلى طاقة منطلقة في كون الله بسرعة الضوء إلى غير ذلك من الحقائق التي يصل إليها الإنسان في إطار علمه المحدود الذي يتسع كلما اتسع هذا الإطار، فيطرأ التعديل والتبديل على بعض هذه الحقائق المعلومة للإنسان.
وعليه فإن علوم الكون وعلوم القرآن وتفسيره قد يقع فيها الخطأ، وقد تحتاج في سبيل التصويب- إلى التعديل والتبديل، حتى ولو كانت حقائق كما أشرنا من قبل. ويكون الخطأ مرده خطأ الإنسان وسوء فهمه، ولا يكون الخطأ- بأي حال من الأحوال- في حقائق القرآن المطلقة، المودعة في آياته، كما لا يكون في سنن الله في خلقهِ هذا ما يجب العلم به وما يجب التنبيه إليه؛ فلا تعارض ولا تناقض في القرآن الكريم، ولا تناقض في حقائق الكون، ولا خوف ولا انزعاج من ربط علوم الكون بعلوم القرآن.
مناهج التفسير للآيات الكونية في القرآن:
إن تفسير الآيات الكونية في القرآن والتي تزيد عن ثمانمائة آية، يمكن إدراجه في مناهج ثلاثة:
أولا: المنهج التقليدي:
وهو المنهج الذي درج عليه علماء التفسير- من قدامى ومحدثين- وهو يعتمد على المعلومات العلمية العامة لتفسير تلك الآيات. كما يكثر في هذا المنهج التقليدي صرف الحقيقة إلى المجاز.
أمثلة لتفسير الآيات الكونية حسب المنهج التقليدي:
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الآية 30 الأنبياء) - أي أن السموات كانت رتقا لا تمطر وكانتا الأرض رتقا لا تنبت، فلما خلق الله الأرض أهلاً، فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات.(24/171)
قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن 22) يشير لفظ (منهما) إلى البحرين المذكورين في الآية 19 {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أوَّلوهُ إلى ما يعرفون من وجود صدف اللؤلؤ في أحد البحرين في الخليج العربي فقالوا إن ما يصدق على أحدهما يصدق على مجموعهما، وأهملوا احتمال أن يوجد اللؤلؤ أَيضا في النهر عند ملتقى البحرين من بعض الأقطار فيكون إخباراً عن حقيقة اللؤلؤ النهري الذي تذكره بعض دوائر المعارف، والذي لم يكن يعرفه العرب حول الخليج.
{السَّمَاوَاتُ السَّبْع} عند الرازي هي أفلاك السيارة السبعة التي قدرها اليونان.
ثانيا: المنهج العلمي:
وفيه يكون التفسير للآيات الكونية في القرآن على ضوء المعارف العلمية المتخصصة، ووفق الحقائق النهائية التي يصل إليها علماء الكونيات. وقد شاع هذا اللون من التفسير في العصور الحديثة التي أَصبحت فيها علوم الكون خاضعة لأساليب الدراسة التجريبية، وقائمة على وسائل البحث والمشاهدة المدعمة بالأجهزة والآلات ذات الكفاءة العالية في التقدير. وأكثر القائمين بهذا العمل الهام هم من المتخصصين في العلوم الكونية والمزودين بالدراسات الإسلامية، أو من المفسرين الذين يتابعون أحدث البحوث والاكتشافات العلمية، ويستعينون بها في فهم وتفسير الآيات الكونية بالقرآن الكريم.
والغرض من هذا المنهج العلمي في تفسير تلك الآيات القرآنية، هو إيضاح معانٍ جديدة للقرآن الكريم، وإثبات صدقه وإعجازه، وزيادة حجته وقوة إقناعه. وهذا القدر من الفائدة هام جداً في مجال الدعوة الإسلامية في العصر الحديث- عصر العلوم الكونية- بين قوم أصبح فكرهم مرتبطا ارتباطا وثيقا بهذه العلوم الكونية، وانعكس ذلك على إقناعهم والتأثير فيهم.
أمثلة لتفسير الآيات الكونية في القرآن حسب المنهج العلمي:(24/172)
قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يس الآية 36) إن الحقائق العلمية الواردة في الآية القرآنية الكريمة عن الزوجية نموذج للقضايا الكلية التي تنضوي تحتها قضايا جزئية، ولقد ثبت بعضها فعلا وفي استجلاء المزيد عن هذه السنة الكونية الهامة (الزوجية) نجد إشارة إلى وجود هذه الزوجية بصورة أوسع من الذكورة والأنوثة في الإنسان وفي النباتات، التي لم يكن معروفا وقت نزول القرآن إلا (أزواج النخيل) وقد كشف العلم الحديث أن الزوجية يتسع مداها فهي تشمل أيضا الأزواج الموجبة والأزواج السالبة التي تتكون منها دقائق المادة، كما كشف العلم (الكهيرب الإلكتروني الموجب) نقيض (الكهيرب السالب) ، وكشف أيضا عن (البروتون- الأبيب- السالب) نقيض (الأبيب الموجب) - وهكذا تكشفت وتتكشف أنواع متعددة للزوجية لا تقف عند حصر، وذلك مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} .(24/173)
وقوله سبحانه وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يس الآية 38) . لقد توقف الفهم القديم لجريان الشمس من المشرق إلى المغرب، كما توقف فهم الآية القرآنية على ضوء هذه الحركة الظاهرية، والتي ثبت أنها نتيجة لحركة الأرض، وما زالت الآية الكريمة محتفظة بصدقها ودلالتها على أن الشمس تجري لمستقر لها {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . وقد أثبت العلم الحديث حركة حقيقية ذاتية للشمس، مما أبرز وأوضح تلك المعجزة العلمية التي أتى بها القرآن الكريم في قوله (تجري) ولم يكن هذا الكشف يخطر على بال أحد إلى أن تهيأت للإنسان آلات الرصد وأدوات التحليل الضوئي التي سهلت له اكتشاف هذه السنة الكونية، وذلك في القرن التاسع عشر. وبذلك ظهر التطابق بين حقائق الله القرآنية وحقائق الله الكونية وقد قدر علم الفلك سرعة حركة الشمس بركنيها أي من حيث المقدار والاتجاه. فأما المقدار فهو اثنا عشر ميلاً في الثانية تقريبا، وأما الاتجاه فهو نحو النجم المسمى (فيجا) في الإنجليزية (والنسر الواقع) في العربية.
ثالثا: المنهج التطبيقي:
وهو المنهج الذي نسلط الأضواء عليه، وندعو علماء الأمة الإسلامية إلى الإهتمام به، حتى يأتي بالنفع العظيم- إن شاء الله- في مجال الدراسات العلمية.
وبهذا المنهج لا يقف المفسرون عند تفسير الآيات القرآنية الكونية على ضوء المعارف العلمية المتقدمة والحقائق الكونية التي يصل إليها علماء الكونيات، بل إنهم يقدمون لعلماء الكونيات- بفقههم وتفسيرهم لتلك الآيات- دراسات تصلح لأن تكون بداية لتأملات علمية في السنن الكونية، وتصلح لأن تكون منطلقا لأفكار وفروض علمية، تتلوها- عن طريق البحوث القائمة على التجريب- اكتشافات ونظريات، تعمق إيمان المؤمنين، وتهدي الحيارى المتشككين وتنفع البشرية في دنياها وآخرتها.(24/174)
ومما تقدم نرى أن الفرق بين (المنهج العلمي) و (المنهج التطبيقي) هو أنه في المنهج الأول يكون التفسير على ضوء المعارف العلمية المتخصصة، فالعلماء يكتشفون، والمفسرون يفقهون آيات الله الكونية على ضوء هذه الكشوف.
أما في المنهج الثاني، فإن المفسرين بفقههم لآيات القرآن الكونية، يقدمون تفسيرات تتضمن أفكاراً علمية عن الكون، قابلة للبحث والدراسة، والعلماء- انطلاقا من هذه الأفكار - يبحثون في الكون عن حقيقة ما أشار إليه القرآن وأوضحه المفسرون.
وبعبارة أخرى، يكون القرآن في (المنهج العلمي) تابعاً في فهمه وتفسيره لحقائق العلم، أما في (المنهج التطبيقي) ، فيكون العلم تابعاً في اكتشافاته وحقائقه لما جاءت الآيات به القرآنية وأوضحه المفسرون. وشتان ما بين أن يكون القرآن تابعاً في منهجه لمكتشفات وأن يكون متبوعا، تنطلق منه: الأفكار العلمية، فيصبح بذلك مصدراً هاما للبحوث عن الكونيات، ويقود المسلمين إلى هذا المجال الواجب من المعرفة.
قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .سورة الحديد الآية (25)
مؤتمر طبي إسلامي عالمي بالولايات المتحدة
من المقرر أن يجتمع خمسمائة طبيب وكيميائي، وحكيم هندي، كلهم مسلمون، يحضرون من كافة أرجاء الولايات المتحدة، وكندا، والهند، ليجتمعوا بمدينة (أورلاندو- فلوريدا) بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث يناقشون موضوعا مهما بالنسبة لأطباء القرن العشرين، ذلك الموضوع هو: (الطب الإسلامي في القرن الخامس عشر الهجري) .(24/175)
صرح بذلك الدكتور (بشير أَحمد زكريا) مؤسس ورئيس (الجمعية الإسلامية الطبية) في الولايات المتحدة، وقال: "أننا نهدف هنا في الولايات المتحدة: إلى تجميع الأطباء المسلمين ورفع مستواهم العلمي، ودفعهم إلى العمل في خدمة الإسلام والدعوة الإسلامية في أمريكا وكذلك تشجيعهم على إجراء البحوث العلمية والدراسات الميدانية في مجال الطب والبحوث الطبية، وكذلك توفير التجارب العلمية والمعملية لتكون في خدمة الأمة الإسلامية في جميع أنحاء العالم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الإسلام في عصر العلم- تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي- الناشر دار الكتب الحديثة (ص 257/258) ببعض التصرف.
[2] عالم الكيمياء المصري وأستاذ الكيمياء بكلية الصيدلة بالقاهرة، ومؤسس وعميد كلية الصيدلة بجامعة الرياض الأستاذ بكلية أصول الدين بالأَزهر الشريف لمادة التفسير والأستاذ بقسم الدراسات العليا بالكلية وهو من الرعيل الذي دافع عن الإسلام ضد أعداء الإسلام وتصدى بعلمه وقلمه لتيارات الإلحاد ولد عام 1893 م وتوفي عام 1971، رحمه الله وأثابه عن جهاده في سبيل الإسلام.
[3] الإسلام في عصر العلم ص 258، 259.
[4] الإسلام في عصر العلم (دكتور محمد أحمد الغمراوي) ص 309.(24/176)
الكتاب: دور الدول الاشتراكية في تكوين إسرائيل
المؤلف: الدكتور إبراهيم الشرقي
هذا الكتاب خطير ومهم لأنه أحد الكتابات النادرة في موضوعه ولأنه يضم وثائق وحقائق عن الدور الكبير الذي قامت به الدول الاشتراكية في سبيل إقامة دولة إسرائيل وتدعيمها وهو الدور الذي تسكت عنه جميع أجهزة الإعلام في البلاد العربية ويتناساه دعاة الشيوعية عندما يتبجحون بالإمدادات العسكرية السوفيتية لبعض الدول العربية الموالية لها.
يعرض الكتاب دور الاتحاد السوفيتي بخاصة وبعض الدول الاشتراكية بعامة في خمسة مجالات تخدم إسرائيل ويخص كل مجال بفصل مستقل.
ففي مجال تأسيس دولة إسرائيل: يورد المؤلف الوثائق التي تبين اهتمام السوفيت بإقامة إسرائيل والوفود التي أرسلتها منذ عام 1919 إلى يهود فلسطين لإقامة الحزب الشيوعي اليهودي وتشكيل فرقة منهم لحماية اليهود والمبالغ التي خصصتها لشراء أراضٍ لليهود الروس في فلسطين ويظهر حقيقة تذكرها جميع مصادر اليهود في ذلك الوقت وهي أن الأموال الواردة من الاتحاد السوفيتي لشراء الأراضي تشكل 40% من صندوق الأموال اليهودية العامة وهذه أعلى نسبة واردة من دولة واحدة.
وفي المجالس السياسية: يبين الدور السياسي الكبير الذي لعبه السوفيت في فرض التعويضات الألمانية لليهود وفي حملتهم الشديدة التي شنوها- هم وبقية دول الكتلة الشرقية- في الأمم المتحدة لانتزاع الاعتراف بشرعية الكيان اليهودي في فلسطين ودعمهم لمشروع التقسيم وإصرارهم عليه ومواقفهم الكثيرة المؤيدة لتأسيس دولة إسرائيل والمحفوظة في وثائق الأمم المتحدة. ويقدم المؤلف صورا لبعض هذه الوثائق.(24/177)
وفي مجال الهجرة اليهودية يبين إسهام الاتحاد السوفيتي في تدعيم الوجود الصهيوني بشريا حيث بلغ عدد اليهود الوافدين إلى فلسطين من روسيا خلال الأعوام 1921- 1939 نحو 165 ألف يهودي بينهم مجموعة من الضباط وصف الضباط ويضاف إلى هذا العدد الضخم 285 ألفا من أوروبا الشرقية.
وفي مجال التسليح العسكري يبين أن الأسلحة التي حصل عليها اليهود وحاربوا بها عام 47- 48 كانت من دولة أوروبا الشرقية وقد استولى عليها الشيوعيون في أعقاب الحرب الثانية, وبأمر من موسكو سمح للبعثة اليهودية أن تشحن ما يلزمها من معدات حربية على بواخر يوغسلافية ورومانية إلى ميناء حيفا، ولولا هذه الأسلحة وأسلحة ثقيلة أخرى، وطائرات زودتها بها روسيا ودول الكتلة الشرقية، لما استطاعت إسرائيل أن تثبت إقدامها بعد يوليو 1948 م.
وفي المجال الاقتصادي: يتحدث عن علاقات روسيا وبقية دول الكتلة الشرقية بإسرائيل اقتصاديا، ويبين أن أول اتفاق وقعته إسرائيل كان مع روسيا في عهد ستالين، تلته عدة اتفاقات في عهد خروتشوف، إضافة إلى الاتفاقيات الثقافية والسياحية والملاحة التجارية.
ومازالت هذه الاتفاقيات متوالية ويعرض المؤلف مقتطفات منها تبين دعم دول هذه الكتلة الكبيرة لاقتصاد إسرائيل.
وبعد: فالكتاب وثيقة مهمة يتضمن مستندات من محاضر جلسات هيئة الأمم المتحدة وسجلاتها وبعض التقارير السرية الدولية ووثائق الاتفاقيات بين إسرائيل والدول الاشتراكية، وبعض الرسائل السرية بين رؤساء الدول الغربية، والنشرات التي أصدرها اليهود في أوروبا وأمريكا بالإضافة إلى مذكرات أقطاب الصهيونية وكتبهم أمثال وايزمن وزاندا وأراماند شنتر وجون سوريل وغيرهم. والكتاب يضيء جانبا يحرص المضللون والعملاء والشيوعيون على أن يبقى مظلما، ومن الضروري أن ينتشر ويميز الحق من الباطل وهو مناسب فكرةً وأسلوباً لجميع المستويات.
عرض وتحليل: د. عبد الباسط بدر(24/178)
مراكز تقدمية
إن الإسلام يخوض في هذا العصر أعظم معاركه طرا، معركة الدفاع عن البقاء, والدفاع عن المثل، والدفاع عن الأرض، والصمود في وجه التيارات السامة الوافدة من الغرب الصهيوني، ومن الشرق الملحد على السواء.. وفي كنف هذا الواقع الرهيب لا بد من استعمال الوسائل المشروعة كلها لإِفساد خطط الغزاة رجالا أو أفكارا وإقامة مراكز لهذه الغاية في قلب الغرب والشرق من أهم هذه الوسائل. ولا شك أننا قد سجلنا بعض النجاح حتى الآن في مضمار الشكل، فهناك مراكز فخمة في الولايات المتحدة وأوربا إلى حد معقول. ولكن نظرة فاحصة إلى المضمون تكشف لنا حقيقة مؤسفة، وهي أن في هذه المراكز كل شيء من ألوان الدعاية السياسية إلى ألوان الترفيه، إلى حسن استقبال الراغبين في الاطلاع على أشياء من حياة الشرق، ونحو ذلك.. أما عرض الإسلام، والدعوة إليه، وتعهد أبناء الجاليات الإسلامية بما يحفظ لهم دينهم في تلك الأوساط، التي لا تتصل بالمعاني الإسلامية من قريب أو بعيد، فذلك آخر ما يخطر في بال القائمين على معظمها.. وليس هذا بالأمر الغريب، ما دام هؤلاء إنما يمثلون (التيارات التقدمية) في بلادهم، فلا يهمهم من أمر الإسلام إلا ما كان ذا نفع مباشر لهذه الغاية الأولى..
ولقد حدثني بالأمس طبيب عربي كان عائداً لتوه من الغرب.. فقال: "قصدت إلى المركز الإسلامي في ... يحدوني شوق حار لسماع الأذان والانتظام في صفوف الجماعة، وما إن بلغته حتى فوجئت بأبوابه مغلقة وثلاثة من مستخدميه على مقربة منه، فسلمت وسألت: أليس هذا وقت صلاة العصر؟ .. قالوا: بلى. قلت: فعلام لا أسمع أذانا ولا أرى صلاة؟.. فقال كبيرهم: لأننا لا نفتح المسجد إلا أيام الجمعة والعيدين..(24/179)
وراح المستخدم يعلل ذلك بقوله: إن افتتاح المسجد في سائر اليوم يكلف جهودا ومصروفات.. هذا إلى قلة الراغبين في صلوات الجماعةِ قلت: الجماعة تنعقد باثنين فأكثر، وأنتم ثلاثة فلم لا تقيمونها بكم على الأقل؟؟ ثم قلت: ألا تفتحون المسجد لأحد خلال الأسبوع؟. فأجاب: بلى نفتحه للراغبين في مشاهدة داخلهِ قلت: فاسمحوا لي إذن بذلك.
وفتح المسجد ودخلت، ولم أتردد فأقمت الصلاة بنفسي وحيدا، وهم ينظرون ويستغربون لأني خالفت شرطهم".
قال الطبيب: "وأغرب من هذا ما لقيت في …. إذ كنت أقضي فترة تخصصي في بلد بعيد عن المركز الإسلامي فجئته ذات يوم لاستطلاع أحواله وللنظر في ما يمكن أن نفيده منه، فوجدته مفتوحا، وكان المسئول الكبير وهو من حملة الدكتوراه في الدراسات الشرعية غائبا، فانتظرت حتى عاد، وهناك قلت: لابد أنكم تقومون بجهد مشكور في ميدان الدعوة إلى الإسلام وتعريفه والدفاع عنه.. فارتبك الرجل ولم أَظفر منه بجواب شاف، فقلت: نحن في شهر رمضان، وهو موسم العبادة والقرآن، فلو أنكم خصصتم بعض الوقت من كل يوم لتفسير بعض الآيات أو الأحاديث لوجدتم إقبالا من الطلاب المسلمين، ولكان في ذلك خير كثير. فقال: ولكن أوقاتنا فيما قبل الظهر مشغولة كلها بعين حاجات البيت واستقبال الزوار وإعداد الشايِ وما بعد الظهر فهو وقت راحة لا مكان فيه لغيرها!.."
وما أراني بحاجة للتعليق على هذه الطرائف، فهي بنفسها ناطقة بواقع تلك المراكز، التي لا تختلف عن أية دائرة حكومية في الدولة التي تسيطر عليها عن طريق هؤلاء الممثلين الأفاضل!..(24/180)
ولقد حدثني هذا الطبيب النسيب أيضا بأن اتفاقا تم بين الحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية ذات يوم على أن تمنح كل منهما الأخرى أرضا صالحة لإقامة معبد عليها، فأما الأرض المصرية فقد ارتفعت عليها الكنيسة المنشودة في أقصر وقت ممكن.. في حين بقيت الأرض الإنجليزية خاوية على عروشها.. تنتظر حجر الأساس للمسجد المتفق عليه.
وطبيعي أن لمثل هذا التصرف الرسمي إيحاءه العميق في نفوس الممثلين الرسميين، الذين لا يكلفهم أحد أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.
من كتاب (مشكلات الجيل في ضوء الإسلام)(24/181)
في ندوة الإسلام في كوريا:
سمو الأمير نايف ينجح في التوسط لدى الحكومة الكورية
بإنشاء جامعة إسلامية
جدة- في ندوة هامة استمرت زهاء 3 ساعات من مساء أمس الأربعاء تحدث عدد من الأساتذة ورجالات الفكر عن الإسلام في كوريا وقد افتتحت الندوة بآي من الذكر الحكيم ألقى بعدها معالي الدكتور عبد الله محمد نصيف مدير جامعة الملك عيد العزيز بجدة كلمة ضافية هنأ فيها الكوريين بانتشار الإسلام في بلادهم وحمد الله عز وجل على الصحوة الإسلامية التي تعيشها الأمة الإسلامية والشعوب والأقليات المسلمة تحدث بعد ذلك السيد بي جون تشانج سفير كوريا لدى المملكة فذكر أن عدد المسلمين في كوريا يبلغ 20000مسلم وهناك قرية كل سكانها مسلمون ويبلغ تعدادهم 3500 نسمة وقال إن مسجد باتجو الذي افتتح مؤخرا يقوم بدور كبير في توعية المسلمين وتنظيم المحاضرات الدينية التي يلقيها الأساتذة هناك والزائرون من البلاد الإسلامية.(24/182)
ثم بدأت الندوة فتحدث الأستاذ حامد تشوى يونج كيل من قسم الدراسات الإسلامية واللغة العربية بجامعة بيونج جي بسؤال فاستعرض التاريخ الكوري القديم ووصول العرب إلى كوريا والإسلام بعد ذلك, وقال: "إن الإسلام وجد أرضا خصبة خضراء لنمو بذرة الإسلام بسهولة وامتدح دور المملكة العربية السعودية وجهودها لرفع راية الإسلام ودعم القضايا الإسلامية وما بذلته من جهود موفقة ساهمت في تشكيل جمعية تمثل مسلمي كوريا وبناء مركز إسلامي ومسجد جامع سنة 1976 م ومركز إسلامي آخر سنة 1980" وقال: "إنه حدث تطور ملموس في مسيرة الدعوة الإسلامية في كوريا الجنوبية، حيث أنشئت جامعة إسلامية في سيئول لتحمل مسئولية التربية الإسلامية، وتنمية الروح الإسلامية في الشباب الكوري وإبعادهم عن الأجواء المسمومة بالعقائد الباطلة". وقال صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز قد توسط لدى الحكومة الكورية التي استجابت فتبرعت بأرض مساحتها 430000 مترا مربعا لاتحاد المسلمين لينشئوا هذه الجامعة عليها.
وقال السيد حامد: "إن مما ساعد على نشر الإسلام بسهولة في كوريا هو التقاليد الكورية التي تدعو إلى الاحتشام وعدم الاختلاط والالتزام بالآداب والأخلاق وهذه كلها يدعو إليها الإسلام". وذكر أَن مائة وخمسين ألف من الكوريين يعملون في المملكة يقتبسون العادات والتقاليد الإسلامية فينشرونها في بلادهم وقال إن عدد المسلمين في كوريا يتزايد يوما بعد آخر.
وتحدث البروفسور لي يونج بوم الحاصل على دكتوراه في الآداب وأستاذ التاريخ الشرقي بجامعة دونج كوك عن نفوذ العرب والفرس وأثر الثقافة الإسلامية على تاريخ كوريا وشعبها وضرب الأمثال واستشهد بالصور التاريخية القديمة التي كان لها ارتباط بتاريخ كوريا.(24/183)
ودارت مناقشات بعد ذلك حول كيفية انتشار الإسلام في كوريا وتسهيلات الحكومة الكورية للمسلمين ودعمها المادي الذي يشكل أهم المكاسب التي تفتقر إليها الأقليات الإسلامية في بلدان كثيرة هذا وقد عقدت الندوة في إطار الموسم الثقافي الذي تنظمه اللجنة الثقافية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة وحضرها عدد كبير من رجال الفكر والآداب والصحافة وأساتذة وطلبة الجامعة كما حضرها ممثلو الشركات الكورية العاملة في المملكة وأبناء الجالية الكورية بجدة.
المدينة(24/184)
الأمي الذي أصبح دكتوراً
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
أعجبت كثيرا بكفاح هذا الرجل الذي يسر له الله أن يرتفع إلى مصاف الذين يعتد بهم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، وأهيب بالكسالى المتقاعسين أن ينهجوا نهجه وقد لخص هذا الرجل كفاحه فيما يلي:
"الجهل ما ألده من عدو.. إنه العدو اللدود الذي يفتك بالشعوب ويشتت خيراتها.. إنه آفة الشعوب ومخدر طاقاتها.. إنه الوحش الكاسر.. ولو كانت قوة الجسم وبروز العضلات تقضي عليه لكنت منذ سنين عديدة قد قضيت عليه.. ولكنني ما زلت ألبس رداءه الحالك السواد.. يطاردني في كل ثانية من ثواني حياتي في البيت.. في الشارع.. مع الأصدقاء في كل ناحية حتى عند وقت الهجيع إلى النوم.. لقد أذاقني العلقم وجعل حياتي ظلاما دامسا لا أتبين طريقي من خلاله.. انتقلت من مكان لآخر أتلمس طلب العمل لأعيش ويعيش من يضمني معهم بيت واحد ويظلنا سقف واحد ولكن محاولاتي باءت بالفشل في أيامها الأولى وذلك لجهلي التام الذي يطلقون عليه- تأدبا- (الأمية) وأخيرا بعد طول عناء ومشقة قبلت في إحدى الشركات كفراش براتب زهيد.. اعتقدت أن مشكلتي قد انتهت وأن الشبح الذي كان يلازمني قد انتصرت عليه.. لكنه ما زال يخيم على حياتي ويكدر صفوها.. فقد عانيت منه الكثير حتى وأنا أتفيأ ظلال عملي الجديد فكم من المرات جرحت كرامتي بكلمات لاذعات بسبب هذا الجهل..(24/185)
ولكن هل استسلمت ورضيت من الغنيمة بالإياب؟!! لا.. لقد بيت أمرا وعزمت على تنفيذه ولم تزدني تلك المعاملة وذلك الوضع (المزري) إلا إصرارا على تنفيذ ذلك الأمر إنه التعليم.. فقد التحقت بالمدارس الليلية لمواصلة تعليمي والالتحاق بركب العلمِ وهكذا كنت (كادا) كادحا بالنهار ساهرا مجدا بالليل.. وهذه هي خطوات حياتي الأولى.. وبدأت أشق طريقي عبر هذا الطريق الشاق الشائك.. أذكره لك كي تعلم كم عانيت في السنين الماضية من جراء أميتي وكم تحملت من لذع الكلام وسيء التصرف بسبب هذا الكابوس. إن الجهل - يا صديقي- ثوب أشد سوادا من الليل.. إنه الموت البطيء والحياة المسلوبة.. ولكن لكل عقدة حلا ولا بد لليل من نهار يجلي سواده..
أنت تراني الآن على خير حال فقد بلغت في المنصب علوا وفي الجاه منزلا كل ذلك بفضل الله تعالى ثم بقوة عزيمتي وصدق نيتي.
هذه بدايتي مع معترك الحياة.. فلم أرس على الشاطئ إلا بعد أن تقاذفتني الأمواج حتى كدت أن أغرق.. ولم تأت هذه الشهادة التي أنا أحملها (الدكتوراه) من فراغ.. وليست هذه البحوث والمؤلفات المنشورة باسمي إلا عصارة تلك الأيام..
إنه لشيء عجيب غريب أثار اندهاشي وحرك مكامن الفضول في نفسي لتسأل الكثير.. ولكن أكتفي بما سمعته ففيه الكفاية ولا يسعني وأنا أسمع ملحمتك هذه مع الحياة ونصرك المؤثر على نكبات الدهر إلا أن أهنئك وأشد على يدك وأدعو لك بالخير والسداد فنعم الرجل أنت..
نهض مسرعا وقال: أرجو أن تأذن لي بالانصراف..
مع السلامة..(24/186)
لقد تصدع رأسه بما سمع ونهض مسرعا موليا رغم كلمات الإعجاب التي قالها.. إنه لا يكاد يتصور هذا المشوار المفروش بالشوك فتجربته مع الحياة كانت وما زالت غير ذلك.. والاتكالية التي عاشها وجعلته لا يعرف من الحياة إلا هذه البحبوحة التي يعيش فيها أنكرت عليه صدق قولي عن الحياة ومشواري. ولكن الفرق كبير والبين وأضح بين من يبني مجده وحياته بيده وبين من يتكل على يد غيره لتبني له ربما الحنان أو العطف أرغماها على ذلك.. ولكن النتيجة ستكون كمثل هذا.. جهل.. ولكنه يرتدي ثوبا براقا يخفى خلفه معالم الجهل الحقيقي وهذا الجهل أشد وبالا وأعظم وطأة من ذلك الجهل.. لأن الواضح المرئي.. لا كالمتخفي خلف كواليس تبرق في عين الرائي فتقلب له الحقيقة خيالا.
(المدينة)(24/187)
تعليقات وتحليلات
للشيخ محمود محمد سالم
1- الناس يدخلون في دين الله أفواجاً
(الإيمان نور يقذفه الله في قلب من أحب من عباده) وإذا امتلأت به النفس صار فيها قوة بناءة تتضاءل أمامها كل قوى البشر وما تملكه من الترغيب والترهيب، لأنها يوم تمتلئ بالإيمان الحق يستوي عندها الذهب والحصى في هذه الدنيا إذ تنشد بأعمالها وأقوالها ما عند الله من نعيم خالد لا يزول.
نقول هذا بمناسبة ما تواترت به الأنباء في الآونة الأخيرة عن اعتناق 400 أربعمائة هندوسي من المنبوذين للإسلام في مقاطعة ثاميل نادو فى جنوب الهند.
وقد كان لهذا الحادث أثره في إثارة سخط الحكام الهنود, فقد هرع وزير الداخلية الهندي إلى زيارة هذه المقاطعة للتحقيق في أَسباب هذا الإسلام الجماعي بين الهندوس, وقد حَرَّضتْ الحكومة ثلاثة آلاف من الطبقة العليا الهندوسية ليهجموا على قرى المنبوذين، وأحرقوا مائة وخمسة وثمانين بيتا. وسلبوا أَموالهم ودسوا لهم السم في مياه أبار القرية. وتظاهر هؤلاء العلية في تلك القرية ينددون بالجريمة الشنعاء التي ارتكبها هؤلاء الذين أسلموا. ويعلن رئيس المقاطعة عن قوله: "لن أتردد في التحرك لمنع أهل هذه البلاد من التحول من ديانة الهندوس إلى الإسلام".
وخرجت صحيفة (تايمز أف إنديا) تتهم الدول الإسلامية المجاورة بالتآمر ضدها, فهي تتهم دولة باكستان صراحة بأنها من وراء هذا الحادث وأنها تعمل ضد أمن الهند وتمارس دعايتها الشريرة. كما تتهم بلدانا إسلامية أخرى فتمنع دعاتها المسلمين من دخول الهند.
ومع أن الدستور الهندي يكفل لكل الهنود حرية كل فرد في اعتناق الدين الذي يرتضيه إلا أن ردود فعل الأوساط الرسمية من إسلام هؤلاء المنبوذين اتسمت بالغضب.(24/188)
لماذا يسلم هؤلاء المنبوذين ولم يقدم لهم أحد إغراء بالمال أو الجاه أو السلطان؟!. كما أنهم يرون المسلمين في الهند يلاقون أشد أنواع التعذيب والنكال على أيدي حكومات الهند المتعاقبة, لا شيء من متاع هذه الدنيا يجنيه هؤلاء فلماذا يسلمون؟ لقد قال أحد الهندوس الذين أسلموا: "إنني أكره الهندوسية لأنني في ظلها لا يسمح لي بدخول المعابد أما في الإسلام فهناك إله واحد هو الله. والأغنياء والفقراء يعاملون المعاملة نفسها في المسجد, والهندوس لا يسمحون لنا بمشاركتهم في المائدة أما المسلمون فإنني لا أشاركهم في المائدة نفسها فحسب بل أدخل بحرية إلى منازلهم".
ويقول أحد الذين أسلموا: "إنهم كانوا يشعرون بضيق الأرض والنفس قبل إسلامهم, وبرحابة الصدر والنفس بعد إسلامهم"وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .
هذا وقد أعلنت السلطات الهندية مجموعة من الإجراءات التعسفية ضد سكان هذه المقاطعة, إذ ألغت كافة التسهيلات التي كان يحصل عليها هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام ومنها حرمانهم من الوظائف وتسهيلات الأراضي وبناء المساكن ودخول أبنائهم المدارس والجامعات. وكان رد فعل هؤلاء أن قابلوا تلك الإجراءات بالتحدي لذلك الإعلان الحكومي. ولسان حالهم يقول ما قاله السحرة لفرعون بعد إسلامهم وتهديد فرعون لهم: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
وقد حملت الأنباء أن أحد زعماء إفريقيا في داهومي (بنين) وهو (مانيو كير كير) قد اعتنق الإسلام، وتسمى باسم أحمد, وينتظر أن يسلم على يديه الكثير من أتباعه.(24/189)
كما أعلن اثنا عشر قسيسا في السودان إسلامهم أمام ملأ من الجماهير المحتشدة في قاعة المحاضرات بجامعة الخرطوم، عقب حوار ديني بين هؤلاء القساوسة وعدد من علماء المسلمين ومفكريهم في السودان.
وفي إحصائية نشرت في الولايات المتحدة، أن عدد الذين يعلنون إسلامهم في أمريكا الشمالية لا يقل عن مائة فرد يوميا. وتؤكد مصادر رابطة العالم الإسلامي واتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية أن الأمريكي لا يدخل الإسلام إلا عن اقتناع تام وعن عقيدة صحيحة
وفي إحصائية فرنسية ذكر أن عدد المسلمين في فرنسا بلغ أربعة ملايين مسلم فرنسي، من بينهم خمسة وعشرون ألف مسلم فرنسي جديد.
ومن الصين حملت الأنباء أَن عددا كبيرا من أَعضاء الحزب الشيوعي الصيني في إحدى المقاطعات النائية وبعض الزعماء المحليين قد أَعلنوا إسلامهم وأَصبحوا دعاة للإسلام، يعلمون الناس مبادئ الإسلام. وقد جاء ذلك في تقرير رسمي من شنغهاي في شمال غرب الصين نشرته إحدى الصحف الرسمية واتهمت هؤلاء الذين أَسلموا بالانحراف عن المبادئ الماركسية اللينينية باعتناقهم مبادئ دينية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن معظم سكان شنغهاي هم من الأقليات الإسلامية التي سحقتها الثورة الشيوعية في الصين. وتؤكد الأنباء مؤخرا أَن هذه الأقليات تسعى لاستعادة هويتها الإسلامية.
2-سياسة التهويد والاستيطان الصهيوني في الأرض العربية.
إن مأساة المسلمين في قلب ديار العروبة والإسلام تتجدد مع الأيام. وفي كل يوم تحمل الأنباء مزيدا من المأساة التي لم تتم فصولها بعد (لأن دولة الكيان الصهيوني المزروعة في قلب بلاد الإسلام تفعل ما تريد لأنها تعرف ما تريد، ويؤيدها في عدوانها على أَرض الإسلام وتكريس اغتصابها كل القوى العالمية التي تلتقي مع الصهيونية في عدائها للإسلام والمسلمين) .(24/190)
إن الأنباء تتواتر بأن العدو الصهيوني يمضي في تنفيذ مخططاته التي ترمي إلى تكريس احتلاله لما استولى عليه من الأراضي العربية قبل وبعد عدوان سنة 1967 م. ويسعى جاهدا في بناء المستوطنات وتوطين اليهود المهجرين من أَنحاء العالم في كل من هضبة الجولان السورية والضفة الغربية وغزة بعد أن اطمأن قادة الصهيونية على انسحاب مصر من قضية النزاع العربي الإسرائيلي، وخلا لهم الجو بتمزيق وحدة الصف العربي، وتصدع بنيانه المتين.
لقد أعلن الصهاينة بأن ضم الجولان واجب على الدولة اليهودية وعلى مستوطنيها، وأَن الجولان جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل وأن عدم الموافقة على ذلك يجعل الاستمرار هناك في شك، وفي إطار هذا القرار أقام العدو الصهيوني في هضبة الجولان السورية منذ 67 حتى نهاية 1978 م (35) مستعمرة صهيونية، ومن مشاريعهم الاستيطانية في الجولان العمل على إقامة 14 أربع عشرة مستعمرة جديدة، ولتكريس هذا الاستيطان قامت السلطات الصهيونية بشق شبكة واسعة من الطرق، أهمها شبكة طرق في شمال هضبة الجولان لإحاطة جبل الشيخ وإغلاقه إغلاقا محكما وهناك شبكة أخرى على امتداد نهر اليرموك, حتى تحكم قبضتها على مصادر المياه في جنوب الهضبة كما شرع في إقامة مستوطنة جديدة في منطقة واسط في المرتفعات السورية.
وهم يهدفون بضم الجولان وبناء المستعمرات فيها إلى منع المواقع الإسرائيلية من الوقع تحت رحمة المدفعية السورية، تحسبا للمستقبل وقد زودوا سكان المستوطنات بالأسلحة للدفاع عن أنفسهم، هذا بالإضافة إلى أهداف أخرى اقتصادية وعمرانية.(24/191)
والجديد في هذا الخبر أن الصهاينة قد أغروا كثيرا من سكان هضبة الجولان- وكثير منهم من الدروز- بحمل الهوية الإسرائيلية. ومنتهم الأمانيّ، وفي الآونة الأخيرة حملت الأنباء أن كثيرا ممن يحملون الهوية الإسرائيلية من الدروز قد هرعوا بالمئات إلى مكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي في الجولان ليعيدوا الهوية الإسرائيلية قائلين: إن إسرائيل لم تعطهم أية حقوق تزيد عن تلك التي تعطى للدروز الذين لا يحملون الهوية الإسرائيلية. أتراهم لو منحوا ما وعدتهم به إسرائيل كانوا يرضون عن تلك الهوية النجسة التي لا يحملها إلا من ليست له هوية من أرض ولا دين ولا خلق..؟
أما في الضفة الغربية وقطاع غزة فقد زاد عدد المستوطنات في الضفة، حتى بلغ أكثر من سبعين مستوطنة، وزاد استيلاء العدو على أراضى المواطنين لبناء المصانع والمنشآت الإسرائيلية تبلغ مساحتها مئات الآلاف من المتر المربع، ومع تزايد التجبر الصهيوني في معاملة سكان الضفة والقطاع تزداد المقاومة الوطنية لهذه الإجراءات التعسفية التي تحاول طمس معالم الأرض العربية، وقد أصدرت قوات الاحتلال العسكري قرارات بالإقامة الجبرية على عدد كبير من السكان سواء في ذلك رؤساء البلديات أو الشخصيات الأخرى منعا لهم من مزاولة أي نشاط سياسي أَو الاتصال بالبلاد العربية شعوبا أو حكومات.(24/192)
وتزداد المقاومة الفلسطينية من داخل الأرض المحتلة قبل عام 1967 م وبعد 1967 م. فتشهد الضفة الغربية والقطاع مظاهرات غاضبة في كل مدن الضفة والقطاع تردد الشعارات التي تتحدى ذلك الاستيطان الصهيوني، وترفض مشروع الحكم الذاتي الذي ترفضه كل فصائل المقاومة الفلسطينية، وقد رفض السكان (مشروع شارون) الذي عين (مناحم ميسلون) حاكما مدنيا بدلا من الحكم العسكري. وتسعى قيادة العدو إلى البحث عن خونة من سكان الضفة أو القطاع يقبلون التعاون معهم فى مهزلة المفاوضات التي تحاول فرضها على الشعب الفلسطيني لتنتهي بقرار الاستسلام الذي تسميه (السلام الشامل الدائم) ولكن لم يفلح العدو حتى الآن في شق الصف الفلسطيني الذي يعترف العالم كله بحقه. وإن لم يتحول هذا الاعتراف بعدُ إلى عمل إيجابي جاد يعيد الحق إلى أصحابه.
فهل تتحول الحرب بالكلمات على أعواد المنابر، وينتهي الضجيج والصراخ والهتاف بالحناجر إلى عمل علمي مدروس يتم في صمت المفكرين العقلاء؟ وهل ينتهي المتاجرون بالقضية الفلسطينية عن غيهم، ويتركوا الساحة لأهلها بعد أن اتضح للعالم أن غيبة أَصحاب القضية عن حلها وغيبوبة دول المواجهة التي لا تواجه إلا مشاكلها الداخلية هي السبب في عربدة الصهيونية من غير حساب، إن مصاير الأمم لا تقرره الأيدي المرتعشة، بل تقرره القيادات الأمينة التي ترى حكم الشعوب أمانة توجب عليهم الصدق في القول والجد في العمل.
3- عدوان الكيان الصهيوني على المساجد في الأرض المحتلة.
حملت الأنباء أن دولة الكيان الصهيوني قررت هدم مسجد في مدينة (يافا) العربية في الأرض المحتلة قبل سنة 1967 م وهو مسجد حسن بك وقررت تحويل هذا المسجد إلى مركز سياحي ترفيهي، وقد توجه آلاف المواطنين الفلسطينيين من كافة الأرض المحتلة لأداء صلاة الجمعة في مسجد حسن بك احتجاجا على قرار سلطات الاحتلال.(24/193)
والطريف في الأمر أَن سلطات الاحتلال قد حركت عملاءها من أمناء الوقف الإسلامي ليقترحوا تغيير اسم المسجد من مسجد حسن بك إلى مسجد السادات..!!
وما تزال تتوالى صيحات الاستنكار لهذا القرار فهل يسمع المعتدون أصوات الضعفاء الذين لا يستندون في حقهم إلى القوة؟
4-شعب فطاني المسلم وحملات الإبادة الجماعية.
ما تزال الأنباء تتوالى عن حملات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المسلمون في إقليم فطاني من تايلاند الجنوبية على أيدي حكام تايلاند الوثنيين. وأن هذه الحملات تزداد عنفا وقسوة يوما بعد يوم. وتزداد معها أعداد اللاجئين من الأطفال والنساء والشيوخ. فرارا بدينهم من وجه قوى البغي والعدوان وقد وصل أكثرهم إلى حدود ماليزيا سيرا على الأقدام بعد أن جردتهم الحكومة من أموالهم وأمتعتهم أو أعجلهم العذاب عن حمل ما يحتاجون إليه، وقد أرسل السيد بدر حمدان رئيس جبهة التحرير الوطنية الفطانية برسالة إلى رابطة العالم الإسلامي، وبقصاصات من جريدة (أوتوش ملايو) كبرى الصحف الماليزية التي تناولت فيها أخبارا عن أَساليب الإبادة والتهجير التي يتعرض لها شعب فطاني المسلم. وقال في رسالته: "إن المسلمين الفطانيين اللاجئين إلى ماليزيا يواجهون ظروفا معيشية صعبة في المخيمات التي أقامتها لهم حكومة ماليزيا، وأن هذا المخطط الإجرامي الوحشي إلى محو الشعب الفطاني المسلم من خريطة الوجود".
5- جبهة مورو الإسلامية في جنوب الفلبين وقوات ماركوس الصليبية.(24/194)
تجددت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات حكومة الفلبين الصليبية برئاسة العميل الأمريكي الخائن ماركوس ضد مجاهدي جبهة مورو الإسلامية وضد جميع المسلمين الصامدين في جنوب الفلبين. وتشير الأخبار الصحفية الواردة عن تجدد هذه الحرب إلى أنها جاءت بعد الانتصارات الساحقة التي حققها المجاهدون المسلمون على قوات الحكومة الصليبية إذ كبدها المجاهدون 119 جنديا في معركة واحدة وأن هذه الحرب تجددت بعد الزيارة غير المقدسة التي قام بها بابا روما للفلبين. وتفيد الأنباء الواردة عن جهات مسئولة في جبهة مورو أن المعارك مستمرة بين المجاهدين المسلمين والقوات المسلحة الفلبينية.
إن ملحمة البطولة والفداء من أجل الإسلام تلك التي يخوضها الشعب المسلم في جنوب الفلبين لهي من أروع الملاحم من أجل الإسلام. وإنها لتستحق الإعجاب والتقدير. كما توجب على العالم الإسلامي حكومات وشعوبا أن يقف إلى جانب هؤلاء المجاهدين الفلبينيين.
لقد كافح مسلمو الفلبين قوات الغزو الإسباني ثلاثة قرون من 1565 م إلى 1898 م.
كما قاوموا الاحتلال الأمريكي من 1898 م إلى 1946 م ولم تشأ أمريكا دولة الحرية أن تمنح الفلبين استقلالها إلا بعد بيع جنوب الفلبين للحكام المسيحيين الذين كانوا يحكمونها منذ الغزو الإسباني ولم تفلح صيحات الاحتجاج التي وجهها المسلمون في جنوب الفلبين إلى أمريكا بل ذهبت أدراج الرياح.(24/195)
إن أغنى مناطق الفلبين هي الجنوب الذي يتمركز فيه المسلمون منذ القديم بما فيه من الثروات المعدنية والطبيعية والأراضي الزراعية الخصبة. وقد اكتشفت فيها النفط أخيرا ولكن سكان هذه المنطقة الإسلامية أفقر مواطني الفلبين لسيطرة الإقطاعيين على تلك الثروة منذ تولى ماركوس السلطة 1966 فأصبح هو وزوجته وعائلتهما وأصدقاؤهم هم الذين يسيطرون على هذه الثروة ويحرمون منها أهل هذه البلاد. وقد كون ماركوس عصابة من الإرهابيين المسيحيين للحكم الجنوب. وتؤكد الأنباء أن المنظمة المسيحية (إيلاجا) التي ينتمي إليها الحكام المسيحيون للجنوب على صلة لإسرائيل وبالحركة الصهيونية العالمية وأنها تتلقى منها الدعم المادي من المال والسلاح وتتخذ إزاء المسلمين سكان الجنوب نفس الخطة التي اتخذتها العصابات الصهيونية في تأسيس دولة إسرائيل بطرد السكان الأصليين. وقد بدأت هذه المنظمة نشاطها الإجرامي ضد المسلمين من عام 1970 بتقتيل المسلمين وإحراق بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم. وقد تحولت الحركة الإسلامية المسالمة في الفلبين إلى حركة مجاهدة لتصد عن نفسها العدوان.
وقد نبهت حركة مورو إلى أن هناك شرذمة من الشيوعيين يلبسون لباس الإسلام وينتسبون إلى حركة الجهاد ويتحركون في أقطار العالم الإسلامي يطلبون منها المعونات المالية، ويشككون في القادة الحقيقيين لجبهة مورو, لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام الإسلامي والعالمي. وهذه الشرذمة تمارس نشاطها خارج الفلبين في البلدان الإسلامية إما لجهل هذه البلاد بأهداف هذه الشرذمة ومكرها وإما لأن بعض البلدان الإسلامية ذات تأثر بالتيار الشيوعي وتعمل لحسابه وتساعد هؤلاء المخادعين لحساب موسكو التي يهمها في المقام الأول ضرب كل الحركات الإسلامية في أي مكان وبكل الأساليب الإرهابية التي يجيدها الشيوعيون وأعوانهم وحلفاؤهم في شتى أنحاء العالم.(24/196)
هذا وتلقى جبهة مورو الإسلامية دعما من رابطة العالم الإسلامي وقد أوصت اللجنة الرباعية الخاصة بقضية مسلمي الفلبين بتأييد جبهة مورو وبمناشدة الدول الإسلامية أن تدين الأعمال الإرهابية التي تقوم بها حكومة ماركوس ضد الجبهة كما أوصت بتقديم كل ألوان الدعم لمسلمي الفلبين معنويا وماديا وبالتنديد بموقف حكومة الفلبين الذي يرفض تطبيق اتفاقية مانيلا.
هذا. ويرى بعض المفكرين أن أمثال ماركوس وبيجن وأشباههما من أعداء الحياة لا يصلح معهما أسلوب الديبلوماسية الرقيق، ولا أسلوب الشجب والتنديد, بل يجب أن يعاملا على المستوى الدولي من الحكام والشعوب معاملة مجرمي الحرب, أو قطاعي الطرق أو لا معاملة الحكام المسئولين. وفي جعبة الدول الإسلامية- لو أرادت- كثير من الإجراءات التي تردع أمثاله, وتجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على ضرب المسلمين الآمنين..؟ فهل تريد هذه الدول الإسلامية؟ وهل تفعل ما تريد..؟.
6- بطولات رائعة للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي.
توالى قوات الاحتلال السوفيتي لأفغانستان ارتكاب أبشع الجرائم وأفظع صور العدوان على شعب أفغانستان المسلم. تسانده حكومة (كابل) العميلة. وجماعات من الخونة المأجورين الذين يميعون دينهم وحرية أوطانهم بدنيا غيرهم:
وقد استخدم السوفيت في هجمتهم للاستيلاء على وادي بنجشير كل أنواع الأسلحة الحديثة من الدبابات والمدرعات والمدافع الثقيلة، وكل ما أنتجته ترسانة السلاح السوفيتي الرهيب من طائرات الهيلكوبتر وقاذفات القنابل، وشنوا هجوما وحشيا استمر سبعة عشر يوما قصفوا فيها المنازل جوا وأرضا وأطلقوا ملايين الرصاصات وآلاف القنابل على القرى ومواقع المجاهدين في غارات جوية وحشية لم يسبق لها مثيل. ولكن صمود المجاهدين المسلمين الأفغان كبد قوات الغزو خسائر فادحة في الأرواح والمهمات.(24/197)
لقد أعاد غزو السوفيت إلى الأذهان ما فعله ستالين وخلفاؤه من الشيوعيين الحمر حكام الكرملين بالمسلمين في الجمهوريات الإسلامية التي ضموها بعد إبادة الملايين من أبنائها ليكونوا منها ما يعرف الآن الاتحاد السوفيتي، إنهم قد ارتكبوا في أفغانستان من جرائم القتل والتنكيل والإبادة الجماعية وقتل الأعراض ودفن البشر أحياء ما يكفي لأن يلطخ جبينهم إلى الأبد بعار لا يزول.
إن من المشاهد المروعة في حرب السوفيت لأفغانستان المسلمة أن الأطفال الأيتام أبناء المجاهدين الشهداء خرجوا يطوفون بشوارع كابل وهم يصرخون: "اقتلونا اقتلونا كما قتلتم آباءنا ولكن لن نستسلم". الله أكبر والعزة للمجاهدين المسلمين، وما إن وصلت صرخات هؤلاء الأطفال الأبرياء إلى أسماع القيادة السوفيتية حتى دارت معركة رهيية، بين هذه الوجوه الملائكية وبين قوات الغزو السوفيتي استخدمت فيها أحدث الدبابات والطائرات التي ضربت هؤلاء الثوار الصغار بكل (العنف الثوري) الذي تشتهر به القيادات الشيوعية. وقتل مئات الأطفال الأبرياء ليرووا بدمائهم شجرة الحرية، وليكتبوا صفحات من نور في سجل الجهاد الإسلامي من أجل هذا الدين.
ومع استمرار الهجمات الوحشية على القرى الآمنة تدفق مليون مهاجر إلى مغاور الجبال والكهوف والبلاد المجاورة, ولم تشأ قيادات المجاهدين أن تترك هؤلاء إلى مشاكل الانحراف والبطالة بل أخذت على عاتقها تدريب هؤلاء على السلاح وتعليمهم وإعدادهم للجهاد ضد أعداء الإسلام.
7-امتداد يقظة المسلمين في الجمهوريات الإسلامية وراء الستار الحديدي.(24/198)
تواترت الأنباء في الآونة الأخيرة مؤكدة أن هناك يقظة إسلامية تسري في خفاء، وتمتد في إصرار وثبات بين المسلمين في الجمهوريات الإسلامية وراء الستار الحديدي في الاتحاد السوفيتي. وتشير هذه االأنباء إلى تمسك هؤلاء المسلمين بعقيدتهم الصحيحة، وأنهم يمارسون شعائر الإسلام سرا فيقيمون الصلاة، ويقرأون القرآن ويتبادلون الكتب الإسلامية الصادرة في المشرق الإسلامي، وقيل إن من بين هذه الكتب التي تروج بين المسلمين في الاتحاد السوفيتي كتاب معالم في الطريق, وفي ظلال القرآن لسيد قطب.
وهم يفعلون ذلك بالرغم من كافة صور الاضطهاد التي يتعرضون لها من قبل النظام الشيوعي الذي جعل الإلحاد مادة أساسية من مواد التعليم في مدارسها الاتحاد السوفيتي وأخذ على عاتقه بكل أنظمته ومستوياته مهاجمة الدين عامة والإسلام خاصة.
لقد بقي المسلمون في الاتحاد السوفيتي كغيرهم من سكان الاتحاد السوفيتي معزولين تماما عن العالم, ولكنه في السنين االأخيرة وخاصة بعد 1955- و 1967 تسربت الأنباء عن أحوال المسلمين هناك. وهي أوضاع تقلق قادة الكرملين, وأهمها تزايد المواليد بين المسلمين بنسبة أكثر من بقية سكان الاتحاد السوفيتي، كما أن برامج إذابة المسلمين في المجتمع الشيوعي لم تتم بالصورة التي يريدها الملحدون، إذ ما يزال المسلمون يحتفظون بكثير من مظاهر الشريعة الإسلامية في شئون الزواج والأعياد ومراسم دفن الموتى وتسمية المواليد.
ومع التعتيم الإعلامي المفروض على جميع الأحداث والأخبار عن أحوال المسلمين في الجمهوريات الإسلامية الست إلا أن الهجوم الذي يشنه المسئولون السوفيت على جميع الحركات الإسلامية التي تحاول العودة إلى القرآن والاسترشاد به، يكشف عن قلق القيادة السوفيتية كما يدل على تزايد هذه الحركات الإسلامية التي تسري سريان النار تحت الهشيم.(24/199)
وإن كثيرا من المحللين السياسيين قد رأى في غزو السوفيت لأفغانستان خطة سوفيتية لتطويق المد الإسلامي في الجمهوريات الإسلامية، ومن أخبار حرب السوفيت لأفغانستان أن كثيرا من الجنود والضباط الذين ينتمون إلى أصل إسلامي وشاركوا في حرب السوفيت لأفغانستان قد هربوا من الجيش الأحمر وانضموا إلى المجاهدين الأفغان, مما اضطر السوفيت إلى استبدال آخرين بهم، وأن هؤلاء كانوا يبحثون عن القران الكريم ويتبادلونه سرا.
إن الإسلام الذي يخشاه السوفيت ليس هو الإسلام الذي يمثله العلماء الرسميون الذين يتلقون تعليماتهم من الملحدين, وإنما هو الإسلام الذي تمثله الحركات الإسلامية التي تعمل في صمت وخفاء. وقد نقلت الأخبار أنها حركات متأصلة الجذور وأنها استطاعت الصمود والتمسك بالإسلام بالرغم من كل حملات الإبادة التي شنها النظام الشيوعي للقضاء عليها قضاء مبرما.
وقد ذكر أحد علماء الاجتماع السوفيت في دراسة علمية له عن أحوال الديانات في الجمهوريات الإسلامية: "أن ما يزيد عن نصف المؤمنين في شمال القوقاز ينتمون إلى الإخوان الصوفيين", وهو المصطلح الذي يطلق على المسلمين غير الرسميين في الاتحاد السوفيتي، وذكر أنهم يقومون بدعاية دينية مضادة ونشطة ضد التعاليم الشيوعية. وأن العلماء غير الرسميين بين هذه الجماعات يقومون بتأدية جميع الفروض الدينية, ويديرون مدارسهم الدينية ومساجدهم تحت الأرض. ويناهضون كل الاتجاهات العلمانية والمذاهب المادية التي تحرص قيادة الكرملين على نشرها بكل الوسائل.
إن وجود هذه الحركات دفع رئيس رجال المباحث في أذربيجان إلى الهجوم الشديد على ما أسماه بالحركة الدينية السرية الإجرامية ووصفها بأنها تخريبية, ووصف رجال الحركة الإسلامية من العلماء غير الرسميين بالرجعية والفساد والتآمر ضد السلام وحركة التقدم التي يزعم السوفيت أنهم دعاتها وحماتها في العالم الحديث.(24/200)
فهل آن الأوان لأن يكفر العالم الإسلامي عن آثامه التي ارتكبها بإهماله وصمته عن جرائم الشيوعية ضد المسلمين هناك وفي كل مكان؟ أما آن الأوان لأن يفيق المتمركسون من حكام المسلمين, وهم يرون بأم أعينهم ما يمارسه السوفيت من أبشع الجرائم والعدوان على المسلمين؟.
هل يفيق النائمون؟ هل يهتدي الضالون؟ اللهم إنه قدرك وحكمتك أن تبتلي عبادك المسلمين المؤمنين تمحيصا لهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
مائتا ألف مسلم من (بورما) هجروا ديارهم..
