فمن المفسرين من آمن بظاهر ما دلت عليه الآية، ووكل ما وراء ذلك إلى علام الغيوب، ومنهم من طوحت به طوائح التأويلات فهام معها..
فأما أهل الإثبات فهذه آراؤهم:
1- رأي ابن كثير:
قال عند تفسيره لهذه الآية الكريمة [136] : "يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة هل امتلأت؟ وذلك لأنه تبارك وتعالى وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى [137] وهي تقول هل من مزيد: أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث".
ثم ذكر ابن كثير من صحاح الأحاديث ما يؤيد رأيه، ومنها: ما رواه البخاري [138] عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها فتقول قط قط"، وما رواه الإمام أحمد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها؛ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول قط قط، وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة"، ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه، وروى ابن كثير عن مجاهد أنه قال: "لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلأت، وتقول هل من مزيد"، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا.
فعند هؤلاء أن قوله تعالى: {هَلِ امْتَلأْتِ} ؟ إنما هو بعد ما يضع فيها قدمه فتنزوي، وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئا؟؛ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وذلك حين لا يبقى موضع يسع إبرة والله أعلم" اه.
2- رأي القرطبي:
وأما القرطبي فقد عرض لرأي المثبتين ولمقالة المؤولين، ثم كان للمثبتين ظهيرا.(21/463)
بيان ذلك أنه قال [139] : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها، وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده، وتقول جهنم {هَل مِنْ مَزِيدٍ} ، أي ما بقي فيَّ موضع للزيادة، كقوله عليه السلام: "هل ترك لنا عقيل من ربع أو منزل" أي ما ترك، فمعنى الكلام الجحد، ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة، أي هل من مزيد فأزداد؟ وإنما صلح للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد، وقيل: ليس ثمَّ قول وإنما هو على طريق المثل، أي أنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا تفسير مجاهد [140] وغيره، أي هل فيّ من مسلك، قد امتلأت، وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح، وهذا أصح على ما بيناه في سورة الفرقان.
ثم صنع القرطبي صنيع ابن كثير في الاستظهار لرأي المثبتين بالصحاح من الأحاديث التي ذكرنا بعضها من قبل، ومنها حديث وضع القدم، وإن كان له من المتأولين.. [141] .
3- رأي الشوكاني:
وأما موقف الشوكاني فكان كما قال [142] : "..والأولى أنه على طريقة التحقيق ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع، قال الواحدي: قال المفسرون أراها الله تصديق قوله: (لأملأن جهنم) فلما امتلأت قال لها: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَل مِنْ مَزِيدٍ} [143] أي قد امتلأت ولم يبق فيَّ موضع لم يمتلئ، وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان، وقيل إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة، أي أنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها، وقيل المعنى: أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها بأهلها، والمزيد: إما مصدر كالمحيد، أو اسم مفعول كالمنيع، فالأول بمعنى هل من زيادة، والثاني بمعنى هل من شيء تزيدونيه.."اه.
ونختار من المؤلين:
4- الزمخشري:(21/464)
قال الزمخشري [144] : "..وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته، وفيه معنيان: أحدهما: أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد أطرافها، حتى لا يسعها شيء [145] ولا يزداد على امتلائها لقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} ، والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلهامن يدخلها وفيها موضع للمزيد..".
5- رد ابن المنير [146] على الزمخشري:
قال ابن المنير [147] : "قد تقدم إنكاري عليه إطلاق (التخييل) في غير موضع، والنكير ههنا أشد عليه، فإن إطلاق (التخييل) قد مضى له في قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (67: الزمر) ، وفي مثل قوله: {بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (64: المائدة) ، وإنما أراد به حمل الأيدي على نوع من المجاز، فمعنى كلامه صحيح، لأنا نعتقد فيهما المجاز، وندين الله بتقديمه عن المفهوم الحقيقي [148] ، فلا بأس عليه في معنى إطلاقه، غير أنا مخاطبون باجتناب الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى، وإن كانت معانيها صحيحة، وأيُّ إيهام أشد من إيهام لفظ التخييل؟ ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر وباطل في قوله: {يُخَيَّلُ إِليْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (66: طه) ، فلا يشك في وجوب اجتنابه، ثم يعود بنا الكلام إلى إطلاقه هنا فنقول: هو منكر لفظا ومعنى، أما اللفظ فقد تقدم، وأما المعنى فلأنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه، وكيف نفرض (التخييل) وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك، منها هذا، ومنها لجاج الجنة والنار، ومنها اشتكاءها إلى ربها فأذن لها في نفَسين، وهذه وإن لم تكن نصوصا فظواهر يجب حملها على حقائقها؛ لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر، ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة، والعقل يجوز، والظواهر قاضية بوقوع ما صوره العقل، وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا كتسليم الشجر وتسبيح الحصى(21/465)
في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة [149] لاتسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق، وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها [150] ، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى الحق!! فاشدد يدك بما فصل في هذا الفصل مما أرشدتك به إلى منهج القرب والوصل، والله الموفق"اه.
تعليق وجيز:
هذه العبارات الأخيرة تمثل ما تركه المعتزلة من قواعد في تفكير الأشاعرة.
كيفية دعاء النار للكافرين:
ومما له عُلقة بما سبق من سؤال النار وجوابها، ما ورد في وصفها من قول الحق جل ذكره: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (17، 18: المعارج) .
وفي معنى (تدعو) كانت للمفسرين هذه التأويلات:
1- الدعاء على ظاهره، بمعنى القول والنداء، فتقول: إليَّ يا مشرك، إليَّ يا منافق، أو بتعبير ابن كثير [151] : "تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها وكانوا في الدار الدنيا يعملون عملها؛ فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق ... ".
وهذا الرأي في تفسير الدعاء ذكره أكثر المفسرين حتى أولئك الذين ينهجون منهج القول بالتمثيل والتخييل، كالزمخشري [152] مثلا؛ فقد كان هذا الرأي من بين الآراء التي ذكرها، أما القرطبي [153] فقد قال عنه: "إنه هو الحقيقة التي تدعمها آي القرآن وصحيح الأخبار، ودعاء (لظى) يكون بخلق الحياة فيها حين تدعو وخوارق العادة كثيرة".
2- الدعاء بمعنى الإهلاك، تقول العرب: دعاك الله، أي أهلكك الله [154] .
3- الدعاء ليس من جهنم وإنما هو من خزنتها، وأسند إليها من قبيل الإسناد المجازي.
4- الدعاء: هو تمكنها من عذابهم، وقد نقل القرطبي [155] في هذا المعنى عن الخليل قوله: "إنه ليس كالدعاء (تعالوا) ، ولكن دعوتها إياهم تمكنها من عذابهم".(21/466)
5- إن الدعاء هو من قبيل التمثيل قال الزمخشري [156] : {تَدْعُو} مجاز عن إحضارهم، كأنها تدعوهم فتحضرهم كقول ذي الرمة: "تدعو أنفه الريب..".
وكان هذا الرأي من بين الآراء التي ذكرها القرطبي [157] أيضا؛ فقال: "وقيل: هو ضرب مثل، أي أن مصير من أدبر وتولى إليها، فإنها الداعية لهم، ومثله قول الشاعر:
ولقد هبطنا الواديين فواديا
يدعو الأنيس به العضيض الأبكم
العضيض الأبكم: الذباب، وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه، فدعا إليه".
دفاع الشيخ المغربي عن المجاز في تفسير الآية:
انتهج الشيخ المغربي [158] في تفسير الآية نهج القائلين بالمجاز، وأسرف على نفسه حين أخذ في الرد على القائلين بالحقيقة، وهاك نص رأيه: "..وقوله {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلى} أي تنادي وتهتف بالذي أدبر وأعرض عن الإيمان، وقال (تدعو) لأن تهيؤ جهنم، وتبرجها للمعرضين عن الإيمان، وتفتح أبوابها لدخولهم كأنه في المعنى هتاف بهم، ودعاء لهم، وهو ما يسمونه (لسان الحال) كما أن الدعاء بالقول (لسان المقال) ، وهذا الضرب من التعبير كثير الشيوع في كلام العرب وأشعارهم، لا سيما إذا أرادوا الحكاية عن شيء لا يعقل، ووصف أحواله ومنه قوله:
شكا إلي جملي السري
يا جملي ليس إلي المشتكى
صبرا جميلا فكلانا مبتلى
والجمل لا يمكن أن يشكو بلسان مقاله، وإنما يشكو بلسان حاله، فإن آثار الأين [159] والكلال والحفاء البادية عليه، كأنها ألسنة تنطق بالشكوى إلى صاحبه.
وقال أبو النجم - الرجاز المشهور - يصف روضته: "نقول للرائد أَعْشَبت فانزل"أي: أنها لاستجماعها ما يلزم للقوم المسافرين: من مرعى وماء وظل، إذا وصل إليها رائدهم يبتغي لهم مكانا للنزول، استوقفته تلك الروضة، بحيث لا يمكن تجاوزها دون النزول فيها بقومه، فهي كأنها تقول له: (أعشبت) أي أصبت عشبا (فانزل) على الرحب والسعة) ومثله قول الراجز الآخر:(21/467)
مهلا رويدا قد ملأت بطني
امتلأ الحوض وقال قطني
فهذا ما يسمونه (لسان الحال) ، وله شواهد كثيرة جدا في القرآن والحديث، وقد غفل عنه الكثيرون فحملوه على الحقيقة، وجعلوه من الخطاب بلسان المقال، ولا حجة لهم، إلا أن الله تعالى قادر على كل شيء، ومن ذا الذي ينكر قدرته، ولكننا نرى أن حمل هذه الآية ونظائرها على التمثيل كما ذكرنا عن أهل السان في الحكاية عن ما لا يعقل أمثل وأبلغ من حملها على الحقيقة، ولا داعي عقلا أو شرعا للحمل عليها.."اه.
تعقيب على دعاوى الشيخ المغربي:
قال الشيخ: "إنه لا يرى داعية من العقل أو الشرع تدعوه إلى فهم (دعاء النار) على حقيقته".
ولست أرى أي قرينة استظهر بها الشيخ ليصرف بها دلالة الدعاء من الحقيقة إلى المجاز، إلا قرينة استبعاد الوقوع، وما نشأ هذا الاستبعاد إلا من تحكيم العقل المتقوقع في آفاقه الضيقة، وجعل قوانين العالم المحسوس المشهود، حكما على أخبار مستكنة في أرحام الغيوب، ولو استشرفنا إلى آفاق أرحب لقلنا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (من 7: آل عمران) .
هل ترى النار أصحابها حقيقة؟
قال الحق جل ذكره في وصف جهنم: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (12: الفرقان) .
وكانت اتجاهات المفسرين في فهم الآية كما يلي:(21/468)
1- حمل الرؤية على حقيقتها، وكذلك التغيّظ والزفير، وليس هناك ما يمنع من أن يجعل الله لها حسا وإدراكا، وقد وصف القرطبي [160] الحمل على الظاهر بأنه هو الأصح، مستدلا بما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا"، قيل يا رسول الله وهل لها عينان؟ قال: "أما سمعتم الله عز وجل يقول": {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (12: الفرقان) ، "يخرج عنق من النار له عينان تبصران، ولسان ناطق، فيقال وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر، فلهو - أي العنق - أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه" [161] .
وقيل: ترى النار أصحابها من مسيرة مئة عام [162] ، وقيل: خمسمئة عام [163] ، وهذا هو معنى {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} عند بعض المفسرين، وهذه الروايات غير مرفوعة إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهي ليست إلا من باب الحشو والتزيد.
2- فسرت الرؤية بمعنى: إذا رآهم خزنتها، سمع المعذبون تغيظا وزفيرا، وهذا من الآراء المذكورة في تفسير الآية [164] ، وجوزه الزمخشري بقوله [165] : "ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها نغيظوا وزفروا غضبا على الكفار، وشهوة للانتقام منهم"اه.
3-حمل الرؤية على المجاز بمعنى: إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر [166] أو بعبارة الزمخشري [167] : "..رأتهم.. من قولهم: "دورهم تتراءى وتتناظر، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتراءى نارهما" [168] ، كأن بعضها يرى بعضا على سبيل المجاز، والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر"اه.
رد ابن المنير على الزمخشري:(21/469)
وجرى ابن المنير على محمود عادته في الرد على الزمخشري فقال [169] : "لا حاجة إلى حمله على المجاز، فإن رؤية جهنم جائزة، وقدرة الله تعالى صالحة [170] ، وقد تظافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا، ألا ترى إلى قوله: {سَمِعُوا لهَا تَغَيُّظاً} ؟ وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها: {هَل مِنْ مَزِيدٍ} ، وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسي؟ ، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها؛ إذ لا محوج إليه، ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد، لتطوَّح الذي يسلك ذلك إلى وادي الضلالة والتحيز إلى فرق الفلاسفة [171] ، فالحق أنا متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع، والله أعلم".
كيفية اطلاع النار على الأفئدة:
ومما هو متعلق بما سبق وموصول به قول الله جل ذكره: {نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ التِي تَطَّلِعُ عَلى الأَفْئِدَةِ} (6، 7: الهمزة) .
وحول (اطلاع النار على الأفئدة) كانت تأويلات المفسرين كما يلي:
1- الاطلاع بمعنى البلوغ، قال الطبري [172] : "أي التي يطلع ألمها ووهجها القلوب، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، حكى عن العرب سماعا: (متى طلعت أرضنا) و (طلعت أرضي) أي بلغتها"اه. ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي [173] : "عن خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن النار تأكل أهلها، حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى": {نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ التِي تَطَّلِعُ عَلى الأَفْئِدَةِ} . وخص الأفئدة لأن الألم إذا صدر إلى الفؤاد مات صاحبه، أي أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون، كما قال تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} (13: الأعلى) فهم إذا أحياء في معنى الأموات"اه.(21/470)
2- ومما يقرب من سابقه تفسير الاطلاع بما قاله الألوسي [174] : "أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها، وتخصيصها بالذكر، لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشده تألما بأدنى أذى يمسه، فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد".
3- أن المقصود بالاطلاع: العلم، قال الزمخشري [175] : "ومعنى اطلاع النار عليها أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها"اه.
وقد بسط هذا الرأي الأخير للزمخشري الألوسي [176] حين قال: "..أو أن يراد الاطلاع العلمي - والكلام على سبيل المجاز - وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين، عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه، قيل إنها تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب، فتعلم ما فيها فتجازى كلا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب".
4- وجمع الشيخ محمد عبده [177] بين قولي الزمخشري آنفي الذكر فقال: "ولا يخفى عليك أن الفؤاد إنما يطلق على القلب، إذا لوحظ أنه بمعنى موضع الوجدان والشعور، فكأنه قال: التي تعلو مشاعرهم، ومداركهم، ومواطن الوجدان من نفوسهم، أي أن سلطان هذه النار على قوى الوجدان والشعور التي هي مواطن النيات والمقاصد، ومساكن الفضائل والرذائل، وقد قيل: إن معنى الاطلاع هنا المعرفة والعلم، أي أن هذه النار تعرف ما في الأفئدة؛ فتأخذ من تعرفهم أهلا لها، من أهل الوجدان الخبيث.
والنار التي تعرف [178] من يستحق العذاب بها لا تكون من النيران المعروفة لنا في الدنيا، بالضرورة، وعلى كل لا يخلو الكلام - على هذا التأويل الثاني - من التمثيل والتجوز".
5- وأما القائلون بالتفسير الإشاري [179] فكان رأيهم الذي ذكره عنهم الألوسي [180] هو "إن ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب".(21/471)
ولم يبين لنا أصحاب التفسير الإشاري الفرق بين العذاب الجسماني والعذاب الروحاني!! ولم يبينوا الصلة بين ألفاظ الآية الكريمة وبين هذا العذاب.. هذا مع إيماننا بأن الله سبحانه يجمع على المجرمين أنواعا من العذاب، كما هو مفصل في آي القرآن الكريم.
وفي نهاية المطاف: يتبين للقارئ المسلم أن كثيرا من التأويلات كانت ضدا عن الحق الواضح المشرق، وصرفا عن الصراط المستقيم إلى متاهات من الظن، وإلى أودية من الخيال والوهم.. ثم هي هجمات على الغيب المستور بشطحات العقول، وتقول على الله بغير العلم.
والطريقة المثلى هي أن ننقاد لنور القرآن، وأن نعرض عن شطحات الذين يتبعون أهواءهم، وأن نطلب الحق والميزان من سنة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه.
آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس ج 4 ص 403 ببعض تصرف.
[2] قارن وجوه الاشتباه والافتراق بين هذا التعريف وبين ما أورده علي بن محمد الجرجاني في التعريفات ص 195 ط: الحلبي القاهرة.
[3] انظر كتاب البدء والتاريخ ج 3 ص 110 يقع في ستة أجزاء، ويحوي الكثير من أخبار الفرق وتاريخ الحياة العقلية في الإسلام، وقد انتفع به الدكتور أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) / وكان عمدة المستشرق آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية) ، وينسب بعض الباحثين هذا الكتاب إلى أبي زيد البلخي، لكن المحققون ينسبونه إلى المطهر بن طاهر المقدسي.
[4] انظر البدء ج 3 ص 17.
[5] انظر البدء ج 3 ص 22.
[6] نفس المصدر والصفحة.
[7] انظر البدء والتاريخ ج 3 ص 42.
[8] الشرب بكسر الشين: النصيب من الشراب.(21/472)
[9] كانت الناقة آية من الله سبحانه، ومعجزة لصالح عليه السلام، والمعجزة أمر خارق للعادات لكن الفكر المتشيع للمادية لا يؤمن إلا بما عاينه ولامسه؛ لأن عيونهم كليلة، وفي القلوب أمراضها.
[10] انظر مفاتح الغيب للفخر الرازي ح 24 ص 190- 191 ط دار المصحف.
[11] صاحب هذا التأويل هو الأستاذ أحمد زكي صاحب الخزانة الزكية التي كانت تحوي الكثير من المخطوطات، وقد نشر هذا الرأي في جريدة الأهرام الصادرة في 16 أغسطس 1933م.
[12] انظر قصص الأنبياء للشيخ عبد الوهاب النجار ص 336 ط: 3.
[13] انظر (الحيوان) للجاحظ ج4 ص 5- 4 طبعة الكتاب العربي بيروت بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون.
[14] أثبتت عينه: أي عرفت ذاته.
[15] النقل عن كتاب (الحيوان) كما سبقت الإشارة بإيجاز وتصرف، وقد أجاد وأفاد.. وله في غير هذا كبوات.. والحق هو الميزان.
[16] خالف الجاحظ (النظام) في مسائل، وضلله فيها، وليس هنا مجال تفصيلها.
[17] نقلا عن كتاب (الله والعلم الحديث) ص 100 ط: 3 لعبد الرزاق نوفل.
[18] انظر تفسير الطبري: جامع البيان ج 2 ص 173ط: المعارف المحققة.
[19] انظر تفسير الطبري جامع البيان ج 2 ص 173 ط المعرف المحققة.
[20] انظر جامع البيان ج 2 ص 173.
[21] انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ج 1 ص 219 ط الحلبي.
[22] هذا الوجه في تفسير {لما بيد يديها} بعيد، ولا دليل عليه.
[23] وهذا وما بعده هو الأولى.
[24] انظر كتاب الحيوان لأبي عثمان بن بحر الجاحظ ج 4 ص 50، وكتاب الحيوان موسوعة كبرى نشرها الأستاذ عبد السلام محمد هارون محققة في سبعة أجزاء كبيرة ط الحلبي القاهرة.
[25] انظر الصفحات 51، 56، 60، 61، من الجزء الرابع من الحيوان، والنقل ببعض تصرف.
[26] انظر الحيوان ج 4 ص 70.(21/473)
[27] انظر التفسير الكبير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي ج 3 ص 110 وما بعدها ط دار الكتب العلمية طهران.
[28] هذا بالأصل ولو قال: (صارت قرودا) لكان هذا ما يدل عليه السياق، لكن لعله راعى المقابلة بين (إنسانا) و (قردا) .
[29] ذكرنا الرد عقب الإشكال مخالفين ترتيب الرازي لأن هذا - في نظرنا - هو الأولى.
[30] انظر المختار مادة مسخ ص 624.
[31] يشير الرازي إلى ما ورد في وصف جبريل عليه السلام في حديث بدء الوحي في الصحيحين بأنه (ساد عظم خلقه ما بين السماء والأرض..) ومع ذلك فقد يدخل حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حال الوحي.. لكن مع التبدل من حالة إلى حالة، والتشبيه مع الفارق. وانظر في تفصيل أحوال الوحي والملك بحثنا (القرآن الكريم من قضايا الوحي والتنزيل) ص 49.
[32] انظر تفسير ابن كثير ج 1 ص 105- 107.
[33] انظر محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي ج 2 ص 150- 151.
[34] انظر تفسير المنار ج 1 ص 344- 345.
[35] انظر تفسير المنار ج 9 ص 379- 380.
[36] انظر المصحف الميسر في تفسير آيات البقرة والأعراف حول المسخ.
[37] رجعنا في تفسير الآية إلى تفسير الطبري ج 8 ص 440- 448 ط المعارف المحققة، ابن كثير ج 1 ص 507، 508 ط الحلبي، والكشاف للزمخشري ج 1 ص 406 ط الحلبي، ومحاسن التأويل للقاسمي ج 5 ص 1282 – 1286، وتفسير المنار ج 5 ص 117- 118، وإلى معاجم ألفاظ القرآن الكريم وبعض المعاجم اللغوية.
[38] انظر الطبري ج 8 ص 443.
[39] والمقصود بالوجوه على هذا التأويل أماكن الإقامة.
[40] انظر تفسير الطبري ج 8 ص 444.
[41] هذه العبارة قاعدة جليلة لو اتبعها كثير ممن يصرفون النصوص عن حقائقها، لوفروا على هذه الأمة جهودا ضيعت وأوقاتا بددت، ولكفيت الأمة شر فتن كثيرة.
[42] انظر الكشاف ج 1 ص 401.
[43] الطبري ج 8 ص 443.(21/474)
[44] منصوبة بحذرهم في جملة (ثم حذرهم جل ثناؤه) .
[45] انظر محاسن التأويل ج 5 ص 1284- 1286 بإيجاز.
[46] انظر تفسير الطبري ج 11 ص 230- 231.
[47] انظر تفسير ابن كثير ج 2 ص 119 ط الحلبي.
[48] ليس للنصارى الآن كتاب واحد بل هي أسفار شتى، كتبها آحاد بأيديهم ورواها عنهم آحاد، وصلتها بالوحي منقطعة.
[49] انظر تفسير ابن جرير الطبري ج 11 ص 231- 232.
[50] انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 6 من ص 364- 374.
[51] انظر تفسير الطبري ج 11 ص 232.
[52] ينقسم العهد الجديد وهو الكتاب المقدس عند المسيحيين إلى سبعة وعشرين سفرا منها الأناجيل الأربعة وهي: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ومن اليقين أنها جميعا ليست هي الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح عيسى عليه السلام، بل هي أشبه بالتاريخ لحياة المسيح عليه السلام مع ذكر بعض الوصايا التي تنسب إليه.
[53] انظر كتاب (قصص الأنبياء) للشيخ عبد الوهاب النجار ص 412 ط الثالثة.
[54] انظر الإنجيل من العهد الجديد وهو إنجيل متى الإصحاح الرابع عشر الفقرات من 15: 21.
[55] انظر قصص الأنبياء ص 415.
[56] هذه العبارات منقولة من قصص الأنبياء كما سبقت الإشارة، ورأينا تجنبا للتكرار إيراد مآخذنا مع عبارته المنتقدة.
[57] هذه العبارات منقولة من قصص الأنبياء كما سبقت الإشارة، ورأينا تجنبا للتكرار إيراد مآخذنا مع عبارته المنتقدة.
[58] انظر تفسير الكشاف للزمخشري ج 1 ص 491، وعنه نقل البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ص 137 ط المطبعة المصرية.
[59] انظر تفسير البيضاوي ص 137.
[60] تعبر هذه العبارات عن الفكر الباطني عند الصوفية.(21/475)
[61] انظر لطائف الإشارات ج 2 ص 150- 151 بتحقيق الدكتور إبراهيم بسيوني ط دار الكتاب العربي بالقاهرة واللطائف تفسير صوفي كامل للقرآن الكريم.
[62] الفناء: مصطلح صوفي، ولعله يعني أن العزيز من فني في الله فكان فناؤه مغنيا له عن طلب الدليل والبرهان، وتعالى الله علوا كبيرا عن هذه الشطحات، وقد يتوهم قارئ أن الكلمة هي (الغناء) بالغين، وليس كذلك وربما قصد بقوله: (وعزيز منهم) أي قليل منهم..
[63] أي أجاب الله سبحانه المسيح إلى طلبه المائدة للحواريين.
[64] يعني إذا نزلت بهم المحنة أظهرت حقيقة معدنهم.
[65] انظر الكشاف للزمخشري ج 1 ص 490- 491.
[66] انظر تفسير الطبري ج 11 ص 221 ط المعارف.
[67] لولا خشية الإطالة لنقلنا رأي الطبري كاملا فانظره إن شئت ج 11 ص 220 إلى 222.
[68] انظر كتاب (محاسن التأويل) ج 6 ص 2112، 2213.
[69] قوله: (أكثر المفسرين) لا يخلو من مجانبة للدقة.
[70] في الاستنهاض والمطالبة.
[71] تتضمن استجاب معنى أجاب، وفي زيادة المبنى زيادة معنى، تأمل {فاستجاب لهم ربهم} (195ك آل عمران) {ادعوني استجب لكم} (60: غافر) تجد فيها الإجابة والعطاء، وبالنسبة للبشر وما فيهم من قصور جاء على لسانهم قوله تعالى: {نجب دعوتك ونتبع الرسل..} (44: إبراهيم) .
[72] تلخيص لما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير ج 20 ص 148.
[73] في باب (كيف كان بدء الوحي) من صحيح البخاري ج 1 ص 7 بحاشية السندي ط الحلبي، ورد قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض"، وفي تفسير سورة النجم في البخاري ج 3 ص 138 وردت رواية ابن مسعود أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – (رأى جبريل له ستمائة جناح) .(21/476)
[74] في باب (كيف كان بدء الوحي) من صحيح البخاري ج 1 ص 7 بحاشية السندي ط الحلبي، ورد قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض"، وفي تفسير سورة النجم في البخاري ج 3 ص 138 وردت رواية ابن مسعود أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – (رأى جبريل له ستمائة جناح) .
[75] لم نجد في عدد من المعاجم ما يسد النهمة في معنى هذه الكلمة، حتى انتهينا إلى الزمخشري في كتابه الفائق في غريب الحديث والأثر ج 2 ص 207 ط الحلبي فوجدناه يقول: الغت، والغط، والغطس، واحد هو المقل (أي الغمس) في الماء، ولما كان من شأن من يغط صاحبه في الماء أن يدارك (يتابع) ذلك، وأن يضغط صاحبه، ويبلغ منه الجهد..جاء في الحديث (..فغتني..) والمعنى: فغتني: ضغطني) اهبتصرف.
[76] انظر صحيح البخاري ج 1 ص 3 ط الشعب، ورواية البخاري: (غطني) بالطاء، وقال ابن فارس في المقاييس ج 4 ص 379: الغين والتاء ليس بشيء، إنما هو إبدال تاء من طاء تقول: غططته وغتته.
[77] فصلنا القول في كيفية الوحي في بحث عنوانه (القرآن الكريم من قضايا الوحي والتنزيل) .
[78] انظر تفسيره الكبير مفاتح الغيب سورة الفجر ج 8 المطبعة البولاقية أو ج 32 ط: عبد الرحمن محمد.
[79] انظر معجم المقاييس ج 4 ص 475، 476 بتصرف، وقريب منه ما ورد في معجم ألفاظ القرآن الكريم للأستاذ أمين الخولي ج 4 ص 319.
[80] انظر مادة فجر في مفردات الراغب الأصفهاني ص 373 ط الحلبي بإيجاز وتصرف.
[81] أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي ق 4 ص 1913. ويقصد بقسمي الزمان الليل والنهار.
[82] انظر القرطبي ج 20 ص 38، وانظر كذلك الفتوحات الإلهية في تفسير الجلالين للجمل ج 4 ص 528.(21/477)
[83] انظر محاسن التأويل ج 17 ص 6144، وتفسير الفجر بالصبح إذا تنفس قاله أبو السعود العمادي المتوفى سنة 951هفي تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ج 5 ص 260 طبعة صبيح.
[84] انظر تفسيره لسورة الفجر من جزء (عم يتساءلون) ط الشعب.
[85] انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم إعداد مجمع اللغة العربية ص 621.
[86] انظر معجم المقاييس ج 6 ص 83، والوتد: بفتح التاء وكسرها.
[87] انظر القاموس المحيط ج 1 ص 356.
[88] انظر أساس البلاغة ص 1004.
[89] انظر في معاني الأوتاد تفسير القرطبي ج 15 ص 144، 145، ج 20 ص 48، والكشاف للزمخشري ج 3 ص 335، تفسير ابن كثير ج 4 ص 508، تفسير البيضاوي ص 568.
[90] انظر (الجواهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات) للشيخ طنطاوي جوهري ج 13 ص 251، 252 ط: 3
[91] كان الشيخ طنطاوي متعدد المعارف، متطلعا للجديد، وقد خدعته (الروحية الحديثة) الوافدة من الغرب، فكان ممن يشهدون جلساتها كما قرأنا عنه، والعبارات المذكورة تصف ما يخادع به دعاة الروحية من يشهدون جلساتهم، وهي مزاعم قريبة مما كانت تدعيه بعض الجمعيات الروحية، وهي دعاوى ليست من الحقيقة في شيء ونقول بذلك عن خبرة ومدارسة، لا عن تقليد ومشايعة.
[92] سلك الشيخ في تفسيره هذا المسلك الرمزي، ولقد كانت (الرمزية) سلاحا من أخبث أسلحة (الباطنية) لحرب الإسلام وتعطيل أحكامه، والعبث بشرائعه، ولقد استعملت هذا السلاح الغادر (ربائب) الباطنية من الفرق الزائفة كالبهائية والقاديانية.
[93] أن نكل علم الغيب إلى الله: قاعدة جليلة ليت الشيخ اتبعها ووقف عندها.
[94] هذا لا يسلم له، فمن الذي قال إن الدابة يكنى بها عن الأرواح.(21/478)
[95] لست أدري كيف تدل كلمة (الكلب والصورة) على الشهوة والغضب، وإذا كان هناك من صريح نصوص القرآن والسنة المطهرة ما ينهيان عن رذيلتي الشهوة والغضب، فلماذا هذا الشطط في التأويلات، وعجيب أن يقول بهذه التأويلات من كتب (فضائح الباطنية) ليكشف عوارها، ويهتك أسرارها..ولكن هل قطعت حبال الود بين الباطنية والتصوف؟.
[96] هو أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي انظر تفسيره (مجمع البيان في تفسير القرآن) ج 20 ص 248، 251 ط مكتبة الحياة بيروت 1380هـ.
[97] بفتح العين واللام أي العلامة.
[98] هي ليلة النحر سميت بذلك لاجتماع الحجيج فيها بعد الإفاضة من عرفات، ويوم جمع هو يوم عرفة.
[99] إشارة إلى ما ورد في بعض الروايات من أن الدابة تحمل عصا وميسما، انظر ابن كثير ج 3 ص 375، 376.
[100] مفسر شيعي معروف بالغلو والتطرف.
[101] يعني الحسين عليه السلام.
[102] تنزه كتاب الله عن ذلك.
[103] انظر تفسيره ج 20 ص 251.
[104] من أحسن فهم القرآن، وقرأ الآية في سياقها ولحاقها لا يقول بهذا الافتراء، و (من) في هذا الموضع لابتداء الغاية، كما ذكر الشوكاني.
[105] المهدي: هو الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية، يزعمون أنه مختبئ في غيابه من الأرض وسيعود ليملأ الأرض عدلا بعد ما ملئت جورا، والكلام عن المهدي والأحاديث الواردة فيه، وبيان صحيحها من غيره كتبت فيه أبحاث..
[106] قدرة الله الأعلى لا يشك فيها مؤمن، ولكن هذه التخيلات المريضة والأوهام الباطلة لا سند لها من نقل ولا من عقل.
[107] انظر الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائي ج 15 ص 405، 406 ط الأعلمي ببيروت.
[108] هو علي بن إبراهيم القمي الذي سبق ذكره، وكتابه في التفسير من المراجع الرئيسية عند الشيعة، وهو مصنع لتفريغ الغلو والخرافة.
[109] الميزان ج 15 ص 396.(21/479)
[110] انظر التفسير الكاشف ج 20 ص 40 للقاضي الشيعي اللبناني محمد جواد مغنية وتفسيره يقع في سبعة مجلدات.
[111] نزعة اعتزالية تتجهم للحديث، والصحيح أن خبر الواحد يتلقى بالقبول إذا ثبتت صحته، والشيعة الذين يرفضون خبر الواحد يؤمنون بالموضوعات الدسيسة في الدين.
[112] انظر معالم التنزيل للبغوي ج 5 ص 130 بهامش الخازن.
[113] انظر هذه الرواية عند ابن كثير في تفسيره ج 3 ص 376.
[114] انظر تفسير القرطبي ج 13 ص 236.
[115] انظر تنوير المقباس من تفسير ابن عباس لوحيد بن يعقوب الفيروزأبادي ونسبة هذا التفسير لابن عباس غير صحيحة على التحقيق، والنص المنقول من ص 387 ط التجارية ومن ص 321، 322 ط / بيروت.
[116] كذا بطبعتي الكتاب المذكورتين وفرق بين أن تكون العصا هي الدابة، وبين أن تكون الدابة معها العصا كما ذكرت ذلك روايات أخرى.
[117] انظر تفسير القرطبي ج 13 ص 236.
[118] نفسه ص 238، وهو رأي المفسر ابن أبي حاتم، وانظر فتح القدير للشوكاني ج 4 ص 152.
[119] انظر الكشاف ج 2 ص 462.
[120] من الكلام أي تخاطبه.
[121] انظر القرطبي ج 13 ص 238.
[122] انظر في أسانيد هذه القراءة تفسير ابن كثير ج 3 ص 374، وتفسير الخازن ج 5 ص 130.
[123] أمسكنا عن ذكر أسماء بعض هؤلاء المؤولين، فلعلهم تابوا عنها ولاعتبارات أخرى.
[124] انظر تفسير ابن كثير ج 3 ص 376 فقد ذكر هو وغيره بعض هذه الصفات التي لم ترد بها روايات صحيحة وإنما خصصناه لتحرزه عن كثير من الإسرائيليات ومع ذلك فالكمال لله وحده.
[125] وقد وصف الشوكاني في تفسيره ج 4 ص 151 هذه الأقوال بأنه لا فائدة من التطويل بذكرها.
[126] انظر تفسير القرطبي ج 13 ص 235.
[127] انظر أيضا القرطبي ج 13 ص 236.
[128] نقلا عن تفسير القرطبي ج 13 ص 235.(21/480)
[129] انظر تفسير القرطبي ج 13 ص 236.
[130] انظر تفسيره ج 13 ص 236 بتصرف.
[131] وقد ذكرنا القليل وأعرضنا عن كثير.
[132] من القيلولة والقائلة وقال قيلا نام وسط النهار.
[133] قال ابن كثير معقبا على هذا الحديث وهكذا رواه مسلم أهل السنن من طرق مرفوعا ورواه مسلم أيضا موقوفا.. وقال الترمذي: حسن صحيح انظر ج 3 ص 375 من تفسير ابن كثير.
[134] انظر كتابه إلى القرآن الكريم ص 141 ط الهلال.
[135] ليس في هذه العبارة دعوة لإهمال ما جاءت به السنة، وإنما هي دعوة إلى اطراح الظنون في أمور الغيب.
[136] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 226، 227.
[137] أي ويلقى فيها.
[138] انظر كتاب التفسير من البخاري ج 3 ص 137 ط الحلبي وفي نفس الصفحة رواية ثانية وهي (.. فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه) ورواية ثالثة (فلا تمتلئ حتى يضع رجاه) .
[139] انظر تفسير القرطبي ج 17 ص 18، 19.
[140] قارن هذا بما سبق من تأويلات مجاهد رحمه الله، ليتضح لك منهجه.
[141] قال القرطبي في تفسيره ج 17 ص 19: (قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار، وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم، يقال رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، وقال الشاعر:
فما بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليمانيين أرجل
واستشهد لصحة تأويل الرجل والقدم بالجمع من الناس بما ورد في تتمة الحديث "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة".
وليس هذا التأويل من القرطبي مسلما، فإن الحديث من أحاديث الصفات والخلاف حولها معروف بين المثبتين والنفاة.
[142] انظر تفسيره فتح القدير ج 5 ص 77.(21/481)
[143] فيكون الاستفهام منها مقصودا به تقرير امتلائها، وعلى الثاني يكون على حقيقته الطلبية.
[144] انظر تفسيره (الكشاف) ج 3 ص 163 ط الحلبي.
[145] مقصوده أنها لا تضيق عن كثرة العدد.
[146] هو ناصر الدين بن أحمد بن المنير الإسكندري وكتابه مطبوع على هوامش الكشاف وعنوانه (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال) .
[147] انظر الانتصاف بهامش الكشاف ج 3 ص 163.
[148] وقع ابن المنير فيما عابه على الزمخشري ولو قال: وندين الله بتقديسه عن مشابهة خلقه، لكان أمس بالحقيقة رحما، فإن السلف يثبتون بغير تمثيل ولا تكييف، وتأمل حين نفى (المفهوم الحقيقي) عن بعض آي القرآن. ومقصده معروف لأهل الاختصاص.. ولكن ما هكذا يا سعد تورد الإبل ... وغفر الله لنا وله ووفقنا لاتباع نهج الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
[149] كذا بالأصل ومقصده تفاصيل الغيبيات.
[150] ليتنا نتأسى بما قاله الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول..) .
[151] انظر تفسير ابن كثير ج 4 ص 421.
[152] انظر تفسير الكشاف ج 3 ص 268.
[153] انظر الجامع لأحكام القرآن ج 18 ص 289 ببعض تصرف.
[154] كان هذا الرأي من بين الآراء التي ذكرها القرطبي، والزمخشري، والشوكاني وقاله ثعلب، ونقله ابن سيده في المخصص ج 2 ص 133 ونقله الشيخ المغربي في تفسير جزء تبارك مرتضيا له.
[155] انظر القرطبي ج 18 ص 289.
[156] انظر الكشاف ج 3 ص 268.
[157] انظر القرطبي ج 18 ص 289.
[158] انظر تفسيره لجزء تبارك ص 49 ط الشعب بالقاهرة.
[159] الأين: الإعياء، وانظر القاموس ج 4 ص 200.
[160] انظر الجامع لأحكام القرآن ج 13 ص 7، 8.(21/482)
[161] قال القرطبي عن سند هذا الحديث: ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه.. وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.. وقال هذا حديث حسن غريب صحيح، وانظر القرطبي ج 13 ص 8، والسمسم: بالكسر هو الجلجلان.
[162] ذكره ابن كثير في تفسيره ناقلا له عن السدي. انظر ج 3 ص 310 وكتابة (مئة) بهذه الصورة الإملائية صحيحة.
[163] ذكره القرطبي ج 13 ص 7.
[164] ذكره كثير من المفسرين كالقرطبي والشوكاني ولم يرتضياه.
[165] انظر الكشاف ج 2 ص 401.
[166] انظر فتح القدير ج 4 ص 64 ولم يرجح الشوكاني هذا الرأي
[167] انظر الكشاف ج 2 ص 401.
[168] الحديث النبوي في النهي عن تقارب منازل المسلمين والكافرين.
[169] انظر الانتصاف بهامش الكشاف ج 2 ص 401.
[170] لو قال: وقدرة الله تعالى لا يؤودها شيء في السموات والأرض لكان أوفق.
[171] إشارة إلى الآراء الفاسدة التي أدخلتها الفلسفة في عقول بعض المسلمين.
[172] انظر تفسير الطبري ج 30 ص 194 ط الحلبي الثالثة بتصرف قليل، ولم يذكر الطبري وهو المفسر الموسوعي غير هذا الوجه في المسألة.
[173] انظر تفسير القرطبي ج 20 ص 185.
[174] انظر روح المعاني للألوسي ج 30 ص 231، 232 ط الدمشقي، القاهرة، وقد نقل الألوسي أكثر عباراته في هذه المسألة عن الزمخشري، انظر الكشاف ج 3 ص 358، وقريب من هذا ما فعله الشوكاني في فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ج 5 ص 494.
[175] انظر الكشاف ج 3 ص 358.
[176] انظر روح المعاني ج 30 ص 232، وقد وجدنا أن الألوسي قد جمع في هذه المسألة آراء العلماء السابقين بما يشبه الاستيعاب بينما مرّ بهذه الآية بعض المفسرين في عجل لا يتوانى.
[177] انظر تفسير جزء عم يتساءلون ص 118 ط الشعب.(21/483)
[178] قيل إنها تعرف أصحابها بأمارات فيهم يعرفها الله بها.
[179] سمى القشيري كتابه في التفسير بلطائف الإشارات، ولم نجد هذه الإشارة فيه عند هذه الآية انظر اللطائف ج 6 ص 335.
[180] انظر روح المعاني ج 30 ص 232.(21/484)
العدد 49
فهرس المحتويات
1- المؤتمر العالمي للدعوة الإسلامية بالسودان: لفضيلة الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
2- التمتع في الحج: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
3- إزالة الشبهة عن حديث التربة (الحلقة الأولى) : فضيلة الشيخ عبد القادر السندي
4- ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيي عن بينة: موفق القصاب
5- مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الرابعة) : فضيلة الشيخ سعد ندا
6- البدع وأثرها في انحراف التّصَوُّر الإسلامي (الحلقة الأولى) : لفضيلة الشيخ صالح سعد السحيمي
7- وَفِّرُوا اللِّحَى وَأحْفُوا الشَّوَارب: لفضيلة الدكتور محمد أحمد الشريف
8- رُخصَة الفِطر في سَفر رَمَضَانَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآَثَارِ (الحلقة الأولى) : لفضيلة الدكتور أحمد طه ريان
9- تطَلُعَات إلى المستقبل في مُسْتَهَل القَرْنِ الهجْرِي الْجَدِيدُ: لفضيلة الأستاذ محمد قطب
10- وسائل التربية الإسلامية: لفضيلة الشيخ عباس محجوب
11- أساليب الدعوة إلى الله تعالى - القرآن الكريم (الحلقة الأولى) : لفضيلة الدكتور: أبو المجد سيد نوفل
12- ندوة الخرطوم
13- موقعة اليرموك دراسة تحليلية: لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل
14- منهج المؤرخين المسلمين في التأليف: الدكتور عوض عبد الهادي العطا
15- نماذج أخرى من الدعاة الصالحين - عثمان بن عفان رضي الله عنه: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
16- قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى (الحلقة الأولى) : د/ محمد عبد المقصود جاب الله
17- من عقائد السلف الرد على الجهمية (الحلقة الثانية) : للإمام الحافظ ابن منده 310-395هـ تحقيق وتعليق الدكتور على بن محمد بن جر الفقيهي
18- الأدب الذي يريده الإسلام: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
19- شاعرية البحتري: لفضيلة الدكتور بابكر البدوي دشين
20- رسائل لم يحملها البريد: فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
21- بحث في صيغة (أفعل) (بين النحويين واللغويين واستعمالاتها في العربية) : لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
22- حداثة الشعر العربي (الحلقة الأولى) : الدكتور: عبد الباسط بدر
23- من تراثنا الشعري / خيٌر وشرُّ: ليزيد بن الحكم / للشيخ محمد المجذوب
24- رسالة إلى شباب الإسلام: لفضيلة الشيخ محمود محمد سالم
25- أخي ... : الشيخ محمد رجب حميدو
26- المشارق في المغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
27- من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
28- القلب وعظمة الخالق: للدكتور إسماعيل صبحي حافظ
29- "من أعماق الكتب"
30- اعتماد مخطط جامعة أم القرى
31- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ودورها في نشر الدعوة الإسلامية في العالم: ملخص لبحث قدم للمؤتمر السادس للجامعة الإسلامية لعموم الهند
32- أخبار الجامعة: نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(21/485)
المؤتمر العالمي للدعوة الإسلامية بالسودان [1]
لفضيلة الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
رئيس تحرير مجلة الجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، المنزل عليه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يوسف/ آية 110.
وبعد
فإن فترة الركود التي خيمت على العالم الإسلامي منذ زمن بعيد، والمتجلية في جهل أبناء الأمة الإسلامية بحقائق دينها وسمو رسالتها وعظيم مسؤوليتها، تلك المسؤولية المتمثلة في قوله تبارك وتعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... } آل عمران/ آية 110، بدأت تتضح أسبابها ومسبباتها لقادة الفكر الإسلامي، والمهتمين بشؤون الدعوة الإسلامية.
ولإيمان هؤلاء القادة بأن ما أصاب العالم الإسلامي من نكبات، وما حل بهم من محن، هو من عند أنفسهم، ولعلمهم أيضاً بأن سنة الله تعالى في خلقه أن لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فقد بدأت الدعوات توجه على جميع المستويات لعقد لقاءات بين قادة الفكر الإسلامي وعلماء الأمة الإسلامية، لدراسة أوضاع المسلمين، وكيف وصلت بهم الحال إلى ما هم عليه الآن من ضعف، وتفكك وتمزق، وما أسباب ذلك وما علاجه؟
وإن هذه الصحوة في حد ذاتها تبشر بخير لمستقبل هذا الدين.(21/486)
ونحن نقول: إذا كان الطبيب لا يستطيع وصف الدواء للمريض إلا بعد تشخيص مرضه بفحص جسمه ليعرف علته، ومن ثم يقدم له الدواء النافع؛ فإن على قادة الفكر الإسلامي تحسس الأسباب التي أدت إلى ارتكاس الأمة الإسلامية حتى وصلت إلى حالتها الراهنة التي لا تحسد عليها.
ودراسة حالة المجتمعات الإسلامية اليوم، في حاجة إلى مقارنتها بالماضي في فجر انبثاق الرسالة الإسلامية لمعرفة ماضيها المجيد، وكيف انحدرت بعد ذلك؟. وهذا الأمر يستدعي نظرة سريعة لحالة المجتمع البشري قيل البعثة.
إن نظرة عابرة لحالة البشرية كلها قبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم تعطينا صورة قاتمة لحالة ذلك المجتمع البائس في جميع شؤون حياته؛ ذلك المجتمع الذي كان يسوده الاضطراب، عداوة وبغضاء، وانحطاط أخلاق وسلوك، ولا حق فيه للضعيف وإنما الحق فيه للقوي الغالب، أما الضعيف المغلوب فهو مستعبد ممتهن، وعلى رأس تلك الانحرافات الأخلاقية والسلوكية: الشرك بالله الواحد الأحد.
وقد أنعم الله تعالى على تلك الأمة المتناحرة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجها برسالته من الظلمات إلى النور، فأصبح أفرادها بنعمة الله إخوانا، وذلك حين أذن الله لهذا النور أن يبدد تلك الظلمات المتراكمة، وأن يسير هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالبشرية كلها إلى شاطئ السلامة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} سبأ/ 28..(21/487)
فدعا البشرية كلها إلى هذا الخير، وبيَّن لها سبيله، وأوضح لها معالمه، كما بين لها طرق الشر، وحذرها من سلوك سبله، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وسلك طريقه خلفاؤه الراشدون من بعده، وقد حثَّ صلى الله عليه وسلم أمته على التمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين من بعده، وبسلوك المسلمين لذلك المنهج في العبادات والمعاملات سادوا البشرية جمعاء، لنشرهم العدل بينهم وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فعم الإسلام شرق الأرض وغربها في فترة لم يحدث في تاريخ البشرية كلها مثل ذلك لدعوة من الدعوات، وما ذلك إلا لسهولة ويسر تعاليم الإسلام لتمشيها مع الفطرة البشرية، ولإخلاص حملة هذه الرسالة وحبهم إيصال هذا الخير إلى الناس جميعا، دون أن يكون هدفهم التكالب على رئاسة، أو طلب جاه في الدنيا، وإنما كان همهم أن تكون كلمة الله العليا. ولذا نجد أنه إذا صدر أمر من الخليفة لقائد الجيش في أثناء المعركة بأن يسلم القيادة لجندي في جيشه ليكون قائداً بَدَلاً منه، سلمه إياها، وأخذ سيفه وانطلق جندياً يقاتل في سبيل الله تحت قيادته لأنه يعمل لله لا لمنصب ولا جاه.
وحين تخلى المسلمون عن هذه الروح الإسلامية وسلكوا مسلكا يخالف النهج الذي رسمه لهم سلفهم الصالح في العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة، بدأت الحال تتغير، فدب الوهن في جسم الأمة الإسلامية، فتفرقت كلمتها، وتشتت شملُها، وتمزقت وحدتها، وأصبحت شيعا وأحزابا، يقتل بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضاً، وليس هذا من الإسلام في شيء.
ونجاح هذه الأمة مرهون بعودتها إلى ما كان عليها سلفها الصالح، إذ لا يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.(21/488)
وإن عقد مؤتمر للدعوة الإسلامية في هذه الآونة، والذي جاء بعد مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في مكة المكرمة والذي يعتبر من أهم اللقاءات التي تمت بين ملوك ورؤساء الدول العالم الإسلامي للعودة بشعوبهم إلى الحكم بشرع الله، وتطبيق منهجه الذي ارتضاه لعباده، بعد أن جربوا مناهج البشر وقوانينها، لَخَيرُ دليل على أن قادة الأمة الإسلامية ومفكريها بدؤوا يحاولون رسم الطريق لهذه العودة إلى الله خالقهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . ومؤتمر الدعوة الإسلامية الذي عقد في السودان هو من السبل التي ترشد الأمة إلى الطريق لتطبيق شرع الله على عباده، فإن من أهدافه:
1- إتاحة الفرصة للقاء عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية، يمثل وقفة تأمل وإعمال فكر في الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، مقارنا بالماضي في فجر انبثاق الرسالة الإسلامية، لتتضح فترة الركود وتتبين أسبابها ومسبباتها، لبحثها وتحليلها، ثم معالجتها تمهيداً لمطلع جديد للأمة الإسلامية.
2- الوصول إلى هدف مشترك بأسلوب موحد لمواجهة التحديات المعاصرة.
3- إيجاد مناخ مناسب لتبادل الخبرات والتعرف على التجارب والمشكلات، والإطلاع على الظروف المختلفة، وطرق مواجهة المعضلات، ووضع الخطط والبرامج للتلازم والتكامل بين العقيدة والعلم.
4- بحث إمكانية وضع استراتيجية موحدة للدعوة الإسلامية، تمكن من زيادة فعاليتها وعمق تأثيرها وشمول نشرها على مستوى العالم الإسلامي، وما جاور أرض الإسلام.
5- إتاحة الفرصة للتنسيق بين الحكومات والهيئات والمؤسسات والأفراد العاملين في مجال الدعوة الإسلامية بغرض تحقيق الاستغلال الأمثل للإمكانيات المتاحة.
6- النظر في إمكانية توظيف ما حدث من تطور في وسائل الاتصالات على مختلف أنواعها في خدمة أغراض الدعوة الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي.(21/489)
7- وضع تصور واضح ومحدد للداعية من حيث التأهيل العلمي والاستعداد الفطري والتدريب النظري والعملي.
إن هذه الأهداف الجديدة في مجال الدعوة، وغيرها من الأهداف الأخرى التي طرحت في هذا اللقاء قد ناقشها المؤتمرون، وأبدوا حيالها التوصيات المناسبة، ومن أبرز تلك التوصيات:
أ- تطبيق الشريعة الإسلامية، وتقديم الإسلام بديلا شاملا للثقافة الغربية المادية.
ب- دعم المركز الإسلامي الإفريقي بالخرطوم.
ج- دعم مركز الترجمة المزمع إنشاؤه بالخرطوم.
د- نشر وتنشيط الدعوة الإسلامية في فلسطين، ودعم الجامعة الإسلامية بالقدس.
هـ- التأكيد على أهمية دور الإعلام في نشر الدعوة الإسلامية، ومحاربة الأفكار الهدامة، وتدعيم دور الإعلام بإعداد الإعلاميين المسلمين، ومؤسسات إنتاج إعلامية إسلامية تهتم بالنشر المرئي والمسموع، وإمداد أجهزة الإعلام غير الإسلامية بمعلومات دقيقة وصحيحة عن الإسلام.
و وفي مجال الشباب، طالب المؤتمر بضرورة العناية بترشيد الشباب بدعم المنظمات الإسلامية الشبابية وتشجيع اللقاءات العالمية بينهم.
ز- كما أشار المؤتمر إلى أن الدعاة المسلمين يتعرضون للمضايقات في بعض الدول الإسلامية، وناشد كل الدول الإسلامية بتوفير الحرية لهم وعدم حضر الدعوة إلى قيام نظم حكم إسلامية، وبكل أسف فقد عارض أحد أعضاء المؤتمر -وهو مسئول ديني- هذه التوصية في القاعة ولم يستجب له أحد من الأعضاء في تلك المعارضة، بل جعل نفسه موضع استياء ونقد من المؤتمرين.
ح- وفي مجال التعليم، أوصى المؤتمر بتقرير مادة الثقافة الإسلامية في جميع الجامعات، ودعا الدول بالاعتراف بالجامعات الإسلامية، ورفع الحظر عن حملة هذه الشهادات في التعيين الحكومي، ومساواة شهاداتهم بشهادات الجامعات الأخرى.(21/490)
ودعا المؤتمر إلى مناهضة الدعوة الهدامة الرامية لاستخدام العامِيِّة، والاهتمام بمعاهد الثقافة الإسلامية التاريخية مثل الجامع الأزهر. وجامعة الزيتونة، والقرويين، والمعهد العلمي بأم درمان.
ط- كما دعا المؤتمر الدول الإسلامية إلى إنشاء دور متخصصة في الحديث، تضم خيرة العلماء لنشر السنة وحفظها، والعناية بمقررات التربية الإسلامية في المدارس.
هذه بإيجاز أهم توصيات المؤتمر عدا توصيات أخرى أقرها المؤتمرون، وقد كلف المؤتمر اللجنة السودانية بترجمة هذه القرارات إلى مشاريع عملية، ومتابعة تنفيذها مع الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي.
وإن هذه النتائج التي توصل إليها المؤتمرون، وصدرت حولها التوصيات المنوه عنها لهي نتائج جيدة ومفيدة، لو أنها انتقلت من عالم الورق الذي كتبت عليه إلى الواقع العملي، ذلك أن توصيات مماثلة سبقتها بقي الكثير منها حبراً على ورق.
وإننا لمن المتفائلين ببوادر وعي إسلامي نحس بشائره في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، وذلك بعد التجارب المريرة التي ذاقها أبناء الأمة الإسلامية نتيجة ابتعادهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، ومنهج سلفهم الصالح في تطبيق الكتاب والسنة عمليا حتى يكون واقعاً حياً تعيشه الأمة الإسلامية، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "كنّا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل".(21/491)
وإن مطالبة الشعوب الإسلامية بالعودة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، في جميع شؤون حياتها وما لُمِس من بوادر استجابة لتحقيق هذه الرغبة من رؤساء هذه الشعوب المسلمة، كما جاء في مقررات مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة، يحتم على رجال الدعوة الإسلامية أن يضعوا منهجاً موحداً يضمن للأمة سلامة طريقها في عودتها إلى تطبيق شريعة الله التي ارتضاها لعباده، وإن على رؤساء الجمعيات وأصحاب النشاط البارز في توجيه الشباب، والذين يدعون جميعا إلى تحكيم شريعة الله أن يوحدوا طريقهم، ويجمعوا كلمتهم، ويبتعدوا عن النزاع الذي يعقبه الفشل المحتوم كما قال تبارك وتعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال/ 46..
فيكفي الأمة الإسلامية ما عانته من فشل "والمؤمن لا يلدغ في جحر مرتين"وقد لدغ المسلمون مرات. ولا يمكن أن توحد الكلمة إلا أن يكون هناك مرجع تحتكم الفئات المختلفة في وجهات نظرها إليه، ولا مرجع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر -وكلهم بحمد الله يدعون إلى الكتاب والسنة- إلا برجوعهم إلى منهج خلفائه الراشدين الذين حثنا رسول الهدى على التمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".(21/492)
فيجب على فقهاء الدعوة المهتمين بجمع كلمة الأمة، وتطبيق أحكام الله في الأرض أن يتأملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" لأن سنتهم والله أعلم أطيب قدوة للأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا خير مثال لفهم تطبيق كتاب الله وسنة رسوله عمليا، وكذلك من سلك مسلكهم في هذا المجال من بعدهم ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وأن واحدة من هذه الفرق سوف تستمر ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، فقيل من هم يا رسول الله قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". وهذه المثلية شاملة لجميع شؤون الحياة، في العقيدة وفي العبادات والمعاملات ونظم الحكم، والسلوك والأخلاق وفي كل ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية لتحقيق استخلافها في الأرض، فخلفاؤه والذين اتبعوهم بإحسان هم الذين على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عقد المؤتمر العالمي للدعوة الإسلامية بالخرطوم في السودان في الفترة ما بين 22 إلى 25 جمادى الأولى عام 1401هـ.(21/493)
وسائل التربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ عباس محجوب
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة بالجامعة
الوسائل هي الأدوات التي نحقق بها أهدافنا وغاياتنا في الحياة وإذا كانت الأهداف والغايات سامية فلابد أن تكون الوسائل الموصلة إليها سامية أيضا وشريفة لأن الغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة فالأهداف الشريفة هي التي تكون وسائلها شريفة لأن الفصل بين الأهداف والغايات صعب لتداخلهما ولأن الوسيلة قد تكون هدفاً في ذاتها ووسيلة لغيرها والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة/35) .
وابتغاء الوسيلة كما قال قتادة، التقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه [1] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وكذلك يقول الله تعالى في حديثه القدسي الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه" [2] .
وقد تتخذ عدة وسائل لغاية واحدة حتى إذ لم تفد الوسيلة الواحدة لجأ الإنسان إلى الأخرى بطريق التدرج كما في آية النشوز: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء/34) .(21/494)
كما عدا الإسلام إلى اتخاذ الوسائل الطبية للسلوك غير الحسن، ولمواجهة الشر: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت/35،34) .
وقد يكون الهدف المطلوب من الواجبات الأمر الذي يجعل الوسائل أيضا في درجتها ولذلك رأى العلماء أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أيضاً.
لذلك كله اختلفت وسائل التربية وتعددت فيما سنفصله الآن.....
أولا-الوسائل الذاتية:(21/495)
تقتضي التربية الذاتية للإنسان نوعا من الوعي الفكري والمعرفة بأهمية القواعد الصحية والأخلاقية والجسمية في استمرارية التربية التي يحتاج الإنسان إليها مدى الحياة وأول وسائل التربية الذاتية مراقبة الإنسان لنفسه وجعل ضميره حياً يقظاً متحركاً وهذه الوسيلة داخلية تحدثنا عنها في حديثنا عن القلب وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للإنسان أن يستفتي نفسه فما اطمأنت نفسه إليه كان حسناً وما حاك في الصدر تجنبه والضابط لهذا الاستفتاء القلبي أن يكون القلب يقظاً على صله بالله دائما بالعبادة والدعاء والاستعانة على الخير والاستنجاد من الشر كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل دائماً في دعائه المستمر في كل حركة من حركاته كما أن الالتزام بالفضائل يجعل المرء قوي الصلة بالله، ويرى بعض العلماء أن من وسائل التربية الذاتية أن يتخذ الإنسان لنفسه شيخاً يعينه على التربية وينصحه ويوجهه ولا يشترط الاتصال المباشر بل قد يكون عن طريق الإطلاع على مؤلفاته وإن كانت العلاقة الشخصية هي المطلوبة عملا بقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل/43) ونسبة لتعذر الملازمة للشيوخ الناصحين في الدين المشتغلين بتهذيب العباد فإن التجارب الشخصية النابعة من مخالطة الناس تساعد على تربية النفس لأن المؤمن مرآة أخيه فإذا علم صفات سيئة في الناس اتفقوا على سوئها وكراهتها أبعد نفسه عنها، كما أن قوة الإرادة والعزم على فعل الخير وممارسته من الوسائل التي تدفع الإنسان إلى السير في طريق الخير ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت" [3] .
والإيمان بالله الذي يصدر عنه الفعل من إحساس بالواجب وحب للفضائل وترك للراذئل من وسائل تربية النفس والذي يساعد على ذلك كله أن تكون صحبة الإنسان للأخيار من الناس.(21/496)
ولذلك يرى الغزالي أن تزكية النفس بأمرين الأول- الابتعاد عن المعاصي ثم ممارسة الطاعات والعبادات.
وتجري عملية التزكية باتخاذ الوسائل السابقة في الارتقاء بالنفس من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة التي تستقبح المعصية وتلوم صاحبها بعد أن كانت لا تحدثه إلا بالسوء ولا تأمره إلا بالمعصية ثم ترتفع النفس إلى مقام الملهمة التي ألهمها الله الخير والشر {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس/8،7) ثم ترتفع درجة إلى مستوى النفس المطمئنة الراضية بقضاء الله وقدره ثم كانت نفساً راضية باطمئنانها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر/27-30) فهي قد دخلت أخيراً في زمرة العباد الذين قال الله عنهم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر/42) والجنة جنتان جنة الدنيا وهي المعرفة والعلم والحكمة.
والإنسان بتزكيته لنفسه يحرر نفسه من الخضوع للشهوات والرغبات ويرتقي إلى مقام العبودية لله.
ثانيا: الوسائل الاجتماعية: وتتمثل في:
1- الرفقة الصالحة:
الإنسان بطبيعته متأثر بغيره آخذ عنه سواء أحس بذلك أم لم يحس خاصة في مراحل الصبا فالرفقة الصالحة وهم الذين يسمون: (بشلة الرفاق) هم من وسائل التربية الأخلاقية والنفسية والعقلية للناشئة وواجب الآباء أن ينتقوا لأبنائهم هذه الرفقة بطريقة غير مباشرة من أصدقائهم الصالحين لأن صداقة الآباء تقتضي الزيارة والخروج في رحلات تعمق الصلات بين الأبناء وعن ذلك يقول ابن سينا: "أن يكون الصبي في مكتبه مع صبية حسنة آدابهم، مرضية عادتهم لأن الصبي عن الصبي القن وهو عنه آخذ به وآنس" [4] .(21/497)
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [5] ، وعن تأثير الصحبة في الإنسان ذلك الحديث الذي سبق أن ذكرناه عن الجليس الصالح والجليس السوء والمقارنة بينهما وقد بين الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم نتيجة مصاحبة الأشرار وتخلي بعضهم عن بعض واتهام كل للآخر بأنه سبب ضلاله وكفره فالشيطان يقول {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (ق/27) , ويقول {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان/28-30) ويحذر الله سبحانه من شياطين الجن وشياطين الإنس من الرفاق وأصحاب السوء لأنهم يوحون إلى بعضهم زخرف القول غروراً ...
إن على الآباء أن يراقبوا أبناءهم وأن يوجهوهم من غير إشعارهم بذلك لأن الأوامر والنواهي ومنع الأطفال من مصاحبة من في سنهم يؤدي إلى نتائج غير كريمة وعلينا أن نشجعهم على صحبة من نعجب بسلوكهم من أصدقاء حيه أو دراسته وأن ننبه إلى عدم مصاحبة من نرى اعوجاجاًَ في سلوكه مع إقناعه بذلك عن طريق الواقع والمنطق ويقول الغزالي: "ويمنع الطفل من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والشتم وعن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء" [6] .
القدوة الحسنة:(21/498)
ينشأ الطفل فيجد أمامه شخصية والده تأثر فيه وتثير عواطفه ثم يجد شخصية المربي الذي يعجب به الطفل ويتأثر بأفكاره، ومعلوماته، لذلك كان واجب الآباء والمربين أن يقدموا النموذج الطيب والأسوة الحسنة أمام الأطفال الذين يتعلقون بشخصياتهم ويدفعونهم إلى السلوك الطيب عن التأثير فيهم فكلاهما يمثل بالنسبة للطفل القيم السامية والعواطف الطيبة الأمر الذي يجعل دورهما في حياة الطفل كبيرا فإذا تمثلت فيهما معاني الشجاعة والعفة والكرم والمروءة، والصدق والأمانة قولاً وفعلاً نشأ الأولاد على ذلك أما إذا وجد ذلك في أقوالهم ودعوتهم لهم من غير أن يتمثلوه في حياتهم نشأ الطفل على عكس تلك الفضائل وفقد الثقة في سلوك أحب الناس إليه ومثله الأعلى في الحياة ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى من أن يأمر الناس بالبر من ينسون أنفسهم وأن يقولوا مالا يفعلون وقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النوع بعذاب أليم يوم القيامة حيث يسأله الناس ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيجيب بأنه كان يأمر بالمعروف، ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه- والقرآن يخبرنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف بأعلى الكمالات وأنبل الصفات التي عرفتها البشرية هو قدوة حسنة للبشر قاطبة خلقه القرآن ومؤدبه ومربيه رب العالمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب/21) ولأن التربية تحتاج إلى القدوة العليا التي يقاس عليها فإن الله سبحانه جعل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم النموذج الذي يهتدي به الناس والسراج الذي يضيئون به حياتهم إن أطاعه الناس اهتدوا وإن خالفوه ضلوا {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور/54) ، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثال للقدوة النادرة في الجاهلية والإسلام في مجال الكرم والتواضع والحلم والشجاعة والقوة والثبات على الحق والصبر والجهاد والإيثار فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس(21/499)
بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان وكان أزهد الناس فهو لم يشبع ثلاثة أيام تباعاً وكان أكثر الناس توضعاً يأكل من عمل يده ويجيب دعوة من دعاه يجلس حيث ينتهي بأصحابه المجلس يرقع ثوبه ويخيط نعله، يحلم عن المسيء ويعفو ويصفح بما لم يحدث في التاريخ حين قال لقريش: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وكان أشجع الناس، وأقواهم يتقي به أصحابه إذا حمى الوطيس واحمرت الحدق، ثبت على مبدئه حين عرضت قريش على عمه ما عرضت، ولذلك كله ولغير ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى للمربين والمتربين كما كان أصحابه الأجلاء رضي الله عنهم القدوة بعده في الصفات السابقة كما دعا إلى التأسي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" وقد كانوا كما قال عنهم عبد الله بن مسعود: "أبر الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً". إن الطفل يكون أكثر الناس حاجة إلى القدوة الحسنة في حياته الأولى الأمر الذي يضع على كاهل المحيطين به عبء كبير فالطفل يعتقد أن ما يفعله والده ومدرسه هو الحسن والخير وأن ما يتركه الوالد والمدرس هو القبيح والشر، والطفل مطبوع في هذه المرحلة على المحاكاة والتقليد وتنطبع في نفوسهم كل الصفات التي كانت سلوكاً لأسوتهم.
وليس معنى هذا اقتصار القدوة في السلوك على الآباء والمربيين إنما تتمثل القدوة في المجتمع كله بمؤسساته: البيت والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة فإذا وجد في قطاعات المجتمع القدوة الصالحة كانت التربية ناجحة لأن الطفل لا يحس بالتناقض في الأخلاقيات أو التباعد في السلوك بين أنشطة المجتمع الموجهة.
إن القدوة الحسنة من الآباء والمربين ومؤسسات المجتمع من أهم العوامل المؤثرة في التربية والهادية إلى الخير والمهيئة للفرد النافع للمجتمع والحياة.
ثالثا- الوسائل العاطفية:(21/500)
عرَّف بعض الدارسين العاطفة بأنها""عبارة تركيبية انفعالية تجمع بعض الانفعالات الموجودة أصلاً في نفس الفرد"، هذه الانفعالات تنتظم فيها بينها ثم تدخل في تركيب جديد، لم يكن موجوداً من قبل. إن هذه التراكيب أو المجاميع الجديدة تكسب الحياة الانفعالية المتقلبة قدراً من الانسجام وقد تتجمع من جديد في مجاميع أوسع وهذه بدورها حين تتجمع ثانية في نظام واحد شامل متناسق، تكون ما نسميه بالشخصية، إن العواطف الثابتة تعطي الحياة الوجدانية نظاماً واتساقاً نحو أهداف بالذات وإن عاطفة قوية كافية لتجديد نشاط الفرد واتجاهه في حياته. فالعواطف تلعب دوراً هاماً في حياة الإنسان وهي مصدر معظم دوافعنا وجهودنا [7] . ولذلك كانت العواطف وتكوينها في الإنسان من أهم ما اهتم به المربون، فالحب والكراهية تكونان عناصر العاطفة في الإنسان ومهمة التربية عاطفيا هي توجيه عاطفة الحب إلة أنواع الفضائل والسلوك المراد غرسها في النفوس وتوجيه عاطفة الكراهية إلى أنواع الرذائل والسلوك المراد إبعاد النفوس عنها كما أن الرغبة عاطفة تبعث على الحب والرهبة عاطفة تبعث على الكراهية فإن دورهما في التربية كبير.
ولذلك ركز القرآن الكريم على مخاطبة العواطف الإنسانية في جانبيها الإيجابي والسلبي إذ أن الجانب الإيجابي يمثل العواطف الخيرة بينما السلبي يمثل العواطف الشريرة.(22/1)
فمن الجانب الإيجابي: حديث القرآن عن الضعفاء والمساكين وأهمية العطف عليهم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى/6-11) ، ومن الحض على العفو والتسامح والصفح مع القدرة والأمثلة كثيرة في القرآن ومنه العطف على الوالدين {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء/24،23) ، والآيات كثيرة في ذلك ومنه أيضا أحاديث الجهاد والتحكم في الانفعالات والإخلاص والتفاني في سبيل الله والجماعة وما إلى ذلك من العواطف الإنسانية السامية التي تعالج جوانب الروح والأخلاق والسلوك.
أما الجانب السلبي: الذي يعالج العواطف المنحرفة المتصلة بالسلوك والأخلاق فكثيرة أيضا مثل ذم الرذائل والموبقات والشح والبخل والنفاق والحقد والغرور والكراهية والطمع والجشع وحب المال والدنيا والأثرة والأنانية وغيرها من جوانب السلوك غير الإنساني وغير الأخلاقي والتي تدل على جوانب نقص في الشخصية وقصور في النضج السلوكي والأخلاقي.(22/2)
إن العاطفة وسيلة تربوية فعالة عندما تكون وسائط التربية كلها نماذج حية طيبة للعواطف السامية والأخلاق النبيلة ولأن الطفل يعيش في حياته الأولى على الاقتناع بالأشياء المحسة المشاهدة فإن تكوين عاطفة الحب للفضائل أو الرذائل لا يكون بالدروس المجردة إنما بالثناء على كل عمل طيب يأتيه والمكافأة عليه، والاستنكار لكل رذيلة يأتيها أو يشاهدها والعقاب عليه فإذا وصل الطفل إلى مرحلة فهم المجردات كان الاهتمام بالمثل العليا والعواطف السامية وتكوين الاتجاهات الطيبة نحوها ولذلك ركزت التربية الإسلامية في تكوين هذه العواطف على محبة الله والارتباط به وحبه للمتقين والمحسنين وكراهيته للعصاة والظالمين ولذلك استعمل القرآن والسنة عدة أساليب في ذلك منها:
(1) القصص والتاريخ:(22/3)
"والقرآن يستخدم القصص لجميع أنواع التربية والتوجيه التي يشملها منهجه التربوي: تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، والتوقيع على الخطوط المتقابلة في النفس، والتربية بالقدوة والتربية بالموعظة" [8] والقصة لها تأثير كبير في نفوس الصغار والكبار ولها القدرة على إثارة العواطف والانفعالات والإقناع الواقعي والعقلي والتوجيه نحو التفكير والتأمل، فالله سبحانه استعمل القصة في القرآن كثيراً ليتعظ الناس منها وليثبت الرسول صلى الله عليه وسلم- {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود/120) ، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} (يوسف/111) ، وهي كما أنها للعبرة تدعو إلى التفكير {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف/176) ، وقد أورد القرآن قصص الأنبياء لبيان الحق والباطل وموقف البشر من أنبيائهم والمكذبين بالرسالات والرسل وقصة البشرية ممثلة في قصة آدم وقصصا تمثل النفس الإنسانية في حالاتها المختلفة من الضعف والقوة والرغبة والرهبة والعدل والظلم والإيثار للحق والتمسك بالعفة. وتهدف هذه القصص كلها من الناحية التربوية إلى:
1- حال البشرية وموقفها من الرسالات والرسل وفيها عظة وعبرة للناس وتقوية وتثبيت للرسل.
2- وجوب إيثار الحق على الباطل مهما عظم وتجبر وتوعد واللجوء إلى الله كما في قصة أصحاب موسى.
3- نموذج للشباب في العفة والتمسك بها ومراقبة الله والصمود أمام الشهوات والرغبات كما في قصة يوسف وآدم.
4- نماذج من لحظات الضعف البشري حينما يستسلم لها الإنسان وينسى كما في قصة آدم، أيضاً موسى وفتنة سليمان وداود.(22/4)
5- أسباب زوال الأمم وزوال الحضارات والمدنيات وهي الظلم والفساد والتجبر والطغيان وغيرها كما في قصص قوم لوط وثمود وإبراهيم وأصحاب مدين وغيرها من الأمم التي ذهبت لتحلل أخلاقها وانحرافها عن جادة الطريق.
(2) الترغيب والترهيب: المثوبة والعقوبة:
عواطف البشر نحو الفضيلة والرذيلة مرتبطة بالترغيب والترهيب فتوجيه الإنسان نحو حب الفضيلة لأن الفضيلة خير تتحقق به سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة والرذيلة شر يؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة والمثوبة والعقوبة وسيلتان للترغيب والترهيب. فإذا اختزن فعل الفضيلة في ذهن الطفل بالمثوبة وإدخال الفرح والسرور في نفسه مادياً أو معنوياً نشأ على حب الفضيلة كما أن ارتباط الرذيلة بالعقوبة والحرمان والتأنيب وعدم الرضا ينشئه على كراهية الرذيلة، ولذلك يرى علماء النفس أن توفر عامل الجزاء مهم لأن الإنسان لا يكرر الاستجابات التي لا تؤدي إلى نوع من الترضية أو الجزاء أو الإشباع وكلما كان الجزاء واضحاً دفع الإنسان إلى الحركة والنشاط وإشباع الدافع.(22/5)
ومن أسلوب الثواب والعقاب يقول الغزالي: "إذا ظهر من الصبي خلق جميل، وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه مما يفرح به ويمدح أمام الناس لتشجيعه على الأخلاق الكريمة والأفعال الحميدة، وإذا حدث منه ما يخالف ذلك، وستره الصبي واجتهد في إخفاءه، تغافل عنه المربي وتظاهر بأنه لا يعرف شيئاً عما فعل حتى لا يخجله، فإن عاد ثانية إلى الخطأ عوقب سراً وبين له نتيجة خطئه، وأرشد إلى الصواب وحذر من العودة إلى مثل هذا الخطأ، خوفاً من أن يفتضح أمره بين الناس" [9] . فالغزالي يسبق علماء النفس التربويين في أنه لا بد من التدرج في الجزاء وأن هناك جزاءً ثانوياً يتمثل في التشجيع والمكافأة والعتاب والتحذير والإرشاد باللين إلى الخطأ- هذا الجزاء له أثره الكبير في التربية والتعليم ولا يترك آثاراً سلبية كما في الجزاء الأولي، وفي تأييد هذه النظرية المثوبة والعقوبة يقول ابن سينا: "إنه من الضروري البدء بتهذيب الطفل، وتعويده ممدوح الخصال منذ الفطام، قبل أن ترسخ فيه العادات المذمومة التي يصعب إزالتها إذا ما تمكنت في نفس الطفل أما إذا اقتضت الضرورة الالتجاء إلى العقاب فإنه ينبغي مراعاة منتهى الحيطة والحذر فلا يؤخذ الوليد أولاً بالعنف وإنما بالتلطف ثم تمزج الرغبة بالرهبة والمثوبة والعقوبة والنصح والتهديد ولأنها وسيلة أقرب إلى عقلية الصغار وتجاربهم وخبراتهم المحدودة ولذلك استعملها لقمان مع ابنه كما حكى القرآن: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً(22/6)
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان/ 12، 13) .
والموعظة للكبار أيضاً في مناسبات يحتاجون إليها خاصة إذا كان الأمر متعلقاً يالعقيدة {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ/45) .