بسبب العدوان الشيوعي من الحكومة البورمية على المسلمين من أبناء بورما هاجر مائتا ألف من المسلمين هناك وطنهم، وأقاموا على الحدود في مستوطنات ميدانية أقامها لهم رابطة العالم الإسلامي، كما تبرعت لهم حكومة المملكة العربية السعودية بالمواد الغذائية والكسائية، وقد اجتمع أخيرا في مكة المكرمة سعادة الشيخ محمد صفوت السقا (الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي) برئيس جمعية العلماء ببورما والوفد المرافق له، وتم بحث أوضاع المسلمين في بورما، واحتياجاتهم من الكتب والمدرسين وغير ذلك، بعد أن عادوا إلى وطنهم في بورما نتيجة للجهود المكثفة من (رابطة العالم الإسلامي) ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وحكومة بنجلاديش.(24/201)
أخبار الجامعة
الجامعة والدعوة الإسلامية
أولا: زيارة نائب رئيس الجامعة لزنجبار
في إطار الجولة التي قام بها فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وزار فيها كثيراً من بلدان العالم, واطلع على أحوال كثير من الأقليات المسلمة في كل من أوربا وآسيا, وزار فضيلته جزيرة زنجبار بدعوة من نائب رئيس جمهورية تنزانيا الحاج عبود جمبي وبموافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد الرئيس الأعلى للجامعة، وذلك على رأس وفد من الجامعة الإسلامية، واستقبلهم كبار المسئولين وفي مقدمتهم معالي وزير التعليم في جمهورية تنزانيا، ورئيس القضاء الشرعي، والأمين العام للمجلس الأعلى لمسلمي زنجبار، وعدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالمعهد الإسلامي، وقد عبر كبار من الأعيان والمسئولين في تنزانيا وزنجبار عن فرحتهم بهذه الزيارة التي رأوها مظهرا حقيقيا للتعاون والإخاء الإسلامي العميق الذي يحمله المسلمون في زنجبار لإخوانهم في الإسلام عامة, وللمسلمين في مواطن الوحي في مكة المشرفة والمدينة المنورة، كما أعرب كثير من كبار المسئولين في تنزانيا وزنجبار عن تقديرهم لقادة المملكة العربية السعودية وعلى رأسهم جلالة الملك خالد بن عبد العزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ولشعب المملكة العربية السعودية، وذلك للدور الرائد الذي تقوم به المملكة في مجال خدمة الإسلام ونفع المسلمين ونشر العقيدة الصحيحة والدعوة إلى الله، وكذا في مجال المساعدات السخية للجماعات والجمعيات الإسلامية, وما تقوم به من نشاط في إنشاء المساجد وإقامة المدارس ونشر اللغة العربية والإسلام.(24/202)
واطلع وفد الجامعة الإسلامية على المعالم والآثار الإسلامية في زنجبار وعلى صورة من مخططات المشروعات الإسلامية المزمع إنشاؤها، ومنها مشروع المسجد الجامع لمسلمي الجزيرة, ومركز المجلس الأعلى الإسلامي، كما زار الوفد كثيرا من المدارس والكتاتيب التي تعلم القرآن ومبادئ القراءة والكتابة العربية، وتم كثير من اللقاءات مع العاملين وأعضاء الجماعات والجمعيات الإسلامية، وألقى الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد في هذه اللقاءات كلمات توجيهية في مبادئ الإسلام وما يتميز به من سماحة ما يقدمه للبشرية من خير وسعادة في الدنيا والآخرة، وقدم باسم الجامعة الإسلامية مساعدات سخية للقائمين على شئون الشعائر الإسلامية من المؤذنين والأئمة، كما قدم أعداداً ضخمة من المصاحف والكتب الدينية للمعاهد والمدارس والكتاتيب التي زارها، كما وعد بإسهام الجامعة في فرش وتأثيث بعض الكتاتيب التي رآها بحاجة إلى ذلك توفيرا للجو الذي يساعد التلاميذ على التحصيل العلمي والإقبال على حفظ القرآن الكريم, كما زار وفد الجامعة المعهد الإسلامي في (مزيزين) حيث رحب مدير المعهد وأعضاء هيئة التدريس بفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد والوفد المرافق له وأعربوا عن اغتباطهم بهذا اللقاء الإسلامي في أسمى معانيه، وقد رحب معالي وزير التعليم التنزاني بوفد الجامعة الإسلامية، وشرح أوضاع المعهد الإسلامي الراهنة وما يتطلع إليه المسئولون نحو توسيعه ليستوعب الأعداد المتزايدة من الراغبين في دراسة الإسلام من طريق هذا المعهد الذي يعتبر الممثل الرئيسي لتلقي العلم الإسلامي في زنجبار وتنزانيا, ولكل المسلمين من دول شرق آسيا، وقد عرض المسئولون عن المعهد بعض الطلبات العاجلة لهذا المعهد.(24/203)
وفي (بيت الرأس) إحدى ضواحي مدينة زنجبار زار الوفد كلية تدريب المعلمين وألقى الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد كلمة توجيهية تربوية في طلاب هذه الكلية كان لها أعظم الأثر في نفوسهم واستجابة لطلب من وزير التعليم في تنزانيا وعد فضيلته بأن يرسل لهذه الكلية اثنين من مبعوثي الجامعة الإسلامية لتدريس الدين واللغة العربية لما يمثله هذا من مطلب حيوي لخدمة الإسلام لأن خريجي هذه الكلية هم الذين يتولون تدريس الدين واللغة العربية في كافة أنحاء الجزيرة.
وفي لقاء موسع للوفد في مقر الضيافة قدم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد هدايا رمزية لعدد من القيادات الإسلامية في زنجبار, وقدم مساعدة الجامعة في إنشاء مسجد كبير في أحد شوارع زنجبار وتقوم لجنة بجمع التبرعات لإتمام بنائه.
وقد صرح الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد إثر عودته من هذه الزيارة بأنه أعجب كل الإعجاب بجو الهدوء والاستقرار والروحانية الإسلامية العالية الذي يعيش فيه المسلمون في زنجبار خاصة، وفي كل بلاد تنزانيا عامة، كما أثنى فضيلته على اهتمام نائب الرئيس الحاج عبود جمبي بشئون المسلمين في هذه المنطقة، وأشاد بالدور الذي يقوم به دولته في هذا المجال، كما أشاد بفخامة رئيس تنزانيا المعلم نيريري لأنه يعطي المسلمين في تنزانيا الحرية في ممارسة شعائر دينهم دون اعتراض أو تضييق، مما يتيح للمسلمين هناك شعوراً بالرضا، ويهيئ للدولة كثيرا من الاستقرار السياسي والرخاء والأمن، ويتيح للدولة كذلك فرصا أكثر في توثيق صلاتها ببلدان العالم الإسلامي الذي يزداد وزنه الدولي يوما بعد يوم.
ثانيا- زوار وضيوف الجامعة:(24/204)
تفتح الجامعة الإسلامية قلبها وذراعيها مرحبة بضيوفها وزوارها المسلمين الأماثل من جميع أنحاء العالم، وتحرص على عقد اللقاءات والاجتماعات مع هؤلاء الزوار والضيوف, تتدارس فيها معهم أحوال المسلمين، وشئون الدعوة الإسلامية في بلادهم، وتقدم العون المادي والمعنوي سخياً لكل من يحتاج إليه من الجماعات والجمعيات الإسلامية التي تمثل المسلمين في أوطانهم، وإن الجامعة تعد ما تقدمه للمسلمين جزءاً من رسالتها, وواجباً تفرضه مبادئ الإسلام الذي يرى المسلمين أخوة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
ومن زوار الجامعة وضيوفها الذين استقبلتهم الجامعة خلال الأشهر الأخيرة من العام الهجري 1401هـ:
* الشيخ محمد فتاح ساخوا رئيس الاتحاد للتعاون الإسلامي بالسنغال وبرفقته الشيخ عمر ساخوا سكرتير الاتحاد وقد وصلا إلى المدينة يوم 3/10 / 1400 هـ.
* والأستاذ إبراهيم باشا من غانا.
* وفد طلابي من جامعة الإمارات العربية المتحدة بأبي ظبي وكان الوفد مكونا من أربعة عشر طالباً وقد استقبلهم فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة مرحبا بهم ومجيباً عن أسئلة الطلاب عن نشأة الجامعة وتطورها وأهدافها ورسالتها وعدد المنح الدراسية التي تقدمها كل عام كما أجاب فضيلته عن أسئلتهم الفقهية، ووجه النصح للشباب بالجد والمثابرة والاستقامة والتزود بعلم الشريعة والعقيدة الصحيحة التي هي طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد زودتهم الجامعة بمجموعات من الكتب الدينية والجامعة.
* وفد طلابي من غامبيا تحت إشراف الشيخ أحمد شرتو دراميى وهذا الوفد جاء مشتركاً في مسابقة القرآن الكريم.
* وزار الجامعة ابتداء من يوم 7/ 11/ 1401 هـ فضيلة الشيخ محمد الغالي مدير مدارس الفلاح بموريتانيا ومستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية.(24/205)
* استقبلت الجامعة وفدا من كبار الشخصيات من السنغال وهم معالي وزير التربية السنغالي الشيخ عبد القادر فال، ومعالي رئيس مجلس الأمة السنغالي الشيخ عامر عثمان، والشيخ مصطفى درامي المستشار التعليمي للغة العربية بدولة السنغال.. وقد استقبلهم بمكتبه فضيلة الدكتور عبد الله الزايد صباح يوم 28/ 10/ 1401 هـ مرحباً بهم ومشيداً بالعلاقات الوثيقة التي تربط بين المملكة العربية السعودية وإخوانهم المسلمين في السنغال. وقد شكر المسئولون السنغاليون قادة المملكة العربية السعودية وعلى رأسهم جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وحكومة المملكة على ما يقدمونه لإخوانهم المسلمين من عون في كل مكان, وعلى ما يولونه من اهتمام وبذل لكل القضايا المصيرية التي تهم المسلمين والعالم الإسلامي.
* وقد نزل ضيفا على الجامعة الشيخ جمعين أمير نائب رئيس الجمعية الإسلامية بجمهورية زائير وكانت ترافقه أسرته وذلك اعتبارا من 24 شهر ذي القعدة 1401 هـ.
* وقد زار الجامعة الإسلامية سعادة الدكتور أحمد توتونجي الأمين العام المساعد للندوة العالمية للشباب الإسلامي قادما من الرياض، حيث التقى بفضيلة الدكتور عبد الله الزايد وتباحث مع فضيلته فيما يهم الندوة العالمية للشباب، وما تقدمه الجامعة لمجتمع الشباب من خدمات في الداخل والخارج في مختلف المجالات سواء على المستوى الأكاديمي أو على مستوى الأنشطة الحرة خارج قاعات الدراسة وكانت هذه الزيارة يوم 10/ 11/ 1401 هـ.
* ونزل ضيفا على الجامعة الشيخ أحمد لوح المدير المؤسس لمدرسة منار الهدى الإسلامية في مدينة لوغا بجمهورية السنغال, وكانت زيارته للمدينة والجامعة من 17/11/1401هـ حتى 21/11/1401هـ.(24/206)
* وزار الجامعة الشيخ أمين الدين أبو بكر رئيس جماعة الدعوة في كانو بنيجيريا ونزل ضيفا عليها اعتبارا من 18/ 11/ 1401 هـ حتى تاريخ مغادرته للمدينة المنورة يوم 30/11/1401هـ.
* وزار الجامعة وحلَّ ضيفا عليها فضيلة الدكتور يوسف حامد العالم عميد كلية الدراسات الاجتماعية بجامعة أم درمان الإسلامية، وبرفقته الأستاذ أحمد حسن إبراهيم السكرتير الإداري لجامعة أم درمان الإسلامية، وقد تباحث الدكتور يوسف العالم مع كبار المسئولين في الجامعة حول صور الدعم التي تقدمها الجامعة الإسلامية لجامعة أم درمان الإسلامية ضمن ألوان الدعم التي يقدمها عدد من جامعات المملكة العربية السعودية لجامعة أم درمان حتى تتمكن من مواصلة رسالتها في خدمة الإسلام ونشر التعليم الديني في جمهورية السودان الشقيق، وتمت هذه الزيارة يوم 25/ 11/ 1401 هـ.
* وزار الجامعة الشيخ محمد الأمين سيس رئيس الجمعية الإسلامية ورئيس جمهورية غامبيا ونزل ضيفا عليها ابتداء من 25/ 11/ 1401 هـ حتى مغادرته المدينة المنورة.
* وكان من زوار الجامعة وضيوفها أعضاء المجلس الأعلى للجامعة الذين شاركوا في أعمال الدورة الثانية عشرة للمجلس، وقد أَقامت الجامعة لأعضاء المجلس حفل غداء على شرف صاحب السمو الملكي أمير منطقة المدينة المنورة نائبا عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.
وقد أقيم حفل الغداء بفندق شيراتون يوم الخميس الموافق 12/ 11/ 1401 هـ. وقد حضر هذا الحفل عدد كبير من كبار الشخصيات في المدينة المنورة من العلماء والأدباء والمفكرين.
* وزار الجامعة الدكتور محسن اميان من استراليا وكان ذلك يوم 28/ 11/ 1401هـ.
* كما زارها الشيخ كاكا محمد عمر أمين عام جامعة دار السلام بالهند ونزل ضيفا عليها اعتباراً من 19/ 12/ 1401 هـ حتى غادر المدينة المنورة عائدا إلى الهند.(24/207)
* وزار الجامعة ونزل ضيفا عليها وفد طلابي من ماليزيا يتكون من أحد عشر طالبا اعتبارا من 20/12/1401 هـ حتى غادروا المدينة المنورة.
* وحل ضيوفا على الجامعة وفد من جامعة الخرطوم بالسودان برئاسة الدكتور إبراهيم أحمد الحردلو عميد كلية الآداب ومعه الدكتور إبراهيم أحمد عمر رئيس قسم الدراسات الإسلامية والدكتور الطيب جبارة الأستاذ بكلية العلوم والأستاذ إسماعيل عبد الله المراقب المالي لجامعة الخرطوم ومعهم ثلاثة طلاب هم: أمين عباس محمود، ومحمد أحمد مسلم، والريح مكي دفع الله. وتمت زيارتهم للجامعة يوم 23/12/ 1401 هـ وظلوا ضيوفا على الجامعة حتى غادروا المدينة إلى السودان الشقيق.
* وزار الجامعة معالي الشيخ عبد الباقي وزير الأوقاف الباكستاني ومعه مجموعة كبيرة من مرافقيه في إطار بعثة الحج الباكستانيةِ ونزل هذا الوفد الباكستاني ضيفا على الجامعة مدة إقامتهم بالمدينة المنورة اعتبارا من 26/ 12/ 1401 هـ حتى مغادرتهم للمدينة.
· وزار الجامعة وفد يضم 24 مسلما من ألمانيا الغربية في إطار التعاون الذي تقدمه الجامعة الإسلامية للمسلمين والمراكز الإسلامية في ألمانيا وغيرها من دول أوربا وأسيا وقد قام هذا الوفد بجولة تعرف فيها على الوحدات التعليمية للجامعة ومرافقها وزار المكتبة المركزية ومستوصف الجامعة ومطابع الجامعة, وكانت هذه الزيارة إبتداء من 30/11/1401هـ.
وظل هذا الوفد ضيفاً عليها الشيخ محمد علي حميد رئيس المجلس الإسلامي بدار السلام بتنزانيا إعتبارا من 15/11/1401هـ حتى غادر المدينة المنورة.
· وزار الجامعة الحاج مالك زرومي السفير المتجول الفولتاوي.
· والشيخ حسن ثابت أحد الدعاة من جمهورية زائير.
· وزار الجامعة وفد من كشمير بالهند وعلى رأسه فضيلة الشيخ سعد الدين وكان ذلك يوم 30/11/1401هـ, وظل هذا الوفد ضيفا على الجامعة مدة إقامته بالمدينة المنورة.(24/208)
سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي
يحاضر في الجامعة الإسلامية
نظرة المسلمين إلى أنفسهم
ألقى سماحة الشيخ ابو الحسن الندوي رئيس ندوة العلماء في منتصف شهر ربيع الثاني 1402 محاضرة قيمة بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية موضوعها: النظرة القرءانية والنبوية إلى الأمة الإسلامية, ونظرة المسلمين إلى أنفسهم..
وكان سماحته قد وصل إلى الجامعة الإسلامية واجتمع مع فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة وبحث معه موعد اجتماع ندوة كبار العلماء والتي دعى إلى حضور اجتماعها كثير من المفكرين الإسلاميين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.(24/209)
مفهوم الأسماء والصفات
سعد ند ى
المدرس بالجامعة الإسلامية
في الحلقات الخمس الماضية يسر الله لي معالجة شيء من المعاني المتعلقة ببعض أسماء الله الحسنى في محاولة لفهم جوانب من مضامينها؛ وكان آخر ما شملته هذه المحاولة هو اسمي (المولى-والوليّ) . ولما بدا لي ا، أستكمل بحثي في هذه الحلقة، ذكرت دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الجامع لهذين الاسمين في آن معا حين يضرع إلى ربه قائلا: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
وهذا الدعاء الرائع يشمل خيري الدنيا والآخرة، إذ أنه لو جمع الإنسان أن يبعد عن نفسه فجورها، وأن تحقق لها بقواها، لكان كل ما يأتيه مراقباً فيه لله تعالى طامعاً في ثوابه، حاذراً من عقابه، وكذلك لو جمع للإنسان أن تجنب نفسه تدسيتها، وتُحصلَّ لها تزكيتها، لكان كل ما يصدر عنه نقياً طاهراً.
وما دام أن عمل الإنسان قد خلص لله جل وعلا، ونقي من كل شائبة، فإنه يكون سبباً في خيره وفلاحه في دنياه وآخرته.
ومن ذا الذي يخلص النفس من فجورها وتدسيتها؟ ومن ذا الذي يحقق لها تقواها وزكاتها؟ إنه الله القدير سبحانه، قلوبنا بين إصبعين من إصبعه يقلبها كيف يشاء، ذلك بأنه-جل وعلا- يتولى أمر عبده المؤمن، ويوليه رعايته وتوفيقه، فيعيش في كنفه، ويحظى بالأمن في رحابه.
ومن أسعد ممن يرعاه حبيبه، ويتولاه مولاه؟ ويأخذ بناصيته إلى برّ النجاة؟
وبالتأمل في كتاب الله العزيز، نجد تلك المعاني في مثل قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس آية 6-10) .(24/210)
ومعنى قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} : أي خلقها سويةً مستقيمة على الفطر القويمة كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [1] .
أو بمعنى: سوَّاها: خلقها وأنشأها وسوى أعصابه [2] .
ومعنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} : أي بيّن لها الخير والشر، أو ألهمهما الخير والشر، أو جعل فيها فجورها وتقواها [3] .
أو بمعنى: عرَّفها وأفهمها حالهما (أي حال التقوى والفجور) وما فيهما من الحسن والقبح. أو عرفها طريق الفجور والتقوى، والمعصية والطاعة. أو: عرفها طريق الخير وطريق الشر كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقد حكى الإمام بن كثير قول محمد بن كعب: "إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به". كما حكى قول ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا القول، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. وقال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبد شيئا ألزمه ذلك الشيء وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفى الكافر فجوره [4] .
وجاء في معنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عندما يقرأ هذه الآية يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها" رواه الإمام أحمد- بسنده- عن زيد بن أرقم الذي قال عن هذه الدعوات:(24/211)
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمْناهنّ ونحن نعلمكُموهنّ". ورواه الإمام مسلم – بسنده- كذلك عن زيد بن أرقم [5] .
وقيل في معنى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أنه عرفها الفجور والتقوى، وما تميز به رشدها وضلالها- قال ابن عباس: "بين لها الخير والشر والطاعة والمعصية، وعرفها ما تأتي وما تتقي" [6] .
أقول: وقد تظهر شبهة عند بعض الذين لا يعلمون، فيرى أن هناك تعارضاً بين الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وبين آيات أخرى تضاد معناها من مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة آية 16) ، وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت آية 17) ، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 39) ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم آية 33) ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} (الفرقان آية 37، 38) ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا(24/212)
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب آية 67) . وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر آية 16) . إلى غير ذلك من كثير الآيات التي يفهم منها أن فجور العبد وضلاله إنما هو بكامل اختياره ومشيئته دون تدخل لأي إرادة أو مشيئة أخرى سواه. في حين أن قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} يفهم منه أن الله هو الذي يضع الفجور أو التقوى بالإلهام في قلب عبده.
وخلص هؤلاء إلى أن هناك تعارضا بين نوعي الآيات، وأخذوا يؤولون ويخبطون، ونشأت اتجاهات شاذة حملتها الفرق الضالة كالقَدرية الذين نفوا قدرة الله القدير سبحانه فزعموا أن العبد هو الذي يخلق عمله استقلالا، ولهذا سّموا (مجوس هذه الأمة) ، وذلك لمشابهتهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة؛ ويعنون بذلك أن هناك إلهين: إله النور ويصدر عنه كل خير، وإله الظلمة ويصدر عنه كل شر. كذلك القدرية يقولون إن الله خالق العباد، وأن العباد خالقين لأفعالهم. وبهذا كان عند القدرية- كما يعتقد المجوس- خالقان.
ومن ثم عطلوا صفة (القدرة) التي يتصف بها الله جل وعلا، وكذبوه فيما سمى به نفسه سبحانه من اسم (القادر، والقدير) كما عطلوا صفة المشيئة أو الإرادة التي وصف بها نفسه تبارك وتعالى، في مثل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف آية 33، 34) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج آية 14) .(24/213)
ومن الفرق الضالة كذلك الجَبْرِيًة الذين زعموا أن فاعل جميع الأفعال هو الله تعالى، ونفوا أن العبد يفعل شيئا، ونتج عن اتجاههم هذا: القولُ بأن العبد مجبور على فعله لأنه بإتيانه ما يفعل ليس إلا كريشة في مهب الرياح تتقاذفها تارة يمنةً وتارة يسرةً، ومن ثم فلا مشيئة له ولا إرادة، وهو في أفعاله مسير تسييرا كاملا لا اختيار له في أي عمل.
وهؤلاء كذبوا الله تعالى فيما أثبته للعبد من مشيئة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 29) ، وافتروا عليه الكذب سبحانه في أنه يجبر العبد على مالا يريد فعله ومالا يقدم عليه بمحض اختياره. وبهذا الاتجاه الضال انتشرت بين الناس مقالة أن العبد مُسَيرٌ لا مخير. وهذا زعم كاذب، وخبْط في التيه، بلا برهان من الله.
ومثل هاتين الفرقتين القدرية والجبرية قد فرطت أولاهما فنفت ما أثبته الله لنفسه سبحانه من صفات وأفرطت الثانية فأثبتت للعبد ما لم يثبته له الله، وكلا الفرقتين مكذب لله تعالى فيما أخبر من إثبات مشيئة له سبحانه وإثبات مشيئة للعبد في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان الآية 30) وفيما أخبر من خلقه للعبد ولعمله في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات الآية 96) .
ومن ثم فالعبد له مشيئة، وهو مخير تمام التخيير في جميع التكليفات، وتتميز بأنها تتم بعمله واختياره، كالصلاة والصيام والزكاة وسائر التكاليف، وهو مُسَير تسييرا كاملا فيما وراء التكاليف كالرزق، والأجل، وإنجاب الأولاد أو العقم وما ماثل ذلك، وتتميز هذه الأمور بأنه لا يد له فيها البتة. وهذا ما توسط به أهل السنة والجماعة.
وتحقيق هذه المسألة يرجع إليها في مظانها لأن المقام يضيق هنا عن تفصيلها, فأحيل القارئ الكريم على تلك المظان من كتب العقيدة.(24/214)
ومعنى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. أو أن المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه [7] .
وقد ذكر الإمام الشوكاني في معنى هذه الآية: أنه قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب [8] .
وذُكر في تيسير الكريم الرحمن أن معنى هذه الآية: أنه طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقّاها بطاعة الله وعلاّها بالعلم النافع، والعمل الصالح [9] .
وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية: أنه فاز وأفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من دنس المعاصي والآثام [10] .
ومعنى قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أنه خاب من دسَّسَ نفسه أي أخملها ووضع منها، وذلك بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل. أو أن المعنى: قد خاب من دسّ الله نفسه [11] .
وذكر الإمام الشوكاني في معنى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} : أي خسر من أضلها وأغواها, أو أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح، أو أنه دسَّ نفسه في جملة الصالحين وليس منهم [12] .
وجاء في تيسير الكريم الرحمن في معنى هذه الآية أنه أخفى نفسه الكريمة التي ليست حقيقةً بقمعها وإخفائها بالتدنس بالرذائل والدنو من العيوب والذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها [13] .
وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية أنه قد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة. فإن من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء [14] .(24/215)
أقول: وإذا كان إلهام النفس وإتيانها تقواها، هو تعريفها دروب الخير وإلهامها سلوكها وتوفيقها إلى التزامها، وإذا كانت زكاة النفس هو تطهيرها من كل دنس، والسمو بها – بطاعة الله عز وجل- إلى مراقي الفوز والفلاح، إذا كانت تقوى النفس وتزكيتها بهذه المثابة، فقد حُقّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلجأ في ضراعة لمولاه الذي يتولاه ويتولى المؤمنين، فيقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
وحين يستجاب هذا الدعاء العظيم، يتحقق للنفس من خيري الدنيا والآخرة، ما تسعد به سعادة لم تشهد قبل لها مثيلا.
ومن ثم كان مقتضى معرفة معنى اسم (المولى- والوليّ) ،أن ينزع المؤمن من قلبه كل ولاية لغير الله تعالى، فيستبعد كل ولاية زائفة, ويحطم كل ولاية لعديد الجبابرة من طواغيت الأحياء أيا كانت سطواتهم ومهما بلغ سلطانهم، ولحشود المقبورين من طواغيت الأموات أيا كانت شخصياتهم ومهما سمت مرتباتهم، وأن يجرد الولاية لله الحق في الحياة الدنيا والآخرة، لينعم بإكرام الله تعالى له بالنصر والفوز في الدارين.
أسألك اللهم ربي ومولاي، أن تثبت قلبي- مع اخوتي على درب الإيمان-على دينك، وأن تصرفه على طاعتك، وأن تجعل ولايته خالصة لك,"أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين".
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (سورة الروم آية 43) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير القرآن العظيم لابن كثير الجزء 4ص515.
[2] فتح القدير للشوكاني الجزء 5 ص 449.
[3] تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 516.
[4] فتح القدير للشوكاني الجزء5ص449.(24/216)
[5] تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 515، 516.
[6] صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566.
[7] تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516.
[8] فتح القدير ص 449.
[9] تيسير الكريم الرحمن 8 ص 246.
[10] صفوة التفاسير الجزء 3 ص566.
[11] تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516.
[12] فتح القدير للشوكاني الجزء 5ص 449.
[13] تيسير الكريم الرحمن الجزء 8ص 246.
[14] صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566.(24/217)
فضل صيام رمضان وقيامه
مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد. فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحات مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس.(24/218)
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان ويخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم وتغل فيه الشياطين ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب وصفدت الشياطين وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" ويقول عليه الصلاة والسلام: "جاءكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله" ويقول عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ويقول عليه الصلاة والسلام: "يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أَمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي, للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".(24/219)
والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما من الله به عليه ولا سيما الصلوات الخمس فإنها عمود الإسلام وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة. ومن أهم واجباتها في حق الرجال أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة آية 238) وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة آية238) وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون آية 201) إلى أن قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون الآيات 8-11) .(24/220)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وأهم الفرائض بعد الصلاة أداء الزكاة كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة آية 5) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور آية 56) . وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوما لقيامة. وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة صيام رمضان وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت". ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها وتعويدها الصبر عما حرم الله وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم ", وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه والمحافظة على كل ما أوجب عليه وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.(24/221)
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس منها أن الواجب على المسلم أن يصوم إيمانا واحتسابا لا رياء ولا سمعة ولا تقليدا للناس أو متابعة لأهله أو أهل بلده بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك واحتسابه الأجر عن ربه في ذلك.
وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيمانا واحتسابا لا لسبب آخر ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ما قد يعرض للصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم، لكن من تعمد القيء فسد صومه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء".
ومن ذلك ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفطر وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر إذا رأت الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس. وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم تحليل الدم وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك", وقوله عليه الصلاة والسلام: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".(24/222)
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس عدم الاطمئنان في الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه وهي الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقرا، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل قال: "مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" متفق على صحته.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه في بعض الأحيان ثلاثا وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة كل ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في عهده.(24/223)
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستا وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله - وغيره من أهل العلم كما ذكر - رحمه الله - أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضا أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود أن يقلل العدد, ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد، هذا معنى كلامه رحمه الله، ومن تأمل سنته صلى الله عليه وسلم علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله، ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلاحرج ولا كراهة كما سبق، والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان أن لا ينصرف إلا مع الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة".(24/224)
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من صلاة النافلة وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل والإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والدعوات الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل ومواسات الفقراء والمساكين والاجتهاد في بر الوالدين وصلة الرحم وإكرام الجار وعيادة المريض وغير ذلك من أنواع الخير لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله", ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر" ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أد فريضة فيما سواه, ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه", ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "عمرة في رمضان تعدل حجة أو قال حجة معي".
والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة. والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وأن يتقبل صيامنا وقيامنا ويصلح أحوالنا ويعيذنا جميعا من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم وحمة الله وبركاته.
من أقوالهم
قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "أفضل الزهد إخفاء الزهد".
وقال أيضا: "أشد ما يكون حنق حاسدك عليك إذا صبرت على حسده".(24/225)
رخصة الفطر في سفر رمضان
وَما يترتب عليها من الآثار (2)
الدكتور أحمد طه ريان
أستاذ مساعد بجامعة الأزهر
هل الفطر في السفر رخصة أم عزيمة:
بعد أن عرفنا مقدار المسافة التي يشرع فيها الفطر للمسافر إذا عزم على قطعها أو تجاوزها، ننتقل الآن إلى بيان مدى هذه المشروعية. وبمعنى أوضح، هل هذه المشروعية تقف عند حدها الأدنى، وهو الإباحة، فيكون المسافر له حرية الفطر مع القضاء في أيام أخر، أو الصيام مع الإجزاء بدون أدنى حرج عليه في فعل أي منهما؟ أو أن هذه المشروعية ترتفع عن هذا الحد إلى مستوى أعلى قليلا عن الإباحة، فتصل إلى حد الندب أو الأفضلية للفطر على الصيام، فيكون من صام في سفره قد ارتكب أمرا مكروها، والمكروه وإن كان لا يعاقب على تركه، لكنه لا يثاب على فعله، كما عرفه بذلك كثير من الفقهاء، أو أن هذه المشروعية للفطر ترتفع إلى درجتها العليا، فتصل إلى درجة الوجوب، فيكون الصائم قد ارتكب أمرا قد حرمه الشارع وبالتالي، يثبت لصومه حكم البطلان، ويجب عليه قضاء هذه الأيام التي صامها في السفر لعدم احتساب الشارع لها.
لبيان ما هو الحق في ذلك نقول:
نقل عن عدد كبير من الصحابة والتابعين والفقهاء عدم مشروعية الصيام في السفر، إلا أن بعضهم قد نقل ذلك عنه بلفظ الكراهة وبعضهم قد نقل عنه بلفظ عدم الإجزاء أو بوجوب القضاء.
فروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "لأن أفطر في رمضان في السفر أحب إلي من أن أصوم" [1] .
وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر وقال: روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إن صام قضاه"وقال: وروي عن ابن عباس قوله: "لا يجزئه الصيام" [2] .
كما نقل عن عبد الرحمن بن عوف قوله: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" [3] .(24/226)
وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، قال أخبرني عاصم بن عبيد الله بن عاصم عن ابن عبد الله بن عامر بن ربيعة "أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام رمضان في السفر أن يقضيه، قال: وأخبرنيه عمرو بن دينار عن كلثوم بن جبر عن عمر" [4] .
وروي عن أبي سعيد مولى المهري، قال: "أقبلت مع صاحب لي من العمرة فوافينا الهلال هلال رمضان فنزلنا في أرض أبي هريرة في يوم شديد الحر فأصبحنا مفطرين إلا رجلا منا واحدا، فدخل علينا أبو هريرة نصف النهار فوجد صاحبنا يلتمس برد النخل. فقال: ما بال صاحبكم؟ قالوا صائم، قال: ما حمله على ألا يفطر؟ قد رخص الله له، لو مات ما صليت عليه". قال الحافظ ابن حجر- عن هذا الأثر- "موقوف صحيح". ونقل محقق المطالب العالية، عن البوصيري قوله عنه: "رجاله ثقات" [5] .
وقد نقل هذا القول أيضا- بالإضافة إلى سعيد بن جبير- عن عدد من التابعين، كالزهري والنخعي وغيرهما [6] .
وقد ذهب إلى ذلك من الفقهاء بعض أصحاب داود الظهري والشيعة الإمامية كما أشرنا من قبل إلى ما قاله ابن حزم بشأن وجوب الفطر على الصائم المسافر إذا بلغ ميلا أو تجاوزه [7] .
ويتلخص رأي هذا الفريق، بأن الفطر في السفر عزيمة فمن خالفها وصام فقد اقترف إثما ولا يعتد بما صامه شرعا ويجب عليه قضاء هذه الأيام بعد انتهاء رمضان وانقضاء سفره.
وأهم الأدلة التي استند إليها هذا الفريق ما يلي:
1- قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: آية 185) .(24/227)
وجه الدلالة: من المعلوم أن هذه الآية محكمة بإجماع المسلمين لم يرد عليها نسخ ولا تخصيص وقد أَوجبت الصيام على من شهد الشهر صحيحا مقيما، وعلى من شهد الشهر وكان مريضا أو مسافرا، عدة من أيام أخر. ووجوب قضاء أيام السفر بعد رمضان يستلزم وجوب الفطر في رمضان أثناء السفر، وحتى لو عاند وخالف وصام، فإنه لا يعتد بذلك الصيام، بل يجب عليه قضاء هذه الأيام التي صامها [8] .
ويناقش هذا الاستدلال بأن الآية قد تضمنت دلالة اقتضاء، وهو تقدير بعض الألفاظ التي لا يتضح المعنى بدونها. والمقدر هنا: عبارة (فَأفطر) فيكون المعنى الإجمالي: ومن كان مريضا أو على سفر- فأفطر- فعدة من أيام أخر- وقد أوضحت السنة هذا المعنى بجلاء تام في أكثر من حديث، فقد جاء في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله: أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" [9] ورفع الجناح يقتضي صحة الصوم وإجزاءه ورفع الإثم عن الصائم.
قد يقال: إن نفي الجناح قد يكون المراد منه نفي الحرمة عن الصائم في السفر لكنه لا يقتضي الاعتداد بما صامه شرعا، أو يكون المراد: لا جناح عليه لو صام في سفره تطوعا أو قضاء لصوم سابق كان عليه.
ويجاب عن ذلك بأن نفي الجناح يقتضي الإباحة والشيء المباح إذا فعل بنية العبادة، فإنه يثاب عليه، حتى الأكل والشرب إذا فعلهما الشخص بنية التقوي على العبادة، فإنه يثاب عليهما.
أما تأويل الحديث على أنه لا جناح عليه في صيام هذه الأيام تطوعا أو قضاء، فهو بعيد، لأن التعبير عن الفطر بكونه رخصة يقتضي جواز العمل بها، أو تركها والعمل بالعزيمة هذا هو المعروف من معنى الرخصة، وإن كان العمل بها أفضل، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.(24/228)
3- الدليل الثاني من أدلة هذا الفريق على وجوب الفطر في السفر وعدم الاعتداد بالصيام فيه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم [10] فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة" [11] .
وجه الدلالة: وصف الصائمين في السفر بالعصاة، يقتضي أنهم آثمون، ويقتضي كونهم آثمين أن صومهم غير مجزئ وبالتالي: يجب عليهم القضاء.
ويناقش هذا الاستدلال، بأن وصف الصائمين بالعصيان لا يلزم منه أن يكون الوصف منصبا على الصوم، بل قد يكون منصبا على مخالفتهم أمره صلى الله عليه وسلم بالفطر، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر الآية 7) . وقال تعالى أيضا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور الآية 63) .
قد يقال: إن تركهم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره لهم بالفطر، يقتضي أَنهم عاصون بالصيام أيضا إلى جانب عصيانهم بمخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر.
فيجاب عن ذلك بأن تشديد الرسول عليه الصلاة والسلام في أمر الفطر ووصف التاركين بالعصيان إنما كان لسبب خاص وهو ملاقاة الأعداء، ومعلوم أن القتال يحتاج إلى قوة. وأن الفطر مما يساعد على إيجاد هذه القوة، ومن هنا يدخل الفطر في وسائل القوة التي أمر الله بإعدادها، بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال الآية 60) .(24/229)
ويقوي هذا المعنى ما جاء في حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" [12] .
فأمره صلى الله عليه وسلم بالفطر عند قربهم من لقاء عدوهم إنما كان يقصد بذلك تقويتهم في مواجهة عدوهم والأخذ بأسباب هذه التقوية واجب فيكون تركها معصية.
ويتضح من حديث أبي سعيد أيضا، أنهم في حالة بعدهم من عدوهم، أن الفطر ليس بلازم، فمن شاء صام ومن شاء أفطر. وقد فهم الصحابة ذلك، ففي حديث أبي سعيد هذا "فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر".
ومن باب أولى إذا كان السفر لغير الجهاد، فيكون الفطر فيه لمشيئة المسلم إن شاء صام وإن شاء أفطر. وقد ثبت ذلك من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضا، فقد جاء فيه: "لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر".
قد يقال: إن هذه الصيغة- نصوم مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم- يفهم منها أنهم كانوا يصومون وهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يشاركهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الصيام, وفعل الصحابة في حياته صلى الله عليه وسلم ليس حجة.
فيجاب عن ذلك، بأنه يكفي في حجية هذا الفعل، اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه دون أن ينكره, فيكون سنة تقريرية وهي حجة قد يقال: يحتمل أنه لم يطلع عليهم حتى يكون ذلك سنة تقريرية.
فيجاب عن ذلك: بأنه وإن كان فيه بعد، لكن يكفي في الحجية حدوث هذا الفعل زمن نزول الوحي، لأنه لو كان فيه مخالفة لنزل الوحي ببيانها.(24/230)
3- الدليل الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه، فقال: ماله, قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر" [13] .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى البر- بكسر الباء- يعني الطاعة والعبادة عن الصيام في السفر، أَي ليس من الطاعة والعبادة، أن تصوموا في السفر، وإذا انتفى كان الصيام في السفر من البر، فإن من خالف وصام، فإنه يكون آثما وبالتالي لا يجزئ عنه هذا الصيام.
وقد أجيب عن ذلك، بأن هذا الحديث، قصد بلفظه شخص معين- وهو المذكور في الحديث- وما يكون مماثلا له. والمعنى: ليس من البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ بعد أن رخص الله عز وجل له في الفطر [14] .
ولكن تناقش هذه الإجابة، بما قيل في علم الأصول، بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وترد هذه المناقشة بأن الحديث واقعة عين، ووقائع الأعيان لا يستدل بها على عموم الأحكام, والدليل على عدم قصد العموم في هذا الحديث، ما ثبت من صوم الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان في حديث أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة" [15] .
وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على القاعدة الشرعية، في رفع مالا يطاق عن هذه الأمة، فيكون مؤداه: أن المريض المقيم، والمسافر المرهق، ومن أجهده الصوم، عليهم أن يفطروا، فإن لم يأخذوا بالرخصة واستمروا على صومهم، حتى خشي عليهم التلف، فإنهم يكونون عصاة بصومهم واستحق من يفعل مثل هذا الفعل، أن يوصف صومه، بأنه ليس من البر، والله أعلم [16] .(24/231)
وقد أجاب ابن حزم على ذلك، بأن هذه الحال- المشار إليها في القاعدة السابقة-محرم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر والسفر، وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم المنع من الصيام في السفر مطلقا بهذا الحديث، فيجب أخذ كلامه عليه الصلاة والسلام على عمومه [17] .
ويجاب عن ادعاء العموم من الحديث، بأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه بعد ذلك، قد بين أن هذا العموم غير مراد، فقد ثبت عنهم الصوم والفطر بعد هذه الواقعة وقد وضحت ذلك في تعليقي على حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء فيه: "لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" [18] والشريعة كل لا يتجزأ.
وقد رد ابن القيم على أصحاب هذا الاتجاه وهو الاستدلال بعموم النص مع قطع النظر عن فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه المخصص له، فقال: "وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم يحتجون بعموم نص على حكم ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أَصحابه الذي يبين مراده" [19] .
4- الدليل الرابع: من أدلة هذا الفريق الموجب للفطر في السفر: ما رواه أبو سلمة قال: أخبرني عمرو بن أمية الضمري، قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية، فقلت: إني صائم، فقال: تعال ادن مني حتى أخبرك عن المسافر أن الله عز وجل وضع عنه الصيام ونصف الصلاة" [20] .
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول:
أنه قد اختلف في سند هذا الحديث اختلافا كثيرا، فقد اختلف فيه على الأوزاعي، حيث رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي سلمة عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي المهاجر عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي أمية الضمري [21] .(24/232)
كما اختلف فيه أيضا على معاوية بن سلام وعلي بن المبارك: فقد رواه عثمان عن معاوية عن يحي بن أبي كثير عن أبي قلابة: أن أبا أمية الضمري.. كما رواه عثمان عن علي بن يحي عن أبي قلابة عن رجل أن أبا أمية أخبره [22] .
ولهذا الحديث شاهد من حديث أنس بن مالك الكعبي،إلا أنه أَيضا مختلف في إسناده، فقد رواه سفيان الثوري عن أيوب عن قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة، والصوم وعن الحبلى والمرضع" [23] .
وعن ابن حبان عن عبد الله عن ابن عيينة عن أيوب شيخ من قشير عن عمه.
وعن عبد الله عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا.. [24] .
وقد روى أبو داود هذا الحديث عن طريق شيبان بن فروخ عن أبي هلال الراسبي عن أبي سواد القشيري عن أنس بن مالك- رجل من بني عبد الله بن كعب أخوة بني قشير- وقد رواه بلفظ "أغارت علينا خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيت- أو قال- فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال: اجلس فأصب من طعامنا هذا، فقلت: إني صائم، قال:- فقال- اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام: إن الله وضع شطر الصلاة- أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى- والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما- قال: فتلهفت نفسي ألا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم" [25] وقد سكت عنه أبو داود.
وقد رواه الترمذي بنفس اللفظ الذي أورده به أبو داود ثم قال: "حديث حسن" [26] .
الوجه الثاني:
إن لفظ (وضع) في الحديث يفسر بمعنيين، أولهما: وضع: بمعنى أسقط بلا مقابل وهذا خاص بالنسبة لشطر الصلاة في السفر. وهذا القول مستفاد من الكتاب والسنة، فقد ورد فيهما قصر الصلاة في السفر بلا مقابل.(24/233)
المعنى الثاني: أن وضع: أي أسقط الوجوب في الحال مع القضاء في المستقبل وهو بالنسبة للصوم للمسافر والمرضع والحامل وإنما قلنا بذلك أيضا للإجماع على أن المسافر والمرضع والحامل إن أفطر كل منهم في رمضان وجب عليه القضاء بعد زوال عذره.
فإسقاط الصوم هنا عن المسافر ليس بإطلاق، بل هو إسقاط للوجوب الفوري مع وجوب القضاء بعد ذلك, إنْ أفطر عملا بالرخصة، أي أن إسقاط الوجوب الفوري هنا رخصة فمن شاء أخذ بها وأفطر, ومن شاء عمل بالعزيمة وترك العمل بالرخصة، وهذا هو مدلول الرخصة، فللمكلف الأخذ بها وهو أفضل، أو العمل بالعزيمة ولا جناح عليه. وقد فسرها صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه حيث قال: يا رسول الله: أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" [27] .
الدليل الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر.. قال: "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" [28] .
وفي رواية أخرى عن طريق الزهري أيضا- جاء فيها "قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر" [29] .
وفي رواية ثالثة: قال ابن شهاب: "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم" [30] .
واضح من الحديث أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين وأنه قد نسخ حكم جواز الصيام فيه, الذي كان موجودا قبل ذلك.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولا: أن عبارة: (فكان الفطر آخر الأمرين) ، من قول ابن شهاب الزهري، وقد أشار إلى ذلك الإمام مسلم من خلال عرضه لسند الحديث، كما أوضحناه في ذكرنا لروايات الحديث الثلاث.(24/234)
ثانيا: ينبغي أن يفهم أن مراد الزهري من الأمرين: هما عزيمة الصيام في السفر والرخصة في الفطر فيه, وعلى هذا يكون الدليل متمشيا مع رأي الجمهور.
أما أن يحمل الأمران على عزيمة الصيام في السفر، وعزيمة الفطر فيه دائما فلا، لأنه يتناقض مع فهم راوي الحديث نفسه، وهو ابن عباس رضي الله عنهما فقد ورد عنه في الصحيحين "سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس- عقب ذلك مباشرة- فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر" [31] .
فقول ابن عباس: "فمن شاء صام ومن شاء أفطر"أدل على فهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدق من فهم ابن شهاب رضي الله عنه، وأولى بالاعتبار منه. وأما الآثار التي نقلت عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن وجوب الفطر في السفر، ففي بعضها ضعف من جهة سندها أو هي معارضة بما هو أقوى منها، وبعضها الآخر، إما أن يكون قد ذكر على سبيل التغليظ والتشديد وإما ن يكون على سبيل الاجتهاد الشخصي من صاحبه في فهم النصوص، ونبين ذلك بشيء من الإيضاح فنقول:
(أ) - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، من قوله: لا يجزئه الصيام وما ورد بمعناه عنه، فإنه يتعارض مع ما هو أقوى منه، وهو رواية ابن عباس لحديث صيامه صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح حتى بلغ الكديد ثم أفطر- وقد قال ابن عباس معقباً على الحديث: لقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر.. وقد تقدم ذلك قريبا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما فهو أقوى.(24/235)
(ب) - وأما ما نقل عن عبد الرحمن بن عوف من قوله: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". فقد قال البيهقي: "هو موقوف، في إسناده انقطاع، وقد روى مرفوعا وإسناده ضعيف" [32] وقد نقل النووي قول البيهقي هذا في المجموع واحتج به على من تمسك بهذا الأثر. لكن صاحب الجوهر النقي قد تعقب قول البيهقي السابق: فذكر أن هذا الأثر، قد رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، وقد قال ابن معين والنسائي: لم يسمع من أبيه، فهذا معنى قول البيهقي: وفي إسناده انقطاع: إلا أن ابن حزم صرح بسماعه من أبيه، وتابع حميد بن عبد الرحمن أَخاه أبا سلمة فرواه عن أبيه كذلك. كذا أخرجه النسائي في سننه بسند صحيح، وذكر ابن حزم أن سنده في غاية الصحة وعلى فرض صحة نسبة هذا القول إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فإنه يحمل، إما على التشديد في قبوله الرخصة ردا على من تركها رغبة عنها، أو على أن ذلك اجتهاد منه في فهم النص القرآني. وعليه، فلا يكون حجة لأنه يتعارض مع تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للرخصة والذي أشرنا إليه قريبا..
(ج) - أما ما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من أن رجلا صام رمضان في السفر فأمره عمر أن يقضيه"، ففي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم, قال عنه ابن حجر في التقريب: "ضعيف".
(د) أما ما نقل عن أبي هريرة، عن قوله: في حق الرجل الذي صام في السفر، "لو مات ما صليت عليه"، فإنه قد تبين من خلال القصة، ضعف الرجل عن الصيام في السفر، ومن كان هذا حاله فإنه ينبغي أن يشدد عليه في الأخذ بالرخصة، فحاله هذه قريبة الشبه بحالة الرجل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه: "ليس من البر الصيام في السفر"، أي أن من ضعف عن الصيام في السفر، فلا ينبغي أن يشدد على نفسه حتى يفضي إلى هلاكها، فإن هذا الفعل ليس من البر في شيء.
أحوال القلب
قال أبو بكر الوراق:
للقلب ستة أشياء:(24/236)
حياة، وموت، وصحة، وسقم، ويقظة، ونوم. فحياته الهدى.. وموته الضلالة.. وصحته الصفاء، وعلته العلاقة، ويقظته الذكر، ونومه الغفلة.
وقال أبو حاتم: موت القلب من أربعة أشياء: فضول الكلام ومجالسة الجهال وأكل الشبهة وكثرة الضحك.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] السنن الكبرى ج4 ص245.
[2] المجموع ج6 ص218.
[3] النسائي: إحياء التراث ج4 ص183.
[4] المصنف ج4 ص 270.
[5] المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية _ وهذا الأثر من مسند مسدد _ج1 ص81.
[6] تحفة الأحوذي ج6 ص364، المجموع ج6 ص217، نيل الأوطار ج4 ص51.
[7] المحلى ج6 ص364، المجموع ج6 ص217، نيل الأوطار ج4 ص51.
[8] أشار إلى هذه الدلالة من الآية صاحب المحلى ج6ص381.
[9] صحيح مسلم ج3 ص145.
[10] كراع الغميم: على ثلاثة أميال من عسفان، القاموس المحيط ج3 ص78.
[11] صحيح مسلم ج3 ص142.
[12] صحيح مسلم ج3 ص144.
[13] البخاري ج11 ص48 مع شرحه عمدة القارئ، صحيح مسلم ج3 ص142.
[14] عمدة الأحكام ج11 ص49.
[15] صحيح مسلم ج3 ص 145.
[16] انظر الإشارة إلى هذه القاعدة في عمدة القارئ ج11 ص49 كما أشار إليها ابن القيم في تعليقه على عون المعبود ج6 ص49.
[17] المحلى ج6 ص383.
[18] صحيح مسلم ج3 ص144.
[19] عون لمعبود ج6 ص 49.
[20] النسائي ج4 ص179 من المجتبى.
[21] النسائي ج4 ص 179 من المجتبى.
[22] النسائي ج4 ص 180 من المجتبى.
[23] النسائي ج4 ص 181 من المجتبى.
[24] النسائي ج4 ص 45 من المجتبى.
[25] سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود ج6 ص45 إلى47.
[26] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ج3 ص402.
[27] صحيح مسلم ج 3 ص 145.
[28] صحيح مسلم ج 3 ص 141.(24/237)
[29] صحيح مسلم ج 3 ص 141.
[30] صحيح مسلم ج3 ص 141.
[31] صحيح مسلم ج 3 ص 141 وصحيح البخاري ج11 ص 42 المطبوع مع شرح عمدة القارئ.
[32] السنن الكبرى ج4 ص 244.(24/238)
فريضة الحج وجواز النيابة فيها
للدكتور محمد عبد المقصود جاب الله
كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي المصطفى الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد
فقد سألني أحد تلاميذي بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهو الطالب (سيد حامد سيد إبراهيم) من سنغافورة عن الحج عن الغير وهل يجوز أو لا؟ وهل يجوز لمن يحج عن الغير أن يحج عن أكثر من واحد في سنة واحدة؟
وإني استخير بالله سبحانه وتعالى في الإجابة وهو حسبي ونعم الوكيل فأقول:- وبالله التوفيق-
الحج هو الركن الرابع من أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا.
والأصل في وجوبه قول الله -سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (من الآية 97من آل عمران) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان"س متفق عليه [1] .(24/239)
وقد اتفق الفقهاء على أن الحج يجب على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع, وشرط الاستطاعة (ملك الزاد والراحلة) وزاد الحنفية أن يكون صحيحاً, وفسر عكرمة الاستطاعة بالصحة, وتفسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة" رواه الترمذي وقال: "حديث حسن", وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية (3: 97) {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال رجل: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" [2] .
فمن وجب عليه الحج بعد تحقق شروط الوجوب وشروط الأداء حسب ما فصله الفقهاء وجب عليه أداء الحج، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج بيت الله فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" [3] .
الحج عن الغير:
اتفق العلماء على أنّ من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ أن يحج غيره عنه.
أما إذا كان مريضا مرضا لا يرجى برؤه أو كان شيخا فانياً ووجد من ينوب عنه في الحج ومالاً يستنيبه به لزمه ذلك- عن أبي حنيفة وأَحمد والشافعي وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وهذا غير مستطيع- ولأن هذه العبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة.(24/240)
واستدل أبو حنيفة وأحمد والشافعي بحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أَفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع متفق عليه.
وفى رواية عن ابن عباسأن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" رواه البخاري. وهذا دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده وقريبه ويجزئه عنه.
واختلف الفقهاء هل من شرط من يحج عن الغير أن يحج عن نفسه أولا؟ جمهور الأمة يرون أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه لحديث ابن عباس الذي خرجه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "ومن شبرمة؟ " قال أخ لي أو قريب لي فقال: "حججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" [4] وجوز ذلك الحنفية محتجين بحديث الخثعمية [5] من غير أن يسألها هل حجت عن نفسها أو لا؟ .
هذا على خلاف بين الفقهاء في جواز الاستئجار على الحج والطاعات كالأذان وتعليم القرآن ونحوه مما يختص فاعله أًن يكون من أهل القربَة ويتعدى نفعه.(24/241)
فعلى حين يرى الإمامان أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وابن حزم وعطاء والضحاك وابن قيس والزهري أنه لا يجوز ذلك وحرموا أخذ الأجرة وبه قال ابن مسعود محتجين بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرأ" خرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم [6] . وأجاز الإمامان مالك والشافعي وكذلك ابن المنذر الاستئجار على الطاعات محتجين بحديث ابن عباس الذي خرجه البخاري وفيه "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" [7] وأخذ أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجعل على الرقية.
وأرى أنه يجوز الاستنابة في الحج إذا كان من وجب عليه الحج مريضا مرضا لا يرجى برؤه أو مات بعد أن وجب عليه الحج وأوصى به ولا يجوز إلا عن هذين فقط أي من مات بعد الوجوب عليه ومن عجز عجزاً مستمرا إلى الموت.
ويكون ما يتقاضاه النائب عنه من باب النفقة لا من باب الأجرة- لأنه إذا وقع بأجرة لم يكن قربَة ولا عبادة والحج عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة- فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح- وإنما يصح على أنه نائب عمن وجب عليه الحج وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه- فلو مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان- نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال [8] .
هل يجوز لمن يحج عن الغير أن ينوب عن أكثر من واحد في عام واحد؟(24/242)
بعد أن عرفنا أنه يجوز الاستنابة في الحج للعاجز عن أدائه بالموت أو بالعجز بسبب المرض الذي لا يرجى برؤه نقرر أنه يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة, والمرأة عن الرجل والمرأة باتفاق عامة العلماء- لم يخالف في ذلك إلا الحسن بن صالح- فإنه كره حج المرأة عن الرجل [9] ويرد عليه بحديث الخثعمية التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستملك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم"متفق عليه.
ولا يجوز أن ينوب عن أكثر من واحد في عام واحد بالنسبة لنسك الحج لأن الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والوقوف بعرفات من ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر اليوم العاشر هو الركن الأعظم. لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة فمن وقف بها ليلا أو نهاراً فقد تم حجه ومن فاته عرفة بليل فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل" [10] وامتداد الوقوف إلى غروب الشمس واجب- فمن أفاض قبل ذلك وجب عليه دم عند أكثر أهل العلم- أبي حنيفة وأحمد وعطاء والثوري وأبي ثور وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس والشافعي في رواية [11] .
ويرى الإمام مالك أن استمرار الوقوف إلى ما بعد غروب الشمس ركن, فإذا دفع قبل الغروب فلا حج له عنده [12] وحجته ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل", قال ابن عبد البر: "لا نعلم أحدا من العلماء قال بقول مالك" [13] .
فكيف لمن أراد أن يحج عن أكثر من واحد أن يأتي بالواجب على قول جمهور الفقهاء أو يأتي بالركن على قول مالك رضي الله عنهم جميعاً.(24/243)
وقبل هذا كله كيف يأتي بالإحرام والنية عنهم جميعاً في وقت واحد وهي شرط أو ركن على اختلاف بين الفقهاء بشرط أن يكون الإحرام من الميقات. وقد نصَ الحنفية على أن "من أحرم على آمِريه ضمن النفقة ومعناه أن رجلاً أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة- فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة، لأنه خالفهما، والمسألة على ثلاثة أوجه: 1- إما أن يكون أحرم عنهما جميعاً.2- أو عن أحدهما غير معين 30- أو أطلق, فإن نواهما جميعاً وهي مسألة الكتاب فقد خالفهما، لأن كل واحد منهما أمره أن يخلص له الحج وأن ينويه بعينه عند الإحرام فإن لم يفعل صار مخالفاً ولا يكون عن أحدهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فوقع عن المأمور" [14] .
ونص الحنابلة على أنه "إذا استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه، وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه، لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوِها فمع نية أولى 000" [15] .
ولا أعتقد هذا إلا قول سائر الفقهاء لحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب لي، فقال:"حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حج عن نفسك تم حج عن شبرمة". خرجه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان.