وقد يعتاد الكبار على الموعظة المباشرة فيملونها ولا يستمعون إليها أو لا تترك الأثر العاطفي عندهم وقد ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخولهم بالموعظة أي يعظهم فترة بعد أخرى، ولذلك استعمل القرآن أساليب كثيرة متعددة للوعظ، فالقرآن كله هدى وموعظة للناس {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران/138) ، والموعظة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} (النحل/125) .
ولا يستفيد بالموعظة إلا المؤمن الكامل الإيمان {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (الطلاق/2) .
وقد تميز أسلوب القرآن في المواعظ بعدة أساليب منها:(22/7)
1- النداء الإقناعي مصحوباً بالاستعطاف والاستنكار [10] مثل {يَا بُنَيَّ} {يَا مَرْيَمُ} {يَا نِسَاءَ النَّبِيّ} {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} .
2- الأسلوب القصصي مصحوباً بالعبرة والموعظة كما في قصص الأنبياء وغيرها من قصص القرى والأمم.
3- التوجيه القرآني مصحوباً بالوصايا والمواعظ والأوامر والتوجيهات والنواهي وغيرها مما هو كثير في القرآن والموعظة كما يقول الأستاذ محمد قطب درجات تتفاوت بدرجات الناس فهناك من تنفع معه الإشارة البعيدة ومن لا يصلح معه إلا الغضب والتهديد ومن يكفيه التهديد -بالعذاب [11] .
رابعاً: الوسائل العقلية:
لم تعتمد التربية في الإسلام على الوسائل العاطفية أو الوجدانية أو الاجتماعية وإنما اعتمدت على الوسائل العقلية باعتبار العقل من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وميزه به عن الحيوان ويمكننا أن نلمح هذه الوسائل في جوانب كثيرة منها:
1- التربية الفكرية:(22/8)
والتربية الفكرية تهدف إلى إخضاع العقل للتدريب والتمرين حتى يقوي فيه ملكة التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال والرؤية الصادقة والبصيرة النافذة ويمكن تدريب العقل بتقديم الحقائق العلمية على أساس أهميتها في الحياة وتقييمها للسلوك واستعمالها في طريق الخير والتفاعل معها بحيث تكون جزءا من حياة الشخص ثم تجربة تلك الحقائق مع واقع الحياة ليرى مدى فائدة الحقائق العلمية إذا ما استعملت في حياة الإنسان وأهمية التربية الفكرية أنها تزيد من قدرات الفرد على الإدراك والتكيف وتقبل الحقائق والقيام بالواجبات كما أنها تهيأ مجالاً لنمو الذكاء وارتفاع معدلاته بحيث أن الشخص الذكي يكون أقل عرضة للمشكلات التي تدفع إلى الانحراف أو الجريمة؛ لأن قوة عقله ينبهه إلى الطريق القويمة والنتائج المترتبة على الانحراف السلوكي وعن طريق التربية الفكرية تحصل القناعة التي تجعل الفرد متمسكاً بالخير لأنه خير مبتعداً عن الشر لأنه شر وأنه لا تعارض بين ما يقرره المنطق والعقل وما يطالب به المرء دينياً من الالتزام بسلوك أخلاقي ثابت ومعروف في حياته.
2- تكوين البصيرة:(22/9)
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران/164) والعلاقة وثيقة بين الحكمة والبصيرة فكلاهما من أعمال القلب والعقل وقد وصف الله سبحانه وتعالى الإنسان بأنه على نفسه بصيرة والبصيرة هي القدرة إلى النفاذ إلى الأشياء ومعرفتها وحسن تقديرها والقدرة على التصرف فيها ولما بين البصيرة والحكمة من علاقة قوية دعا الله سبحانه إلى اتخاذهما وسيلتين في الدعوة إليه فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل/125) كما قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف/108) . ومن هنا فإن تكوين البصيرة في القلب المؤمن غاية من غايات التربية ووسيلة من وسائلها أيضاً ولذلك يقول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (الأنعام/104) ، والبصيرة والحكمة بمعنى التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ عن طريق الإحساس الداخلي أو الوجدان من هبات الله على الناس، فالله سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة/269) ؛ لأن الحكمة: "هي نفاذ البصيرة إلى سنن الحوادث ومجريات الأمور، وإتقان العمل والتصريف، دون صدام مع قوانين الظواهر في ضوء ظروف العصر الذي تواكبه لدى الفقيه القدرة على استنباط التشريعات والأحكام اللازمة في ميادين الحياة المختلفة حسب الظروف والأحوال، وهي لدى القائد فهم معنى الجهاد والوقوف على منطلقاته وأهدافه وتنظيماته وحسن(22/10)
التعامل بذلك كله حسب المواقف والمتطلبات، وهي لدى المربي المسلم فهم مبادئ التربية وأهدافها ومناهجها وأساليبها وإتقان التعامل بذلك. وهي لدى الإداري حسن تصريف الأمور. وهي لدى القيادة السياسية حسن التخطيط والتنفيذ في الداخل والخارج- وهي لدى الأمة إدراك معنى وجودها وإجادة تنظيم هذا الوجود ووضعه برمته ومقدراته في خدمة الرسالة الإسلامية وبالتالي فالحكمة هي فهم كل فرد أو جماعة في الأمة لدوره وإتقان أداء هذا الدور طبقا لمقاييس الإسلام ومنطلقاته" [12] .
ودور التربية أنها هي التي تبصر بالحقائق المتعلقة بوجودها ورسالتهم وهي التي تربي فيهم البصيرة والحكمة وتدعوهم بهما: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات/6) وإذا كان البصر مجاله الإدراك- المادي للأشياء فإن البصيرة تمثل الإدراك القلبي للأشياء: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (النحل/46) .(22/11)
وذلك لأن البخل وعدم الإنفاق من طبائع النفوس كما أن الغضب وحب الانتقام كذلك، ولذلك جعل الرسول القوي من الرجال الذي يملك نفسه عند الغضب والأحاديث كثيرة في فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكل والمشرب وغيرها وكلها تؤدي إلى تقوية الإرادة في جانب التغلب على شهوات البطن والفرج فالرسول عليه الصلاة والسلام وآله لم يشبعوا من خبز شعير يومين متتابعين حتى مات كما روت عائشة. ولأن الإنفاق عامل من عوامل تقوية الإرادة وعقاب النفس قرر الإسلام الزكاة في مقادير معلومة من المال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة/103) ، وجعل المال كفارة لكثير من- الكفارات كما حث على الإنفاق تفضلاً وتدريباً للإرادة المتغلبة على غرائز النفس حباً للخير، ومحاربة للرذائل وإيثاراً للغير على النفس لأن تكاليف الإسلام كلها لا يقوم بها إلا شخص قويت إرادته وعزيمته بحيث يبدأ من التكاليف التي تحتاج إلى جهد بسيط لتتدرج في الوصول إلى التكاليف التي تحتاج إلى تضحية بالنفس والمال والحياة كلها في سبيل الله.
3- الصبر:(22/12)
الصبر وسيلة كبرى من وسائل تربية الإرادة وتقويتها وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في ذلك منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران200) ، وعن الآية يقول الحسن البصري "أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم"، وهذا من الصبر على الطاعات وعلى الصلاة، والتكاليف كما أن الصبر يكون على البلاء [13] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة/155) ، و {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر/10) ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (محمد/31) ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" [14] ، والصبر من أنواع البر التي ذكرها الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (البقرة/77) ولأن الصبر يقوي الإرادة.
قال الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى/43) ، والله مع الصابرين: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة/153) ، والصدقة برهان والصبر ضياء ولا يكون الصبر إلا بمجاهدة النفس وأخذها على التحمل وطلب العون عليه من الله سبحانه وتعالى لأن: "من يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام.(22/13)
وتارة يستخدم العبوس، أو ما يستدعيه التأنيب، وتارة يكون المديح والتشجيع أجدى من التأنيب، وذلك وفق كل حالة خاصة، ولكن إذا أصبح من الضروري الالتجاء إلى الضرب، ينبغي ألا يتردد المربي على أن تكون الضربات الأولى موجعة فإن الصبي يعد الضربات كلها هينة، وينظر إلى العقاب نظرة استخفاف، ولكن الالتجاء إلى الضرب لا يكون إلا بعد التهديد والوعيد، وتوسط الشفعاء لأحداث الأثر المطلوب في نفس الطفل [15] .
فالمثوبة والعقوبة وسيلتان ناجحتان في تكوين عاطفة الرغبة والرهبة إزاء الفضائل والرذائل سواء أكانت المثوبة والعقوبة ماديتين أو أدبيتين كما أن الترغيب والترهيب وسيلتان تربويتان تدفعان الفرد إلى أنماط من السلوك اعتمد عليها القرآن والسنة في دفع الناس إلى تطبيق كثير من التعاليم الإسلامية. ولذلك دعا الإسلام إلى تخير الصحبة والإكثار من ذكر الله والعبادات بأنواعها لما لها من نتائج ترغب في ممارستها وحذر من المعصية والبعد عن الله لما لها من نتائج ترهب الممارس لها، والترغيب والترهيب من المراحل الأولية في تزكية النفس وتهذيبها إذ الخوف من المعصية بما يترتب عليها من عذاب وعقاب من الله تكون البداية ثم تتعود النفس عن طريق الممارسة حتى تصل إلى درجة الابتعاد من المعصية لقبحها كما أن حب الفضيلة والاستقامة والطاعة تكون لما يترتب عليها من جزاء حسن ومثوبة عند الله تعالى حتى يصل المرء إلى درجة الإحسان وحب الفضائل لذاتها ومثل هذا يصل إلى درجة من يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
4- الموعظة الحسنة:(22/14)
للموعظة الحسنة تأثير عاطفي كبير في الإنسان لما لها من نفاذ إلى القلوب واصغاء من الوجدان وسيطرة على المشاعر خاصة إذ كانت في بيئة صالحة وقدوة محترمة معايشة، ولما للموعظة من أثر فإن القرآن اتخذها أسلوباً في مخاطبة الكبار والصغار، أما الصغار فلأن الموعظة تجد عندهم انتباهاً وتركيزاً واهتماماً خاصةً إذا ربطت بالترغيب والترهيب ويمكن للمعلمين أن يكونوا البصائر بما وجه إليه القرآن من التعود على التأمل والتفكير والتدبر والتعقل في آيات الله حتى يكون التمسك بالمبادئ والتعاليم التي فيها عن اقتناع ومعرفة تؤديان إلى اطمئنان القلوب وخوفها وخشوع الجوارح وانقيادها، والآيات التي تحض على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج/46) ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} (آل عمران/191،190) ، والقلوب التي لا تعرف الحق بالتأمل والتدبر هي التي لا تعقل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد/24) .(22/15)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (ص/29) أما الذين لا يتدبرون ولا يتأملون وينصرفون عن وسائل الحق فهم كما حكى الله عنهم: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} (الأنعام/25) وعدم التعقل والتدبر والاستماع إلى الحق يؤدي بالمشركين إلى النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك/10) ، أما الذين يترفعون عن فهم آيات الله وينصرفون عن الحق ويكذبون فإن الله أيضا صارفهم عن الحق: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف/146) ، وبتكون البصيرة والحكمة في الإنسان يتعرف على الحق الذي أوجد الله سبحانه به الوجود وخلق به السموات والأرض لأن معرفة الحق هي التي تدفع إلى التمسك به وبناء الحياة عليه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِ} (الحجر/85) ، والآيات بهذا المعنى والتعبير في القرآن كثيرة وعلى معرفة الحق تترتب نتائج معرفة خلق الإنسان والوجود والمصير لقيام ذلك كله على الحق الذي نزل يه القرآن: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء/105) ، وكما أن البصائر نتائج للتفكير في عواقب الأفعال من المعاصي وما يترتب على الرذائل من هلاك للأفراد والأمم والحضارات فالله يخبرنا بأن المعاصي هي التي تسببت في ضياع أمم وحضارات سابقة فيقول: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا(22/16)
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} (الأنعام/6) ، ويقول: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس/13) ، كما أن المقارنة الدائمة بين الخير والشر والخبيث والطيب والصواب والخطأ يساعد على تكوين البصيرة في الإنسان ولذلك نجد القرآن يكثر من المقارنات:
يبين المواقف والأشياء، ويدعو القرآن أيضاً إلى استعمال العقل في قياس الأمور لأن ذلك من دلائل البصيرة، وقد تميز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة التي رباهم عليها مما جعل القياس عند المسلمين مصدراً من مصادر الشريعة بعد القرآن والسنة والإجماع ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مارس ذلك مع أصحابه فيما عهد إليهم من مهام ولا يجدون فيها نصاً من كتاب الله لما كان للقياس تلك الأهمية مثل ما فعل سيدنا عمر في حد شارب الخمر عندما استشار فأفتاه سيدنا علي بالجلد ثمانين جلدة قياساً على حد القاذف لأنه إذا شرب سكر فهذي فافترى وحد المفتري القاذف ثمانون جلدة ومثل هذا كثير عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تميزوا به من نفاذ البصيرة والحكمة.
والتعود على الحقائق وممارستها من عوامل تكوين البصائر لأن الحقيقة تدل على جانب الخير في الفعل وجانب الشر فيه فيكون القرب والبعد مبنيان على معرفة حقيقة الخير وفائدته سوء الشر وضرره ولا يستوي العالم والجاهل.(22/17)
إن المربي يستطيع بإخلاصه وإدراكه للوسائل المتعددة لتكوين البصيرة والحكمة وممارسته لهما أن يساعد على بناء جيل راجح العقل حكيم متبصر متفتح يزن الأمور بميزان العقل والبصيرة لهم قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها وأبصار ينظرون بها وبصائر يعرفون بها لأن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا.
5- تكوين الإرادة:
الإرادة قوة من القوى المحركة للإنسان مرتبطة بالتصميم والعزم على فعل الشيء فعنها تصدر الأعمال الإرادية للإنسان، ويرى البعض أن الإرادة ميل النفس إلى شيء ما وحملها على فعله ولكن الفرق واضح بين الميل والإرادة لأنه قد يوجد الميل ولا توجد الإرادة، والإرادة تشمل الميل والشعور والعزم ثم العمل، والإرادة هي القوى المحركة لملكات الإنسان والدافعة لها إلى العمل وللإرادة نوعان من العمل، فقد تكون دافعة للعمل وقد تكون مانعة تمنع الإنسان من القول والفعل وأعمال الخير والشر في الإنسان منبعها إرادته ولارتباط الإرادة بالخلق: "عرف بعضهم الخلق بأنه "عادة إرادة"يعني أن الإرادة إذا اعتادت شيئا فعادتها هي المسماة بالخلق فإذا اعتادت الإرادة العزم على الإعطاء سميت عادة إرادة هذه خلق الكرم وقريب من هذا التعريف قول بعضهم هو تغلب ميل من الميول على الإنسان باستمرار" [16] .
والإرادة لها صلة قوية بالميول والبواعث والغايات والرغبات لأنها دوافع إلى العمل ولأنها تجتمع مع الإرادة في جانب وتختلف في أخرى وقد ربطت التربية الإسلامية بين النية والإرادة باعتبارها العزم على فعل الشيء والقصد التصميم القلبي عليه ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" [17] .(22/18)
والإرادة لابد أن تكون قوية دائمة بحيث تنفذ الأشياء التي يريدها مهما كلفها ذلك من متاعب ومشاق ومهما وضعت أمامها العقبات والصعوبات ومثل هذه الإرادة لا تقوى إلا إذا اعتمدت على عقيدة راسخة ثابتة لأن الإرادة المبنية على العقيدة السليمة هي القوى المحركة للسلوك الناتج عنها كما أن التدريب على الفضائل ومعرفة قيمتها وممارستها وترك الرذائل ونبذها من مقويات الإرادة، قد تضعف الإرادة أمام الشهوات وأهواء النفس والمغريات تفقد قوة الصمود أمامها تستسلم فتقع في المحظور وقد تكون الإرادة قوية ولكنها مريضة أيضا لأن قوتها في الجانب السلبي جانب الشر، وتوجيه هذه القوى والطاقة في الإجرام والانحراف والشذوذ.
وسائل تكوين الإرادة الخيرة وتقويتها:
1- المران على فعل الخير وإلزام النفس بالأعمال التي تتطلب مشقة ومجاهدة للنفس لأن توفيق الله الإنسان مرتبط بتلك المجاهدة فالله سبحانه يقول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت/69) ، وفي الحديث: "حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره" ورواية مسلم (حفت) بدل (حجبت) أي بينه وبينها هذا الحجاب فإذا فعله دخلها" [18] .
ومن المران الواجب لتقوية الإرادة صوم رمضان كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصوم تطوعا ودعا الشباب إلى الصوم في سبيل التغلب على قوة الطاقة الجنسية، ولأن الإسراف في هذه الوسيلة قد يؤدي إلى نتائج عكسية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم منع مواصلة الصوم ونهى عن التبتل ودعا إلى بذل الجهد على قدر الطاقة.(22/19)
2- المران على التغلب على الغرائز الفطرية في الإنسان وإخضاعها لقيود الدين والعقل والأخلاق والقواعد الصحية التي تكون المصلحة في إشباعها وإعطاء الجسم حقه بالطرق المشروعة وعدم ترك النفس على هواها والله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران/134) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير ج 2 ص 51، الإسراء 57.
[2] رواه البخاري- رياض الصالحين ص 186.
[3] رواه بخاري ومسلم.
[4] الابراشي التربية الإسلامية ص 230.
[5] رواه الترمذي.
[6] الإحياء ج 3 ص 73.
[7] د. مصطفى فهمي –الحصة النفسية ص 348.
[8] محمد قطب منهج التربية الإسلامية ص 229.
[9] الإحياء ج 3/63.
[10] يراجع كتاب عبد الله علوان: تربية الأولاد في الإسلام ص 73 وما بعدها.
[11] يراجع محمد قطب -منهج التربية الإسلامية ص 236.
[12] ماجد الكيلاني النظرية التربوية الإسلامية ص 51.
[13] ابن كثير ج 1 ص 444.
[14] رواه مسلم.
[15] نقلا عن الأبراشي التربية الإسلامية ص 233.
[16] أحمد أمين كتاب الأخلاق ص 63.
[17] رواه البخاري ومسلم.
[18] متفق عليه رياض الصالحين ص 61.(22/20)
أساليب الدعوة إلى الله تعالى - القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور: أبو المجد سيد نوفل
أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة
(الحلقة الأولى)
مقدمة:
لكل دعوة جانبان، جانب المعاني والمضامين، وهو الذي يشمل قضايا الدعوة ومبادئها وأهدافها.. وجانب الأساليب والعبارات، وهو الذي تصاغ فيه هذه المعاني ...
ولكل من الجانبين خصائصه التي تميزه عن الآخر. فمن خصائص الدعوة الإسلامية مثلاً صدقها، وشمولها، وحيويتها ... ومن خصائص أساليبها، الوضوح والبيان، والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن....
ولقد عني العلماء بدراسة أساليب الدعوة، ومن هذه الدراسة تقسيمهم هذه الأساليب إلى خبرية، وإنشائية، وجدلية، وبراهينية، وقصصية.. إلى آخر هذه التقسيمات التي حفلت بها كتبهم قديماً وحديثاً. وهي تقسيمات تدور حول الألفاظ، والجمل، والتراكيب اللغوية والأدبية.
ونستطيع هنا أن نضيف تقسيماً آخر لهذه الأساليب، وهو يدور حول المعنى والمضمون الديني فإذا اشتمل الأسلوب على معنى من معاني الإيمان مثلاً فهو أسلوب إيماني، وإذا دار حول معنى عبادة من العبادات يبين أمرها، وحكمها.. فهو أسلوب عبادي. وإذا اشتمل على أحكام تشريعية أو خلقية، أو جهادية.. فهو أسلوب تشريعي، أو خلقي أو جهادي ...
وهكذا تظهر لنا أساليب عقائدية، وعبادية، وتشريعية في حقل الدعوة وأساليبها. على أن كلاً من هذه الأساليب سيظهر في صور متعددة، وفنون مختلفة، كفنون القصة والمثل، والمجادلة وما إليها من الأساليب التي أشرنا إليها قبلاً.
وفي هذا النهج محاولة لضبط أساليبها، وتوضيح معانيها وتكاملها.
2- ما هو أسلوب الدعوة؟
والمراد بأسلوب الدعوة هنا ما بلغت به أوامر الله تعالى وإرشاداته إلى المدعوين وهو لا يخرج عما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.(22/21)
وهو يجمع على "أساليب"وهو الطريق، والوجه، والمذهب، ... وهو الفن: يقال: أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه [1] .
وله تعاريف منها: أنه كلمات مناسبة في مواضع مناسبة. أو هو الفن البياني الذي غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة وإبداع الصورة وجمالها [2] .
ومنها: أنه الكلام الحسن الذي يصفه بعض علماء البيان بقوله: "يحسن بسلامته وسهولته وفصاحته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه، وتشبه أعجازه بهوادبه، وموافقة مآخيره لمباديه ... " [3] .
هذه هي صفات الكلام الحسن. أما الكلام الأحسن فهو كلام الله نعالى الذي وصفه الله تعالى بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر آية 23) .
ولقد أخذت هذه الأساليب بنفوس الكفرة، وهم أرباب القول، وفحول البيان، فأعجبوا بها، وافتتنوا بجمالها، وشهدوا لها رغم عداوتهم للإسلام وبقائهم على الشرك. روي أن الوليد قال لبني مخزوم: "والله لقد سمعت من محمد -صلى الله عليه وسلم- آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى" [4] .
3- خصائص هذه الأساليب:
وأساليب الدعوة جزء من الدعوة، والدعوة هي القرآن الكريم. ومن هنا فهي متعبد بتلاوتها والتدبر فيها: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ... } (محمد آية 24) .(22/22)
- وقد تعهد الله تعالى بحفظها، وجمعها، وبيانها: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة آية 16-19) .
- وما دامت من عند الله تعالى فليس فيها تبديل ولا تحريف، وليس لأجد ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أن يغير فيها أو يبدل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة آية 16-19) .
- وهي من عند الله تعالى بلفظها ومعناها باللغة العربية: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء آية 192-195) .
ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدى أمة البيان والبلاغة والإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن فعجزوا، ثم طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فثبت أنه كلام الله لا كلام غيره: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة آية 23-24) .(22/23)
ولقد ظلت هذه الأساليب تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعاً، وعلى مدى ثلاثاً وعشرين سنة حتى اكتمل نزول القرآن، وهو الموجود الآن في المصاحف والمحفوظ في الصدور. وهي على هذه الكثرة الكثيرة من السور والآيات البينات [5] لم يحصل فيها تناقض واحد، ولا غلط واحد.. وظلت كذلك حتى اليوم وبعد أربعة عشر قرناً هي هي سليمة من أي تبديل أو تحريف.. وذلك بعكس أساليب اليهودية والنصرانية [6] .
وأساليب الدعوة في القرآن على تعدد صورها وألوانها ... لم تصطدم مع العلم قديمه وحديثه، العلم الصحيح القائم على المنطق السليم، وأن ما في أحدث نظريات العلم من حقائق عن الكون ومظاهر الحياة المادية والإنسان، والحيوان، والنبات ... لا يتناقض مع ما في القرآن الكريم من أساليب، بل هذه الأساليب. بمعانيها العميقة لا زالت ولن تزال تؤيد العلم في اتجاهاته السليمة، واكتشافاته لمظاهر الكون لمعرفة أسراره، وذلك بعكس الأديان الأخرى التي عاشت في صراع مرير مع العلم حتى الآن [7] .
وهذه الأساليب فضلا عن تأديتها مهام العبادات والتكاليف والأحكام الشرعية ... هي أساليب جمالية ونصوص أدبية امتاعية، تقوم اللسان، وتعلم البيان، وترقق المشاعر.. وكلما قرئت اطمأنت بها النفوس، واقشعرت منها الجلود خشية لله وخضوعا لعظمته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد/28) ، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... } (الزمر/23) .
ومن مقومات هذه الأساليب أنها قامت على الحق: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... } (السجدة/2) . وعلى الصدق": {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (النساء/122) .(22/24)
وعلى الوضوح والإبانة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء/174) . وعلى اليسر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر/17) .
وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (النحل/125) .
وهي أساليب لا باطل فيها: { ... لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ... } (فصلت/42) . ولا كذب: { ... مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ... } (يوسف/111) .
ولا عسر ولا حرج: { ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ... } (الحج/78) .
ولا لغو ولا لهو.. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... } (الأنبياء/16-18) .. ولا خيال، وهو ما يقوم عليه شعر الشعراء، وفن الأدباء، وغيرهما مما يبعد عن الحقيقة ويضرب في أودية الوهم والخرافة.. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ... } (الشعراء آية 224-227) .(22/25)
ولن يدخل في هذا الخيال ما اشتملت عليه هذه الأساليب من تشبيهات وتراكيب بلاغية لأن هذه وإن احتوت على ضروب من التصويرات فإنما هي لتقريب المعنى وإبرازه في صورة المحسوس، وكشفه، وتوضيحه وإظهار الحقيقة دون زيادة أو نقصان ودون أي معنى خرافي أو أسطوري. لأن كلام الله عز وجل متنزه عن ذلك {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان آية 5-6) . وهي أساليب هداية حقيقية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى المثل العليا والحياة الطيبة في أسمى صورها وغاياتها، إنها شفاء للناس، ورحمة للعالمين. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... } (الإسراء آية 9) . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ..} (الإسراء آية 82) .
وليست كأساليب المنافقين، والمبشرين، والمستشرقين.. التي تقدم للناس في صور ظاهرها فيه رحمة وباطنها من قبله العذاب، ظاهرها تعليم، وتطبيب، وبر وإحسان، وباطنها هدم، وكيد، وحرب للإسلام، وليست كأساليب الشيوعية والاستعمار، تنادي بالحريات، وتدافع عن الفقراء وتشيد بالإنسان وتخفي وراءها الدمار والغصب، وسفك الدماء، واحتلال الأوطان، ونهب خيراتها والقضاء على معتقداتها، ومسخ الإنسان آلة لا إرادة لها، وتحقيره، ووأد حريته ... ليعيش عيشة الذل والفقر والهمجية.(22/26)
- وأساليب الدعوة الإسلامية أساليب أدب وعفة.. ليس فيها ما يخدش الحياء أو ينافي الفضيلة، أو يساعد على تحريك الغرائز الحيوانية الممقوتة في الإنسان. وإذا تعرضت هذه الأساليب إلى تصوير بعض المواقف التي تلعب فيها الغريزة الحيوانية بعض أدوارها لإظهار الصراع بين الخير والشر للعظة والتبصرة ... فإنها سرعان ما تسد النوافذ التي قد تطل منها تخيلات دنيا، فنراها تنتقل بالنفس على الفور إلى آفاق من السمو والرفعة، وتفتح لها طاقات من النور والروحانية ... يتلاشى معها ما قد يكون علق بالنفس من شوائب تلك التخيلات، ففي قصة يوسف عليه السلام هذا الموقف الذي تصوره هذه الآية {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف آية 23) . فهنا تشتمل الآية على عدد من الجمل، نصفها الأول جاء لتصوير موقف امرأة العزيز من يوسف عليه السلام حيث تراوده عن نفسها {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، وتسد عليه النوافذ كيلا يهرب منها {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} وتأمره صراحة بفعل الحرام {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وذكر هذه الأمور قد يفتح باب النفس البشرية أودية من التصورات مما يتوجب على الأسلوب الحكيم أن يطمس هذه التصورات، ويسد هذه الأودية حتى لا تؤثر في النفس أثرها السيئ. وهذا هو ما صنعه القرآن الكريم حيث سارع بإيراد موقف يوسف بعد إيراده موقف امرأة العزيز بدون فصل، وفي آية واحدة، في هذه الجمل الثلاث التي تحمل معاني الخشية من الله، والأمانة على العرض، والحذر من الهلاك ... وهي قيم رفيعة، ومثل عليا، وروحانية صافية من شأنها أن تنتقل بالنفس من مواقف المادية والجنسية والمراودة.. إلى آفاق الروحية، والطهر والعفة.. واستشعار النفس للإحاطة الإلهية والمراقبة الربانية(22/27)
والتخوف من الذي لا يغفل عن ظلم الظالمين ولا ينام عن عقاب المعتدين {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
وهكذا إذا أراد القرآن معالجة مشكلة من المشاكل المتصلة بالإنسان من حيث جانبه الحيواني نراه يبتعد كل الابتعاد عن الخوض في التصورات الجنسية، والإيحاءات النفسية الشريرة، ويوصد الأبواب في وجه الوسواس الخناس {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (الناس آية 5) ، وينأى عن العبارات الفاضحة، والألفاظ الخادشة للحياء، والمثيرة للبهيمية في الإنسان {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل آية 9) .
وذلك بعكس أساليب الكتب التي يزعم أصحابها أنها مقدسة، وأنها متصلة بالوحي، إذ أن أساليب هذه الكتب تنطق صراحةً لا ضمناً بألفاظ الفحش، والغزل القبيح، وعبارات الجنس المرذول، وتفتح كل منافذ التصورات الدنيئة والتخيلات السوداء المثيرة للغرائز البهيمية في الإنسان.
وأسوق بعض الأمثلة على ذلك وهي قليل من كثير فيما يلي:
جاء في سفر "نشيد الأنشاد"لسليمان، والمسجل في العهد القديم، وهو الذي يطلق عليه اليهود والنصارى التوراة ويعدونه كتاباً مقدساً ما يلي:
"لقد شبهتك يا حبيبتي بغرس في مركبات فرعون. ما أجمل خديك.. وعنقك""الإصحاح الأول".
"حبيبي بين ثديي يبيت.. ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان""الإصحاح الأول".
"كذلك حبيبي، شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني ... " "الإصحاح الثاني".
"ها أنت جميلة يا حبيبتي، فمك حلو، خدك كفلقة رمانة ... ""الإصحاح الرابع".(22/28)
"صوت حبيبي قارعا افتحي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي قد خلعت ثوبي كيف ألبسه قد غسلت رجلي فكيف أوسخها.. حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي، حبيبي بطنه عاج.. ساقاه عمود رخام.. حلقه حلاوة، وكله مشتهيات..""الإصحاح الخامس".
وهكذا. كتاب ديني، مقدس عند اليهود والنصارى، وهو المرجع الأساسي للديانتين معاً، يقوم على أشعار، وإصحاحات، وعبارات.. من هذا النمط الرخيص المتقدم!!! غزل فاضح، وعبارات مستهجنة، وتصورات جنسية سافلة ... !!!
فهل بعد هذا يتعجب متعجي من الدعوة اليهودية إلى التحلل، والإباحية، ونشر الدعارة والفسوق، وإذاعة الرذيلة.. في العالم كله.. على يد كتابهم ومؤلفيهم ورؤسائهم وفلاسفتهم.. وعلى يد فرويد.. وغير فرويد!!!
ومن تحلل في أوربا وأمريكا، وسائر المجتمعات التي تدين بالمسيحية.. ولا تجد غضاضة في إظهار عورات النساء أمام الأجانب، والعلاقات الحرام بين الأنثى والذكر.. والسقوط الخلقي السافر الذي يسود هذه المجتمعات الآثمة الضالة؟؟؟!!!
إن القوم يخلصون لكتابهم، ويحكمون شريعتهم فيما بينهم، وينشرونها على الناس!!!! ولكن: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
إن أساليب الوحي السماوي تفيض حياءً، وأدباً، وعفة.. في ألفاظها، وعباراتها ومعانيها. وهي نور وهداية إلى الخير والفضيلة ... ولا صلة لها البتة بالتغزل في أفواه النساء، وخدودهم وبطونهن، وحلوقهن، وسيقانهن، وشهواتهن ... على الوجه الحرام الذي يخدش الحياء، ويزري بالفضيلة ويهدم البناء الخلقي الصالح إلى آخر ما جاءت به أساليب اليهودية والنصرانية معاً!!!
4- الأساليب العقائدية ومنهج القرآن في تقريرها:(22/29)
ونأخذ الآن في أساليب الدعوة في القرآن الكريم بادئين بالأساليب العقائدية فنقول: لقد بدأ ت الدعوة إلى الله تعالى في المرحلة المكية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى العقيدة الإسلامية وتقريرها، وتثبيتها في القلوب، واستمرت على هذا النحو طوال هذه المرحلة، والمرحلة التالية وهي المرحلة المدنية، وستظل كذلك إلى ما شاء الله تعالى.
ولا بدع في ذلك: إذ أن البدء بغرس العقيدة في النفس كالبدء بغرس الحبة في الأرض، وهو أول عمل يقوم به من يريد أن يحصد الزرع المثمر. ولا ريب أن ثمار العقيدة هي الأخلاق وتكوين حماة الدعوة وأبطالها، وتربية جنود الإسلام على الصبر والثبات، والتضحية، والصدق والجهاد في الله حق جهاده، لنشر راية الإسلام والدفاع عنها.
وهذا هو ما حدث في الماضي البعيد، على يد الأنبياء والرسل والهداة.. وفي الماضي القريب على يدي النبي الخاتم صلوات الله عليه وسلامه، ويحدث في مختلف مراحل التاريخ على يد دعاة الإسلام الذين لا يبدؤون دعواتهم إلا بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والوثنية في شتى صورها. وهذه هي الدعوات الناجحة التي تستقيم بعدها أحوال العباد.
ولقد شبه القرآن الكريم تمكن (لا إله إلا الله) من قلب المسلم، وإثمارها الفضائل والعمل الطيب.. في سائر الأوقات ما دامت على هذا النحو. بالشجرة الطيبة الثابتة الجذور فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم آية 24-25) .(22/30)
ولعظيم شأن العقيدة في النفوس، وما يترتب عليها من آثار خطيرة في سائر حياة الإنسان.. فلقد استحوذت أساليبها على نصيب كبير في القرآن الكريم، بل كادت أن تكون كله، إذ أنه ما من جزء أو سورة، أو آية خلت من الدعوة إلى العقيدة صراحةً أو ضمناً.
ولقد جاءت هذه الأساليب متنوعة، وبهذه الكثرة.. لتقرير العقيدة وتثبيتها ... من ناحية وبيان أهدافها وأغراضها وآثارها من ناحية أخرى. واتخذ القرآن لبيان ذلك طريقين:
أحدهما: إيجابي، وهو يتمثل في بيان العقيدة الصحيحة، وتفصيل عناصرها، والاستدلالات عليها وبيان آثارها، وصفات أهلها ...
وثانيهما: سلبي، ويتمثل في بيان العقائد الفاسدة، وأنواعها، والاستدلال على فسادها وبيان آثارها، وما يتصف به أهلها ...
ومن هنا نستطيع القول بأن منهاج عرض العقيدة الإسلامية في القرآن إنما هو منهج كامل واضح، وذلك بتجلية العقيدة بالطريق الإيجابي المتمثل في بيانها وتفصيل أمرها.. ثم بإيراد ما يضادها من العقائد الأخرى الفاسدة، والقرآن بهذا يضع الحقيقتين المتضادتين بجانب بعضهما، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويتضح الليل من النهار، والعمي من الإبصار.. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..} (الأنفال آية 42) .
وبضدها تتميز الأشياء وهكذا لم يعد هنا عذر لمعتذر، ولا ريبة لمرتاب، إلا من ختم الله على قلبه وجعل الغشاوة على سمعه وبصره.
ولنضرب بعض الأمثال على ما ذكرنا فيما يلي:
فمن الطريق الأول: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... } (البقرة آية 285) .(22/31)
وقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ آية 17-23) .
وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر آية 49) .
وهو لبيان العقيدة، وبيان عناصرها، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره.
وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر آية 22-24) .
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص) . وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) .
وهو لبيان بعض صفاته تعالى، وعلى رأسها الوحدانية، وأنه عز وجل له الأسماء الحسنى وليس كمثله شيء، و: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس آية 82) . وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} (المؤمنون آية 91) .(22/32)
وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ... } (يس آية 78-79) .
وهو للاستدلال على الوحدانية والبعث.
وقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة آية 1-5) .
وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ... } (التوبة آية 71) .
وهو لبيان صفات أهل هذه العقيدة، فهم المهتدون بالقرآن، المتقون لربهم، المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بكل ما أنزل الله، والعاملون للآخرة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمطيعون لله ورسوله.
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ... } (النور آية 55) .(22/33)
وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ... } (نوح آية 9-12) .
وهو لبيان أثر العقيدة في الدنيا، من الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، والقوة والأمن..
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء آية 101-103) .
وهو لبيان أثر العقيدة في الآخرة، فالمؤمنون مبعدون عن النار، خالدون في النعيم مستمتعون بما تشتهيه أنفسهم، لا يعتريهم ألم ولا حزن، وهم في جنات عدن ورضوان من الله أكبر.
ومن الطريق الثاني: قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} (الرعد آية 14) .
وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام آية 100) .
وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت آية 41) .(22/34)
فالمشركون بالله غيره من الأصنام، والأوثان، والجن، والناس، وغيرهم ... على ضلال وعمى، وجهل وغباء.. إذ أنهم يعبدون مالا قدرة له على عمل أي شيء إذ أنه فاقد القدرة والاستطاعة. فأنىّ له ذلك وهو الضعيف الذي لا يمد معبوده بأي نفع، ومن ابتغى نفعاً عند غير الله فكمن يضع كفيه في الماء لتحملا الماء ليشرب. لكن أنىّ له ذلك ويداه مبسوطتان فهيهات هيهات أن يحملا له ماء أو يذهبا عنه ظمأ، وهو كمثل من يحتمي بالضعيف الواهن الذي لا قدرة له على شيء أصلا.
وهو لبيان بعض العقائد الفاسدة وهو الشرك، والاستدلال على فساده وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة آية 30-31) .
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة آية 73) .
وهو لبيان بعض عقائد أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين ينسبون الولد لله سبحانه وتعالى، ويتخذون الإنسان ولياً ورباً، ويعبدون مع الله آلهةً أخرى وهاهم النصارى يكفرون بالله ويقولون عنه أنه ثالث ثلاثة. مع أن الجميع مأمورون بعبادة الإله الواحد، وقد أنذروا من الانحراف عنها.(22/35)
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة آية 204-206) .
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ..} (البقرة آية 8-10) .
وهو لبيان عقيدة النفاق التي تجعل صاحبها يظهر مالا يبطن، وظاهره حسن، وباطنه سوء، ظاهره الإسلام وباطنه الكفر، يسعى في الأرض فساداً ويهلك الحرث والنسل كدأبه في الحياة، يحسب نفسه على كل شيء لكنه مخدوع مريض فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... } (البقرة آية 6-7) .