والحج هو القصد إلى معظم وهو البيت الحرام، ولو كان الجمع بين النيتين جائزا لقال له عليه الصلاة والسلام: "انو عن نفسك وشبرمة" ولكنه عليه الصلاة والسلام قال له: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين نسك واحد وهو الحج عن اثنين في عام واحد.(24/244)
وإن أفرد الإحرام من الميقات عن واحد ثم أتى بالأركان عنه فكيف يتسنّى أن يحرم عن آخر وآخر وآخر قبل التحلل من الإحرام الأول. ولا يكون التحلل إلاّ برمي جمرة العقبة الأولى ثم الذبح فالحلق الذي يكون به التحلل وهذا قطعاً يكون بعد طلوع فجر يوم النحر وبعد شروق الشمس على ما هو الراجع من أقوال الفقهاء.
وإذا أحرم قبل التحلل يكون رافضا للإحرام الأوّل كما إذا كان محرما بالعمرة ثم نوى الحج يكون رافضا للعمرة ولابد للإحرام لأهل مكة ومن في حكمهم للحج من الحرم أي أنه يجب عليه أَن يترك عرفات ويخرج إلى الحرم الذي حده التنعيم ثم يعود مرة أخرى إلى عرفات فيقف بها ثم يعود مرة أخرى ليحرم عن الآخر وهكذا يكون حجا مكوكيًّا لا إخلاص فيه ولا تفرغ فيه للدعاء وكل همه أن يحصِّل الإحرام عمن قبض منهم الذين يزيدون في بعض الأحيان على العشرة كما أخبرني السائل بذلك.
ثم إن الدماء التي تجب عليه لمجاوزة الميقات وهو ميقات أهل اليمن بالنسبة للهند وسنغافوره وهو (يلملم) ودم لتركه الوقوف بعرفات والإفاضة قبل الغروب على من تجب؟ إنها تجب على النائب لأنه هو الذي تسبب في ذلك.
فليتق الله من يفتي بجواز الحج والاستنابة عن أكثر من واحد في عام واحد حيث لا دليل له لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح أو فاسد. ولا يقال إنه اجتهاد منه، لأنه لا اجتهاد مع النص كما قرر ذلك العلماء.
وما يفعله إنما هو أكل لأموال الناس بالباطل وتضليل للسُّذّج من عوام المسلمين وتغرير بهم.
اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وبالله التوفيق.
وهو حسبي ونعم الوكيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري1/47 ومسلم رقم (16) في الإيمان. انظر شرح السنة للبغوي1/17-18.(24/245)
[2] المغني لابن قدامة 3/220 المطبعة اليوسفية.
[3] خرجه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب وانظر فتح القدير للشوكاني 1/362-365.
[4] سبل السلام 2/183_184، المغني لابن قدامة 3/227_228.
[5] الاختيار 1/171، القوانين الوضعية ص147.
[6] سبل السلام 1/127.
[7] نفس المصدر 3/79.
[8] المغني لابن قدامة 3/231-232.
[9] المصدر السابق ص233.
[10] خرجه أبو داود وابن ماجه.
[11] انظر الجوهرة النيرة 1/157، الاختيار 1/150، بداية المجتهد 1/362، كفاية الأخيار 1/136، المغني لابن قدامة 3/414.
[12] بداية المجهد 1/362، المغني لابن قدامة 3/114، الموطأ1/390، القوانين الفقهية ص152.
[13] بداية المجتهد/1/362 المغني لابن قدامة 3/114 الموطأ القوانين الفقهيةص152.
[14] تبين الحقائق للزيلعي2/236.
[15] المغني لابن قدامة3/236.(24/246)
الرق في الجاهلية والإسلام
للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
هل في الإسلام رق؟
الإسلام لا يبيح أن يسترق مسلم مسلما مهما كانت الدوافع العدائية بينهما، فالمسلم المولود من أبوين حرين لا يجوز استرقاقه في أي حال من الأحوال، فالاسترقاق لا يجوز بين أهل الدين الواحد, بل لقد جاء في القرآن الكريم النهي عن مقاتلة المسلمين بعضهم بعضا.
يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات الآية 9) .
وكذلك لا يبيح الإسلام للمسلمين استرقاق أهل الكتاب الذين يعيشون بينهم والذين أمنّهم على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.
وكذلك الذين ليس لهم كتاب كعبدة الأوثان، والذين لم نحاربهم فالصحيح أن استرقاقهم لا يجوز مطلقا.
ولقد أغلق الإسلام كل أبواب الرق التي كان السابقون يتخذونها ذريعة إلى الاستعباد والتحكم الأعمى في رقاب بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على جميع المخلوقات وأَحل لهم الطيبات وجعل فيها رزقهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء الآية 70) .
فلا أسر بدون حرب، ولا نهب للناس، ولا استعباد بالدَّيْن أو المراهنة أو القوة أو الاستحسان.
ولقد حاول الإسلام جهده أن يلغي ذلك النظام ويحول دون انتشار الرق بشتى الوسائل فقد قال فقهاء الإسلام:(24/247)
"إن كل من أسلم قبل الأسر في الحروب بين المسلمين وغير المسلمين عصم نفسه وماله وإن مجرد دخول العدو المحارب دار الإسلام أمان له من السبي وإذن فالرق الموجود في الإسلام إنما يكون في حالة واحدة هي الحرب التي شرعها الإسلام لحماية الدعوة والدفاع عن أنفس المسلمين كما جاء في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج الآيات 39- 41) .
فهذه الآيات تفيد ما يأتي:
أولا: أن تشريع القتال في الإسلام إنما كان لحماية الدعوة، وحماية المؤمنين المضطهدين فهو دفاع لا هجوم ووسيلة لغاية شريفة.
ثانيا: أن القتال من هذا النوع هو من باب ما يقال (القتل أنفى للقتل) فالمراد به هو استقرار السلام وضمان الحريات العامة, فالحرب التي يقوم بها المسلمون لحماية دعوتهم تستوجب ظهور الإيمان ونصرة العقيدة، بدون إكراه لغيرهم، فلقد كانت بيوت العبادة لليهود وللنصارى قائمة بجانب المساجد وكانت هناك دائما حرية العبادة للجميع.
ثالثا: أن الغاية من حرب الإسلام هي أن يتمكن المسلمون من إقامة شعائر الدين بكل حرية ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
ومعنى ذلك أن يتحقق وجود العالم الأفضل الذي أراده الله لعباده وتستأصل الرذائل والشرور من هذه الأرض [1] .(24/248)
فإذا قامت الحرب واشتدت وتعرض الطرفان للقتل والأسر فماذا سيصنع الأعداء بأسرى المسلمين؟
لا شك في أنهم سيأخذونهم رقيقا عندهم. فهل يطلق المسلمون الحرية لأسرى أعدائهم بينما المسلمون الأسرى هم عبيد لغيرهم يباعون ويشترون؟.
لذلك نجد الإسلام جعل هذه الحالة ضرورة وقتية تزول بزوال أسبابها ودوافعها.
وجعل أيضا معاملة العدو بمثل معاملته، وحيث أنه لم تكن هناك قوانين عامة تحمي أسرى الحرب من الاسترقاق، فليس هناك وسيلة للضغط على العدو من أجل تحسين معاملة الأسرى الذين يقعون في يده ومحاولة استخلاصهم من الرق.
والإسلام لم يوجب هذا الاسترقاق الذي جاء عن طريق الحرب، بل أباح الخيار بين أن يقبل الفداء من أسرى العدو أو يمن عليهم بإطلاق سراحهم بدون فداء، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة. فقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد الآية 4) .
ولقد تأسى الخلفاء الراشدون والصالحون من بعدهم بما جاء به القرآن الكريم وما فعله الرسول الأمين، فكثيرا ما كانوا يمنون على الأعداء المقاتلين بالفداء أو بدونه ويتركونهم ابتغاء وجه الله وكثيرا ما كانت هذه المعاملة الحسنة تأسر قلوبهم.
ولقد وجدنا البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي قائد الحروب ضد الصليبيين يطلق آلاف الأسرى من أعداء الإسلام الذين أتوا من أوروبا يقصدون الاستيلاء على البلاد وإهلاك العباد والذين هاجموا بلاد المسلمين وكبدوها من الخسائر في النفوس والأموال الكثير [2] .
ولن ينس التاريخ ما فعله الرسول الأعظم بأسرى غزوة بدر فقد جعل المفاداة لهم بالمال أو بأسرى مسلمين أو بالقيام بعمل شريف نبيل كتعليم العلم فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم فداء كل أسير تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة.(24/249)
وتغنى شعراء المسلمين بالمن على الأسرى وإطلاق سراحهم وجعله من أكرم الصفات وأنبل الأفعال إذ يقول شاعرهم:
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
الإسلام يدعو لتحرير الرقيق:
اعتبر الإسلام الرق عارضا حتى قال العقاد رحمه الله: "شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق؛ إذ كان الرق مشروعا قبل الإسلام في القوانين الوضعية والدينية بجميع أنواعه: رق الأسر في الحروب، ورق السبي في غارات القبائل بعضها على بعض، ورق الاستدانة أو الوفاء بالدين" [3] وغير ذلك مما كان القوم يستحدثونه.
ولهذا شرع الإسلام وسائل كثيرة إن حصل رق في حرب وذلك مساعدة للأرقاء على استرداد حريتهم، واستقلالهم، فأوصى الله سبحانه وتعالى بالأرقاء وبالدعوة إلى إطلاق سراحهم. وكما أوصد الإسلام كل أبواب الرق المحرمة فإنه فتح أبواب التحرير على مصاريعها لأنه يدعو إلى الحرية ورفع نير الاستعباد والاضطهاد وإزالة كل وسائل الامتهان والاحتقار والسخرية والازدراء، وبهذا ألغى جميع صور ومصادر الرق الأخرى المبنية على الظلم والجور والحيف والتعسف واعتبرها محرمة شرعا لا تحل بحال.
دعا الإسلام إلى مكاتبة الأرقاء، وندب إلى إعتاقهم وحث على ذلك فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور الآية 33) .
ومما ورد في سبب نزولها ما أخرجه ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: "كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتاب فأبى فنزلت الآية" [4] .(24/250)
بل لقد نهى الشرع الحكيم عن استخدام الرقيق فيما حرم الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور الآية 33) .
ومما ورد في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس بسند صحيح قال: "كانت لعبد الله بن أبيّ جارية تزني في الجاهلية فلما حُرّم الزنا قالت: لا والله لا أزني أبدا فنزلت" [5] .
وجعل الشرع الحكيم وسائل فردية تحرى فيها الإسلام العتق وتعجيل فكاك الأسرى ومن ذلك جعله العتق كفارة عن كثير من الذنوب كالقتل الخطأ فقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (النساء الآية 93) .
فمما ورد في سبب نزول هذه الآية أن الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي كان يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية. [6] .
كذلك إذا حنث المسلم بيمينه فإن كفارته أيضا عتق رقبة قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة الآية89) .(24/251)
وكذلك الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (المجادلة الآية3) .
روت عائشة قالت: "تبارك الله الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} " [7] .
أيضا يحسب من الرذائل المأخوذة على الإنسان السيئ أنه لا يقتحم هذه العقبة أو لا ينهض بهذه الفدية المؤكدة, إنها سبيل إلى رحمة الله، وطريق إلا جنته: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد الآيات 11- 15)
وأيضا فقد جعل الشرع الحكيم للإعتاق بابا من أبواب الزكاة، وقسمها سبحانه وتعالى بنفسه وجعل فيها سهما مفروضا لتحرير الرقاب.
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة الآية 60) .
ففي الرقاب إنما يكون العتق.
وبجانب القرآن نجد السنة توضح وتبين أسبابا للعتق فمن أوجب على نفسه تحرير رقبة بالنذر وجب عليه الوفاء به متى تحقق له مقصوده وتم له مراده.(24/252)
قال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
كذلك من أعتق نصيبه من مملوك عتق عليه كله بالسراية وسلَّم قيمته لشركائه إن كان موسرا، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى العبد غير مشقوق عليه".
وكذلك من ملك ذا رحم محرم عليه كأبيه وأخيه وعمه وخاله، وأمه وعمته وخالته عتق عليه قهرا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" رواه أهل السنن.
أيضا من جرح مملوكه عتق عليه، فقد جاء في الحديث: أن رجلا جدع أنف غلامه فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر"فقال: يا رسول الله فمولى من أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "مولى الله ورسوله".
وأيضا التدبير وهو تعليق عتق الرقيق بموت مالكه روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دبر رجل من الأنصار غلاما له وفى لفظ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه".
وإذا وطئ حر أمته فأتت منه بولد صارت أم ولد له تعتق بموته لحديث ابن عباس يرفعه: "من وطئ أمته فولدت فهي معتقة عن دبر عنه" رواه أحمد وابن ماجه.
القول يتبعه العمل:
لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل لنقتدي به فكثيرا ما كان يحث الصحابة على حسن معاملة الرقيق وهي القلة الباقية ثم حضهم على العتق والحرية.(24/253)
فعن واصل الأحدب قال: سمعت المعمور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: ساببت رجلا فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟! ثم قال: إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ... ".
وعن ابن مسعود قال: "بينما أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي: إعلم يا ابن مسعود مرتين فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت السوط من يدي فقال: والله لَلّه أقدر عليك منك على هذا".
وبلغ من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيق أحدا أن يقول: كان عبدي وأمتي وأنه أمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا فتاي وفتاتي.
وكان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء ونشر المساواة بين المسلمين.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا على دابة وغلامه يسعى خلفه فقال: "يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله".
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما مؤمن أعتق مؤمنا في الدنيا أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا من النار".
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال صلى الله عليه وسلم: اعتقوا عنه يعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا من النار".(24/254)
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: اعتق النسمة، وفك الرقبة فقال: أو ليسا واحدا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين على فكاكها".
ولعل ما عبر عنه القرآن الكريم في سورة البلد فيه خير كثير، فقد منّ الله على عباده بالنعم التي أنعم بها عليهم فقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم قال بعد ذلك جل وعلا: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد الآيات 11- 16) .
ولقد ضرب لنا الصحابة المثل الأعلى في معاملة أرقائهم، فساووهم بأنفسهم بل أحيانا كان يفضل الواحد منهم عبده على نفسه.
فقد روي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "إني لأستحي أن أستعبد إنسانا يقول ربي الله".
ومما روي عن علي أنه أعطى غلاما دراهم ليشتري بها ثوبين متفاوتي القيمة، فلما أحضرهما أعطاه أَرقهما نسيجا وأغلاهما قيمة وحفظ لنفسه الآخر وقال له: "أنت أحق مني بأجودهما لأنك شاب وتميل نفسك للتجمل أما أنا فقد كبرت".
ولقد عني الإسلام بنفسية الأسير والرقيق عناية خاصة فقال سبحانه وتعالى يطيب خاطرهم ويفتح باب الأمل في المغفرة وحسن الجزاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنفال الآية 70) .(24/255)
ولقد أثنى على الإسلام ومعاملته للرقيق كثير من المنصفين من الأوروبيين والمستشرقين، فقد وصف المستشرق (فان دنبرغ) معاملة الإسلام للرقيق في هذه العبارة: "لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تسير في طليعة الحضارة".
نعم إن الإسلام لم يلغ الرق الذي كان شائعا في العالم، ولكنه عمل على كثير من إصلاح حاله، وأبقى حكم الأسير ولكنه أمر بالرفق.
يقول جوستاف لوبون: "إن الرق عند المسلمين غيره عند النصارى فيما مضى، وإن حالة الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، فالأرقاء يؤلفون جزءاً من الأسرة ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانا- أي بعد أن يُعتقوا- ويقدرون أن يتسنموا أعلى الرتب، وفى الشرق لا يرون في الرقيق عارا، والرقيق فيه أكثر صلة لسيده من الأجير في بلادنا" [8] .
لماذا لم يبدأ الإسلام بإلغاء الرق؟
إن الإسلام قد وضع الأساس الأول لإلغاء الرقيق منذ خمسة عشر قرنا من الزمن، ولم يحاول أن يلغيه كما يقولون: بجرة قلم؛ لأن الإسلام دين إصلاح لا هدم، ولو دعا إلى تحرير كل العبيد لاهتز كيان العالم وفسدت المصالح وتعطلت حاجات الناس، وما استطاعوا في ذلك الوقت أن يأخذوا سيرهم في الحياة، فكانت الظروف الاجتماعية التي كانت موجودة عند ظهور الإسلام تحتم على كل مشرع حكيم أن يقر الرق في صورة ما، وتجعل محاولة إلغائه تصاب بالفشل والإخفاق.
وأيضا فإن الإسلام لم يقر الرق إلاّ في صورة تؤدي نفسها إلى القضاء عليه بالتدريج.(24/256)
يقول الأستاذ د. علي عبد الواحد وافي: "ظهر الإسلام في عصر كان نظام الرق فيه دعامة ترتكز عليهما جميع نواحي الحياة الاقتصادية، وتعتمد عليها جميع فروع الإنتاج في مختلف أمم العالم، فلم يكن من الإصلاح الاجتماعي في شيء أن يحاول مُشرّع تحريمه تحريما باتا لأول وهلة؛ لأن محاولة كهذه كان من شأنها أن تعرض أوامر المشرع للمخالفة والامتهان, وإذا أتيح لهذا المشروع من وسائل القوة والقهر ما يكفل به إرغام العالم على تنفيذ ما أمر به فإنه بذلك يعرض الحياة الاجتماعية والاقتصادية لهزة عنيفة، ويؤدي تشريعه إلى أضرار بالغة لا تقل في سوء مغبتها عما تتعرض له حياتنا في العصر الحاضر إذا الغي بشكل مفاجىء نظام البنوك أو الشركات المساهمة فيكون ضررها أكثر بكثير من نفعها" [9] .
ولقد استخدم الإسلام في بعض الأحيان طريق التدرج في تحريم الخمر، وقد كان العرب من أكثر الناس تناولا لها، فلو حرمت مرة واحدة لأدى ذلك إلا تفكك المجتمع وتمسك البعض بها. فبين الشارع الحكيم ضررها أولا ولم يحرمها في بادئ الأمر ثم حرمها عند إرادة الصلاة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء الآية 43) .
وفي المرتين امتنع بعض الناس عن تناولها ثم بعد ذلك حرمها مطلقا.
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة الآية 90) .
ثم يقول الأستاذ د. عبد الواحد وافي: "وبذلك كفل الإسلام القضاء على الرق في صورة سليمة هادئة وأتاح للعالم فترة للانتقال يتخلص فيها شيئا فشيئا من هذا النظام" [10] .
أثر الرق في الإسلام:(24/257)
كان سبب الرق في الإسلام وقوع الكافر أَسيرا في يد المسلمين عند الحرب، فإذا حارب المسلمين الكفارُ فمن وقع أسيرا في يد المسلمين عند الحرب جاز للإمام أن يسترقه رجالا كانوا أو نساء وكان الأرقاء يوزعون على المسلمين غنائم حرب كما نص عليه الشرع الحكيم وكما جاء في القرآن الكريم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال الآية 41) .
ولما كان الإسلام يستبيح الرق في حالة الحرب، وقد انتصر في المعارك التي خاضها في أول العهد بالدعوة فقد كثر الأسرى والرقيق، وكان وجودهم مع العرب بالكيفية التي حث الإسلام على اتباعها معهم له أكبر الأثر في عملية المزج بين العرب وغير العرب حيث فتحت بلاد كثيرة من غير العرب في الشام والعراق وبلاد فارس ومصر وشمال إفريقيا على مر العصور والأزمنة.
ووجد العرب في الإماء والرقيق خير عون على الحياة، وتزوج كثير من الأرقاء- بعد عتقهم- بالعربيات، ولم يروا في ذلك عيباً ولا غبار عليه، وبالتالي تسرى وتزوج كثير من العرب بالإماء من غير العرب وحصل مزج كان له أكبر الأثر في الحياة العقلية، ودخل البيت العربي عناصر فارسية، ورومانية، وسورية، ومصرية، وبربرية، وبطريق التناسل اختلط الدم العربي بغيره من الدماء، فأنتج أعظم العقول المفكرة.(24/258)
يقول الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار: "إن الصحابة رضي الله عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد ملك الفرس، فباعوا السبايا وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضا، فقال له علي بن أبي طالب: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن, فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ قال يُقَوّمن, ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن، فقوّمن فأخذهن علي بن أبي طالب فدفع واحدة لعبد الله بن عمر وأخرى لولده الحسين وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولد عبد الله بن عمر ولده سالما وأولد الحسين زين العابدين وأولد محمد ولده القاسم فهؤلاء الثلاثة بنو خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد" [11] .
ويقول المبرد في كتابه الكامل: "وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسين وقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السراري" [12]
ويقول أحمد أمين رحمه الله: "هؤلاء الأرقاء والموالي أنجبوا في الجيل الثاني لعهد الفتح عددا عديدا، يعد من بعد، من سادات التابعين وخيرة المسلمين، ومن حملة لواء العلم في الإسلام" [13] .
ولما كان عدد الزوجات في الإسلام مقيدا بالأربع وليس مقيدا بالنسبة للإماء، فقد عاشر المسلمون كثيرا من الإماء، وأنجبوا كثيرا من الأولاد والبنات وكثيرا ما كان العرب ينجبون لأنهم يفتخرون بكثرة الأولاد وبذلك اختفى النظام القبلي الذي كان أساس المجتمع العربي من القديم، ولم يقيموا وزنا للدم العربي، ولم يعد لانتقاء الزوجة العربية أي أثر، ووصل بعد ذلك الذين أمهاتهم من الرقيق إلى الخلافة مثل يزيد الثالث في الخلافة الأموية فإن أمه غير عربية، فقد كانت فارسية أسرها القائد قتيبة في الصغد ثم أهداها إلى الوليد فولدت له يزيد.(24/259)
وكذلك العباسيون فالمنصور ابن أمة من البربر والمأمون ابن أمة فارسية، ومثله الواثق والمهتدي، وكانت أم المنتصر يونانية أو حبشية، وأم المستعين صقلية وأم المكتفي والمقتدر كانتا تركيتين وأم المستضئ أرمنية، وكانت الخيزران نفسها أم الرشيد أجنبية وهي أول امرأة اضطلعت بسلطة واسعة في شئون الدولة العباسية [14] .
ولقد أثر الرقيق في حياة الدولة في جميع مناحي الحياة السياسية والدينية والعلمية والأدبية، توصل بعضهم إلى الوزارة والكتابة إلا أن الدولة اتجهت بالرقيق غير الاتجاه الإسلامي الصحيح فدخلوا في سوق النخاسين يشترون العبيد المخطوفين والمنهوبين، والذين يؤتى بهم بطريق غير شرعي، فاشتروا كثيرا من العبيد من أوروبا وأطلقوا عليهم المماليك، ووصل إليهم الكثير من بلاد الروم وغيرها من الصرب والممالك المجاورة ومن بلاد فارس، واتخذوا منهم العسكر والجيوش التي يحاربون بها بعضهم بعضا أو يحاربون بها الأعداء إلا أنهم في النهاية يقتلون الأسياد والخلفاء ويستولون على الحكم كما حصل في أواخر الدولة العباسية.
ولا يحتج بهم على التشريع للرق في الإسلام لأن أعمالهم وعمل من أتى من بعدهم ليست من الإسلام والإسلام بريء منها لأن معظم الرقيق والجواري لم يكونوا عن طريق حرب إسلامية يدافع فيها المسلمون عن عقيدتهم، وإنما كان عن طريق شراء المخطوفين والمخطوفات والراغبين والراغبات وغير ذلك مما يتبرأ منه الإسلام والمسلمون.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التوجيه الاجتماعي ص9 موضوع الرق للأستاذ عبد الله كانون.
[2] التوجيه الاجتماعي مقال ((الرق)) للأستاذ عبد الله كانون.
[3] حقائق الإسلام للعقاد ص209.
[4] أسباب النزول للسيوطي سورة النور.
[5] أسباب النزول للسيوطي سورة النور.(24/260)
[6] أسباب النزول للسيوطي سورة النساء.
[7] أسباب النزول للسيوطي سورة المجادلة.
[8] حضارة الإسلام لجوستاف لوبون ص459.
[9] حقوق الإنسان في الإسلام ص140.
[10] حقوق الإنسان ص 141.
[11] فجر الإسلام ص108،الطبعة الحادية عشر. النهضة.
[12] فجر الإسلام ص109،الطبعة الحادية عشر. النهضة.
[13] فجر الإسلام ص108، 109 الطبعة الحادية عشرة _النهضة.
[14] تاريخ العرب فيليب حتى ص 409.(24/261)
دراسات في أصول الفقه
تدرج علم الأصول عبر الأجيال والعصور
للدكتور علي أحمد محمد باكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
مبدأ أصول الفقه:
إذا علمنا أن علم أصول الفقه في أشمل تعريفاته هو: أدلة الأحكام الشرعية- أي مصادرها- وكيفية أخذ الأحكام منها، فإنا نرتب على ذلك أن هذه الأصول قد بدأ وجودها مع البعثة المحمدية ومنذ بدأ القرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأصلت جذورها خلال الثلاثة والعشرين عاما التي هي فترة اكتمال الرسالة الإسلامية. ففي هذه الفترة تكوّن الأصل الأول والمصدر الرئيسي للفقه الإسلامي وهو القرآن الكريم، وفي ذات الفترة تكوّن أيضا الأصل الثاني للفقه وهو السنة النبوية.
وقد أرسى هذان المصدران أسس وقواعد الفقه التي تبلورت فيما بعد في شكل علم منفصل قائم بذاته سمي علم أصول الفقه، كما سنفصل القول في ذلك لاحقاً إن شاء الله.
النظم السابقة للإسلام ليست رافداً من روافد الأصول:
مما هو معلوم أن المجتمعات التي عاشت قبل الإسلام كان لها بعض أعراف وتقاليد ونظم تسير عليها. كانت بعض هذه المجتمعات مكوّنة في جزيرة العرب وبعضها خارج الجزيرة.
ومهما بدا للناظر من عدالة بعض تلك النظم والأعراف فإن مما لا شك فيه أنها كانت ترتكز على ابتداعات البشر المعرضة للانحراف عن العدل فجاء كثير منها واضح الظلم والجور. وسنبين ذلك-إن شاء الله- في الفقرات التالية.(24/262)
لنأخذ مثلا المجتمعات التي كانت مكونة في بعض مدن الحجاز- مكة والمدينة على وجه الخصوص- فمكة مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة منطلق دعوته. فقد كانت المجتمعات التي تعيش في هاتين المدينتين لا تنتظمها الدولة حقيقية مع أنها أكثر المدن تحضرا. فكان يسودها- كما هو معلوم- نظام القبيلة الذي يكون فيه الشيخ هو المصّرف لجميع الأمور. وهو المرجع لأفراد القبيلة في خصوماتها ومنازعاتها، وإن كان يشاركه في بعض الأوقات بعض الرجال من ذوي الرأي من العشائر والبيوت. فقد نجد بعض الأفراد يلجأون إلى بعض ذوي الرأي لفض بعض الخصومات أو لتلقي المشورة. لكن شيخ القبيلة يظل المرجع الأهم والأعلى في هذا المضمار.
ويستند شيخ القبيلة وذوي الرأي ممن يطلب منهم إصدار الأحكام على الأسس التالية:
أولا: العرف والتقاليد الجارية في القبيلة.
ثانيا: العقل المجرد وما يستحسنه الحاكم.
فهم لا يستندون إلى أصول مدونة ولا يرجعون إلى قوانين مكتوبة. وبديهي أن أحكاما كهذه معرضة للأخطاء والحيف. فالعرف يمكن أن يكون عرفا فاسداً فبناء الأحكام عليه يقود إلى الاستمرار في الفساد والخطأ. فالعرف كما هو معلوم ينتج عن الممارسات البشرية التي ربما يبتدعها مزاج فاسد.
والعقل المجرد واستحسان الحاكم يتأثر بالطبع بميول الحاكم وظروفه وقوًته وضعفه، وقوة وضعف الخصوم ومكانتهم عنده.(24/263)
ومن هنا ندرك أن هذه الأسس التي كانوا يستندون عليها كانت أسساً واهية، خاصة وأنهالم تكن مدَونة ولا خاضعة لمنهج. وبالتالي لم تكن لتلك الأحكام التي تقوم على تلك الأسس الضعيفة احترام أو التزام من جانب كثير من الأفراد, فهم يقبلونها متى ما أرادوا, لا توجد قوة معنوية أو حسية تلزمهم بالامتثال. ومهما قيل من أن بعض مدن الحجاز كانت قبل الإسلام قد وصلت إلى قدر من التطور في نظام الحكم فإن ذلك لا يرقى إلى أن يقال إن الأحكام التي كانت تُتّبع كانت قد ارتقت إلى درجة اعتبارها مستقاة من مصادر عامة وثابتة، أو أن تلك الأحكام كانت لها أسس وقواعد ترتكز عليها في استنانها.
أما النظم والأحكام التي كان يطبقها اليهود الذين نزحوا وأقاموا بالمدينة قبل الإسلام فإنها لم تكن معتمدة على التوراة المنزل على موسى عليه السلام بل كانت من نتاج أفكار أحبارهم بما يتفق مع مطامعهم وأغراضهم. وكما هو معلوم فإن تحريفهم وتبديلهم للدين اليهودي، أصوله وفروعه، كان واضحاً قبيل الإسلام فقد مسخوا الأحكام التي نزلت على موسى مسخا ومنذ زمان بعيد.
موقف الإسلام من هذه النظم:(24/264)
هذه النظم المذكورة آنفا والتي وجدها الإسلام في مكة والمدينة أبطلها الإسلام ليحل محلها ما جاء به القرآن ووردت به السنة من مبادئ وأسس وأصول وفروع, وأصبحت الحياة الاجتماعية كلها خاضعة لهذه المبادئ الإسلامية الجديدة. وما ظهر من أن الإسلام أبقى بعض الأحكام التي كانت مطبقة في الجاهلية أو كان يمارسها اليهود فإن ذلك الإبقاء كان لما أتفق مع مبادئ الإسلام وليس أخذاً من مصدر آخر سابق للقرآن والسنة، وما اتفق مع ما كان لدى اليهود ليس أخذا من مصادرهم ولكن اعتمادا على الوحي الذي يتنزل بالصحيح من المبادئ والأحكام التي نزلت على الرسل السابقين ولا عبرة بما لم يتنزل به القرآن فالذي صح من الديانات السماوية السابقة هو ما تنزل به القرآن وبينته السنة [1] نعم إن الله تعالى شرع لنا من الدين ما شرعه على النبيين السابقين {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى الآية 13) .
ولكن ما شرع للأنبياء السابقين لا يكون شرعا لنا إلاّ إذا جاء به القرآن أو وردت به السنة.
والقسامة [2] التي كان معمولا بها في الجاهلية فعمل بها جمهور الفقهاء في الإسلام استنادا على حديث متفق عليه مختلف في ألفاظه ولم يعمل به آخرون من العلماء لمخالفتها لمبادئ الشرع الأخرى مثل أن يكون المُقْسم مقسما على ما علم قطعا، هذه القسامة حتما قول من أخذ بها من الفقهاء في الإسلام فليس معنى ذلك أننا استقينا الحكم من أصل جاهلي ولكن استقيناه من أصل السنة النبوية لأن في العمل بها الاحتياط للدماء، لأن القاتل يحاول دائما أن يرتكب جرمه بعيدا عن أعين الناس, فكان فيها استثناء من قواعد الشرع لحفظ النفوس الذي هو من مقاصد الشريعة وأهدافها.(24/265)
أما استخدام العقل لاستخراج الأحكام الشرعية عن طريق القياس في الشريعة فلا يشبه استخدام العقل الذي عمل به في الجاهلية لنفس الغرض. ففي الجاهلية استخدم العقل من غير ضوابط غير استحسان شيخ القبيلة أو من يوكل إليه أمر الفصل في نزاع. أما في الإسلام فالعقل البشري مقيّد ومضبوط بضوابط الشرع وحدود المصلحة الإسلامية.
والعرف الذي عمل به الجاهليون فقد ألغاه الإسلام إلاّ ما اتفق مع مبادئه- وبذلك نصل إلى أن ما سبق الإسلام من نظم لم يكن رافدا من روافد أصول الفقه في الإسلام. والذي دفعنا إلى الحديث في هذا الأمر ما يثيره بعض المغرضين من أن التشريع الإسلامي أخذ من بعض النظم السابقة له. وكذلك دفعنا للتعرض لهذا الموضوع ما أثاره الأصوليون أنفسهم من نقاش حول ما إذا كان شرع من قبلنا هو شرع لنا.
إرساء القرآن لأسس الفقه:
لقد أرسى القرآن الكريم أسس الفقه في الفترتين ما قبل الهجرة وما بعدها. ومع ما يلاحظ من أن فترة ما قبل الهجرة كان القرآن يركز فيها على تأكيد العقيدة وتمكينها بالدعوة إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيِّين، والابتعاد عن الإشراك بالله، والتذكير بنعيم الآخرة وعذابها، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والابتعاد عن مساوئها [3] مع التركيز على أصول الدين والعقيدة فإن الآيات المكية قد اشتملت على بعض آيات الأحكام الشرعية العملية مثل آيات تشريع الصلاة والزكاة إجمالا.
أما السور والآيات المدنية والتي ركزت على إرساء التشريع والأحكام الفقهية العملية، فإننا نجدها تشتمل على الكثير من الآيات التي تثبت العقيدة وأركانها وتنفر من الكفر ومغباته وعواقبه، وتحكى القصص للاعتبار, فهي لم تقتصر على آيات الأحكام بل فاضت بآيات العقيدة وأصول الدين [4] .(24/266)
فالقرآن الكريم وحدة متكاملة وكتاب منزل على نسق واحد وأسلوب واحد ولأجل هدف واحد. فكون للآيات المكيةّ خصائص وللآيات المدنية خصائص لا يعني أن القرآن منقسم إلى قسمين لكل دوره المستقل الذي يؤديه كما يروج لذلك الدائبون على حرب الإسلام ومحاولة هدمه. فكل ما في الأمر أن سُنّة التدرج وتقديم الأهم في ظرف ما اقتضت تكثيف آيات العقيدة في مكة وتكثيف آيات التشريع في المدينة. ولو لم يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة جميع حياته لنزل القرآن الكريم كما هو واكتمل الدين كما اكتمل ولتمت النعمة كما أتمها الله.
ولعلنا استرسلنا في هذه المسألة التي سيكون لها مبحث في مكان آخر من هذه الدراسة إن شاء الله عندما نتحدث عن الكتاب الكريم، وإنما أشرنا إليها هنا لنتمكن من الحديث عن أن القرآن الكريم هو الأصل الأول من أصول الفقه، وبذلك فهو مبدأ هذا العلم وأساسه ومنشؤه. وما درج عليه الأصوليون من أن علم الأصول بدأ بعد بداية علم الفقه، وأن علم الفقه نفسه بدأ عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المقصود به بداية تنظيم العلم وكتابته وتسميته بهذا الاسم الاصطلاحي, وهذا لا خلاف عليه, وأما الذي قصدناه هنا فهو أن حقيقة الأصول ونشوءها وإرساء قواعدها بدأ تكوينها منذ بدء الرسالة واكتملت مع اكتمال القرآن والسنة، ثم جاء فصلها في علم خاص لاحقا، ولم يسبق تكوين الأصول أو يتأخر مبدؤه عن بدء البعثة المحمدية.
وفيما يلي سوف نعطي نبذة عن علم الأصول في مراحله المختلفة ابتداء من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وستكون هذه النبذة مائلة إلى الإجمال، ثم نتعرض بعد ذلك للأصول التي سيرد ذكرها في هذا العرض بشيء من التفصيل والمقارنة، موضحين أوجه الاتفاق والاختلاف بين المراحل المختلفة وبين المدارس الفقهية المتعددة.
أصول الفقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(24/267)
مما لا يختلف عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته المرجع للأحكام الشرعية- فعنه صلى الله عليه وسلم تصدر الأحكام التي يوحيها له الله تعالى قرآنا كريما متلواً مرتلا أو يلهمه إياها تعالى فتأتي سنة نبوية شريفة. فمصدر التشريع كان الوحي الإلهي الذي يأتي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصدر الأحكام من خلال القرآن والسنة كان يرسي من خلال هذين المصدرين الرئيسيين أصول الفقه الأخرى وقواعد الاجتهاد والبحث عن الحكم الشرعي. فأصول الفقه وقواعده التي تزخر بها كتب الأصول تستمدد شرعيتها وصلاحيتها من القرآن والسنة وتسترشد بها إلى غايات وأهداف الشريعة. فهي لا تتعارض مع هذين الأصلين الرئيسيين وإلاّ أسقطت من الحساب واعتبرت من الانحرافات التي لا يجوز الأخذ بها.
وعندما نقول أصول الفقه غير القرآن والسنة فإننا نقصد الإجماع والقياس وما يلحق به من أصول تستند على العقل والشرع. وكما أشرنا من قبل فإنه في واقع الأمر لا فصل بين نصوص القرآن والسنة وبين استخدام العقل البشري في استخراج الأحكام. فنصوص القرآن والسنة تتطلب استخدام العقل والنظر في تخصيص العام وتقييد المطلق وترجيح النصوص والنسخ الخ. والاجتهاد العقلي خارج دائرة النصوص ليس اجتهادا عقليا مطلقاً بل يقوم على تأييد النصوص له في المبدأ والمسار.
ويجدر أن نشير هنا إلى الدليل المستقى من الكتاب والسنة على إقرار مبدأ العمل بالأصول الأخرى غير القرآن والسنة من إجماع واجتهاد عقلي، ثم نترك تفصيل ذلك الاستدلال ومناقشته إلى مكانه من الحديث عن هذه الأصول.
إرساء أصل الإجماع في عهد النبوة:(24/268)
هذا المصطلح يعني عند الأصوليين اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم واقعة من الوقائع [5] ولقد قرر العلماء بأن الإجماع بهذا المعنى قد تقررت حجيته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. وجاء عمل الصحابة موافقا لهذا التقرير كما اعتقد التابعون حجية الإجماع بناء على نصوص من القرآن والسنة [6] .
ومما أورده العلماء من الكتاب الكريم كدليل على حجية الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء الآية115) فقد استدلوا بهذه الآية على أن إجماع المسلمين المتمثل في إجماع مجتهديهم حجة يجب اتباعه وتحرم مخالفته كما تحرم مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومما أورده العلماء من السنة النبوية كدليل على حجية الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ".
وقوله: "من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". فقد استدل العلماء بهذين الحديثين أيضا على أن إجماع أئمة المسلمين حجة يجب اتباعه واستقاء الأحكام منه.
بجانب هذه النصوص السالفة فقد أورد العلماء آيات وأحاديث عديدة في هذا المضمار لكنا نكتفي بهذا في هذا المقام عازمين على تفصيل القول في هذه الاستدلالات عند حديثنا عن الإجماع كَأصل ثم مواقف المذاهب المختلفة منه.
وكما أشرنا فقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدليل وعملوا بمقتضاه، وكذلك فعل التابعون, فكان موقفهم دليلا آخر على حجية الإجماع يضاف إلى هذه النصوص.
ومن هنا نستطيع القول أن الإجماع قد تقررت حجيته كَأصل من أصول الفقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوة الإسلام.. تكمن في داخله لأنه دين الله(24/269)
مند قرون والغرب يتجاهل الإسلام ويرى فيه العدو الألد، واليوم فإن المد الإسلامي الذي يشهده العالم، يثير في الغرب الريبة، والخوف، وهذه الأحاسيس العدائية، كانت وراء العمليات الاستعمارية، والامبريالية وبررتها طيلة أكثر من قرن، وجعلت الغرب لا يعترف بجرائمه ومسئولياته.
وكيف يمكن أن نسمي حضارة الغرب، حضارة.. وفي هذا اليوم يخصص الغرب سنوياً 450 مليار دولار سنة 1980م للتسلح في حين أن 0هـ مليون من البشر يموتون جوعا.
إن الإسلام لم يعد ذلك (الدين الكافر) كما كنا نطلق عليه في عهد الصليبية والمسلم لم يعد ذلك (الإرهابي) في عهد التحرر الوطني الجزائري ولم يعد الإسلام قوة عسكرية زاحفة مخيفة ولم يعد الإسلام مجموعة قطع تراثية شرقية محفوظة في متاحفنا.. الإسلام في كلمة هو دين شامل كامل، لا يتجزأ..وهو مجتمع، وهو إلى جانب ذلك أسلوب في الحياة والعقيدة.
الإسلام لم يظهر لأنه جاء آخر الأديان, بل ظهر لأن العالم في حاجة إليه.. ظهر بين يدي رجل واحد.. في جزيرة صحراوية هي العربية السعودية الآن.. كان في ذلك الوقت جماعة قليلة من الناس يعيشون في هذه الجزيرة ومع ذلك استطاع الإسلام أن يؤسس حضارة رائعة امتد تأثيرها إلى اليوم.
عن كتاب (وعود الإسلام) للفيلسوف الفرنسي روجي غارودي
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر الشوكاني _إرشاد الفحول ص210.
[2] وهي أن يوجد قتيل ولا يُدرى من قتله فيدعى ولاة الدم على شخص ما فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا.
[3] تأمل الجزأين التاسع والعشرين والثلاثين من القرآن الكريم.
[4] تأمل مثلا سورة البقرة.
[5] انظر الآمدي _ الأحكام ج1 ص180.(24/270)
[6] انظر أبو الحسين البصري- المعتمد ج2 ص 472.(24/271)
العدد 53
فهرس المحتويات
1-كلمة التحرير - التطور العلمي والفكري في مفهوم الإسلام: لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
2- سبيل الفلاح: للشيخ أبي بكر الجزائري
3- حكم رواة الحديث الذين سكت عنهم أئمة الجرح والتعديل: للشيخ عداب الحمش
4- حول حديث الذباب: للشيخ أمين محمد سالم
5- مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله: للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
6- مفهوم الأسماء والصفات: فضيلة الشيخ سعد ندا
7- الرّاغب الأصفهاني وموقفه من الفرق الإسلامية: للدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي
8- بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
9- رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار: الدكتور أحمد طه ريان
10- يا مسلمون ... عودوا إلى الإسلام: للدكتور محمد محمد الشريف
11- مشروع "اقرأ" لتعليم اللغة العربية عن طريق القرآن: للشيخ أحمد فؤاد البشبيشي
12- حقوق الإنسان في الإسلام: بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
13- أهمِّيَّة الدَّعوة وصفات الدَّاعية: للدكتور محمد بيلو أحمد أبو بكر
14- الحركة السلفية في الهند ودورها في خدمة السنة المطهرة: للشيخ عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
15- من روائع الفتح الإسلامي فتوح الشام: للدكتور محمد السيّد الوكيل
16- من نماذج الدعاة الصالحين الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: الشيخ أبو بكر الجزائري
17- قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى: د. محمد عبد المقصود جاب الله
18- أثر الهجرة على تطور الدعوة الإسلامية وانتشارها في أنحاء العالم: للدكتور محي الدين الألواني
19- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
20- حول الشعر التعليمي (2) : للدكتور صالح آدم بيلو
21- بحث في صيغة (أفعل) بين النحويين واللغويين واستعمالاتها في اللغة: لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
22- يا رب: للدكتور عز الدين علي السيّد
23- في الغار: للشيخ ضياء الدين الصابوني
24- في المشارق والمغارب جنوب شرقي آسيا: الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
25- أصح البشائر في مبعث سيد الأوائل والأواخر: للشيخ محمد المجذوب
26- ملاحظات: حول كتاب عقيدة السلف والخلف (1) : للشيخ عبد القادر السّندي
27- إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن: للشيخ مصطفى الوراق إبراهيم
28- عوض الوراثة في الطّب: للدكتور فكري السيّد
29- حكم الاحتفال بالموالد: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
30- كتاب عن المدينة المنورة: جريدة المدينة المنورة
31- رسالة المدينة المنورة المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة:
32- ماذا يحدث للمسلمين في فطاني؟ : رئيس جبهة التحرير الوطنية الفطانية عن جريدة المدينة المنورة
33- أخبار الجامعة - برقية شكر جوابية من جلالة الملك إلى نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(24/272)
كلمة التحرير
التطور العلمي والفكري في مفهوم الإسلام
لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
التطور حقيقة واقعة في الكون منذ خلق الله الأرض وما عليها، والإنسان - وهو الذي استخلفه الله في الأرض - هو سر الإبداع في هذا التطور فحاجاته لا تنتهي، وتطلعاته لا تقف عند حد، وطموحه دونه أقصى ما يتصوره العقل البشري.
ويصور هذا المعنى الدقيق قول الشاعر:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنّا لنرجو فوق ذلك مرتقى
لقد بلغ الشاعر شأوا من المجد وصل به عنان السماء، ولكنه لم يقنع به، بل ظل يبتغي مرتقى يصعد إليه، وإني لا أشك في أن الشاعر لو علم شيئا أرفع من السماء ما وقف عندها.
تلك فطرة الله التي فطر الناس عليها ولولا ذلك ما عمرت الأرض، ولتوقفت عجلة الحياة في مكانها لا تريم، ولكنا لا نزال نركب الجمال والبغال والحمير، ونعيش في العراء نفترش الأرض ونلتحف السماء، ونستتر بأوراق الأشجار ونلتهم ما نقدر عليه من الوحوش حيا أو ميتا.
إن الحياة التي يحياها الناس الآن دليل واضح على مدى التطور التي أحرزته الإنسانية في عمرها الطويل المديد منذ خلق الله الكون، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، ذلك لأن الإنسان بخصائصه الذاتية امتداد لآبائه وأجداده، فهو وريثهم يتلقف ما تركوه له، ولا يقف عنده بل يحاول دائما أن يشارك في تلك المسيرة، ويدفعها بكل إمكانياته حتى لا تتوقف.
إنني موقن بأن الذين ابتكروا كل ما تتمتع به الإنسانية اليوم من المخترعات لو رأوا ما بلغته مخترعاتهم من التطور لم يندهشوا، لأنهم عندما اخترعوا ذلك كانوا يؤمنون بأن اختراعهم إن هو إلاّ خطوة أولى في مشوار طويل لابد أن يبلغ مداه، بل إنني أعتقد أنهم سيكونون مسرورين عندما يرون المسيرة التي بدءوها لازالت مستمرة على الدرب.(24/273)
وأستطيع بالتالي أن أؤكد هذا المعنى في كل إبداع إنساني وصلت إليه عبقرية ذلك المخلوق الفذ العجيب ومن هنا أستطيع أن أقول: إن أي تطور في الحياة خاضع لتطور الإنسان نفسه، فلولا حاجاته الملحة في الاستطلاع والضرب في الأرض لما اخترع المراكب ولما حاول تطويرها، ولولا ميله الشديد إلى الظهور في المجتمعات بمظهر حسن لما تفنن في ابتكار الأزياء وتحسينها، ولولا ولعه القوي بالسكن الهادئ المريح لما أبدع هذا الإبداع في الفن المعماري، ولولا شعوره بالحاجة الماسة إلى العافية لما عرف الدواء، ولما طوره هذا التطور العجيب، وهكذا.
ولكن لا يزال هناك سؤال ملح لا يفارق عقل الباحث المحقق وهو: ما السر في اختصاص الإنسان بهذا التطور المطرد؟ ولماذا لم يشاركه غيره من المخلوقات؟
إننا نلاحظ أن حياة الحيوان والطير حياة رتيبة لم تفارقها منذ خلقت، ولن تفارقها حتى تقوم الساعة، إنها لم تحاول أن تطور عشها الساذج أو حظيرتها المتواضعة، ولم تتطلع إلى تغيير طريقة أكلها أو نمط سلوكها سوى ما كان خاضعا لتطوير الإنسان له كتعليمها وتدريبها على أنواع معينة وفي نطاق ضيق من السلوك وأداء بعض التصرفات، ومع أن هناك من الحيوانات والطيور تميزت بنوع خاص من الذكاء إلا أنها لم تستطع استغلال هذا الذكاء إلا في محاولات يسيرة من تقليد الإنسان ذاته في بعض تصرفاته.
أما الإنسان فإنه كل يوم في جديد يبدع ويبتكر، ويطور ويحسن وكلما وصل إلى غاية تطلع إلى ما فوقها دون أن يحده حد.
التطور من خلال المفهوم الإسلامي:
والتطور من خلال المفهوم الإسلامي هو كل تقدم سليم يحرزه الإنسان، ويحقق مصلحة للجنس البشري، سواء كان ذلك تقدما فكريا كالثقافات المختلفة التي تنير للناس طريقهم نحو مجتمع زاخر بالفضائل والمكرمات، أم كان تقدما ماديا كالمخترعات بأنواعها المختلفة.(24/274)
أما تلك الفوضى التي عمّت المجتمعات باسم التقدم والحرية، وهذه الابتكارات التي زودت الناس بوسائل القطيعة والتكبر، ومكنتهم من التنابز المقيت، ووضعت بين أيديهم أسباب الدمار والفناء فالإسلام لا يعتبر شيئا منها تطورا حقيقيا ولو أتى بالعجب العجاب.
إن الإسلام لا ينظر إلى التقدم العلمي في مصعد التفوق الحضاري من حيث هو تقدم علمي أو تفوق حضاري، ولكنه ينظر إليه من خلال عوائده على الإنسانية في بيئاتها المختلفة، وظروفها المتباينة، وأوضاعها المتفاوتة، فبقدر ما يحقق العلم للبشرية من الفوائد يحظى من الإسلام بالتأييد والمؤازرة.
والإسلام ينبذ الأنانية والعنصرية لأنه دين البشرية كلها شاء الناس أم أبوا، لأن الله سبحانه قد أمر الناس جميعا بالدخول فيه، فالرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد أُرسل إلى الناس كافة.
ولهذا فإنه ينشد السعادة والفائدة لكل الناس في الحقوق العامة لا فرق فيها بين عربي وعجمي ولا أبيض ولا أسود، ولا فقير ولا غني، ولا مسلم ولا غير مسلم، ولكن الذين يرفضون الإسلام ويتأبون عليه قد حرموا أنفسهم من نصيبهم من تلك السعادة، وليس الذنب في ذلك إلا ذنب الذين يرفضون الإسلام، ولا يتخذونه منهج حياة.
إن الإسلام قد أقام حضارته على مبادئ سامية وأواصر وثيقة، وجعل من أهم هذه المبادئ: المساواة، فالناس جميعا ولد آدم، وجميعهم أبناء حواء، فهم إذا اخوة لا يتفاخرون بنسب ولا عرق، وكيف وأبوهم واحد وأمهم واحدة،؟ ولا يتفاضلون بقومية ولا وطنية لأنهم يعيشون على أرض واحدة.(24/275)
وبهذا قطع الإسلام كل أسباب التفاخر بين الناس، وأغلق باب التفاضل بما لا دخل لهم فيه، وفتح بابا واحدا يمكن للناس كل الناس التنافس فيه بالجهد الشخصي، والتفوق الذاتي وهو باب العمل الصالح وإفراغ الطاقة في البر والتقوى بكل ما تتسع له الكلمة من المعاني، وعلى هذا فالعمل الذي يعم نفعه المجتمع أو أكبر قدر منه هو أعظم من الأعمال القاصرة على الشخص نفسه؟ وأضخمها في ميزان المجتمع المسلم، ومن هنا كان حث الإسلام على التعاون، ودعوته إلى الاجتماع، وعلى هذا المعنى الرائع يدل قوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" [1] .
ويوضح هذا المعنى كذلك قول أمير المؤمنين عثمان بن عفان الذي يروى عنه: "المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى".
الدافع والتطور:
والتطور نتيجة حتمية للدوافع التي تحفز الإنسان إلى التطلع للأكمل والأرفع وهذه الدوافع سواء كانت ذاتية منبعثة من داخل النفس الإنسانية أم كانت خارجية كالحوافز المادية والمعنوية كلها ذات أثر بالغ في التطوير سواء كان في المخترعات أم في الفكر والسلوك أم في أساليب الحياة وأنماطها.
والإيمان بالله من أعظم الدوافع التي تدعو إلى التطور وذلك لأن المؤمن يعتقد بأن وعد الله حق، وأن أجله محدود، ورزقه مضمون، وهو مطالب بالعمل حتى يفارق هذه الحياة.
لهذا فهو مقدام لا يهاب المغامرات متى كان ذلك مطلوبا شرعا، كريم لا يخشى الفقر، مجِدٌ لا يعرف الملل وتلك هي المواصفات التي تدعو إلى الابتكار والتطوير والإبداع.
فالشجاع المقدام لا يهاب الفشل، والكريم المعطاء يبذل في سبيل تحقيق آماله، والمجد الدؤوب لا يمل من الدأب حتى يصل إلى مرامه أو يهلك دونه وقديما قيل:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا(24/276)
إن المؤمن إذا سمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها قبل أن تقوم القيامة فليغرسها"، لا يسعه إلا أن يواصل العمل ليل نهار، ويبذل جهده صباح مساء، وكيف لا ونتيجة هذا السعي ستعرض على الله، وثمار هذا البذل ستكون في كفة حسناته يوم يلقى الله وكيف لا والأمر الرباني الكريم يلاحقه في كل حين. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة/105) .
والرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على الاحتراف واتخاذ المهنة، "ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" [2] .
ولما سمع الخليفة الثالث - عثمان بن عفان - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" [3] فهم من ذلك تحسين البناء وتطويره حتى يكون بيته في الجنة بقدر تحسينه للمسجد وإتقانه، ومن هنا بني المسجد بالحجارة المنقوشة، وجعل أعمدته من الحجارة بدلا من جذور النخل، وسقفه بالساج بعد الجريد، وجصصه، وأحكمه.
إن الدوافع التي حدت بعثمان أن يفعل ذلك على غير سابقة دوافع ذاتية، ألم ترى أنه أراد أن يكون بيته في الجنة على غرار بناء المسجد وإتقانه، إن رغبته فيما عند الله، وإيثاره الآخرة على الدنيا هما الدافعان الحقيقيان لهذا التطوير والتجديد.
وعثمان_رضي الله عنه_ وإن تعرض بسبب ذلك للنقد والقيل والقال، إلا أن هدفه كان أسمى من أن يحجزه عنه نقد أو اعتراض، فالدافع هنا هو سبب ذلك الإبداع في البناء، وتطلع عثمان_رضي الله عنه_ إلى ما عند الله كان القوة الدافعة التي جعلته يستهين بعقبات الدنيا مهما كان حجمها، ومهما كانت عواقبها.(24/277)
والغرائز التي أودعها الله في الإنسان تأتي في الدرجة الثانية من دوافع التطوير والإنتاج. فحب التملك، والرغبة في الاستطلاع، وغريزة المنافسة، كل ألئك دوافع حقيقية ينبعث عنها أروع آيات التجديد والابتكار.
فغريزة التملك تدعو إلى الاقتناء والحرص، وحب الاستطلاع يكشف الجوانب الخفية للإنسان، وغريزة المنافسة تؤدي إلى التطوير والإبداع، وتطلع النفس إلى الأحسن والأكمل يجعله لا يقف عند حد، بل يظل يطور ويجدد، ويبدع ويبتكر ما دام حيا.
ويدخل في هذه الغرائز الخبرات التي يستفيدها الإنسان من ممارسته لعمل ما فاكتساب الخبرات يجعل المرء يعيد النظر في كل ما حوله، ويعالجة في ضوء الخبرات المستجدة في حياته، ليتجنب المضار، ويكتسب المنافع وليصل إلى أرقى ما وصل إليه العقل البشري.
وللمسلمين في ذلك قصب السبق، فإنهم لما أنشئوا المدن كالبصرة والكوفة والفسطاط وواسط والقيروان وغيرها، ورأوا أن ذلك أخف حملا، وأقل مؤونة ولكن النار داهمتهم فأكلت بيوتهم، فلم تبق ولم تذر، فبنوا باللبن والقصب، حتى عرفوا الحجارة فبنوا بها.
وأسسوا بيوتهم على نظام الطابق الواحد، ثم دعت الحاجة إلى تعدد الطبقات، فرفعوا إلى الثلاث.
وكان البناء ساذجا بغير تخطيط، فرأوا في النقوش والزخرفة زينة يجمل أن تتحلى بها البيوت فتفننوا في ذلك وأبدعوا، وأزالوا الأزقة الضيقة، وخططوا الشوارع والميادين وحددوا أماكن الأسواق والحمامات والمرافق العامة، وظل التطوير شأن المسلمين حتى وصلوا إلى إنشاء المجاري لتصريف المياه الزائدة وغير المستفاد منها، وبنوا الجسور ومهدوا الطرق.
وهناك أمر هام ينبغي ألا يغفله الباحث، وهو دور الأخلاق والقيم في التطور والبناء، وهذا ولا شك أمر حيوي يجب أن يحظى بالعناية والتقدير من الباحثين والمفكرين، فالناس إنما يخططون ويبتكرون حسبما يطبعون عليه من الأخلاق أو التفسخ، وما يعتنقونه من الفضائل أو الرذائل.(24/278)
وإنه مما لاشك فيه أن الفضائل والأخلاق الكريمة تتجه بصاحبها إلى ما يتعارض كلية مع اتجاه التفسخ والرذائل، فلكل من الفريقين اتجاه يعمل جاهدا من الوصول إليه، فالوقار واحترام مشاعر الآخرين، وغض البصر والاهتمام براحة الجيران، والتعاون القائم على أساس المحبة والعدالة، كل ذلك يستدعي نمطا معينا يؤدي إلى تحقيق المراد، وبالعكس من يتصف بضد تلك الأخلاق.