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة آية 96) .(22/36)
وقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة آية 78-79) .
وقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة آية 67) .
وهو لبيان بعض صفات المشركين الذين قست قلوبهم وصمت عن سماع الحق، وبعض صفات أهل الكتاب من اليهود الذين يعبدون المادة ويحرصون على المال بل هم أحرص الناس على حياة ولهذا فهم يكرهون الموت خوفاً من العذاب ولكن هيهات. وبعض صفات المنافقين الذين يسعون في الأرض فساداً حيث ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر ويدعون إلى الباطل.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور آية 39-40) .(22/37)
وقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران آية 112) .
وقوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة آية 55) .
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة آية 107) .
وهو لبيان آثار العقائد الفاسدة، فالكفار لا وزن لأعمالهم، ولو عملوا خيراً فلا اعتداد به، وهم في ضلال وعمىً لأنهم عبدوا غير الله.
أما اليهود فهم الأذلاء ولو كان معهم أقوى الناس، والله لا يمدهم بصره ولو ملكوا كل أسباب القوة المادية، وهم العصاة الفسقة الذين باءوا يغضب من الله.
وكذلك المنافقون، يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم بسبب نفاقهم وسعيهم بين الناس بالفساد، وهم الكاذبون في أعمالهم ولو كان منها بناء المساجد لأنهم يتخذونها رياءً وسمعةً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله.
وهذه آثار العقائد الفاسدة في الدنيا، أما آثارها في الآخرة ففي قوله تعالى:(22/38)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأنعام آية 179) .
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (المائدة آية 36-37) .
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (النساء آية 145) .
وهكذا يسير القرآن الكريم في عرض منهج العقيدة، داعياً إلى التوحيد، وناهياً عن الشرك والعقائد الفاسدة، ومبيناً آثار كل منها ليتميز الخبيث من الطيب، وتتضح الحقائق كاملة لا شائبة فيها.
(يتبع)
قَالَ أَحَدُ الحُكَمَاءِ:
النَّاسُ ثَلاَثُ طَبَقَاتٍ، تَسُوسُهُمْ ثَلاَثُ سِيَاسَات:
.. طَبَقَةٌ مِنْ خَاصَّةِ الأَخْيَارِ تَسُوسُهُم بِالعَطْفِ وَاللِّينِ وَالإِحْسَانِ.
.. وَطَبَقَةٌ مِنْ خَاصَّةِ الأَشْرَارَ تَسُوسُهُم بِالغِلْظَةِ وَالعُنْفِ وَالشِّدَّةِ.
.. وَطَبَقَةٌ مِنْ العَامَّة تَسُوسُهُم بِاللِّينِ وَالشِّدَّةِ لِئَلاَّ تُخْرِجُهُمْ الشِّدَّةِ وَيُبْطِرُهُمْ اللِّينِ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لسان العرب.
[2] وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي.
[3] الصناعتين لأبي هلال العسكري.
[4] ابن هشام جـ1.(22/39)
[5] أحصى بعض العلماء آيات القرآن الكريم فوجدها أكثر من ستة آلاف آية. انظر: الإتقان في علوم القرآن جزء 1 ص 88 طبعة رابعة.
[6] أثبتت الأبحاث الدينية أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل. وأن التوراة الموجودة أو العهد القديم معظمها مجهودات بشرية، وأن أناجيل النصارى المعتمدة عندهم الآن لا تخرج عن إنجيل مترجم جهل الأصل المترجم منه كإنجيل متى أو عن إنجيل جهل كاتبه ولم يعرف على وجه اليقين. ومن هنا فهي كتب لا علاقة لها بالوحي، ومن ثم فقد وقع فيها التضارب والاختلاف. وقد أحصى بعض الباحثين الاختلافات في العهدين القديم والجديد وذكر منها مائة وعشرين اختلافاً، كما أحصى الأغلاط وذكر منها مائة وعشرة من الأغلاط وأتى باستشهادات على التحريفات اللفظية ذكر منها خمسة وثلاثين شاهداً، وعلى التحريفات بالزيادة وذكر منها خمسة وأربعين شاهداً، وعلى التحريفات بالنقصان وذكر منها عشرين شاهداً، ثم ذكر كثيراً من المغالاطات التي امتلأت بها هذه الكتب وذلك بالأدلة التي لا مجال فيها للطعن، انظر: إظهار الحق لرحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الجزء الأول.
[7] فالكنسية النصرانية تقول أن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق. م، وظلت تقول بهذا القول حتى مطلع القرن الماضي. ولقد أعلن مجلس كنسي في بداية القرن العاشر الميلادي أنه القرن الأخير وأن العالم سينتهي بانتهائه لأن الله جعل المدة بين إنزال ابنه تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ونهاية العالم بعد ألف سنة فقط –انظر قصة الحضارة ج 14 ولديورانت.
ولقد انتهى القرن العاشر الميلادي ولم ينتهي العالم كما قالت الكنيسة، ومر بعده تسعة قرون ولازال العالم باقيا. ونهايته عند خالقه وصانعه {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة ... } .(22/40)
ندوة الخرطوم
في الأشهر القليلة الماضية عقدت ندوة في الخرطوم عاصمة السودان بين علماء من المسلمين ومجموعة من القسس بلغوا اثني عشر قسيساً شرح الله صدورهم للإسلام. وقد عولجت في هذه الندوة قضايا في منتهى الخطورة كانت تحوم عليها شبهات أزالها بفضل الله علماء المسلمين وسوف تنشر -بحول الله وقوته- ما دار في هذه الندوة على حلقات متتابعة، ونبدأ ذلك فيما يلي:
الحلقة الأولى
وبعد ...
إخوتي الأفاضل ... مستمعي الأعزاء
فإنه ليسعدني ويسعدكم أيضاً مثل هذا اللقاء الذي يتم وتم بناء على طلب مقدم من السيد (جيمس بخيت سليمان) موجه لرئيس وأعضاء هيئة النشاط الإسلامي بالسودان، وللملحق الديني بالسفارة العربية السعودية بالخرطوم أيضاً.
وإنه ليسعدنا جميعاً أن يكون مثل هذا اللقاء عن الإخاء والمحبة لنعرف الحقيقة ولنعرف الحق من الباطل، والله نسأل أن يوفقنا للحق أينما كان وحيثما كان وأن يرزقنا اتباعه، ومثل هذه اللقاءات نرجو أن تتكرر في كل مكان وفي كل زمان، كما نرجو أن تثمر ويكون لها أثر فعال إلى طريق الحق والخير والسلام.
وبعد.. ففي هذه الجلسة يفتتحها لنا أستاذي الفاضل وشيخي الأكبر الشيخ عوض الله صالح الرئيس العام لهيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان ومفتي جمهورية السودان سابقاً، والعضو الحالي والمشارك في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، فليتفضل جزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين.
فقام الشيخ عوض الله وقال: بعد أن حمد الله، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم..
أيها الإخوة من مسلمين ومسيحيين ...(22/41)
أنا سعيد بهذا اللقاء وأرحب بكم في هذه الدار نيابةً عن الإخوة أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي، وقد حضرت قبل خمس سنوات حواراً يشبه هذا الحوار في طرابلس بليبيا، ولقد كان أول ما يلاحظ على تلك الندوة أنها بعدت عن كل كلمة نابية.. بل لم يذكر نبي من قبل المسلمين غير محمد صلوات الله عليه وسلامه إلا ذكر بكلمات كلها تعظيم وتبجيل ولم يذكر من المسيحيين غير عيسى عليه السلام أي نبي إلاَّ وكانت تحف كل كلمة حوله مظاهر التبجيل والاحترام، ولقد كانت تلك الندوة بحق ندوة بحث عن الحقيقة، وإن في العالم أخطاء كثيرة وأنا لم أدرس المسيحية، ولكنني لا أنكر أن لنا أخطاء في الإسلام. إن بعض أفهام خاطئة عن الإسلام موجودة، ولكنها تصحح بمرور الزمان، فالإسلام شيء وخطأنا شيء آخر. ولا شك في أن المسيحية التي كانت أبعد عهد من الإسلام لابد أن تكون قد طرأت عليها أخطاء وهي قابلة للتصحيح، ولا نمس بحال من الأحوال جوهر ما في الدين سواء كان من جانب المسلمين أو من جانب المسيحيين.
أنا لا شك في أن كثيراً من الأشياء تلتقي فيها المسيحية مع الإسلام أو الإسلام مع المسيحية. فكلنا نوحد إلهاً واحد،.. ونحن المسلمين اشترط علينا قرآننا أننا إن كفرنا بعيسى فإن إيماننا بمحمد يكون قد اعترته الشكوك.. وعلى هذا فإني لست بمشارك في هذه الندوة.. ولكني مرحب فقط عن أهل هذه الدار وقد أعجبني ما استمعت فيها إليه ... وأنا على يقين أني سأعجب أيضاً بما سأستمع إليه من الجانبين المسيحي والإسلامي.(22/42)
إن أكثر ما أعجبني في تلك الندوة بعد الذي قلت: هو أن اتفاقاً قد تم ونحن جميعا نعبد إلهاً واحداً- إن الاتفاق قد تم بألاَّ يذهب المسلمون إلى مناطق المسيحية لإدخالهم في الإسلام، ولكن الذي يدخل طائعاً مختاراً نرحب به، ونستقبله. وتم أيضاً الاتفاق على ألاَّ يدخل أهل المسيحية في مناطق المسلمين ليدخلوا مسلمين في المسيحية،.. أنا أعرف ماذا جرى من المسيحيين بعد هذا الاتفاق ... الذي فات عليه أكثر من ست سنوات، ولكني أؤكد وفي هذا البلد بالذات أننا التزمنا بأننا لا نعمل إلا في جو المسلمين وأطفال المسلمين لنحتفظ بإسلامهم من أن ينحرفوا انحرافاً لا يعجب الإسلام.
وإني أرجو ألاَّ تذهب المسيحية إلى مواطن المسلمين لإغرائهم. وما أكثر ما يغري الناس بسبب الفقر والضعف الفكري- فيتحولون عن عقيدة إلى عقيدة.
أخشى أن أكون قد أطلت.. أحرب بكم جميعا. أبنائي وإخواني من المسيحيين ... وأرحب بأساتذتي ومشايخي من المسلمين، وأتمنى أن يسير الحوار بالصورة التي ترضيكم جميعاً، وترضي المستمعين أيضاً ... والسلام عليكم.
ثم عاد مدير الندوة فعلق على كلمة الشيخ عوض الله بقوله:
شكراً لهذا التوجيه الطيب من فضيلة شيخنا الأكبر الشيخ عوض الله صالح وشكراً لكم جميعاً.. وأؤكد لكم أنه بناءً على قائمة الأسماء التي قرأتها.. بأسماء إخواننا الذين يسمون أنفسهم مسيحيين.. حينما قرأت قائمة الأسماء وجدت أنهم جميعاً من أسر مسلمة بموجب الأسماء.. فهذا اسمه مسيحي واسم أبيه (محمد) أو أحمد أو عبد الله. وأؤكد لكم جميعاً أن هؤلاء جميعاً لم يخرجوا من الإسلام إلى المسيحية إلا لظروف خاصة وقاهرة، وأرجوا لهم التوفيق والسداد في أن يعيدهم الله سبحانه وتعالى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه.
وبعد: إخوتي الكرام فإن هذه الندوة سيدير فقراتها وحلقاتها فضيلة الدكتور محمد جميل غازي، فليتفضل:(22/43)
فتقدم الدكتور محمد جميل غازي، وقال:
بسم الله الرحمن الرحيم {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ... } وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الأول أقدم لكم الأخ (جيمس بخيت) ليتحدث إليكم. وقبل أن أقدمه إليكم، لي رجاء ... أن أرى الابتسامة على وجوه الكل.. لأنني ألاحظ أن الابتسامة انعدمت من هذا الاجتماع، فأرجو أن نكون جميعاً على تفاؤل كامل، لأننا مقدمون، ولله الحمد، على عمل طيب صالح، ونسأل أن يكون موفقاً، لا عداء بيننا ولا كراهية ... وإنما هو الحب الذي جمعنا، والحب هو الذي جعل كل واحد منا يتحدث إلى صاحبه ... بالحب كله، وبالتقدير كله، أقدم إليكم الأخ (جيمس بخيت) وأرجو من خلال حديثه أن يشير إلى هذه الأسئلة التي قدمها إلى فضيلة الأخ الشيخ طاهر لتكون هي مجال الحوار في هذه الندوة أو في هذا اللقاء الإسلامي، المسيحي، والذي ابتدأ انعقاده في هذه الليلة، ولا يعلم إلا الله وحده، كم يستمر من ليال أو كم يستغرق من ساعات.
أيها السادة يتحدث نيابةً عنه الأخ محمد رمضان:
السادة الأعضاء هيئة النشاط الإسلامي.
فضيلة الشيخ الملحق الديني السعودي بالخرطوم.
السلام عليكم ورحمة الله.
إنها بحق إرادة الله الذي مهد لنا هذا اللقاء الروحي لا للانتقاد أو الإدانة، وإنما للاستذكار، وتوضيح بعض المواضيع الدينية في الإسلام والمسيحية بالأدلة والبراهين، كما أنزله الله على رسله، بعيدين عن أي تعصب ديني، آملين أن يهدينا الله جميعاً لما فيه الخير لأمتنا.
السادة الكرام: نحن قادة لمجموعات من الإخوة والأخوات بالعاصمة المثلثة وجبال النوبة مسلمين بالوراثة ... ولكننا لم نتعمق في تعاليم الإسلام وتعلمنا أيضا شيئًا من الديانة المسيحية نتيجة للتبشير المكثف الذي تقوم به الطوائف المسيحية في السودان.(22/44)
سادتي: لقد أحدث هذا الخلط بين العقيدتين شكوكاً في نفوسنا مما أدى بنا للجوء إلى القسيس (جيمس بخيت) بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بدعوة من إحدى الطوائف المسيحية هناك، آملين أن نجد لديه المساعدة في هذا الشأن، فإما أن نؤمن بالإسلام أو المسيحية، بعد معرفة الحقيقة، هذا والشيء الذي دعا بنا للجوء للقسيس (جيمس بخيت) ما لمسناه منه في اعتداله من الناحية الدينية، وإيماناً منه بالحرية الدينية والعبادة، مع أنه قد رفض كل الطوائف المسيحية بالسودان، وهو الآن يقوم بتأسيس طائفة مسيحية يقوم بإدارتها إخوة سودانيون فقط، وقد كانت توجيهاته لنا كما كفلت الثورة حرية العبادة للجميع، فيجب علينا أن نساعد في تنفيذ هذا المبدأ، مسلمين كنا أو مسيحيين، ونبعد التعصب الدينين من أنفسنا، ونعطي كل فرد حريته في اختيار المذهب الذي يريده، وقد نصحنا القسيس جيمس بعدم الانضمام لأي مذهب ديني -حتى طائفته- رفض أن ننضم إليها إن لم يكن ذلك بالاقتناع وقام باختيار منازل بعض الأفراد للتجمعات الروحية، وكان من نتائج تحركه واهتمامه بهذه المشكلة مولد اجتماع اليوم. ولا يفوتنا أيضاً إلا أن نخص بالشكر الملحق الثقافي السعودي بالخرطوم لما بذله من جهود عظيمة في تحقيق رغبة الإخوة في الالتقاء بهيئة النشاط الإسلامي، كما لا يفوتنا أيضاً أن نحيطكم علماً بأن هؤلاء الإخوة الذين ترونهم أمامكم إخوة يطلبون معرفة الحقيقة، وليس من بينهم عالم أو متفقه في أمور الدين أياً كان.
وفي الختام نسأل الله العظيم أن يساعدنا ويهدينا إلى الطريق القويم ويظلنا ببركاته والسلام.
الأخ جيمس يقرأ الأسئلة التي تقدم بها الملحق الديني السعودي، وهي أسئلة ذات شقين: شق يدور حول الديانة المسيحية. وشق يدور حول الديانة الإسلامية، فيتفضل بقراءة الأسئلة:
الجانب المسيحي:
السؤال الأول: هل يؤيد القرآن المسيح والإنجيل؟(22/45)
السؤال الثاني: النسخ والتحريف في الإنجيل، كيف تم كما يزعم المسلمون؟ وهل يحتفظ المسلمون بأصل الإنجيل؟
السؤال الثالث: الخمر محرم في القرآن ولكنه غير محرم في الإنجيل. فكيف تفسرون ذلك. وهل هناك آية في القرآن تحرم الخمر؟
السؤال الرابع: هل يؤمن المسلمون برسل المسيح الذين اختارهم وأسند إليهم مهمة التبشير ... كما ذكر في الإنجيل؟
السؤال الخامس: هل يؤيد القرآن الروح القدس؟
السؤال السادس: صحة ما جاء في الإنجيل أن المسيح عليه السلام صلب ومات ودفن ثم قام ما بين الأموات في اليوم الثالث. فماذا جاء في القرآن فيما يختص بهذا القول؟
السؤال السابع: ورد في الإنجيل أن المسيح ابن الله فما رأي القرآن؟
السؤال الثامن: هل يؤيد القرآن الأقانيم الثلاثة (الأب والابن وروح القدس) حسب ما جاء في الإنجيل؟
السؤال التاسع: ما هي مكانة مريم العذراء لدى المسلمين كأم المسيح عليه الصلاة والسلام؟
الجانب الإسلامي:
السؤال الأول: محمد صلى الله عليه وسلم كيف كانت حياته ونزول القرآن عليه؟ وكيف نقنع المتشككين بأنه خاتم الأنبياء كما جاء في القرآن؟
السؤال الثاني: كما يزعم بعض المسلمين والمسيحيين هل استعمل السيف في صدر الإسلام لإخضاع الكفار للدخول في الإسلام؟ وهل كان ذلك في عهد الرسول أم في عهد الخلفاء الراشدين؟
السؤال الثالث: ما رأي المسلمين في إخوتهم العلماء الذين قاموا بتفسير القرآن حسب آرائهم مما أدى ذلك إلى وجود طوائف مختلفة؟ وما حقيقة هذه الطوائف؟
السؤال الرابع: يتزوج المسلمين بأكثر من امرأة.. فهل هناك آية في القرآن توضح ذلك؟ وما هي الأسباب التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج بأكثر من أربع نساء؟
السؤال الخامس: لماذا يحرم القرآن لحم الخنزير؟ وهل هناك آية تحرم ذلك؟(22/46)
السؤال السادس: هل يؤيد القرآن أن المسيح عليه الصلاة والسلام جاء لبني إسرائيل فقط؟
السؤال السابع: نلاحظ في القرآن أن هناك آيات تنقض آيات مثل: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ.... إلى قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . في حين أن هناك آية أخرى تقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... } فما رأي المسلمين في هذا التناقض؟
السؤال الثامن: ما هي نظرة المسلم لغير المسلم فيما يختص بالمعاملات الاجتماعية المختلفة؟
السؤال التاسع: لماذا تمنع السلطات السعودية دخول المسيحيين في الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية؟
وبعد: فإذا كان من المقرر أن ألقي كلمة في أول هذا الاجتماع، وفي افتتاحه، فإن كل ما يمكن أن أقول هو أن أقرأ عليكم بعض آيات من القرآن الكريم.
يقول الله سبحانه وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(22/47)
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا(22/48)
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وبعد ذلك تحدث مدير الندوة الدكتور محمد جميل غازي فقال:(22/49)
أتمنى أن أدير حديثي لا مع هؤلاء الأفاضل الطيبين، ولكن معكم أنتم أيها المسلمون، بماذا تردون على هذه الكلمات الطيبة التي ألقاها في وجوهكم هذا الأخ الطيب، حينما أعلمكم بهذه الحقائق المرة؟ هل فكرتم فيها؟ هل فكرتم أنكم الجناة الحقيقيون؟ هل فكرتم أنكم ستدانون بين يدي الله؟ وأنكم قصرتم في تبليغ كلمة الله؟ لِمَ لَمْ تعلنوها ولَمْ تنطقوا بها؟ غرتكم الحياة الدنيا ورفاهيتها؟ عشتم في الدَعة والهدوء والاستقرار، وآثرتم الطريق الآمن والسهل في بلادكم، في الوقت الذي كان يأتي الأجانب في آخر الدنيا يدكون حصونكم ويدقون أبوابكم دقاً عنيفاً، ويسرقون أبنائكم وفلذات أكبادكم، هل فكرتم في هذه الكلمات الطيبة التي قالها هذا الأخ الطيب الذي مزق كبدي بكلماته، أرجو أن تفكروا.. إنها لكم، لابد أن تهز مضاجعكم، حتى لا تهنأوا بعدها بمنام.. حتى لا تستقر جنوبكم على الأرض.. فلا نامت أعين الجبناء. إنما عليكم أن تحرسوا بناء محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تحرسوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة الأنبياء جميعاً..
والأسئلة التي تفضل الأخ الكريم (جيمس) فقرأها عليكم.. رأيت أن أعيد وضع خريطة لها لتكون هذه الخريطة تؤدي بنا إلى مجموعة من الدراسات لأننا لسنا في حاجة إلى مواعظ، ولسنا في حاجة إلى خطب رنانة وعلى جيوش الخطباء أن يوفروا لعابهم، إننا في حاجة إلى دراسة علمية موضوعية هادئة وهادفة، نعرف فيها الحق والطريق المستقيم، ما هو الطريق المستقيم أو أين هو حتى نسلكه جميعاً صفاً واحداً، وليلعن الله سبحانه وتعالى من يجانب الحق أو يبتعد عن طريق الحق.(22/50)
رأيت أن أعيد تنظيم الخريطة ورأيت أن أوزعها على الإخوة الأساتذة الذين سيتولون الحديث معكم، لا أقول في هذه الليلة الواحدة -فاصبروا علينا- لأن جهالات عصور كاملة ينبغي أن تُبحث.. وهي ليست متعة قول، وإنما هي دراسة ديانات كاملة، والديانات لا تدرس في رحلة ولا تدرس في جلسة، إنما تدرس دراسات متأنية عبر النصوص المقدسة أمام الطرفين. تستخرج هذه النصوص أمام العقل ثم تبحث وتدرس.
رأيت أن أعيد تنظيم هذه الخريطة على الوجه التالي: الليلة سيحدثكم الأخ الأستاذ أحمد عبد الوهاب، حول قضية قانونية الأناجيل، ولقد جاء حولها أسئلة منها السؤال القائل: النسخ والتحريف في الإنجيل كيف تم؟ وهل يحتفظ المسلمون بأصل الإنجيل؟ يدور حديث الأستاذ أحمد حول هذا، وقبل أن أقدم الأستاذ أحمد أحب أن أشير إلى نقطتين:
النقطة الأولى: أنني حينما وضعت هذه الخريطة لمعرفتي بإخواني العلماء رأيت أن أقدم الجزء الأول: فالأخ (جيمس) كان مهذباً حينما عرض الأسئلة الإسلامية أولاً.. ولكننا كنا أكثر موضوعية حينما قدمنا الأسئلة المسيحية أولاً، لأن الموضوعات المسيحية يجب أن تكون سابقة، حتى إذا ما فرغنا من دراسة الأسئلة الموجهة حول الديانة المسيحية ظهر لنا سؤال جديد: فإما أن نحصل من نتاج هذه المناقشات التي أرجو أن تكون واضحة وصريحة وجلية وبصدر مفتوح، وبتفكير عالي الصوت لا يخاف ولا يجبن، وإنما يناقش ويهاجم كما يشاء، وكما يحب، فالحق لا يخاف ولا يستخذى ولا يغضب، بل الحق يؤمن بالنوافذ المفتوحة على النور.
النقطة الثانية: هي ما الذي سيعرضه الأخ الأستاذ أحمد في خلال حديثه؟ أنا لا أكتفي بأن تكون الأسئلة حول هذين السؤالين.. النسخ والتحريف في الإنجيل كيف تم؟ وهل يحتفظ المسلمون بأصل الإنجيل؟ وإنما هناك أسئلة أيضاً تضاف إلى هذا السؤال وينبغي للأستاذ أحمد أن يهتم بها اهتماماً بالغاً ...
من هذه الأسئلة مثلاً.(22/51)
- أين هو إنجيل المسيح؟ وهل نزل على المسيح عليه السلام إنجيل واحد أو عدة أناجيل؟ والتعداد القديم للأناجيل، والذي انتهى بها إلى السبعين فما فوق السبعين، كيف تم هذا التعداد وأين هذه الأناجيل السبعون؟ وكيف انتهى مصيرها من خلال المجامع التي انعقدت مجمعاً تلو مجمع؟ وهذه الأناجيل الأربعة هل هي من كلام المسيح أم من كلام التلاميذ؟ وهل هذه الأناجيل متفقة فيما بينها أن أنها اختلفت؟ وفيم اختلفت؟ ولماذا اختلفت؟ وأرجو أن تكون إجاباته محددة وأرجو أن تكون الإجابات ذات وثائق؟ ولا أحب أن تكون الوثائق إسلامية بحال من الأحوال. إنما أريد أن تكون الوثائق نصوصاً من الكتاب المقدس أو نقولاً عن الشراح المسيحيين أنفسهم حتى يستريح العقل ويطمئن الضمير.
كذلك فإننا نريد أن ننظر نظرات فاحصة في وجوه الأناجيل إنجيلاً إنجيلاً.. ثم ننظر هل بين الإنجيل الواحد تناقضات معينة؟ والأناجيل الجديدة كإنجيل يوحنا.. ما هو الموقف منه؟ ثم الإضافات التي أضيفت بدءً من (بولس) وهي رسائل (بولس) أو ما تسمى بأعمال الرسل وغير ذلك، ما هو الموقف منها، كل هذه الدراسات وهي كما ترون عبء ثقيل نضعه بين يدي الأستاذ أحمد عبد الوهاب.
لدي أقلام ولدي أوراق.. متاحة للكل، مسلمين وغير مسلمين.. وإن كنت أرى أن الذين يجلسون بين يدي إنما هم جميعاً مسلمون غير أن البعض قد علق بذهنه بعض الشكوك، فهو جاء مجاهداً في سبيل تجلية هذه الشكوك والوصول إلى الحقائق.(22/52)
بين يديكم أوراق وأقلام لمن شاء منكم أن يسجل ملاحظات على كلام الأستاذ أحمد، فكلامه ليس مقدساً، وإنما هو كلام علمي، والكلام العلمي يخضع للمناقشة، فكلامه خاضع للمناقشة، وأرجو أن يكون الكل قادراً على مناقشته بصراحة وبقوة حتى نصل إلى حقائق ثابتة، والله يوفقنا جميعاً لما فيه رضاه، ويهدينا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه لا يهدي إلى الحق إلا هو، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، وأترككم مع الأسناذ الفاضل، الأستاذ أحمد عبد الوهاب.
بسم الله الواحد الأحد.. أرحب بكم جميعاً، وخاصة الإخوة الذين تقدموا إلينا بأسئلة واستفسارات عما في المسيحية والإسلام من أمور يُتفق عليها وأخرى يختلف فيها، ولا تزال موضع جدل بين المسيحيين والمسلمين. والسؤال البديهي في مثل هذا اللقاء هو: "من أين يستقي الناس عقائدهم؟ ".
من المتفق عليه أن العقائد الدينية تستقى من الكتب المقدسة من أجل ذلك فإن الموقف يقضي بدراسة الكتب المقدسة. وأولاً وقبل أن نناقش العقائد المستخرجة منها، لا شك أن من أهم الدراسات لتلك الكتب هي الدراسات التي يقوم بها علماء تلك الديانة.. وهذا ما سوف أقوم به، أي أنني سأعرض خلاصة مركزة لبعض دراسات علماء المسيحية المشهورين وأغلبهم من المعاصرين حالياً ودراسات في أسفارها المقدسة.
إن كثيراً من دراسات علماء المسيحية للأسفار المقدسة أصبحت تجعل صورة المسيح أكثر اقتراباً مع حقيقته التي حددها القرآن الكريم، وفي هذا المقام أقتطف الآتي من كتاب هام اشترك في تأليفه سبعة من علماء المسيحية، وصدر في لندن في السبعينات (1977) بعنوان "أسطورة الإله المتجرد"وجاء فيه:(22/53)
"إن المعارف الإنسانية مستمرة في النمو بمعدل متزايد، كما أن الضغط على المسيحية يقوى أبداً بما يجعلها تكيف نفسها لتصنع شيئاً يمكن الإيمان به، إيمان أهل الفكر الواعي والإخلاص، أولئك الذين جذبتهم إليها بعمق شخصية "يسوع"وما تلقيه تعاليمه من أضواء على معنى حياة الإنسان. إن المشتركين في هذا الكتاب مُقتنعون أن تطوراً لاهوتياً آخر لا بد منه في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين وتنبع الحاجة إليه من تطور معرفتنا لمصادر المسيحية، ويتضمن ذلك اعترافاً أن (يسوع) كان كما يقدمه لنا سفر "أعمال الرسل"الإصحاح الثاني العدد 21، 22، وهو يقصد ما قاله بطرس: "أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعملون" رجل قد تبرهن من قبل الله لأداء دور معين خلال هدف إلهي.. وأن التصور الذي لحق به أخيراً باعتباره الإله المتجرد والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة البشر، إن كل ذلك إلا أسلوب أسطوري وشاعري للتعبير عما يعنيه بالنسبة لنا أن هذا الاعتراف أصبح لازماً لصالح الحقيقة، ولنقلها الآن إن ما نأمل فيه هو تنقية الحديث عن "الله"وعن "يسوع"من الخلط وبذلك يتحرر الناس لخدمة "الله"في طريق المسيحية باستقامة وكمال".
هذه فقرة، خلاصة أو مقدمة، للكتاب الذي ألفه سبعة من كبار علماء المسيحية المعاصرين.
والآن أعرض خلاصة لبعض ما انتهى إليه علماء المسيحية في دراستهم للأسفار المقدسة تحت عنوان "حديث عن أسفار العهد الجديد" يماثل تماماً التقرير الذي يتلقاه من يهمه الأمر من إحدى اللجان المتخصصة التي شكلت لدراسة مشكلة أو موضوع معين، وهو ما يناسب مثل هذا اللقاء الذي نعقده الآن، والذي لا يستغرق سوى فترة زمنية محدودة تقدر بالساعات أو بعدد من الأيام.(22/54)
بعد ذلك أعرض حديثاً بعنوان "نظرة في أسفار العهد الجديد"يسمح لكل قارئ مهما كانت ثقافته أن يطلع بنفسه على حقيقة ما في هذه الأسفار، وعلى الأسباب التي جعلت كثيراً من علماء المسيحية يقررون ما سبق أن عرضناه عند الحديث عن أسفار العهد الجديد، وبهذا تكتمل الصورة اليقينية لكل باحث عن الحقيقة، ومن حقه أن يطلب ذلك، وأن لسان حال الإنسان الصادق مع نفسه دائماً يقول: أريد أن أعرف، وأن أتدبر، وأن أتحقق، ليطمئن قلبي.
إذن أيها السادة: النقاط المختصرة التي سأقرأها حالياً لا تمثل كلام مسلم في المسيحية، إنما تمثل خلاصة كلام علماء المسيحية، أما حديث المسلم فيكون في النهاية حين نصل إلى تعليق أو توضيح أو رأي.
"إن المسيحيين الأوائل لم يكونوا يعتقدون أن كتبهم المقدسة تكون عهداً جديداً يتميز عن العهد القديم، وعندما ظهرت أولى الكتابات المسيحية فقد كان يُنظر إليها جميعاً باعتبارها إضافات أو ملحقاً لأسفار الناموس والأنبياء، وكانت تقرأ أسبوعياً في المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية.
إن العهد الجديد كتاب غير متجانس، ذلك أنه شتات مجمع فهو لا يمثل وجهة نظر واحدة تسوده من أوله إلى آخره، لكنه في الواقع يمثل وجهات نظر مختلفة. في فترة المائة والخمسين عاماً الأخيرة تحقق العلماء من أن الأناجيل الثلاثة الأولى تختلف عن إنجيل يوحنا أسلوباً ومضموناً. إن إنجيل يوحنا يختلف اختلافاً بيناً عن الثلاثة المتشابهة الأولى، فهو لا يذكر أي شيء عن رواية الميلاد، وبالنسبة للروايات الأخرى فإنه توجد اختلافات في الزمان والمكان، إذا قورنت بنظيرتها في الأناجيل المتشابهة، إن التاريخ المضبوط الذي تحددت فيه قانونية أسفار العهد الجديد غير مؤكد"، هذه فقرات من كتاب "برايتي"وهو ألماني.(22/55)
إن هناك مشكلة هامة وصعبة، تنجم عن التناقض الذي يظهر في نواح كثيرة بين الإنجيل الرابع والثلاثة المتشابهة، إن الاختلاف عظيم لدرجة أنه لو قوبلت الأناجيل المتشابهة باعتبارها صحيحة وموثوقاً بها، فإن ما يترتب على ذلك هو عدم صحة إنجيل يوحنا.
"ليس لدينا أية معرفة مؤكدة بالنسبة للكيفية التي تشكلت بموجبها قانونية الأناجيل الأربعة، ولا بالمكان الذي تقرر فيه ذلك". وبالنسبة لموضوع التحريف وإدخال كلمات في النص، فإننا نقرأ الآتي:
"أما موقف الأناجيل فعلى العكس من رسائل (بولس) إذ أن التغييرات الهامة قد حدثت عن قصد مثل إضافة أو إدخال فقرات بأكملها" [1] .
إن نصوص جميع المخطوطات في العهد الجديد تختلف اختلافاً كبيراً، ولا يمكننا الاعتقاد بأن أياً منها قد نجا من الخطأ، ومهما كان الناسخ حي الضمير فإنه ارتكب أخطاءً، وهذه الأخطاء بقيت في كل النسخ التي نقلت عن نسخته الأصلية. إن أغلب النسخ الموجودة من جميع الأحجام قد تعرضت لتغييرات أخرى على أيدي المثقفين الذين لم يكن عملهم دائماً إعادة القراءة الصحيحة.
نذهب الآن لدراسة الصورة العامة للأناجيل
وهذا الذي أقوله ليس قولي:
"إن القول بأن "متى" "ولوقا"استخدما إنجيل "مرقس"أصبح على وجه العموم مسلماً به، ولكن بجانب إنجيل "مرقس"فلا بد أنهما استخدما وثيقة أخرى يشار إليها الآن بالحرف (u) الذي يرمز لكلمة "المصدر"كما استخرجت من الكلمة الألمانية التي تعطي هذا المعنى.(22/56)
بالنسبة لإنجيل "مرقس " يقول " هارجارد " حوالي عام 135: " في الواقع أن مرقس الذي كان ترجماناً " لبطرس " قد كتب بالقدر الكافي من الدقة التي سمحت بها ذاكرته ما قيل من أعمال " يسوع " وأقواله، ولكن دون مراعاة للنظام، ولقد حدث ذلك لأن "مرقس " لم يكن قد سمع " يسوع " ولا كان تابعاً شخصياً له، لكنه في مرحلة متأخرة قد تبع " بطرس "، ويتفق مع (قول بابياس) هذا ما اقترفه " أرمنيوس " في قوله: " بعد موت بطرس وبولس فإن مرقس تلميذ بطرس وترجمانه سلم إلينا كتابة ما صرح به بطرس، لم يوجد أحد بهذا الاسم –اسم مرقس- عرف أنه كان على صلة وثيقة وعلاقة خاصة " بيسوع " أو كانت له شهرة خاصة بالكنيسة الأولى.. ومن غير المؤكد صحة القول المأثور الذي يحدد مرقس كاتب الإنجيل بأن يوحنا هو مرقس المذكور في " أعمال الرسل " 12/12، 25 أو أنه مرقس المذكور في رسالة الرسل الأولى 5/13 أو أنه مرقس المذكور في رسائل بولس (في 4/10) لقد كان من عادة الكنيسة الأولى أن تفترض أن جميع الأحداث التي ترتبط بما ورد ذكره في العهد الجديد إنما ترجع جميعها لشخص واحد له هذا الاسم. ولكن عندما نتذكر أن اسم "مرقس"كان أشهر الأسماء اللاتينية شيوعاً في الإمبراطورية الرمانية، عندئذ نتحقق من مقدار الشك في تحديد الشخصية في هذه الحالة.(22/57)
بالنسبة لتاريخ كتابة الإنجيل، فإنه غالبا ما يحدد في الجزء المبكر من الفترة 65-75 ميلادية، وغالبا 65 أو 66، ويعتقد كثير من العلماء أن ما كتبه مرقس في الإصحاح 13 قد سطر بعد عام 70م وأما عن مكان الكتابة، فإن المأثورات المسيحية الأولى لا تسعفنا، فإن كلمات السكندري، وأورجين يقولان: ربما "روما " وأحيانا يقول آخرون: " مصر "، وفي غياب أي تحديد واضح تمدنا به المأثورات بمعرفة مكان الكتابة، فقد بحث العلماء داخل الإنجيل نفسه عما يمكن أن يمدنا به، وعلى هذا الأساس طرحت بعض الأماكن المقترحة مثل " أنطاكية "، ولكن " روما " كانت الأكثر احتمالا.
تعليق:
لذلك يتضح أن أحداً لا يعرف بالضبط من هو مرقس كاتب الإنجيل، كذلك فإن أحداً لا يعرف بالضبط من أين جاء هذا الإنجيل.
مشاكل إنجيل مرقس:
يتخذ العلماء كلمة " مشاكل " للتعبير المهذب عن التناقضات والاختلافات التي توجد في الكتب المقدسة، فبدلاً من هذا العنوان يقولون: مشاكل الإنجيل.
من مشاكل إنجيل مرقس: اختلاف النسخ على مر السنين ولقد أدى ذلك لأن أنه –حسب النص- (ظهرت تغيرات تعذر اجتنابها، سواء بقصد أو بدون قصد، ومن بين هذه المخطوطات أو النسخ التي عملت باليد من إنجيل مرقس والتي عاشت إلى الآن فإننا لا نجد أي نسختين تتفقان تماماً، كذلك من مشاكل إنجيل مرقس خاتمة هذا الإنجيل، تلك الأعداد من 9 إلى 20 التي تتحدث عن ظهور المسيح وعن تعليم التلاميذ، لتذكير العالم (بالأب- الابن- الروح القدس) هذه تعتبر إلحاقية أضيفت فيها بعد بحوالي مائة وعشر من السنين، لم تظهر أول مرة إلا حوالي سنة 180م.(22/58)
ننتقل الآن إلى الحديث عن إنجيل (متَّى) لا يزال من الواضح أن كلاًّ من بولس ومتى المبشر اليهودي له وجهة نظر تخالف الآخر فيما يتعلق بأعمال يسوع، أما بالنسبة لتاريخ كتابة هذا الإنجيل فيمكن القول بأنه كتب حوالي الفترة من 85-105م وعلى أية حال يمكن القول بأنه كتب في الربع الأخير من القرن الأولى أي في السنوات الأولى من القرن الثاني وفيما يتعلق بمكان تأليفه فإن الشواهد قوية تشير إلى أنطاكية ولما كان من الصعب ربط الإنجيل بمدينة فمن المناسب أن نقول إنه يأتي من مكان ما في المنطقة المحيطة بها أو في مكان ما يقع في شمال فلسطين.
مشاكل إنجيل متَّى:(22/59)
توقع نهاية العالم سريعاً، والآن هذه الفكرة قد سيطرت على تفكير مؤلفي العهد الجديد إلا أن (مَتَّى) كان أكثرهم حرصاً على تأكيد ذلك، فقد توقع أن تأتي نهاية العالم في أيام المسيح قبل أن يكون رسله قد أكملوا التبشير في مدن إسرائيل -إصحاح عشرة عدد ثلاثة وعشرين- وقبل أن يدرك الموت بعض معاصري المسيح والذين استمعوا إلى تعاليمه، (إصحاح ستة عشر عدد ثمانية وعشرين) وقبل أن يكون ملك الجيل الذي عاصر المسيح وتلاميذه قد تم، (إصحاح أربعة وعشرون عدد 34) ومن الواضح كما يقول (جون كونتن) أن شيئًا من هذا لم يحدث كما توقعه (مَتَّى) ثم تأتي خاتمة الإنجيل التي يشك فيها العلماء ويعتبرونها دخيلة وهي تنسب إلى المسيح قوله لتلاميذه اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس -إصحاح 28 عدد 19- ويرجع هذا الشك كما يقول -آبل هارمك- وهو من أكبر علماء المسيحية إلى الآتي: لم يرد إلا في الأطوار المتأخرة من التعاليم المسيحية ما يتكلم عن المسيح وهو يلقي مواعظ ويعطي تعليمات بعد أن أبقى من الأموات، وأن بولس لا يعلم شيئًا عن هذا، إن صيحة التثليث هذه غريب ذكرها على لسان المسيح، ولم يكن لها نفوذ في عهد الرسل، وهو الشيء الذي كان حقيقة جديرة به لو أنها صدرت عن المسيح شخصياً.
إنجيل لوقا:
نبدأ بالمقدمة التي ألقت كثيراً من الضوء على ما كان يحدث صدر المسيحية وخاصة فيما يتعلق بتأليف الأناجيل، فهو يقول:- إذا كان الكثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدام للكلمة، رأيت أنا أيضاً، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بترتيب أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز (جافينوس) لتعرف صحة الكلام الذي علمته من هذه المقدمة تتضح جملة أمور لابد من التسليم بها.(22/60)
إن لوقا يكتب رسالة شخصية إلى جافينوس، وإن هذه الرسالة تكتب على التوالي حسبما تتوفر له إمكانية الكتابة من وقت ومعلومات وإن هذا العمل قام به لوقا بدافع شخصي بحت بغية أن تصل المعلومات التي علم بها إلى صديقه، ولم يدع الرجل في رسالته أنه كتبها بإلهام، أو مصوغة من الروح القدس، بل يقرر صراحة أن معلوماته جاءت نتيجة لاجتهاده الشخصي، لأنه تتبع كل شيء من الأول بالتدقيق، كذلك يقرر لوقا أن كثيرين قد أخذوا في تأليف أناجيل وأخيراً يعترف لوقا بأنه لم يرى المسيح ولم يكن في تلاميذه لكنه كتب رسالته بناء على المعلومات التي استلمها من الذين عاينوا المسيح وكانوا في خدمته، ومن المعلوم أن سفر أعمال الرسل وهو أطول أسفار العهد الجديد هو الجزء الثاني من رسالة لوقا لجافينوس، ولقد حاول العلماء معرفة جافينوس هذا، ولكن جهودهم لم تصل إلى نتيجة محددة يقول فردريك براون لم يخبر بمن يكون جافينوس هذا، قد يمكن افتراضه موظفاً رومانياً كذلك لم يخطر بأولئك الكثيرين الذين أخذوا في تأليف قصة مماثلة، برغم أن الموضوع لا يتعدى مجرد احتمالات غير مؤكدة، فليس من المتعذر أن يكون مؤلف إنجيل لوقا قد جمع مادة في فلسطين أو سورية مبكراً في فترة من 70-80م ثم ربطه بالجزء الأكبر من إنجيل مرقس في وقت ما من السبعينات، ثم أصدر إنجيله حوالي عام80 أو 85م وذلك بعد حوالي 5 سنوات فإنه ذيل كتابه الأصلي برسالة ثانية نعرفها الآن باسم أعمال الرسل، ثم نشر مصنفه في حوالي 95م.
من أقوال العلماء في إنجيل لوقا:
إن سفر أعمال الرسل يوجد فيه كثير من النقاط التي تتعارض تعارضاً تاماً مع التعاليم المذكورة في رسائل بولس ومن غير المعقول أن هذه قد سطرها شخص له معرفة ببولس، ورحلاته التبشيرية، من الواجب ذكر لوقا كشخصية بارزة في سجلات التاريخ في القرن الأول للمسيحية.
مشاكل إنجيل لوقا:(22/61)
يعاني نص إنجيل لوقا من التغيرات التي تعاني منها الكتب الأخرى في العهد الجديد، إلا أن النص العربي للإنجيل وسفر أعمال الرسل يعاني من اختلافات مثيرة، بالإضافة أو الحذف، ثم هناك المشكلة الحادة التي نتجت عن اختلاف نسب المسيح كما ذكره لوقا، عما جاء في نظيره إنجيل (مَتَّى) وفي أسفار العهد القديم، وهذه واحدة من مشاكل الأناجيل سوف نبحثها فيما بعد.
إنجيل يوحنا:
حسب أقوال العلماء، لقد كان من المعتقد لفترة طويلة أن يوحنا على بينة من وجود الخلافات السابقة وأنه قد كتب ليكملها أو ليصححها في حالة أو حالتين، فقد جرى القول بأن حادثة تطوير الهيكل على سبيل المثال قد وضعها يوحنا عمداً في بداية بعثة يسوع لأنه حسبما تذكرها يوحنا الذي تقدمت به السنون كان ذلك موضعه.
كذلك لأنه صحح تاريخ الصلب حيث وضعه عشية الفصح وهو اليوم الذي تذبح فيه خراف الفصح ومن ناحية أخرى فإن لقب (ابن الإنسان) الذي لم يستعمله بولس قط قد أبقى عليه يوحنا، من هو يوحنا؟؟
لقد كان يوحنا مسيحياً وبجانب ذلك إنه كان أردنياً ومن المحتمل أن لا يكون يهودياً ولكنه شرقي أو إغريقي ومن المحتمل أن يكون إنجيل يوحنا قد كتب في أنطاكية أو الإسكندرية أو حتى روما فإن كُلاًّ من هذه المدن كان مركزاً عالمياً للدعاية العقائدية في القرنين الأول والثاني من الميلاد ويقول (جون مارك) في مقدمة ترتيبه لإنجيل يوحنا تحت عنوان (استحالة التوقيف) حينما نأتي لمناقشة المشاكل الهامة والمعقدة التي تتعلق بالإنجيل الرابع، نجد أنه من المناسب والمفيد أن نعترف مقدماً بأنه لا توجد مشكلة بالتعريف بالإنجيل وكاتبه يمكن إيجاد حل لها، من كان هذا الـ (يوحنا) الذي قيل إنه المؤلف؟ أين عاش؟(22/62)
من الصعب بل من المستحيل تحقيق أي شيء أكثر من الاحتمال حول مشاكل إنجيل يوحنا، ويعتقد كاتب هذه السطور أي (جون مارك) أنه ليس من المستحيل الاعتقاد أنه خلال السنوات العشرة الأخيرة من القرن الأول الميلادي قام شخص يدعى (يوحنا) من الممكن أن يكون يوحنا مرقس ـ وقد تجمعت لديه معلومات وفيرة عن يسوع ومن المحتمل أنه كان على دراية بواحد أو أكثر من الأناجيل المتشابهة فقام عندئذ بتسجيل شكل جديد لقصة يسوع، اختص بها طائفته الخاصة التي كانت تعتبر نفسها عالمية كما كانت متأثرة بوجود تلاميذ يوحنا المعمدان.
مشاكل إنجيل يوحنا:
تقول دائرة المعارف الأمريكية: يوجد ذلك التضارب الصارخ بينه وبين الأناجيل المتشابهة، فهذه الأخيرة تسير حسب رواية مرقس بالتسلسل التاريخي للأحداث، وتجعل منطقة الجليل هي المحل الرئيسي لرسالة يسوع، بينما يقرر إنجيل يوحنا أن ولاية اليهودية كانت المركز الرئيسي وهناك مشكلة في الإصحاح الأخير رقم 21 من الإنجيل، إن القارئ العادي يستطيع أن يرى أن الإنجيل ينتهي بنهاية الإصحاح العشرين الذي يقول: (وأن هذه فقد قيلت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا أمنتم حياة بكر) .(22/63)
إن هذا الإعلان يبين بوضوح الغرض الذي كتب من أجله هذا الكتاب، بعد ذلك يأتي الإصحاح الأخير الذي أخبرنا أن يسوع ظهر (كرب) أقيم من الأموات إلى خمسة تلاميذ وأنه قال لبطرس: ارع خرافي!! وكذلك تعليق مبهم يقول: هذا هو التلميذ الذي جاء عن طريق الجماعة التي تشير لنفسها بكلمة "نحن نعلم"وفي حقيقة الأمر فإن هؤلاء يصعب تحديدهم، وقد ظهر شيء من التآلف بين إنجيل "لوقا"وإنجيل "يوحنا"مما ساعد على ظهور نظرية تقول بأن يوحنا استخدم إنجيل لوقا كأحد مصادره، إلا أن هذه النظرية موضع معارضة بسبب الاختلاف الواضح بين الإنجيلين في المواضع المشتركة بينهما، فكلا الإنجيلين يتحدث عن بطرس وصيد السمك، لكن أحدهما "لوقا"يضع القصة مبكراً في رسالة يسوع في الجليل أما الآخر "يوحنا"فيضعها بعد قيامته من الأموات (لوقا: إصحاح 5 أعداد1/11، يوحنا: إصحاح 21 أعداد1/14) .
وكلاهما يتحدث بلغة مشتركة عن كيفية مس يسوع بالطيب من امرأة، لكنها في أحدهما "لوقا"كانت زانية في بيت شريف، بينما في الآخر "يوحنا"كانت امرأة صديقة ليسوع، وأن ذلك حدث في بيتها.
تعليق:
التعليق بعد هذه الخلاصة الذي أقوله، والذي أعتقد أي مستمع يمكن أن يقوله، أتصوره كالآتي:
إن النتيجة التي لا مفر من التسليم بها كما بينتها هذه الخلاصة أن الأناجيل القانونية ما هي إلا كتب مؤلفة بكل معنى الكلمة، وهي تبعاً لذلك معرضة للصواب والخطأ، لا يمكن الادعاء ولو للحظة واحدة أنها كتبت بإلهام، كتبها أناس مجهولون في أماكن غير معلومة وفي تواريخ غير مؤكدة، والشيء المؤكد الذي يلحظه القارئ البسيط هو أن هذه الأناجيل مختلفة وغير متآلفة، بل إنها متناقضة مع نفسها ومع حقائق العالم الخارجي.(22/64)
إن هذا القول قد يضايق المسيحي العادي بل إنه قد يصدمه، لكن العالم المسيحي المدقق أصبح هذا القول الذي يعنى بوجود أخطاء في الكتاب المقدس حقيقة مسلماً بها، إن الكنيسة الكاثوليكية التي تتمسك بشدة بعقيدة الإلهام التي تأكد القول بها في مجمع الفاتيكان الذي عقد عام 1869-1870م، والذي تقرر فيه أن الكتب القانونية لكل من العهدين القديم والجديد، قد كتبت بإلهام من الروح القدس، وقد أعطيت هذا للكنيسة.. لكنها عادت الآن بعد نحو قرن من الزمان لتواجه الحقائق وتعترف بها، فلقد بحث المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان الذي عقد في الفترة 1962-1965م المشكلة التي تتعلق بوجود أخطاء في بعض نصوص أسفار العهد القديم وقدمت له خمس صور مقترحة استغرق بحثها ثلاث سنوات من الجدل والمناقشة وأخيراً تم قبول صيغة حظيت بالأغلبية الساحقة، إذ صوت إلى جانبها 2344 عالم ضد صفر.. وقد أدرجت الوثيقة المسكونية الرابعة عن التنزيل فقرة تختص بالعهد القديم في الفصل الرابع ص 53 تقول:
" بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وصفه المسيح ... تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو (الله) ومن هو (الإنسان) ، غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان " انتهى هذا النص.(22/65)
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كم من المؤمنين بقداسة هذه الأسفار واعتبارها تعليماً إلهياً موحًى به من الله يعلم هذا الذي قررته الكنيسة بشأنها وما تحتويه من شوائب وبطلان؟ وما لنا نذهب بعيداً ولدينا الكتاب المقدس طبعة الكاثوليك 1960م وهو يقدم لأسفار موسى الخمسة بقوله: " كثير من علامات التقدم تظهر في روايات هذا الكتاب وشرائعه، مما جعل المفكرين -كاثوليك وغيرهم- على التنقيب عن أصل الأسفار الخمسة الأدبي، فما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته قد كتب الأسفار الخمسة منذ قصة الخلق إلى قصة الموت كما أنه لا يكفي أن يقال إن موسى أشرف على وضع النص الملهم الذي دونه كتبة عديدون في غضون أربعين سنة.. كما يقول الكتاب المقدس في تقديمه (القس راعون) .. " من المحتمل أن يكون الكاتب قد استعان بالبدء بذكريات تقليدية غير واضحة الظروف تماماً ثم أضاف إليها عدداً من التفاصيل يجعل الرواية أكثر حياةً، ويعطيها قيمة أدبية.
وها هي كتب التفسير التي توزع هنا تعترف بتسرب أخطاء خطيرة إلى أسفار العهد الجديد، فقد جاء في كتاب: " هل الكتاب المقدس حقاً كلمة الله؟ " ص 160 ما يلي:(22/66)
"بمقارنة أعداد كبيرة من المخطوطات القديمة باعتناء يتمكن العلماء من اقتلاع أية أخطأ ربما تسللت إليها.. مثال ذلك الإدخال الزائد في رسالة يوحنا الأولى، الإصحاح الخامس.. فالجزء الأخير من العدد (7) والجزء الأول من العدد (8) يقول حسب الترجمة البروتستاتينية العربية طيع الأمريكان في بيروت: "في السماء الأب والكلمة الروح القدس"، وهؤلاء الثلاثة هم واحد.. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: (الروح والماء والدم) وهؤلاء الثلاثة هم واحد، ولكن طوال القرون الثلاثة عشر الأولى للميلاد لم تشتمل أية مخطوطات يونانية على هذه الكلمات، وترجمة مريطة العربية تحذف هذه الكلمات كليا من المتن.. والترجمة البروتستاتينية العربية ذات الشواهد تضعها بين هلالين، موضحة في المقدمة أنه ليس لها وجود في أقدم النسخ وأصحها"انتهى الاقتباس.
- أعتقد أن أبسط تعليق أن هذا النص الخطير الذي دخل ابتداء من القرن الثالث عشر والذي يُقتبس منه فكرة التثليث لم يكن له وجود طوال القرون السابقة، وهذا التحريف خطير لأنه أساس العقيدة، وهكذا نجد أن نصوصاً وأفكاراً تتسرب إلى الكتابات التي اعتبرت مقدسة عبر القرون، فكل ما يتعلق بتثليث أو ثالوث ما من شك أنه دخيل على مسيحية المسيح الحقة، التي لا تزال لها جذور ثابتة في الأناجيل الموجودة الحالية، ويكفي عندما يأتي العلماء لتفسير حالات المسيح الأخيرة التي يقول فيها: " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته " يقولون إن هذا توحيد صرف.(22/67)
وهذا الكلام معناه باللغة العربية المتداولة: " لا إله إلا الله المسيح رسول الله ". ومن هذه النقاط يمكن أن تلتقي المسيحية مع الإسلام وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنك أنت الإله وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ".... وفي فقرات أخرى في نقاش آخر مع الإسرائليين كان قوله: " اسمع يا إسرائيل.. الرب إلهنا رب واحد " وهذه فقرة تشير إلى ما في أسفار العهد القديم.
وعندما تقدم إليه إسرائيلي يسأله: " أيها المعلم الصالح.. ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ماذا قال المسيح.. لم يقل له افعل كذا أو كذا. ولكنه أولاً نفى الصلاح عن نفسه.. وقال الآتي: كيف تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالح إلا واحد وهو الله. بعد ذلك بدأ المسيح يعلمه، ما جاء في أسفار العهد القديم وما دعا إليه وهو التوحيد في العقيدة والتمسك بشريعة موسى.
بهذا انتهى من الكلام عن أسفار العهد القديم.
بعد ذلك ندخل في الحديث عن أسفار العهد الجديد حيث يستطيع كل واحد، مهما أوتي حظاً من الثقافة والعلم أن يتأكد من صحة هذا الكلام.
الدكتور محمد جميل غازي: بعد هذا الجزء النظري.. نريد جزءً تطبيقيا بمعنى أن نستخرج بعض وجوه التناقض في روايات الأناجيل ... وبعض وجوه التناقض في الرواية الإنجيلية الواحدة.. يعني مثلاً هل هناك تناقض في روايات إنجيل متى مع بعضها؟ وهل هناك تناقض في روايات الأناجيل بعضها مع بعض؟ نرجو نماذج تطبيقية تكون واضحة.
بعد هذا العرض ... نعرف أن هناك تناقضات فيما بينها، وأنها غير موثوقة وأن رواتها مجاهيل وأنها تفقد السند.. كل هذا الكلام قاله.. وقد نقلها عن الرواة الأجانب.. وختم كلامه في الرواية بما اتفق عليه المجمع المسكوني برئاسة البابا وقرروا بالإجماع أن هذه الأناجيل دخلت عليها أشياء دخيلة.(22/68)
نريد أن نعرف النصوص التطبيقية ونحكم فيها عقولنا.. ونحكم فيها المراجعات بين نسخ الأناجيل المختلفة ومعنا والحمد لله نسخ من الأناجيل مختلفة فنرى ما الذي تقوله الأناجيل وتتناقض فيه وتتضارب فيه أو تلتقي عنده ونرى الإنجيل الواحد كإنجيل متى أو لوقا أو يوحنا.. نرى ما هي وجوه الخلاف بينها هذه ستوضح في الأسلوب التطبيقي الذي سيوضحه الآن:
الأستاذ أحمد عبد الوهاب:
نبدأ بالمشكلة الأولى التي أسميتها " الاختلاف الكثير " حيث يوجد اختلاف كثير بين الأناجيل الواحد والآخر.. واختلاف داخل الإنجيل نفسه وطبعاً في أي دراسة تحكمنا القاعدة الأساسية التي لابد أن يقبلها الكل {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
النقطة الأولى:
اختلف متى ولوقا في نسب المسيح فجعله متى يأتي من نسل سليمان بن داود حيث جاء يوسف خطيب مريم في الجيل رقم 27 باعتبار داود الجيل رقم 1. لكن لوقا جعله يأتي من نسل "ناسان"بن داود ابن أخ لداود حيث جاء يوسف في الجيل رقم (42) باعتبار أن داود في الجيل رقم 1.
كيف عرف العلماء ذلك؟ وضعوا جدولاً ... ووضعوا فيه أقوال كل من (متى) و (لوقا) .. وقارنوا المجموعتين مع بعض..
أقترح أخذ فكرة عن الجدول لعمل مثله في البيت.. ويستطيع كل واحد أن يعمل مثله في البيت نعمل عمود في الوسط وهو أهم عمود ونكتب قوله سفر أخبار الأيام وعن يمينه إنجيل متى وعن يساره إنجيل لوقا ونبدأ من (داود) طبعاً الإخوة المسلمين ربما يستغربوا من فكرة نسب المسيح.. فقد جرت العادة في التعاليم المسيحية أن يوسف النجار كان خطيب مريم وبعد أن حملت من الروح القدس فكر أن يتركها وبعد ذلك عرف أن الحمل مبارك من الروح القدس فبقي معها.. المهم أن كلا الإنجيليين ينسب المسيح كبنوة ليوسف.. يقول هو ابن يوسف.. ابن كذا.. إلخ.(22/69)
نجد الآتي.. أن الخلاف الرئيسي أن متى جعل نسب المسيح من نسل سليمان بن داود.. ولكن لوقا نسبه إلى ناسان بن داود ...
نمرة 2: في تسلسل هذه الأنساب.. نجد أن بالاعتماد على الأخبار الأيام الأول نجد أن (متى) أسقط مجموعة من الناس في الطريق.
نمرة 3: أن متى أخطأ مع نفسه عندما قال جميع الأجيال من إبراهيم إلى داود (14) جيلاً، ومن داود إلى ... (14) جيلاً ومن ... إلى يوسف (14) ... وجدنا أن الأخيرين 13 وليس 14 جيلاً.
فيمكن تلخيص هذا الاختلاف بناء هذه المسلسلات ... نص ذكره نور ترتون في تفسيره لإنجيل متى ... أن يشير متى إلى أنه في كل من العقود الثلاثة يوجد أربعة عشر جيلاً رغم انه في الحقيقة لم يذكر سوى ثلاثة عشر اسماً في الجيل الأخير ابتداءً من الأصحاح الأول عدد 12-16.
وفي منتصف قائمة لوقا نجد هذه الأسماء يوحنا بن ريسا بن برمبال لكن يوحنا هي صيغة أخرى لاسم حنانيا أن هذا الشخص ريسا لم يذكر البتة في سفر أخبار الأيام الأول، لكن ريسا هي كلمة آرامية تعني أمير.
أن الخطأ الذي لحق بقائمة لوقا يمكن إرجاعه إلى أن القائمة الأصلية التي نقل عنها كانت مصنفة بترتيب عكس هذا (برمبال الأمير ولد يوحنا) هذا كلام نورترثون في ترتيب الإنجيل " متى " وخلاصة القول في نسب المسيح أننا إذا اعتبرنا سفر أخبار الأيام الأول هو المرجع الرئيسي لأنساب الآباء وقد أخطأ " متى " في سلسة نسب المسيح حين أسقط منها في الواقع خمسة أسماء المسلسلات 9 و10 و11 و18 و21. وأخطأ لوقا حين أضاف ريسا المسلسل رقم 24 بين برمبال ويوحنا -اختلف " لوقا " مع (متى) اختلافاً جوهرياً حين جعل يوسف خطيب مريم ينحدر من نسل (ناسان بن داود) بينما جعله (متى) ينحدر من نسل (سليمان بن داود) .
نتيجة لهذا الاختلاف صارت الأجيال 140 جيلاً حسب إنجيل لوقا، 23 جيل حسب إنجيل متَّى.(22/70)
وقد قدم مدير الندوة الأستاذ إبراهيم خليل أحمد ليحدث عن هذه القضية حيث حققها وهي ما تتعلق بالنداءات الموجهة في الإنجيل أو نسب المسيح إلى داود أساساً، ويثبت بطلان نسب المسيح إلى داود أساساً وأن نسبه إلى هارون لا إلى داود وأنه من سبط اللاويين ولا علاقة له بداود على الإطلاق.
الأستاذ إبراهيم خليل أحمد:
قال إن الحقيقة أن المعلومات التي سأقولها هي من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم فقد جاء في الكتاب المقدس في نصوص الأناجيل (متى) (ولوقا) عندما دخل المسيح إلى أورشليم بدخول ابن قصارم ... هلل الأولاد وقالوا: وصلنا المبارك الآتي باسم الرب مبارك بن داود.
المقصود هنا بكلمة ابن داود أن يرجعوا بنسب المسيح إلى سبط يهوذا الذي منه داود الملك، لكن في الحقيقة أريد أن أقول:- أن مرقس يختلف في هذه المسألة وإليكم النص في إنجيل مرقس: " ثم أجاب يسوع وقال: وهو يعلم في الهيكل كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود لأن داود نفسه قال: يا ابن الروح القدس قال الرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطأ لقدميك " الإصحاح 12 عدد 35-37.
فداود نفسه يدعوه رباً فمن أين هو ابنه؟ وكان الجمع الكثير يسمعه. وفي مرقس هنا تيقن أن المسيح بن داود.
عندما نأتي لنحقق ذلك في القرآن الكريم في سورة مريم.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} معنى ذلك أن القرآن ينسبها إلى سيدنا هارون أخو موسى، وموسى وهارون من سبط اللاوي.. وسبط لاوي هذا هم سدنة الهيكل. ومريم العذراء كانت المريم البتول التي عاشت في قدس الأقداس مع زكريا وهي أيضاً من سبط لاوي. فالمسيح نسب إلى أمه لأنه من سبط لاوي ولم يكن على الإطلاق من سبط داود الذي منه يوسف خطيب مريم.(22/71)
الفكرة من محاولة نسب المسيح لداود أن يلبسوا المسيح ثوب داود الملك على اعتبار أنه جاء ملك مخلص لبني إسرائيل ويعيد مملكة إسرائيل التي هي مملكة داود.
خلاصة الكلام أن المسيح نادى بغير ما كان يتصور بني إسرائيل نادى بملكوت الله. وهم كانوا ينتظرون مسيحاً ملكاً يحررهم ويخلصهم من نير الرومانيين.
مدير الندوة:
من غير المعقول أن ننسب المسيح إلى شخص لا علاقة له به بالمرة وهو يوسف -النجار فيوسف النجار عبارة عن خطيب لأمه. فإذا نسبنا المسيح في سلسلة نسب يوسف فهذا لا يقره عقل ولا خلق مع المسيح عليه السلام. إنما ينسب إلى أمه ثم إلى نسبه الذي ينتهي كما رأيتم إلى سبط اللاويين وليس إلى سبط يهوذا كما ينادى دائماً يا بن داود لأنه ليس ابن داود، وإنما هو من سبط اللاويين.
الأستاذ أحمد عبد الوهاب:
قال: نأتي بعد ذلك إلى اختلاف كتبة الأناجيل في أسماء التلاميذ من المعروف أن المسيح كان له اثنا عشر تلميذاً. فاختلف (متى) (ومرقس) من جانب مع (لوقا) و (يوحنا) من جانب آخر في أسماء التلاميذ. فقد أورد الأخيران اثنين (يهوذا) : يهوذا الاسخريوطي، ويهوذا بن يعقوب ولم يظهر (ويهوذا بن يعقوب) في قائمة كل من (متى) (ولوقا) .
وهنا يعلق (جون كيك) في تفسيره لإنجيل (لوقا) عندما كتب الإنجيل لم يكن هناك حتى مجرد التحقق الكامل من شخصية التلاميذ.
إن (يهوذا بن يعقوب) لا يظهر في القائمة المذكورة في إنجيل كل من (متى) (ومرقس) . بينما شغل مكانه ميثاوس.
تعليق: محمد (صلى الله عليه وسلم) ظهر تحت شمس التاريخ والصحابة كانوا بين مائةَ ألفٍ ومائةً وأربعةَ عشرَ ألفاً وعرضت وعرفت أسماؤهم وأنسابهم. فهل يعقل أن نجهل اثني عشر تلميذاً؟ هذا هو الواقع.
مدير الندوة:
قال: نريد أن نعرف الأسلوب الذي يمكن أن يتكلم به إله مع شجرة. فالإنجيل يقول:- إن المسيح ذهب إلى شجرة.
الأستاذ أحمد عبد الوهاب:(22/72)
قال هناك نص آخر: في الإصحاح رقم 12 قبل متى: " ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام وقال لهم: مكتوب بيتي. بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.
وتقدم إليه عميٌّ وعرج في الهيكل فسقاهم. فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون:- أوصلنا بابن داود.. " وقالوا له: تسمع ما يقول له هؤلاء فقال له يسوع نعم. أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع إياك تسبيحاً قم تركهم وخرج خارج المدينة إلى بيت عمه وبات هناك وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد فيبست التينة إلى الأب " حادثة شجرة التينة حدثت بعد عودته من تطهير الهيكل.
وفي إنجيل (مرقس) إصحاح 11 عدد 12.
" وفي الغد لما خرج من بيت عمه جاع فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئاً فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً لأنه لم يكن وقت التين فذهب يسوع وقال لها لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد. وكان تلاميذه يسمعون وجاءوا إلى أورشليم ولما دخل يسوع الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلَّب موائد الصيارفة والكراسي وباعة الحمام ولم يدع أحداً يجتاز الهيكل بالمساء وكان يعلم قائلاً بيتي بيت للصلاة والدعاء لجميع الأمم وأنتم جعلتوه مغارة اللصوص، وسمع الكتبة ورؤساء الكهنة فطلبوا كيف يهلكونه لأنهم خافوه إذ بُهت الجمع كله من تعليمه ولما صار المساء خرج إلى خارج المدينة.
تعليق مدير الندوة:(22/73)
فالروايتان مختلفتان. وقد صور يسوع وهو ما يسمى الرب بأنه جائع -وهل الرب يجوع؟ ويجهل أن الوقت وقت تين- فكيف يكون خالق الشجرة جاهلاً متى تثمر فيكون علمه أقل من علم الفلاح العادي -ثم يلعن الشجرة- وكان منطق الشجرة أن تقول له لم تلعنني وقد خلقتني دون ثمر؟
الأستاذ أحمد عبد الوهاب قال:
نأتي بعد ذلك إلى موضوع (يوحنا المعمدان) و (المسيح) والمعروف في الإسلام يحيى بن زكريا.
(من المعلوم في المسيحية والإسلام أن يحيى بن زكريا (المعمدان) والمسيح بن مريم أقرباء تربوا مع بعضهم فرق السن بينهم ستة شهور فعاشوا فترتهم مع بعض ثم تلقى يحيى الرسالة أولاً وجاء ليقدم المسيح لبني إسرائيل ومعروف في خطبة التقديم أن الناس كانوا يعتمدون منه كيف يعرفون أن يتطهروا ويتوضؤوا في ماء الأردن فجاء المسيح يعتمد منه فقال يوحنا للمسيح أنت أعظم مني فقال له المسيح أنني لابد أن أكمل كل بر فأعتمد منه ومنذ ذلك الوقت بعد هذا الغسيل الذي غسله يوحنا للمسيح حل عليه الروح القدس أو أنزل معه الملك الذي يؤيده -هذا ملخص القصة بتمامها-.
إذن من الثابت أن يوحنا المعمدان كان يعرف المسيح تماماً ويعرف أنه يعرف جميع بني إسرائيل وهو الذي سلمه هذه الرسالة.
بعد ذلك لأسباب سياسية في ذلك الوقت يوحنا حصل منه مقاومة لطغيان حاكم الولاية فوضعه في السجن نجد أن إنجيل (متى) الذي كتب هذا الكلام يقول: ما ملخصه " أن يوحنا وهو في السجن بعد أن سمع بأعمال يوسع بعث يسأله هل أنت هو الآتي أم تنتظر آخر؟ ".
نأتي بعد ذلك لموضوع هام جدا بالنسبة لكلمة نبي:(22/74)
متفق بين علماء الديانات وخصوصا ديانات الكتب المقدسة أن أحد تعاريف النبي (هو الذي ينبئ عن الله) أو يتكلم بوحي من خالقه فالمفروض أن يكون عنده شيء يأخذه بحذر بالنسبة للغيب أو المستقبل. ومن المؤكد أن الذي يصدقه فيما حدث في الحياة الدنيا لابد أن يصدقه فيما وعد به في الحياة الآخرة لكن عندما تنسب نبوة لنبي ما ويشهر النبوءة ثم تثبت الحياة الدنيا أنها لم تتحقق يبقى ماذا يكون المصير بالنسبة لهواة الحياة الآخرة -هذه قاعدة أعتقد أننا متفقين عليها- فبالنسبة لموضوع النبوءات نجد الآتي:
أن السيد المسيح مع تلاميذه تنبأ لهم بأن نهاية العالم سوف تأتي لهم في القرن الأول الميلادي وهذا يفرض في نفوس كثيرة من ضمنها ومن الأفضل أن نقرأ النص: " دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة وأوصاهم قائلاً: أنا أرسلكم كغنم وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمائم ومتى طردوكم من المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإن الحق أقول لكم. لتكملون مدن إسرائيل حتى ابن الإنسان " - (متى) إصحاح عشرة الأعداد 1 و23، أي أن عودة المسيح ثانية إلى الأرض تحدث قبل أن يكمل تلاميذه التبشير في مدن إسرائيل وهي كذلك تحدث قبل أن يكون معاصري المسيح الذين عاشوا في القرن الأول من الميلاد قد ماتوا. والنص يقول: " إن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله. الحق لكم إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته " (متى) إصحاح 16 عدد 27 و28. وبصورة أخرى تؤكد ما سبق فإن نهاية العالم وعودة المسيح ثانية إلى الأرض لابد أن تحدث قبل أن يفنى ذلك الجيل في القرن الأول من الميلاد. والنص يقول:(22/75)
"بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوء والنجوم تسقط من السماء وقوة الأرض تتزعزع وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله".
قال العلماء أن هذه التنبوءات خاطئة ولا يمكن الدفاع عنها.
تعليق:
نلاحظ أن العبارة التي تقول إن ابن الإنسان يأتي على السحاب، فإنهم طبعاً لم يروا المسيح يأتي على السحاب بل رأوه على الصليب فكونهم يشبهونه أنه يأتي على السحاب فهذا ما لم يره أحد إطلاقاً.
- ومن النبوءات التي اتفق العلماء على أنها لم تحقق ولن تتحقق يلخصها هذا النص: "أن المسيح جالس مع تلاميذه فقالوا له قد تركنا الدنيا وتبعناك فماذا يكون لنا -وتلاميذه فيهم يهوذا الخائن- لأنه خان في آخر لحظة- قال لهم إنكم الاثني عشر ستجلسون معي على كراسي تدينون أسباط إسرائيل".
- في حوار دار بين المسيح وتلاميذه عن من تكون له النجاة في العالم الآخر، سأل بطرس معلمه عن أجر المؤمنين فقال: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا؟ فأجابه المسيح: متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر"إصحاح 19، 27، 29.
تعليق:
لقد كان يهوذا الإسخريوطي أحد التلاميذ الاثني عشر وبعد خيانته أصبح يعرف بالهالك لأنه طرد من صحبة المسيح في الدنيا والآخرة وبهذا استحال تحقيق هذه النبوءة وإذا رجعنا إلى نظير هذه الفقرة من إنجيل لوقا لوجدنا الآتي: (وهو كلام من تفسير فمتون) : "إنه حذف العدد الاثني عشر ولعل ذلك يرجع كما يقول (فمتون) إلى أنه كان يفكر في يهوذا الإسخريوطي".
تعليق:
إذن استحال تحقيق هذه النبوءة.(22/76)
- هناك نبوءة أخرى -ونكتفي بها في موضوع النبوءات- أن المسيح يدفن في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، حاول قاضي من اليهود تعجيز المسيح فقال له، "نريد منك يا معلم أن نسمع منك آية فأجاب وقال جيل شرير وفاسق يطلب آية؟ ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال يكون هكذا ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (متى) الإصحاح 12 العدد 38.
تعليق:
هذا القول جاء في الأناجيل وذكر في إنجيل (لوقا) مع اختلاف هام يلحظه القارئ وذلك في قوله: "هذا الجيل شرير يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.." (لوقا) إذن تخلص من تحديد ثلاثة أيام وثلاثة ليال.
نقرأ في سفر (يونان) من أسفار العهد القديم "أعد الرب حوتا عظيماً ليبتلع يونان فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال فصلى يونان إلى رب إله في جوف الحوت وأمر رب الحوت فقذف يونان إلى البر"إذن من الواضح لتتحقق هذه النبوءة في المسيح حسب قولهم يجب أن ينتظر ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى يظهر ثانية ويقوم.
لكن إذا رجعنا إلى ما تذكره الأناجيل من أحداث الصلب والخيانة لوجدنا أن المصلوب أنزل من على الصليب مساء الجمعة، "ولما كان المساء إذ كان الاستعداد -أي ما قبل السبت- جاء يوسف ودخل إلى بلاط الحاكم وطلب جسد يسوع، فدعا قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات؟ ولما عرف من قائد المائة.. اشترى كتاناً وأنزله وكفنه بالكتان ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر" (مرقس) إصحاح 15 عدد 42.
وقد اكتشف تلاميذ المسيح وتابعوه أن ذلك القبر كان خالياً من الميت في الساعات الأولى من فجر يوم الأحد.(22/77)
وبهذا يقول إنجيل (متى) "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر فأجاب الملاك وقال للمرأتين ليس هو ههنا لأنه قام كما قام"28 العدد 1.
كذلك يقول إنجيل (يوحنا) "وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر".
تعليق:
بعملية حسابية بسيطة نجد أن الأيام التي قضاها الميت في بطن القبر يوم وليلتان أي يوم السبت وليلة السبت والأحد، إذن لا تصح دعوة ثلاثة أيام وثلاث ليال ولذلك فقد تخلص منها (لوقا) .
مدير الندوة:
نريد أن ننظر في الذين زاروا القبر لأنه أحياناً تكون مريم المجدلية وأحياناً تكون معها مريم أم يعقوب، وأحياناً تكون الأسماء مختلفة. ثم لماذا يذهبون إلى القبر. لماذا تذهب مريم المجدلية إلى القبر؟ الإنجيل يقول أنها أخذت (حانوت) لتحنط المسيح مع أنه من المعروف أن المسيح حنط بخمسين كيلو حلبة. فإذا كان المسيح قد حنط بخمسين كيلو فلماذا تذهب مريم المجدلية في اليوم الثاني وماذا تعمل؟ ولماذا تحنطه بعد أن حنط بأكثر من نصف وزنه؟ كيف يمكن أن يعقل هذا؟ أرجو أن توضح لي الأسماء التي اختلفت فيها الأناجيل.
الأستاذ أحمد عبد الوهاب:
سيأتي ذلك عند دراستنا لموضوع القيامة.