ومن هنا كان للاستقامة أثر إيجابي في مضمار التطور إلى الأفضل من الأعمال، ذلك لأن الاستقامة في مفهوم الإسلام هي الاعتدال في كل الأمور أو هي التوسط بين طرفي النقيض بحيث لا يميل صاحبها إلى الإفراط أو التفريط، ولا إلى الإسراف أو التقتير، ولا إلى التهور أو الجبن ولا إلى التفسخ أو الرهبة، ولهذا كانت الاستقامة دافعا إلى البحث عن الأفضل من الأقوال والأعمال، فهي إذا دافع إلى التطوير والتشييد. وبقدر ما تكون تلك الدوافع الذاتية المنبعثة من النفس البشرية عوامل مهمة ومؤثرة على التطور الإنساني، وبقدر ما يكون الإبداع في التطور والرقي ناجما عن تلك الدوافع يكون الإنسان سعيدا متمتعا بكل مباهج الحياة، آخذا من متاعها الحلال الطيب بقدر ما يحتاج. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (لأعراف: من الآية32) .
وليست الدوافع الخارجية بنوعيها المادي والأدبي بأقل تأثيرا في عملية التطوير في حياة الناس من الدوافع الذاتية، بل لها من الأثر في التطوير والإنتاج ما يضعها مع الدوافع الذاتية في صف واحد، فمنح الجوائز للمبتكرين، وتقدير الأمة لأبنائها المبرزين من الدوافع الحقيقية التي لا ينبغي إغفالها أو السكوت عنها، بل يجب إبرازها كعوامل لها خصائصها في تطوير الحياة وتقدمها.(24/279)
ومن أجل هذا، وتقديرا لأثر تلك الدوافع الخارجية رصدت الأمم الجوائز المادية والأدبية فجائزة نوبل وجائزة الملك فيصل - رحمه الله - وغيرهما من الجوائز قد أثمرت وآتت أكلها، ولها من الفوائد والنفع على العالم ما نلمس فوائده في المجالات التي رصدت لها.
وكلمة أخيرة في الموضوع يجب ألا تنسى: تلك هي: أن التطور لا يختص بمجال الاختراع والإبداع، في الجانب العملي من حياة الإنسان، ولكنه ينساق إلى مجالات شتى وغير محصورة في إطار مهما اتسع ذلك الإطار.
فهناك التطور الفكري الذي يلمسه الإنسان في نفسه وفي غيره عندما ينتقل من بيئة قروية أو بدوية إلى بيئة حضارية، وما قصة علي بن الجهم مع الخليفة العباسي مما يغيب على الذهن، فالشاعر_علي بن الجهم_ قد جاء من البادية، ووقف أمام الخليفة ليمدحه فقال:
أنت كالكلب في الحفاظ على الود
وكالتيس في قراع الخطوب
وكان الخليفة فطنا أريبا حين سمع ذلك، فأدرك أن ذلك القول لا يزيد عن انعكاسات خلفتها البيئة في نفس الشاعر، فأمر بإقامته في قصر منيف تحيط به الحدائق الغناء والزهور الباسمة وترك الشاعر فترة في ذلك العيش الرغد، والحياة البهجة، ثم جئ به لينشد الخليفة بعض شعره فأنشد:
عيون المهابين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فأين هذا من ذاك، وأين الثرى من الثريا؟
وهناك تطور آخر في السلوك، فكثيرا ما ينشأ الإنسان في بيئة زراعية أو صناعية فيتأثر بسلوك معين تمليه عليه طبيعة البيئة التي نشأ فيها، فإذا انتقل من هذه البيئة إلى بيئة علمية مثلا، وترك معاملة الشجر والزرع، ومرافقة الطيور والضرع، وودع حياة المصنع والمعمل أخذ يتهذب سلوكه ويتشكل بحسب الحياة الجديدة التي يحياها فهو يتخير الألفاظ اللينة، ويتكلم بصوت معتدل، ويفكر طويلا قبل أن يقدم على ما يريد، وذلك نوع من التطور ملحوظ في مثل تلك الظروف.(24/280)
وهناك التطور في أسلوب الحياة التي يتعامل به الإنسان من غيره سواء كان ذلك في المأكل والمشرب، أم كان في الأخذ والعطاء إلى غير ذلك من متطلبات الحياة.
وهكذا يجد الباحث نفسه أمام تطور مطرد يسير في رحاب الإسلام في نواحي الحياة المختلفة في الصناعة والفن، في السلوك والفكر، في الأكل والشرب، في العطاء والأخذ وفي كل ما يمت إلى الإنسان بصلة، ويجد أن هذا التطور نتيجة حتمية لدوافع ذاتية أو خارجية بحيث لو توقفت تلك الدوافع لركد الكون وأسن، وتوقفت عقارب الساعة تبعا لتوقف العقل البشري من الإنتاج والتطور.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مسلم وأحمد في المسند عن النعمان بن بشير
[2] رواه أحمد في مسنده.
[3] رواه البخاري ومسلم.(24/281)
يا مسلمون ... عودوا إلى الإسلام
للدكتور محمد محمد الشريف
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
الإسلام هو دين الله جل وعلا الذي ارتضاه للعالمين وبه تمام النعمة وكمالها ودوامها قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ولئن قلنا إن أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس، وأعظم نعمة تستوجب منا الشكر والتقدير والعرفان والمحافظة عليها: هي الإسلام، لكنا قد أصبنا عين الحقيقة.
قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ومن أجل ذلك أمرنا بالمحافظة على هذه النعمة وصيانتها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
ومن حافظ على هذه النعمة تولى الله جزاءه ومكافأته وأعظم له العطاء {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ومن جاء بغير هذا الدين ضل سعيه وحبط عمله وخسر الخسارة الكبرى مهما بدا لنا منه من الخير والبر وحسن المعاملة وكريم الخلق قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقد يكافئه الله على هذا في الدنيا بكثرة المال، والولد، أو بالصحة، أو بالرفعة في الدنيا، وأما الآخرة فليس له فيها من نصيب.(24/282)
وقد شرع لنا هذا الدين رب العالمين العليم بخلقه الذي يعلم ما يسعدهم وما يشقيهم وما يصلح لهم وما لا يصلح، العليم بكل ما تحتاجون إليه وما لا يحتاجون إليه، وهو الحكيم الذي يحكم بالحق ويشرع لهم كل خير، وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وبعث رسله رحمة للناس وكان خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .(24/283)
ولقد كان هذا الدين التام الكامل الشامل مستوعبا لجميع نواحي الحياة: فقد نظم حياة الفرد من ساعة أن يخرج من بطن أمه إلى أن ينتقل إلى ربه: وبين ما ينبغي للطفل إذا خرج من بطن أمه من عناية الوالدين به وتعهدهما له وبين أهم نواحي هذا التعهد وهو تربية الطفل على معاني الخير والحق والفضيلة، فأمر بإحسان الاختيار لأمه، وإحسان الاختيار لاسمه، وأمر أن يعلم حب الله وسروله صلى الله عليه وسلم وحب القرآن الكريم. ثم إذا صار مميزا أمر بأن يعلم الصلاة ويعود عليها، ولا ريب أن الصلاة تعود النظافة والطهارة والاجتماع على الخير والحق، والمودة والمحبة والتعارف والطاعة، وتغرس قوة الإيمان، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحب دين الله وحب المؤمنين. فإذا بلغ سن العاشرة وقارب البلوغ كانت العناية به أتم وأكمل، فيتأكد أمره بالصلاة وتعويده عليها، فإذا رؤى منه الترك والتهاون، ضرب ضربا غير مبرح، إلزاما له بالخير حتى يستقيم عليه. فإذا بلغ مبلغ الرجال سهل عليه تعود الصلاة والمحافظة عليها.. كذلك إذا بلغ العاشرة وقارب البلوغ وجب أن يعود على الفضيلة، وأن يمنع من الرذيلة، وأن يحال بينه وبين أسبابها، حتى إذا بلغ كان بعيدا عن الرذيلة ومتأبيا عليها. ولذلك أمرنا بالتفريق بين الأولاد في المضاجع عند بلوغ سن العاشرة.(24/284)
وقد أمر الإنسان البالغ بأنواع من العبادات كفيلة بأن تحفظ إيمانه وتزيده رسوخا وثباتا، وتملأ قلبه صلة بالله وحبا له وإقبالا عليه، وتملأ قلبه حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا له واقتداء بسنته، وتملأ قلبه كذلك حبا لعباد الله الصالحين، وتنشئ الصلة الطيبة والرابطة القوية بينه وبينهم: وأهم ما أمر به إقامة الصلاة وإخلاصها لله تعالى كل يوم خمس مرات موزعة على أول النهار وأوسطه وقبل غروب الشمس ومن أول الليل عند غروب الشمس وعند حلول الظلام وانتشار الليل حيث ينتهي الناس من يومه ويذهب إلى فراشه. وندب الإنسان إلى أنواع أخرى من الصلاة المسنونة: كالسنن التابعة للفريضة المسماة بالرواتب، وصلاة الضحى، وصلاة الوتر، وصلاة الليل، والصلوات التي تقتضيها الحاجة كصلاة الاستسقاء، والكسوف والحاجة، والاستخارة، وصلاة العيدين التي تجمع كل أبناء البلد في صعيد واحد حيث يكون التواد والتعاون على البر والتقوى وإكرام الفقراء والمساكين.
ولا يخفى علينا الآثار الكريمة والنتائج الطيبة التي تترتب على إحسان صوم رمضان، وعلى إيتاء الزكاة وعلى حج بيت الله الحرام وغير ذلك من العبادات المتنوعة.(24/285)
وقد اهتم الإسلام كذلك بالنواحي الأخلاقية والنواحي الاجتماعية والمعاملات التجارية والشئون الاقتصادية والسياسية. ولم يترك الإسلام أمرا يحتاجه الناس إلا بينه لهم وحثهم عليه وعرفهم به، ولم يترك شرا يضر الفرد والمجتمع إلا نبههم عليه وحذرهم منه، وذلك ليعيش الإنسان سعيدا في نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، وحتى يكون آمنا على نفسه ودينه وعرضه وماله وأهله وولده، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} ، وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .(24/286)
إنه بحق دين الإصلاح الشامل، ودين التربية الكاملة، وهو مع ذلك دين الرحمة والرفق واليسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
وإذا تحقق للمسلمين حقيقة التمسك بدينهم ساد بينهم الحب والإخاء والسلام، وصاروا على قلب رجل واحد، وحسنت صلتهم بالله تعالى فكان الله وليهم يوفقهم ويسدد خطاهم، وصاروا قوة يحسب العالم لها حسابا، يقدرها الأصدقاء، ويهابها الأعداء. قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وما نَصْرُ الله إلا نَصْرُ دينه والتمسك بكتابه، والحفاظ على شريعته وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله على بصيرة والجهاد في سبيله لإعلاء كلمته، والدفاع عن المستضعفين من المسلمين. ولا يتحقق نصر الله تعالى لمجرد الانتساب إلى الإسلام، بل لابد من حقيقة إقامة الدين والعمل به وتحكيمه وهيمنته على كل شيء لتكون كلمة الله هي العليا.
وهذه هي أسباب تحقق النصر من عند الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .(24/287)
ولو قلبنا صفحات التاريخ لتبينت لنا هذه الحقائق كاملة غير منقوصة. ولا يخفى على أحد حال الناس عموما والعرب خصوصا قبل الإسلام. وكيف كان الفساد والظلم والظلمات وكيف كان الضعف والتفرق والضياع وكيف تمكن منهم غيرهم. إلى أن جاء الإسلام ودخلوا في دين الله وتمسكوا بهذا الدين وحرصوا عليه وأحبوه حبا يفوق حبهم لأنفسهم وأولادهم وأهليهم وأموالهم. فغير الله حالهم إلى أحسن حال، وساد بينهم الحب والإخاء والعدل والأمن والسلام، وبسط الله لهم الرزق، وصاروا قوة يرهبها عدو الله وعدوهم، ومكن الله لهم في الأرض، وجاهدوا لإعلاء كلمة الله، فانهزمت أمامهم قوة الفرس والروم رغم قلة المسلمين وقلة أسلحتهم. لكنهم رغم قلتهم وقلة أسلحتهم كان معهم السلاح الحاسم الذي لا ينكسر أبدا هو سلاح الإيمان بالله، والاعتماد عليه، والانتصار لدينه وإعلاء كلمته. فلم يقف أمام ذلك السلاح قوة سلاح عدوهم المادي وكثرة أعدادهم ... ولم يقف الأمر بالمسلمين عند هذا الحد بل نشروا في هذه الأمم دين الله تعالى وأقبل الناس على دين الله ونشروا بين الناس العدل والإنصاف والمساواة والرحمة والإحسان.. ولقد مكن الله للمسلمين في الأرض، وعلموا الدنيا الحضارة الإسلامية المجيدة التي أنقذت الإنسانية من ظلمات الجهل والأباطيل وعبادة غير الله، وهدتهم إلى نور العلم والحقائق والتوحيد، وكشفوا للناس عن حقائق العلوم الحديثة، وسخروا هذه العلوم ومكتشفاتهم في سبيل الحق والخير، هذا في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات العصور الوسطى. ولم تنج أوروبا من هذه الظلمات إلا عندما اتجهت إلى المسلمين تستنير بما عندهم من معارف وتهتدي بما لديهم من علوم واكتشافات. ولذلك يعترف المنصفون منهم أن أوروبا مدينة في تقدمها العلمي للمسلمين.(24/288)
هذا قليل من معطيات هذا الدين الحنيف، وقليل من نتائجه البارزة التي ظهرت على أيدي المسلمين الصادقين. ثم خلف من بعد هؤلاء خلف أضاعوا هذا الدين واتبعوا الأهواء والشهوات، وأقبلوا على الدنيا وتركوا أمر الآخرة وراءهم ظهريا. وغلب هذا على الكثير إلا الذين داموا على حبهم للدين وتمسكهم به، وقليل ما هم. فتغير حال المسلمين وانتشر بينهم التنافس على الدنيا والحرص على شهواتها فكان التنازع والاختلاف والشقاق والخصام والعداء، وتقطعت ذات البين، وظهر الخوف، وضاع الأمن، وضرب الله قلوب الناس بعضهم ببعض، وتفرق المسلمون شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون. وكان الضعف الشديد الذي تمكن منهم، واستطاع الكافرون أن يستغلوا هذا الضعف لمصلحتهم، وتمكنوا من أرض المسلمين وثرواتهم وتحكموا في رقابهم. وصار حال المسلمين على ما نرى الآن. فهم مستضعفون ومضطهدون ومعذبون في كثير من البلاد حتى في البلاد ذات الكثرة المسلمة، وما حال المسلمين في لبنان، وفلسطين، وأفغانستان، والفليبين، والاتحاد السوفيتي والدول التي تدور في فلكه، ما حال هؤلاء وغيرهم عنا ببعيد. والسبب الحقيقي وراء ذلك كله هو ضعف المسلمين عموما لإضاعتهم للدين وإقبالهم على الدنيا وشهواتها.
ولا يصلح حال المسلمين اليوم إلا بما صلح به حالهم بالأمس. إنهم لم تصلحهم الدنيا ولا شهواتها، ولكن أصلحهم هذا الدين. فإذا أراد المسلمون أن يتغير حالهم إلى أحسن حال وإذا أرادوا أن يعودوا إلى سابق عزهم ومجدهم وسعادتهم فالطريق واضح أمامهم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} .(24/289)
فالعودة إلى دين الله الحكيم وشرعه القويم وصراطه المستقيم، كفيلة بأن تصلح الحال والمآل. ولا يصلح حال أحد ولن يصلح إلا بمراعاة شرع الله وتحكيم كتابه الكريم واتباع السنة الرشيدة المطهرة. وعلى كل فرد مسلم أن يبدأ بنفسه، وما الأمة المسلمة إلا مجموع أفراد إذا صلحوا صلحت. وعلى حكام المسلمين وولاة أمورهم من ملوك ورؤساء وأمراء على هؤلاء يقع العبء الأكبر والمسؤولية الأولى لأن الله سبحانه قد ملكهم زمام الأمر ووضع بين أيديهم مقاليد البلاد، يسمع لهم ويطاع، وتنفذ رغباتهم بمجرد الإشارة.(24/290)
وفي الحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"وأول الرعاة وأعظمهم أثرا هم الحكام، ولذلك كان الحاكم الصالح العادل له مكانته وشرفه عند الله تعالى لأن الخير الكثير يترتب على صلاحه وعدله فينتفع به العباد والبلاد. ولقد كان من أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (الإمام العادل) ولا يتحقق عدل الإمام إلا إذا أقام الدين وحكم شرع الله في أمور الدولة كلها. ومن أبرز مظاهر تحكيم الشرع المحافظة على أركان الدين وشعائره وحدوده. ولا يخفى ما يترتب على ذلك من الخير والفلاح والصلاح. والحكم بغير شرع الله جور وظلم وفساد وظلام وكم من شعوب مسلمة متدينة ترغب في إقامة حكم الله وشرعه وحدوده ويقف بعض الحكام حجر عثرة أمام هذه الرغبة الصادقة لأن ذلك يخالف أهواءهم وشهواتهم ومقاصدهم، ومن اعتقد أن شرع الله لا يصلح للحكم بين الناس فقد خرج من دين الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ومن اعتقد أن شرع الله يصلح للحكم لكنه ترك الحكم به من باب التقصير اتباعا لهواه أو خوفا من أفراد أو مراعاة لمصالحه مع دول كافرة فهذا من الكبائر وهو بهذا ظالم لنفسه ولشعبه عاص لأمر الله تعالى قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .(24/291)
هذا وقد بدت تباشير صحوة المسلمين وتيقظهم بالعودة إلى دينهم، وفي ذلك الخير الكثير. وقد تعالى النداء من كل مكان بضرورة العودة إلى هذا الدين الحنيف وتطبيق شرائعه، ورائد ذلك في العصر الحديث هو المملكة العربية السعودية على يد مؤسسها الأول الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وعلى أيدي أبنائه من بعده. ويكفينا أن نعلم أن الملك عبد العزيز رحمه الله وجد من العرب أشتاتا متفرقين متناحرين فجمعهم على كلمة الحق ورفع لواء التوحيد واستطاع بعون الله أن ينشئ دولة المملكة العربية السعودية، وأعلن أنها قائمة على دين الله وشرعه، متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه الكريم وصدق قوله فصدقه الله. وبعد أن كانت قليلة الموارد والثروات، قليلة المال، ضيقة ذات اليد، إذا بالخير يتوالى عليها، ويكثر حتى تصبح أغنى دولة في العالم، وهي بحمد الله تستغل ذلك الخير لخدمة الدين ونشره والدعوة إليه وخدمة المسلمين في كل مكان.. وبعد أن كانت تعاني من الخوف وضياع الأمن، إذا بالأمن يرفرف على ربوعها ويشمل كل أنحائها، وصار الإنسان لا يخاف من أحد إلا الله، والذئب على غنمه فأطعم الله أهل هذه البلاد من جوع وآمنهم من خوف. وما ذلك إلا بفضل الله أولا ثم بإقامة شرع الله وتطبيق أحكامه وحدوده ثانيا. وقد ضربنا المثل بالمملكة العربية السعودية لأنها والحمد لله مازالت تنادي بأن شرفها وفخرها وعزها في تطبيق شرع الله، ومازالت ترعى هذا الدين وتبذل في سبيله الجهد والمال وتقرن هذا القول بالعمل، ومن ثم كانت أول دولة تحكم بالإسلام، وأول دولة يشعر فيها الجميع بالأمن التام، والطمأنينة الكاملة، وإن الجنود والسلاح والقوانين الأجنبية لا تحقق من ذلك شيئا مذكورا، وفي ذلك القدوة الحسنة لمن أراد أن يقتدي، وأسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، ويوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.(24/292)
مشروع "اقرأ"
لتعليم اللغة العربية عن طريق القرآن
للشيخ أحمد فؤاد البشبيشي
خبير التعليم بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد:
فإن أول ما نزل من القرآن الكريم قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي الأيام الأولى لنزول الكتاب الكريم كان نزول آيات {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فالأمر القرآني الأول أمر بالقراءة.
والأداة الأولى التي ورد ذكرها في الكتاب الكريم هي أداة الكتابة.
والكتابة كما يقول العلماء_ بدأت أولا ثم جاءت القراءة [1] .
ذلك لأن الكتابة وليدة الحس والرسم، والقراءة وليدة الإدراك والفهم.
والقراءة أشرف من الكتابة لأن سيد البشر كان قارئا ولم يكن كاتبا ولأن القراءة عملية حسية عقلية يشترك فيها اللسان والعقل والعين فهي إدراك بصري في الغالب ثم نطق لساني ثم فهم عقلي وربط بعد ذلك.
والكتابة وخصوصا في اللغات القديمة ومنها العربية يرتبط رسمها إلى حد كبير بنطق الحرف.
والقرآن الكريم من بين الكتب السماوية ومن بين كتب الدنيا كلها هو الذي جمع بين الاثنين، فهو قراءة محفوظة في الصدور، وكتابة مسجلة على السطور.
والقرآن مصدر على وزن فُعلان بالضم كالغفران.
وقد جاء استعمال كلمة القرآن بهذا المعنى المصدري قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ, ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .(24/293)
ثم صارت الكلمة علما شخصيا لذلك الكتاب، وهذا هو الاستعمال الأغلب ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
وروعي في كونه قرآنا كونه متلوا بالألسن [2] .
كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام.
فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حق القرآن على المسلمين العناية بحفظه في موضعين السطور والصدور.
فلا ثقة بكتابة كاتب حتى يوافق ما عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. والقراءة ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في النطق.
والكتابة ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في الخط، فمادة (ك ت ب) ومادة (ق ر أ) تدوران على معنى الجمع والضم.
ولقد خلد القرآن الكريم اللغة العربية وخدمها وهو سبب بقائها وانتشارها.
فمن ناحية التطوير:
كان الخط أو الكتابة المعروفة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي كتابة أهل الحيرة، ولقد تعلمت قريش هذه الكتابة، وأول من نقلها سفيان بن أمية أو أخوه حرب بن أمية، وقد تطور الخط في صدر الإسلام إلى خط الجزم، ثم تطور مرة ثانية إلى الخط الإسلامي وهو ما يسمى بالخط الكوفي.
والخط الكوفي تأثر بالكتابة السريانية، فحروف الكتابتين متشابهة، والحروف المفصولة في العربية هي نفسها الحروف المفصولة في السريانية، وهي حروف الراء والواو والألف والدال، وكذلك يتشابهان في حذف الألف في لفظتي هذا وهؤلاء.
والكتابة في المدينة المنورة لم تتأخر في الظهور فيما عنها في مكة، فقد قيل إن يهوديا كان يعلم الصبيان الكتابة، وكان هؤلاء الصبيان هم كتبة الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، وأسيد بن حظير، ومعن بن عدي، وأبو عيد بن كثير، وبشير بن سعيد وغيرهم.(24/294)
وقد دخل الإسلام -كما يقول البلاذري- وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتبون هم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وطلحة بن عبيد الله، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة بن الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد، وعبد الله سعد بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان ومعاوية، وجهيم بن الصلت رضي الله عنهم أجمعين.
أما النساء اللائى كن يكتبن فهن:
شفاء بنت عبد العدوية، وهي من رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد تعلمت منها أم المؤمنين حفصة بنت عمر، وأم كلثوم بنت عتبة، وفروة، وعائشة بنت سعد، وكريمة بنت المقداد، أما عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فكانت تقرأ المصحف ولا تكتب وكذا أم سلمة.
ولقد كان كتاب الوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأربعين كاتبا.
وكان أكثرهم في سن الشباب وكانوا يختارون من بين أجود الكتبة خطا وكتابة وكان لهم دور عظيم في النقل والرواية عن الرسول الكريم قرآنا وحديثا وتشريعا، كما كان لهم الدور الأول في جمع المصحف وكتابة المصحف الإمام أيام عثمان رضي الله عنه كما كان لهم دور في نقل العلم وتأسيس مدارسه في مكة والمدينة ثم في غيرها من الأمصار ومن هؤلاء أبيّ بن كعب كاتب الوحي الجليل رضي الله عنه.
وكلنا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل فداء بعض أسارى بدر لأنفسهم بأن يعلم كل واحد عشرة من المسلمين.
ولقد تطور المصحف الشريف بالكتابة العربية مما يجعلنا نقول إن الكتابة إسلامية أولا وهذا التطور قد أخذ الخطوات الآتية:
1_ المصحف الإمام: وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه ولا زال الرسم المعمول به هو رسم هذا المصحف الإمام إلى الآن.
2_ الشكل: وهو ضبط الحروف وقد تم على يد أبي الأسود الدؤلي (ت 69) .(24/295)
3_ الإعجام: وهو إعجام الحروف أو نقطها أيام خلافة عبد الملك بن مروان بأمر من الحجاج لنصر بن عاصم (ت 89) ثم جاء يحي بن يعمر سنة 129 فوضع الإعجام بنفس المداد [3] .
4_ قام الخليل بن أحمد الفراهيدي بإبدال نقط الشكل التي وضعها أبو الأسود بجرات علوية وسفلية دلالة على الفتح والكسر.
والمصحف في كل هذه المراحل هو مركز الدائرة في كل مراحل تطور الكتابة العربية.
ومن ناحية الحفظ والانتشار:
كان القرآن الكريم هو الدرع الواقي للغة العربية ويكفي في هذا قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كما كان انتشار المسلمين في كل مكان بالقرآن الكريم مكتوبا بأيديهم ومقروءا بألسنتهم ومحفوظا في صدورهم هو الذي ترك الساحة خالية للغة العربية فسقطت أمامه اليونانية اللاتينية والفارسية في مناطق كثيرة.
ومن ناحية الإثراء والقيمة:
فلا شك أن القرآن الكريم قد أثرى اللغة العربية ثراء عظيما بلغته وبيانه وتصويره وقصصه مما جعلها لغة تشريع وحضارة خالدة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد تعددت في هذه الأيام أساليب التعلم ووجد ما يسمى بالتعليم الوظيفي وأخذت به كثير من الدول العربية والإسلامية والذي نعرضه هنا إنما هو البديل للتعليم الوظيفي.. ليس هذا فقط وإنما الأساس لتعلم اللغة العربية.
تعليم اللغة العربية عن طريق القرآن الكريم:
والدراسة التي نعرضها بدأناها باستعراض ما في القرآن الكريم من محصول لغوي. فالمصحف يجمع بين دفتيه 114 سورة، 6263 آية، 77460 كلمة، 321250 حرفا، 156051 نقطة.
وقد قمنا بحصر الحروف التي في نصف الجزء الأخير من القرآن من أول سورة الأعلى إلى نهاية سورة الفاتحة وذلك لتداول هذه الآيات وكثرة الحافظين لها وقصر فقراتها وقد تبين أن هذه السورة عددها 29 سورة وأنها تشتمل على "100" سطر.(24/296)
وبعض الحروف كثر تكراره وهي الحروف التي تتكرر في الكتابة والقراء العادية.
والنوع الأول يحتاج من المعلم بهذه الطريقة والمتعلم بها أن يكثر المران عليها أكثر من الحروف الأخرى.
وقد وضعنا ذلك كله في جدول يمكن أن نأخذ منه الآتي:
أولا الحروف المكررة:
أ_ الهمزة والألف: وقد اعتبر حرفا واحدا وقد تكررتا 503 مرة والهمزة من الحروف الحلقية وهي تخرج من أقصى الحلق مما يلي الصدر.
ب_ اللام: وقد تكررت 499 مرة وهي من الحروف اللسانية السهلة لأنها تخرج من أدنى حافتي اللسان مما يلي طرفه من أصول الثنايا العليا.
ج_ النون: وقد تكررت 298 مرة ومخرجها من تحت مخرج اللام.
د_ الميم: وقد تكررت 272 مرة وهي أسهل الحروف الشفوية نطقا.
هـ_ الياء: وقد تكررت 218 مرة وتخرج من وسط اللسان.
و_ الواو: وقد تكررت 201 مرة وهي حرف شفوي تفتح الشفتان قليلا عند خروج الهواء.
ز_ التاء: وقد تكررت 200 مرة وتخرج من طرف اللسان مع ما يليه من أصول الثنايا العليا.
أما الحروف قليلة التكرار فهي:
أ_ الظاء: وقد تكررت مرتين فقط وهي حرف لثوي وتخرج من طرف اللسان مع أطراف الثنايا العليا.
ب_ الزاي: وقد تكررت 23 مرة وتخرج من طرف اللسان مع أطراف الثنايا العليا.
ج_ الغين: وقد تكررت 22 مرة وتخرج من أدنى الحلق مما يلي الفم.
د_ الضاد: وقد تكررت 25 مرة وتخرج من حافة اللسان مع ما يليها من الأضراس العليا من الجهتين اليمنى واليسرى.
هـ_ الطاء: وقد تكررت 27 مرة وتخرج من طرف اللسان مع مع ما يليه من أصول الثنايا العليا.
و_ الشين: وقد تكررت 36 مرة وتخرج من وسط اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلى.(24/297)
ثانيا: لو ألقينا نظرة على التحليل السابق لتبين أن أكثر الحروف استعمالا هي الهمزة والألف وذلك لسهولة النطق ويسر الكتابة فهي خط رأسي يمثل خط الهواء وهو يخرج من أقصى الحلق ... واللام وهي أكثر الحروف اللسانية استعمالا لأنها أسهل نطقا وهي حرف ايزاد عليها قوس في أسفلها واستعمالاتها في لفظ الجلالة ولفظ التعريف وبداية الأسماء كثيرة.
والنون مخرجها من نفس مخرج اللام.
ويمكن تعليل كثرة استعمالات النون والميم والياء والواو والتاء على أن كثرة هذه الحروف وتعدد مخارجها يتيح للسان والحلق وحركة الهواء والشفتين أن يؤدوا جميعا حركات منسجمة منظمة تتم بها أصوات الكلمات ومن ثم تعبر الكتابة بقدر الإمكان عن صورة هذه الأصوات.
وهناك حروف قليلة الاستعمال وقد تكون من نفس المخارج السابقة ولكنها من المواضع الأصعب كالضاد التي تخرج من موضع اللام والزاي التي تخرج من موضع السين.
والحروف المكررة كثيرة هي الأسهل في الكتابة وعكسها هو الأصعب.
والقاموس القرآني هو أحسن وأعظم وأصح قاموس لغوي يمكن أن يعتمد عليه من يتعلم القراءة والكتابة بل من يرتقي بأسلوب كتابته إلى الذروة.
لذا فإن المشروع –وإن لم يكن جديدا- يعتمد لحفظ المسلم لمعظم سور نصف الجزء الأخير وكله قصار سور، وإذا كانت عملية الحفظ متوافرة لدى المتعلم فإنه يستطيع بتكرار القراءة والكتابة لسورة من السور أن يتعلم كتابة وقراءة أكثر من حرف ... والبسملة وحدها تتكون من 19 حرفا.
4ل 3ا 3م 2ح 2ر اب اس اهـ اي 1ن.
وكل حرف من هذه الحروف يتكرر في مواضعه المختلفة من الكلمة مرة أولها ومرة وسطها ومرة آخرها.(24/298)
وقد قلنا أن مجموع هذه السور "100" سطر فلنعد كراسة يتم تدوين سطرين في كل صفحة منها حتى يمكن للمتعلم أن يكتب على منوالها وأن تبدأ العملية بالحفظ ثم بالتكرار جملة جملة ثم كلمة كلمة إلى أن نصل إلى كتابة الحرف وحده ثم عودة إلى الكلمة ثم الجملة.
وإذا كانت فكرة التعليم الوظيفي من ربط التعليم بالعمل الوظيفي اليومي فإن ربط التعلم بالقرآن الكريم هو ربط بالحياة اليومية وربط بالإيمان والقيم، وفرق بلا شك بين كلام تلزم الإنسان به حياته العملية وبين كلام يعين عقله ويحفظه صدره يشرح به صدره ويتعبد به لسانه. أن أول الطريق خطوة وعلى الله قصد السبيل ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الموجز في الطرق التربوية للأستاذ محمد عطية الأبرشي.
[2] النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز.
[3] الخط العربي وتاريخه.(24/299)
حقوق الإنسان في الإسلام
بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
محاضر بكلية الحديث
(الباب السادس)
وقد جمعنا في هذا الباب المواد الآتية من إعلان حقوق الإنسان.
المادة الثالثة عشرة:
(أ) : لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة.
(ب) : يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه.
المادة الرابعة عشرة:
(أ) : لكل فرد الحق أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هربا من الاضطهاد.
(ب) : لا ينتفع بهذا الحق من قدم للمحاكمة في جرائم غير سياسية، أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة الخامسة عشرة:
(أ) : لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
(ب) : لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفا أو إنكارا لحقه في تغييرها.
ونبدأ فنقول: -إن كلمة الهجرة التي تشير إليها كلمات، (اللجوء، والتنقل، واختيار محل الإقامة، والهرب من الاضطهاد) أقول كل كلمات هذه المواد والتي تجمعها جميعا كلمة الهجرة من بلد إلى بلد للأسباب التي ذكرت ولغيرها من كل قصد عظيم، نحن المسلمين شيوخ هذا الأمر وأساطينه ومعلموه للدنيا كلها، فقرآننا مملوء زاخر بالأوامر القاطعة بالهجرة تارة، وبالترغيب فيها تارة، وبالثناء على الذين يفعلون ذلك تارة ثالثة، وبالحساب العسير في الآخرة للذين تركوها تارة رابعة.(24/300)
فمن نوع آيات الأمر بالهجرة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَة} أي هاجروا إليها، {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة} أي هاجروا إليها.
ومن آيات الترغيب قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}
ومن آيات الثناء على أهل الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه} {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
ومن آيات الحساب والعقاب على المتقاعس إن اضطر إلى الهجرة ولم يهاجر، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وعكس ذلك نعم المثوبة {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .(24/301)
والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أعظم من قاموا بأخطر وأجل الهجرات في التاريخ، فهجرتا الحبشة قبل الهجرة الكبرى كانتا من رجال ونساء من أكرم الصحابة والصحابيات على السواء، تمسكا بالحق الأعظم والتزاما بالدين الأقوم، وتحملوا في ذلك من وعثاء الأسفار وعناء الاغتراب ما تحملوا، حتى أتاهم النصر العظيم والفرج العميم بالهجرة الكبرى المحمدية، التي سادت كل هجرات الدنيا ولم يحك التاريخ لها نظيرا، فقد تحولت إلى إعصار عات لكل شرك وكفر تذروه من على سطح الأرض، وحولت الدياجير المظلمة إلى نور وضاء حمله الرسول أكبر مهاجر يحمل معه أكبر حق مصور أصدق تصوير في آية الهجرة هذه {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} الإسراء 80، والمدخل الصدق هو البلد الذي هاجر إليه وهي المدينة التي أنيرت بالحق الذي حمله معه إليها، وسميت بالمدينة المنورة من يومها إلى الآن وإلى يوم القيامة، والمخرج الصدق في الآية هو البلد الأمين الذي هاجر منه مكة بلد الله الحرام، فهو صلى الله عليه وسلم خرج من مكة بصدق التوحيد ودخل المدينة بالصدق نفسه، وبنفس هذا الصدق وخيره وعزته جعل الله له كما حكت الآية سلطانا نصيرا، قوة ومنعة أذل بها الجبابرة وقهر بها الأكاسرة والقياصرة، هو وأصحابه الذين تتبعوا الخطى وساروا على الأثر ... ثم نحن أيضا خير من هوجر إلينا، يقول كتابنا المعظم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ، حتى النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ} وقصة الأنصار من أهل المدينة في لقائهم للمهاجرين علم الله أنها تستحق أن تخلد في أخلد كتاب بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ(24/302)
تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وفي (زاد المعاد) : لما قدم رهط من أهل الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكرم قدومهم وقام يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: "لا، إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين" ومن أجل سنين عصر النبوة، العام التاسع للهجرة، الذي جاء فيه من أنحاء الأرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين وفدا، ولهذا سمي بعام الوفود، وقد أحسن صلوات الله عليه معاملتهم جميعا حتى الكفار منهم، وكان في هذه الوفود وفد بني حنيفة يرأسه مسيلمة الكذاب نفسه، ولم يصبه أذى من الرسول ولا من أصحابه حتى عاد إلى بلاده وأبلغ مأمنه كما أمرتهم الآية السالفة الذكر، بل ومن هذه الوفود من جاء خصيصا لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم متظاهرين بالإسلام، ولم يقابل الرسول ذلك بالمثل حيث جاءوا إليه في بلده، فتولى الله تعالى الدفاع عنه بما حكى ابن إسحاق في المواهب للإمام القسطلاني شارح البخاري بقوله: وفد عليه الصلاة والسلام بنو عامر فيهم بن الطفيل وأربد بن قيس وخالد بن جعفر وحيان بن أسلم، وكان هؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يغدر به، فقال لأربد بن قيس: "إذ أقدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فلت ذلك فاعله بالسيف "، فكلم عامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا"فلما ولّى قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم أكفني عامر بن الطفيل" فلما خرجوا قال عامر لأربد: "ويحك، أين ما كنت أمرتك به؟ فقال: والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟ "، ولما كانوا ببعض الطريق، بعث الله تعالى على(24/303)
عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله، وزاد في صحيح البخاري أن عامرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أخيك بين ثلاث خصال، أن يكون لك أهل السهل ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء"، فطعن –أصيب بالطاعون- في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان؟ إيتوني بفرسي، فركب فمات على ظهر فرسه.
وسرنا على دمى الأحقاب نكرم اللاجئين إلينا ومن أرادوا الإقامة ولو كانوا غير مسلمين ماداموا لم يتحولوا إلى مقاتلين أو ضارين بالإسلام وأهله بصورة أو أخرى، فقد نص الفقهاء على أنه يجب على الإمام أن ينصر المستأمنين (والمعبر عنهم اليوم باللاجئين السياسيين) ما داموا في دار الإسلام، وأن ينصفهم الإمام ممن يظلمهم، وكذلك أهل الذمة لأنهم تحت ولايته ما داموا في دار الإسلام أيضا.
وفي خلافة عمر بن عبد العزيز أرسل إليه واليه في مصر يطلب منه الموافقة على عدم دخول أهل الجزية الإسلام فقد يكون ذلك هروبا من الجزية، لأن دخولهم أدى إلى نقص في إيراد بيت المال وقال لعمر بن عبد العزيز في رسالته: إن الإسلام أضر بالجزية، حتى لقد نقص عشرون ألف دينار من عطاء أهل الديوان، فكتب إليه هذا الخليفة الراشد بالرد الآتي: "أما بعد، فقد بلغني كتابك، فضع الجزية عمن أسلم، قبح الله رأيك، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا. (ذكر ذلك المقريزي في خططه) .
بل إن خالد بن الوليد رضي الله عنه قد أمن غير المسلمين ضد الشيخوخة والمرض والفقر حين كان يزحف منتصرا باسم الإسلام، فقد كتب في معاهدة الصلح مع أهل الحيرة وكانوا نصارى، ما يلي:
"وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقاموا بدار الإسلام. بل ولتسمع رأي غيرنا فينا.(24/304)
ذكر الدكتور (فان ديك) ، إن المماثلة في المعاملة في أحقاب كثيرة من عصور الدولة الإسلامية لأهل الذمة غير المسلمين، قد هيأت لهم إظهار مواهب وقدرات كثيرة منهم، مثل (عبد الملك بن أبهر) ، الذي سكن الإسكندرية في عهد عبد العزيز بن مروان، وقبله (يوحنا النحوي) الذي كان في عهد عمرو بن العاص، والطبيب (ثيوذوكس) والطبيب (ثيودون) الروميان في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، و (جيوجيوس) الطبيب الخاص للخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، و (بختشيوع) الطبييب الخاص للخليفة هارون الرشيد، واستمرت عائلة (بختشيوع) تتوارث حرفة الطب عند الخلفاء والأمراء المسلمين إلى عام 540 الموافق لعام 1058م.
كما ذاع صيت (عبد السميع بن نعيمة) و (البطريق) و (صالح بن يسهلة) و (عبدوس بن يزيد) و (موسى بن إسرائيل الكوني) و (عائلة الطغيوري) في الترجمة من العربية إلى مختلف اللغات وبالعكس في مختلف أعمال الدولة الإسلامية، كما اشتهر آخرون كثيرون في أعمال أخرى من الهنود والفرس واليهود والنصارى عند الخلفاء. انتهى ما ذكره (فان ديك) .
بل إن رأي جمهور الفقهاء أن حالة الحرب لا تمنع الاتجار بيننا وبين دول الأعداء عن طريق (المستأمنين) ، اللاجئون الذين أعطوا الأمان، وأنه لا حرج في أن تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب لتباع فيها غلاة المسلمين ومنتجاتهم، فيما عدا أسلحة القتال، والشافعي رحمه الله هو الذي خالف في ذلك، وحجة الفقهاء في ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما أرسل إلى أبي سفيان قبل أن يسلم قدرا من تمر العجوة وخمسمائة دينار ليوزعها على أهل مكة حين أجهدهم القحط.
وأورد ابن قدامة صاحب المغني ما يلي:
إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله لدى مسلم أو ذمي، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا.(24/305)
فإن كان قد خرج تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه، آمن على نفسه وعلى ماله.
وإن خرج بقصد أن يستوطن في دار الحرب بطل الأمان في نفسه فقط، فلا أمان له في شخصه، وبقي له الأمان في ماله، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان لماله.
وفي كتاب (السير الكبير) طبعة 58م للشيخ محمد أبو زهرة يقول:
لم مات (المستأمن) في دار الإسلام أو في دار الحرب أو قتل في الميدان محاربا للمسلمين، لا تذهب عنه ملكية ماله وتنتقل إلى ورثته عند جمهور الفقهاء، وخالف الإمام الشافعي في ذلك أيضا.
وفي كتاب (الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام) للأستاذ على منصور ذكر ما يلي:
لا يحل في الإسلام القبض على رعايا الدولة المحارة المقيمين أو الموجودين في دار الإسلام رغم قيام حالة الحرب بيننا وبين دولهم، وما دمنا قد سمحنا لهم بالإقامة من قبل في دار الإسلام، وأعطيناهم الأمان والذمة على أنفسهم، فلا يحل لنا أن نغدر بهم أو نقيد حريتهم، وأصل الأمان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" رواه البخاري.
وفي صبح الأعشى ذكر ما يلي:
إن الحربي من الأعداء إذا دخل دار الإسلام للسفارة بين المسلمين كتبليغ رسالة ونحوها، أو لسماع كلام الله فهو آمن دون حاجة لعقد أمان، أما إذا دخل التجارة وأذن له إمام المسلمين أو نائبه، أو من يملك هذا الإذن –كإدارة الهجرة في عصرنا- فهو مستأمن لمدة، أي مسموح له بالإقامة لفترة حددها الفقهاء بأقل من سنة، وهو فيها آمن على نفسه لا يروَّع، فإن احتاجت أعماله التجارية لمدة سنة فأكثر، فهو ذمي آمن في جوار المسلمين وبذمتهم. وبعد هذا نسأل؟(24/306)
أيهما أفضل، حقوق الإنسان التي جعلها الله له، أم حقوقه التي وضعها لنفسه، فضيق بها على نفسه، فكثرت مشاكله ومصائبه، وكلنا نسمع كل يوم من هذه المشاكل والمصائب الكثير، على مستوى الفرد والمجتمع والحكام، الذين تركوا حقوق الله، وجروا وراء حقوق الخيال والتزويق والأوهام؟
{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(الباب السابع)
والحديث في هذا الباب يشمل مادتين من مواد إعلان حقوق الإنسان، وهما المادة السابعة عشرة، والثالثة والعشرون. ونورد نصهما أولا على نظام ما سبق في هذا البحث.
المادة السابعة عشرة:
(أ) لكل شخص حق التملك بمفرده، أو بالاشتراك مع غيره.
(ب) لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا.
المادة الثالثة والعشرون:
(أ) لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، كما أن له حق الحماية من البطالة.
(ب) لكل فرد دون أي تمييز الحق في أجر متساو للعمل.
(ج) لكل فرد الحق في أجر عادل مرض مقابل عمله، يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان، تضاف إليه عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
(د) لكل فرد الحق في أن ينشئ وينضم إلى نقابات، حماية لمصلحته.
ونبدأ فنقول:(24/307)
ما نظن دينا جعل العمل فرضا وكرم العاملين أكثر من الإسلام، بل ولأنه دين الله ومنسوب إليه فإن من كرم الله تعالى أن يأبى للمؤمنين به أن يكونوا عالة إلا عليه ثم على ما يأمرهم وما يسبب لهم من عمل، حتى لا يمدوا أيديهم إلى عدو له يستجدونه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، فالله لا يجعل أولياءه إلا كذلك حتى إن أكرم خلقه عنده هم رسله جعلهم جميعا يعملون، فمنهم من كان فلاحا وزارعا ماهرا، ومنهم من كان تاجرا رابحا، ومنهم من كان صانعا حاذقا إلى غير ذلك مما زخر القرآن الكريم بقصصهم وكان يمكن أن يكفيهم الله ذلك بكلمة (كن) ولكنه سبحانه شاء أن يجعلهم الشارة المتبعة للعالمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} والقرآن عندنا قد أكثر من آيات العمل، بعضها بظاهر اللفظ وبعضها بمضمون المعنى.
فمن النوع الأول {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} وغير هذا كثير،. وثابت أن كلمة (العمل) عندنا في الإسلام – والقرآن كتاب الإسلام - يشمل عمل الدنيا أيضا، فعمل المسلم كله عبادة حيث لا رهبانية عندنا ولا مذلة ولا انطواء، ومن أجلّ عمل الدنيا المثاب عليه من الله الكدح في سبيل الرزق الطيب للنفس ومن تعول.
والآيات التي خلا منها لفظ العمل وحضت بالمعنى منها {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} وغير هذا كثير.(24/308)
ومن الآية الأخيرة نبسط القوة آخذين منها السبب والمصدر لحديثنا، فهو سبحانه في الآية ينادي كل الناس من عباده، أن يأكلوا مما في الأرض، أي يحصلوا على طعامهم بالعمل في ثنايا أرزاقها المختلفة والمتعددة التي خلقها لهم، وأن يتجهوا بالعمل إلى طرق الحلال الطيبة، ليكون مطعمه حلالا طيبا وفي بدن الطاعم هنيئا مريئا.
والآن أسأل الذين وضعوا حقوق الإنسان هذه الأسئلة الآتية:
هل العمل بالربا وأكل نتاجه السحت الخبيث، والذين تتعاملون به يا من أعلنتم حقوق الإنسان أفرادا ومجتمعا وحكومات، وكم خربت به بيوت وأفلست به شركات بل وحكومات، من العمل الحلال الطيب، إنه للسبب الموجز الذي أوضحته ليس عندنا حلالا ولا طيبا.
وهل العمل في مزارع كروم الخمر ومصانعه ومتاجره وحاناته وشربه مما أفرى أكبادكم وأهلك أجسادكم وأطار عقولكم من العمل المباح في حقوق الإنسان لديكم؟، إنه عندنا فحش وقذر وعلى العامل والآكل لعنة منكبة، وهل الاستيلاء على المزارع والمصانع ونزع الملكيات بغير رغبة المالك أو تعويضه باسم الشيوعية تارة وباسم الاشتراكية تارة وباسم الديمقراطية تارة وباسم المساواة تارة وباسم تذويب الفوارق بين الطبقات تارة إلى آخر قائمة لا تنتهي من التعليلات الظالمة الفاجرة لتظل أنيابكم تسيل من دماء الشعوب، كل هذا حقوق مباحة عندكم ولا تمس حقوق الإنسان بشيء، وقد أخذه منكم كثير من بلاد إسلامية، أو كانت كذلك وبإقتدائها بكم لم تعد إسلامية.
وهل السطو على المنازل والبنوك وقطارات السكك الحديدية وقطع الطرقات واحتراف السلب والنهب من حقوق الإنسان عندكم وهي تجتاح بلادكم ودياركم؟، ديننا يقول لنا بقوة: لا.(24/309)
وهل إضراب العمال عن الأعمال في كل مرافق الدولة مما يؤدي إلى تصلب كل شرايينها وشل كل أعضائها فتضار النساء والأطفال والعجزة وهذا أمر تبيحه قوانينكم وحقوق إنسانيتكم، تعدونه حقا نافعا ومباحا؟. ولقد كنتم السبب لما بخستم حق العامل وأهدرتم آدميته بما لا يقيم أوده هو ومن جعل قواما عليهم.
وهل من العمل وسبل الارتزاق أن يستغل الحاكم منصبه فيفعل ويختلس حتى يبني لنفسه الدور والقصور، منتهزا أيام حكمه قبل أن يترك المنصب ويغور، وقد تعلم منكم كثير من حكام المسلمين بل بعضهم بزّكم وفاقكم فيه؟
إننا نحن المسلمين نحرم العمل وسبل العيش السابقة ونزيد عليها منعا أنواعا شتى لا نقرها أبدا.
فنحرم الارتزاق من مال القصر والأيتام، إلا بأجر صونها لهم بالمعروف، ونحرم الارتزاق بالاحتكار والغش والبخس في البيع والشراء والكيل والميزان والحاضر للباد.
ونحتِّم رد الحقوق وأداء القروض وإعادة الودائع والأمانات، وأكلها، أو الأكل منها عندنا مستحيل.
حتى الأكل عن طريق السؤال واحتراف الشحاذة، يمنعها ديننا ويعتبرها معصية دنيئة.
ولو عددنا ما انتهينا، لأن ديننا شامل لنعم الله ونعمه محال عدها، ولا بأس من تقديم بعض النصوص والوقائع للفائدة في هذا الباب.
1_ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري.
2_ "طلب الحلال واجب على كل مسلم" رواه الدارقطني.
3_ "أيما رجل كسب مالا من حلال فأطعم نفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله فإنه له به زكاة" رواه ابن حبان.
4_ سئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل؟ قال: "عمل الرجل بيده وكل عمل مبرور" رواه الطبراني.
5_ وعنه صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب المؤمن المحترف"رواه البيهقي.(24/310)
6_ رُوي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من جده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله!! فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان " رواه الطبراني.
7_ وعنه صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم ترابا –يجعله في فيه- خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه" رواه أحمد.
8_ وعنه صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به" الطبراني
9_ وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم" رواه البخاري.
10_ أبى صلى الله عليه وسلم أن يصلي على ميت ترك مالا من التسول، فعن مسعود ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي له برجل ليصلي عليه فقال: "كم ترك؟ "قالوا: دينارين أو ثلاثة، قال: "ترك كيّتين أو ثلاث كيّات"، فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: ذاك رجل كان يسأل الناس تكثّرا، رواه البيهقي
11_ عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أي الظلم أظلم؟ فقال: "ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه المسلم، فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الله الذي خلقها"رواه أحمد
12_ "لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا من أخيه إلا بطيب نفس منه"صدق الرسول الكريم، رواه ابن حبان(24/311)
13_ عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل لترفع صحيفته يوم القيامة حتى يرى أنه ناج، فما تزال مطامع بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم"رواه البيهقي بإسناد جيد
14_ محاورة رائعة بين الخليفة عمر رضي الله عنه وأبي هريرة، ترى منها أن أبا هريرة هذا الصحابي الكريم رضي الله عنه مع رفعة منزلته في الإسلام لم يمنعه ذلك من أن يحاسبه الخليفة عن العمل الذي أداه حتى حصل منه على سعة من مال، قال له عمر:
استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار.
قال أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت.
قال عمر: قد حسبت لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل فأده.
فقال أبو هريرة: ليس لك.
قال عمر: بلى، والله أوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة حتى أدماه، ثم قال له: إيت بها.
قال أبو هريرة: احتسبتها لله.
قال عمر: ذاك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعا، أجئت من أقصى البحرين، تجبي الناس لك، لا لله ولا للمسلمين؟! ما رجعت بك أميمة –يقصد أم أبي هريرة- إلا لرعية الحمُر.
15_ وكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص واليه على مصر قائلا: "إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان، لم تكن حين وليت مصر "فكتب إليه عمرو: "إن أرضنا أرض مزدرع ومتَّجر، فنحن نصيب فضلا عما تحتاج إليه نفقتنا ". فرد عليه عمر بالرسالة الآتية: "إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إليَّ كتاب من أقلقه الأخذ بالحق، وقد سئت بك ظنا، ووجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه وأطعمه، وأخرج إليه ما يطالبك به، واعنه من الغلظة عليك، فإنه برح الخفاء "فلما وصل إليه محمد بن مسلمة أذعن لأمر عمر، رضي الله عنهم أجمعين.(24/312)
هؤلاء هم الرجال الغرّ العظام، الذين عرفوا حقوق الإنسان لا تأخذهم فيها أقارب ولا مناصب، تعلموها عن ربهم كما أمر بها في كتابه، ومن سنة نبيهم وسيرته حسبما وجه، على أنه عبد رباني لا أرب له في هذه الدنيا إلا أن يترك للعالمين تاريخا من قواعد سامقة لا تحيد ولا تميد، هذا؟ أم الذي وضعه لنفسه إنسان هذا الزمان، فكان أن ملأ الجور كل مكان.(24/313)
أهمِّيَّة الدَّعوة وصفات الدَّاعية
للدكتور محمد بيلو أحمد أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
إن الدعوة إلى الله من أجل الأعمال التي يقوم بها المسلم، لخدمة الإنسانية وطاعة رب العالمين، ندرك ذلك إذا علمنا من هو الداعية الأول:
إن أول من دعا إلى الله هو حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} الأحزاب الآية رقم 45، 46، وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (الحج الآية 67) وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (القصص الآية 87) .
والدعوة إلى الله تعالى وظيفة الرسل جميعا ومن أجلها بعثهم الله إلى الناس لبيان الطريق الصحيح للإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وتوجيه الخطاب إلى سيد المرسلين لا يعني أن الدعوة مقصورة عليه صلى الله عليه وسلم وحده، فالأصل أن يشمل الخطاب الناس جميعا ما لم يكن هناك استثناء، ولم يوجد الاستثناء هنا، وبهذا يكون التشريف بالدعوة إلى الله شاملا لأمته صلى الله عليه وسلم، والدليل القاطع على ذلك هو قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... } الآية (آل عمران 110)(24/314)
بل إن الدعوة إلى الله تعالى من صفات المؤمنين التي تميزهم من المنافقين. اقرأ قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} التوبة رقم71. وهذا على خلاف المنافقين الموصوفين بقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} التوبة الآية رقم67. إذن الفاصل بين الطرفين هو الدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إلى غير الله.
من هنا نعرف من الداعية، هو كل من اتبع طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم من مسلم ومسلمة، فالدعوة لا يختص بها العلماء أو رجل الدين كما يقولون فإن هؤلاء يمتازون بمعرفة تفاصيل الدين وأحكامه، اقرأ معي لبيان ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية رقم 108 يوسف.
فاتباعنا له صلى الله عليه وسلم يجعلنا دعاة إلى الله جميعا. وإليك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فليبلغ العلم الشاهد الغائب". والشاهد هو من علم من أمر الإسلام شيئا.
إذن لا تترك الشيطان يوهمك بأنك لست داعيا إلى الله؛ لأنك لست من رجال الدين أو العلماء، أو بالقول إن هذا واجب كفائي علق في رقاب العلماء. فعليك أن تدقق النظر في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... } الآية فالآية شاملة لم تقل بعضكم يأمر بالمعروف. فالطريق واسع شامل للجميع. اقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا ... " الحديث. و (من) يندرج تحتها كل من يعلم أن هذا الأمر منكر، ومن ثم يلزمه تغييره بقدر طاقته وبقدر ما لديه من العلم.(24/315)
هنا يا أخي نتساءل لماذا لزمتنا الدعوة على مر الزمن؟، إن بقاء الكفر والشرك في الأرض يؤثر عاجلا أو آجلا على معاني الإسلام، وحقيقة العقيدة، لهذا يلزمنا القيام بالدعوة لحماية ديننا وعقيدتنا، ولعكس هذا يعمل عدونا بجميع السبل لمقاومة الإسلام في كثير من بقاع الأرض اليوم. والأحداث الجارية تشهد على ذلك.
لهذا فإن كل مسلم أو مسلمة يعلم أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الحساب يوم القيامة حق، وأن الصلاة والصيام والحج والزكاة من فرائض الإسلام، فعليه أن يبلغ ما علمه لمن لا يعلمه، أما ما لا علم له به غير هذا فلا يكلف به.