مدير الندوة:
لا مانع لأن عندنا موضوعات عن الصلب والفداء والقيامة ستُفصل، لأن في موضوع الصلب والفداء والقيامة أربعة وثلاثين تناقضاً سنوردها ونرى هذه التناقضات ولنرى كيف قال الله سبحانه وتعالى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ... } .(22/78)
قضية الصلب:
من أكبر معجزات القرآن الكريم أنه قال أن المسيح لم يصلب الآية 157 من سورة النساء.
لكن موضوع (ابن الله) ، وهو الله ذكر في القرآن أكثر من مرة ونفي أكثر من مرة كذلك. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن. هذه قمة المعجزات. ثم موضوع الصلب ما كان ممكناً لو أن القرآن ليس من لدن حكيم خبير وأن الله لم ينزله واخترعه أحد على الأرض ما كانت هذه القصة سالفة ومعروفة في المسيحية معناها الصليب وهذه قصة مفروغ منها ما كان -ليش صلبوه مش دي مشكلة- إنما يركز على موضوع ابن الله وهو الله وعنده ما يؤيده، اليهودية تؤيد التوحيد وفلاسفة الإغريق يؤيدون التوحيد ... ؟ والقرآن دائماً يضع الحقيقة مهما كان عدد المؤمنين بها كثيرٌ أو قليل وبما أنها قضية وما تناقشه عبارة عن قضايا ففي قاعدة بسيطة متفق عليها سواء كانت الجلسة في البيت أو المحكمة أو مجلس الشعب أو الكونجرس. القاعدة تقول ما تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
مدير الندوة:
قال: إن الأخ (جيمس) يرفض الرد الآن، على أساس أن يأخذ " الأشرطة " في البيت ويدرسها مع إخوانه، وتكون ردوده في جلسة قادمة، لماذا؟ لأننا نقول معلومات مدروسة بالنسبة لنا ولعلها تكون جديدة الآن. فلا أن تتاح له فرصة كما أتيحت لنا فرصة.. وذلك ليدرس ويراجع ثم لينظر هل هذه المراجعات صحيحة أو ربما كان فيها شيء من وجهة نظره.
كما أنه (الأخ جيمس) يعتذر عن حضور جلسة الغد. ونؤجل الجلسة إلى الأربعاء. وقد سألت الأخ جيمس فتبين أن تعليقاته ستكون بعد كل جلسة، على أساس أن نتكلم في جلسة ثم يرد هو في جلسة أخرى وهذا حقه.. وهذا مشروعه وهذا هو المعقول.
الأستاذ أحمد عبد الوهاب:
قال: بالنسبة لقضية الصلب.. والأحداث التي ابتدأت بها عملية محاولة الصلب حتى انتهت بتعليق واحد على الصليب.. ترى من يكون هذا؟ وماذا قال؟ وماذا عمل؟ وكيف شهدوا عليه؟ .. إلخ.(22/79)
يمكن تقسيم ذلك إلى عدد من العناصر:
1- معروف من الأناجيل (مسح جسد المسيح بالطيب) .
اختلف في هذه الأناجيل تماماً.
فلو بحثنا عن مكان الحادث.. متى جاءت المرأة لتمسح جسده بالطيب؟ نجد في (مرقس) و (متى) نجد أن هذا الحادث بدأ في بيت (سمعان الأبرص) إنجيل مرقس إصحاح 14 عدد 1-8.
مدير الندوة:
قال: نرجو مراجعة النصوص الآن للتأكد من صحتها.
الأستاذ إبراهيم يقرأ في الإنجيل:
إنجيل (مرقس) إصحاح 14 من عدد 1 إلى عدد 8.
وإنجيل (يوحنا) إصحاح 12 من عدد 1 إلى 2.
نقرأ من إنجيل (مرقس) إصحاح 14 من عدد 1 إلى عدد 8: "وكان الفصح وأيام الفطر بعد يومين. وكان رؤساء الكهنة والكنيسة يطلبون كيف يمسكون بمقرن، يمسكونه بمقرن، ويقتلونه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب، وفيما هو في بيت عمها في بيت "سمعان الأبرص"وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب وأدين خالص كثير الثمن.. فكسرت القارورة وسكبته على رأسه وكان قوم محتاجين في أنفسهم فقالوا لماذا كان تلف الطيب هذا، لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء".
(يتبع)
قرية كاملة تعتنق الإسلام
اعتنق سكان قرية (ميناكشي) الإسلام بأجمعهم وأصبحت اليوم تسمى (رحمة نجر) .
وقد احتفل هؤلاء المسلمون الجدد بتاريخهم الجديد، وحضر الحفل ممثلو جمعية إشاعة الإسلام ورئيس العصبة الإسلامية بالهند السيد سليمان سيته والسيد عبد الصمد عضو البرلمان والأستاذ عبد الكريم باريكه من زعماء (رسالة الإنسانية) وآخرون من أساتذة الجامعة، وفي مقدمتهم سماحة الداعية الإسلامي الكبير الشيخ أبي الحسن الندوي.
الرائد الهندية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] دائرة المعارف البريطانية.(22/80)
موقعة اليرموك
دراسة تحليلية
لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل وكيل كلية الحديث بالجامعة
اليرموك نهر ينبع من جبال حوران، يجري قرب الحدود بين سوريا وفلسطين، وينحدر جنوبا ليصب في غور الأردن ثم في البحر الميت، وينتهي مصبه في جنوب الحولة، وقبل أن يلتقي بنهر الأردن بمسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلو مترا يوجد واد فسيح تحيط به من الجهات الثلاث جبال مرتفعة شاهقة الارتفاع، ويقع في الجهة اليسرى لليرموك.
اختار الروم هذا الوادي لأنه المكان الذي يتسع لجيشهم الضخم الذي عدده مائتين وأربعين ألف مقاتل.
وأما المسلمون فقد عبروا النهر إلى الجهة اليمنى، وضربوا معسكرهم هناك في واد منطبح يقع على الطريق المفتوح لجيش الروم، وبذلك أغلقوا الطريق أمام الجيش المزهو بعدده وعدده، فلم يعد للروم طريق يسلكون منه، أو يفرون إذ اضطروا للفرار، لأن جيش المسلمين قد أخذ عليهم مسلكهم الوحيد.
وقد يعجب الإنسان كثيراً، وهو ينظر إلى الخارطة، ويرى نفسه مضطراً لأن يسأل كيف رضي قواد الروم لجيوشهم هذا الموقع؟ وكيف وافق الجنود على النزول فيه وهم يرون ألا سبيل للخروج منه إلا عن طريق هذا الوادي الذي احتله المسلمون؟
أفما كان الأجدر بهم إن اضطروا إلى اتخاذ هذا المكان ميداناً للجيش لأنه لا يوجد مكان سواه يتسع لجيشهم أن يحموا الفتحة الوحيدة التي لا طريق لهم غيرها؟
لاشك أن البديهيات العسكرية تحتم حماية أمثال هذه الفتحة ليؤمن الجيش طريقه إذا اضطر إلى الخروج من هذا الوادي المحاصر بشواهق الجبال.
ولكن يبدوا أن قوات الروم كانت مغرورة بكثرتها الهائلة مزهوة بالنصر الذي أحرزته على خالد بن سعيد ومن معه من قوات المسلمين، كما يبدو أن هذا النصر أنساهم أبسط التخطيط العسكري في مثل هذا الموقف.(22/81)
ازداد حماس الخليفة لفتح الشام بعد ما أصاب خالد بن سعيد وجنده من الهزيمة والفرار، فندب أعظم قواده للذهاب إلى بلاد الشام، فأمر عمرو بن العاص على فرقة من الجيش وأمره أن يتجه بها إلى فلسطين، واستدعى يزيد بن أبي سفيان وولاه على جيش لجب فيهم سهيل بن عمر وأمثاله من أهل مكة، وألحقه بجيش آخر بقيادة أخيه معاوية، ووجه شرحبيل بن حسنة ليقود جماعة من جيش خالد بن سعيد، وندب الخليفة جيشاً عظيماً وأمَّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وعين لكل جيش طريقه، وأمره أن يسلكه حتى يصل إلى مقره. فأخذ عمرو بن العاص طريق المعرقة. وسلك أبو عبيدة الطريق نفسه، وأخذ يزيد بن أبي سفيان طريق التبوكية وسلكه معه شرحبيل بن حسنة، وتوجه الأمراء إلى الشام، فلما وصلوها نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن، ونزل عمرو بن العاص العربة [1] .
هرقل ينصح قومه:
علم الروم بدخول الجيوش الإسلامية أرضهم، فكتبوا إلى هرقل، وكان بالقدس فقال هرقل: أرى أن تصالحوا المسلمين، فو الله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام ونصف بلاد الروم [2] .
وأغضبت هذه النصيحة قواد الروم، وظنوا أن الإمبراطور قد وهن وضعف وسيسلم البلاد للغزاة الفاتحين، والحق أن هرقل قد ضعف أمام غضبة قواده، وعزم على قتال المسلمين مع يقينه بالهزيمة، وجمع هرقل الثائرين، وتوجه بهم إلى حمص، وهناك أعد جيشاً ضخم العدد كثير العدد، وقسمه أربعة أقسام، وجعل كل قسم منه يقابل فرقة من جيش المسلمين ليوهنهم ويشغلهم عن مناصرة إخوانهم.
عدد الجيش:
بلغ جيش المسلمين ثلاثين ألفا أو تقل قليلاً، وأما جيش الروم فقد بلغ مائتين وأربعين ألفا [3] .(22/82)
فزع المسلمين لهذه الأعداد الضخمة التي واجهتهم، وكتبوا إلى عمرو بن العاص يسألونه ماذا يفعلون، فأجابهم "الرأي لمثلنا الاجتماع فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة" [4] وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم بمثل ما أجابهم به بن عمرو وقال: "إن مثلكم لا يؤتى من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف، والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل رجل منكم صاحبه" [5] .
اتجه المسلمون إلى اليرموك تنفيذا لوصية الخليفة، فوجدوا الروم قد نزلوا بالوادي السابق الذكر، وعبر المسلمون النهر فنزلوا بإزائهم.
الخليفة يدرس أسباب تأخر النصر:
واستشار الخليفة أصحابه ذوي الرأي، وقلب الأمر على كل وجوهه، فاهتدى إلى أن ضعف المسلمين ناتج إلى ضعف القيادة، ذلك لأن الأمراء الذين بعثهم الخليفة إلى الشام ليس فيهم من يصلح في نظر الخليفة لخوض هذه المعركة الرهيبة، فأبو عبيدة بن الجراح مع قدرته العسكرية الفائقة إلا أنه رقيق القلب لا يقدم على الحسم، وابن العاص مع دهائه وحسن حيلته يهاب الإقدام على عدوه، وعكرمة مع إقدامه وحنكته غير أنه تنقصه دقة التقدير للمواقف، وبقية القواد لم يشتركوا من قبل في مثل هذه المعارك الكبيرة.
وهناك أمر آخر ينبغي للخليفة أن يقدره ولا يغفله ذلكم هو تساوي القواد في القدرة فليس فيهم من يقرون له بالتفوق أو العبقرية التي يتميز بها عليهم حتى يجتمعوا عليه.
ومن أجل هذا فكر الخليفة كثيراً في الأمر وطال تفكيره فالأمر ليس بالهين اليسير، وإنما هي معارك فاصلة لابد أن تحسم في الشام كما حسمت في العراق.
واهتدى الخليفة -رضي الله عنه- إلى الحل فقال لمجلس الشورى: "والله لأنسين الورم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد" [6] .
خالد يتوجه إلى الشام:(22/83)
كتب الخليفة إلى خالد يأمره بأن يستخلف على العراق ويتجه بخيرة جنده إلى الشام، وصدع خالد بأمر الخليفة واتجه إلى الشام في تسعة آلاف مقاتل من خيرة الجند، حيث اختار أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم -وضن بهم على المثنى بن حارثة خليفته على العراق، وغضب مثنى لذلك التقسيم وقال: "والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر، وبالله ما أرجوا من النصر إلا بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-" [7] فلما سمع خالد منه ذلك أرضاه وأسكته، وأراد خالد أن يغادر العراق وهو مطمئن فرد النساء والضعفاء إلى المدينة حتى لا ينشغل بهم المثنى عند منازلة عدوه.
وقطع خالد بجيشه بادية الشام المعروفة ببادية السماوة وهو طريق لم يعبره جيش قط قبل جيش خالد، وذلك لوعورته وقلة الماء فيه، وتعرض من يسلكه للهلاك بالعطش والضياع، وإنما صمم خالد على اختراق هذه البادية رغم تحذير العارفين بها لأنه كان يريد أن يباغت العدو فينزل خلفهم حتى لا يحبسوه عن إغاثة المسلمين.
وبالعزم والإيمان اخترق خالد وجيشه تلك البادية، وغامر هذه المغامرة، وقطعها في خمسة أيام، وكلما مر بجماعة من أعداء المسلمين قاتلهم وتغلب عليهم وغنم منهم حتى وصل اليرموك في آخر ربيع الآخر من السنة الثالثة عشر من الهجرة.(22/84)
كانت الجيوش الإسلامية قد نزلت موقعها من اليرموك قبل مجيء خالد إليهم بثلاثة أشهر: صفر وربيع الأول وربيع الآخر، وكان المسلمون قد ضجروا وملوا هذا الموقف الذي لا يتناسب مع إقدامهم وشجاعتهم وتضحياتهم في سبيل الله، فأرسلوا إلى الخليفة يصفون له الحال ويستمدونه ليحسموا الموقف، وكان عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قد أحس من المسلمين بما يشبه اليأس من طول المقام وعدم القدرة على خوض معركة تفصل بينهم وبين عدوهم، وخاف أن تسري هذه الروح إلى صفوف المسلمين فيضعفون ولا يستطيعون مواجهة العدو، ولم يكن العدو يرجو من وراء هذا الموقف أكثر من ذلك، فإن روح اليأس إذا سرت في جيش مهما كانت قوته لابد أن يؤول حاله إلى حد أمرين: إما أن ينسحب ويفوز خصمه بالسلامة من غير قتال، وإما أن يدخل في معركة تكون نتيجتها حتماً في مصلحة الطرف الآخر.
أدرك عمرو بن العاص أن هذه الروح بدأت تدب في أوصال الجيش المرابط أمام عدوه ثلاثة أشهر فأراد أن يخفف عنهم، وينفخ فيهم روحا جديدة تبعث فيهم الأمل، وتجدد فيهم نشاطهم وحيويتهم، فنظر إلى جيوش الروم المثيرة العدد الكثيفة العدد، ولفت نظر المسلمين إلى وضعهم الجغرافي الذي لا يحسدون عليه، وقال: "أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير" [8] .
وصادف قدوم خالد قائد المسلمين وصول باهان قائد الروم، واستبشر المسلمون بقدوم خالد، بقدر ما فرح الروم بوصول باهان، وبلغت إحصاءات الجيش عندئذ ما وصفه الطبري بقوله: وحارب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف: منهم ثمانون ألف مقيد: أربعون ألفاً مسلسلون للموت، وأربعون ألفاً مربطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل، وثمانون ألف فارس، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كانوا مقيمين، إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألف" [9] .(22/85)
وتواجه الجيشان في تعبئة لم ير مثلها قط، وكان القسيسون والشمامسة والرهبان يحرضون جيوش الروم ويحثونهم على القتال لمدة شهر قبل المعركة حتى امتلأوا حماسا واخذوا يتحينون الفرصة للقاء.
خالد يدعو إلى توحيد القيادة:
ونظر خالد إلى المسلمين فوجدهم متساندين كل جماعة على رأسها قائد ليس لها أمير واحد يجمعهم، ورأى -رضي الله عنه- بعبقريته العسكرية أن هذا الحال لا يؤدي إلى النصر، فخطب في المسلمين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بأعمالكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم متساندون، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبتكم.
قالوا: فهات فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أننا سنتياسر ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم، وقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود ولا يزيده عليه أن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله، ولا عند خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غدٍ حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم، فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن الأمر أطول مما صاروا إليه [10] .(22/86)
كانت لكلمة خالد تلك أعظم الأثر في نفوس المسلمين من تحرض القسيسين والرهبان في نفوس الروم، ولئن ظل هؤلاء يعبئون تلك التعبئة الروحية مدة شهر كامل، فإن نفوسهم لم يكن فيها من اليقين وحسن الثقة في وعد الله كما كان في نفوس المسلمين، ولذلك أثمرت كلمة خالد التي لم تستغرق دقيقتين ما لم تثمره مواعظ الرهبان والقسيسين لمدة شهر، لأن النفوس المؤمنة بالحق تكون دائماً مهيأةً لاستقبال التوجيه والموعظة، سريعة التأثر بما يلقى عليها إذا ذكرت بوعد الله -عز وجل- حسنة الثقة فيما عنده.
على أننا نرى في كلمة خالد -رضي الله عنه- من الإخلاص والحث عليه، وعظيم الاعتماد على الله ما لا يمكن أن يخيب صاحبه، زد على ذلك بعد نظر خالد، وإدراكه لما حوله من أبعاد المعركة وقدرته العسكرية التي تجعل أصحابه يدينون له من غير منازع، كل ذلك جعلهم يجتمعون على قيادته بعد أن كانوا متساندين لا يدين أحد لأحد، ولا يرى أحد أن أحداً أحق بالأمرة منه.
خطة خالد لمواجهة الروم:
اجتمع المسلمون على خالد بعد أن مكث شهراً على اليرموك ليس بينه وبين الروم قتال واقترح خالد بعد أن آلت إليه القيادة العامة لجيش المسلمين أن يقسم الجيش إلى كراديس (فرق) كل فرقة من ألف رجل، وجعل على كل كردوس رجلاً ممن اشتهروا بالشجاعة والإقدام، أمثال القعقاع بن عمرو وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهم، وأسند قيادة القلب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقيادة الميمنة إلى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وقيادة الميسرة إلى يزيد بن أبي سفيان. وقال لأصحابه: "إن عدوكم كثير وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس" [11] .(22/87)
حاول خالد بذلك أن ينسي المسلمين كثرة الروم المخيفة، وأن يظهر المسلمين في حالة تدخل الرعب والفزع في عدوهم، ولكنه لم يلبث أن سمع رجلاً يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فغضب خالد لما سمع وصاح مغضباً، بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر -يعني فرسه- براء من توجِّيه وأنهم أضعف في العدد، وكان فرسه قد حفي من مشيه بالمفازة (بادية الشام) [12] .
وخشي خالد أن تسري كلمة الرجل في صفوف المسلمين فتوهنهم، وتضعف مقاومتهم، فعجل بالمعركة ليشغل المسلمين بها بدلاً من أن يشغلوا عنها بالنظر في عددهم وعدد عدوهم.
لم ينس خالد أن يختار من جنوده من يتولى أمور المسلمين، فبعد أن نظم الكراديس واختار لها مهرة القواد، عين أبا الدرداء قاضياً، وأبا سفيان واعظاً، وجعل على الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، وكان القارئ المقداد، يقول الطبري: "ومن السنة التي سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء -وهي الأنفال- ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك" [13] .
وقام أبو سفيان بدوره كواعظ للمسلمين خير قيام فقال وهو يمشي بين الكراديس: يا معشر المسلمين، أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء كثير عدده، شديد عليكم حنقه وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة، وإن الأرض وراءكم، وبينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبراري ليس لأحد فيها معقل ولا معول إلا الصبر، ورجاء وعد الله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون.(22/88)
ثم ذهب إلى النساء فوصاهن، ثم عاد فنادى، يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، هذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، ورجع إلى موقفه في الصف حيث كان.
وقام أبو هريرة بعد أبي سفيان فقال: سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم -عز وجل- في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم [14] .
خالد يأمر بالهجوم:
سمع المسلمون هذه الكلمات فوقعت من نفوسهم موقعاً أنساهم قلتهم وكثرة عدوهم، وتطلعت قلوبهم إلى ما عند الله، وهبت عليهم من خلالها نسائم الجنة فاشتاقوا إليها، ولمح خالد في الجنود حماساً لم يره من قبل، ورأى حبهم للجهاد على النحو الذي كان يتطلع إليه منذ قدم إلى اليرموك، وتأكد أن المسلمين قد تأهبوا للمعركة بكل إمكاناتهم، فانتهز الفرصة، وأمر عكرمة والقعقاع أن ينشبا القتال، فبرز القعقاع وهو يرتجز:
يا ليتى ألقاك في الطراد
قبل اعترام الجحفل الورَّاد
وأنت في حلبتك الوارد
وتبعه عكرمة وهو يقول:
قد علم بهكنة الجواري
أني على مكرمة أحامي
ونشبت المعركة حامية الوطيس، مستعرة الأوار، السيوف تخطف الأرواح، وتزيل الهام، وتفري الأجسام.
خالد يستقبل بريد الخليفة:
وبينما المسلمون كذلك إذ أقبل البريد من المدينة مسرعاً يتخطى الناس، ويسأل عن خالد، والناس وراءه يتبعونه ليستطلعوا منه أخبار المدينة، يبشرهم بالخير، ويخبرهم عن الأمداد.
ولما بلغ البريد خالداً سلمه الكتاب، وأخبره بوفاة أبي بكر، أسر إليه يه، وأخبره بما أخبر به الجند، فسر خالد في حسن تصرف البريد وقال له: أحسنت، ووضع الكتاب في كنانته حتى لا يتطلع أحد على ما فيه فيجزع الجند، وينتشر الأمر.
إسلام قائد من قواد الروم:(22/89)
وفي الوقت نفسه خرج جرجة من صفوف الروم حتى وقف بين الصفين، ونادى ليخرج إلي خالد فخرج خالد إليه، وأناب أبا عبيدة عنه، والتقى الرجلان بين الصفين، وسأل جرجة خالد عن سبب تسميته سيف الله، فأخبره خالد بأن الرسول هو الذي سماه بذلك ودار بين الرجلين حديث طويل أسلم جرجة على أثره، وتبع خالداً إلى خيمته ليعلمه الإسلام.
موقف عكرمة من هجوم الروم:
ظن الروم أن جرجة خمل على المسلمين، وأنه في حاجة إلى المدد، فحملوا على المسلمين حملة أزالتهم عن مواقفهم، وثبت لهم عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وكانا على حامية فسطاط خالد، ولما رأى عكرمة تراجع المسلمين قال: قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن، وأفر منكم اليوم، ثم نادى في المسلمين، من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور ومعهما أربعمائة من أبطال المسلمين وفرسانهم، ودافعوا عن الفسطاط حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، وقتلوا إلا من برأ وكان منهم ضرار بن الأزور [15] .
وتراجعت الروم أمام ثبات عكرمة وأصحابه، ورأى خالد تراجع الروم فزحف بقواته يرافقه جرجة على جيوش الروم المنهزمة، وظل يضرب فيهم بسيفه ومعه جرجة يضرب ويقتل من طلوع النهار حتى مالت الشمس إلى الغروب، وقاتل كل فريق من المسلمين تحت رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا.
يقول ابن كثير: فلم تر في يوم اليرموك إلا مخًّا ساقطاً، وعصماً نادراً، وكفاً طائرة [16] .
خالد يدير المعركة:(22/90)
وواجه خالد مسيرة الروم التي حملت على ميمنة المسلمين، فقتل منهم ستة آلاف، والتفت إلى صاحبه وقال: والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس على مائة ألف منهم، فلم يكد يصل إليهم حتى انفض جمعهم، وحمل عليهم المسلمون حملة صادقة، فانكشفوا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
وصلى المسلمون صلاة الظهر والعصر إيماء: واستشهد جرجة، وحمل خالد برجاله على الروم حتى صار في وسطهم، وذعر الروم لهول ما رأوا من المسلمين، وفر خيالتهم وأفسح لهم المسلمون الطريق، فهاموا على وجوههم في البلاد، ثم تبعوا من فر من الخيالة، واقتحم خالد عليهم الخندق، وجعل الروم يقهقرون أمام الهجوم الكاسح الذي شنه خالد في اللحظة المناسبة حتى وصلوا إلى الواقوصة.
وجعل الذين سلسلوا أنفسهم لئلا يفروا يتساقطون في الواقوصة كما يتساقط الفراش في النار، وكلما سقط رجل من مجموعة سقطت معه بأكملها حتى سقط فيها، وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفاً، ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل [17] ، وأخر الناس صلاة العشائين حتى استقر الفتح.
وأمعن المسلمون في قتل الروم، وظلوا يقاتلون حتى أصبحوا، ودخل خالد رواق تذارق أخي هرقل، فلما أصبحوا وقد انتهت المعركة أتي خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه، ومسح وجهيهما، وأخذ يقطر في حلقيهما الماء حتى استشهدوا، وقال: زعم ابن حنتمة -يعني عمر- أننا لا نستشهد [18] .
وقاتل نساء المسلمين في هذا اليوم، وقتلوا عدداً كبيراً من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين ويقلن: أين تذهبون وتدعوننا للعلوج، وعندئذ يرجع المنهزمون، وكان عمرو بن العاص من المنهزمين ومعه أربعة نفر حتى بلغوا النساء، فلما زجرنهم رجعوا إلى القتال [19] .(22/91)
دفع الشبهة:
وكان يزيد بن أبي سفيان من الذين ثبتوا ولم يفروا، وقاتل قتالاً شديداً، لأن أباه مر به، وذكره بما يجب عليه وعلى أمثاله من الأمراء، وأمره بالصبر والثبات، ورغبه فيما عند الله من الأجر والمثوبة، فأجاب يزيد، أفعل إن شاء الله [20] .
وهذه الرواية ترد رواية ابن الأثير التي رواها عن عبد الله بن الزبير، وفيها يتهم أبا سفيان ورجالاً من مكة يسميهم مهاجرة الفتح، بأنهم تنحوا عن الميدان، وظلوا بعيداً يتربصون بالمسلمين فإذا ركب الروم المسلمين قالوا: إيه بني الأصفر، وإذا غلب المسلمون يقولون: ويح بني الأصفر.
تدل هذه الرواية على تجنب أبي سفيان المعركة، وأنه لم يشترك فيها، ولكن ابن الأثير نفسه يذكر ما يكذب ذلك، حيث يروى بعدها مباشرة وفي الصحيفة نفسها أن عين أبي سفيان قد أصيبت في المعركة، وذلك أمر مجمع عليه من المؤرخين، فكيف يكون أبو سفيان بعيداً عن ميدان المعركة يتربص بالمسلمين، وكيف يصيب سهم في عينه فيفقؤها وينتزع السهم من عينه أبو حثمة [21] .
ويروي ابن كثير عن سعيد بن المسيَّب عن أبيه قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتاً يكاد يملأ المعسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد [22] .
أين كان أبو سفيان وهو ينادي نصر الله؟ وهو يطلب الثبات من المسلمين؟ هل كان يطلب الثبات وهو هارب من الميدان؟ وهل يليق برجل كأبي سفيان أحد زعماء قريش أن يطلب الثبات من المسلمين ويفر هو خارج المعركة؟ ومن الذي يصيح بالمسلمين ليثبتوا ثم يرى بعد ذلك بعيداً عن الميدان؟.
أغلب الظن أن الرواية مكذوبة على أبي سفيان، فقد أجمع المؤرخون على أنه كان واعظ الجيش وروى عنه المؤرخون كلمات في الحض على القتال والحث على الثبات تثير إعجاب كل من قرأها أو سمع بها.
هزيمة الروم:(22/92)
وفر المنهزمون من اليرموك حتى بلغوا دمشق، وأما هرقل فإنه لما بلغه خبر اليرموك وكان بحمص تركها وولى عليها رجلاً وجعلها بينه وبين المسلمين، وودع سوريا الوداع الأخير.
وتوجه المسلمون بعد ذلك إلى الأردن، وطهرها مما بقي فيها من جنود الروم، ثم تابعوهم إلى دمشق حيث حاصروهم هناك.
وبلغ عدد الشهداء من المسلمين ثلاثة آلاف شهيد بينهم كثير من كبار الصحابة مثل سعيد بن الحرب بن قيس السهمي، ونعيم النحام، والنضير بن الحارث، وأبو الروم عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير. وكان في جنود هذه المعركة ألف صحابي منهم مائة ممن شهد بدراً [23] .
وغنم المسلمون كل ما كان في معسكر الروم، وكان شيئًا عظيماً حتى خص الفارس من النفل ألف وخمسمائة درهم [24] أو ألف وخمسة دراهم [25] ، وكانت الموقعة الفاصلة عند اليرموك في شهر جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة بعد أن مكث المسلمون قرابة أربعة أشهر لا ينالون من الروم، ولا ينال منهم.
ولما انتهت المعركة، وطارد المسلمون الروم حتى حاصروهم في دمشق أظهر خالد الكتاب الذي جاء به البريد، فإذا هو نعي للخليفة، وعزل لخالد من الإمارة وتولية لأبي عبيدة بن الجراح إمارة الناس، وعندئذ قال خالد -رضي الله عنه- وهو يعلن وفاة الخليفة وتولية عمر: (الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت، وكان أحب إلى من عمر والحمد لله الذي ولي عمر، وكان أبغض إلى من أبي بكر، وألزمني حبه) [26] .
وفاة الصديق:
ونحن نلاحظ خلافاً في تاريخ وفاة الصديق -رضي الله عنه- ينبغي أن يحقق، فالطبري وابن الأثير وابن كثير والسيوطي والبلاذري كلهم مجمعون على أن الوفاة كانت في جمادى الآخرة وهذا أمر لا خلاف فيه بين المؤرخين.
وكما اتفق المؤرخون على الشهر الذي توفي فيه الخليفة، فهم كذلك متفقون على أن الوفاة كانت في السنة الثالثة عشرة من الهجرة.(22/93)
ويأتي الخلاف بعد ذلك في اليوم الذي حصلت فيه الوفاة، والرواية التي تكاد تحظى بإجماع المؤرخين أنه -رضي الله عنه- اغتسل في يوم شديد البرد، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، فحم على أثر ذلك خمسة عشر يوماً، وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة [27] .
ولكننا نرى أن البريد قد وصل والمسلمون في اليرموك والمعركة دائرة بينهم وبين الروم والمؤرخون أنفسهم يرون أن معركة اليرموك انتهت في جمادى الآخرة كذلك، فمتى يصل البريد من المدينة إلى الشام؟ وفي كم يوم يقطع المسافة؟؟
إن البريد مهما كانت سرعته ر يمكن أن يقطع هذه المسافة في أقل من عشرة أيام، ولو توفى الخليفة لثمان بقين من جمادى الآخرة لتحتم أن تكون المعركة قد امتدت إلى شهر رجب.
ولهذا فإني أرجح أن تكون وفاة الصديق في النصف من جمادى الآخرة قبل انتهاء المعركة بعشرة أيام كما ذكر الطبري حيث يقول: (ومرض أبو بكر -رحمه الله- في جمادى الأولى وتوفي للنصف من جمادى الآخرة، قبل الفتح بعشرة أيام) [28] .
وهذه الأيام العشرة يمكن أن يصل البريد فيها من المدينة المنورة إلى الشام حيث تدور المعركة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن الأثير (2/406) .
[2] نفسه.
[3] الصديق أبو بكر ص 285.
[4] الطبري (3/392) ، ابن الأثير (2/406) .
[5] نفسه.
[6] ابن كثير (7/5) .
[7] ابن الأثير (2/407) .
[8] الطبري (3/393) .
[9] الطبري (3/394) .
[10] الطبري (3/395-396) ، ابن الأثير (2/411) .
[11] ابن الأثير (2/411) .
[12] ابن الأثير (2/412) .
[13] الطبري (3/397) .
[14] ابن كثير (7/9) .
[15] الطبري 3 (/401) .
[16] ابن كثير (7/12) .
[17] الطبري (3/400) .(22/94)
[18] ابن الأثير (2/414) .
[19] ابن كثير (7/13-14) .
[20] نفسه.
[21] ابن الأثير (2/414) ، والطبري (3/401) .
[22] ابن كثير (7/14) .
[23] ابن الأثير (2/410-414) .
[24] الطبري (3/400) .
[25] هيكل ص 303.
[26] ابن كثير (7/14) .
[27] الطبري (3/419) ، ابن الأثير (2/418) ، ابن كثير (7/18) ، السيوطي ص 81.
[28] الطبري (3/394) .(22/95)
منهج المؤرخين المسلمين في التأليف
الدكتور عوض عبد الهادي العطا
إن الدارس للتاريخ من مصادره الأولية، والذي يقارن ذلك بالدراسات التي طرأت حديثاً أو في فترات تاريخية متعاقبة، يجد أن هناك دراسات وأبحاثاً وخاصة كتابات الغربيين ورجال الكنسية ومن تأثر بهم من الكتاب المحدثين، يلاحظ أن حقائق في التاريخ الإسلامي وأحداثه ومرتكزاته قد أصيبت بالخدش والتجريح، أحياناً في محاولة لاستقراء أحداث التاريخ الإسلامي ووضع افتراضات خاصة للوصول إلى نتائج معينة قد يكون من بينها التأثير على الأحداث الهامة التي كونت التاريخ والتراث الإسلامي بصفة عامة، ولعل مصدر ذلك راجع إلى تأثر بعض ممن يكتبون في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية بآراء ووجهات نظر لمؤرخين آخانب أو مستشرقين.
فعندما خرجت جيوش الإسلام تحمل لواء الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية في جهادها لنشر الإسلام على عهد الخليفة أبي بكر الصديق، كان الدافع الرئيسي هو الجهاد في سبيل الله، ذلك الجهاد الذي بدأه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما أرسل الكتب إلى كبار الملوك والأباطرة حينذاك يعرض عليهم اعتناق الإسلام، وشرع في إعلاء كلمة الله.
وكان أبو بكر الصديق، قد نادى المسلمين عند بيعته العامة للجهاد باعتباره ركناً أساسياً لنشر الدين الإسلامي وذلك حين قال في خطبته المشهورة ".. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل ... " [1] .
ورغم ذلك يشير بعض الكتاب بأن هذه الفتحات لا تعدوا أن تكون امتدادا لموجات الهجرات السامية السابقة إلى مناطق الهلال الخصيب وأن هدف هذه الهجرات اقتصادي وذلك بالتحرك من مناطق مجدبة إلى مناطق أكثر خصوبة، ويذكرون آراء ليدعموا بها نظرية العامل الاقتصادي في هذه الفتحات ولا يعطون الهدف الحقيقي من هذه الفتحات الوزن الكافي له.(22/96)
الواقع أن اهتمام المؤرخين الغربيين والمستشرقين في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية كبير، ولكنه يأخذ منطلقات خاصة، وقد اهتموا بالكتابة في هذه الموضوعات وتحليل أحداثها وسرد تواريخها ولكن لما كانت خلفيتهم العلمية قائمة على دراسات علمانية ومرتكزات مسيحية أو يهودية، فإن اهتمامهم بتاريخ الإسلام لا يمكن فصله عن هذه الخلفيات، فضلاً عن أن الدارس لتاريخ معين أو لتراث معين لكي يقدم حقائقه متكاملة لابد أن يكون قد تشربه ونشأ في محيطه حتى يدرك كثيراً من حقائقه التي لا تؤخذ بالعلمية المجردة ولذلك تجد الفارق كبيراً بين كتابات هؤلاء وما خطه المؤرخون المسلمون، ذلك إن اهتمام الباحث الغربي في تاريخ الإسلام تناول الأحداث كحقائق علمية مجردة فتأثرت تخريجاته واستنتاجاته إلى حد بعيد بخلفية نشأته العلمية والحضارية ولذلك فهو لا يهتم بالقضايا ذات الخصوصية لدى المسلمين والتي لا يكون الخوض فيها لائقاً من ناحية مكانة أصحابها وخاصة ما يتعلق بشخصية الرسول الكريم عليها أفضل الصلاة وأتم التسليم وأصحابه الميامين.
كذلك فإن كثيراً من الباحثين والدارسين من المسلمين في العصر الحديث اهتموا بالكتابة في مجلات عسكرية وسياسية ومن قام بدراسة الحضارة الإسلامية تناولها في بعض الأحيان من وجهة نظر الخاصة، وقد قرأت لكتاب يكتب في تاريخ الخلفاء الراشدين، يتحدث عن الجيوش الإسلامية بأنها جيوش عربية وكيف أنها حققت انتصارات على الفرس والروم، ولم يتناول الموضوع من زاوية الإسلام التي هي أكثر شمولاً ومن أجلها خرج أولئك المجاهدون رغم أنه تخصص في التاريخ وأصبح مسئولاً في كتابة التاريخ الإسلامي وحسب.(22/97)
في حين أن بعض المؤرخين المسلمين القدامى قد خصص كتابات في الحضارة الإسلامية أوردوها من خلال كتاباتهم أو أفردوا لها أبحاثاً مستقلة تناول فيها عصراً من العصور ومنهم من كتب في حضارة الإسلام بصفة عامة من هؤلاء المؤرخ الإسلامي المقريزي (766-845 هـ) [2] . في الوقت الذي اهتم فيه كثير من المؤرخين الغربيين بحضارة الإسلام وصنفوا فيها المؤلفات مثل جوستاف لوبون في حضارة العرب وآدم متز في الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري وجب وباون Gibb. N. and Bowen في كتابهما المجتمع الإسلامي والغربي (1937) .
ويقودنا هذا المفهوم إلى أسلوب المؤرخين القدامى والذين حفظوا التراث الإسلامي وتولوا مسألة صيانته ونقله بالأمانة والدقة العلمية، فالمؤلف حينذاك يتناول أحداث التاريخ بتفاصيلها ويسردها كاملة دون أن يكثر من إبداء الرأي حولها تاركاً ذلك لمن يأتي بعده، فالطبري (310هـ) مثلاً في كتابه الشهير تاريخ الرسل والملوك، يتناول بالسند الحقيقة التاريخية وهذه بالطبع مهمة شاقة للغاية لكنها دقيقة أيضا ومن ثم جاء كتابه متكاملا اعتمد عليه شيوخ المؤرخين فيما بعد.