ولا أظن أن هناك مسلما إلا ويسعى ليمون قوله من أحسن الأقوال وأصدقها، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الآية 33 من فصلت. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا". وفي حديث آخر: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" إذن ينبغي لك يا أخي أن تفكر معي في هذا الأجر الجزيل المعد للداعية.(24/316)
لكن كيف يمكنك أن تكون داعية؟ أخي لا يمكن أن تكون داعيا حقا، إلا بعد أن تكون: مفسدا ومخربا قاطعا للصلة بينك وبين الشيطان كما يأمرنا تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فاطر آية6. لتكون مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمرنا الله تعالى بالاقتداء به في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سورة الأحزاب21. ولا يكون الإنسان داعية إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الصورة الكاملة للداعية، فكن ملتزما طريقه، فهو المثل الأعلى لما يجب أن يكون عليه الإنسان الكامل في كل موقع من مواقع الحياة. فاجعل نفسك مثالا وأنت زوج في البيت ومع الأبناء وفي ميدان العمل وبين الأهل والأصدقاء. كن صديقا وقريبا وصاحبا للناس جميعا لتملأ لهم أنفسهم ومشاعرهم بما تحمله إليهم من الخير الصادر من قلب طاهر. تعود مريضهم، وتساعد ضعيفهم، وتخفف همومهم، وتمنحهم العطف والمودة كما كان صلى الله عليه وسلم.
عليك أن تجعلهم يرون فيك ذلك العابد الحق الملتزم بدينه من غير رياء ولا تظاهر، فأنت الصادق في قوله وفعله البعيد عن كل ما ينتقص قيمة الرجل المسلم..
فالسلوك الشخصي أعظم شيء يدعو الناس إلى الخير، فالإنسان بطبيعته يتأثر بما يراه ويحسه أكثر من تأثره بما يدركه بسمعه.
فعلى الداعية أن يكون دعوة حقيقية تتحرك على وجه الأرض، وتعيش بين البشر تُرى وتُلمس في شخص الداعي وتصرفاته ومشاعره وأفكاره ومبادئه ومتجهه في الحياة وصلته بالناس. فبهذا يكون قدوة لغيره فيحبه الناس، ويسعى كل واحد منهم أن يكون مثله. إذ هكذا كان صلى الله عليه وسلم دعوة وتأثيرا وتوجيها ونورا وهدى وصراطا مستقيما.
فالدعوة إذن جهاد، ولا بد للمجاهد من أسلحة فما هي أسلحة الداعية؟(24/317)
أول أسلحة الداعية هو العلم: فلا بد من العلم بما يدعو الناس إليه، فهو مقدم على العمل، لابد أن يعرف ما يقوم به وما يدعو إليه، ونحن لا نقول بضرورة كون الداعية عالما محيطا بكل شيء، أو عالما متبحرا. وفوق كل ذي علم عليم. ولاستحالة بلوغ نهاية العلم أرشدنا الله إلى طلب المزيد منه، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (سورة طه114) .
إذن لابد من العلم أولا لأن الله تعالى قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ... } (الآية 19 سورة محمد) . فقدم العلم على العمل.
وينبغي أن يكون دقيقا في معرفة الحلال والحرام حتى لا يقع في الخلط والخبط. والقول على الله ورسوله بغير علم فيكون ضرره أكثر من نفعه.
ومنها الأخلاق الإسلامية التي بينها الله في القرآن الكريم وفصلها الرسول صلى الله عليه وسلم وانصبغ بها الصحابة رضي الله عنهم.
وأول هذه الأخلاق: الصدق..وقد قال ابن القيم حقيقة الصدق هو حصول الشيء وتمامه وكماله وقوته واجتماع أجزائه. أي كمال العزم وقوة الإرادة على السير إلى الله.
ومن ذلك صدق القول والعمل والقصد حتى يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته، فإن ذلك يؤثر في المخاطب ويحمله على احترام كلامه.
ومنها الصبر قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (الآية 45 البقرة) . وذكر الصبر قد ورد وتكرر في الكتاب الكريم مما لا يحتاج إلى التنبيه عليه.(24/318)
والصبر له ثلاث شعب: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على المصائب والبلاء ... لابد للداعي أن يتحمل ما يؤلمه، ويصبر على المكروه ويبتعد عن الشكوى إلا لله. ويدخل في ذلك الصبر على عدم ظهور نتيجة دعوته، فليتذكر نبي الله نوحا عليه السلام، الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وأن يتذكر قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} (34 الأنعام) وأن يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
ومنها: البعد عن الكبر، لأن الكبر حماقة وجهالة، ومنازعة لرب العزة. وعليه أن يتذكر بأن الله تعالى لا يحب المتكبرين، وأن المتكبر يستعظم نفسه ويغمط الناس ويحتقرهم، فهو إذن ليس من صفات الداعية، لأن المتكبر يتبع أباطيل الشياطين وإيحاءاتهم، ومن يتبع الشيطان لا يصلح أن يكون قدوة، فمن هنا لزم الداعية أن يتصف بالتواضع، لأنه ثمرة معرفته قدر الله، ومعرفته قدر نفسه، فالذي عرف ربه وعرف قدر نفسه لا يمكن أن يكون متكبرا، وبالتالي لا يحتقر أي مسلم مهما كان ضعيفا، لأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. كما أن التواضع يتيح للداعية مجالسة الصالحين والفقراء والضعفاء. فالمتواضع هو الذي يتبع قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ... } الآية 28 الكهف. على الداعية أن يكون كذلك في كل مواقفه حتى في حالة انتصاره في دعوته، وليتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحا، فقد دخل منكسا رأسه تواضعا لله تعالى شاكرا لأنعمه.
ثم من المدعو هذا؟(24/319)
المدعو إلى الله هو (الإنسان) كائنا من كان، لأن الإسلام جاء إلى البشر جميعا قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} ، هذا العموم يشمل كل البشر من ذكر أو أنثى، وأبيض وأسود وعربي وعجمي، ورئيس ومرؤوس.
وهنا يجدر بنا أن ننظر إلى قدر الله تعالى الذي شاء أن يكون من أوائل من دخل الإسلام، وآمن برسالة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
1_أبو بكر الصديق العربي القرشي
2_بلال الذي هو من بلاد الحبش داخل قارة أفريقيا التي توصف بالسوداء.
3_صهيب الرومي من بلاد الروم ذوي البشرة البيضاء.
4_سلمان الفارسي من البلاد التي يوصف أهلها بذوي البشرة الصفراء.
5_ومن حيث الجنس آمن من النساء - إلى جانب الرجل- خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
6_وآمن من الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
7_ومن حيث الغنى وكثرة المال آمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ذا ثراء واسع.
8_ومن الفقراء آمن عمار (رضي الله عنه)
إذن الدعوة الإسلامية منذ أن قامت، وجدت شاملة عامة لا تفرق بين الناس. فالإسلام يجعل الناس سواسية كأسنان المشط لهذا يجب أن نتدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فالكل عباد لله تعالى.
هذا ومن حق المدعو أن يتصل به الداعي في موقعه، في منصبه ومعمله ومزرعته وفي كل محفل ومجمع حتى في الأسواق، ولكن يجب أن تتم الدعوة بالطرق المناسبة الكاشفة لحقيقة الإسلام المقربة المحبة، لا المنفرة المبغضة.
أخيرا ما هي مصادر الدعوة؟(24/320)
لا شك أن المصدر الأول في الدعوة هو كتاب الله والمصدر الثاني هو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ثم استنباطات العلماء والفقهاء التي استنبطت من الأحكام الشرعية من أدلتها الأصلية، ثم التجارب الجيدة السليمة التي مرت بالدعاة الصالحين الذين مارسوا الدعوة في حياتهم العملية، مستعملين الترغيب والترهيب والموعظة الحسنة، وتخوّل الناس بها بصورة مناسبة بعيدة عن الملل وجلب الضجر، والله أسأل أن يجعلنا دعاة صالحين صديقين عاملين لوجهه الكريم.
من علامات سعادة العبد وفلاحه:
أنه كلما زِيد في علمه زِيد في تواضعه ورحمته.
وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره
وكلما زيد في عمره نقص من تكالبه وحرصه.
وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله.
وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس والتواضع لهم وقضاء حاجاتهم.
من علامات شقاء العبد وتعاسته:
أنه كلما زِيد في علمه زيد في كبره وتيهه.
وكلما زيد في عمله زيد في فخره وحسن ظنه بنفسه.
وكلما زيد في عمره زيد في تكالبه وحرصه.
وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه
وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في بعده عن الناس والتعالي عليهم وتحقير شأنهم.(24/321)
الحركة السلفية في الهند
ودورها في خدمة السنة المطهرة
للشيخ عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
قسم السنة بالدراسات العليا بالجامعة
تلاميذ المحدث السيد نذير حسين الدهلوي من الأسرة الغزنوية.
تقدم ذكر الإمام المحدث المصلح الشيخ عبد الله الغزنوي أحد أعلام الهند وأحد تلاميذ المحدث السيد نذير حسين المبرزين، وقد كان له ولأبنائه وأحفاده وأصحابه وتلاميذه دور كبير في خدمة السنة والسلفية، وقد تتلمذ هو ثم أبناؤه وبعض أحفاده على السيد نذير حسين المحدث الدهلوي كما تتلمذ البعض الآخر من أحفاده على تلاميذ المحدث الدهلوي، ففي هذا المقام نوجز الكلام في علماء هذه الأسرة الكريمة وذكر خدماتهم في نشر السنة والسلفية، فمنهم:
الشيخ المحدث محمد بن عبد الله الغزنوي (ت ذي القعدة سنة 1296 هجري)
أحد أفاضل عصره، قرأ على أبيه، ورحل إلى دهلي، وأخذ الحديث عن المحدث السيد نذير حسين الدهلوي، وفاق الأقران في العلم والفضل، واشتغل بالدرس والإفادة والوعظ والإرشاد، له دور هام في نشر علوم الحديث، والعقيدة السلفية في أبناء الهند، ومن مؤلفاته
1_حاشية على تفسير جامع البيان (مطبوع) ، ركز فيها على شرح عقيدة السلف الصالح ونصرة مذهب المحدثين، قال الأستاذ عبد الحي الحسني: ((وكان – رحمه الله - ممن أوذي في ذات الله من المخلصين، وأخيف في نصر السنة المحضة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي)) [1]
والإمام المحدث الشيخ عبد الجبار بن عبد الله الغزنوي (1268 -25 رمضان سنة 1331 هجري)
أحد العلماء المتبحرين في علوم الحديث والمولعين بنشرها وترويجها وإحيائها، وصفه العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي بقوله: "عالم كامل، محدث، مفسر، عامل، منكسر النفس، لم تر مثله العيون، وله تلاميذ كثيرة، وصاحب مناقب جمة".(24/322)
قرأ على إخوانه ووالده، وأوذي في سبيل الله مع أبيه حتى أخرج من وطنه غزنى، فهاجر مع الوالد إلى أمرتسر، ثم سافر إلى دهلي، وأخذ الحديث عن المحدث السيد نذير حسين، وقضى حياته في خدمة الدين الحنيف، ومن أعماله الخيرية تأسيس ((المدرسة الغزنوية تقوية الإسلام)) ، تصدّر فيها للدرس والإفادة وخدمة السنة والعقيدة، له دور قيادي في نشر العقائد السلفية، وبالتالي نشر معارف شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو الذي قام لأول مرة بنشر مجموعة التوحيد، ومجموعة الحديث (النجدية) ، بأمرتسر (الهند) .
وبأمره ومشورته نشر كتاب رياض الصالحين لأول مرة من مدينه لاهور، وكان يوصي أصحابه وتلامذته بقراءته، وبأمره قام تلميذه البار الشيخ أحمد الدين الكرمري الدهيانوي بنقل رياض الصالحين إلى اللغة الأردية، وطبعت الترجمة باسم ((روض الرياحين)) بأمرتسر (الهند) كما طبع بإيماء الشيخ عبد الجبار كتاب ((إيقاظ همم أولي الأبصار)) للعلامة الفلاني، لكن وفاه أجله المحتوم قبل أن يتم طبع الكتاب.(24/323)
وله أيضا بعض المؤلفات منها: 1_ الأربعين في أنّ ثناء الله ليس على مذهب المحدثين، انتقد فيه بعض آراء العلامة الشيخ أبي الوفاء ثناء الله الأمرتسري في مسألة أسماء الله وصفاته التي أظهرها في تفسيره ((تفسير القرآن بكلام الرحمن)) ، وقد وافقه كثير من كبار علماء أهل الحديث في عصره على ملاحظاته وانتقاداته، والشيخ الأمرتسري نفسه رجع عن موقفه حينما دعاهما الملك عبد العزيز آل سعود رحمة الله عليه إلى الرياض، واعترف أن مذهبه هو مذهب المحدثين في مسألة الأسماء والصفات، (والحقيقة التي لابد أن أشير إليها في هذه المناسبة أن العلامة الأمرتسري كان يرى ويعتقد اعتقاد السلف إلا أنه كان لا يرى بأسا في مجال المناقشات والمناظرات والردود التي كانت شغله الشاغل في الدفاع عن الإسلام في عصره أن يواجه أعداء الإسلام بسلاحهم على سبيل التنزل، ومن هنا أظهر بعض الآراء في تفسيره، فهاجمه علماء أهل الحديث هجوما جره إلى ما لا يحمد عقباه، وجزى الله الملك عبد العزيز رحمة الله عليه حيث اهتم بقضية إخوانه في الدين والعقيدة وأدى واجب النصح فجمعهم على كلمة الحق..
ومسألة الاشتغال بعلم الكلام والفلسفة عند الحاجة وبقدر الضرورة، قد نقحها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم: درء تعارض العقل والنقل، فليراجع إليه، ويحسن الظن بعلم من أعلام الفكر الإسلامي الذي قضى حياته في سبيل خدمة العلم في جميع ميادين الحياة) .
2_ وله: جزء في سيرة أبيه الشيخ عبد الله الغزنوي.
3_ وسبيل النجاة في مباينة الرب عن المخلوقات [2] .
والشيخ المحدث عبد الواحد والشيخ المحدث عبد الرحيم (ت 1342 هجري) ابني الإمام عبد الله الغزنوي:
تخرجا على والدهما واشتغلا بالتدريس والتأليف، وأقاما في مدينة الرياض (المملكة العربية السعودية) خمس سنوات على طلب الأمير عبد الرحمن آل سعود، وتصدرا للتدريس فتتلمذ عليهما عدد كبير من آل سعود وأصحاب نجد.(24/324)
وقد ذكر لهما بروكلمان في تاريخ الأدب العربي (3 /166) طبعة صحيح البخاري بأمرتسر سنة 1329 –سنة 1322 هجري، مع ترجمة أردية وشرح عليه [3]
والشيخ المحدث عبد الأول بن محمد بن عبد الله الغزنوي (ت سنة 1313 هـ) :
أحد العلماء الكبار في عصره، أسند الحديث عن السيد نذير حسين، وبرع في علوم الكتاب والسنة، ودرس وأفاد طوال حياته، ومن آثاره:
1_ نصرة الباري في ترجمة صحيح البخاري (إلى الأردية) مطبوع في ستة مجلدات، بمطبعة القرآن والسنة بأمرتسر.
2_ إنعام المنعم بترجمة الصحيح لمسلم نقله إلى الأردية وعلق عليها تعليقات يسيرة، والكتاب مطبوع بأمرتسر سنة 1325 هـ.
3_ الرحمة المهداة إلى من يريد ترجمة المشكاة: ترجمة أردية وشرح موجز لمشكاة المصابيح، مطبوع في أربعة مجلدات بمطبعة أنوار الإسلام بأمرتسر.
4_ترجمة وشرح رياض الصالحين (إلى الأردية) ونشر بأمرتسر، وأعيد طبعه مرات [4] .
والشيخ المحدث عبد الغفور بن محمد بن عبد الله الغزنوي:
قرأ العلوم على علماء أسرته، واشتغل بالدرس والإفادة والتأليف، تخرج عليه خلق منهم: العلامة محمد الغوندلوي حفظه الله، ومن آثاره: مشكاة الأنوار لتسهيل مشارق الأنوار، رتبه على الترتيب الفقهي، أورد فيه أولا: الأحاديث التي اتفق عليها البخاري ومسلم، ثم ما أخرجه البخاري، ثم م أخرجه مسلم، وإذا وجد فصلا خاليا من الأحاديث صرح بأن هذا الفصل خال من الأحاديث كما في مشكاة المصابيح، وانتقد فيه الشيخ خرّم على الذي نقل الكتاب إلى الأردية، في مسائل الصفات، ورجح مسلك السلف في العقيدة، والكتاب مطبوع في مجلد كبير [5] .
والشيخ العلامة محمد داود بن العلامة عبد الجبار بن الإمام عبد الله الغزنوي (ت 16 ديسمبر سنة 1963 م) :(24/325)
الذي اكتسب شهرة عظيمة في الأوساط العلمية والسياسية في شبه القارة الهندية، بجهوده المتضافرة لنشر السنة والسلفية، وتنظيم صفوف السلفيين، والمساهمة في حركة تحرير الهند من براثن الاستعمار البريطاني الغاشم.
قرأ على أبيه وعلى الشيخ عبد الأول الغزنوي، ورحل إلى دهلي وتتلمذ على العلامة عبد الله الفازيفوري الذي كان من أخص تلاميذ السيد نذير حسين، وعلى مسنده وفي مدرسته النذيرية آنذاك، وبعد التخرج عكف على التدريس والإفادة، وأصدر مجلة علمية دينية باسم: ((التوحيد)) وترأس جمعية أهل الحديث الباكستانية، كما أسس الجامعة السلفية في لائلفور بمشاركة العلماء السلفيين الآخرين كالعلامة محمد إسماعيل السلفي، وله مواقف محمودة في إقامة النظام الإسلامي، وتطبيق الشريعة في باكستان، وله مقالات علمية في الرد على منكري السنة والقاديانية، ونظرا لعلمه وفضله ومكانته اختارته المملكة العربية السعودية عضوا للمجلس الاستشاري الأول بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واشترك مع العلماء الآخرين في وضع المنهج الدراسي للجامعة سنة 1962م وله دور مهم في نشر أفكار ابن تيمية وابن القيم، ومن رسائله وبحوثه:
1_ تاريخ جمع وتدوين السنة النبوية (نشر في مجلة التوحيد في عدة حلقات)
2_وبحث قيم حول منصب الإمامة، نشر بعنوان: ((إمام هداية أو إمام سياسة)) في مجلة التوحيد [6] .
ومن تلاميذ المحدث السيد نذير حسين الدهلوي:
ابنه الشيخ المحدث البارع السيد شريف حسين (1248 -1304هجري /1886 م) :
من كبار علماء عصره، وأحد أعوان أبيه في شئون التدريس والإفتاء والوعظ والإرشاد والتوجيه، تخرج على أبيه، وأسند عنه الحديث كما أسند عن النواب صديق حسن القنوجي ثم البوفالي والمحدث حسين بن محسن اليماني.(24/326)
قال الأستاذ عبد الحي الحسني:"اشتغل بالعلم من صباه، وقرأ على أبيه، ولازمه مدة عمره، وتأهل للفتوى والتدريس، فترك والده له الإفتاء، وكان يدرس الفقه والحديث بحضرة والده" [7] .
وكان يدرس مواد التفسير والحديث، ويفتي، ويؤم الناس في مسجد أبيه، وله تلاميذ كثيرون منهم الشيخ عبد الغفار (من أسرة علي جان بدهلي) وبعض فتواه مطبوع في ضمن الفتاوى النذيرية (المطبوعة في ثلاث مجلدات في باكستان في الطبعة الثانية) ، توفى سنة 1304 هجري وكان والده حيا [8] .
والشيخ الفاضل فضل حسين بن فرخ حسين المهدانوي (المولود سنة 1271 هجري ... ؟) :
أحد علماء المشهورين ومن أخص تلاميذ السيد نذير حسين، اشتغل بالتأليف والدرس والإفادة، قال الأستاذ عبد الحي الحسني: "له تأليفات في الفقه والحديث منها:
1_ رسالة في القنوت النازلة. 2_ والحياة بعد المماة: كتاب في سيرة شيخه وشيخنا السيد نذير حسين" [9] .
قلت: وهذا الكتاب المذكور في سيرة المحدث السيد نذير حسين كتاب قيم استوعب فيه سيرة الإمام المحدث وذكر مؤلفاته ورسائله، وتلاميذه، وهو مطبوع قديما، والحاجة ماسة لإعادة طبعه محققا، فيا ليت يقوم بعض إخواننا من أهل الهند وباكستان على نشر الكتاب المذكور [10] .
والشيخ المصلح عليم الدين حسين النكر نهسوي العظيم آبادي (1261_1306 هـ) :
أخذ العلوم من أفاضل عصره كالعلامة المفتي صدر الدين الدهلوي، وأسند الحديث عن السيد نذير حسين الدهلوي، وقضى حياته في خدمة العلم ونشر الدعوة السلفية، دعا الناس إلى التمسك بالكتب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، وكان لجهوده أثر بارز في إصلاح عقائد الناس، حج وزار وسافر إلى مصر، ولقي الخديوي، فرحّب به، وأكرم مثواه، وزار الشيخ عليم الدين والمكتبة الملكية، واستفاد منها، وله مؤلفات منها:
1_ اهتداء الأحناف في اقتداء أصحاب الخلاف.(24/327)
2_ فيصلة العليم في دفع البهتان العظيم في أحكام الطلاق.
3_ يا أيها الناس بتوفيق أحاديث اللباس.
4_ فيضان العليم على قلب سليم.
5_ تفسير عدة أجزاء من القرآن الكريم [11] .
والشيخ رحيم بخش اللاهوري (ت 1312 هـ) :
أحد العلماء المشهورين في عصره، اشتهر بكتابه العظيم ((سلسلة كتب إسلام)) (سلسلة الكتب الإسلامية في 16 جزءا) في فقه السنة النبوية وتعاليم الإسلام النيرة باللغة الأردية في أسلوب رائع سهل، أورد فيها المسائل الدينية الثابتة من الكتاب والسنة الصحيحة بدون ذكر أدلتها، وخصص الجزء العاشر من الكتاب للتأريخ الإسلامي أسماه ((تأريخ لب اللباب)) ، والجزء الحادي عشر منه في العقائد، ومن الجزء الثاني عشر إلى الجزء الرابع عشر (ثلاثة أجزاء) في المسائل الدينية مع ذكر أدلتها من الكتاب والسنة، وهو كتاب قيم نافع، ومنشور ومشهور، ويدرس في بعض المدارس السلفية الدينية في باكستان [12] .
والشيخ محمد حسين بن عبد الستار الهزاروي (ت 1314 هـ/1896 م) :
من مشاهير تلامذة السيد نذير حسين، وصاحب المؤلفات النافعة منها: 1_تحفة الباقي على ألفية العراقي (في مصطلح الحديث) .
2_ شرح نخبة الفكر لابن حجر.
3_ تحفة أهل الحديث (بالعربية) [13]
والعلامة الشيخ سلامت الله بن رجب علي الجيراجفوري (ت 2132 هـ /1904م)(24/328)
من كبار تلاميذ السيد نذير حسين، أسند عنه وعن المحدث حسين بن محسن الأنصاري، كان من كبار دعاة السلفية قضى حياته في الدرس والإفادة والوعظ والتذكير ونشر السنة ومحاربة البدع والمنكرات، كان مرشدا عاما وخطيبا لعاصمة مملكة بوفال الإسلامية، ثم ولى التدريس في المدرسة السليمانية مدة، ثم عين رئيسا للشئون الدينية في بوفال، وتولى منصب رئاسة المدارس في المملكة، وبجانب هذه الأعمال والأشغال كان يدرس التفسير والحديث، وكان النواب العلامة صديق حسن البوفالي القنوجي يجلسه عنده ويكرمه غاية الإكرام وقد استفاد منه خلق منهم: شمس العلماء حفيظ الله الأعظمي أستاذ دار العلوم بندوة العلماء، والمحدث عبد الرحمن المباركفوري، والمحدث أحمد الله البرتابكري [14] .
والشيخ المحدث أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف بن أمير علي العظيم آبادي (1275 _1326 هـ) :
صنو الشيخ شمس الحق العظيم آبادي وساعده الأمين، كان من أخص تلاميذ السيد نذير حسين الدهلوي أسند عنه وعن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، وكان أحد أعضاء لجنة المساعدين للشيخ شمس الحق في تأليف عون المعبود، وقد أصدر أخوه المؤلف الجزء الأول والثاني من الشرح المذكور باسم أخيه شرف الحق، وقال الأستاذ عبد الحي الحسني: "وقد عزاه إليه صنوه شمس الحق المجلد الأول من عون المعبود، أخبرني بذلك الشيخ شمس الحق".
وله: خلاصة المرام في تحقيق القراءة خلف الإمام [15] .
والشيخ الفاضل عبد الحميد بن غلام بن نبي محمد عبد الله السوهدروي الفنجابي (1300 –1330 هـ) :
قرأ على أبيه وعلى المحدث عبد المنان الوزير آبادي، وأسند الحديث عن السيد نذير حسين والمحدث حسين بن محسن الأنصاري، وأجاز له المحدث شمس الحق العظيم آبادي، أسس (المدرسة الحميدية) في قريته، كما أنشأ جمعية الإصلاح، واشتغل بالتدريس والإفادة والدعوة والإرشاد، وكان لجهوده أثر طيب في إصلاح حال قومه، ومن مؤلفاته:(24/329)
زبدة المرام شرح عمدة الأحكام بالأردية [16] .
والشيخ الفاضل تلطف حسين بن همّت علي الصديقي العظيم آبادي ثم الدهلوي (ت 1334 هـ) :
من أخص تلاميذ السيد نذير حسين، لازمه ستا وعشرين سنة، وحج معه سنة 1300هجري، قرأ على أفاضل عصره كما أسند عن المحدث حسين بن محسن الأنصاري، كان من كبار ناشري كتب التفسير والحديث، قد انفق في سبيل نشر كتب السنة مبالغ باهظة، وقام بنشر مؤلفات المحدث شمس الحق كغاية المقصود (الجزء الأول) وعون المعبود، والتعليق المغني على سنن الدارقطني، وإعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر وغيرها، كما نشر كتب المؤلفين القدامى، وله تعليقات على بعض كتب الحديث التي نشرت في مطبعة ((المطبع الأنصاري)) وكان لجهوده في مجال النشر والتوزيع أثر كبير في تنشيط حركة نشر السنة في ذاك الوقت، فجزاه الله خيرا، ومن مآثره: تأسيس مدرسة رياض العلوم بدهلي، باشتراك حكيم عبد المجيد الدهلوي، ولا تزال تؤدي هذه المدرسة دورها الفعال في عصر انقراض مدارس السلفيين في دهلي [17]
والشيخ المحدث عين الحق بن علي حبيب الجعفري الفلواري (1287 _1333 هـ) :(24/330)
أحد العلماء المصلحين في عصره، البارز في علوم الحديث، نشأ وتربى في أسرة متصوفة خرافية ذات عز وشرف ومكانة مرموقة في الشعب، حتى تولى الشياخة الموروثة بعد وفاة أخيه الشاه محمد عبد الحق الفلواري، ثم وفقه الله عز وجل لإكمال الدراسة على العلماء السلفيين، فاختار السلفية، وترك الشياخة الموروثة، وصار من كبار الدعاة إلى السلفية والسنة، وحينما ذهب العلامة الحافظ عبد الله الغازيفوري إلى دهلي، عين رئيس هيئة التدريس في المدرسة الأحمدية بآره بولاية بهار. حج وزار الحرمين الشريفين ثلاث مرات، وأسند الحديث عن مشايخ الحجاز، كما حصل على الإجازة من المحدث السيد نذير حسين الدهلوي، وكان له اطلاع واسع ونظر دقيق في كتب الحديث ومعرفة الرجال، وقد استفاد منه المحدث شمس الحق العظيم آبادي في عدة مواضع من عون المعبود لحل بعض المعضلات الحديثية.
وله جهود طيبة في مجال الدعوة والإرشاد، وكان أحد أعضاء اللجنة الثلاثية المكونة لرفع الخلاف بين العلامة ثناء الله الأمرتسري والعلماء الغزنويين في مسألة الصفات، ومن مؤلفاته: ((المغراف في تفسير سورة ق)) بالأردية، مطبوع [18] .
والشيخ عبد الجبار بن نور أحمد الديانوي العظيم آبادي (1297 –1319 هـ) :
أحد علماء الحديث المشهورين بالفضل والكمال، أخذ العلوم عن الشيخ عبد الله الغازيفوري، أسند الحديث عن المحدث السيد نذير حسين والمحدث حسين بن محسن الأنصاري. وكان أحد أعضاء لجنة المساعدين في تأليف عون المعبود وتصحيح سنن أبي داود توفى في عنفوان شبابه في سنة 1319هـ[19] .
والشيخ المحدث أبو إسماعيل يوسف حسين بن القاضي محمد حسن الهزاروي الخانفوري (1285 _1352 هـ)(24/331)
أحد العلماء المبرزين في العلوم العربية والإسلامية، قرأ على أبيه وعلى عمه الشيخ القاضي عبد الأحد الخانفوري، كما تتلمذ على المجاهد عبد الكريم بن ولاية علي العظيم آبادي سنن النسائي وغيره في أفغانستان، وبعد رجوعه إلى الهند رحل إلى دهلي، ولازم دروس المحدث السيد نذير حسين، أخذ عنه الحديث، كما أخذ عن كل من المحدث حسين ابن محسن الأنصاري والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن النجدي، والشيخ إبراهيم بن سليمان المهاجر المكي، وله مؤلفات منها:
1_ إتمام الخشوع بوضع اليمين على الشمال بعد الركوع (بالعربية) .
2_ ورسالة أخرى في موضوع وضع اليمين على الشمال بعد الركوع (بالأردية) .
3_ زبدة المقادير.
4_ رسالة في معرفة الأوقات.
وله قصائد في العربية والأردية والفارسية، وكان أحد أعضاء لجنة المساعدين للشيخ المحدث شمس الحق العظيم آبادي في تأليف عون المعبود [20]
والشيخ العالم رفيع بن بهادر علي الصديقي الشكرانري البهاري (1261 _1338 هـ)
أحد العلماء المشهورين البارعين في العلوم والفنون، أخذ العلوم عن المحدث السيد نذير حسين مشاركا لابنه السيد شريف حسين الدهلوي وكانت له عناية بالغة في جمع الكتب النادرة ونشرها، ومكتبته مشهورة في ولاية بهار.
قال الأستاذ عبد الحي الحسني: "وله مكارم وفضائل وأخلاق حسنة، بذل الأموال الطائلة في تحقيق الكتب النفيسة، واستنسخها وجلبها من العرب والعراق، ولا يقلد أحدا من الأئمة، ويفتي بما يقوم عنده دليله، وله يد بيضاء في التفسير: تفسير القرآن بالقرآن، ويدرسه كل يوم بمحضر الناس، ويدرس الحديث" [21]
وله كتاب قيم في رجال الحديث أسماه: رحمة الودود على رجال سنن أبي داود [22]
والشيخ العلامة عبد الرزاق بن معظم علي الحسيني المعروف بأمير علي المليح آبادي ثم اللكنوي (1244 _1337 هـ)(24/332)
أحد كبار علماء الهند، البارزين في علوم المعقول والمنقول، وكان من كبار تلامذة السيد نذير حسين، قضى حياته في خدمة العلم، اشتغل بالتأليف وتصحيح الكتب والتعليق عليها، ونقل الكتب العربية إلى الأردية في مطبعة نولكشور بلكناؤ.
وفي آخر حياته اشتغل بالتدريس في المدرسة العالية بكلكتا، ثم تولى رئاسة التدريس في دار العلوم التابعة لندوة العلماء، ثم سافر إلى الحجاز ودرّس بجدة سنوات، قال الأستاذ عبد الحي الحسني: "وكان أعلم الناس في زمانه وأعرفهم بالنصوص والقواعد مع توسعة في الرجال والحديث، مديم الاشتغال بكتبه، غير متصلب في المذهب، يتبع الدليل ويترك التقليد، إذا وجد في المسألة نصا صريحا مخالفا للمذهب غير منسوخ" [23] .
ويظهر من كلامه أنه لم يكن يبالي بالمذهب عند وجود دليل من الكتاب والسنة، وأهل الحديث لا يطالبون أكثر من ذلك، فإن مذهبهم هو مذهب الأئمة المتبوعين رحمة الله عليهم أي إذا صح الحديث فهو مذهبهم، وكان الشيخ أمير علي سائرا على المذهب القويم.
ومن مؤلفاته:
1_مواهب الرحمن في تفسير القرآن 030 مجلدا بالأردية) .
2_عين الهداية شرح الهداية.
3_ ترجمة الفتاوى الهندية العالمكيرية إلى الأردية.
وفي علوم الحديث:
1_ حاشية على تقريب التهذيب مع تكملة التقريب المسماة بالتعقيب (مطبوع) .
2_ المستدرك في الرجال: قال الأستاذ الحسني: "جمع فيه رواة الصحاح والسنن واستقراهم من أنساب السمعاني وغيره من الكتب، ولكنه لم يتم" [24]
والشيخ الفاضل السيد عبد الحي بن السيد فخر الدين الحسني البريلوي (1286 _1341 هـ /1923 م) :(24/333)
من كبار علماء الهند، ومؤلف نزهة الخواطر في تراجم أعيان الهند من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري، أسند عن السيد نذير حسين الدهلوي، وكان يفتخر به ويوقره، كما أسند عن المحدث حسين بن محسن الأنصاري، تولى إدارة العلوم لندوة العلماء، واشتغل بالتأليف والتصنيف، وأكثر مؤلفاته في التأريخ، واشتغل في آخر عمره بالحديث وألف بعض الكتب القيمة وهي:
1_تهذيب الأخلاق في الأخلاق والأدب (مطبوع بالمكتب الإسلامي بدمشق) .
2_ تلخيص الأخبار: كتاب مختصر نفيس في الحديث، جمع فيه الأخبار بحذف الأسانيد الواردة في كتب السنة الخاصة بتهذيب الأخلاق على غرار الأدب المفرد للإمام البخاري.
3_ شرح على تلخيص الأخبار في عدة أجزاء سماه: منتهى الأفكار في تلخيص الأخبار.
4_ شرح على سنن أبي داود (ولم يتمه) [25] .
والشيخ الفاضل السيد نذير الدين أحمد بن الشيخ جلال الدين أحمد البنارسي (ت 1352 هـ /1934 م)
من كبار تلامذة المحدث نذير حسين، تتلمذ على المحدث محمد بن جعفر المجهلي شهري، والمحدث عبد الحق البنارسي، والعلامة عبد الله الغازيفوري، كان عارفا باللغة الإنجليزية، اشتغل بالمناصب الحكومية، ثم عكف على التدريس والإفادة في بوفال، والمدرسة الأحمدية بآره، وببنارس.
ومن مؤلفاته: 1_ ترجمة الشفاء للقاضي عياض إلى الأردية.
2_المصادر الستة [26] .
والمحدث أبو سعيد شرف الدين بن إمام الدين الدهلوي الفنجابي (ت 1381 هـ /1961 م) :
من كبار علماء الحديث في الهند، أخذ الحديث عن السيد نذير حسين المحدث الدهلوي وأسند عن المحدث حسين بن محسن الأنصاري، قضى حياته في التدريس والتأليف والتصنيف، وأسس المدرسة العربية السعيدية سنة 1350هجري، تخرج عليه خلق منهم: الأديب المحقق العلامة عبد العزيز الميمني، والشيخ عبد الجبار الكهنديلوي، وله مؤلفات عديدة معظمها غير مطبوع منها:(24/334)
1_ تكملة تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة للمحدث أحمد حسن الدهلوي من كتاب الزكاة إلى آخر الكتاب، والكتاب في أربعة أجزاء، والأول والثاني منها مطبوع، وقد عثر على الباقي العلامة المحقق الشيخ محمد عطا الله حنيف الفوجياني حفظه الله، إلا أن المخطوط فيه خرم ونقص، والكتاب تحت الطبع بتحقيق الفوجياني، وإكمال النقص الموجود فيه من المكتبة السلفية بلاهور، باكستان، يسر الله طبعه.
2_ تخريج آيات الجامع الصحيح للبخاري
3_ شرح سنن ابن ماجه (لبعض أجزائه) ، وقد حسنه شمس الحق العظيم آبادي.
4_حاشية على نصب الراية للزيلعي.
5_كشف الحجاب عما في البرهان العجاب: ترجمة أردية لكتاب الرهان العجاب في فرضية أم الكتاب للعلامة محمد بشير السهيواني مؤلف كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان.
6_شرح مسند الإمام أحمد على تبويب المحدث عبد الحكيم النصير آبادي، طبع منه ستون صفحة بالقطع الكبير من جمعية أهل الحديث بدهلي، ثم توقف نشره لعوائق.
7_ استدراك وتعقيب على ((الفتاوى الثنائية)) للعلامة ثناء الله الأمرتسري (رتبه الشيخ محمد داود الدهلوي في مجلدين كبيرين) .
8_ برق إسلام في الرد على كتاب علم الحديث لأسلم الجيراجفوري الذي أنكر حجية السنة [27] .
والشيخ المحدث عبد الحق الملتاني:
من كبار علماء عصره، وأحد تلاميذ السيد نذير حسين البارزين في علوم السنة، وله جهود مخلصة في نشر السنة والعقيدة الصحيحة، وكان يحرر الفتاوى عند شيخه السيد نذير حسين، وعدد كبير من فتاواه مطبوعة في ضمن ((الفتاوى النذيرية)) .
هذه نبذة عن تلاميذ المحدث السيد حسين الدهلوي الذين اشتغلوا بخدمة علوم الحديث الشريف، وكان لجهودهم دور كبير في تنشيط حركة السنة النبوية في القرن.(24/335)
وقد أحسن من عدّ الإمام مجدد القرن الرابع عشر مجدد علوم الكتاب والسنة ومصلح هذه الأمة، وقد نفع الله بجهوده تلاميذه الأمة الإسلامية بما لا يعلمه إلا الله، وقضى الإمام المحدث حياته في الدعوة والإصلاح والإفتاء والتدريس التي تحتوي على أكثر من نصف قرن، وقد تتلمذ عليه واستجاز منه آلاف من علماء العالم الإسلامي، وقد ذكر أسماء خمسمائة منهم مؤلف الحياة بعد المماة في سيرة الإمام المجدد، وقال: "إن هذا الفهرس مختصر جدا، لأن عدد تلاميذه حسب ما قال لي الشيخ تلطف حسين والحافظ محمد حسين لا يقل عن عشرين ألفا وعدد الذين استفادوا من دعوته وتآليفه وتأثروا بمنهجه لا يقلون عن ثمانية ملايين، فإني سألت الشيخ تلطف حسين حينما سافرت إلى دهلي في سنة 1903م فقلت له: إنك لازمت المحدث السد نذير حسين من خمسة وعشرين سنة، فهل قيدت أسماء تلاميذه في الفهرسة. فأفاد: إني حينما كنت مديرا لشئون تغذية الطلاب، قيدت أسماء تلاميذه في ثلاثة أعوام، فبلغوا اثني عشر ألفا، ثم تركت تقييدهم لكثرة أشغالي وأعمالي التجارية، ثم حينما التقيت بالشيخ الحافظ محمد حسين الضرير الفنجابي في 20 فبراير سنة 1903م فسألته عن عدد تلاميذه بدون أي إشارة إلى ما أفادني الشيخ تلطف حسين، فأفادني أنه حينما سافر إلى للدراسة فكان رقمه في دفتر تلاميذه (12000) [28] ، وقد مضى قول الأستاذ عبد الحي: نفع الله بعلومه خلقا كثيرا، من أهل العرب والعجم، وانتهت إليه رئاسة الحديث في بلاد الهند".
وقول المحدث حسين بن محسن الأنصاري: إنه فرد زمانه ومسند وقته وأوانه ومن أجلّ علماء العصر بل لا ثاني له في إقليم الهند في علمه وحلمه وتقواه وأنه من الهادين والمرشدين إلى العلم بالكتاب والسنة والمعلمين لهما، بل أجل علماء هذا العصر المحققين في أرض الهند أكثرهم من تلامذته.(24/336)
هذا وفي الحلقات الآتية أذكر بعض تلاميذه من البلاد العربية ثم أردف بذكر علماء الحديث الذين أخذوا العلوم عن تلاميذ الإمام المحدث. وفقنا الله لإتمام هذه الحلقات، ولما يحب ويرضاه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نزهة الخواطر 7/ 417 وانظر أيضا لترجمته، (غاية المقصود) المقدمة، والحيات بعد المماة، وحضرت مولانا داود غزنوي (ص 234) .
[2] انظر لترجمته: غاية المقصود (المقدمة) ، تذكرة علماني حال 36، نزهة الخواطر 8/218 219، تاريخ أهل الحديث للعلامة إبراهيم مير السيالكوتي حضرت مولانا داود غزنوي 232-235، حياة شمس الحق وآثاره 283-284.
[3] انظر تاريخ أهل الحديث للسيالكوتي، وحضرت مولانا داود غزنوي.
[4] نفس المصدر السابق.
[5] تاريخ أهل الحديث، وحضرت مولانا داود الغزنوي.
[6] حضرة مولانا داود غزنوي لابنه البروفيسور أبي بكر.
[7] نزهة الخواطر 8/178.
[8] انظر: الحياة بعد المماة، ونزهة الخواطر 8/178، وتراجم علماء حديث الهند 157-158.
[9] نزهة الخواطر 8/361.
[10] انظر لترجمته: الحياة بعد المماة، ونزهة الخواطر 8/360-361.
[11] انظر لترجمته: جريدة أهل الحديث أمرتسر 17 أكتوبر سنة 1919م ونزهة الخواطر 8/333-334 وحياة شمس الحق ولآثاره223-224.
[12] علماء أهل حديث كي علمي خدمات 60.
[13] غاية المقصود (المقدمة) إتحاف النبيه (المقدمة) للفوجياني 28، وأهل الحديث كي علمي خدمات.
[14] انظر لترجمته: جريدة أهل حديث أمرتسر مجلد 16 عدد 13 31 يناير سنة 1919م وتذكرة علمائي حال 29 ونزهة الخواطر 8 /159 -160، وتراجم علمائي حدين الهند.(24/337)
[15] انظر لترجمته: جريدة أهل الحديث أمرتسر 31 أكتوبر سنة 1919م، وتذكرة علمائي حال 73، ونزهة الخواطر 8 /408 وحياة شمس الحق وآثاره 301 -302.
[16] عون المعبود 4 /552 والحياة بعد المماة 344، وجريدة أهل حديث 6 ديسمبر سنة 1918 م، وتذكرة عامائي حال 30، ونزهة الخواطر 8 /94.
[17] عون المعبود 4 /552، والحياة بعد المماة 344، وجريدة أهل حديث 6 ديسمبر سنة 1918 م، وتذكرة علمائي حال 20، ونزهة الخواطر8 /94.
[18] انظر لترجمته: الحياة بعد المماة 344 -345، ونزهة الخواطر8 /337 -338، وحياة شمس الحق وآثاره 289 -291.
[19] انظر لترجمته: عون المعبود 4 /553، وحياة شمس الحق وآثاره 302.
[20] عون المعبود 4 /553، وجريدة أهل حديث أمرتسر 2 صفر سنة 1352 هجري، وتذكرة علمائي حال 99، ونزهة الخواطر 8 /526-527، وحياة شمس الحق وآثاره 302 -304.
[21] نزهة الجواطر8 /153.
[22] جريدة أهل حديث أمرتسر مجلد 18 أكتوبر سنة 1921 م، ونزهة الخواطر 8 /153 وأهل حديث كي علمي خدمات.
[23] نزهة الخواطر8/76.
[24] نزهة الخواطر 8/76.
[25] نزهة الخواطر (الجزء الأول، المقدمة) ، وتراجم علمائي حال 40، وتراجم علمائي حديث هند، وحياة عبد الحي لابنه أبي الحسن علي الحسني الندوي.
[26] انظر: لترجمته: تراجم علمائي حديث هند، وهندوستان مين أهل حديث كي علمي خدمات.
[27] تراجم علماء حديث هند 172، وهندوستان مين أهل حديث كي علمي خدمات، والعجالة النافعة مع التعليقات الساطعة 107، وجريدة الاعتصام، لاهور 4 أغسطس سنة 1961م، وحياة شمس الحق وآثاره، ومجلة برهان 2 سبتمبر سنة 1953م.
[28] الحياة بعد المماة (354-355) .(24/338)
من روائع الفتح الإسلامي فتوح الشام
للدكتور محمد السيّد الوكيل
وكيل كلية الحديث الشريف
توطئة:
كانت معركة اليرموك بابا انفتح بانفتاحه الطريق إلى بلاد الروم، كما كانت القادسية بالنسبة لبلاد الفرس، فكلتا المعركتين شجعتا المسلمين على الاستمرار في الفتح والغزو وقد تم النصر في المعركتين في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – ضي الله عنه- فقد سبق القضاء بوفاة الخليفة أبي بكر – رضي الله عنه - قبل أن يحرز المسلمون النصر في معركة اليرموك وحمل البريد في ذهابه أسوأ نبأ سمعه المسلمون بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ألا وهو نبأ وفاة أبي بكر، كما حمل في إيابه نبأ عزى المسلمين في مصابهم، وسلاهم عن وفاة خليفتهم، ذلكم هو نبأ انتصار المسلمين في اليرموك.
إن اليرموك حسنة في ميزان الخليفة الأول، فهو الذي عبأ لها، وهو الذي أمد جندها بالقائد المظفر، عبقري الحرب، خالد بن الوليد، فكيف لا يفرح المسلمون بالانتصار فيها؟ وكيف لا يتسلون بأنبائها عن وفاة الخليفة وهي ثمرة جهده، وثقل في ميزانه؟
وعاد البريد يحمل إلى الخليفة الثاني أنباء النصر، ففرح الخليفة به، وترضى عن أبي بكر، وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وأقر الأمراء الذين ولاهم أبو بكر على ما كانوا عليه في عهد سلفه الراحل، واستثنى منهم أميرين: أما الأول فخالد بن الوليد فقد عزله الخليفة عن إمرة الجيش، وضمه إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح بعد أن أسند إليه قيادة جيوش الروم، وأما الثاني فعمروا بن العاص وقد أمره الخليفة أن يعين الناس حتى إذا انتهوا من فتح دمشق وفحل تولى أمر الحرب في فلسطين.(24/339)
آل أمر جيوش الشام إلى قيادة أبي عبيدة، فأخبر أبو عبيدة خالدا بما أحدث أمير المؤمنين بعد انتهاء خالد من فتح دمشق، فقال خالد: يرحمك الله! ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟ فقال أبو عبيدة: كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وما يضر الرجل أن يليه أخوة في دينه ودنياه [1] .
عزم أبو عبيدة –رضي الله عنه- على مواصلة الزحف على بلاد الروم، ولكنه تردد، ولم يدر بماذا يبدأ؟ أيتوجه إلى دمشق؟ وحينئذ يكون قد ترك خلفه بفحل جيشا لجبا للروم يقدر بثمانين ألف مقاتل لا يأمن أن يبغته من ورائه.
أم يتوجه إلى فحل، فهو يخشى أن يتجمع الروم بدمشق، ويقوي أمرهم، ولا يستطيع المسلمون فتحها إلا بجهد ومشقة وشدة، وحينئذ قطع هذا التردد، وأرسل إلى الخليفة يستشيره بأيهما يبدأ.
ورد عليه الخليفة قائلا: أما بعد، فابدؤوا بدمشق، فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تمون بازائهم في نحورهم، وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين [2] .
فتح دمشق:
بهذا الرد أنهى الخليفة تردد القائد، وأمن مخاوفه، حيث أمره يبدأ بدمشق لأنها عاصمة البلاد، وسقوط العاصمة يؤدي دائما إلى ضعف المقاومة في الأطراف وكثيرا ما تكون المقاومة بعد سقوط العاصمة من أجل الحصول على الأمان، أما استرداد العاصمة، أو إعادة مكانتها إليها فقلما يخطر ذلك على بال المقاومين، وإن حصل ذلك أحيانا فإنما يكون رمية من رام لظروف طرأت فغيرت مجرى الأوضاع.(24/340)
وأمن الخليفة خوف القائد مما يجد فحل حين أمره بإرسال خيل تقف بازائهم فتشغلهم بأنفسهم عن التفكير في مباغته المسلمين، ولم ينس الخليفة أهل حمص وأهل فلسطين وما بين أهل دمشق من علاقات تفرض عليهم مساعدة الدمشقيين فذكر القائد بذلك حتى لا يؤتي من قبل ما لا يتوقع.
وصدع القائد بأمر الخليفة وعبأ جيشه، وتوجه به نحو دمشق، وقبل أن ينطلق بجيشه أرسل إلى فحل عشرة قواد، ومعهم جيش عظيم، وأمر عليهم عمارة بن مخشى الصحابي ووجه جيشا بقيادة علقمة بن حكيم ومسروق العكي ليشغل أهل فلسطين عن مساعدة دمشق، وبعث ذا الكلام في جيش ليحول بين أهل حمص وإمدادهم لأهل دمشق.
واطمأن أبو عبيدة للخطة، فلم يعد هناك ما يشغله، ولا يهدد أمن الجيوش الزاحفة نحو دمشق، إن تلك الخطة قد قطعت كل أمل في مساعدة الدمشقيين، ولا شك أنهم سيقفون وحدهم في مواجهة المسلمين، وحينئذ لن يعجز المسلمين أمرهم وستكون الدائرة عليهم.
لقد كانت فحل مصدر خطر عظيم حيث يعسكر فيها جيش قوامه ثمانون ألفا مدججون بالسلاح والعتاد، وهم على استعداد لنجدة قوات دمشق إذا اقتضى الأمر، ولكن عمارة بن مخشى وجيشه قد فاجئوا الجيش المدل بعدته وعتاده فسقط في يد الروم، وبثقوا المياه فأوحلت الأرض راجين أن يحول ذلك بينهم وبين الجيش الذي قدم لمحاصرتهم، واغتم المسلمون لتلك المكيدة الخبيثة ولم يدر قط بخلدهم أن الله –غز وجل- قد قضى أن يكون ذلك من أعظم أسباب نصرهم، ورابط الجيش في مكانه محاصرا جيش الروم بفحل من أرض الأردن.(24/341)
وكذلك كانت حمص مركزا رئيسيا لقوات الروم، وكان هرقل قد فر إليها بعد اليرموك حين علم بأن قوات المسلمين يستعدون لغزو دمشق، ولما حاصر المسلمون دمشق استغاث أهلها بهرقل، واستمدوه، ولم يخيب هرقل أملهم فيه، فأمدهم بجيش على خيل ليضمن وصول المدد في أسرع وقت، ولكن ذا الكلاع وجيشه قد رصدوا تحركاتهم، ووقفوا في وجه المدد، وحالوا بينه وبين الوصول إلى دمشق، فلم يتمكن المدد من الوصول، وظل أهل دمشق تحت رحمة جيش المسلمين.
توجه أبو عبيدة بجيشه نحو دمشق، وكان الأمير يزيد بن أبي سفيان، فجعل خالدا على القلب، وأبا عبيدة وعمرا على المجنبتين، عياض بن غنم على الخيل، شرحبيل بن حسنة على الرجالة، فلما نزلوا الغوطة وجدوا دورها وبساتينها خاوية على عروشها، ليس بها ديار ولا نافخ نار، لقد فر القوم إلى دمشق ليحتموا بأسوارها المنيعة وحصونها الشامخة، فنزل المسلمون بها وسكنوا دورها واستمتعوا بخيرات بساتينها، وكان ذلك عونا لهم على محاصرة المدينة العتيدة.
كانت أسوار دمشق ترتفع في الهواء ستة أمتار أو تزيد، وكان عرضها ثلاثة أمتار بل تزيد وأما حصونها فكانت شاهقة شامخة كثيرة الشرفات، وكان لأسوارها أبواب ضخمة ترد من يريدها بسوء، وأحيطت تلك الأسوار بخندق عرضه ثلاثة أمتار، تملؤه مياه بردى لتحمي المدينة من المهاجرين أو على الأقل تعوق مسيرتهم حتى يستعد حراس الأسوار للقاء الغزاة.
ورغم كل ذلك أصر أبو عبيدة على محاصرة دمشق، وتقدم الجيش الظافر إلى دمشق، وكانت نشوة النصر في اليرموك لا تزال تهزه وتدفعه لطلب المزيد من النصر واشتغل القائد العظيم طرب الناس بنشوة النصر، كما استعان بشوقهم إلى رؤية دمشق التي كثيرا ما سمعوا عنها ما يشجعهم على التضحية لفتحها، وأصدر أبو عبيدة أمره بمحاصرة المدينة، وعين لكل فريق بابا من أبوابها الكثيرة المنتشرة في سورها الحصين.
محاصرة دمشق:(24/342)
نزل أبو عبيدة على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب كيسان، ونزل خالد بن الوليد على بابها الشرقي [3] .
وعلم المسلمون أن الحصار سيطول، وبخاصة أن زمن الشتاء قد اقترب والبرد هناك يمزق الجلود، ويقطع الأوصال، وكان جيش الروم المحاصر في داخل العاصمة يعتمد على بردها القارص، وطقسها الذي لا يتحمله سكان جزيرة العرب الشديدة الحرارة، ولهذا ظل جيش دمشق معتصما بها رغم خيبة أمله في وصول إمدادات هرقل إليه، إن قادة الجيش وإن خاب أملهم في هرقل فلن يخيب في برد الشتاء ورده لهؤلاء الأعداء، فكم حاصر المدينة معتدون وكان الشتاء وحده كفيلا بطردهم وردهم على أعقابهم.
استعد المسلمون لذلك كله فنصبوا المناجيق، وأعدوا الدبابات، فأما طول الحصار فلهم في بساتين الغوطة وأنهارها ما يكفل لهم حياة رغدة هنيئة، وأما شدة البرد فقد هيئوا أنفسهم بالصبر وقوة التحمل، وأما مناعة العاصمة فإن تشديد الحصار وتضييق الخنادق جديران بتحطيم معنويات المتحصنين بها، ولهم بعد ذلك وفوق ذلك كله تأييد الله –عز وجل- ونصره فما لهم لا يصبرون؟
بدأ المسلمون يهاجمون دمشق، ويضربونها بالمناجيق، ويقتربون من أسوارها بالدبابات، ولكن ذلك لم يغن شيئا، واستطاع جيش الروم أن يصبر لذلك ويرد هجمات المسلمين، ولكنه يخش الخروج إليهم، فلا تزال النهاية المؤلمة في معركة اليرموك عالقة بأذهانهم، وطال الحصار فعلا حتى بلغ ستة أشهر عند بعض المؤرخين، وانتهى فصل الشتاء، وخاب الأمل الوحيد الذي كانوا لا يشكون في عونه لهم، ووقوفه إلى جوارهم.
وبدأ أهل دمشق يطلبون الصلح على لسان أسقف منهم [4] ، وأجابهم المسلمون على أن يكون للمسلمين نصف ما بأيدي الروم من الأموال والأملاك، ولكن الروم ترددوا وأبوا [5] .
فتح دمشق:(24/343)
وظل الحال على ما هو عليه، المسلون يشددون الحصار، والروم لا يعرفون سبيلا للخروج من ذلك الحصار، حتى كانت ليلة استطاع خالد بن الوليد الذي كان يراقب الموقف بدقة وعناية فائقتين أن يعبر الخندق هو وجماعة من جيشه منهم القعقاع بن عمرو، ومذعور ابن عدي سباحة بالقرب نفخوها وعلقوها في أعناقهم، وتسلقوا السور الشاهق بالحبال والأوهاق، وانحدروا إلى داخل بالحبال نفسها، وكبروا فاجتمع المسلمون حول السور والباب، وعالج خالد ومن معه الباب بالسيوف ففتحوها بعد أن قتلوا البوابين، ودخل المسلمون المدينة عنوة، وذعر أهل دمشق فهرعوا إلى الأبواب الأخرى يطلبون الصلح فوافق المسلمون، وعقدوا معهم الصلح ما عدا خالدا فقد دخلها عنوة، والتقى القواد المسلمون في وسط المدينة عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان [6] .
يقول صاحب الفتوح: وهو موضع النحاسين بدمشق، وهو البريص الذي ذكره حسان ابن ثابت في شعره حين يقول:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل [7]
والرواية هذه متفق عليها بين المؤرخين في فتح دمشق إلا من شذ منهم فقلب الكلام وعكس الوضع وادعى أن خالدا دخلها صلحا وأبا عبيدة أو يزيد دخلها عنوة.
ولكن كيف عرف خالد بانشغال الروم في تلك الليلة حتى أقدم على اقتحام العاصمة؟ تجري الروايات بأن خالد كان يقظا مهتما بالأمر، وأنه كان لا ينام ولا يترك أحدا ممن معه ينام، وفي تلك الليلة لاحظ هدوء السور وخلوه من الحراس، فما أسباب ذلك؟ يقول الطبري وابن كثير وغيرهم: بأنه ولد للبطريق مولود فصنع لأهل دمشق طعاما اجتمعوا عليه، وأكلوا وشربوا وغفلوا عن واجبهم وشغلوا عن مواقفهم فلاحظ ذلك خالد فانتهز الفرصة وكان الاقتحام.(24/344)
ويقول البلاذري: "إن رجلا منهم أتى خالدا، وأخبره أن هناك هذه الليلة ليلة عيد لأهل المدينة، وأنهم في شغل، وأن الباب الشرقي قد ردم بالحجارة وترك وأشار عليه بأن يلتمس سلما، فأتاه قوم من أهل الدير الذي عند عسكره بسلمين فرقى جماعة من المسلمين عليهما إلى أعلا السور، ونزلوا إلى الباب وليس عليه إلا رجل أو رجلان، فتعاونوا عليه وفتحوه وذلك عند طلوع الشمس" [8] .
والروايتان تؤديان إلى نتيجة واحدة هي أن خالدا فتح دمشق من بابها الشرقي عنوة، وأن أهلها كانوا عنها غافلين، وأن خالدا استعمل في الوصول إلى غايته السلاليم سواء كانت من الحبال أم منن غيرها، وأنه غامر ودخل المدينة وهي مغلقة الأبواب وهو الذي فتحها لجيشه.
ولكنهما تختلفان مع هذا في شيء آخر وهو أن خالدا في الرواية الأولى عرف انشغال الدمشقيين بفطنته ويقظته، وأن خالدا قد أعد الحبال والأوهاق [9] ليستعملها عندما تحين الفرصة، وفي الرواية الثانية عرف انشغال الناس بواسطة واحد منهم، وأنه استعار السلاليم من أهل الدير القريب منه.
والذي تميل إليه النفس هو الرواية الثانية، فقد حدث ذلك كثيرا في البلاد التي فتحها المسلمون بعد أن استعصت عليهم، وبخاصة وأن الروم كانوا قد ظلموا الرعية، وأرهقوا الناس بالضرائب الباهظة، وكان الناس قد ملوهم وملوا حكمهم، وضاقوا بأساليب ظلمهم، وقد حدث ذلك فعلا عند فتح الإسكندرية.
وإلا فإن هدوء السور وخلوه من الحراس لا يدلان على انشغال الناس فقد يكون ذلك مكيدة للتغرير بالمسلمين وإيقاعهم في حبائلهم، ومثل ذلك لا يغيب عن فطنة خالد العبقري، ولا يعزب عن ذهنه.(24/345)
والرواية الثانية على ما هي عليه لا تقلل من عبقرية خالد العسكرية، ولا تهون شأن الدور الذي قام به خالد في فتح المدينة الحصينة، بل إنها لتعطي إلى جانب القدرة العسكرية الفائقة حنكة سياسية بارعة، حيث استطاع خالد –رضي الله عنه- أن يكسب عطف الناس، ويستميل قلوبهم إليه حتى انتهز ذلك الرجل انشغال الناس بعيدهم، وقصد خالدا، وأخبره بما عليه أهل دمشق وأغراه بالفتح.
فبينما نرى خالدا سياسيا بارعا أقام علاقات حسنة مع أحد الأساقفة، وكسب عطف الناس واستمال قلوبهم، نراه هو وأصحابه وقد نفخوا القرب، وعلقوها في أعناقهم، وعبروا بها الخندق المحيط بالسور، ولا يكاد يعبر حتى ينصب السلاليم ويرقى عليها ثم يستعملها في الهبوط إلى داخل المدينة، وصيحات التكبير تملأ الفضاء، ويقتل الحراس، وينشر الرعب في أنحاء العاصمة الحالمة الوديعة التي كان أهلها بالأمس يلهون آمنين.
إنها حنكة خالد السياسية شدت أزر عبقريته الحربية فكانت الثمرة فتح دمشق العتيدة الحصينة، ما أروع الحنكة السياسية حين تتعاون مع الخبرة العسكرية، وأعظم من ذلك وأروع أن تجتمع الصفتان في رجل واحد قادر على استخدامهما متى شاء لا حين تجبره الظروف وتضطره الأوضاع.
كان فتح دمشق عند بعض المؤرخين بعد اليرموك وفي السنة نفسها بعد حصار دام سبعين يوما أو أربعة أشهر أو ستة أشهر، وكان ذلك كله ولم تخرج سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية، والرأي الذي رجحه ابن كثير هو أنه فتحت في رجب سنة 14 هـ وقال: "هو رأي الجمهور" [10] .(24/346)
واتفاق المؤرخين على أن دمشق وإن كان بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا إلا أنه قد أجرى عليها جميعا حكم الصلح، وكان الصلح عند أكثر المؤرخين على المقاسمة أي أن المسلمين قاسموا سكان دمشق كل ما كان في أيديهم حتى الكنائس، وكان عددها خمس عشرة كنيسة أخذ المسلمون منها سبعة وقاسموهم أكبر الكنائس وأضخمها كنيسة القديس يوحنا المعمدان [11] ، فأخذ المسلمون نصفها وجعلوه مسجدا وتركوا لهم نصفها الغربي كنيسة يقيمون فيها شعائرهم [12] ، وقد أخذ الوليد بن عبد الملك منهم النصف الذي بأيديهم وأدخله في المسجد المعروف بالمسجد الأموي اليوم [13] .
وتضمن هذا الصلح فرض الجزية على سكان دمشق، وقد جعلها أبو عبيدة دينارا على كل رأس وشيئا من الحنطة والزيت والخل يقتات به المسلمون، وكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فكأن عمر لم يرض بذلك بل نظر إلى طبقات الناس واختلافهم في اليسار وعدمه [14] ، كما فرضها على الذكور البالغين القادرين على تأديتها دون غيرهم [15] .
روى البلاذري أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموس، وأن يجعلوها على أهل الورق أربعين درهما، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير، وعليهم من أرزاق المسلمين مدان من حنطة، وثلاثة أقساط زيتا، وجعل عليهم ودكا وعسلا [16]
المسلمون في دمشق:
استقر الأمن للمسلمين في دمشق، وطاب لهم فيها المقام، فعاشوا بين قصور وأنهار وورود وأزهار، ونظر أبو عبيدة فإذا كثير من أهل دمشق يتركون بيوتهم ويفرون إلى إنطاكية، حيث يقيم هرقل، ورأى المسلمين يسكنون هذه الدور، وينعمون بتلك القصور فخاف أن يخلدوا إلى الدعة والنعيم، وأن ينسوا من خلفوا وراءهم من المقاتلين فذكرهم بهم حين عمد إلى قسم الغنائم، فقسم معهم لذي الكلاع وجنوده، ولأبي الأعور ورجاله، ولبشير ومن معه، كما قسم للجنود الذي يحاصرون فحلا.(24/347)
وبهذا يمون أبو عبيدة –رضي الله عنه- قد ذكر المسلمين بإخوانهم الذين دفعوا عنهم، وينتظرونهم ليكملوا معهم المشوار الذي بدءوه.
وأما هذه الدور وتلك القصور التي تركها أهلها وفروا منها، فلا ينبغي أن تشغلهم عن مسيرة الجهاد في سبيل الله حتى لا يحل بهم ما أحل بأهلها الذين فروا منها إلى غير رجعة، وليكن للمسلمين فيهم عبرة فالسعيد من وعظ بغيره.
هرقل يودع دمشق:
وأما هرقل إمبراطور الروم، وصاحب البلاد، فكان كلما سمع بانتصار المسلمين يبتعد عن الموطن الذي فتحوه، وظل يفر من بلد إلى بلد، وينتقل من مكان إلى مكان يطلب النجاة، وينتظر الفرج، حتى سقطت دمشق. ثم حمص وقنسرين في أيدي المسلمين حينئذ فر هرقل إلى القسطنطينية، وأشرف على نشز من الأرض والتفت إلى الشام وقال: "السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده" [17] .
ويقول أبو جعفر: "لما فصل هرقل من شمشاط وأخلا الروم التفت إلى سورية فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا [18] .
وكتب أبو عبيدة بالفتح إلى الخليفة فسر به، وكتب إلى أبي عبيدة أن اصرف جند العراق إلى العراق، فأخرج أبو عبيدة جند العراق، وهم الذين قدموا مع خالد بن الوليد، وأمّر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وعوضه عمن قتل منهم، وأمرهم بالسير واللحوق بسعد بن أبي وقاص، وخرج هو وبقية الأمراء متجهين إلى فحل [19] .
من دمشق إلى فحل:(24/348)
لا يزال القواد العشرة الذين أرسلهم أبو عبيدة لمحاصرة فحل مرابطين عندها وكلما هم المسلمون بغزو المدينة حال الوحل بينهم وبين ما يريدون، ذلك لأن جيش الروم لما علم بقدوم جيش المسلمين إليهم فزعوا أشد الفزع، وفكروا كيف يدفعون هذا الموت الزاحف عليهم؟ فبثقوا مياه نهر الأردن ومياه بحيرة طبرية فغرقت الأرض بالمياه، وكانت الأرض سبخة فتحول ترابها إلى وحل وطين لم يتمكن الجيش بسببه من اقتحام المدينة.
وكان أبو عبيدة قد انتهى من دمشق، وعقد الصلح مع أهلها، ونظر فإذا هرقل يحرض الناس عليهم، والروم يجتمعون حوله في إنطاكية، وفكر القائد ماذا يصنع؟ أيذهب إلى هرقل ليقضي عليه، ويريح المسلمين من تحريضه وشره؟ أم يذهب إلى فحل ليؤمن ظهر الناس، وتصير الشام بعدها سلما للمسلمين؟
وسرعان ما تذكر أبو عبيدة رسالة الخليفة وأمره بالتوجه إلى فحل بعد فتح دمشق فلم يعد هناك مجال للتردد والتفكير، فليذهب أبو عبيدة وجيشه إلى فحل، وليكن من أمر هرقل بعد ذلك ما يكون.
استعد أبو عبيدة للمسير إلى فحل، وخلّف يزيد بن أبي سفيان في خيله على دمشق حتى لا تنتقض أو ترتد، وتقلب للمسلمين ظهر المجن.
وكان شرحبيل بن حسنة هو أمير الجيش حسبما وصى الخليفة، ورتب شرحبيل جيشه، فجعل خالدا على المقدمة، وأبا عبيدة وعمرا على المجنبتين، وضرار بن لأزور على الخيل، عياض بن غنم على الرجل [20] .
سار الجيش على بركة الله، يحده أمل كبير في فتح هذه البلاد حتى تهدأ بلاد الشام كلها، ويصبح فيها المسلمون آمنين، واتجه شرحبيل بجيشه نحو الجنوب حتى انتهى إلى الجيش المحاصر وعليه أبو الأعور السلمي، فوجده وقد حال الوحل والماء بينه وبين جيش الروم.(24/349)
وأراد شرحبيل أن يحرك الجيش الذي حاصر فحل تلك الفترة الطويلة دون أن يستطيع فتحها ليجدد نشاطه، ويحفزه للعمل بعد طول توقف فبعثه إلى طبرية فخرج أبو الأعور السلمي بجيشه متوجها إلى الشمال حيث تكون طبرية.
ونزل شرحبيل بجيشه الذي ضم خيرة قواد المسلمين على فحل، فوجد الأرض لا زالت غارقة بالوحل والماء، وبحث المسلمون حولهم فوجدوا أنفسهم بأطيب مقام، الأرض خصبة، والخيرات كثيرة، والعيش رغد، والروم محصورون لا يصلهم مدد ولا يسعفهم عون، فلماذا يتعجلون؟
وكتب القائد إلى الخليفة يخبره بموقف الجيش، ذلك لأن عمر –رضي الله عنه- كان يوصي القواد دائما بالكتابة له بكل ما يكون عليه الجيش حتى يكون بقلبه وروحه دائما مع المجاهدين وما كان يحب أن يخفى عليه شيء من أحوالهم، ولم يكن هناك ما يدعو للعجلة فأقام الجيش حتى يأتيه أمر الخليفة.
مغامرة يائسة:
رأى سقلاّر قائد جيش الروم وجوها جديدة تحاصر المكان، ورأى في تصرفاتهم عدم الاكتراث بطول الحصار، فتأكد أن القوم جادون في حصارهم، وأنهم لن يبرحوا الأرض –مهما طال وقوفهم- حتى يفتحوها، فماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟؟
لقد كانت هزيمتهم في اليرموك لا زالت تقض مضاجعهم، وتفت في أعضادهم ثم بلغتهم أخبار دمشق ذات الحصون والأسوار فزادت في فزعهم واضطرابهم وهاهي ذي الأنباء تترى بأن هرقل يتأهب لمغادرة بلاد الشام إلى غير رجعة.
لم يكن أمام جيش الروم إزاء تلك الأحداث الجسام، وبعد تلك المواقف المفزعة إلا أن يغامر بخوض معركة مع المسلمين وليكن الموت فهو على كل حال خير من الأسر وإن كان مشوبا بعار الهزيمة.(24/350)
عزم سقلار على مباغتة المسلمين وتبييتهم، فأرسل فرقة من جنوده ليكتشفوا له من خلال الوحل طريقا بها يهاجم منه المسلمين، معتقدا أنه سيأخذهم على غرة وهم نائمون، ولكن شرحبيل قائد قوات المسلمين كان دائما على استعداد، لأنه كان يتوقع أن يهاجمه الروم في أي لحظة، ولهذا فإنه كان يمسي ويصبح على تعبئة وجيشه في غاية اليقظة والحذر.
وتخير سقلار بن مخراق القائد اليائس ليلة ليبيت فيها المسلمين، فلما جن الليل عبر تحت ستار ظلامه ذلك المكان الوحل إلى حيث يعسكر المسلمون، وهو مطمئن تماما إلى غفلة المسلمين وعدم انتباههم له، ولكنه لم يكد يواجه الجيش الإسلامي حتى فوجئ باستعدادهم لملاقاته، وخاب أمله في كل ما كان يتوقعه من غفلة المسلمين وعدم انتباههم، فلم يكن بد من المعركة.
وتلقاه شرحبيل هو وجنوده، فقاتلوا أشد القتال، وقاوموا أعنف مقاومة أعادت إلى أذهان الروم استبسال المسلمين في معركة اليرموك، واستبسل الروم في القتال فلم تكن لهم رغبة في الحياة بعد قتلى اليرموك واستسلام دمشق وفرار هرقل.
واستمرت المعركة بتلك الشراسة طول الليلة التي هاجم فيها سقلار، وتنفس الصبح والقتال لا يزال مستمر الأوار، والموت يتخطف الناس من كل جانب، وأيقن المسلمون أن ما بين النصر والهزيمة هو صبر ساعة فصبروا محتسبين، وانتصف النهار والمعركة تزداد شراسة وفتكا، وتحمس المسلمون فبعد الزوال ينزل نصر الله كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدادت ثقتهم بهزيمة عدوهم فقد بدا على جيش الروم إعياء شديد، ولولا تشبث النفس الإنسانية بالحياة لألقوا بأيديهم منذ الجولة الأولى.
اللحظة الحاسمة:(24/351)
ولمس خالد بن الوليد وضرار بن الأزور ما أصاب جيش الروم من الفشل والوهن فشدا عليه شدة حطمت معنوياته، وأحدثت فيه من الخلل والاضطراب ما لم يعد في الإمكان تلافيه، وأقبل الليل بظلامه المخيف وسيوف المسلمين تنهبهم نهبا، فتزلزلت قلوبهم في صدورهم، واضطربت مع شدة الضربات صفوفهم، فحسبوا الليل فرصة للهروب من سيوف المسلمين فانهزموا حيارى خائفين، فضلوا الطريق، وأسلمتهم الهزيمة إلى الوحل الذي صنعوه بأيديهم لينع عنهم زحف المسلمين وقتل سقلار ورديفه نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه [21] .
ولحق بهم المسلمون وقد حال الوحل بينهم وبين الفرار، فتناولوهم بأطراف الرماح وقتلوا منهم ثمانين ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد، وهكذا بدأت الهزيمة في فحل، ووقع القتل في الرداغ [22]
إن تنصروا الله ينصركم:
وهكذا بدت للمسلمين آيات الله تعالى فقد كان سبحانه يهيئ لهم أسباب النصر في شيء كرهوه وبرموا به، لقد كان انبثاق الماء، وتوحل الأرض مكيدة اتخذها الروم ليعوقوا تقدم جيش المسلمين، وأراد الله أن يكون الماء والوحل سببا في انتصارهم وهزيمة عدوهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال الآية 30) . فانقلبت المكيدة على من اتخذها، وكانت عونا للمسلمين على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجدا [23] .
وغنم المسلمون من الروم في تلك المعركة مغانم لم يقدرها المؤرخون، فاقتسموها بينهم، واطمأنت نفوسهم إلى موعود الله لهم، وانصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص تنفيذا لأمر الخليفة، وصحبا معهما سمير بن كعب وذا الكلاع الحميري ومن معه وخلفا شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ليتمما فتح الأردن وفلسطين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن كثير 7/320.
[2] الطبري 3/437-438.(24/352)
[3] هيكل: الفاروق عمر 1/128.
[4] البلاذري ص128.
[5] الطبري 3/440.
[6] ابن كثير 7/20.
[7] البلاذري ص128.
[8] البلاذري ص128.
[9] الأوهاق: الحبال في أطرافها عقد تطرح على الشيء فتمسك به.
[10] ابن كثير 7/22.
[11] الفاروق عمر/هيكل 1/133.
[12] ابن كثير 7/21.
[13] البلاذري ص132.
[14] نفسه ص132.
[15] أبو يوسف ص132.
[16] البلاذري ص131.
[17] ابن كثير 2/494.
[18] الطبري 3/603.
[19] ابن الأثير 2/429.
[20] الطبري 3/442.
[21] الطبري 3/443 وابن كثير 2/430.
[22] ابن الأثير 2/430 والرداغ الطين والوحل.
[23] الطبري 3/443.(24/353)
من نماذج الدعاة الصالحين
الإمام أحمد بن حنبل
الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
لما كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى علما من أعلام الدعوة الإسلامية جعلناه الحلقة الأولى في السلسلة الثالثة من سلاسل ثلاث لنماذج من الدعاة الصالحين.
نسبته:
فمن هو الإمام أحمد؟
إنه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال العربي العدناني، إمام الفقه والحديث يكنى بأبي عبد الله الشيباني قدم به أبوه من مرو، حملا في بطن أمه فهو مروزي، وولد ببغداد ونشأ بها فهو بغدادي.
الكمال الأحمدي
إننا إذ نستعرض حياة الرجل العظيم إنما نهدف دائما إلى مكان الإئتساء فيها، فلذا لا نعمد غالبا إلى ذكر الكمالات الوهبية في الرجل العظيم، لأنها محض هبة الله لمن يشاء من عباده، وإنما نعرض للكمالات النفسية الكسبية إذ هي محط الإئتساب ومجال الاقتداء وهكذا فعلنا في استعراضنا لحياة من قدمنا من نماذج الدعاة الصالحين. وكذلك نفعل مع من سنذكر في هذه السلسلة الأخيرة، فلا نستعرض من حياة الداعية المثالي إلا ما كان فيه مجال للقدوة والائتساء وذلك كالعلم والجد في طلبه، والحلم والتفوق فيه، كالورع والزهد، والصبر والثبات والكرم والسخاء والصدق والوفاء.
ومن الكمال الأحمدي الذي نستعرضه طلبا للأسوة فيه: العلم وقوة الحجة فيه والورع والزهد والصبر على المكاره، والثبات على المبدأ، والربانية التي هي أهم الكمالات النفسية.
علمه وقوة حجته فيه:(24/354)
وعن علم الإمام أحمد نقول: إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني قد طلب العلم طلبا عاديا فلم يطلب الحديث ولم يجلس بين يدي رجاله إلا بعد أن بلغ السادسة عشرة من عمره كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين له. غير أنه فارق دياره ورحل في طلب الحديث والفقه في فجاج البلاد طولا وعرضا، ورحل إلى اليمن ماشيا على قدميه، لقلة ذات يديه. وأقام بها زهاء العامين يطلب الحديث من رجالها كعبد الرزاق صاحب المصنف ونالته في ذلك مشقة كبيرة ظهرت على جسمه وصحته العامة ولما وصل مكة وقيل له أجهدت نفسك يا أبا عبد الله قال رحمه الله: ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق كتبنا عنه حديث الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. كما روى الحديث عن يحي بن معين وإسحاق بن راهوية، والشافعي رحمهم الله تعالى. وقد دعاه إلى زيارة مصر فلم يقدر لعجزه المادي. ولما التقى به في رحلته الثانية إلى بغداد قال له: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث عندك فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا، أو عراقيا أو يمنيا. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن في قول الشافعي هذا لأحمد لإجلالا كثيرا وشهادة في العلم عظيمة.
وحسب الإمام شهادة مسنده الذي خرجه من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف وجمع فيه من الحديث ما كاد يحوي الكتب الستة إلا قليلا، وقال ولده عبد الله كان أبي يحفظ ألف ألف حديث أي مليون حديث.
وهاهي ذي شهادات العلماء له بالعلم والسعة فيه، والفضل والكمال لديه قال الإمام الشافعي خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وقال البخاري لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة.(24/355)
وقال أبو عمر النحاس وقد ذكر أحمد يوما في الدين: ما كان أبصره وعن الدنيا ما كان أصبره! وفي الزهد ما كان أخيره! وبالصالحين ما كان ألحقه وبالماضين ما كان أشبهه! عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها!
وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان. وقال يحي بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط كان محدثا وكان حافظا، وكان عالما ورعا، وكان زاهدا وكان عاقلا.
وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه. يعني أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى أجمعين.
أما عن قوة حجته في علمه:
فحسبنا للكشف عنها وإثباتها أن نورد بعض ما كان يرد به على أسئلة المبتدعة المبطلين من المعتزلة المارقين في مجلس الامتحان أيام المحنة.
قال المعتصم ناظره يا عبد الرحمن كلمه فقال عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيب ويسأل عبد الرحمن قائلا ما تقول في علم الله؟ فلم يجب عبد الرحمن المعتزلي، فيقول أحمد: إن القرآن من عند الله فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن قال بذلك فقد كفر..... فقال المعتزلي: إن الله كان في الأزل ولم يكن معه القرآن.
فيقول أحمد: لقد قلت إن القرآن من علم الله، فإذا قال قائل كان الله ولا قرآن معه فكأنه قال: كان الله ولا علم له.
المعتزلي: هو ضال مبتدع يا أمير المؤمنين.
الإمام: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها
المعتزلي: فأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله وسنة رسوله؟
الإمام أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
المعتزلي: إن الله يقول {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} والقرآن شيء فهو إذا مخلوق!(24/356)
الإمام: إن هذه الآية عامة أريد بها الخصوص لا العموم كقوله تعالى عن الريح التي أهلك بها قوم هود: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فهل دمرت كل شيء حقا، أو أنها لم تدمر إلا ما أراد الله..
المعتزلي: ويقول إن الله تعالى يقول: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} فهل يكون محدثا إلا المخلوق؟
الإمام: إن الذكر هو في القرآن جاء في قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فهو هنا معرف بالألف واللام، وفي الآية الأولى بدون الألف واللام فهذه غير تلك.
المعتزلي: إن عمران بن معين يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "إن الله خلق الذكر.." وفي ذلك تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن مخلوق.
الإمام: أخطأت فالرواية التي رويناها عن عمران وغيره من ثقلت أهل الحديث هي "أن الله كتب الذكر"
المعتزلي: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء هو أحب إليه من كلامه! "
أحمد: بلى، فلا روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المعتزلي: إن فيه دليل على أن القرآن مخلوق!
أحمد: لست أجد فيه هذا الدليل!
المعتزلي: إذا قرأت القرآن لتتقرب به إلى الله تعالى أليست كلمات مؤلفة من حروف وأصوات، وهل يتألف من حروف وأصوات إلا الكلام المخلوق فهل نجد لك مفرا بعد إذ أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتقرب إلى الله بتلك الألفاظ إلا أن تسلم بأن القرآن مخلوق!
الإمام: القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، وأما أفعالنا فيه إذا كتبناه أو تلفظنا به فهي مخلوقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول زينوا القرآن بأصواتكم، فالقرآن إذا غير أصواتنا المخلوقة التي نزينه بها. الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ.(24/357)
المعتزلي: إن تشبثك بأن القرآن كلام الله غير مخلوق معناه أنك تنسب إلى الله تعالى جوارح يتكلم بها كالمخلوقين وتشبيه الخالق بالمخلقات كفر!
الإمام: هو أحد صمد لم يلد ولم يولد، لا عدل له ولا شبيه وهو كما وصف نفسه. حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كلم موسى بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة، وثلاثة عشرة كلمة فكان الكلام من الله والاستماع من موسى، فقال موسى أي رب أنت الذي تكلمني أم غيرك؟ قال الله تعالى يا موسى أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك"، فهذا ما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه، وأنا ما أقول إلا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المعتزلي: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحمد: إن يك هذا كذبا مني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} .
وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فهو قول منه وليس خلقا من خلال هذا الحوار الذي دار بين المعتزلة الخصوم، تتجلى لنا حقيقة أن أحمد بن حنبل كان قوي الحجة وذلك ما رمناه من عرض هذا الجزء من المناظرة التي دامت أياما بين الإمام وخصومه وانتصر فيها حقه على باطلهم.
زهده وورعه:
إن الزهد لتقليل الدنيا زهي قليلة، واحتقارها وهي حقيرة ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها جرعة ماء، والرغبة عنها إلى الآخرة إيمانا بها وبخيراتها ودوامها والآخرة خير وأبقى. كما أن الورع هو الكف عن شهواتها وترك محرماتها والتقلل من مباحاتها، والبعد عن متشابهاتها طلبا للسلامة منها حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس.(24/358)
وبناء على هذا فإن الزهد والورع كل منهما صفة كمال في الإنسان المسلم وهما سلم إلى درجات الفضل والكمال والتفاوت بينها عظيم جدا، ومن هنا لم يكن أهل الورع والزهد في درجة واحدة بل بينهما من التفاضل ما الله بع عليم وهذا الإمام أحمد بين أهل الزهد والورع، يعتبر مثالا عاليا، وقدوة صالحة فلم يسبقه في هذا المجال أحد، ولم يلحقه آخر، والروايات التالية وهي صحيحة السند إلى الإمام أحمد أخرجها البيهقي ورواها عنه ابن كثير في بدايته تثبت الحقيقة وتؤكدها.
ولنكتف في باب الورع بروايتين منها فقط:
الأولى: قال يوما الإمام الشافعي لهارون رشيد: يا أمير المؤمنين إن اليمن يحتاج إلى قاض، فقال له الرشيد اختر رجلا نوله إياه. فقال الشافعي لأحمد وكان يتردد عليه لطلب العلم: ألا تقبل قضاء اليمن يا أحمد؟ فقال أحمد: إنما أنا اختلف إليك لطلب العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن آتي القضاء، ولولا العلم لما كلمتك بعد اليوم!!!
فاستحي منه الشافعي وسكت.
إن رغبة أحمد عن الولاية وهي مما يتسابق الناس إليه ويتنافسون في الحصول عليه، بل مما يتقاتلون على طلبه والظفر به لم تكن إلا ورعا منه، إذ طلب الولاية طلب مباح، ولكن تركها أحمد وهي لا بأس بها خشية الوقوع فيما به بأس.(24/359)
والثانية: أنه جاع ثلاثة أيام لقلة ذات يده فاستقرض دقيقا من أحد إخوانه ولما وصل إلى أهله عرفوا حاجته إليه فأسرعوا في خبزه وإنضاجه ووجدوا تنور لولده صالح مسجورا فأنضجوا قرص الخبز فيه، فلما قدم إلى أحمد وكأنه لاحظ سرعة تقديم الخبز له فسألهم فأخبروه أنهم طبخوه في تنور صالح ولده وكان صالح يتقاضى راتبا من الدولة فامتنع من أكله وواصل جوعه من ورعه. فأي ورع أعظم من هذا الورع؟ أمن أجل أن ولده يأخذ الجوائز المالية من السلطان يمتنع من أكل خبز يطبخ في تنوره المسجور، وهو ولده والولد وماله لوالده؟ فضرب أحمد بهذا رقما قياسيا في الورع لا يمكن أن يناله أحد سواه.
أما عن زهده رحمه الله تعالى فحدث ولا حرج قال أبو داود رحمه الله تعالى كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا وما رأيت أحمد ذكر الدنيا قط.
ولم يكن هذا منه رحمه الله تعالى إلا احتقارا للدنيا وعدم التفات إليها وذلك لقلتها وسرعة زوالها وهذا هو الزهد في الدنيا.....
وحكى ولده عبد الله رحمهما الله تعالى معا فقال كنا في زمن الواثق الخليفة العباسي في ضيق شديد فكتب أحد الصالحين إلى أبي -لا شك أنه سمع بحاجة أحمد وما هو فيه من ضيق- كتب إليه: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي، وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها أبعثها لك: فامتنع أحمد من قبولها، فكرر عليه الرجل قبولها فأبى أن يقبلها ورضي بحاجته وما به من خصاصة. وعرض عليه أحد التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها، ورد عليه قائلا: نحن في كفاية وأنت جزاك الله عن قصدك خيرا. كما عرض عليه شيخه عبد الرزاق باليمن يوما ملء كفه دنانير وهو في أمس الحاجة إليها لنفاد ماله وانقطاعه عن بلده فلم يقبلها.(24/360)
وأعظم من هذه وسابقتها أنه سرقت ثيابه باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، ووفده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا، ليكتب لهم به، فكتب لهم مقابله فكان أخذه منهم بأجرة عمل. ولم يكن بإحسان.
صبره على المكاره وثباته على المبدأ:
إن كان الصبر هو حبس النفس على الطاعة بحيث لا تتركها في سراء ولا ضراء وحبسها عن المعصية فلا تغريها في يسر ولا عسر وحبسها على البلاء فلا تضجر ولا تجزع فإن الإمام أحمد كان بذلك إمام الصابرين، وقدوتهم بحق فقد صبر في مواطن الصبر كلها فلم يضعف ولم يهن بحال من الأحوال حتى غدا صبره في محنته مضرب الأمثال وأعني بمحنته تلك التي امتحن فيها ببدعة القول بخلق القرآن حيث أن الخليفة المأمون العباسي كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق –كما قال ابن كثير وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله تعالى، واتفق أن خرج إلى غزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى هذه البدعة، فلما وصل الكتاب إليه قام فاستدعى أئمة الحديث ودعاهم إلى هذا الباطل فامتنعوا فهددهم بالضرب وقطع الرواتب والأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين واستمر على الامتناع أحمد ابن حنبل وآخر يقال له محمد بن نوح فحملهما على بعير وسيرا إلى الخليفة، حيث أمر بهما، وكان ببلاد الرحبة جاءها رجل من الأعراب يقال له جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، ,وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت عليه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدا. قال أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي.(24/361)
ولما اقتربا من جيش الخليفة ونزلا بمرحلة دونه جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول يعز عليه أن أقول لك يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفه، وهو يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بسيفه. فحنى أحمد على ركبته، ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤذته فما كان آخر الليل خرج الصريخ ينعي موت المأمون. ولم تكد تنفرج حتى ولى الخلافة المعتصم والتف حوله غلاة المعتزلة وشحنوه بالباطل وكان أشد على أهل السنة من المأمون، فردا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ومات ابن نوح في الطريق وأودع أحمد السجن مدة ثمانية وعشرين شهرا قضاها والقيد في رجليه لم ينزع عنهما فكان يصلي إماما بأهل السجن والقيد في رجليه رحمه الله تعالى. ولما تمت هذه المدة أحضر أحمد أمام الخليفة وليسأل ويضرب ويطلب إليه القول بالبدعة فيرفض ويعذب، حتى مل سائلوه ومعذبوه.
وضج من هول العذاب من حوله من السامعين والمتفرجين، والإمام صابر ثابت يقرع الحجة بالحجة، ويدفع ضجة الباطل ويعلو الحق. حتى كتب الله له وفاز بلقب بطل المحنة وإمام الثبات والصبر.
وهكذا صبر أحمد وثبت على مبدأ الحق فلم يبدل ولم يغير فكان مثال الكمال في الصبر والثبات على المبدأ فرحمه الله رحمة واسعة وخلد ذكراه، وجعل الجنة مثواه.
ربانيته ووفاته:
وأخيرا ربانيته ووفاته..
إن ربانية أحمد وهي قوة صلته بربه تعالى ونسبته إليه ولصوقه بجنانه تعالى حتى ما كان يعرف إلا به تعالى فيبلغ القول فيها إنها كانت ربانية قائمة على التوحيد الخالص، والعلم اليقين الكامل، والزهد لا فيما عند الله، والفقر إلا إلى الله. ولتجلي هذه الربانية القوية نورد طرفا من موجز كلامه وآخر من مظاهر كماله فنقول:(24/362)
لما حمل أحمد من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر من الضعف الذي أصابه فامتنع وأتم صومه، وحين حضرت الصلاة صلى معهم فقيل له صليت في دمك، فقال صلى عمر وجرحه ينصب دما، ولما أقيم ليضرب السياط انقطعت تكة سراويله فخشي أن تنكشف عورته فحرك شفتيه بالدعاء، فعادت سراويله كما كانت، وما حرك به شفتيه هو قوله: يا غياث المستغيثين يا إله العالمين إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة. وقيل له يوما ادع الله تعالى لنا فقال اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما وسكت. فقيل له زدنا فقال اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض إيتيا طوعا أو كرها فقالتا أتينا طائعين اللهم وفقنا لمرضاتك. اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك. اللهم لا تكثر فنطغى، ولا تقل علينا فنسيء، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك.
وقال صالح ولده كان أبي لا يدع أحدا يسقي له الماء ليتوضأ رمى بالدلو فخرج ملآن فقال الحمد لله، فقلت له يا أبت ما الفائدة بذلك؟ فقال يا بني أما سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} .
وعن مظاهر كماله نقول:(24/363)
لما انكشفت الغمة وزالت المحنة وولى أمر المسلمين المتوكل على الله وكان سلفيا يحب أهل السنة والجماعة بعث بصرة للإمام أحمد فلم يقبلها فأصر الخليفة إلا أن يقبلها وأصر أحمد على عدم قبولها جعلها الخليفة في ولده وأهله. فقال أحمد لولده وأهله يلومهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا وقد نزل بنا الموت فإما إلى الجنة وإما على النار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء.!!! فاحتجوا عليه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه "وابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان، فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال.
ولما علم المتوكل ببراءة أحمد مما نسب إليه حيث وشى به الواشون فحوصر بيته ليلا وفتشته تفتيشا دقيقا عما يثبت ولاءه للعلويين وتواطؤه معهم بعث إليه الخليفة مع أحد حجابه بعشرة آلاف درهم، وقال هو يقرئك السلام ويقول لك استنفق هذه فامتنع من قبولها. فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله، وقال لم أنم الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ولما أصبحوا فرقوها كلها حتى الكيس الذي كانت به تصدق به ولم يعط منها أهله وأولاده شيئا وهم في غاية الجهد والفاقة والفقر وهكذا تجلت ربانية أحمد وصدقه فيها فكان بذلك إماما وقدوة فيها وفي غيرها من سائر الكمالات النفسية.(24/364)
وعن وفاته نقول: مرض أحمد متى صح ذلك الجسم الذي أضناه الصيام وأقعده القيام. مرض مرضه الذي توفى فيه في أوائل شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، قال ابنه صالح دخلت على والدي يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف فقلت له يا أبت ما كان غداؤك قال ماء الباقلا. وأقبل الناس الأفاضل على عيادته، وتوافد الأكارم على بيته، فكتب رحمه الله تعالى وصيته، وكان يئن في مرضه، ولما بلغه عن طاووس كراهة الأنين تركه حتى كانت ليلة وفاته وهي ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول. ومن غريب ما حدث له في تلك الليلة أنه سمع وهو يقول لا، بعد، لا، بعد، فقال له ابنه صالح ما هذه اللفظة التي تلهج بها؟ فقال إن الشيطان واقف بزاوية البيت وهو عاض على إصبعه ويقول فتنى يا أحمد، فأقول لا، بعد، لا، بعد. ولما دنا الأجل قال لأهله وضئني وخللوا أصابعي فوضئوه ولما فرغوا من وضوئه فاضت روحه وهو يذكر الله تعالى. فإلى رحمة الله يا أسوة الصالحين وقدوة الزهاد والورعين، والسلام عليك في الأولين والآخرين.(24/365)
قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى
د. محمد عبد المقصود جاب الله
المدرس في كلية الدعوة بالجامعة
رابعا: أسباب النصر وعوامله:
فتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء، لأن هذا الظفر المتاح لهم ردّ عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلصهم من أغلال ثقال {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران آية 123) .
وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا استأثرت بهم رحمة الله فذهبوا إلى عليين ثبت عن أنس بن مالك. أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظّارة أصابه سهم طائش فقتله فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرين الله ما أصنع - تعني النياحة - وكانت لم تحرم بعد ... فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: "ويحك أوهبلت إنها جنان ثمان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" [1] .
فإن كان هذا جزاء النظارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات [2] الصعاب.
ولقد كان نصر الله للمؤمنين في بدر بالقوة المعنوية وحدها، فالتدبير تدبير الله، والنصر بيد الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.
ولقد وضع الله للمؤمنين الموادّ في دستور هذه القوة التي لا يستغني عنها جيش يحرص على الفوز، وأرشدهم إلى طريق النصر وقانونه.(24/366)
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال آية 45-47) .
هذه عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر الكثير، والطاعة لله والرسول، واطراح النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، وعدم البطر والبغي والعدوان.
أولا: الثبات عند لقاء العدو:
إن الثبات هو المادة الأولى في قانون النصر، لأنه بدء الطريق إليه فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري المؤمنين أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنهم لو ثبتوا للحظة فسينهار عدوهم، وينخذل، وما الذي يزلزل أقدام المؤمنين، وهم واثقون من إحدى الحسنين: الشهادة أو النصر.
والثبات محله القلب ولا يتأتى إلا بقوة العقيدة ورساخة الإيمان، وهي لازمة للمؤمنين في ميدان القتال، وفي كل ميدان فتقابل فيه قوة إيمانية، وأية قوة أخرى من قوى الأرض، وفي كل مجال ينازل فيه خصما، وهو الثبات على العقيدة مهما فتن، وعلى الطريقة مهما لاقى، وعلى الكيد مهما يدبر الكائدون.
وما وقفه الشعب الأفغاني المسلم أمام قوى الكفر والطغيان، وجحافل الشيوعية الباغية التي احتلت أرضه ودنست ثراه ولا تريد أن تعترف بحقه في تصريف أموره، وتقرير ما يراه مما يتناسب مع تاريخه وعراقة إيمانه. إلا ثبات في المعركة.(24/367)
لقد واجه العدوان في صلابة واستبسال، وصبر وإيمان لا يعرف الخور ولا الهوان، فنراه في القرى والمدن وفوق قمم الجبال يقابل الطائرات المغيرة بوحشية وضراوة أعزل من السلاح. ولكنه بإيمانه بحقه ويقينه بالله وقف في وجههم وكأنه يملك الصواريخ المضادة لها وسينتصر الشعب الأفغاني بثباته وبيقينه بوعد الله الذي ينصر المؤمنين الواثقين بنصره، والعاملين بكتابه.
وهل ما يفعله الشعب الفلسطيني المجاهد، والشعب الإريتري المكافح والشعب الصومالي الصامد من ثبات في المعركة ووقوف صلب في وجه العدوان ومجابهة لقوى البغي والطغيان من الصهيونية والصليبية والشيوعية إلا تمسكا بهذا المبدأ الذي وضعه الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات وستنتصر الشعوب المسلمة المكافحة بعون الله وسيخذل أعداؤهم ويرجعون مدحورين أذيال الخزي والعار، ويبوءون بالبوار والخسران.
ثانيا: الإكثار من ذكر الله:
والإكثار من ذكر الله في ميدان القتال هو المادة الثانية:؛ لأنه الاتصال بالقوة الكبرى، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى ذي الجبروت، والثقة بالله الذي ينصر الحق، واستحضار حقيقة المعركة، لإعلاء كلمة الله، لا للسيطرة ولا للجاه، ولا للمغانم، ولا للشهوة أو النزوة وإنما كانت لله، وفي سبيل الله.
ثالثا: طاعة الله ورسوله:
وطاعة الله وطاعة رسوله هو المادة الثالثة في هذا القانون، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد العام، فليدخل المؤمنون المعركة، وقد أدوا فرائضهم وقدموا واجبهم، وأسلموا أمرهم لله ورسوله ثقة منهم بحكمة تدبيره، وبصدق رسوله، فيتم النظام الذي لا بد منه لكل جيش، بتوحد القوى وسرعة التحرك، ودقة التنفيذ للخطط.
رابعا: اتقاء النزاع:(24/368)
واتقاء النزاع هو المادة الرابعة في قانون النصر، لأنه في زمن الحرب تتنازع الهيئات أو الأحزاب أو الأفراد، فنهوا عن التنازع {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ومن ثم وجب أن ينهوا عنه ولو اقتضى الأمر وقف العمل بمبدأ الشورى.
خامسا: الصبر عند لقاء العدو:
الصبر عند لقاء العدو هو خامس المواد في قانون النصر، إذ للحرب ضروراتها التي لا تسيغها النفوس كإعلان الحكم العسكري الذي يقيد بعض الحريات، والمقاطعة الاقتصادية التي تسبب شيئا من الضيق، ونقص الأسلحة الذي قد يوقع في الحرج، وتفوق العدو الذي قد يدفع إلى القلق، وهي ضرورات لا بد لمن يريد النصر أن يصبر عليها راضيا بها.
سادسا: اتقاء البطر والرياء:
قد يحسن المؤمنون الاستعداد للحرب، فيشعرون بأنهم أهل، لأن ينصروا بقوتهم فيحملهم هذا على الاستعلاء والفخر، فيخرجون متبطرين طاغيين يتعاجبون بقوتهم، ويستخدمون نعمة القوة التي أعطاها الله في غير ما أرادها الله حرصا على ثناء الناس وإعجابهم فيفتوهم في هذه الحال النصر، لأن قانونه يهيب بهم في قوة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} ومن هنا اعتبر اتقاء البطر والرياء سادس المواد في قانون النصر.
سابعا: التوكل على الله:
ويقتضيهم الإيمان مع الثبات وذكر الله وطاعة القائد، وتجنب أسباب النزاع والصبر والإخلاص لله مادة سابعة هي التوكل على الله، وهو روح المواد الست وقوامها إذ لا بد منه باعثا على كل منها ونتيجة لكل منها على أنه يعني الاستعداد التام قبل المعركة والاطمئنان التام للنصر من بعد، ولن يحرم النصر جيش أحسن الاستعداد للحرب وامتلأ ثقة بالله فكيف إذا جمع إلى هذه المادة سائر المواد في قانون النصر.
خامسا: الأسرى وموقف الرسول منهم:(24/369)
كان عدد الأسرى سبعين كعدد الذين قتلوا، وكانوا ينتسبون في الأغلب – إلى أكبر أسر المشركين - وبعد أن وزعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه قال لهم: "استوصوا بالأسارى خيرا" [3] .
ولم يكن هناك نظام ثابت لمعاملة الأسرى حتى بعد غزوة بدر إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - شرع نظاما معينا للأسرى ينحصر في أمور ثلاث: 1_ الافتداء 2_والاسترقاق. 3_والقتل.
ولم يلجأ الرسول – صلى الله عليه وسلم - إلى القتل إلا إذا كان الأسير أحد هؤلاء الذين اشتدوا في الإيذاء له، وإيذاء أهله، وأصحابه وكان خطرا على دعوته وعلى رسالته، ومن أمثلة ذلك قصة الأسيرين: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط فقد وقعا معا في الأسر وكان الاثنان شرا مستطيرا على المسلمين أثناء وجودهم في مكة، وكانا يبحثان في أفضع الوسائل لتعذيب محمد وقومه، ولهذا ارتعد النضر عندما نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء استعراضه للأسرى، وصدر ذلك في قوله لرجل إلى جانبه: "محمد والله قاتلي لقد نظر إليّ بعينين فيهما الموت"فقال له الرجل الذي بجانبه: "ما هذا والله منك إلا رعب".ودعا النضر مصعب بن عمير وقال له: "قل لصاحبك أن يجعلني كرجل من رجاله فهو قاتلي إن لم تفعل"وكان رد مصعب إنك كنت تقول في كتاب الله كذا، وفي نبيه كذا، وكنت تعذب أصحابه. وحاول المقداد أن ينقذ النضر فقال النضر أسيري فرد النبي صلى الله عليه وسلم: "اضرب عنقه"وقيل إن الذي قتله هو علي بن أبي طالب [4] .(24/370)
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل بالأسارى فقال لهم: "ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ " فقال أبو بكر: "يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأمنهم لعل الله أن يتوب عليهم". فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "ما ترى يا بن الخطاب". فقال: "لا والذي لا إله إلا هو ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين".
وقال عبد الله بن رواحة: "يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم"
فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر وأخذ منهم الفداء [5] .
قال عمر رضي الله عنه: "فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهما يبكيان. فقلت: يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة"- لشجرة قريبة-[6]
وأنزل الله تعالى قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال آية 68-69) [7] .
فلقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين وكان المسلمون قلة والمشركون كثرة.(24/371)
وكان نقص عدد المحاربين من المشركين بالقتل والأسر كسبا ضخما في هذه الحالة لا يعدله مال، وكان هناك معنى آخر يراد تقريره في النفوس، وتثبيته في العقول، ذلك هو المعنى الكبير الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه في صراحة ونصاعة. "وحتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هداوة للمشركين"لهذين السببين الكبيرين نحسب أن الله سبحانه وتعالى كره للمسلمين أن يفادوا أسارى بدر.
وهذا الذي انتهى إليه المسلمون في معاملة أسراهم هو آية كبيرة تتجلى فيها مظاهر الرأفة والرحمة والحسنى.
ومع ذلك يقف غير واحد من المستشرقين. عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط ويتساءلون: "أليس في ذلك ما يدل على ظمأ في هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأ لولاه لما قتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا المعركة أن يردوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا". علما بأن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعى إذا نحن وازنّا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري ما دامت الحضارة الغربية التي تتشح بوشاح المسيحية متحكمة في الأرض. فهل نراه يوازي شيئا إلى جانب ما يقع بايم قمع الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها؟ وهل تراه شيئا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب العالمية الكبرى؟.
وهل هذه المعاملة التي وقعت من الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول الفداء منهم وقوله لأصحابه "استوصوا بالأسارى خيرا" أفضل؟.
أم ما يناله الأسارى في الحروب الحديثة من معاملة سيئة قاسية عنيفة رغم وجود النظر الدولية الخاصة بالأسرى، وكيفية معاملتهم مما لم تحترمها الدول الحديثة وجعلتها حبرا على ورق.
وما زال أسرى الحرب العالمية الأخيرة تعامل بعضهم معاملة مجرمي الحرب، ويلاقون العذاب والمهانة والذل، ويعاملون معاملة سيئة لا تمت إلى الإنسانية بصلة.(24/372)
والجواب واضح وصريح في أن المعاملة الطيبة التي كان يلقاها الأسرى من الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر من أعلى مظاهر الإنسانية الرفيعة التي كانت تكون العلاقة بين القائد العسكري وبين أسرى الحرب.
سابعا: الخاتمة:
وبعد فهذه غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون، وزلزل المشركون، وأنجز الله وعده، وأعز جنده، وأسعد من حضرها من المسلمين فهو عند الله من الأبرار.
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة" [8] .
وبهذه الغزوة، وبهذا الانتصار استقر أمر المسلمين في بلاد العرب جميعا، وكانت هذه الغزوة مقدمة وبداية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولا عجب أن سماها الله سبحانه وتعالى فرقانا حيث يقول: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان} (الأنفال آية 41) ، لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، والنور والظلام.
ورغم أن بدرا تعد أول غزوة من غزوات جيش الإسلام ورغم أنها المرة الأولى التي يقف فيها الرسول الكريم موقف المحارب فإننا نستطيع أن نستخلص منها دروسا لها قيمتها ومبادئ خطيرة لها شأنها في سير المعارك.
وهذه الدروس لم تتغير ولم تتبدل رغم اختلاف العصر الذي نعيش فيه والعصر الذي تمت فيه غزوة بدر. ومن أهمها:
1_ أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية، ووضعها في المقام الأول، لأن في القضاء عليها قضاء على القوة العسكرية.
2_ الشورى وما لها من أهمية كبرى في الميدان ووقت الحرب، فالقائد الحكيم هو الذي يستشير خبراءه ليعرف منهم الخطة السليمة الصحيحة.
3_ أهمية القوى المعنوية للمحاربين والقوة المعنوية هي العامل الأول الذي دفع بالمسلمين إلى النصر رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم.(24/373)
4_ الاهتمام بالاستكشاف والاستطلاع قبل إبان المعركة، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه لذلك أو كان يختار من يثق بهم.
5_ تكتيك الحرب الذي يبدو واضحا في السرية التامة في التحركات وخاصة خلال العمليات.
فاحتلال المسلمين لمواقع المياه تنفيذا لرأي الحباب بن المنذر ثم في منتصف الليل حتى لا يشعر بهم العدو.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر جنده بأن يظلوا في أماكنهم لا يتحركون أو يتحدثون أو يأتون بما يثير انتباه أعدائهم، وكانون بذلك يتركون العدو يتقدم ويتقدم ويظل في تقدمه، حتى إذا أصبح في مرمى النبال ألقوها عليهم، فتصيب منه العدد الكبير فوق ما تحدثه المفاجأة في نفسه، فيرتبك ويضطرب وتكثر إصابته ويزيد عدد قتلاه.
6_ضرورة تغلغل العقيدة في نفوس المحاربين، فإن العقيدة المتغلغلة في نفوس المسلمين بلغت منهم منزلة تسمو على صلات الرحم والقرابة. فكان الرجل منهم يقتل أباه أو أخاه أو عمه أو قريبه من المشركين لا تأخذه فيه شفقة أو رحمة.
فها هو ذا عبد الرحمن بن أبي بكر يقول لأبيه بعد إسلامه – وكان يقاتل في صف المشركين يوم بدر-: "يا أبت لقد أهدفت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك "فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لو كنت أهدفت لي أنت ما صدفت عنك" [9] .
وهذا أبو حذيفة بن عتبة ينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقد سحبت جثة أبيه عتبة لتلقى في القليب فألفاه كئيبا قد تغير لونه فقال: "لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء" فقال أبو حذيفة: "لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني أمره"فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خير [10] .(24/374)
7_ معاملة الأسرى معاملة كريمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفداء، وفوق هذا أطلق سراح الأسير الفقير الذي لا مال له ولا شيء عنده يفتدي به نفسه.
وفي الختام فهذه غزوة بدر وتلك أسبابها ونهايتها وهي صفحة بيضاء مشرقة من صفحات تاريخنا دونها بإخلاصهم وإيمانهم آباؤنا الأولون. وليس لنا من سبيل إلى ما وصلوا إليه من عر ومجد، إلا أن نستن سنتهم، وأن نسير على طريقتهم وأن ننسج على منوالهم، وعندئذ يكون لنا بوعد الله ما كان لهم من عزة ومجد وكرامة، أرجو وآمل إن شاء الله، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو الفداء 3/317،328-329 والبخاري.
[2] غمرات الموت: شدائده.
[3] أبو الفداء 3 /306.
[4] أبو الفداء 3/305، الروض الأنف5/153.
[5] مسند الإمام أحمد، أبو الفداء 3/296-297، وصحيح مسلم وأبو داود والترمذي.
[6] نفس المصدر السابق.
[7] صحيح مسلم 5/106-257، أحمد رقم 20،22، البيهقي 9/67-68 من حديث عمر، انظر الروض الأنف 5/221-242.
[8] انظر البخاري ومسلم وأبو داود، أبو الفداء 3/329.
[9] الروض الأنف للإمام السهيلي 6/181 دار الكتب الحديثة تفسير بن كثير 4 /329.
[10] أبو الفداء 3/294 عن ابن إسحاق، السيرة لابن هشام 1/640-641.(24/375)
أثر الهجرة
على تطور الدعوة الإسلامية وانتشارها في أنحاء العالم
للدكتور محي الدين الألواني
الأستاذ المشارك في الجامعة
لقد امتازت الرسالة التي أرسل بها الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعموميتها إلى كافة الثقلين، وشمولها لجميع مرافق الحياة البشرية. وقد خص الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وحد بأن يكون رسولا إلى كافة الناس، وجعله خاتم النبيين، ورحمة للعالمين. وقد صرح القرآن الحكيم بهذا فقال تعالى مخاطبا له: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف 158) . وقال له رب العزة أيضا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سبأ 28) .
فلا بد أن تكون الدعوة المحمدية غير محلية ولا بيئية ولا موجهة لأمة دون أخرى. وتحت عنوان عموم الدعوة المحمدية يقول فضيلة الدكتور محمد فتح الله بدران (رحمه الله) في كتابه: الفلسفة الحديثة في الميزان: " ... ولقد كانت كل الدعوات السابقة عليه: بيئية، محلية، محدودة، مصدقة، ومكملة، وممهدة. أما منذ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، فهي في عمومها أوسع من أن تدرك أو تحدد لأنها تشمل الناس كافة وجميعا" [1] .(24/376)
وقد كان دين الرسل واحدا كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى آية 13) . وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولكل واحد من أتباعه في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (الآية 84) .
وإذا نظرنا إلى طبيعة الدعوة المحمدية وخصائصها نرى أنها مرت بمراحل كثيرة، وكلها بإذنه تعالى وأمره، وبمقتضى حكمته في خلقه، فكانت الهجرة من مكة إلى المدينة مرحلة هامة من مراحل الدعوة الإسلامية، ونقطة تحول خطير في انتشارها في أرجاء الأرض، وهي التي مهدت السبيل لوصولها إلى مختلف القبائل العربية، ودعت الأمم والشعوب لاستطلاع حقيقة هذه الدعوة وصاحبها وجذبت الوفود من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفتحت الأبواب إلى فتح مكة ثم إلى فتوحات أخرى عديدة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في مكة، من أول نبوته، سرا، وبعد أن مضى في هذه المرحلة من الدعوة السرية أو المحدودة مدة ثلث سنين، أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنا، فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام، وإلى المواسم الأخرى في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة، واستمر هذا الدور المكي العلني من الدعوة الإسلامية لمدة عشر سنين أخرى، أي أنه استمر يدعو قومه ثلاث عشرة سنة، ولقي من الأذى هو المؤمنون به الكثير، ثم أمره الله بالهجرة إلى المدينة.(24/377)
ونجم عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أن تكونت في المدينة نواة الدولة الإسلامية الأولى. وتقع المدينة المنورة شمالي مكة، على مسيرة أحد عشر يوما منها، وكانت في تلك الأيام مدينة مكشوفة معرضة للغزو الخارجي، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق المشهور لرد عدوان قريش، ويقال إن أول من بنى يثرب أحد رؤساء العمالقة يسكنون في يثرب وفي ضواحيها في العصور الغابرة، ثم توالت هجرة اليهود إلى بلاد العرب فرارا من وجه مضطهدين، أو الآخذين بالثأر منهم من البابليين، واليونان، والرومان، فاستوطنوا شمال الحجاز ... وكانت أشهر القبائل اليهودية النازلة ببلاد العرب: بني نضير في خيبر، وبني قريظة في فدك، وبني قينقاع بالقرب من المدينة ذاتها. وكان اليهود يقيمون في قرى محصنة فاستطاعوا أن يسيطروا على جيرانهم من القبائل العربية إلى أن جاءت الأوس والخزرج –وهما قبيلتان من نسل قحطان- فأقامتا في يثرب ودانتا لليهود في أول الأمر ثم صارت لهما الولاية عليهم [2] .