وينطبق مثل ذلك على ابن الأثير (630هـ) في الكامل في التاريخ وابن كثير (774 هـ) في البداية النهاية، فكلاهما تناول أحداث التاريخ بالسنوات وعرض فيها ما جد من أحداث. ولأن هؤلاء تناولوا الموضوعات بهذه الطريقة فقد عرف المؤرخ حينذاك بالإخباري الذي ينقل الخبر الحقيقي دون أن يزيد عليه أو يضفي شيئًا من تعليقه إلا ما رآه من تضارب في الروايات السابقة عن الحدث نفسه وترجيحه للصواب من حسب تقدريه له.(22/98)
ولذلك فقد حفظ لنا شيوخ المؤرخين من السلف الطيب وكتاب السيرة النبوية التراث الإسلامي الخالد طاهراً نقياً. فإن تنقيح ابن هشام لسيرة ابن إسحاق التزام بالمنهج العلمي الدقيق، فقد اهتم بتدقيق الرواية والسند الصحيح ولم ينقل كل ما ورد فيها خاصة ما اعتقد أنه من الأساطير أو الخرافات، ولعل هذا ما جعله يحذف كثيراً من الأخبار والأشعار عند تقويمه لسيرة ابن إسحاق فهو يقول في منهجه لعرض السيرة النبوية " ... وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيراً له ولا شاهداً عليه لما ذكر به من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعضه يسوء بعض الناس ذكره ... " [3] .
ومن ثم وصلت إلينا مجموعة كبيرة من المؤلفات لا يرقى لمستواها أي تراث أو حضارة لأمة أخرى بل إنها وضعت الأساس وكانت المعين التي نهلت منه الحضارات المختلفة في الشرق أو الغرب على السواء.
ذلك أن المؤلف الإسلامي الأول كان موسوعة في العلوم الإنسانية والدينية والتطبيقية، فهو يكتب في التاريخ كما يكتب في التفسير والحديث، ويعالج تخصصات مختلفة، وقد عرفت أغلب كتاباتهم بالدقة والأمانة والأصالة والموضوعية، وذلك إما بالرجوع بالسند إلى أصله وبذل الجهد والطاقة لتحقيق ذلك، أو الاعتماد على أصول لا يرقى إليها شك.
فيذكر ابن الأثير أنه حين كان في زيارة إلى البيت المقدس اجتمع حوله نفر ممن يهتمون بالعلم والحديث والحفظ والإتقان، وذكروا له أن بعض العلماء الذين كتبوا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في النسب والصحبة ولا يعرفون حقيقة الأمر وطلبوا منه أن يعد مؤلفاً في أسماء الصحابة وذلك لما يعرفونه عنه من عناية ودقة.(22/99)
ورغم ذلك فإنه اعتذر لهم في ذلك الحين لأنه لا يستطيع أن يكتب وهو بعيد عن مصادره، وعندما ألحوا عليه بدأ العمل بما تيسر له من مادة علمية وبدأ بذلك كتابه المعروف (بأسد الغابة في معرفة الصحابة) .
ويشرح منهجه في تأليف هذا الكتاب فيقول إنه جمع ما ذكره العلماء وأشار إلى أربعة منهم باعتبارهم أكثر دقة فوضع لكل منهم رمزاً كاختصار لاسمه فهو يرمز لابن منده بالعلامة (د) ولأبي نعيم بالعلامة (ع) ولابن عبد البر بالعلامة (ب) ولأبي موسى بالعلامة (س) ، فإذا اتفقوا جميعاً على اسم صحابي وضع أمام الاسم جميع هذه الإشارات وإلا ذكر الرمز الذي يشير إلى من ذكر اسم الصحابي، ويذكر في آخر الحديث اسم من أخرجه فإذا ذكر أخرجه الثلاثة مثلاً فإنه يقصد ابن منده وأبا النعيم وأبا عمر بن عبد البر، ولا يقول أخرجه فلان وفلان وفلان كما أنه التزم حروف الهجاء في ترتيب الأسماء [4] .
وهذا منهج علمي متقدم في التأليف والكتابة ويعطينا الإحساس الكامل بدقة وصحة ما يكتب، بل إن هذا المنهج تسير عليه أغلب الجامعات الحديثة عند إعداد الرسائل الجامعية، سواء في الإشارة إلى المصادر أو إلى ذكر مؤلفي المصادر أو المخطوطات وهو ما يعرف بنظام الاختصارات (abbrc.viations) وهي التي ترمز إلى نوع المصادر التي يشير إليها الباحث واسم المؤلف ومصدره كاملاً سواءً كان للمؤلف كتاب واحد أو أكثر وكمثال لذلك يمكن أن يضع الباحث اختصارات معينة ويعمل بموجبها على أن يوضح ذلك عند بداية بحثه، فمثلاً يمكن أن يشير إلى مجلة الجامعة الإسلامية بالرمز (م ج س) ويشيرون مثلا إلى الهامش بالحرف (Foot Note) (F.N) . مثلما فعل المؤرخ الإسلامي في أسد الغابة.(22/100)
ولذلك لم يعد في تقديري تدريس التاريخ يقوم على الألفاظ الرنانة التي تصور التاريخ وكأنه صور خيالية أو حقائق جافة مجردة من أي إحساس تربوي. وقد يستطيع الدارس مثلاً أن يدرك دور المجاهدين المسلمين كاملاً من خريطة توضيحية أو خطوط تصور حقيقة معركة كاملة أكثر من خطبة رنانة يلقيها مدرس التاريخ على طلابه، فقد لاحظت أن صدى ما بذله المسلمون في معركة مثل اليرموك أو فتح المدائن يظل عالقاً وواضحاً بتفاصيله لدى الدارسين عند استخدام الوسيلة التوضيحية بصورة فعالة أكثر مما لو استخدم المدرس أسلوب السرد فقط.
والحقيقة أن ما خطه المؤرخون القدامى فاق كل تقدير، ولفت نظر كل الباحثين الغربيين فقد لاحظوا المؤلف الإسلامي يكتب في كل علم بمقدرة فائقة، فقد أحصيت مؤلفات الإمام جلال الدين السيوطي فكانت 725 عدداً، ووصف بأن الكتابة كانت يسيرة عليه غير عسيرة فقد حرر في اليوم الواحد عدداً من الكراسات مع قيامه بالتدريس والإملاء، وورد أنه كتب في يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفاً وتحريراً [5] .
وإنه حين شرع في تأليف كتابه (حسن المحاضرة) طالع كتباً عديدة، زادت عن الثلاثين كتاباً منها الخطط للمقريزي وتاريخ الصحابة الذين نزلوا مصر لمحمد بن الربيع، والإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر، وطبقات الشافعية وغير ذلك [6] وقد أوفى السيوطي أو كاد أن يؤلف في كل علم كتاباً ويخرج في كل فن تصنيفاً إلا المنطق والحساب فقد ذكر أن الحساب استعصى عليه، وأنه من العذر دراسة المنطق [7] .
والواقع فإن فضل هذا العالم والمؤرخ واسع وكبير في حفظ التراث الإسلامي، وخاصة وهو يكتب في العهد المملوكي الذي ذخر بكثير من التقلبات السياسية المقترنة بأمزجة الحكام، وتداخلت عوامل كثيرة في مناهضة العلماء أو توجيه كتاباتهم بطريقة خاصة.(22/101)
ولكن اعتمد منهج الإمام السيوطي في كتابة التاريخ على تربيته ونشأته التي كانت في أسرة انقطع معظم رجالها لطلب العلم والاشتغال بالتعليم، فتعلم تعليماً دينياً عالياً وشغل منصباً في الجهاز الحكومي المملوكي حينذاك لفترة، وقد أثرت عقليته الموسوعية في منهجه في كتابة التاريخ الذي اعتمد على سعة الإطلاع وغزارة الإنتاج، وقد وجد علم التاريخ في عهد السيوطي انتعاشاً واهتماماً كبيراً، فالسخاوي أحد معاصري السيوطي ومنافسيه ألف كتابا سماه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وربما كانت المنافسة شديدة بين من يكتبون في التاريخ كعلم عام وبين من يهتمون بمسائل علمية أخرى.
وتظهر موسوعية الإمام السيوطي في هذا الكتاب حسن المحاضرة بعدد الكتب التي رجع إليها وكثرة المصادر التي نقل منها ورغم ذلك فإنه يعالج موضوعات هذا الكتاب بطريقة (تصلح لمسامرة الجليس وتكون للوحدة نعم الأنيس) فهو ينقل عن غيره مثلاً في وصف مصر أنها إقليم العجائب ومعدن الغرائب وكانت مدناً متقاربة على الشطين كأنها مدينة واحدة والبساتين خلف المدن متصلة كأنها بستان واحد والمزارع من خلف البساتين حتى قيل: أن الكتاب كان يصل من الإسكندرية إلى أسوان في يوم واحد يتناوله قيم البساتين من واحد إلى واحد، وقد دمر الله تلك المعالم وطمس على تلك الأحوال والمعدن [8] .(22/102)
ولكن السيوطي في نقله مثل هذا الخبر لم يعلق عليه بما ينقضه أو يوضح غرابته أو يشرحه بما يساعد القارئ على تفهم مثل هذه المبالغة في الوصف وربما ترك ذلك لفطنة القارئ، لأن الخبر بهذه الصورة يكون مبالغاً فيه بطريقة قد يستنكرها القارئ وخاصة فيما يتعلق بوصول الكتاب في يوم واحد من الإسكندرية إلى أسوان مهما كانت الوسيلة التي استخدمت حينذاك لتنقل مثل هذا الكتاب، على أن إقامة متقاربة متصل بعضها ببعض في العصر الإسلامي لنقل البريد كان أمراً معروفاً ومطروقاً ولكن لم يصل للدرجة التي يقطع مثل هذه المسافة في يوم واحد، وربما مثل هذا الخبر يدخل في باب المسامرة التي أرادها الإمام السيوطي بكتابه، وهو يجهد نفسه في ذكر كثير من الروايات والرجوع إلى عديد من المصادر في موضوع واحد بقصد أن يوف الموضوع حقه من العرض والدراسة.
وإذا كانت حياة العلماء بهذا المستوى الرفيع من التوسع والدقة والاهتمام في تسجيل الأحداث التاريخية والمعارف والعلوم الدينية وغيرها فإنه ينم أيضاً على مستوى حضاري عالي، ويشير إلى مقدرة في التفكير السليم، مما يساعد على توجيه الدارسين بصفة عامة ويساعد على تأكيد وجود السلوك الإسلامي والخلقي لدى هؤلاء الدارسين مما يكسبهم الخبرة والقدرة على الفهم والاستيعاب بسهولة، وهو ما اهتم به التربويون في العصور الأخيرة من أن التاريخ مادة من مهامها تدريب الذاكرة، وتقوية الخلق والفضيلة، وحل المشكلات الحاضرة [9] .
وفي دراسة التاريخ الإسلامي من مظانه الأولى معين لربط الدارسين على مناهج الدعوة الإسلامية، لأنه سجل هام لأمة الإسلام على مدى تاريخها، بتجاربها وخبراتها وتراثها الذي أثرى العالم بصفة عامة، وكان معيناً هاماً انكب عليه الغرب الأوربي فاستفاد منه وبنى عليه دعائم أساسية من حضارته العلمية.(22/103)
ومن هنا جاءت ضرورة الاهتمام بالتاريخ الإسلامي وغرسه لدى الناشئة والباحثين والدارسين على اختلاف مراحلهم، لأنه يقوي الخلق ويربطهم بأصولهم في مواقفها المتعددة وعلاقاتها المختلفة مما يولد عندهم الاهتمام بعظمة ذلك التراث وأخذ العبر منه.
لماذا الخوف والفزع من الإسلام..؟!
يقول " مورو بيرجر " في كتابه العالم العربي المعاصر: إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب بل بسبب الإسلام، يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره.
إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الأفريقية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو الفداء الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية ج 6 ص 301 (بيروت) .
[2] محمد عجاج الخطيب، لمحات في المكتبة والبحث والمصادر ص 294 (بيروت-دمشق) .
[3] ابن هشام، السيرة النبوية ج 1 ص 6، (القاهرة) .
[4] عز الدين ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 1 ص 11 (القاهرة) .
[5] أحمد الشرقاوي إقبال، مكتبة الجلال السيوطي، ص 14 الرباط (1397) .
[6] جلال الدين السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ج 1 ص 4 (القاهرة) .
[7] انظر جلال الدين السيوطي، بحوث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالاشتراك مع الجمعية المصرية للدراسات التاريخية (1976) .
[8] جلال الدين السيوطي، المصدر السابق، ص 23.
[9] عبد الحميد السيد، التاريخ في التعليم الثانوي، أهدافه، مناهجه، تدريسه، ص 4 (القاهرة) .(22/104)
نماذج أخرى من الدعاة الصالحين
عثمان بن عفان رضي الله عنه
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
(الحلقة الثالثة)
في سلسلة الدعاة الذهبية يأتي النموذج الثالث وهو عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه.
نسبه:
فمن هو عثمان بن عفان؟ إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب بن مرد بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي، الأموي المكنى بأبي عمرو، والملقب بذي النورين، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجهز جيش العسرة، المبشر بالجنة على بلوى أصابته.
فضائله:
إن لذى النورين عثمان بن عفان من الفضائل والكمالات ما لم يكن لغيره من كثير من الدعاة الصالحين ونماذجهم، بيد أن الفضائل والكمالات التي هي مجرد عطاء إلهي لا دخل للمرء في كسبها والحصول عليها، لا نحب أن نستعرضها إلا لماما، لأن الائتساء بها لا يتأتى للمرء، وإنما الائتساء يكون في الفضائل والكمالات النفسية التي جرت سنة الله تعالى باكتسابها والحصول عليها بواسطة الرياضة والجد والعمل، ومن فضائل عثمان التي لا مطمع للمرء في الحصول عليها أنه خَتَن رسول اله صلى الله عليه وسلم، تزوج اثنتين من بناته، هما رقية وأم كلثوم، فقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ابنته رقية، وأسلم وهاجر فهاجرت معه وتوفيت أيام وقعة بدر، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أم كلثوم رضي الله عنها، فتم له أن تزوج بنيتن من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي قالت فيه العلماء إنه لم يتفق لأي إنسان في هذه الحياة أن تزوج بنتي رسول قط إلا عثمان بن عفان رضي الله عنه.(22/105)
ومن فضائله الذاتية التي لا مجال للقدوة فيها أنه كان أجمل رجل في هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جزم المازني: رأيت عثمان بن عفان فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.
ومن فضائله الغير مكتسبة استحياء الملائكة منه، ورسول الله صلى اله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع ثيابه، وغطى ساقيه، لما دخل عليه عثمان، وقال غلا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟
أسبقيته:
لقد أسلم عثمان وحسن إسلامه في أول من أسلم، حيث لم يسلم قبله من رجال قريش إلا أبو بكر الصديق، فكان رابع أربعة من المسلمين، إذ أسلم قبله زيد وعلي وأبو بكر الصديق، أسلم بدعوة الصديق فكان من السابقين الأولين.
وهاجر أول من هاجر إلى الحبشة من المسلمين، فكان أول المهاجرين رضي الله عنه وأرضاه، وفي هجرته يقول صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله، إن عثمان أول هاجر إلى الله بأهله بعد لوط.
فمبادرته إلى الإسلام وإلى الهجرة تدل على كمال عقله ورجاحته، وكذلك كان رضي الله عنه، كان من أرجح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً ومن أزكاهم نفساً وأطيبهم قلباً، وأسماهم خلقاً.
صلابته في دينه، وصدقه في إيمانه:
لقد كان عثمان رضي الله عنه ذا صلابة في دينه، صادقاً في إيمانه الأمر الذي كان فيه مثالاً يحتذى وإماماً به يقتدى ولنذكر مثالين لذلك بهما تنكشف لنا هذه الحقيقة:(22/106)
الأولى: أخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان أخذ عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً، وقال له، ترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أدعك أبداً حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه وحل وثاقه، فصبره رضي الله عنه على الوثاق وما يتبعه من حرمان، وهو من هو في قومه شرفاً وعزاً ورفاهة عيش وحسن حال، دال على قوة إيمانه وصلابته فيه.
والثانية:(22/107)
أنه لما داهم المدينة الغوغاويون من مصر، مطالبين الخليفة بعزل والي مصر والقصاص منه حيث قتل رجلاً منهم ظلماً، وهاجت الفتنة في المدينة، ودخل عثمان بيته فكان لا يقدر على الخروج منه، دخل عليه المغيرة بن شعبة فقال له: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثاً: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عدداً وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن نخرق لك باباً سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على راحتك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام ومعهم معاوية، فقال رضي الله عنه: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن اخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم فلن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفض عثمان كل هذه المقترحات صابراً محتسباً، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: يا عثمان أنه لعل الله يُقَمِّصُكَ قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه حتى تلقاني، وكذلك كان أراده المنافقون أن يخلع نفسه من إمارة المسلمين، وهي القميص، فلم ير ذلك وصبر للبلاء حتى لقي الله تعالى شهيداً مخضباً بدمه في منزله بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عن عثمان وأرضاه.
سخاؤه وكرمه:
إن السخاء والكرم من صفات الكمال في الداعي، وقد لا يعثر على داعية إسلامي كان عارياً من صفة السخاء والكرم، إذ ضدهما الشح والبخل وهما من عوائق الدعوة. إذ الناس بفطرتهم لا يؤثر فيهم إلا من يكرمهم ويسخوا عليهم أما من يهينهم ويبخل عليهم فلا يستجيبون له نداء، ولا يقبلون منه دعوة.(22/108)
وعثمان بن عفان ذو النورين، وهو أحد الدعاة الصالحين، كان كريماً سخياً، لم يلمز بشح، ولم يطعن فيه ببخل، فوصله لأرحامه، وصلته لأقاربه مما نقمه عليه كثير، وكان سبب تلك الفتنة التي أودت بحياته رضي الله عنه، وإن طلبنا شاهداً على سخاء عثمان وكرمه فإنا لا نجد خيراً من تجهيزه لجيش العسرة، وتسبيله بئر رومة، فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب: قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ على الجيش، فقال عثمان بن عفان يا رسول الله عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ على الجيش، فقال عثمان بن عفان يا رسول الله عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه شيء.
وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، مرتين.
وكتجهيزه جيش العسرة حفره بئر رومه، فقد أخرج البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حين حوصر أشرف عليهم فقال أنشدكم بالله ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومه فله الجنة؟ فحفرتها، فصدقوه بما قال.
سياسته:(22/109)
كان قد غلب على عثمان طابع التقوى والرفق واللين فكان في هذا الجانب من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناهيك بالشهادات التالية: قالت عائشة لما بلغها مقتل عثمان: قتلوه وإنه والله لأوصلهم للرحم وأتقاهم للرب، وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض. وقال فيه عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الجعدة وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً عند كل مكرمة، حيياً أبياً وفياً، صاحب جيش العسرة وختن رسول الله. وقال فيه غير واحد: إنه كان طيب النفس حليماً متواضعاً رفيقاً بالناس، قال فيه المسعودي كان عثمان في نهاية الجود والكرم والسخاء والبذل في القريب والبعيد.
فغلب جانب الورع والتقوى والحلم والكرم جانب السياسة والحزم والدهاء، فلذا كان ضعيفاً في السياسة، قال فيهم بعضهم: كان عثمان عفان شيخاً كبيراً ضعيف الإرادة فلم يستطع الاضطلاع بأعباء الحكم رغم نزاهته وفضائله الكثيرة رضي الله عنه، وقد أثار بسياسة الضعف التي سار عليها مع انحيازه إلى ذوي قرباه ومحاباتهم كراهة بعض الناس من أهل المدينة ومن غيرهم من أهل الأمصار، مما جر عليه تلك الفتنة التي انتهت بقتله، وما انتهت في الحقيقة إلى اليوم، إذ كانت بداية ولم تكن لها نهاية ... والله غالب على أمره، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومع ضعف سياسة عثمان رضي الله عنه فقد كانت خلافته خيراً وبركة على المسلمين، فقد شهد المسلمون على عهده من الأموال والخيرات والكثرة الفتوحات، ما لم يشهدوه في خلافة من قبله ولا من بعده. ويكفي من ذلك فتح أفريقيا والذي كان خطوة أولى إلى فتح بلاد الأندلس.
علمه رضي الله عنه:(22/110)
أما علم عثمان فكان علماً غزيراً، كتب للرسول صلى الله عليه وسلم، واتخذه سفيراً بينه وبين قريش في صلح الحديبية، واستخلفه على المدينة في غزوته ذات الرقاع، وقد روي له ستة وأربعون حديثاً ومائة، ويكفيه علماً حفظه لكتاب الله وهي منقبة اختص بها إذ لم يجمع القرآن من الخلفاء الراشدين سواه، وكذا من الخلفاء وغيرهم ممن جاء بعدهم إلا المأمون بن هارون الرشيد، فإنه كان جامعاً للقرآن حافظاً له، ومن حفظ القرآن من أولئك البررة السابقين كان كمن أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه.
كرامته:
إن لكل ولي كرامة عند الله، وكيف لا يكرم الله وهو ذو الكرم والفضل أولياءه، وما يكرم به الله أولياءه من الكرامات أنواع: منها الدعوة المستجابة، ومنها أن يثأر الله تعالى ممن آذى وليه وعاداه، ومن كرامات عثمان على ربه تعالى ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن جهجاه الغفاري قام إلى عثمان وهو على المنبر يخطب فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته. فما حال الحول على جهجاه حتى أرسل الله في رجله الأكلة فمات منها، ومنها ما أخرجه ابن عساكر عن يزيد بن حبيب قال: بلغني أن عامة الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جُنُّوا، والعياذ بالله تعالى.
وفاته رضي الله عنه:
قضى عثمان رضي الله عنه اثنتي عشر سنة في خلافة المسلمين، منها ست سنوات لم ينقم المسلمون فيها عليه شيئا أبداً، بل كان فيها أحب إلى قريش من عمر بن الخطاب، قال الزهري: لأن عمر كان شديداً عليهم، فأما عثمان فلان لهم ووصلهم.(22/111)
وبعد الست سنوات الأولى توانى عثمان رضي الله عنه، واستعمل أقرباءه على الأمصار، وعزل كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير أقربائه. قال الزهري وكتب لمروان بخمس إفريقية، وأعطى أقربائه وأهل بيته المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا في ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي. فأنكر الناس عليه ذلك، وفي السنة الأخيرة من خلافته وهي سنة خمس وثلاثين، كثرت شكاوى أهل الأمصار، ولاسيما أهل مصر، من ولاتهم، وكانوا يطلبون من عثمان أن يعزلهم فلا يعزلهم، وجاء أهل مصر يشكون واليهم الأموي ابن أبي سرح، فكتب إليه عثمان كتاباً هدده فيه طالباً منه أن يكف عن الرعية ظلمه، فلم ينته ابن أبي سرح عما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان حتى قتله. وعندئذ تجمع كثير من الغوغاوين وأوباش الناس، وجاءوا إلى المدينة، وطالبوا الخليفة بخلع ابن أبي سرح، فاستجاب لهم وخلعه وولى محمد بن أبي بكر الصديق بدله، وكتب إليه كتاب العهد، وأمره أن يتوجه إلى مصر، فسار محمد بن أبي بكر الصديق إلى مصر في ركب من الناس، وفي أثناء الطريق شاهدوا غلاماً أسود على بعير يخبطه خبطاً، كأنه طالب أو مطلوب، فرابهم أمره فأوقفوه وسألوه من أنت؟ فمرة يقول أنا غلام أمير المؤمنين ومرة يقول أنا غلام مروان، فقال له محمد بن أبي بكر إلى من أرسلت قال إلى عامل مصر، قال بماذا؟ قال برسالة، قال معك كتاب؟ قال لا. ففتشوه فوجدوا الكتاب في إداوة قد يبست ففتقوها وأخرجوا الكتاب فاجتمعوا عليه وقرأوه، وإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك ليأتيك أمري في ذلك.(22/112)
وهنا رجع محمد بن أبي بكر ومن معه، وكانوا قد ساروا ثلاثة أيام، رجعوا إلى المدينة واجتمعوا عليهم الناس وقرأوا الكتاب على عثمان، فأنكر أن يكون قد كتب به أو أمر بكتابته، ثم اجتمع علي وطلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من الصحابة، وكلهم بدري ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي: هذا غلامك؟ قال نعم، قال والبعير بعيرك؟ قال نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب وما أمرت به، ولا علم لي به، قال علي له: فالخاتم خاتمك؟ قال نعم، قال فكيف يخرج غلامك ببعيرك، وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به، ولا وجه الغلام إلى مصر قط، وعرفوا أن الخط خط مروان، وأنه هو الذي قام بهذه المؤامرة، فطلبوا من عثمان أن يسلم إليهم مروان، فخاف أن يقتلوه، وعز عليه ذلك فأبى أن يسلمه إليهم، ولازم بيته معتصماً فيه ومروان معه، فحاصر الناقمون من الأمصار بيت عثمان وترك علي ابنيه الحسن والحسين يحرسان الباب، ويردان كل من يريد اقتحام المنزل على عثمان، غير أن البغاة تسورا الدار من منزل أحد الجيران، ودخلوا عليه يتقدمهم محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته، فقال له عثمان، والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني، فتراخت يده، وتركه وانصرف، ودخل رجلان عليه فوجآه حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وأخرج ابن عساكر أن الذي قتل عثمان رجل من أهل مصر أزرق أشقر يقال له حمار، ومن أحسن ما رثي به عثمان من المراثي رضي الله عنه وأرضاه، قول كعب بن مالك:
وأيقن أن الله ليس بغافل فكف يديه ثم أغلق بابه
عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم
العداوة البغضاء بعد التواصل
فكيف رأيت الله صب عليهم
عن الناس إدبار الرياح الجوافل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده(22/113)
وكانت عثمان رضي الله عنه على ما قيل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بالبقيع، على عمر نيف على الثمانين سنة، فرضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه.
(يتبع)
طبقات الإخوان
مما ينسب إلى الخليفة (المأمون) قوله:
الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء قد يحتاج إليه، وطبقة كالداء جنبك الله إياه.(22/114)
قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى
د/ محمد عبد المقصود جاب الله
المدرس في كلية الدعوة بالجامعة
(الحلقة الأولى)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله خير خلق الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، ومن اهتدى بهديه وسار على سنته وشريعته إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها مستنفرة الآن للدفاع عن حقوقها ضد أعدائها الذين يتربصون بها، ويتكالبون عليها تكالب الأكلة على قصاعها.
ولن يدفع هؤلاء الأعداء عنها، ويصدهم عن سبيلها، إلا إعلان الجهاد المقدس، ورفع رايته تلك الدعوة التي وجهها سمو ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير فهد بن عبد العزيز، فكان لها صدى عميق في جميع الأقطار الإسلامية، واستجابت لها بالتأييد والدعم، وباركتها قلوب الملايين من المسلمين.
ولابد من بيان المثل والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلافنا الأوائل في جهادهم وقتالهم لأعدائهم لنترسم طريقهم، ونمشي على منوالهم، وأمثل طريق للإقتداء هو غزوة بدر الكبرى تلك الغزوة التي انتصر فيها المسلمون بقوة عقيدتهم، وتفانيهم في الذود عن الإسلام، والدفاع عن حياضه ضد المشركين، وأعداء الدين.
هذه الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين، هذه الموقعة التي قدر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين، وقدَّر ربُّ العالمين أن تكون فيصلاً بين الحق والباطل، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام، ومن ثمَّ تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام، والتي ظهرت فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير، وتدبير ربِّ البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر.(22/115)
والباطل مهما طال أمده، وقريت شوكته، لابد له -على كثرة أنصاره وقوة عوده- من يوم يخر فيه صريعاً أمام روعة الحق، وقوة الإيمان {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد آية 17) .
وليست غزوة بدر الكبرى التي قام بها المسلمون في السنة الثانية من الهجرة وفي رمضان المبارك إلا تطبيقاً عملياً لهذه السُّنَّة التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صراع الحق للباطل، وهي من السنن التي لا تتبدل ولا تتغير، وليس الحديث عنها حديثاً عن مجرد معركة قامت بين فريقين اختصما على بعير أو قطعة من الأرض، أو على قتل نفس بريئة فانتصر أحدهما على الآخر، وإنما هو حديث كيف يصرع الحقُّ بجلاله الباطل بعدته.
والصراع بين الحق والباطل ليس صراع وقت دون وقت، ولا مكان دون مكان، وإنما هو شأن بشريٌّ عام ما دام الإنسان، وما دام في الإنسان إيمان ورحمة، وتقى وصلاح، وفيه كفر وقسوة، وفجور وانحراف.
وتلك طبيعة الإنسان لم يخلقه الله حين خلقه إلا كان من جنده قوى الخير تدفعه إلى الإيمان وإلى الكفاح في سبيله، وكان من جنده قوى الشر تدفعه إلى الطغيان وإلى الكفاح في سبيله قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس آية 7-10) .
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان آية 2-3) وسأتناول الحديث عنها في النقاط الآتية:
1- مقدمة الغزوة.
2- سبب الغزوة ووصف المعركة وفضل الله على المسلمين فيها.(22/116)
3- تسجيل لمواقف الخزي والعار بالنسبة لقريش ورجالها.
4- أسباب النصر وعوامله.
5- الأسرى وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم.
6- الخاتمة.
أولاً: مقدمة الغزوة:
مكث النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غير قتال صابراً على شدة إيذاء العرب بمكة المكرمة واليهود بالمدينة المنورة، فكان يأتيه أصحابه ما بين مضروب ومجروح. يشكون إليه حالهم، ويطلبون منه السماح لرد العدوان بالمثل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبروا لأنيِّ لم أومر بالقتال"، حتى أن بعض أصحابه قتل من جراء العذاب، منهم سمية أم عمار بن ياسر، وزوجها ياسر، عذَّبهما المغيرة على إسلامهما ليرجعا عنه وماتا تحت العذاب [1] .
ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، وتفنن المشركون في إيذاء المسلمين حتى أجمعوا أمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلما علم بقصدهم هاجر إلى المدينة المنورة، حيث استقبله أهلها بالترحاب وبايعوه على الإسلام.
ولم يكتف المشركون بمحاولتهم قتل النبي صلى اله عليه وسلم، بل ألبوا عليه القبائل الجاهلية لإبطال دعوته والقضاء عليها.
ومنع المستضعفون من المسلمين من الهجرة إلى المدينة فراراً بدينهم وانضماماً إلى إخوانهم. فكان أمام هذه المحاولات أن أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال من قبل الله سبحانه وتعالى.
وإذا أمعنا النظر في النصوص القرآنية التي أمر الرسول فيها بالقتال رأيناها تعترف بأن الحرب وسيلة لدفع العدوان. اعترفت بها لأن طبيعة البشر كثيراً ما تقتضي إلى التنازع والبغي، والاعتداء على الحريات.(22/117)
وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج آية 39-40) .
ففي هاتين الآيتين إذنٌ بالقتال، وتعليل له بما مني به المسلمون من الظلم والاعتداء، وما أكرهوا عليه من الإخراج من الديار والأوطان بغير حق، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء آية 75) .
يلفت الله سبحانه وتعالى إلى أن الحرب في الإسلام ليست للتحكم في الرقاب ولإذلال العباد، بل هي في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين من المؤمنين الساكنين في مكة، الذين استذلوا ومنعوا من الهجرة ليفتنوهم عن دينهم.
فالإسلام في جهادٍ دائم لا ينقطع أبداً لتحيقيق كلمة الله في الأرض ولرفع الظلم عن الأفراد والجماعات في أقطار الأرض.(22/118)
ومكة التي أكره الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة منها فراراً بدينه، والتي ترك المسلمون فيها أموالهم وديارهم، تَعْتَمِد في معيشتها على التجارة. وعمل قريش الأول هو التجارة مع الشام، وطريق التجارة إلى الشام محفوف بالخطر، فالمسلمون في طريقه، ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية ووضعها في المقام الأول، لأن القضاء عليها قضاءً على القوة العسكرية. واهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك يظهر من الغزوات الأولى والسرايا التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بدر، فقد كان هدفه الأول منها القضاء على تجارة قريش ومنع قوافلها من الخروج إلى الشام.
ونحن في عصرنا هذا نسمع عن الحرب الاقتصادية والحصار الاقتصادي وهما ذات السلاح الذي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكانت هذه الغزوات والسرايا التي قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفسه بقيادة بعضها، بمثابة الاستكشاف والاستطلاع لمعرفة قوة عدوه، والوقوف على ما يدبره القرشيون من المكايد له صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين في المدينة.... ولقد ظن الكثيرون أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يهدف بتلك السرايا والغزوات إلى جر قريش إلى الحرب.
والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرمي إلى غرضين نبيلين هما:
1- رغبته في أن تشعر قريش أن المسلمين في المدينة المنورة قوة، وأن في استطاعتهم قطع طريق القوافل إلى الشام وأن هذا معناه ضرورة إعادة النظر في موقف قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله، وأن على قريش أن تفكر جدِّياً في أن مصلحتها تقتضي التفاهم مع المسلمين، فتكفل لهم حرية الدعوة إلى الدين في نظير سلامة تجارتهم وقوافلهم.(22/119)
وكان هذا بمثابة إنذار لقريش وبيان عقبى طيشها، فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين في مكة ثم ظلت ماضية في غيِّها لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، ولا تسمح لهذا الدين أن يجد قراراً في بقعة أخرى من الأرض.
فأحب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر زعماء مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحقُ الأضرار الفادحة بهم، وأنه قد مضى إلى غير عودة ذلك العصر الذي يعتدون فيه على المؤمنين، وهم بمأمن من القصاص، لأن المؤمنين قد تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذي مكن قريشاً من مصادرة حرياتهم، واغتصاب دورهم وأموالهم.
ومن حق المسلمين أن يُعْنَوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام كثروا ولن يصدهم عن النيل منهم إلا الخوف وحده.
وهذا تفسير قوله سبحانه وتعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال آية 60) .
وهذا ما عرفته الجيوش الحديثة باسم المناورات العسكرية، والاستعراضات التي تقوم بها بين الحين والحين.
2- والغرض الثاني رغبته صلى الله عليه وسلم في أن يعقد الصلح والمعاهدات مع القبائل التي تقطن بجوار المدينة، وسيظهر ذلك في خلال الحديث عن هذه السرايا والغزوات التي سأكتفي بذكر بعضها ...
1- في صفر من السنة الثانية من الهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع جموعه من المهاجرين دون الأنصار بعد أن علم أن تجارة لقريش ستمر بطريق الشام، ومضى بجيشه حتى بلغ ودَّان [2] .(22/120)
إلا أن عير قريش كانت قد مرت من قبله، فلم يحدث اشتباك، وصالح بني ضمرة وحالفها، وكان بينه وبينها كتاب جاء فيه " بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول اله لبني ضمرة بأنهم آمنوا على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهمم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى لنصره أجابوه. عليهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله ".
وكانت هذه الغزوة أول غزوة للرسول صلى الله عليه وسلم غاب فيها عن المدينة خمس عشرة ليلة [3] .
2- وفي العام الثاني من الهجرة وفي شهر رجب بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحشً الأسدي، ومعه جماعة من المهاجرين. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما بعثه على رأس السرية: " لأبعثن إليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش " وأطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لقب أمير المؤمنين، فكان أول من تسمى به في الإسلام. ودفع إليه بكتاب وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فإذا نظر فيه ووعى ما كلفه الرسول به، مضى في تنفيذه غير مستكرهٍ أحداً من أصحابه.
فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين فإذا فيه: امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا أخبارهم.
فقال عبد الله: " سماع وطاعة " وأطلع أصحابه على كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، إلاَّ أن سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان ذهبا يبحثان عن بعير كانا يعقبانه وكان قد ندَّ فأسرتهما قريش ...(22/121)
ومضى عبد الله برفاقه حتى نزل أرض نخلة. فمرت عير قريش، فهاجهما عبد الله ومن معه، فقتل في هذه المعركة عمرو بن الخضرمي، وأسر اثنان من المشركين، وعاد عبد الله إلى المدينة ومعه العير والأسيران.
وهكذا عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن السَّرِّية فيها النصر والغلبةُ على الأعداء.
وقد وقع هذا القتال في آخر شهر رجب أي في الشهر الحرام، فلما قدم عبد الله وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" ووقف التصرف في العير والأسيرين، ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله وكثر في ذلك القيل والقال حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل، ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين [4] .
فقال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة آية 217) .
وبنزول هذه الآية سعد المسلمون وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء عبد الله في الغنيمة، وقبض على الأسيرين وهما عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فبعثت قريش تطلب فداءهما فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا فإنا نخشاكم عليهما -يعني سعدا وعتبة- فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم ".
وقدم سعد وعتبة، فسلم النبي عليه الصلاة والسلام الأسيرين، وأعلن أحدهما وهو الحكم بن كيسان إسلامه وبقي بالمدينة، ومات شهيداً في مؤتة. أما عثمان بن عبد الله فقد عاد إلى مكة ومات بها كافراً.(22/122)
وهذه الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة.
ألم يكن المسلمين مقيمين بالبلد الحرام حين قرر المشركون قتل نبيهم وسلب أموالهم. لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقصها هدم القوانين والدساتير جميعاً.
ولقد زكَّى القرآن عمل عبد الله وصحبه رضي الله عنه فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدوِّ مسافاتٍ شاسعة متعرضين للقتل في سيبل الله، متطوعين لذلك من غير إكراه أو حرج فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف.
كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 218) .
والمستشرقون الأوربيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنها ضرب من قطع الطريق، وهذه النظرية صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم، ويحكم كيف شاء، وهذا الاستشراق المغرض يذكرنا بما حدث عند قمع الإنجليز لثورة الأهلين في إفريقيا الوسطى " كينيا " وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه. إذ قال جندي إنجليزي لآخر -يصف هؤلاء الإفريقيين- إنهم وحوش تصور أن أحدهم عضني وأنا أقتله [5] .
إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنَّعي على الإسلام وأهله ...
ولقد حققت هذه السرايا أهدافها ووصلت إلى غرضها -ولم يكن ذلك إلا بقوة الإيمان وثبات العقيدة.
ثانيا: سبب الغزوة، ووصف المعركة، وفضل الله على المسلمين فيها:(22/123)
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرمي إلى القضاء على اقتصاديات قريش كما بينت، وكان يرى في ذلك إضعافاً لقوتها العسكرية. وكان قد علم بخروج قافلة كبيرة لقريش قيل أنها جمعت جميع أموالها حتى أنه لم يبق بمكة قرشي ولا قريشة يملك مثقالاً فصاعداً إلا بعث به في تلك القافلة ...
وقدرت أموالها بخمسين ألف دينار، وحملت تجارتها على ألف بعير يقودها أبو سفيان ومعه سبعة وعشرون رجلاً وفي رواية أخرى تسعة وثلاثون منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاء على هذه القافلة فيه هدم لاقتصاديات قريش بالإضافة إلى إضعاف مركزها العسكري، وما ينتج عن ذلك من زيادة قوة المسلمين، ورفع روحهم المعنوية.