وكانت حال ((يثرب)) السياسية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها: حالة حرب عوان بين الأوس والخزرج، ومؤامرات من اليهود لإشعال نار الفتنة بين هاتين القبيلتين العربيتين، ومحاولتهم السيطرة على القبائل العربية المجاورة، فكان قدومه صلى الله عليه وسلم فاتحة عصر جديد في تاريخ جزيرة العرب لأنه آخى بين الأوس والخزرج حتى نسوا ما تأصل في نفوسهم من عداوة وضغائن، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا، وانضموا تحت لواء الإسلام، ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جماعات المؤمنين من المهاجرين الذين هجروا وطنهم ولحقوا به في المدينة، وبين الأنصار الذين رضوا به والمهاجرين معه، وأكرموا وفادتهم، وكانت المؤاخاة بين هذين الفريقين من المؤمنين في السراء والضراء توثيقا لعرى المحبة والأخوة الإسلامية بينهم.(24/378)
وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضع أول حجر في بناء الدولة الإسلامية، واتخذ مسجده مقره العام ليقيم فيه المسلمون شعائر دينهم، وليعقدوا فيه اجتماعاتهم للنظر في شئونهم العامة. ووضع الرسول للجماعة الإسلامية نظاما تسير عليه في زمن السلم والحرب، وبدأ يعقد اتفاقيات بين الطوائف الأخرى، تضمن عدم الاعتداء على المسلمين، والاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الخارجي. ثم أخذ يعد العدة لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية، ولحماية هذه الدعوة، حتى صارت المدينة خلال فترة وجيزة مركز إشعار للدعوة الإسلامية، ومحط أنظار قبائل العرب وشعوب العالم.(24/379)
وكان بالمدينة في الفترة الأولى لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ثلاث طوائف مختلفة، الطائفة الأولى: المهاجرون والأنصار وهو نواة الإسلام، وكانوا يحبون رسول الله حبا لا حد له، إذ أن روح الأخوة الإسلامية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حالت دون ظهور أي أثر من آثار الجاهلية، وبدأ الأنصار والمهاجرون يتنافسون في بذل أكبر تضحية في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والطائفة الثانية: كانت تتألف من المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، وكان عبد الله يطمع أن يكون ملكا على المدينة، فجمع حوله طائفة قوية من الأتباع ولكن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحبط أعماله في استغلال من يريد إذ تولى زمام السلطة، فاضطر هو وأنصاره في غمرة الحماسة التي استقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتظاهروا بالإسلام، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لينقلبوا على المسلمين، وأخذوا يدبرون المؤامرات ضدهم في الخفاء، ولذلك كانوا مصدر خطر كبير على الدولة الإسلامية الناشئة، وهذه الطائفة هي التي ذكرها القرآن الكريم في سورة المنافقين، فقال لهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون: الآية 1-2) .(24/380)
وأما الطائفة الثالثة في المدينة فكانت تتألف من اليهود الذين أثارت ضغائنهم وأحقادهم هجرة الرسول إليها، ورسوخ دعوته فيها، وذيوع أمرها في أنحاء جزيرة العرب، فتحزبوا ضد المسلمين وأصبحوا أشد الأحزاب خطرا على الدعوة الإسلامية، مع أنهم كانوا يستفتحون على المشركين إذا نشبت الحرب على الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، ولكن أعماهم حب الرياسة، فاستعظموا الأمر، ومما زاد خطرهم على الدعوة الإسلامية في المدينة أن كانت لهم بقريش علاقات تجارية وثيقة، كما كانت توجد منهم شعب في مختلف القبائل المعادية للإسلام، وكذلك كان يساعدهم على المخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحارة دعوته جماعة المنافقين من عرب المدينة.(24/381)
وقد بلغت المؤامرات الثلاثية –بين اليهود والمنافقين والمشركين- ضد الدولة الإسلامية الناشئة ذروتها. وهذا الوضع استلزم اليقظة التامة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعاملهم بغاية الصبر والحلم رجاء أن يستميلهم إلى الحق والسلم، وكان يواصل دعوته فيهم بالحكمة والموعظة الحسنة. وتظاهر اليهود في أول الأمر بالاشتراك مع أهل المدينة في الترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتزموا خطة المسالمة فترة من الزمان، وذلك على أمل أن هذا الداعية المتواضع الذي نزل على الأوس والخزرج الذين كانوا أعداءهم بالأمس ومواليهم اليوم، قد يساعدهم على قهر العرب واستعادة مملكة يهوذا [3] . ولم يكد يمضي زمن قصير حتى عاودهم داء التمرد القديم الذي دفعهم إلى قتل أنبيائهم، وتجلت أعراض هذا الداء فيما جاهروا به من الفتنة، وما أسروه من الغدر والخيانة، فجاهروا المسلمين بالعداوة ومدوا يد المساعدة لقريش علنا، وما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق وكرم المعاملة ما كان ليرضي اليهود، ولم تجد الحيل في إطفاء نار الحقد التي كانت تتأجج في صدورهم، وغاظهم أنهم عجزوا عن اتخاذه آلة في أيديهم لتهويد العرب، وأن الدين الذي جاء به أقرب إلى الفطرة من قصصهم التلمودية، فلم يلبثوا أن نقضوا العهد والميثاق وانضموا إلى أعداء الإسلام، ولما سألتهم قريش: "أديننا خير أم دين محمد؟ "قالوا: "بل دينكم خير من دينه" [4] ، مع علمهم بكل ما ينطوي عليه دين قريش من شرك وخرافات ومساوئ.(24/382)
وإذا أردنا أن نعرف دمى أثر هجرة الرسول إلى المدينة على تطور الدعوة الإسلامية وتدعيم دعائمها، وتوسيع نطاق نفوذها في أنحاء جزيرة العرب وخارجها، وجب علينا أن نتتبع مجرى الحوادث الهامة التي تبعت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنها حدوث الظروف التي أفضت إلى عقد المسلمين ومعاهدات واتفاقيات مع اليهود وقبائل العرب في المدينة، وفيما جاورها من المدن، وكذلك دخول المسلمين في حروب دفاعية مع أعدائهم وخاصة ما نتج عنها من انتصارهم في بدر، وكان للنتائج التي ترتبت على هذه المعاهدات. والانتصارات أثر عميق في نفوس المسلمين، ووقع كبير في أسماع العرب أجمعهم. من ذلك أن الوفود قد قدمت إلى المدينة لمقابلة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ومبايعته بعد انتشار خبر دعوته في أرجاء الجزيرة. ومنها تكوين حلف منظم يجمع شمل العناصر المتنافرة الضاربة في المدينة وضواحيها، فوضع الرسول وثيقته التاريخية يبين فيها ما للمسلمين وما عليهم فيما بينهم، وما للمسلمين واليهود وما عليهم. وتظهر لنا هذه الوثيقة عظمته الحقيقية، وما حباه الله من مواهب، وهدفه المنشود في إنشاء مجتمع سليم ينتظم الجنس البشري كله. وكذلك سدد بهذه الوثيقة ضربه قاضية إلى الفوضى التي كانت سائدة بين قبائل العرب. وهذا بعض ما تضمنته تلك الوثيقة التاريخية التي أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ملزما بمحتواها كما أصبح اليهود ملزمين به كذلك:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس". ثم يقول بعد أن عرض لتنظيم دفع الديات بين القبائل المختلفة وتقرير بعض القواعد الحكيمة بصدد ما يجب على المسلمين بعضهم نحو بعض:(24/383)
"لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن يهود بني عوف، وبني النجار، وبني الحارث، وبني جشم وبني ثعلبة، وبني الأوس وغيرهم ممن يقيم في يثرب أمة واحدة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ [5] إلا نفسه وأهل بيته. وإن بينهم النصر على دهم يثرب. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم وكذلك المؤمنون. وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى وسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. ,عن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم".
وبعد أن الكتاب على بعض أمور خاصة بالإدارة الداخلية للدولة، ختمت هذه الوثيقة العجيبة بما يلي:
"وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله تعالى وإلى محمد رسول الله" [6] .
وهكذا أخص صوت الدعوة الإسلامية الذي بدأ في مكة، وجلجل في المدينة، يتردد في القارات الكبرى في العام. ولولا الهجرة لما كانت الفتوحات التي غيرت مجرى التاريخ وعدلت وجهة الدنيا. هذه الهجرة هي التي مكنت العرب من أن يفكوا حصارهم وينتشروا في بقاع العالم يحملون أمانة الله ويبلغون رسالته، فما أجل أمر هذه الهجرة! وأعظم أثرها في تاريخ الدعوة الإسلامية!
هل تعلم
أن البلاد الغربية تعتبر نسبة الطلاق فيها أعلى نسبة:
في السويد 60 في المائة يتطلق كل عام
في الولايات المتحدة 40 في المائة
في الدنمارك 39 في المائة. ألمانيا الشرقية 30 في المائة. الاتحاد السوفياتي 28 في المائة. فلندا 24 في المائة.
وكمثال فإن 22 في المائة من حالات الطلاق بألمانيا هي بسبب الخيانة الزوجية و10 في المائة لأسباب جنسية و10 في المائة بسبب الإدمان على الكحول.(24/384)
جريدة النور
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ص 340 الطبعة الأولى. القاهرة سنة 1968م.
[2] روح الإسلام لأمير علي ج1 ص133 طبع مصر سنة 1961م.
[3] روح الإسلام ص139 الطبعة المذكورة.
[4] روح الإسلام.
[5] يهلك.
[6] ابن هشام طبع مصر 1346 هجري.(24/385)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة هل:
لقد كتبت إليك من قبل هذه خمس رسائل حدثتك فيها عن عشر صيغ من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع، وها أنا ذي اليوم محدثتك عن الصيغة الحادية عشرة والصيغة الثانية عشرة.
أما الصيغة الحادية عشرة فهي: ((ألم يأت ... )) وقد وردت في سبع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى: قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} الآية (130) من سورة الأنعام.
الآية الثانية: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية (70) من سورة التوبة.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} الآية (9) من سورة إبراهيم.(24/386)
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} الآية (133) من سورة طه.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية (71) من سورة الزمر.
الآية السادسة: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية (5) من سورة التغابن.
الآية السابعة: قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الآيتان (8-9) من سورة الملك.
وقد جاءت همزة الاستفهام في هذه الصيغة: (ألم يأت ... ) الواردة في هذه الآيات السبع على معنى التقرير والتقريع والتوبيخ.
وكان قد تقدم في الرسالة الأولى من هذه الرسائل أن استفهام التقرير يجيء لأحد أمرين:
الأول: حمل المخاطب على الاعتراف بالأمر الذي استقر عنده من ثبوت ما تضمنه الاستفهام أو نفيه.
والثاني: تثبيت النسبة التي اشتمل عليها الاستفهام في الذهن إن كان المخاطب جاهلا بها، وزيادة تثبيتها إن كان بها عالما.
وقد جاءت همزة الاستفهام في هذه الصيغة بالمعنى الأول في الآية الأولى والخامسة والسابعة من الآيات السالفة الذكر.
وجاءت بالمعنى الثاني في الآيات الباقيات.(24/387)
وقد تضمنت الآية الأولى من هذه الآيات مشهدا من مشاهد يوم القيامة حيث يقرع الله سبحانه وتعالى ويوبخ كافري الجن والإنس ويسألهم (وهو أعلم) ألم يأتكم رسل منكم يخبرونكم ما أوحي إليهم، ويخوفونكم لقاء يومكم هذا، فيجيب هؤلاء المسؤولون في حسرة وصغار معترفين بما تضمنه السؤال من إرسال الرسل وتبليغهم آيات ربهم، وتخويفهم لقاء هذا اليوم الذي كانوا يوعدون، لكن الحياة الدنيا ولذاتها ومتعها وما فيها من زينة حالت بينهم وبين إيمانهم بالرسل واليوم الآخر.
لقد شهدوا على أنفسهم بالكفر فحق عليهم العذاب، وذاك جزاء الكافرين.
وتصور الآية الخامسة مشهدا آخر من مشاهد يوم القيامة، حيث يساق الذين كفروا إلى جهنم زمرا فتفتح لهم الأبواب، ويقول لهم خزنتها الغلاظ الشداد على سبيل التقرير والتقريع والتوبيخ: ألم يأتكم رسل من جنسكم يتلون عليكم آيات ربكم المنزلة عليهم، ويقيمون الحجج والبراهين على صحة ما دعوا إليه، وينذرونهم لقاء يوم القيامة هذا.
فيقول لهم الكفار معترفين بلى قد جاءونا وتلوا علينا الآيات وأنذرونا، ولكنا كذبناهم وخالفتاهم وعدلنا عن الحق إلى الباطل، فحق علينا العذاب عذاب الكافرين.
وتتضمن الآية السابعة والتي تليها مشهدا آخر من مشاهد يوم القيامة حيث يشتد غيظ جهنم على أولئك الكفار الذين يلقون فيها فوجا بعد فوج، حتى لتكاد من شدة الغيظ يتميز بعضها من بعض، ولم لا تحنق هذا وتغتاظ هذا الغيظ، وهي التي ترى خزنتها الملائكة الغلاظ الشداد يسألون مقررين مقرعين موبخين في حسرة وذلة: بلى، قد جاءنا نذير، ولكنا كذبناه في أن يكون نذيرا، ثم –لشقوتنا- بالغنا في التكذيب فقلنا ما أنزل الله على أحد من شيء، وما أنتم أيها النذر في ادعاء إنزال الآيات عليكم إلا في ضلال كبير.(24/388)
والاستفهام في الآيات الباقيات (الثانية والثالثة والرابعة والسادسة) استفهام تقرير على حد {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي قد أتتهم - وقد سبقت الإشارة إلى هذا - يدل هذا الاستفهام أيضا على التوبيخ كما دل عليه في الآيات المتقدمة.
ففي الآية الثانية والثالثة والسابعة يوبخ الله سبحانه وتعالى الكافرين أن لم يتعظوا بالأنباء التي قد أتتهم عمن كان قبلهم من الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم فاستحقوا العذاب، وما الله بظلام للعبيد.
وفي الآية الرابعة يوبخ الله سبحانه وتعالى كفار مكة على مطالبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بآية من ربه تبين صدقه وقد أتاهم بالقرآن الذي بشرت به الكتب الإلهية السابقة المنزلة على الرسل، لقد أتاهم بالقرآن الذي هو أعظم الآيات إعجازا حتى تقوم الساعة، فأي آية بعد القرآن يريدون!!.
وإعراب هذه الصيغة (ألم يأت) واضح سهل، فالفعل المضارع (يأت) مجزوم ب (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره وهو الياء، والضمير بهذا الفعل سواء أكان كافا في (ألم يأتكم) أم كان هاء في (ألم يأتهم) مبني على الضم في الأول وعلى الكسر في الثاني في محل نصب مفعول به ل (يأت) والميم يدل على جمع الذكور مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
وأرى أن الكاف والميم معا في (ألم يأتكم) هما الضمير وليس الكاف وحدها، فالكاف وحدها لا تدل على جماعة المخاطبين، فالميم جزء من لفظ الدال عليهم، واعتبار الميم حرفا ملحقا بالضمير وليس جزءا منه تحكم لا داعي إليه، ورأي تعوزه الحجة. وعلى هذا أرى أن يقال في إعراب (كم) من (ألم يأتكم) ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به.(24/389)
وكذلك الرأي في (هم) من (ألم يأتهم) ، فالهاء والميم معا هما الضمير وليس الضمير هو الهاء وحدها، لأنها لا تستقل بالدلالة على جماعة الغائبين، فالميم جزء من اللفظ الدال عليهم، وليست حرفا ملحقا بالضمير، وأرى أن يقال في إعرابه: (هم) من (ألم يأتهم) ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
وهكذا الرأي في (كما) من قولنا مثلا رأيتكما ف (كما) ضمير متصل دال على المثنى المخاطب مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وليس كما يقول المعربون: الكاف وحدها هي الضمير، والميم حرف عماد والألف حرف دال على التثنية.
لأن الكاف وحدها لا تدل على ضمير المخاطب المثنى وإنما اللفظ الدال عليه هو هذه الأحرف الثلاثة مجتمعة.
ومثله (كن) من قولنا مثلا (رأيتكن) ضمير متصل يدل على جماعة الإناث مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وليس كما يقولون: الكاف وحدها هي الضمير والنون المشددة حرف ملحق بالهاء للدلالة على جماعة الإناث. لأن الكاف والنون معا هما اللفظ الدال على جماعة الإناث فهما معا الضمير، وليس الكاف وحدها.
وهكذا القول في ضمير الغيبة (هما) في قولنا مثلا (رأيتهما) و (هن) في قولنا مثلا (رأيتهن) ..
هذا والاسم الظاهر المرفوع الذي جاء بعد (يأت) في هذه الصيغة وهو: (رسل، نبأ، بينة، نذير) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
أما الواو الواقعة بين همزة الاستفهام ولم في الآية الرابعة من هذه الآيات فعاطفة على ما قبل الهمزة، وقد تقدم ذكر الخلاف في المعطوف عليه لهذه الواو أكثر من مرة.
أما الصيغة الثانية عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للمضارع فهي التي دخلت فيها على لم النافية الجازمة لمضارع كان نحو: ((ألم تكن ... )) ((أو لم تكونوا ... )) .(24/390)
وقد وردت هذه الصيغة في إحدى عشرة آية من آيات القرآن الكريم، وقد جئت أنا –همزة الاستفهام- في هذه الصيغة على معنى التقرير والتوبيخ في تسع من هذه الآيات الإحدى عشرة المتقدمة، وعلى معنى التقرير وحده في آيتين اثنين، وسوف ترين-أيتها الأخت العزيزة هل- هذا واضحا مفصلا فيما يلي:
الآية الأولى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} الآية (97) من سورة النساء.
صيغة الاستفهام في هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قالها الملائكة الذين توفوا ناسا من المسلمين ظلموا أنفسهم بأن تركوا الهجرة وأقاموا بين ظهراني المشركين بمكة على حال لا تمكنهم من إقامة الدين.
والهمزة هنا تفيد التقرير أي كانت أرض الله واسعة وكانت الهجرة فيها مستطاعة، وتفيد أيضا التوبيخ توبيخ هؤلاء الناس أن آثروا التمتع بالإقامة في بيوتهم وبين أقوامهم غير قادرين على إقامة شعائر الدين، آثروا ذلك على الهجرة إلى أرض أخرى يستطيعون فيها إقامة الدين والوفاء بحقه كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ثم لحقوا بالمؤمنين في المدينة.
وجاءت هذه الجملة الاستفهامية أيضا ردّا على اعتذار هؤلاء الناس بأنهم كانوا مستضعفين في مكة، فقد كان اعتذار كاذبا غير صحيح، بدليل قوله تعالى عن هؤلاء بعد ذلك في ختام هذه الآية: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .(24/391)
الآية الثانية قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} الآية (141) من سورة النساء.
في هذه الآية الكريمة يقول المنافقون الذين كانوا يتربصون بالمؤمنين الخير أو الشر، وينتظرون بهم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لهم أو ظفر بهم، يقولون للمؤمنين إن كان للمؤمنين فتح من الله أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي كنا معكم مساندين مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة، فالاستفهام هنا للتقرير على معنى الإخبار أي كنا معكم.
الآية الثالثة قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} الآية (44) من سورة إبراهيم.
هذا الاستفهام: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ ... } يفيد التقرير والتوبيخ
يفيد التقرير على معنى الإخبار أي كنتم أقسمتم من قبل في ديار الدنيا ما لكم من زوال عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك.
ويفيد أيضا التوبيخ، يوبخ الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم حين يرون العذاب يوم القيامة، يوبخهم على إنكارهم البعث وإقسامهم على ذلك.
ويوبخهم تعالى أيضا على أنهم لم يعتبروا بما أوقعه الله تعالى بالأمم التي كذبت الرسل من قبلهم مع أنهم سكنوا في مساكنهم ورأوا ما حلّ بهم وسمعوا.(24/392)
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} الآيتان (105-106) المؤمنون.
هذا الاستفهام: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} يفيد التقرير والتقريع والتوبيخ. التقرير على معنى حمل المخاطب على الاعتراف بم تضمنه السؤال على جهة الإثبات أو النفي، وقد اعترف أهل النار المخاطبون على جهة الإثبات في الآية التي تلت هذه الآية: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} .
وأفادت الهمزة هنا أيضا التقريع والتوبيخ: يقرع الله سبحانه وتعالى أهل النار ويوبخهم على تكذيبهم بآيات الله واتخاذهم المؤمنين سخريا.
الآية الخامسة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} الآية (40) من سورة الفرقان.
في هذه الآية الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى عن كفار مكة أنهم كانوا يمرون كثيرا على سدوم عظمى قرى قوم لوط التي أمطرت من السماء بالحجارة فدمرت على من فيها تدميرا، وأنهم كانوا يرونها ويرون ما حل بها وبأهلها قوم لوط لارتكابهم الفاحشة ومخالفتهم أوامر الله، ولكن كفار مكة لم يجدوا في هلاك أهلها عبرة وذكرى، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث والنشور ويوم الحساب.
والهمزة في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} تفيد التقرير والتوبيخ: تفيد التقرير على معنى الإخبار أي كانوا يرونها، وتفيد التوبيخ: يوبخ الله سبحانه وتعالى أولئك الكفار على أنهم لم يعتبروا برؤيتها وبما حلّ بأهلها فمروا بها كما مرّت ركابهم.(24/393)
الآية السادسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية (197) من سورة الشعراء.
همزة الاستفهام هنا في هذه الآية الكريمة تفيد التقرير والتقريع والتوبيخ: التقرير على معنى الإخبار أي كان علم علماء بني إسرائيل بأن هذا القرآن قد ذكر في كتب الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل علامة دالة لكفار قريش على صحته عندهم.
وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب، ويقولون هم أصحاب الكتب الإلهية، فيظنون بهم العلم، وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير لاعتقادهم صحة دينهم.
وتفيد الهمزة هنا أيضا التقريع والتوبيخ: يقرع الله سبحانه وتعالى كفار قريش ويوبخهم على أنهم لم يؤمنوا بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام الدليل على صحته وهو علم علماء بني إسرائيل بذكره في الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء من قبل وعلماء بني إسرائيل في اعتقادهم صادقون لا يكذبون.
الآية السابعة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} الآية (62) من سورة يس.
قبل هذه الآية آيتان يتصل بهما معنى هذه الآية وهما: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيتان (60-61) من سورة يس.
هذا الاستفهام: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} للتوبيخ والتقريع: يوبخ الله سبحانه وتعالى الكفار ويقرعهم على مخالفتهم العقل ومجانبتهم الحق والصواب في اتباعهم الشيطان وهو لهم عدو مبين، وعلى تركهم عبادة الله وهي الصراط المستقيم..(24/394)
الآية الثامنة قوله تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} الآية (50) من سورة غافر.
وقبل هذه الآية آية يتصل بها معنى هذه الآية وهي: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} الآية (49) من سورة غافر.
تتضمن هذه الآية الثامنة قول الملائكة خزنة جهنم ردا على الذين يعذبون في النار حين قال هؤلاء الكفار المعذبون في النار لخزنتها: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} فقال خزنتها لهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .
هذا الاستفهام يفيد التقرير والتوبيخ والتهكم: التقرير على معنى حمل المخاطب على الاعتراف بما تضمنه السؤال على جهة الإثبات أو النفي، وقد اعترف المخاطبون بالإثبات بقولهم: (بلى) أي أتتنا الرسل بالبينات.
وخزنة جهنم باستفهامهم هذا {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يوبخون المعذبين في النار ويسخرون منهم أن ضيعوا الفرصة الطيبة الملائمة للدعاء وهي الإيمان بالرسل في الدار الدنيا، ثم جاءوا يطلبونه بعد فوات وقته وهم في النار حيث لا يكون دعاء الكافرين إلا في ضلال.
الآية التاسعة قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} الآية (31) من سورة الجاثية.(24/395)
في هذه الآية يقول الله سبحانه وتعالى للذين كفروا: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ} وهمزة الاستفهام هنا تفيد التوبيخ والتقريع: يوبخ الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة الذين كفروا ويقرعهم على استكبارهم عن الإيمان بآيات الله، وعلى إعراضهم عنها.
الآية العاشرة قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الآية (14) من سورة الحديد.
ومعنى هذه الآية يتصل بمعنى آيتين قبلها وهما {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآيتان (12-13) من سورة الحديد.
في هذه الآية العاشرة ينادي المنافقون والمنافقات وقد شاهدوا العذاب، وضرب بينهم وبين الذين آمنوا بسور له باب، ينادون الذين آمنوا: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي ألم نكن في الدنيا معكم بحسب الظاهر نصلي ونغزو كما تغزون ونفعل مثل ما تفعلون.
هذا الاستفهام: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يفيد التقرير والتعجب: التقرير على معنى حمل المخاطب على الاعتراف بما تضمنه السؤال على سبيل الإثبات أو النفي.(24/396)
وقد أجاب الذين آمنوا بالإثبات قائلين: {بَلَى} أي كنتم معنا بحسب الظاهر، ثم بينوا لهم حقيقة أمرهم في الدنيا بقولهم لهم: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي استعملتموها في الفتنة وأهلكتموها في النفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر، {وَارْتَبْتُمْ} في أمر الدين، وغركم الشيطان بأن الله عفوّ كريم.
ومثار التعجب لدى المنافقين والمنافقات أنهم رأوا اختلاف الجزاء مع أن العمل –حسب زعمهم - واحد.
الآية الحادية عشرة قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} الآية (37) من سورة القيامة.
وليكون معنى هذه الآية أوضح وأتم أذكر ما قبلها وما بعدها من الآيات: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} الآيات (26-40) من سورة القيامة.
همزة الاستفهام في {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} للتقرير على معنى الإخبار، أي كان نطفة من مني يمنى.
وقد جاء هذا الاستفهام وما بعده ردا على من ينكر المعاد من أهل الزيغ والفساد، الذين يحسبون أنهم سوف يتركون في قبورهم مهملين لا يبعثون ولا يحاسبون، فالله القادر على أن يخلق الزوجين الذكر والأنثى من قطرة مني تراق في الرحم قادر على أن يحي الموتى ويبعث من في القبور، سبحانه وتعالى هو الخالق البارئ وهو على كل شيء قدير.
أختي العزيزة هل
إعراب هذه الصيغة واضح بين غير أني سوف أعربها وأعرب ما يتعلق بها في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ ... } لاشتمال هذا القول على شيئين أحب أن أنبهك عليهما:(24/397)
{أَوَلَمْ} مرّ غير مرة إعراب الهمزة والواو ولم، و {تَكُونُوا} فعل مضارع من كان الناقصة مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون، والواو ضمير جماعة الذكور اسم تكون مبني على السكون في محل رفع، و {أَقْسَمْتُمْ} : أقسم فعل ماض مبني على الفتح مقدر على آخره منع من ظهوره السكون العارض بسبب اتصال الفعل بضمير رفع متحرك، ولك أن تقولي في إعراب هذا الفعل: أقسم فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والفعل على كلا الإعرابيين لا محل له من الإعراب. و (تم) ضمير رفع متصل يدل على جماعة المخاطبين مبني على السكون في محل رفع فاعل، ولك أن تعربيه مجزئا فتقولي: التاء وحدها ضمير مبني على الضم في محل رفع فاعل، والميم حرف يدل على جماعة الذكور مبين على السكون لا محل له من الإعراب (وقد سبق بيان الضعف في تجزئة هذا الضمير وأمثاله) . {مِنْ قَبْلُ} من: حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وقبل: ظرف زمان مبني على الضم في محل جر بمن، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل (أقسم) .
{مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} {ما} نافية مهملة حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و {لكم} اللام حرف جر مبني على الفتح لا محل له من الإعراب و {كم} ضمير متصل يدل على جماعة المخاطبين مبني على السكون في محل جر باللام، ولك أن تعربيه مجزئا على النحو الذي تقدم ذكره.(24/398)
والجار والمجرور يتعلقان بمحذوف تقديره كائن، وهذا المحذوف هو الخبر على رأي من أراء ثلاثة لأهل النحو في هذه المسألة. {مِنْ زَوَالٍ} من: حرف جر زائد مبني على السكون لا محل له من الإعراب و {زَوَالٍ} مجرور بمن وعلامة جره السكون الظاهرة على آخره. و {زَوَالٍ} المجرور بمن الزائدة مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الكسرة المأتي بها لمناسبة حرف الجر الزائد، أما على رأي من يرى أن المجرور بحرف الجر الزائد يكون إعرابه محليا ف {زَوَالٍ} في محل رفع مبتدأ مؤخر.
وجملة {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} في محل نصب خبر تكونوا الناقصة.
وجملة {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} في محل نصب مفعول به لقول مقدر، والتقدير فيقول الله سبحانه وتعالى لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا ... }
أختي العزيزة هل
قبل أن أختم هذه الرسالة أرى لزاما علي أن أنبهك على شيئين:
لقد مر في إعراب قوله تعالى {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أن {من} حرف جر زائد، والحكم على هذا الحرف بالزيادة لا يعني أنه حشو في الكلام لا حاجة إليه، وإنما هو اصطلاح نحوي يعني أن المعنى الأساسي للجملة يتم بدونه، وأن هذا الجار الزائد لا يحتاج إلى متعلق وأن مجروره له محل من الإعراب غير هذه الكسرة التي جاءت لمناسبة هذا الجار الزائد.
وإذا كان المعنى الأساسي يتم بدون هذا الجار الزائد فهذا لا يعني أن دخول هذا الزائد في الكلام كخروجه منه، فهناك المعاني الفرعية التي تصاحب المعاني الأساسية فترفع الكلام في سلم البلاغة درجات.(24/399)
شتان أيتها - الأخت العزيزة - ما بين {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} مع مِنْ وبين (ما لكم زوال) بدونها فالمعنى الأساسي وهو نفي زوال المخاطبين واحد في الكلاميين، ولكن هناك فرقا بين النفي مع من والنفي بدونها، فالزوال معها منفي على سبيل العموم والشمول نصا ل يقبل أي احتمال أو تجوز، فليس هناك نوع من أنواع الزوال لم يشمله هذا النفي، على حين أن نفي الزوال بدون من وإن أفاد العموم والشمول ليس نصا، واحتمال التجوز فيه قائم.
والحال التي كان عليها المخاطبون من أنهم لن يبعثوا البتة ولن يتحولوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة بأي حال من الأحوال تقتضي ذكر (من) لأن ذكرها يجعل التعبير مصورا ما كانوا عليه تصويرا دقيقا، ويجعل الكلام مطابقا لما تقتضيه حالهم، وفي هذا التصوير الدقيق وفي هذه المطابقة التامة تكون البلاغة.
فـ (من) لا يمكن الاستغناء عنها بلاغة، وإن سماها أهل النحو زائدة.
الشيء الآخر الذي أحرص على أن أنبهك عليه هو بلاغة التعبير في قوله تعالى {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} يطلبون أن يردوا إلى الدنيا وكأنهم نسوا ما كان منهم فيها من تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث، أو كأنهم يريدون أن ينكروا ما كان منهم من ضلال، فيقول الله سبحانه وتعالى لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} توبيخا لهم على ما كان منهم في الدار الدنيا وردا مقرعا على ما يطلبون.
فالحال التي كان عليها هؤلاء الذين يطلبون العودة إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل بعد أن كذبوهم تقتضي أن يساق لهم الجواب قويا مؤكدا، لأنهم كانوا بمنزلة المنكرين.
وقد كان الجواب كذلك إذ اشتمل على أسلوبين هما أقوى الأساليب التي تجعل المعاني تستقر في الأذهان فلا تنسى، وتتلقاها الأنفس على شوق فتثبت:(24/400)
أحدها كان في تكرار المسند إليه والمسند، فـ {تَكُونُوا} فيها مسند ومسند إليه و {أَقْسَمْتُمْ} فيها مسند ومسند إليه أيضا، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن المسند إليه في الموضعين واحد، وكذلك المسند غير أنه جاء في تكونوا عاما وجاء في أقسمتم خاصا.
أما الأسلوب الثاني فأسلوب الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، فـ {تَكُونُوا} تدل على حدث عام مبهم ناقص، ولهذا العموم والإبهام والنقصان تتطلع نفس المخاطب راغبة وتستشرق لهفى إلى ما عساه يأتي، فإذا جاء الخبر وهو {أ َقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} استقر في نفس المخاطب وثبت.
وهذه البلاغة التي جاءت في مطابقة الكلام في هذه الآية لحال المخاطبين لن تجدي شيئا منها في قول قائل: أو لم تقسموا ... بحذف (تكونوا) .
أختي العزيزة: هل
أختم هذه الرسالة وفي النفس أشياء كثيرة تتصل بهذه الصيغة كنت أود أن أقولها لك، ولكني أتركها على حسرة ومضض خشية الإملال.
أسأل الله تعالى أن يعين على رسالة قادمة نلتقي فيها عما قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام(24/401)
سبيل الفلاح
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(الآية 35 من سورة المائدة)
بين يدي تفسير الآية:
أخرج بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن ابن أبي حاتم بسنده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتاه فقال يا عبد الله اعهد إليّ، فقال: "إذا سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} فارعها سمعك: فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
فهذا القول من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعتبر غاية الفقه، وغاية النصح، أمّا كونه غاية الفقه فقد دل عليه ما فهمه من أن الله تعالى إذا نادى عباده المؤمنين لم ينادهم إلا لخير يريدهم أن ينالوه، أو لشر يريدهم أن يحذروه، أمّا أولا: فلأن الله تعالى منزه عن اللعب والعبث فلا يمكن أن يناديهم لغير أمر يهمهم في حياتهم، وأمّا ثانيا فلأن ولايته تعالى لهم تستلزم هدايتهم وإرشادهم لما ينجيهم، ويكملهم ويسعدهم.
وأمّا كونه غاية النصح: فلأن العبد إذا أخذ نفسه على أن يُصغيَ دائما لنداء الله تعالى فيعي عنه ما يقول له ويدعوه إليه من فعل خير أو ترك شر، فإنه ينجو حتما ويكمل ويسعد، وهذا ما يرجوه كل عاقل ويعمل له طوال حياته.
مباحث ألفاظ الآية:
آمنوا: الإيمان التصديق الجازم. فآمنوا معناه صدقوا بوجود الله ربّا وإلها وبلقائه وعدا حقا.
تقوى الله تعالى المأمور بها في الآية هي الإسلام لله تعالى بطاعته فيما يأمر به ويدعو إليه من الإيمان وصالح الأعمال، وفيما ينهى عنه ويزجر من الشرك والمعاصي.(24/402)
وابتغوا إليه الوسيلة: الابتغاء: يقال ابتغى الشيء يبتغيه إذا طلبه، والوسيلة: ما يتوصل به إلى تحقيق غرض ما صالح كان أو فاسد وهي هنا – الوسيلة - طلب ما يتوصل به إلى رضوان الله تعالى ومحبته، والحظوة لديه من القرب والكرامة.
وجاهدوا: الجهاد بذل الجهد واستفراغ الوسع. والجهاد المأمور به هنا بذل الجهد في إصلاح النفس والناس.
في سبيله: سبيله تعالى هي ما يوصل العبد إلى إصلاح نفسه وإصلاح غيره، فينجوا ويكمل ويسعد في الدنيا والآخرة.
لعلكم تفلحون: لعل هنا تعليلية أي اتقوا وتوسلوا وجاهدوا لتفلحوا. والفلاح: الفوز وهو النجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار، مع ما يسبق ذلك من كمال، وطهارة، وعزة، وكرامة في دار الدنيا قبل يوم القيامة.
بيان معنى الآية:
اعلم أخي القارئ فتح الله علينا وعليك أن هذه الآية الكريمة المباركة قد اشتملت على ثلاثة أوامر إلهية موجهة كلها إلى المؤمنين به تعالى وبلقائه، وبوحيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأوامر الثلاثة هي الأمر بتقواه عزوجل وبطلب الوسيلة إليه، والجهاد في سبيله. كما اشتملت على علة هذه الأوامر وهي الفلاح المترتب على فعلها. والفلاح هو الفوز بالنجاة من المرهوب. والظفر بالمرغوب، وبعبارة أوضح: الفلاح هو الكمال، والسعادة في الدنيا والآخرة. وإليك شرح هذه الأوامر علّك تقوم بها فتفوز كما فاز بها أهلها.
1_ الأمر بالتقوى، ومعناه: اتقاء عذاب الله تعالى المترتب على مخالفة أوامره وسننه في خلقه، ويتم للعبد هذا الاتقاء إذا هو أطاع الله تعالى، وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرا به من العقائد والعبادات، وفيما نهيا عنه من الشرك والمعصيات.(24/403)
2_ ابتغاء الوسيلة إليه تعالى وهو طلب التقرب إليه عز وجل بأداء الفرائض مصحوبة بنوافلها، إذ لكل فريضة نافلة للحديث الصحيح: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه الحديث....."
وأما التعليق على التوسل فإنا نقول للقارئ الكريم: إن التوسل الصحيح النافع هو ما بيناه في شرح جملة {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . وليس ما عليه أكثر العوام من الذبح على أضرحة الأولياء والنذر لهم، والاستغاثة بهم، ودعائهم، والعكوف على قبورهم وشد الرحال إليها، وسؤال الله تعالى بحقهم وجاههم، ليس هذا من التوسل في شيء وإنما هو الشرك بعبادة الله تعالى. والله يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية110) .
كما أن قول العوام اللهم إني أسألك بجاه نبيك أو فلان، واللهم إني أسألك بحق فلان أو فلان ليس من التوسل في شيء، لأن التوسل أن تقوم بعمل صالح شرعه الله ليكون قربة لعباده يتقربون به إليه فتفعله ثم تسأل الله تعالى بعبده فيعطيك سؤالك أما قول المرء أسألك بجاه فلان أو بحق فلان فإنه لا معنى له، إذ لم يشرعه الله دعاء ولا ذكرا ولا عبادة فكيف إذا يعطي عليه ويستجيب لصاحبه؟؟
وأغلب الظن أن التوسل بجاه فلان وحق فلان، كان من وضع غلاة الباطنية والزنادقة من أجل صرف العبد المسلم عن الوسائل المشروعة النافعة إلى وسيلة لا تشفع ولا تنفع، ولكن تضر وتغر، والعياذ بالله تعالى.
3_ الجهاد في سبيله تعالى هو بذل الجهد، وما في الطاقة والوسع في مدافعة النفس عن اتباع هواها المفضي بالعبد إلى ترك العبادة التي خلق لأجلها، ولا يكمل ولا يسعد إلا بها، وفي حملها أن تتعلم أمور الدين، وتعمل بها، وتعلمها غيرها من الناس.(24/404)
وهذا جهاد، يستلزم جهاد أهل الفسق والخروج عن طاعة الرب، وذلك بحملهم على التزام حدود الشرع بواسطة الأمر والنهي المصحوبين بالترغيب والترهيب وهي الموعظة الحسنة المأمور بها في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: من الآية125) .
وجهاد الشيطان عليه لعائن الله، وذلك بالتنبّه لكيده، ومعرفة تزيينه وإلغاء شبهه، وعدم الإصغاء إلى وساوسه، والاستعانة على ذلك بذكر الله تعالى، والاستعاذة بجنانه جل وعلا من كل فتنه وشروره.
وجهاد الكفار وهو أكبر من جهاد الشيطان. ويكون بالنفس والمال، وذلك بقتالهم مع إمام المسلمين أو نائبه حتى يسلموا لله رب العالمين، أو يستسلموا لحكم المسلمين، وبذلك يتمكن المؤمنون من عبادة ربهم حيث لم يخلقوا إلا لها، ولن يكملوا ولن يسعدوا في كلا حياتيهم إلا بها وعليها.
وأخيرا أيها القارئ الكريم إن العبد المؤمن إذا امتثل هذه الأوامر الثلاثة فاتقى الله عز وجل، وتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال، وجاهد أعداءه ليأمن من شرهم، فيتمكن من العبادة التي هي سبب كماله وسعادته في الدنيا والآخرة، ربح أعظم ربح وفاز أكبر فوز، وذلك هو النجاة من ذل الدنيا وشقائها، وعذاب الآخرة وخزيها ودخول الجنة والتمتع بنعيمها، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} (آل عمران: من الآية185)
هداية الآية:
إن هذه الآية كغيرها من الآيات القرآنية الكريمة تحمل الهدى للمؤمنين، والموعظة للمتقين والرحمة والبشرى للمسلمين، وهذه بعض مظاهر ذلك:
1) في نداء الله تعالى للمؤمنين بعنوان الإيمان - يا أيها الذين آمنوا - إشعار بتكريمهم وتقدير لشرفهم، وعلو منزلتهم، وضمن ذلك تذكيرهم بما يتطلبه إيمانهم من الاستعداد للعمل والجهاد، وما يستلزمه من الطاعة بالاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم والامتثال:(24/405)
2) في الأمر بالتقوى القائمة على أساس فعل المأمور، وترك المنهي إعداد للمؤمن لأن يكمل في معارفه ويسمو بأخلاقه، ويطهر في نفسه، فيتأهل للقيادة والسيادة في الدنيا، والسعادة بالنعيم المقيم في الدار الآخرة. بعد أن يكون قد شرف بولاية الله تعالى، وفاز بمحبته، إذ بإيمانه وتقواه يحصل على ولاية الله، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فجعل تعالى شرط الحصول على الولاية: الإيمان والتقوى.
3) في الأمر بالتوسل فتح الباب للعبد ليقرب ويحب ويرضى، وهو نعيم روحي ما فوقه نعيم، وكمال نفسي دونه كل كمال، وما كان هذا ليحصل للعبد لولا أن الله تعالى فتح له، وفتح عليه. قال تعالى في حديث صحيح: "من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له من". فتح على العبد باب الإيمان والتقوى فآمن واتقى. وفتح له باب التوسل والتقرب فتوسل وتقرب فأحبَّ وأدْني وقرِّب، وفاز بالخلد والرضوان.(24/406)
4) في الأمر بالتقوى، والتوسل، والجهاد دعوة المؤمن إلى العلم، والمعرفة، والمفروض أن تكون حاصلة له قبل القول والعمل، إذ لا يتأتى للعبد أن يتقي وهو يعرف لا يعرف ماذا يتقي، ولا أن يتوسل وهو لا يعرف بماذا يتوسل، ولا أن يجاهد وهو لا يعرف من يجاهد، ولا بماذا يجاهد؟ ولا ما الغاية من جهاده؟ ومن هنا كان المؤمن ملزما بطلب العلم، والحصول عليه، ومهما كان الثمن، وكانت المشقة، إذ لا يخطو خطوة واحدة في مضمار طلب النجاة، والكمال، والإسعاد في الدارين إلا بعد العلم والمعرفة. ولذا لا يوجد وليّ لله من عباده جاهل به تعالى، وبالطريق إليه المتمثلة في معرفة محابه، ومساخطه من الاعتقادات، والأقوال، والأفعال.
5) في الأمر بالجهاد في ميادينه الأربعة التي مرت آنفا وهي جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الفساق، وجهاد الكفار. في الأمر به دفع للمؤمن إلى القوة والكمال الذاتي، والخلقي، والروحي، تلك القوة التي بدونها لا يكمل، ولا يسود، ولا يقود، إنه بجهاده في هذه الجبهات الأربعة وبانتصاره فيها يكون قد آمن لنفسه المناخ الصالح، والساحة النقية للعبادة الحرة، والترقي في مدارج الكمال فيها، بأداء الفرائض، والنوافل، مع التخلي عن النقائص، والرذائل حتى يصل إلى مستوى الحب. فيعلن في السماء عن حبه، ويلقى له القبول في الأرض فلا يراه عبد صالح مثله إلا أحبه.
هذا بعض ما في آيتنا هذه من هداية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(24/407)
حول الشعر التعليمي (2)
للدكتور صالح آدم بيلو
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
في ميدان النحو والفلك:
لمحمد بن إبراهيم الفزاري قصيدة مزدوجة في علم الفلك، يقول عنها ((ياقوت الحموي)) إنها تقوم مقام زيجات المنجمين، وهي طويلة يدخل في تفسيرها - هي وشروحها - عشرة أجلاد، أولها:
الحمد لله العلي الأعظم
ذي الفضل والمجد الكريم الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
الخالق السبع العلى طباقا
والشمس يجلو نورها الأغساقا
والبدر يملا نوره الآفاقا
الفلك الدائر في المسير
لأعظم الخطب من الأمور
يسير في بحر من البحور
فيه النجوم كلها عوامل
منها مقيم دهره وزايل
فطالع منها ومنها نازل
وهي هكذا ثلاثة أقفال ثلاثة أقفال [1]
وفي ميدان النحو استخدم الشعر التعليمي الإلمام به وتحخبيب دراسته، يقول إسحاق بن خلف البهراني:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن [2]
ويقول الكسائي ((ت 183 أو 189 هجري)) في المعنى نفسه:
إنما النحو قياس يتبع
وبه في كل أمر ينتفع
فإذا ما أبصر النحو فتى
مرّ في المنطق مرّا فتّسع
فاتقاه كل من جالسه
من جليس ناطق أو مستمع
وإذا لم يبصر النحو فتى
هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه ينصب الرفع وما
كان من خفض ومن نصب رفع
يقرأ القرآن لا يعرف ما
حرّف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه
فإذا ما شكّ في حرف رجع
ناظرا فيه وفي إعرابه
فإذا ما عرف اللحن صدع
فهما فيه سواء عندكم
ليست الألسن فينا كالبدع
كم وضيع رفع النحو وكم
من شريف قد رأيناه وضع [3]
في ميدان اللهو والمجون:(24/408)
وإن تعجب فعجب لما بذله شعراء هذا العصر من جهد لاستخدام الشعر التعليمي في موضوعات اللهو والمجون الذي أصاب جانبا من جوانب ذلك المجتمع متأثرا بأمراض الفكر الوافد، والثقافة الدخيلة وأدوائهما ... فراحوا يضعون للهو والمجون أصولا وقواعد تجب مراعاتها، وقوانين ومراسم ينبغي أن تراعى وتلتزم [4] .
من ذلك أرجوزة الرقاشي المزدوجة التي تحدث عنها ابن المعتز في طبقاته، قائلا عن ناظمها: ".... وهو يزعم كما ترى: أنها تدخر لوقت الموت، مجونا وخلاعة، وأولهما:
أوصى الرقاشي إلى خلاّنه
وصية المحمود في إخوانه
وهي مشهورة وموجودة" [5] ... ولكن لم يصل منها غير هذا الذي أشار إليه ابن المعتز.
كما قام ((حمدان بن أبان اللاحقي)) بوضع أرجوزة طويلة في الحب وحيل المحبين اختار منها أو بكر الصولي ثمانية أبيات ومائة بيت أثبتهما في كتابه ((الأوراق)) بدئت بقوله:
ما بال أهل الأدب
منّا وأهل الكتب
قد وضعوا الآدابا
واتبعوا الأصحابا
لكل فن دفتر
منقط محبر
ففرقت أجناسا
وعلموها الناسا
بالحيل الرقيقة
والفطن الدقيقة
فارشدوا الضلالا
وعلموا الجهالا
سوى المحبين فلم
يرعوا لهم حق الذمم
في علم ما قد جهلوا
وما به قد ابتلوا
ويمضي حمدان اللاّحقي إلى أن يقول في آخر منظومته:
قد تم مني الوصف
ولم يخني الرصف
وانقضت القصيدة
محبوبة حميدة
والحمد للرحمن
ذي العزّ والسلطان
والذم للشيطان
ذي الذم والطغيان [6]
ومن أروع ما جاء في هذا اللون من الشعر التعليمي ما أورده ابن المعتز في أرجوزته الطويلة ((ذم الصبوح)) ... إذ يصور شارب الخمر في أتعس حالاته وأبأس أوضاعه، فيقول في آخر قصيدته:
فمن أدام للشقاء هذا
من فعله والتذه التذاذا
لم يلف إلا دنس الأثواب
مهوّسا مهوّس الأصحاب
فازداد سهوا وضنى وسقما(24/409)
ولا تراه الدهر إلا فدما
ذا شارب وظفر طويل
ينغص الزاد على الخليل
ومقلة مبيضة المآقي
وأذن كحقة الدباق
وجسد عليه جلد من وسخ
كأنه أشرب نفطا أو لطخ
تخال من تحت إبطه إذا عرق
لحية قاض قد نجا من الغرق
وريقه كمثل طوق من أدم
وليس من ترك السؤال يحتشم
في صدره من واكف وقاطر
كأثر الذرق على الكنادر
هذا، كذا، وما تركت أكثر
فجربوا ما قلته وفكروا [7]
في ميدان السير والتاريخ:
لعل أهم عملين كبيرين في هذا المجال مزدوجتان: مزدوجة علي بن الجهم [8] ومزدوجة عبد الله بن المعتز في السير والتاريخ..
أما ابن الجهم (188 –249 هجري) فله مزدوجة تسمى ((المحبّرة)) شديدة الطول، تقع في ثلاثمائة وثمانية أبيات، ذكر فيها ابتداء الخلق والأنبياء والخلفاء إلى أيامه –أيام الخليفة المستعين العباسي 248 هجري- وبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على نبيه، ثم أخذ يجيب من يسأله عن بدء الخليقة:
الحمد لله المعيد المبدي
حمدا كثيرا، وهو أهل الحمد
ثم الصلاة أولا وآخرا
على النبي باطنا وظاهرا
يا سائلي عن ابتداء الخلق
مسألة القاصد قصد الحق
أخبرني قوم من الثقات
أولو علوم وأولو هيئات
تقدموا في طلب الآثار
وعرفوا حقائق الأخبار
وفهموا التوراة والإنجيلا
واحكموا التنزيل والتأويلا
أن الذي يفعل ما يشاء
ومن له العزة والبقاء
أنشأ خلق آدم إنشاء
وقد منه زوجه حواء
مبتدئا ذلك يوم الجمعة
حتى إذا أكمل منه صنعة
أسكنه وزوجه الجنانا
فكان من أمرهما ما كانا
وراح يتحدث عن إغراء إبليس آدم وزوجه، واستجابتهما له، وكيف أهبطا من الجنة إلى الأرض في جبل بالهند يسمى ((واسم)) ... واستمر يتحدث عن أبناء آدم وأحفاده، إلى أن جاء إلى نوح عليه السلام، فقال:
فأرسل الله إليهم نوحا
عبدا لمن أرسله نصوحا(24/410)
فعاش ألفا غير خمسين سنة
يدعو إلى الله وتمضى الأزمنة
يدعوهم سرا ويدعو جهرا
فلم يزدهم ذلك إلا كفرا
وانهمكوا في الكفر والطغيان
وأظهروا عبادة الأوثان
وهكذا يمضي الشاعر في أرجوزته يتحدث في استفاضة، ودقة متناهية عن قصة أبي البشر الثاني مع قومه، وما أعقب ذلك من أحداث. وتحدث عن الأنبياء والرسل نبيا نبيا، ورسولا رسولا، وعن الأمم والشعوب من عرب وعجم قبل مطلع النور –الإسلام
فيقول:
فهذه جملة أخبار الأمم
منقولة من عرب ومن عجم
وكل قوم لهم فكير
وقلما تحصل الأمور
وعميت في الفترة الأخبار
إلا التي سارت بها الأشعار
والفرس والروم لهم أيام
يمنع من تفخيمها الإسلام
وإنما يقنع أهل العقل
بكتب الله وقول الرسل
وجاء الإسلام بنوره الوهاج:
ثم أزال الظلمة الضياء
وعاودت جدتها الأشياء
ودانت الشعوب والأحياء
وجاء ما ليس به خفاء
أتاهم المنتخب الأوّاه
محمد صلى عليه الله
وانساب الشاعر يصور الأحداث حدثا حدثا، والخلفاء خليفة خليفة إلى أيام المستعين الذي عاصره الشاعر، واختتم أرجوزته قائلا:
فنحن في خلافة مباركة
خلت عن الأضرار والمشاركة
فالحمد لله على إنعامه
جميع هذا الأمر من أحكامه
ثم الصلاة أولا وآخرا
على النبي باطنا وظاهرا [9]
وبذا يكون علي بن الجهم أول شاعر يقوم بعمل متكامل وصل إلينا كاملا في هذا الباب [10] .
أما عبد الله بن المعتز ((247 -296 هجري)) فقد نظم في أرجوزته حياة الخليفة العباسي المعتضد ((279 -289 هجري)) وسيرته وما قام به من أعمال كبيرة وعظيمة، فرفع من شأن الخلافة بعد اتضاع، وأخذ على يد الأتراك بقدر المستطاع، وشرح الشاعر فيها الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفسادها، وتحدث عن القضاء على الثائرين والمتمردين!..(24/411)
وهذه الأرجوزة يحسبها كثير من النقاد والباحثين مظهرا من مظاهر الشعر القصصي [11] ، ويقول الأستاذ أحمد أمين: " ... هي صورة مصغرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامة سدت بعض النقص في الشعر العربي من هذا النوع" [12] .
يفتتح الشاعر أرجوزته على الطريقة التي سلكتها المتون في الأزهر القديم:
باسم الإله الملك الرحمن
ذي العز والقدرة والسلطان
الحمد لله على ألائه
أحمده والحمد من نعمائه
أبدع خلقا لم يكن فكان
وأظهر الحجة والبرهانا
وجعل الخاتم للنبوة
أحمد ذا الشفاعة المرجوة
الصادق المهذب المطهرا
صلى عليه ربنا فأكثرا
مضى وأبقى لبني العباس
ميراث ملك ثابت الأساس
برغم كل حاسد يبغيه
يهدمه كأنه يبنيه
ثم يذكر أنه ألف هذه القصيدة في سيرة أبي العباس المعتضد، ويعرض لحال الخلافة قبله، والفوضى السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة، وأعمال أبيه ((الموفق)) والقضاء على فتنة الثائر العلوي 270 هجري، فيقول:
قام بأمر الملك لما ضاعا
وكان نهبا في الورى مضاعا
تذللا ليست له مهابة
يخاف إن طنت به ذبابة
وكل يوم ملك مقتول
أو خائف مروع ذليل
أو خالع للعقد كيما يغني
وذاك أدعى للردى وأدنى
وكم أمير كان رأس جيش
قد نغصوا عليه كل عيش
وكل يوم شغب وغصب
وأنفس مقتولة وحرب
وكم فتى قد راح نهبا راكبا
إما جليس ملك أو كاتبا
فوضعوا في رأسه السياطا
وجعلوا يردونه شطاطا
وكم فتاة خرجت من منزل
فغصبوها نفسها في المحفل
وفضحوها عند من يعرفها
وصدقوا العشيق كي يقرفها
وحصل الزوج لضعف حيلته
على نواحه ونتف لحيته
وكل يوم عسكر فعسكرا
بالكرخ والدور مواتا أحمرا
كذاك حتى أفقروا الخلافة
وعودوها الرعب والمخافة
فتلك أطلال لهم قفارا
ترى الشياطين بها نهارا(24/412)
ويصور الشاعر الفظائع التي كانت تنصب على أفراد الأمة من مصادرات لأموالهم بعد انتهاك حرماتهم، فيقول:
أجرأ خلق الله ظلما فاحشا
وأجور الناس عقابا بالوشى
يأخذ من هذا الشقي ضيعته
وذا يريد ماله وحرمته
وويل من مات أبوه موسرا
أليس هذا محكما مشهرا؟!
وطال في دار البلاء سجنه
وقال: من يدري بأنك ابنه؟!
فقال جيراني ومن يعرفني
فنتفوا سباله حتى فنى
وأسرفوا في لكمه ودفعه
وخدرت أكفهم في صفعه
ولم يزل في أضيق الحبوس
حتى رمى إليهم بالكيس
وتاجر ذي جوهر ومال
كان من الله بحسن حال
قيل له عندك للسلطان
ودائع غالية الأثمان
فقال: لا والله ما عندي له
صغيرة من ذا ولا جليلة
وإنما أربحت في التجارة
ولم أكن في المال ذا خسارة
فدخنوه بدخان التبن
وأوقدوه بثفال اللبن
حتى إذا مل الحياة وضجر
وقال ليت المال جمعا في سقر
أعطاهم ما طلبوا فأطلقا
يستعمل المشي ويمشي العنقا [13]
ثم يأتي إلى تصوير عناية الخليفة المعتضد بالجيش واختياره جنوده، وقيامه بحركة تطهير واسعة في هذا الجيش ونبذ غير اللائقين منهم بكرامة الجندي:
واختار من جنوده كل بطل
مجرب إن حضر الموت قتل
ثم نفى كل دخيل قد مرق
إذا رأى السيف جرى من الفرق
حتى إذا صفى خيار الجند
قال يا حرب اهزلي وجدي
سار إلى الموصل ينوي أمرا
فملأ البر معا والبحرا [14]
وهكذا يسير ابن المعتز في أرجوزته، أو قل ملحمته التي بلغت نحوا من عشرين وأربعمائة بيت في تاريخ الخليفة المعتضد.(24/413)
ومن هنا: نرى أن الشعر التعليمي قد وجد عند العرب منذ جاهليتهم بكل أقسامه التي عرفت عند اليونان، وقد رأينا لذلك أمثلة عند شعراء جاهليين، كما وجدناه عند الشعراء الأمويين في أخص أقسامه، في أبياته في صناعة الكيمياء.. ووجدناه في الأرجوزة الأموية التي اتخذت وسيلة لتعليم غريب اللغة، مما ألهم المقامة فيما بعد، ودفع بالشعراء في العصر العباسي إلى التوسع في الشعر التعليمي، حتى إذا ولج أبان اللاحقي هذا الميدان، فتح الباب واسعا، فتهافت عليه من تهافت من الشعراء أو النظاميين!..
وبهذا يتضح أن الشعر التعليمي العباسي لم يكن في جملته وتفصيله تقليدا لمثيله عند الأمم الأخرى كالهنود واليونان.. تلك الأمم التي عرفت هذا اللون من الشعر!..
ولكن هل يعني هذا الكلام أننا ننكر أن للثقافة الدخيلة والفكر الوافد أثرا في الشعر التعليمي خلال هذا العصر؟!.
كلا!.. نحن لا ننكر هذا التأثير، ولكنا نريد أن نقول: إن التأثير الوافد لم يكن في إنشاء هذا اللون من الشعر في الأدب العربي وإيجاده –فلقد كان ذلك موجودا في العربية منذ زمن طويل كما رأينا- ولكن التأثير كان في تشكيله وإعطائه ملامح نهائية، وسمات بينة، متعاونا مع عوامل أخرى ...(24/414)
إن تأثير الفكر الوافد في الشعر التعليمي لا يعدو أن يكون هو التأثير ذاته أثره في الخمريات وشعر اللهو والمجون، والزهد ... الخ في هذا العصر، وكل أولئك كان موجودا في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يعز أحد ابتكارها وابتداعها للعصر العباسي، مع ذلك فلا ينكر أحد أنها في هذا الوقت قد زيدت مساحتها ومدت الرقعة التي تشغلها، وأنه أضيف إلى الصورة أشياء وألوان، حتى لقد ينخدع كثيرون بأن كل ما هناك جديد مبتكر.. والشعر التعليمي لم يكن بدعا في ذلك؛ فهو قد تأثر بالعصر وظروفه وملابساته، وبما كان يموج فيه من فكر وثقافة ومعرفة متعددة المصادر والينابيع.. ولقد بانت في هذا العصر ملامح وحدود كثير من العلوم، واتضحت معالم كثير من المعارف، فأخذ الشعراء منذئذ يتناولون هذه المعارف والفنون بالنظم شعرا؛ فظن الظانون أن المضمون ما دام جديدا أو شبه جديد فلا بد أن يكون هذا الشكل الذي قدم فيه جديدا كذلك!..
والمسألة في نظرهم بدت على الصورة الآتية: إن كليلة ودمنة يمثل جانبا من الثقافة الجديدة الوافدة الدخيلة على الأدب العربي، وقام أبان اللاحقي الفارسي بما أوتي من الفاتنة، فافتتن الناس بها افتتانا ... إذن؛ فالشعر التعليمي الذي نظم به هذا الكتاب الوافد، وافد أيضا، أو من نتاج الثقافة الوافدة!..
وهذه النتيجة ليست صحيحة!..
إلى هنا رأينا كيف اتخذ الشعر التعليمي صورا متعددة وجديدة ... ومما نلحظه: أن الشعراء في هذا قد آثروا بحر الرجز المصرع –غالبا وفي أكثر الأحوال خصوصا في العصور التي تلت العصر العباسي- لأنه بزحافاته يسهل تشكيل الكلام، ولأنه أخف وقعا، وأسهل حفظا، وأبقى في الذاكرة ... ولذا فإن السابقين قد التفتوا إلى أن الشعر بموسيقاه وإيقاعه ألطف وأوقع في النفس، وأخف على السمع، وأسرع رسوخا في الذاكرة، مع أن هذا اللون من النظم خال من مقومات الشعر، وهي العاصفة والخيال وروعة الأسلوب!..(24/415)
القيمة الفنية للشعر التعليمي:
هذا اللون من الشعر من الناحية الفنية ليس على شيء، وليس هو بأكثر من كلام موزون مقفى، لأن الشعر في حقيقته إن هو إلا عاصفة جياشة، وخيال مهوم بديع، وأسلوب جميل، ولفظ أخاذ، يضاف إلى ذلك الموسيقى والتوقيع!..
على أنه ينبغي ألا نندفع ونبالغ في التعميم، فنردد أن الشعر التعليمي – على إطلاقه - إن هو إلا كلام موزون مقفى ... الخ.
إن هذا الكلام لا يصدق إلا في بعض ألوان الشعر التعليمي، أو على القسم الذي أسموه ((حقائق الفنون والعلوم والمعارف)) .. على حين لا يكون الأمر كذلك – دائما- في الأقسام الأخرى من الشعر التعليمي، خصوصا النوع الذي يتناول التاريخ وأحداثه، فقد يحور ويتحول عند الشاعر المبدع، والفنان البارع الموهوب إلى شعر قصصي [15] )) آسر للقلوب كالذي رأيناه في رائعتي ابن المعتز اللتين وقفنا عندهما بقصد توكيد هذه الحقيقة!..
اعتراف بالجميل:
ومهما قيل في القيمة الفنية للشعر التعليمي، فإنني أرى –من الإنصاف- عدم تجريده من كل فضيلة، ولا أرى إنكار أنه قد أدى بعض المهمة التي أريد له أن يؤديها ... ذلك أنه قد حفظ كثيرا من تراث هذه الأمة الديني واللغوي والعلمي خصوصا في العصور المتأخرة التي شمل الضعف والتدهور كل جوانب الحياة فيها!!..
الأدب الإسلامي
- إدخال مادة الأدب الإسلامي بصفة عامة وأدب الدعوة بصفة خاصة في أقسام الدعوة والإعلام وفي السنوات التمهيدية من الدراسات العليا وإعداد الرسائل الجامعية التي تبرز هذا الأدب وتقعد له وتخرج الباحثين المختصين فيه.
- أن يكون الأدب الإسلامي الذي نقدمه للطلاب في مراحل الدراسة جميعها وثيق الصلة –مادة ومعنى- بكتاب الله وحديث رسول الله وآثار الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان لما في ذلك من روعة بيانية. وعمق إيماني وروح نابضة بالخير والبر وتغذية مستمرة لأدبنا الإسلامي المعاصر.(24/416)
(من توصيات مؤتمر حوار الأدب الإسلامي ومناهج دراسته. الذي عقد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] معجم الأدباء بتحقيق مرجايوث ج 2 /268، والوافي والوفيات للصلاح الصفدي المطبعة الهاشمية بدمشق عام 1953 م ج 1 /336.
[2] زهر الآداب للحصري بتحقيق زكي مبارك ج 3 /138 والكامل للمبرد مطبعة نهضة مصر ج 2 /23.
[3] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 11 /412 وبعض الأبيات في كتاب ((الورقة)) لابن الجراح ص 46.
[4] وانظر باستفاضة ((التيارات الفكرية الوافدة في العصر العباسي وصداها في الأدب)) للدكتور صالح آدم بيلو ص 223 -250.
[5] طبقات ابن المعتز ص 226.
[6] الأوراق للصولي –قسم أخبار الشعراء- ص 57 -62.
[7] رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور عبد المنعم خفاجي مطبعة مصطفى الحلبي عام 1946 م ص 107 -114.
[8] راجع مقدمة ديوان علي بن الجهم بقلم خليل مردم بك –لجنة التراث العربي ببيروت ص 36 وكذلك ص 157 وص 227.
[9] راجع القصيدة في ديوانه ص 228 -250.
[10] انظر مقدمة محقق الديوان.
[11] من حديث الشعر والنثر لطه حسين ص 285 وما بعدها.
[12] ظهر الإسلام لأحمد أمين ج 1 /25.
[13] إنها لصورة حية للشعوب التيب منيت بالحكم الاشتراكي والماركسي في العصر الحديث المجلة.
[14] رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور خفاجي ص 80 -107.
[15] انظر طه حسين في حديث الأربعاء ج 2 /220 وأحمد أمين في ظهر الإسلام ج 1 /25.(24/417)
بحث في صيغة أفعل [1]
بين النحويين واللغويين واستعمالاتها في اللغة [2]
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
المدرس بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين خالق الألسن واللغات واضع الألفاظ للمعاني بحسب ما اقتضته حكمه البالغات وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه رحمة للعالمين واصطفاه بلسان عربي مبين، وجعل فصاحته في ربوة ذات قرار ومعين وبعد فقد جاءت صيغة أفعل في اللغة العربية متداولة في الاستعمال في أغراض شتى وأنواع متعددة فجاءت فعلا متعدد المعاني مما جعل العلماء يعنون به ويؤلفون فيه كتبا كثيرة تحمل هذا الاسم (فعلت وأفعلت) أو (فعل وأفعل) فألف فيه أبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 216 هجري (وقيل سنة 214، 215) وأبو عبيدة المتوفى سنة 211 هجري والأصمعي المتوفى سنة 215 هجري والفراء المتوفى سنة 257 هجري وثعلب في فصيحه المتوفى سنة 291 هجري والزجاج المتوفى سنة 311 هجري وأبو علي القالي المتوفى سنة 356 هجري، (والآمدي المتوفى سنة 370 هجري وكمال الدين بن الأنباري المتوفى سنة 577 هجري وابن مالك المتوفى سنة 272 هجري وفي أدب الكاتب لابن قتيبة المتوفى سنة 267 هجري فصل خاص به من شرح الجواليقي المتوفى سنة 465 هجري وفي المخصص لابن سيدة المتوفى سنة 458 هجري فصل خاص به، وقد عنى بصيغة أفعل في نهاية كل باب (الميداني المتوفى سنة 518 هجري في كتابه مجمع الأمثال) ومن يمعن النظر في هذه الكتب يلاحظ العناية بهذه الصيغة نظرا لما يستفاد منها من المعاني المتفرقة، ويلاحظ أنها جاءت اسما وصفة وعلما واستعملت في تراكيب شتى كالتعجب وأفعل التفضيل. وربما بعض الأفعال أدى وظيفة خاصة به كأصبح وأمسى من أخوات كان وأعلم وأرى من أخوات ظن لكنهما ينصبان مفاعيل ثلاثة وبعض الأسماء والصفات له علاقة ببعض الأبواب في النحو كباب(24/418)
ما لا ينصرف وباب الجموع لذا كرست جهدي في جمع حبات العقد المنفرط ليكون أمام القارئ فلا يحتاج إلى إعمال فكر وكد ذهن وقد جعلت حديثي عن هذه الصيغة من ناحية فعليتها أولا واسميتها ثانيا ذاكرا ما يتعلق بها من أحكام متفرقة من السماع والقياس والشذوذ والندور وما إليها من الأحكام اللغوية لهذه الصيغة العربية والله أسأل أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وأن يجنبني الخطأ والزلل وأن يجعل لي من الفهم عنه وعن رسوله ما أبلغ به منازل الصديقين وأحشر في زمرة العلماء العاملين إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
ومبلغ الرجاء أن يكون هذا البحث قد حقق ما قصدت إليه من تقريب تلك الآثار العلمية لاستعمال هذه الصيغة إلى جمهرة اللغويين والمنتفعين كي يزدادوا باللغة العربية استمساكا وإعزازا حتى تكون لسانا مبينا لحضارة عصرهم كما كانت حضارة أسلافهم الزاهرة بلسان عربي مبين خاصة وأنها وعاء القرآن الكريم كلام رب العالمين.
صيغة (أفعل) بين العربية وأخواتها في السامية
جاءت هذه الصيغة في اللغات السامية وقد لوحظ أن اللغات الحبشية والسريانية والنبطية والتدمرية واللهجات العربية القديمة كالصفوية واللحيانية والثمودية تعبر عن كثير من المعاني بوزن (أفعل) كاللغة العربية الحالية.
وتعبر بعض اللهجات الآرامية عن هذه المعاني بوزن (هفعل) وأيضا في اللهجتين العربيتين الجاهليتين وهم الثمودية واللحيانية ونجد أن صيغة (أفعل) كانت مستعملة في اللغة السبئية وبعض اللهجات الآرامية ... وكانت اللغات الأكدية تعبر عن بعض المعاني التيتستفاد من (أفعل) في العربية بصيغة أخرى تقترب منها هي شفعل المستخدم في اللغة السريانية بجانب وزن (أفعل)
وكانت اللغات الحضرمية والقتبانية والأوسانية تعبر بصيغة هي (سفعل) غير أنه توجد آثار استخدام وزن (هفعل) في بعض اللهجات.(24/419)
ويستدل عن وجود هذه الصيغ المختلفة في اللغات السامية على أن تلك الصيغ (أفعل- هفعل- شفعل – سفعل) كانت مستخدمة جميعا عند الجماعات السامية الأولى للدلالة على المعاني المختلفة، وأخذت بعض تلك الصيغ تضيع من الاستعمال في بعض اللهجات وتهمل لأسباب تتفق وطبيعة تلك الشعوب.
كما أخذت كل جماعة من الجماعات السامية تكتفي بصيغة واحدة من هذه الصيغ للدلالة على المعاني المختلفة التي تستفاد منها.
وقد بقيت بعض آثار الصيغ الأخرى في كثير من اللغات السامية لكي تدل على أن الصيغ المهملة كانت في القديم متداولة وشائعة بين الجماعات السامية الأولى، وتوجد في اللغة العربية آثار لبعض الأوزان الأخرى، وقد فطن النحويون واللغويون العرب لذلك، فقد جاء في كتاب المقتضب للمبرد المتوفى سنة 285 هجري: أرقت وهرقت وإياك وهياك [3] .
وجاء في كتاب الأفعال لابن القوطية المتوفى سنة 367 هجري ما يلي:
وهرقت الماء هرقا، وأهرقته ويقال إن الهاء في هرقت مبدلة من همزة فيكون حينئذ رباعيا مستقبله أربعة وقالوا أهريقه [4] .
وجاء في كتاب المنصف لابن جني المتوفى سنة 392 هجري (وقد قيل إن الهاء في هجرع وهو الطويل فالهاء زائدة كأنه من الجرع وهو المكان السهل المنقاد. وهو من معنى الطول، وكذلك هبلع وهو الأكول مأخوذ من البلع أما هركولة وهو المرأة الجسيمة فذهب الخليل فيما حكاه عنه أبو الحسن إلى أن الهاء زائدة ووزنه هفعولة أخذه من الركل وهو الرفس بالرجل كأنها لثقلها تركل في مشيتها أي ترفع رجلها وتضعها بقوة كالرفس [5] .
وجاء في شرح المفصل لابن يعيش المتوفى سنة 643هجري ما يلي:
اعلم أنهم قالوا: أهراق فمن قال هراق فالهاء عنده بدلا من همزة أراق على حد هردت أن أفعل في أردت ونظائره [6]
وجاء في شرح المفصل أيضا ما نصه:(24/420)
ومن ذلك هات الشيء أي أعطينيه، وهو اسم لأعطيني وناولني ونحوهما وهو مبني لوقوعه موقع الأمر وكسر لالتقاء الساكنين (الألف والتاء) وكأنه من لفظ (هيت) ومعناه، وقال بعضهم هو من آتى يؤاتي والهاء فيه بدل من الهمزة ويعزى هذا القول إلى الخليل واستدل على ذلك بتصريفه ويلحقونه ضمير التثنية والجمع لقوة شبه الفعل به [7] .
وجاء في القاموس المحيط مادة (جزع) والهجزع كدرهم الجبان هفعل من الجزع كما جاء فيه أيضا في مادة هزرف ... والهزرف كزنبور وعلابط وقرطاس الظليم السريع الخفيف وهزرف أسرع.
وجاء في كتاب المزهر للسيوطي المتوفى سنة 911 هجري:
وهذه أمثلة من كتاب الإبدال ليعقوب بن السكيت (المتوفى سنة 244 هجري) فمن إبدال الهمزة هاء أيا وهيا، وإياك وهياك، وأتمأل السنام وأتمهل إذا انتصب، وأرحت دابتي وهرحتها وأبزت له [8] وهبزت له وأرقت الماء وهرقته.
وبعد هذا العرض نلاحظ أن اللغة العربية كغيرها من اللغات السامية كانت تستخدم في الزمن القديم الهمزة والهاء والسين والشين في أوائل الأفعال للدلالة على التعدية وبعض المعاني الأخرى التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد فضلت اللغة العربية الهمزة بعد ذلك وأهملت الحروف الأخرى لأسباب تتفق مع طبيعتها اللغوية ... ولكن بعض آثار استعمال هذه الحروف ما زال باقيا في بعض الأفعال والأسماء والصفات أو أن اللغة العربية تأثرت بأخواتها من السامية ... أما الهمزة في صيغة (أفعل) المزيدة فاستخدمت في اللغة العربية وفي لهجاتها القديمة والحديثة للدلالة على التعدية في الأكثر، وعلى التعريض للشيء وعلى الصيرورة كما دلتا على وجود الشيء على صفته، ودلت على السلبية وجاءت أخيرا متضمنة معنى فعل الخ، وجاءت بعض الأفعال رافعة للاسم ناصبة للخبر وبعضها ناصبة لمفاعيل ثلاثة الخ.
الفصل الأول: ورود (أفعل) المستعمل فعلا(24/421)
الفعل في اللغة العربية باعتبار التعدي واللزوم نوعان: لازم وهو القاصر الذي لا ينصب المفعول به بنفسه مباشرة بل يتعدى إليه بوسائل معروفة في باب (التعدي واللزوم) مثل جلس وقعد الخ، النوع الثاني المتعدي وهو الذي يتعدى إلى المفعول به بدون واسطة فتارة يتعدى إلى مفعول واحد مثل الفعل (سمع) تقول سمع محمد الخبر، الفعل (قرأ) تقول: قرأ محمد القرآن، وتارة يتعدى الفعل الثلاثي إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر كالفعل (كسا) تقول: كسوت الفقير ثيابا، والفعل (أعطى) تقول: أعطيت الفقير مالا، وقد ينصب الفعل الثلاثي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كأفعال القلوب والرجحان واليقين في باب (ظن وأخواتها) هذا شأن الفعل الثلاثي. وقد تدخل الهمزة على هذا الفعل الثلاثي زائدة فتغير حاله وتنقل معنى الفعل إلى مفعوله ويصير بها الفاعل مفعولا ولا تقتضي في الغالب تمهلا ولا تكرارا، فإدخال الهمزة على أول الفعل الثلاثي تكسبه معنى النقل والتعدية وهذا هو المعنى الغالب لاستعمال صيغة (أفعل) .
معنى التعدية وأثرها
ومما يجدر ملاحظته أن التعدية في اللغة العربية نوعان: تعدية عامة وهي التي نشاهدها في الأفعال المتعدية بطبيعتها ولا تحتاج إلى واسطة تتعدى بها كالأفعال كسا، وأعطى، وقرأ، وأكل، وما شاكلها فالتعدية في هذه الأفعال تعدية عامة.
النوع الثاني من التعدية تعدية خاصة وهي التي نشاهدها في الأفعال التي تتعدى بالهمزة كثيرا ويجوز أن تتعدى بالباء فإدخال الهمزة على أول الفعل الثلاثي وهي همزة تنقل معنى الفعل إلى مفعوله ويصير الفاعل مفعولا فما كان فاعلا للفعل اللازم يصير مفعولا لمعنى الجعل وهو في الوقت نفسه فاعل لأصل الحدث على ما كان عليه فهو وإن كان مفعولا للجعل فاعل من ناحية المعنى قال الشاعر وهو أعشى باهلة:
وإن صبرنا فإنا معشر صبر
فإن جزعنا فإن الشر أجزعنا(24/422)
فالفعل جزع لا يتعدى ولكنه بالهمزة التي للنقل صار متعديا إلى مفعول به من أثر الهمزة التي للنقل وهو الفاعل للذهاب من ناحية المعنى ... وتقول: لبس محمد الثياب وألبست محمدا الثياب فقد أثرت الهمزة في الفعل المتعدي إلى مفعول واحد وجعلته متعديا إلى مفعولين أولهما مفعول الجعل، والثاني مفعول لأصل الفعل، ولكن الأول في رتبة مقدمة على الثاني لأن مرتبة المجعول مقدمة على مرتبة أصل الفعل قال سيبويه في الكتاب [9] : "هذا باب فعلت وأفعلت في الفعل للمعنى يقول: دخل وخرج وجلس فإذا أخبرت أن غيره صيره إلى شيء من هذا قلت: أخرجه، وأدخله، وأجلسه وتقول: فزع وأفزعته، وخاف وأخفته، وجال وأجلته، وجاء وأجأته، فأكثر ما يكون على فعل (بتثليث العين) إذا أردت أن غيره أدخله في ذلك يبني الفعل منه على أفعلت ومن ذلك أيضا مكث (بضم العين) وأمكثته، وقد يجيء الشيء على فعلت (بتشديد العين) فيشرك أفعلت وذلك قولك فرح وفرحته وإن شئت قلت: أفرحته"انتهى كلام سيبويه.(24/423)
وقال الرضى في شرح الشافية [10] : "فاعلم أن المعنى الغالب في أفعل للتعدية تعدية ما كان ثلاثيا وهي أن يجعل ما كان فاعلا للازم مفعول لمعنى الجعل فاعلا لأصل الحدث على ما كان، فمعنى (أذهبت زيدا) جعلت زيدا ذاهبا فزيد مفعول لمعنى الجعل الذي استفيد من الهمزة، فاعل للذهاب كما كان في (ذهب زيد) فإن كان الفعل الثلاثي غير متعد صار بالهمزة متعديا إلى واحد هو مفعول لمعنى الهمزة (أي الجعل والتصيير) كأذهبته ومنه أعظمته أي جعلته عظيما باعتقادي بمعنى استعظمته، وإن كان متعديا إلى واحد صار بالهمزة متعديا إلى اثنين أولهما مفعول الجعل، والثاني لأصل الفعل نحو أحفرت زيدا النهر أي جعلته حافرا له فالأول مجعول والثاني محفور ومرتبة المجعول ومرتبة مقدمة على مرتبة مفعول أصل الفعل لأن فيه معنى الفاعلية وإن كان الثلاثي متعديا إلى اثنين صار بالهمزة متعديا إلى ثلاثة أولهما للجعل والثاني والثالث لأصل الفعل وهو فعلان فقط: أعلم وأرى. وقد يجيء الثلاثي [11] متعديا ولازما في معنى واحد نحو فتن الرجل أي صار مفتتنا وفتنته أي أدخلت فيه الفتنة. وحزن وحزنته أي أدخلت فيه الحزن ثم تقول: أفتنته وأحزنته فيهما لنقل فتن، وحزن اللازمين لا المتعديين فأصل معنى أحزنته جعلته حزينا كأذهبته وأخرجته وأصل معنى حزنته جعلت فيه الحزن وأدخلته فيه، ككحلته ودهنته أي جعلت فيه كحلا ودهنا، والمغزى من أحزنته وحزنته شيء واحد، لأن من أدخلت فيه الحزن فقد جعلته حزينا إلا أن الأول يفيد هذا المعنى على سبيل النقل والتصيير لمعنى فعل آخر وهو (حزن) دون الثاني.
وقولهم: لأسرع وأبطأ في سرع وبطؤ ليس الهمزة فيهما للنقل بل الثلاثي والمزيد فيه معا غير متعديين، لكن الفرق بينهما أن سرع وبطأ أبلغ لأنهما كأنهما غريزة كصغر وكبر،" انتهى كلام الرضى على الشافية.(24/424)
وقال ابن هشام في المغني: "مبحث الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر: وهي سبعة أحدها همزة (أفعل) نحو أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} وقوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، وقد ينقل المتعدي إلى واحد بالهمزة إلى التعدي إلى اثنين نحو: ألبست زيدا أثوابا ولم ينقل متعد إلى اثنين بالهمزة إلى التعدي إلى الثلاثة إلا في رأي وعلم وقاسه الأخفش في أخواتهما الثلاثة القلبية نحو ظن وحسب وزعم وقيل النقل بالهمزة كله سماعي وقيل قياسي في القاصر والمتعدي إلى واحد والحق أنه قياسي لأن القاصر سماعي في غيره وهو ظاهر مذهب سيبويه"فابن هشام يرى فيه ثلاثة أقوال: قول يقول إنه التعدية بالهمزة سماعي مطلقا أي في المتعدي إلى واحد وإلى اثنين وفي القاصر.
والقول الثاني يقول بقياسية التعدي بالهمزة في القاصر وفي المتعدي لواحد فقط، والقول الثالث يقول إن التعدية بالهمزة قياسي في القاصر فقط سماعي في غيره سواء كان متعديا إلى واحد أو إلى اثنين فيسوغ لك أن تبني على أفعلته للتعدية من الفعل القاصر من غير أن ينكر عليك أحد ذلك وإن لم تكن سمعت تعديته بالهمزة عن العرب وقال سيبويه [12] في مباحث (فعّلت) بالتضعيف: "هذا باب دخول فعّلت بتضعيف العين على فعلت لا يشاركه في ذلك (أفعلت) تقول كسرتها وقطعتها فإذا أردت كثرة العمل قلت: كسّرته وقطّعته ومزّقته ومما يدلك على ذلك قولهم: علطت البعير وإبل معاطة وبعير معلوط وجرحته وجرّحته (بتضعيف العين) أكثرت الجراحات في جسده.(24/425)
ومن شواهد القرآن لأفعل التي للتعدية قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} وقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} وقوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [13] .
وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} الهمزة للتعدية والمعنى حملهما على أن زلا وهذا قول أبي حيان في البحر المحيط [14] .
وقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْن} الهمزة للتعدية [15] ويعدى بالتضعيف أيضا وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ} قال أبو حيان: الإتمام الإكمال والهمزة فيه للنقل [16] وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} قال أبو حيان: في أعجز للتعدية كما قال ولن نعجزه هربا لكنه كثر فيه حذف المفعول (البحر ج5 ص169) .
وقد يجيء الثلاثي والمزيد فيه بالهمزة لازمين نحو أسرع وسرع وأبطأ وبطؤ والفرق بينهما أن سرع وبطؤ أبلغ كأنهما عريزة كصغر وكبر وجعل منه أبو حيان قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} فالفعل فاض وأفاض بمعنى واحد (وانظر البحر المحيط ج2 ص83)
همزة أفعل قد تكون للتعدية فقط ولا تفيد غيره: وقد صرح المالقي والمتوفى سنة 702 هجري [17] في كتابه رصف المباني بما يبين أن صيغة (أفعل) تستعمل أحيانا للتعدية فقط على وجه خاص قال الموضع الثامن أن تكون التعدية خاصة إذا كان الفعل ثلاثيا لا يتعدى لو نطق به فتقدر أن الهمزة فيه زائدة كقولك: (ألقيت ما في يدي) وقال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِك} [18] .
وقال الشاعر: [19]
(كما قرّ عينا بالإياب المسافر)
فألقت عصاها واستقر بها النوى(24/426)
كان الأصل في هذا الفعل أن يقال فيه: (لقيت ما في يميني) إلا أنه لم ينطق به إلا بالهمزة، وحكمنا أن الهمزة زائدة لأنه من اللقاء فالأصل اللام والقاف والياء فعلمنا بذلك أنه لا معنى لدخول الهمزة وزيادتها إلا تعدية الفعل الثلاثي الذي لم يستعمل النطق به وحده للمفعول، وهذه الهمزة تعدي ما لا يتعدى إلى واحد نحو ما ذكر وما يتعدى إلى واحد إلى اثنين نحو: ألفيت زيدا قائما ومنه (قوله) :
ولا ذاكر الله إلا قليلا [20]
فألفيته غير مستعتب
وما يتعدى إلى اثنين إلى ثلاثة كقولك أعلمت زيدا عمرا قائما ومنه:
أنبئت عمرا غير شاكر نعمتي
(والكفر مخبثة لنفس المنعم) [21]
ثم انتقل إلى همزة (أفعل) التي لم تستعمل إلا لنقل الفعل من مادة الثلاثية إلى مادة الرباعية خاصة قال:
الموضوع التاسع: أن تكون للنقل خاصة ومعنى ذلك أنها تنقل الفعل من الثلاثي إلى الرباعي فإن كان متعديا في أصله بقى كذلك بعد النقل فالهمزة لا تفيد فيه شيئا سوى النقل خاصة، وقد ينطق بثلاثية وقد لا ينطق نحو: أشكل الأمر فهذا لا ينطق بثلاثية، في القاموس وأشكل الأمر التبس وشكَل وإن كان الأصل من حيث أن حروفه أصول ووزن أشكل (أفعل) فالهمزة زائدة لمجرد النقل وتقول لاح البرق، وألاح فهذا ينطق بثلاثية قبل الهمزة وهو غير متعد، وتدخل الهمزة عليه فيبقى كذلك فيعلم أن الهمزة لا معنى لها فيه إلا مجرد النقل خاصة.
وسواء كان الفعل غير متعد كما ذكر أو متعديا كقوله: وقفت الدابة وأوقفتها ومهرت المرأة وأمهرتها، وسقيته وأسقيته فهذا يستعمل بغير الهمزة متعديا وبالهمزة كذلك فعلم أن الهمزة ليس لها معنى إلا مجرد النقل خاصة قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} .
وقال الشاعر: [22]
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
سريت بهم حتى يكل مطيهم
وقال آخر: [23]
نُميرا والقبائل من هلال
سقى قومي بني بكر وأسقى(24/427)
ثم ذكر بعد ذلك أن الهمزة في صيغة (أفعل) تفيد التعدية والنقل معا قال: [24]
الموضع التاسع: أن تكون للتعدية والنقل معا وذلك أكثر من أن يحصى وذلك إذا كان الفعل في أصله ثلاثيا لا يتعدى فيصير بالهمزة رباعيا يتعدى ويكون متعديا إلى واحد فيصير إلى اثنين، ويكون إلى اثنين فيصير إلى ثلاثة وذلك نحو قام زيد، وأقمت زيدا وكرم زيد، وأكرمته وعطى زيد الكأس، وأعطيتها عمرا، وعلمت زيدا منطلقا، وأعلمت عمرا زيدا منطلقا قال الله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والأصل: ترفوا، وقال تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} والأصل تبع بعضهم بعضا وعليه {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} وقال الشاعر: [25]
فأتبعتهم طرفي وقد حال دونهم
غوارِب رمل ذي ألاءٍ وشِبرق
وقال آخر: [26]
ب جاءوا تُتْبِع شُخْبا ثَعْولا
فأتبعتهم فيلقا كالسرا
فجمع بينهما.
واعلم أن هذه الهمزة تقوم مقام الباء في التعدية ولا تجمع معها ويجري مجراها التضعيف الخ ... قال أحمد فارس في الجاسوس على القاموس نجز حاجته بالفتح ينجزها بالضم نجزا قضاها يقال أنجز حر ما وعد، ونجز الوعد فيكون نجز لازما ومتعديا وقد استطردته هنا لبيان أن العرب تعدي بالهمزة ما يتعدى بنفسه كما تقدم ومثل فاظ فإنه لازم ومتعد ثم تقول أفاظه، ومثله نشر الموتى نشورا حيوا ونشرهم الله يتعدى ولا يتعدى ثم يعدى بالهمزة أيضا فيقال أنشرهم الله، ومثله حسر البعير أي أعيا وحسرته أنا وأحسرته، وساغ الشراب وأسغته وهدر الدم وهدرته وأهدرته.(24/428)
2_ المعنى الثاني من معاني (أفعل) الصيرورة أي تكون لصيرورة ما هو فاعل (أفعل) صاحب شيء وهو على وجهين: إما أن يصير صاحب ما اشتق منه نحو ألحم فلان أي صار ذا لحم وأطفلت المرأة أي صارت ذا طفل، وأعسر وأيسر وأقل أي صار ذا عسر ويسر وقلة، وأغد البعير أي صار ذا غدة [27] وأراب أي صار ذا ريبة، وكأن (أفعل) هنا تفيد النسب بمعنى ذي كذا قال ابن قتيبة: وأجرب الرجل وانحز وأحال صار صاحب جرب ونحار وحيال في ماله، وإما أن يصير صاحب شيء هو صاحب ما اشتق منه نحو: أجرب الرجل أي صار ذا إبل ذات جرب، وأقطف صار صاحب خيل تقطف (أي أساءت السير وأبطأت) وأخبث أي صار ذا أصحاب خبثاء [28] .
ومن القسم الأول أحصد الزرع أي صار ذا حصاد وبعضهم جعل هذا قسما آخر فقال يجئ (أفعل) بمعنى حان وقت يستحق فيه فاعل (أفعل) أن يوقع عليه أصل الفعل مثل أحصد الزرع، وأجدّ النخل أي حان له أي يجد (أي يقطع ثمره) ، وأقطع النخل (حان قطاعه) [29] .
ومن هذا النوع أي صيرورته كذا، دخول الفاعل في الوقت المشتق منه (أفعل) أصبح (وأمسى) وأفجر، وأشهر، أي دخل في الصباح والمساء والفجر والشهر وكذلك أضحى أي دخل في الضحى.
ملحوظة: الأفعال: أمسى، أصبح، أضحى قد تستعمل ناقصة أي تدل على حدث ناقص (معنى مجرد ناقص) لأن إسناده إلى مرفوعة لا يفيد الفائدة الأساسية المطلوبة من الجملة الفعلية إلا بعد مجيء الاسم المنصوب، فالاسم المطلوب المنصوب (الخبر) هو الذي يتمم المعنى الأساسي المراد، ويحقق الفائدة الأصلية للجملة وهذا يخالف الأفعال التامة فإن المعنى الأساسي يتم بمرفوعها الفاعل أو نائب الفاعل فالفعل (أصبح) مع اسمه يدل على مجرد دخوله في وقت الصباح وليس هذا هو المقصود من الناقصة فإذا جاء الخبر كان كفيلا بتحقيق المراد ...(24/429)
وليس السبب في تسميتها ناقصة أنها تتجرد للزمان وحده ولا تدل معه على حدث (معنى) كما يقول بعض النحاة وقد أشار إلى ذلك بإيجاز طيب ومنطق مقبول سليم الأمير على المغني في الباب الثالث [30] ...
فإذا استعملنا الأفعال الأخيرة بمعنى النقصان فلها أحكام تخصها في باب كان وأخواتها فهي تفيد مع معمولها اتصاف اسمها بمعنى خبرها اتصافا يتحقق مساء في أمسى ويتحقق صباحا في أصبح ويتحقق وفي وقت الضحى من أضحى.
هذا وقد وردت أصبح وأمسى زائدتين في كلام عربي قديم نصه:
(الدنيا ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها) وهذا لا يقاس عليه.
وقد جاء أفعل بمعنى الدخول في القرآن الكريم ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي داخلين في وقت الشروق فهي كأصبح إذا دخل في وقت الصباح، وقال أبو عبيدة المتوفى سنة 211 هجري فأتبعوهم نحو الشرق فهو كأنجد إذا قصد نجدا [31] .
ومن قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ} الهمزة في أصعد للدخول أي دخلتم في الصعيد وذهبتم فيه كما تقول أصبح زيد إذا دخل في الصباح فالمعنى إذ تذهبون في الأرض [32] .
ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي داخلون في الظلام كما تقول أعتمنا وأسحرنا أي دخلنا في العتمة والسحر [33] .
ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي آت بما يلام عليه يقال ألام فلان إذا فعل ما يلام عليه وفي البيضاوي وهو مليم أي داخل في الملامة يعني بناء أفعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل في الحرم [34] .
ومنه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} من أعصرت أي دخلت في حين العصر فحان لها أن تعصر [35] .
المعنى الثالث (لأفعل) التعريض فتفيد الهمزة أنك جعلت ما كان مفعولا معرضا لأن يقع عليه الحدث سواء صار مفعولا له أم لا.(24/430)
تقول: أقتلته أي عرضته لأن يكون مقتولا ... قتل أو لا، وأبعت الفرس أي عرضته للبيع وأسقيته أي جعلت له ماء وسقيا شرب أم لم يشرب وأقبرته أي جعلت له قبرا، قبر أو لا وقبرته ودفنته، وأشفيته عرضته للشفاء [36] وفي كتاب فعلت وأفعلت للزجاج وقال النحويون أبعته عرضته للبيع وأنشدوا.
فرسا فليس جوادنا بُمباع
ورضيت ألاء الكميت فمن يُبِع
قالوا معناه يعرض للبيع ومعنى ألاء الكميت نعم الكميت جعل نجاءه به من المهالك نعما [37] .
المعنى الرابع (لأفعل) السلب أي أنك تسلب عن مفعوله ما اشتق منه نحو أشكيته أي أزلت شكواه وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمه وقد يكون لسلب الفعل عن الفاعل إذا كان لازما كقولهم: أقسط أي أزال عنه القسط وهو الجور ويحتمل هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} مضارع أخفى بمعنى ستر والهمزة للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور [38] وإذا أزلت الظهور صار للستر كقوله أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة بوضع النقط والحركات وقال أبو علي هذا باب السلب ومعناه أزيل عنها خفاءها وهو سترها [39] قال أحمد تيمور في رسالة السماع والقياس أفعل الذي همزته للسلب مثل شكى فأشكيته أي أزلت شكواه وجاء بعكسه، أحمأت البئر. في القاموس أحمأت البئر ألقيت فيها الحماة (الطين الأسود) وحمأتها كمنعتها نزعت حمأتها [40] .
المعنى الخامس (لأفعل) أنه يأتي لوجود مفعوله على صفة وهي كونه فاعلا لأصل الفعل نحو أكرمت فاربط أي وجدت فرسا كريما وأسمنت أي وجدت سمينا وأبخلته أي وجدته بخيلا، أو كونه مفعولا لأصل الفعل نحو أحمدته أي وجدته محمودا [41] .
وجاء هذا المعنى في القرآن الكريم قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} معنى أغفلنا قلبه وجدناه غافلا [42] .(24/431)
وقال عمرو بن معديكرب لمشاجع السلمي [43] : "لله دركم يابني سليم قاتلناكم فما أجبلناكم (أي فما وجدناكم جبناء) ، وسألناكم فما أبخلناكم (أي ما وجدناكم بخلاء) ، وهاجيناكم فما أفحمناكم (أي فما أسكتناكم) "
وجاء في الشعر قوله [44] :
وكل شيء سوى الفحشاء يأتمر
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه
ومعناه لا يصعب الأمر لآ يجده صعبا كقولهم أبخلته وجدته بخيلا فهو لا يجد الأمر صعبا إلا وقت ركوبه.
وقد عقد الجواليقي بابا خاصا بأفعلت الشيء أي وجدته على صفته وقال ابن جني في الخصائص ج3 ص253: واذكر يوما وقد خطر لي خاطر مما نحن بسبيله فقلت: لم أقام إنسان على خدمة هذا العلم ستين سنة حتى لا يحظى منه إلا بهذا الموضع لما كان مغبونا فيه ولا منتقص الحظ ولا السعادة به وذلك قول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ولن يخلو {أَغْفَلْنَا} هنا من أن يكون من باب أفعلت الشيء أي صادفته ووفقته كذلك كقوله: (وأهيج الخلصاء من ذات البرق) [45] أي صادفها هائجة النبات وقوله: (فمضى وأخلف من قتيلة موعدا [46] ) أي صادفه مخلفا.
وقوله: [47]
بآخرنا وتنسى أولينا
أصم دعاء عازلتي تحجّي
وقوله: [48]
عن الجود والمجد يوم الفخار
فأصممت عمرا وأعميته
أي صادفته أعمى: وحكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها أي وجدتها عامرة ودخلت بلدة فأخربتها أي وجدتها خرابا ونحو ذلك.
ثم يعقب ابن جني بعد هذا بقليل بقوله: وإذا صح هذا الموضع ثبت به لنا أصل شريف يعرفه من يعرفه ولولا ما تعطيه العربية صاحبها من قوة النفس ودربة الفكر لكان هذا الموضع ونحوه مجوزا عليه غير مأبوه له.(24/432)
وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب [49] : باب أفعلت الشيء وجدته كذلك أتيت فلانا فأحمدته وأذممته وأخلفته أي وجدته محمودا مذموما ومخلافا للوعد، وأتيت فلانا فأبخلته وأجبنته وأحمقته وأنوكته وأوهجته إذا وجدته كذلك وأقهرته إذا وجدته مقهورا.
وأنشد:
فأمسى حصين قد أندَّ وأقهر الخ
تمنى حصين أن يسود جذاعه
المعنى السادس المستفاد من صيغة (أفعل) الإعانة كأحلبت فلانا وأرعيته أي أعنته على الحلب والرعي [50] .
المعنى الثامن المستفاد من أفعل المطاوعة (لفعّل) كفطرته فأفطر وبشرته فأبشر [51] وقد يكون مطاوعا (لفعل) المتعدي بغير تشديد العين –فيكون أفعل لازما بالهمزة وبغير الهمزة يكون متعديا مثل عرضت الشيء أي أظهرته فأعرض أي ظهر، وكبه الله على وجهه فأكب، وقد ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر جملة منها [52] وكذلك الفيومي في خاتمة المصباح.
وجاء أيضا بعضها في المزهر [53] قال السيوطي: ليس في كلامهم (أفعل الشيء) وفعلته إلا أكب وكببته، وأقشعت الغيوم وقشعتها الريح، وأنسل الريش والوبر ونسلتها وأنزفت البئر ونزفتها، وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته بزمامه.(24/433)
ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} قال أبو حيان [54] : من أكب وهو لا يتعدى وكب متعد قال تعالى: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} والحديث "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" فقال يكب بالفتح، وقد عقد لها ابن جني بابا في الخصائص [55] قال هذا هو الحديث أن تنقل بالهمز فيحدث النقل تعديا لم يكن قبله، غير أن ضربا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة مخالفة فتجد (فعل) فيها متعديا و (أفعل) غير متعد وذلك قولهم: أجفل الظليم وجفلته الريح، وأشنق البعير إذا رفع رأسه وشنقته وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها، وأقشع الغيم وقشعته الريح، وانسل ريش الطائر ونسلته وأمرت الناقة إذا در لبنها ومريتها (أي مسحت ضرعها لتدر) ونحو من ذلك ألوت الناقة بذنبها، ولوت ذنبها، وصرّ الفرس أذنه، وأصر بأذنه [56] وكبه الله على وجهه وأكب هو. وعلوت الوسادة وأعليت عنها. فهذا نقض عادة الاستعمال لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد وعلة ذلك عندي أنه جعل تعدي (فعلت) وجمود (أفعلت) كالعوض (لفعلت) من غلبة (أفعلت) لها التعدي نحو جلس وأجلسته.(24/434)
وقال العلامة أحمد تيمور باشا في رسالة السماع والقياس ص 69 أفعل الذي همزته للتعدية دخول هذه الهمزة على بعض أفعال وجعلها لها لازمة انظر مادة (حجم) في اللسان، وانظر فائدة في ذلك في آخر نسخة السعد على التصريف العزى ص 127 -131، وانظر ضرّه وأضرّ به في القاموس، وانظر باب نقض العادة في الخصائص ج 2 ص 32 وانظر فقه اللغة للصاحبي ص 69، مادة جفل من المصباح (جفلته فأجفل على العكس من المشهور) وله نظائر تأتي في الخاتمة أي في الفصل الذي أورده في الثلاثي اللازم وتعديته وهو ثالث فصل في الخاتمة، وفي مادة (قشع) منه (قشعته فأقشع) من النوادر وفي كببته فأكب، وهمع الهوامع ج 2 ص 81 ذكر كببته فأكب وأقشع الغيم وانسل الطائر، وقد يكون عكس ذلك قال ابن قتيبة ص 483 باب أفعلته ففعل تقول أدخلته فدخل، وأخرجته فخرج، وأجلسته فجلس، وأفزعته ففزع، وأخفته فخاف، وأجلته فجال، وأمكثته فمكث هذا القياس وقد جاء في هذا انفعل وافتعل قال الكميت: ولا يدرى في حميت السكن تندخل.
وقال آخر:
بالخيل تحت عجاجها المنجال
وأبى الذي ورد الكلاب مسوما
والقياس تدخل والجائل.
أفعل بمعنى فعل عند أهل اللغة(24/435)
ويجيء أفعل بمعنى فعل كثيرا في اللغة والأصل اختلاف معنييهما وقد ألفت كتب كثيرة تحمل هذا الاسم فعلت وأفعلت، أو فعل وأفعل والكتب التي تناولت هاتين الصيغتين من الفعل الواحد حين تتفقان في المعنى أو تختلفان أو لا يرد للعرب إلا إحداهما وأول من ألف في هذه الصيغة الخاصة من الأفعال قطرب المتوفى سنة 206 هجري والفراء المتوفى سنة 207 هجري ثم أبو عبيدة ستة 210 هجري، والأصمعي سنة 213 هجري وأبو زيد الأنصاري سنة 215 هجري وأبو عبيدة القاسم بن سلام سنة 224 هجري وورد في أبواب من الغريب المصنف وقد خص أبو عبيدة هاتين الصيغتين بالأبواب الأولى مما خصصه الأفعال وعالجهما حين يتفق معناهما أو يختلف، أو يختلفان في التعدي واللزوم وقد تأثر به ابن قتيبة في ذلك إلا أنه أحسن تصنيفهما وتوسع ابن السكيت أيضا وعنى بموقف العامة.
ثم عالج أبو عبيدة صيغة (أفعل) وحدها وألف فيها أيضا أبو محمد عبد الله بن محمد التوزي سنة 233 هجري ويعقوب السكيت توفى سنة 246 هجري وقد أفرد بابين من إصلاح لمنطق لخلط العامة بين هاتين الصيغتين [57] ، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني توفى سنة 255 هجري تقريبا، وأبو العباس الأحول تلميذ ابن الأعرابي، وخصص له ابن قتيبة توفى سنة 276 هجري أبوابا من كتاب الأبنية في أدب الكاتب، وألف فيه من أهل القرن الرابع الزجاج سنة 311 هجري وابن دريد سنة 321 هجري وابن درستويه سنة 347 هجري وأبو علي القالي سنة 356 هجري وأبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية سنة 367 هجري ثم ألف فيه أبو البركات بن الأنباري سنة 577 هجري ثم القاسم بن القاسم الواسطي سنة 626 هجري كما ألف فيها أيضا ابن سيدة في كتابه المخصص فقد عقد أبوابا في السفر الخامس عشر وقد شغل 133 صفحة تقريبا وابن القطاع سنة 455 هجري في كتابه الأفعال الذي عنى بفعل وأفعل في أول كل باب.(24/436)
فمن ذلك ما رواه أبو زيد الأنصاري في النوادر قال: وأمهرت وأصدقت واحد قال أبو الحسن أخبرني أبو العباس محمد بن يزيد قال ومهرت المرأة هي المشهورة الفصيحة وأمهرت لغة وليست في جودة الأولى وأنشدنا المازني عن الرياحي لقحيف العقيلي.
وأمهرن أرماحا من الخط ذُبَّلا
أخِدْن اغتصابا خطبة عجرفية
قال وكذلك زففت المرأة هي اللغة الجيدة وأزففت لغة وقال في ص 212 –213:
وقالوا بقرة فارض من بقر فوارض وهي السمينة وبقرة عوان من بقر عون وهي التي نتجت بعد بطنها البكر ويقال أعوان بقرتكم أم لا؟ يقول أنتجتموها بعد البطن الأول شيئا قال أبو الحسن هكذا قال أنتجتموها وهو صواب صحيح والمحكي من غيره وهو الشائع نتجت الناقة فهي منتوجة قال الأصمعي ولا يخبر عنها بفعل البتة إلا أن تضع هي وحدها فتعاني ذلك من نفسها فيقال خلت فأنتجت قال وإلا فالمسموع نتجت الناقة ونتجها أهلها وقوله أنتجت يجوز أن يكون في معنى نتجت [58] ويجوز أن يكون جعلت لها نتاجا فقط قالوا في أسقاه الله أنه في مهنى سقاه الله وأنشدوا قول لبيد:
نميرا والقبائل من هلال
سقى قومي بني نجد وأسقى
وقال الأصمعي هما يفترقان وهذا الذي أذهب إليه قال معنى سقيته أعطيته ماء لشفته ومعنى أشقيته جعلت له ماء يشربه، أو عرضته لذلك، أو دعوت له كل هذا يحتمل هذا اللفظ وأنشد قول ذي الرمّة [59] :
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وقفت على ربع لمية ناقتي
تكلمني أحجاره وملاعبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
قال أسقيه أدعو له بالسقيا وهذا أشبه بكلام العرب وقال ابن الأعرابي أسقيه من دمعي وهذا غير بعيد من ذلك المعنى أي أجعله له سقيا من دمعي على سبيل الإغراق والإفراط.
وقال ابن القطاع [60] وسقيتك شرابا وأسقيتك والله تعالى عباده وأرضه كذلك ويقال سقاه لشفته وأسقاه لماشيته وأرضه، وسقاه جلدا أعطاه إياه يتخذه سقاء عن الأصمعي.(24/437)
وقد ذكر ابن القطاع [61] بابا لما جاء على أفعل وفعل والمعنى متفق قال في مادة (رمل) رملت الحصير رملا، وأرملت نسجته ورمل في السير رملا أسرع، وأرمل القوم فنى زادهم والمرأة صارت أرملة.
وفي مادة ركس: ركس الله العدو ركسا وأركسه رده وقلبه على رأسه وقرئ بهما.
وفي مادة رشق رشقت بالسهم رشقا وأرشقت به رميته ورغت إلى الشيء رغا وأرغت أصغيت.
وردحت الخباء وأردحته وسعته بردحة في آخره وهي الشقة، ورعدت السماء وأرعدت، ورفل في مشيته وأرفل تبختر ومشى مختالا.
وقال في الجزء الثالث مادة وحده وحدت الشيء وأوحدته، ووقف الشيء وقفا ووقوفا ثبت وأوقفت الدار والدابة لغة تميمية.
وبرقت السماء برقا وبروقا وأبرقت لمعت والرجل تهدد والثلاثي في السماء أفصح والثاني لغة.
فهذه جولة في كتاب الأفعال لابن القطاع المتوفى سنة 515 هجري تثبت مجيء فعل وأفعل بمعنى واحد.
وبالنظر في كتاب الأفعال لابن القطاع نجد ما لا حصر له من هذا المعنى المتفق لأفعل بمعنى فعل ومثله كتاب فعلت وأفعلت للزجاج قال في مقدمة كتابه هذا كتاب نذكر فيه ما تكلمت به العرب على لفظ فعلت وأفعلت والمعنى واحد وما تكلمت به العرب على لفظ فعلت وأفعلت والمعنى مختلف، وما ذكر فيه أفعلت وحده مما يجري في الكتب والمخاطبات وهو مصنف مبوب على حروف المعجم ثم قال باب الباء من فعلت وأفعلت والمعنى واحد تقول: بشرت الرجل بخير وأبشرته، أبشر وأبشره وبشرته مشددا وبشرته أيضا من البشارة، وإنما قيل البشارة لأن الرجل إذا سمع ما يحب حسنت بشرة وجهه.
ويقال بل من مرضه وأبل يبل، يبِّل، ويقال بدأ الله الخلق يبدأهم بدءا وأبدأهم إبداء قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} فهذا من أبدأ وقال جرير:
فلا بدئى حضرت ولا معادي
بدأنا بالزيارة ثم عدنا(24/438)
وقال أيضا:
بأهل الملك أبدأ ثم عادا
هنيئا للمدينة إذ أهلت
ويقال بكر الرجل في حاجته يبكر
قال زهير:
فهن لوادي الرّس كاليد للفم
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
وأبكر إبكارا، قال ابن أبي ربيعة:
غداة غد أم رائح فمهجر
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
ويقال تم الله عليه النعمة وأتم عليه إذا أسبغها، وتبع الرجل الشيء وأتبعه بمعنى واحد، قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} وقال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} وأتربت الكتاب وتربته جعلت عليه التراب.
قال أبو عبيدة وأبو الخطاب يقال ثوى بالمكان وأثوى إذا أقام به وأنشد بيت الأعشى:
فمضى وأخلف قيلة الموعودا
أثوى وقصّر ليله ليرودا
ويقال ثاب إلى الرجل جسمه وأثاب إليه جسمه إثابة إذا رجع، وثرى المكان وأثرى إذا ندي بعد يبس وكثر فيه الندى، وكذلك ثرى القوم وأثروا إذا كثرت أموالهم، وثلجت السماء وأثلجت من الثلج.
يقال جدي الرجل واجدي إذا انتصب ... ويقال جنة الليل وأجنة وجن عليه الليل إذا أظلم عليه وستره جنونا وجنانا وإجنانا، وجننت الرجل وأجننته إذا دفنته، ويقال جلى الرجل بثوبه وأجلى إذا رمى به، وجلى القوم عن ديارهم وأجلوا إذا تركوها وخرجوا عنها، وجنب الرجل من الجنابة وأجنب، وحفل القوم وأحفلوا إذا انهزموا بجماعتهم، وكذلك جفل النعام يجفل جفلا وأجفل إجفالا، ويقال جفأت الباب أجفؤه جفا، وأجفأته إذا أغلقته، ويقال جد في الأمر وأجد فيه إذا ترك الهوينات ولزم فيه القصد والاستواء ومن هذا قيل جاد يجيد، وجاح الله مال العدو وأجاحه إجاحة وجرم الرجل وأجرم إذا كسب جرما فهو جارم ومجرم.
وجرى الرجل إلى الشيء وأجرى إليه إذا قصد إليه وجاز الرجل الوادي وأجازه إذا قطعه ونفذه –وقال الأصمعي جزته نفذته وأجزته قطعته.(24/439)
وجفا الوادي وأجفأ إذا رمى بغثائه، وجبرت الرجل على الأمر وأجبرته أكرهته عليه، وجهدت الفرس وأجهدته إذا استخرجت جهده، وكذلك جهدت في الأمر وأجهدته إذا بلغت جهدي فيه، وجدعت غذاء الصبي وأجدعته إذا أسأت غذاءه، وجدعت أنفه وأجدعته إذا قطعته وجدب البلد وأجدب إذا لم ينبت شيئا، وجحد الرجل وأجحد إذا أقل خيره، وجمت الحاجة إذا حضرت. وجم الفرس وأجمّ، وجهشت نفسه وأجهشت، وجال الرجل بالشيء وأجال به إذا طاف به، وجلب الجرح وأجلب إذا أخذ في البرء وصارت فيه جلدة رفيعة، وجنح الليل وأجنح إذا مال، وجلد الموضع وأجلد من الجليد وجمر الفرس وأجمر إذا وثب في القيد.
يقال حسنه وأحسنه إذا أغضبه ومثله في معناه حمسه وأحمسه بالسين، وحببت الشيء وأحببته في معنى واحد وهو محبوب ومحب، وحققت الحديث وأحققته إذا تبينته وحال الرجل في ظهر دابته وأحال إذا وثب واستوى على ظهرها، وحل الرجل من الإحرام وأحل إذا خرج منه قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقال زهير:
ومن بالقنان من محل ومحرم
جعلن القنان عن يمين وحزنه(24/440)
فهذا من أحل، وحصب القوم يحصبون إذا ولوا عنه وأحصبوا عنه إحصابا، وحدق القوم بالشيء وأحدقوا به إذا صاروا حوله، وحزنني الأمر وأحزنني وأمر محزن وحازن، وحمت الحاجة وأحمت إذا دنت، وحدت المرأة على زوجها وأحدت إذا تركت الزينة، وحشمت الرجل، أحشم وأحشمته احتشاما إذا جلس إليك فأذنته وأسمعته مكروها وحشت يده وأحشت إذا يبست، وحمى الرجل المكان وأحماه إذا منعه، وحفت الماشية من الربيع إذا سمنت وأحفت مثله، وضربه فما حاك فيه السيف وما أحاك، وحنكت السر وأحنكته، وحنكه أيضا التشديد وحكم الرجل الدابة وأحكمها إذا جعل لها حكمة وحصر غائطه إذا احتبس، ويقال للرجل من حصرك هاهنا ومن أحصرك، وحر النهار يحرّ حرا وأحر إحرارا مثله، وحاط الرجل بالشيء وأحاط به وحدثت الدابة في السفر وأحدثتها إذا أهزاتها وكذلك حدث الرجل نفسه وأحدثها إذا أتعبها وأذابها ورى في الحديث "فما فعلت نواضحكم قالوا حدثناها يوم بدر" (أي أهزلناها) ، وحتر الرجل الحبل وأحتره إذا شد فتله وأحكم عقده.
وحال الرجل وأحال إذا أتى عليه الحول، وحالت الناقة والنخلة إذا لم تحمل حملا، وحكك الأمر على الرجل وأحكك إذا أشكل، وحسى الولد في بطن أمه وأحسى إذا يبس وحبس الرجل دابته في سبيل وأحبسها وحقن الرجل بوله وأحقنه، وحرمت الرجل عطاءه وأحرمته ألغيتها، وحسرت الناقة وأحسرتها.(24/441)
ويقال خلس الرجل وهو خليس وأخلس فهو مخلس إذا اختلط البياض بالسواد، وخطئت الشيء أخطؤه خطا وخطاء وأخطأت أخطئ في معنى واحد، وخضعه الكبر وأخضعه خضعا وإخضاعا، وخفق الطائر بجناحه وأخفق أي صفق بهما، وخنب الرجل وأخنب إذا هلك، وخم اللحم وأخم إخماما أي تغيرت رائحته وخلق الثوب وأخلق صار خلقا، وخلف فم الصائم وأخلف فم الصائم وأخلف وعده فهو خالف والنبيذ مثله إذا خالف تقديرك فيه، وخرطت الشاة وأخرطت إذا انحدر لبنها في ضرعها، وخدجت الناقة وأخدجت إذا ألقت ولدها غير تام، وخدر الأسد وأخدر فهو خادر ومخدر إذا استتر في حبسه، وخلى الرجل على الشيء وأخلى عليه إذا لم يخالط به غيره، وخلد الرجل إلى الأرض وأخلد أي مال إليها ولزمها ورجل مخلد إذا أبطأ عنه الشيب والفعل منه أخلد لا غير، وخصب المكان وأخصب إذا كثر الخصب فيه، وخمس الرجل القوم وأخمسهم أي صاروا خمسة وخبيت الخباء وأخببته إذا عملته، وخسرت الميزان وأخسرته ويقال خنست وأخنست أي أسأت في القول.
يقال دجى الليل وأدجى أي أظلم، ودجن الغيم وأدجن إذا لبس الأرض ودام مطره فهو يدجن وداجن، ودير بالرجل وأدير به فهو مدور به ومدار به، وديم به، وأديم به مثله ودبر الليل وأدبره أي ولى وداد الطعام وأداد إذا وقع فيه الدود، ودسمت القارورة وأدسمتها أي شددت رأسها، واسم ما يشد به الدسامة مثل الصمانة، ودخنت النار وأدخنت.
تقول ذرا ناب الفحل يذر ذروّا، وأذرى يذري إذراء إذا كل ورق قال أوس بن حجر:
تخمط فينا ناب آخر مقرم
إذا مقرم منا ذرا حدّنا به
وقال آخر:
على النأي عني اليوم عمر بن أخرقا
فيا راكب إما عرضت فبلغن
إذا الحرب أذرى نابها ثم حرقا
رسالة من لا يرتجي العطف منكم
وذرت الريح التراب تذروه ذروا وأذرته إذراء إذا رمته.(24/442)