وبهذا سار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العشيرة. إلا أن القافلة كانت قد مرت فرأى عليه الصلاة والسلام أن ينتظر عودتها، وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد ينتظران عودة القافلة فنزل على كشد الجهني بالحوراء، وأقاما عنده في خباء حتى مرت العير، فأسرعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يفيضان إليه بأمرها، وما رأيا منها.
ولم ينتظر الرسول صلى الله عليه وسلم عودة رسوليه إلى الحوراء، فقد كان يخشى أن تفوته في عودتها كما فاتته في ذهابها إلى الشام.
ولهذا دعا المسلمين وقال لهم: " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلَّ الله ينفلكموها " [6] .
ولم يعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد بالخروج، ولم يستحث متخلفاً فخف بعضهم وثقل بعضهم [7] .
ثم سار الرسول صلى الله عليه وسلم بمن أمكنه الخروج، وكان الذين صحبوا الرسول هذه المرة يحسبون أن مضيهم في هذا الوجه لن يعدوَ ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام، ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولتسابقوا في الخروج ولم يبق منهم أحد ...(22/124)
وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، فعلم من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك.
واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو مسرعاً إلى مكة [8] .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وكان عددهم 313 ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ثلاثة وسبعين من المهاجرين، ومائتان وأربعون من الأنصار وكان خروجهم من المدينة في رمضان، وجعل عمرو بن أم مكتوم ليصلي بالناس، واستعمل عليها أبا لبابة الأنصاري، وارتفعت أمام المسلمين رايتان سوداوان وكانت إبلهم سبعين بعيراً يتبادلون ركوبها، كل ثلاثة أو أربعة يتعاقبون بعيراً، وكان حظ الرسول صلى الله عليه وسلم كحظ سائر أصحابه فكان هو وعلي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون بعيراً، وكان رفيقا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوانه ليركب ويقولان له: " اركب حتى نمشي معك " فكان يرفض منهما هذه الدعوة ويقول: " ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما " [9] ولم يقبل أن يتميز عليهما.
وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه خوفاً من أن يفلت أبو سفيان منهم هذه المرة.
ونزل المسلمون في وادي ذَفْران، وهناك علموا بخروج قريش بأجمعها لتحمي قافلتها في أثناء عودتها.
وكانت قريش ترى في استيلاء محمد على القافلة هزيمة منكرة لها وتثبيتاً لمركزه وتأكيداً لصدق دعوته؛ ولهذا قررت أن تحاربه وتناضله، لتحمي قافلتها؛ ولتقضي على قوته فلا يعود ثانية إلى الوقوف في وجه قوافلها.
(يتبع)
العدوان على الإسلام في الفلبين
اتهم قائد جبهة مورو الإسلامية في الفلبين نور ميسواري حكومة مانيلا بالقيام بحملة إبادة هائلة للمسلمين في جنوب البلاد.(22/125)
وأن القوات الفيلبنية قتلت في الأونة الأخيرة حوالي (1500) مسلم من رجال ونساء وأطفال. واتهم ميسواري السلطة بإغلاق ثلاثة مساجد في جزيرة أنا واستخدامها كمسالخ للكلاب.
النور المغربية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سيرة ابن هشام القسم الأول ص 320 الطبعة الثانية مطبعة الحلبي 1375-1955.
[2] ودّان: قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد على الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة.
[3] السيرة لابن هشام القسم الأول ص 591، أبو الفداء 3/ 243، فتح الباري 7/ 279.
[4] السيرة لابن هشام 1/ 601-605، أبو الفداء 3/ 248-252، فتح الباري 7/280.
[5] فقه السيرة ص 225.
[6] السيرة النبوية لابن هشام 1/ 607.
[7] فتح الباري 7/ 285-286، ابن هشام 1/ 607، أبو الفداء 3/ 256.
[8] المصدر السابق، أبو الفداء 3/ 257.
[9] أبو الفداء 3/ 261.(22/126)
من عقائد السلف
الرد على الجهمية
للإمام الحافظ ابن منده 310-395هـ
تحقيق وتعليق الدكتور على بن محمد بن ناصر الفقيهي
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
(الحلقة الثانية)
باب ذكر قول الله عز وجل {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص75) .
ذكر ما يستدل به من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعز خلق آدم عليه السلام بيدين حقيقة.
1- (38) أخبرنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو المصري، ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب أين أبونا الذي أخرجنا ونفسه من الجنة؟ فأراه الله آدم، فقال موسى عليه السلام: أنت آدم فقال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال: من أنت؟ قال: أنا موسى قال: أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه، قال: نعم، قال: فما وجدت في كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق، قال: نعم، قال: ففيم تلومني في شيء سبق من الله جل وعز فيه القضاء قبلي، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى" [1] .
2- (39) أخبرنا أحمد بن عمرو، ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أنبا يونس [2] عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن وهب [3] أنه سمع أبا هريرة حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(22/127)
"احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام، فقال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك الأرض، فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله برسالته، وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني. فقال موسى بأربعين عاما، قال آدم: فهل وجدت فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه/121) قال: نعم، قال: فتلومني على أن عملت عملا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى" [4] .
3- (40) أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم مولى بني هاشم، ثنا أبو أمية الطرسوسي، ثنا أبو الوليد، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا يحي ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، حدثني أبو هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"تحاج آدم وموسى فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله على خلقه وفضلك برسالته، ثم صنعت الذي صنعت، النفس التي قتلت، قال موسى لآدم: فأنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم فعلت الذي فعلت لولا ما فعلت دخلت ذريتك الجنة، فقال آدم: تلومني في أمر قد قدر علي قبل أن أخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حج آدم موسى" [5] .(22/128)
4- (41) أخبرنا محمد بن الحسين بن القطان بنيسابور، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا النضر بن محمد الجرشي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا يحي بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة قال عكرمة بن عمار وسمعته من عبد الله بن عمير الليثي [6] ، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاج آدم وموسى، فقال آدم: يا موسى أنت الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك بكلامه على خلقه، ثم فعلت كذا وكذا، فقال موسى: يا آدم أنت آدم أبو الناس الذي خلقك جل وعز بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته ثم صنعت الذي صنعت فلولا أنت لدخل ذريتك الجنة، قال آدم لموسى: أتلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن يخلقني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى" [7] .
5- (42) أخبرنا أبو عمرو، ثنا أبو أمية، ثنا حامد بن يحي [8] ، عن أيوب ابن النجار اليمامي [9] ثنا يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " (تحاج) آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خَيَّبْتَنَا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: أنت موسى كلمك الله تكليما، وخط لك التوراة بيده واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال: بأربعين سنة، قال: فتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يَخْلُقَنِي بأربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى".
وهذه الأحاديث صحاح ثابتة لا مدفع لها، ولهذا الحديث طرق عن أبي هريرة منها أبو سلمة [10] ومحمد بن سيرين [11] والأعرج، وسعيد بن المسيب وغيرهم [12] .
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم)(22/129)
6- (43) أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبى رجاء، ثنا موسى بن هارون، ثنا قتيبة بن سعيد ح ثنا محمد بن يعقوب بنيسابور، ثنا محمد بن نعيم، ثنا قتيبة، ثنا الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تصدق أحد بصدقة إلا أخذها الرحمن عز وجل بيمينه، فيربيها كما يربى فُلُوَّه أو فصيله". وهذا خبر ثابت باتفاق [13] ، وله طرق عن أبي هريرة منها أبو صالح السمان [14] ، وأبو سعيد المقبري وغيرهما.
(ذكر خبر يدل على ما تقدم)
7- (44) أخبرنا الحسن بن محمد بن النضر، ثنا إسماعيل بن يزيد، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن اليمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما وُلُّوا" [15] وهذا حديث ثابت باتفاق.
باب
في ذكر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على معنى قول الله جل وعز {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة/64) .
1- (45) أخبرنا محمد بن سعيد بن إسحاق، ثنا عمرو بن سعيد الجمال، ثنا أبو داود الطيالسي ح/ وأخبرنا عبد بن يحي بن منده، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود، ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" [16] .(22/130)
2 - (46) أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي رجاء بمكة ثنا موسى بن هارون، ثنا محمد بن الصباح، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، حدثنى أبي، عن عبيدة الله بن مقسم، عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها، ثم يقول: أنا الجبار أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون" [17] . وهذا حديث ثابت باتفاق.
3- (47) أخبرنا عبد الرحمن بن يحي بن منده، وعبد الله بن إبراهيم المقري، قالا: ثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات أنبا على ابن إسحاق ثنا ابن المبارك، ثنا يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض" [18] .
4- (48) أخبرنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو مسعود الرازي، ثنا علي بن إسحاق عن ابن مبارك، عن عنْبسَة، عن حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله جل وعز {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر/67) ، أين الناس؟ قال: "على الصراط" [19] .
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم من ذكر اليد)
5- (49) أخبرنا أبو عمرو بني هاشم، ثنا أبو حاتم الرازي، ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه وسلم قال:
"يد الله مَلأى لا ينقصها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص مما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان، يخفض ويرفع" [20] .
(ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة تربو في كف الرحمن عز وجل) .(22/131)
6- (50) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف الأخرم بنيسابور، ثنا محمد بن نعيم، ثنا ابن قتيبة، ح وثنا محمد بن عبد الله بن أبي رجاء، ثنا موسى بن هارون، ثنا قتيبة، ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد بن يسار، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة تربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله" هذا حديث ثابت باتفاق [21] .
(ذكر خبر آخر على ما تقدم من معنى قوله لما خلقت بيدي) .
7- (51) أخبرنا محمد بن إبراهيم بن عبد الملك القرشي، ثنا أحمد بن إبراهيم البسري، ثنا أبو طاهر أحمد بن عمرو، ثنا خالى عبد الحميد، ثنا يحي بن أيوب، عن داود بن أبي هند، عن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جل وعز خلق الفردوس بيده، وحظرها عن كل مشرك ومدمن خمر" [22] .
8- (52) أخبرنا أحمد بن سلمة المؤدب بمصر، ثنا أبو الزنباع، ثنا سعيد بن عفير، ثنا يحي بن أيوب، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جل وعز خلق الفردوس بيده، وحظرها عن كل مشرك ومدمن خمر سكير" [23] .
9- (53) أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر بن أبان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي ثنا يحي بن سعيد، عن أبي عجلان، قال سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله جل وعز كتب على نفسه بيده لما خلق الخلق أن رحمتي تغلب غَضَبِي". روى هذا الحديث جماعة عن أبي هريرة، لم يذكر فيه كتب على نفسه بيده غير ابن عجلان [24] .
(ذكر خبر آخر على ما تقدم من ذكر اليد والكف) .
10- (54) أخبرنا عبد الرحمن بن يحي بن منده، وعبد الله بن إبراهيم، قالا: ثنا أحمد بن الفرات، أنبأ عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، أن رجلا قال:(22/132)
يا رسول الله أنبتدئ الأعمال أم قد قضى القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفه وقال: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار فأهل الجنة ميسرون لعمل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل النار" [25] .
رواه جماعة عن معاوية بن صالح فلم يذكروا فيه هذه اللفظة، ثم أفاض بهم في كفه. وروى الزبيدي عن راشد فقال في كفيه. فممن رواه عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى القزاز. وغيرهما، أخبرناه علي بن العباس الطحان المصري، ثنا جعفر بن سليمان النوفلي، ثنا إبراهيم بن المنذر الحراني، ثنا معن بن عيسى عن معاوية بن صالح بهذا الحديث.
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم في معنى اليد) .
11- (55) أخبرنا عبد الله بن إبراهيم المقرئ، ثنا رجا بن صهيب، ثنا يعقوب الحضرمي ثنا شعبة، ح وثنا أحمد بن عبد الله بن الحسن العدوي بمصر، ثنا معاذ بن المثنى واللفظ له، ثنا أبو الوليد ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك" [26] .
12- (56) أخبرنا عبد العزيز بن سهل الدباس بمكة، ثنا محمد بن الحسن الخرقي البغدادي، ثنا محفوظ، عن أبي توبة، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جل وعز ينزل إلى سماء الدنيا، وله في كل سماء كرسي، فإذا نزل إلى سماء الدنيا جلس على كرسيه، ثم مد ساعديه فيقول: من ذا الذي يقرض غير عادم ولا ظلوم، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يتوب فأتوب عليه، فإذا كان عند الصبح ارتفع وجلس على كرسيه"، هكذا رواه الخرقي عن محفوظ عن أبي توبة [27] عن عبد الرزاق، وله أصل عند سعيد بن المسيب مرسل [28] .(22/133)
13- (57) أخبرنا محمد بن عبد الجبار بمصر، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا ابن وهب، ثنا أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على المنبر يخطب الناس فقال:
"يأخذ الجبار سماواته والأرضين فيجعلها في كفيه، ثم يقول بهم هكذا كما يقول الغلام بالكرة، أنا الله الواحد، أنا الله العزيز" [29] .
14- (58) أخبرنا عبد الله بن جعفر البغدادي بمصر، ثنا هاشم بن يونس، ثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن عمر بن عمرو عن بعض أهل الشام قال:
إن ربك عز وجل أخذ لؤلؤة على راحته ثم دملجها بين كفيه، ثم غرسها وسط الجنة، فقال لها امتدي حتى.... مرضاتي ففعلت، فلما استوت تفجرت من أصولها أنهار الجنة وهي طوبى [30] .
15- (59) أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا أحمد بن محمد الصيدلاني البغدادي، ثنا سعيد يعني ابن عامر، ثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس في قوله: جل وعز {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَل} (الأعراف/143) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجلى منه خنصره [31] فمن نورها جعلها دكا.
16- (60) حدثنا أحمد بن زياد، ثنا أحمد بن محمد الصيدلاني، ثنا إسحاق بن أبي إسحاق، ثنا داود يعني ابن الزبرقان [32] ، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال "الجبل في الأرض". روى هذا الحديث محمد بن سواء [33] عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مثله مرفوعا. وهما من حديث شعبة غريب مرفوع.
(حديث آخر يدل على ذكر القبضة) .
17- (61) أخبرنا عبد الله بن جعفر البغدادي بمصر، ثنا يحي بن أيوب، ثنا يحي بن بكير، ثنا الليث عن خالد بن يزيد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله جل وعز يخرج قبضته من النار فيطرحهم في نهر الحياة فيدخلهم الجنة" [34] .
(حديث آخر يدل على ذكر الأصبع) .(22/134)
18- (62) أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد بمكة، ثنا الحسن بن محمد الزعفراني، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: "يا أبا القاسم إن الله يحمل الخلائق على أصبع، والسموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والبحر على أصبع، والثرى على أصبع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله جل وعز: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر/67) [35] .
19- (63) أخبرنا حاجب بن أبي بكر الطوسي، ثنا عبد الله بن حاتم الطوسي، ثنا يحي بن سعيد، ثنا سفيان، عن منصور، وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يمسك السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع والشجر على أصبع، والخلائق على أصبع، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، قال يحي بن سعيد وحدثني الفضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً [36] .
20- (64) أخبرنا أبو عمرو مولى بني هاشم، ثنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني، ثنا آدم، ثنا شيبان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن ابن مسعود، قال: جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد التوراة إن الله يجعل السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، وهذا حديث ثابت باتفاق [37] .(22/135)
21- (65) أخبرنا عبد الرحمن بن يحي، وعبد الله بن إبراهيم، قالا: ثنا أبو مسعود، أنبا محمد بن صلت [38] ، ثنا أبو كدينة [39] ، عن عطاء بن السائب [40] ، عن مسلم بن صبيح [41] ، عن ابن عباس قال:
مر رجل من اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: حدثنى يهودي فقال: أبلغك يا أبا القاسم، أن الله يجعل السماء على ذه، والأرض على ذه، فأنزل الله جل وعز {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [42] .
22- (66) أخبرنا أبو عمرو مولى بني هاشم، ثنا محمد عبد الوهاب العسقلاني، ثنا آدم، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي السائب، عن أبي الضحى، عن مسروق [43] قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهودي: أذكر من عظمة الرب جل وعز، فقال السموات على هذه، يعني الخنصر، والأرض على هذه، يعني البنصر، والجبال على هذه، يعني الوسطى، والماء على هذه يعني السبابة، وسائر الخلق على هذه يعني الإبهام، فأنزل الله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
23- (67) أخبرنا أبو عمرو مولى بني هاشم، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا آدم، ثنا حماد عن أبي سفيان، عن وهب بن منبه، قال:
ما الخلق كلهم والأرضون في قبضة الله جل وعز إلا كخردلة له ها هنا من أحدكم في العقد الثاني، يعني البنصر.
(ذكر خبر يدل على ما تقدم من ذكر الأصابع) .
23- (68) أخبرنا الحسن بن محمد بن النضر، ثنا إسماعيل بن يزيد، ثنا الوليد بن المسلم ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا بسر بن عبد الله، ثنا أبو إدريس الخولاني ثنا النواس بن سمعان، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قلب إلا وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قال: والميزان بيد الرحمن جل وعز يرفعه ويخفضه" [44] .(22/136)
25- (69) أخبرنا الحسن بن محمد بن النضر، ثنا إسماعيل بن يزيد، ثنا خلاد بن يحي، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقيل يا رسول الله أتخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به، فقال: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن جل وعز يقلبها كيف يشاء"، هكذا، ووصف سفيان الثوري بالسبابة والوسطى فحركهما، هذا حديث ثابت باتفاق [45] . وكذلك حديث النواس بن سمعان حديث ثابت رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم.
26- (70) أخبرنا خيثمة بن سليمان، ثنا أحمد بن محمد بن أبي الحناجر، ثنا الهيثم بن حميد ح/ وأخبرنا الحسن بن النضر، ثنا إسحاق بن إبراهيم البغدادي، ثنا عمر بن موسى، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قال: تجلى عز وجل منه مثل هذا، ووضع الإبهام على الخنصر"، زاد الهيثم قال حماد لثابت: لا تحدث بهذا الحديث، فلكم في صدره وقال له قولا شديدا، فقال: يعني ثابت: أنس يحدثني به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لا تحدث به [46] .
28- (71) أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر الوارق، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا هريم، ثنا محمد بن سوا، عن سعيد عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قال: "هكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بطرف الخنصر" [47] ، وهذا حديث مشهور، وقد روي من طرق عن أنس بن مالك.(22/137)
28- (72) أخبرنا خيثمة، ثنا محمد بن إبراهيم بن كثير، ثنا مؤمل، ثنا عبيد الله بن أبي المليح، عن أبي مليح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، يا رب. فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثدي"، وذكره [48] .
29- (73) أخبرنا عبد الله بن جعفر البغدادي بمصر، ثنا هارون بن كامل، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي يحي وهو سليم [49] ، عن أبي يزيد عن أبي سلام الحبشي، أنه سمع ثوبان قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: "إن ربي عز وجل أتاني الليلة في أحسن صورة فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا علم لي يا رب، فوضع كفه على كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري، فتجلى لي في السماء والأرض"، وذكر الحديث.
30- (74) أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا زهير بن محمد، عن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عايش، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس، مشرق اللون، فقلنا له، فقال:
"مالي وأتاني ربي عز وجل في أحسن صورة". الحديث [50] . هكذا رواه عن يزيد بن يزيد [51] ، وزاد في الإسناد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما عن خالد بن اللجلاج ولم يذكروا الرجل في الإسناد.(22/138)
31- (75) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، وخثيمة بن سليمان، قالا: ثنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، ثنا ابن جابر، والأوزاعي قالا: ثنا خالد بن اللجلاج، سمعت عبد الرحمن بن عايش قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث مثله وقال فيه: "فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثدي فعملت ما في الأرض والسموات"، ثم قرأ {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام/75) [52] قال عبد الله [53] ، رواه أبو سلام، عن عبد الرحمن بن عايش، عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل [54] ، وروى هذا الحديث ابن حنبل [55] . وروي هذا الحديث عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها عنهم أئمة البلاد، من أهل الشرق والغرب.
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم) .
32- (76) أخبرنا محمد بن الحسين القطان النيسابوري، ثنا أحمد بن يوسف السلمي ح/ وأنبأ عبد الرحمن بن يحي، وعبد الله بن إبراهيم، قالا: ثنا أبو مسعود الرازي، قال: أنبأ عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"خلق الله جل وعز الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق بني آدم مما وصف" [56] ، وهذا حديث ثابت باتفاق.
33- (77) أخبرنا محمد بن الحسين القطان، ثنا أبو الأزهر النيسابوري، ثنا صدقة بن سابق، قال: قرأت على محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعته يقول: "خلق الله الملائكة ثم قال، ليكن منكم ألف ألفين، فيكونون، فإن في الملائكة لخلقاً هم أصغر من الذباب"، وقال غيره وزاد فيه: "وخلقهم من نور الذراعين والصدر".(22/139)
34- (78) أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا شريح بن يونس، ثنا أبو خالد الأحمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، وقال: ليس شيء من الملائكة، إن الله قد خلقهم من نور فذكره، وأشار شريح بيده إلى صدره. وقال: أشار أبو خالد إلى صدره، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنيه أبي، ثنا أبو أسامة عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر [57] .
35- (79) أخبرنا أبو عمر مولى بني هاشم، ثنا أبو أمية الطرسوسي، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار وضرسه مثل أحد" [58] .
36- (80) (ثنا) أحمد بن محمد بن زياد، ومحمد بن يعقوب بن يوسف، قالا: ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقال: يعني جل وعز: أنا عند ظن عبدي بي، إن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" [59] .
37- (81) أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا أبو اليمان، ثنا ابن عياش، عن أم عبد الله بنت خالد بن معدان عن أبيها، أنه قال: "إن ريح الجنة ليضرب على أربعين خريفا والخريف باع الله عز وجل" [60] .
باب
قوله الله جل وعز {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص/88) .
وقال الله عز وجل {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ} (الرحمن/27) .
وذكر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على حقيقة ذلك.(22/140)
1- (82) أخبرنا عبد الرحمن بن يحي بن منده، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ثنا أبو نعيم، وعمرو بن عون، ثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنات الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وما فيهما، ليس بين القوم وبين أن ينظرو إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن، وهذه الجنات تشخب من جنات عدن، ثم تصدع بعد أنهار" [61] .
(ذكر خبر يدل على ما تقدم من النظر إلى وجه الله عز وجل) .
2- (83) أخبرنا عبد الرحمن بن يحي، وعبد الله بن إبراهيم المقرئ قالا: ثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، أنبا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس/26) ، قال: "النظر إلى وجه ربهم جل وعز" [62] ، وقال ابن مسعود رحمه الله في المسند: النظر إلى وجه ربهم جل وعز.
3- (84) أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر، ومحمد بن يعقوب الأصم بنيسابور، قالا: ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا عثمان بن عمر، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس/26) ، قال النظر إلى وجه الله جل وعز [63] ، قال أبو عبد الله: وكذلك فسرها حذيفة بن اليمان [64] .
4- (85) أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ببغداد، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا مسلم بن سالم، عن نوح بن أبي مريم، عن ثابت عن أنس قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم جل وعز".(22/141)
(ذكر خبر آخر يدل على النظر إلى وجه الله عز وجل) .
5- (86) أخبرنا خيثمة بن سليمان، ثنا محمد بن عون بن سفيان، ثنا عبد الله بن موسى، أنبا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الرضا، بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين" [65] ، رواه حماد بن سلمة عن عطاء ابن السائب مثله، وراوه أيضا أبو الدرداء عن زيد بن ثابت [66] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(ذكر خبر آخر يدل على إجازة السؤال بوجه الله عز وجل) .
6- (87) (ثنا) محمد بن إبراهيم بن مروان، ثنا أحمد بن إبراهيم البسري، ثنا مضر بن محمد بن سليمان بن أبي ضمرة، ثنا أبي، ثنا داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وجهك الكريم" [67] ، وذكر الحديث، وهذا الحديث له طرق كثيرة عن ابن عباس.
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم)
7- (88) أخبرنا خيثمة بن سليمان، ثنا أبو يحي بن أبي ميسرة، ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان، ح/ وأنبا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أحمد بن الفرات الرازي، ح/ وأخبرنا علي بن العباس الغزي، ثنا محمد بن حماد، قالا: أنبا عبد الرزاق، عن معمر قالا: جميعاً عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (الأنعام/65) ، قال: "هذه أهون" [68] .(22/142)
8- (89) أخبرنا أحمد بن الحسن، وعمر بن محمد البزار، قالا: ثنا أحمد بن عمر بن أبي عاصم، ثنا أحمد بن عبيدة العصفري؟ ثنا يعقوب بن إسحاق، ثنا سليمان بن معاذ، عن ابن المنكدر، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه (الله) إلاَّ الجنة" [69] .
وفي هذا الباب أحاديث منها: "من سألكم بوجه (الله) فأعطوه".
ومنها حديث، "ملعون من سأل بوجه الله"، ولا يثبت من جهة الرواة [70] . والله أعلم.
وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل بوجه الله، واستعاذ بوجه (الله) [71] ، وأمر من يسأل بوجه الله أن يعطي، من وجوه مشهورة، بأسانيد جياد، ورواها الأئمة عن عمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وأبي أسامة [72] ، وعبد الله بن جعفر، وغيرهم.
(ذكر خبر آخر يدل على نور الجنان من نور وجه الله عز وجل) .
9- (90) أخبرنا عبد الله بن إبراهيم، ومحمد بن محمد، قالا: ثنا أحمد بن عاصم، ثنا مؤمل، ثنا حماد بن سلمة، عن الزبير بن عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله، عن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ونهار، ونور السموات من نور وجه، وذكر الحديث بطوله.
وفي هذا المعنى خبر مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه وهب بن جرير، عن ابن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا (حين) خرج إلى الطائف: "اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له (نور) السموات"، وأخبرناه كذا. وهذا الحديث يدل على معنى قول الله تعالى، {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} ، الآية.
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم من النظر إلى وجه الله عز وجل) .
10- (91) أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي ثنا أبو معاوية عن عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة [73] ، عن ابن عمر قال:(22/143)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه (ألفي) سنة، يُرى أقصاه كما يُرى أدناه، وأن أفضلهم منزلة لَمَنْ ينظر إلى وجه الله جل وعز كل يوم مرتين" [74] .
وروى هذا الحديث إسرائيل وغيره عن ثوير مثله [75] . وروي عن ابن عمر من وجوه من قوله [76] .
(ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم) .
11- (92) أخبرنا محمد بن حاتم بمرو، ثنا عبد الله بن روح المدايني، ثنا سلام بن سليمان، عن شعبة وغيره، عن ليث، عن عثمان بن عمير، عن أنس، ح/ وثنا أحمد بن محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن حنبل واللفظ له، عن عبد الأعلى النرسي [77] ، ثنا عمرو بن يونس، عن جهضم بن عبد الله، حدثني أبو طيبة، عن عثمان بن عمير، عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقلت: ما هذه يا جبريل؟ قال: الجمعة"، وذكر الحديث، وقال فيه: "يتجلى لهم ربهم عز وجل ينظرون إلى وجهه" [78] ، هذا حديث مشهور عن عثمان بن عمير [79] .
قال أبو عبد الله، قال الله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أجمع أهل التأويل، كابن عباس [80] وغيره من الصحابة، ومن التابعين محمد بن كعب، وعبد الرحمن بن سابط، والحسن ابن أبي الحسن [81] ، وعكرمة [82] ، وأبو صالح، وسعيد بن جبير وغيرهم: أن معناه إلى وجه ربها ناظرة، والآخرون نحو معناه ومن روى عنه [83] أن معناه أنها تنتظر الثواب، فقول شاذ لا يثبت، ومعنى وجه الله عز وجل هاهنا على وجهين: أحدهما وجه حقيقة، والآخر: بمعنى الثواب.(22/144)
فأما الذي هو بمعنى الوجه في الحقيقة، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى [84] ، وصهيب [85] ، وغيرهم، مما ذكروا فيه الوجه، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه جل وعز، واستعاذته بوجه الله، وسؤاله النظر إلى وجهه جل وعز، وقوله صلى الله عليه وسلم، لا يسأل بوجه الله وقوله: أضاءت السموات بنور وجه الله، وإذا رضي عز وجل عن قوم أقبل عليهم بوجهه جل وعز، وكذلك قوله جل وعز: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة/23) ، وقول الأئمة بمعنى، إلى الوجه حقيقة الذي وعد الله جل وعز ورسوله الأولياء، وبشر به المؤمنين، بأن ينظروا إلى وجه ربهم عز وجل.
وأما الذي هو بمعنى الثواب، فكقول الله عز وجل {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (الإنسان/9) . وقوله جل وعز: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام/52) ، وما أشبه ذلك في القرآن. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما قائل يلتمس وجه الله"، وما أشبه ذلك مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فهو معنى الثواب.
وبالله التوفيق والحمد لله وحده. آخره، ولله الحمد والمنة
وكان الفراغ من هذا الكتاب المبارك أول شهر صفر المبارك
من شهور سنة أربع وثمانين بعد الألف
وختم بخير
جمعية العودة إلى الإسلام في إسبانيا
تقوم جمعية العودة إلى الإسلام في إسبانيا بحركة طيبة لإحياء روح الإسلام من جديد في بلاد الأندلس التي أخرس أعداء الله صوت مآذنها بعد سقوط الأندلس كلية على يد الصليبيين.
وجدير بالذكر أن هذه الجمعية قد بدأت نشاطها عام 1976م على عاتق اثنين من مسلمي غرناطة ثم انتقلت إلى إشبيلية ثم عادت إلى غرناطة منذ ستة أشهر فقط.
وقد وصل عدد أعضاء الجمعية لما يتجاوز المائة من كلا الجنسين.(22/145)
وقد أقامت الجمعية علاقات مع المسلمين في فرنسا والدنمارك وألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وإندونيسيا والأرجنتين.
"جريدة العلم المغربية
"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] د/ في السنة/ باب في القدر، 5/ 78 ح 4702 من طريق أحمد بن صالح قال ثنا ابن وهب به وإسناده حسن.
[2] يونس - هو ابن يزيد بن أبي النجاد الأيلي ... ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين على الصحيح، روى عن ابن شهاب، وعنه ابن وهب، تقريب 2/ 386. تهذيب 11/ 45.
[3] حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة، من الثانية، مات سنة خمس ومائة على الصحيح، روي عن أبي هريرة، وعنه ابن شهاب. تقريب 1/ 203. تهذيب 3/ 45.
[4] إسناده حسن.
[5] فيه متابعة أبي سلمة لحميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد جاء فيه تقديم قول آدم على قول موسى، ولعل هذا من عكرمة بن عمار وهو العجلي أبو عمار اليمامي، وهو صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيي بن أبي كثير اضطراب، انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 7/ 261، وتقريب التهذيب 2/ 30.
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 315.
[6] هو عبد الله بن عبيد، بالتصغير بغير إضافة ابن عمير الليثي المكي، ثقة، من الثالثة استشهد غازيا سنة ثلاث عشرة، م عم. تقريب 1/431. روى عنه عكرمة بن عمار، تهذيب 5/308. تهذيب الكمال 5/355 مصور بالجامعة الإسلامية.
[7] إسناده حسن، فقد صرح يحيي بن أبي كثير بالتحديث، ثم إن عكرمة بن عمار الذي في روايته عن يحيي بن أبي كثير اضطراب، قد رواه عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي غير أن فيه تقديم قول آدم على قول موسى، وهذا يخالف الروايات الأخرى.(22/146)
[8] حامد بن يحيي بن هانئ البلخي، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين، روي عن أيوب بن النجار، تهذيب 2/169. تقريب 1/146.
[9] أيوب بن النجار بن زياد الحنفي، أبو إسماعيل قاضي اليمامة. ثقة مدلس من الثامنة./ خ م س. وفي التهذيب قال ابن أبي مريم، عن ابن معين ثقة صدوق، وكان يقول: لم أسمع من يحيي بن أبي كثير إلا حديثا واحدا: التقى آدم وموسى. قلت: وهو هذا الحديث وقد صرح فيه بالحديث، انظر تهذيب 1/413. تقريب 1/91.
[10] خ/ في التفسير/ باب/ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. فتح الباري 8/434 ح 4838 من طريق قتيبة، ثنا أيوب بن النجار، عن يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة.
[11] خ/ التفسير/ باب/ واصطنعتك لنفسي، فتح الباري 8/434 ح 4836.
[12] منهم أبو صالح عن أبي هريرة. ت/ أبواب القدر، 6/336، ح 2217 تحفة الأحوذي.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 316. من طريق أبي الزناد وهو عبد الرحمن.
[13] م/ كتاب الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب. 2/702 ح 63.
جه /كتاب الزكاة / باب فضل الصدقة، 1/590 ح 1842.
الموطأ/ كتاب الصدقة/ باب الترغيب في الصدقة 1/615 طبعة الشعب.
ابن خزيمة/ في التوحيد ص 61.
[14] خ/ كتاب الزكاة/ باب الصدقة من كسب طيب، فتح الباري 3/278 ح 1410.
حم/2/419.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 328.
[15] م/ كتاب الإمارة/ باب فضيلة الإمام العادل....، 3/1458 ح 18، من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن نمير قالوا: ثنا سفيان بن عيينة به.
حم/ 2/160، 203.
ن/ كتاب آداب القضاة/ فضل الحاكم العادل في حكمه 8/195.
والآجري في الشريعة ص 322.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 324.(22/147)
[16] م/ كتاب التوبة/ باب قبول التوبة ... ، 4/2113 من طريق محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة به، وفيه: إن الله عز وجل يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار.
حم/ 4/395-404، كرواية مسلم.
[17] م/ كتاب صفات المنافقين، 4/2149 ح 25، من طريق سعيد بن منصور، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، ثنى أبو حازم به.
جه/ مقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية، 1/71 ح 198. وفي الزهد/ باب ذكر البعث 2/1429 ح 4275.
[18] خ/ في التفسير/ باب والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ... فتح الباري 8/551 ح 4812 من طريق.... ابن شهاب به.
وفي التوحيد/ باب قول الله تعالى {مَلِكِ النَّاسِ} فتح الباري 13/367 ح 738 من طريق.... سعيد بن المسيب به.
جه/ المقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية، 1/68 ح 192 من طريق يونس به.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 323.
[19] ابن جرير في التفسير 24/28 من طريق ابن حميد ثنا هارون بن المغيرة، عن عنسبه به.
[20] جه/ في المقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية، 1/71 ح 197.... عن أبي الزناد به.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 328.
[21] خ/ الزكاة/ باب الصدقة من كسب طيب/ فتح الباري 3/278 ح 1410 من طريق عبد الله بن منير ... عن أبي هريرة، ولفظه، فإن الله يتقبلها بيمينه.
وفي التوحيد/ باب قوله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، فتح الباري 13/415 ح 7430 عن طريق خالد ين مخلد.. عن أبي هريرة، وسعيد بن يسار عن أبي هريرة.
م/ في الزكاة/ باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، 2/702 ح 63 من طريق قتيبة بن سعيد به.
حم/ 2/331، 418، 431، 538، 541.
ت/ الزكاة/ باب ما جاء في فضل الصدقة، تحفة الأحوذي 3/327 ح 656.
الدارمي/ الزكاة/ باب فضل الصدقة، 1/333 ح 1682. تحقيق السيد عبد الله هاشم طبعة 1386 هـ.(22/148)
الموطأ/ الصدقة/ باب الترغيب في الصدقة ص 615 طبعة الشعب.
جه/ الزكاة/ باب فضل الصدقة 1/590 ح 1842.
والدارقطني، في الصفات، ورقة 4/ب خ بالجامعة الإسلامية.
[22] لم أعثر على من خرجهما، وفيما تقدم من آيات وأحاديث ما يغني عنهما. وقد وجدت للحديث شاهدا مرسل في الأسماء والصفات للبيهقي من حديث عبد الله بن الحارث عن أبيه، ص 318.
[23] لم أعثر على من خرجهما، وفيما تقدم من آيات وأحاديث ما يغني عنهما. وقد وجدت للحديث شاهدا مرسل في الأسماء والصفات للبيهقي من حديث عبد الله بن الحارث عن أبيه، ص 318.
[24] جه/ مقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية 1/67 ح 189 من طريق محمد بن يحيي ثنا صفوان بن عيسى عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، وفيه: كتب على نفسه بيده.
وابن خزيمة في التوحيد ص 58. والدارقطني في الصفات، ورقة 2/ب خ.
[25] ابن جرير الطبري، التفسير 9/117 من طريق أحمد بن الفرج الحمصي، قال: ثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزبيدي عن راشد بن سعد به، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور 3/143 أن الحديث أخرجه ابن جرير والبزار والطبراني، والآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
والآجري في الشريعة ص 172.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 326.
[26] حم/ 3/ 473 من طريق عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة. 4/ 41/ 137.
[27] محفوظ بن أبي توبة، سمع عبد الرزاق، ضعف أحمد أمره جداً وقال: كان يسمع معنا باليمين ولم يكن ينسخ، قال ابن حجر: وهو محفوظ بن الفضل، روى عن معن وضمرة وربيعة، حدث عنه إسماعيل القاضي وعمر بن أيوب السقطي ولم يترك. انتهى وذكره العقيلي في الضعفاء. توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. لسان الميزان 5/19 الطبعة الثانية سنة 1390 هـ الأعلمي للمطبوعات الميزان 3/444. تاريخ بغداد الجرح والتعديل 4/1/422-423.(22/149)
[28] الحديث ضعيف لأن فيه محفوظاً وهو ضعيف جداً كما ترى في ترجمته، وفي الباب آيات قرآنية وأحاديث صحيحة تغني عن هذا الحديث.
[29] ابن جرير في التفسير 24/26 من طريق الربيع بن سليمان، ثنا ابن وهب به. وفيه: حتى لقد رأينا المنبر وأنه ليكاد أن يسقط به.
[30] في إسناده جهالة، وهو قوله عن بعض أهل الشام.
[31] ابن جرير، التفسير 9/53 من طريق ... ثابت عن أنس نحوه.
[32] ابن الزبرقان هو الرقاشي البصري قال ابن حجر: متروك. تقريب 1/231.
[33] محمد بن سواء الدوسي، صدوق، رمي بالقدر. تقريب 2/168.
[34] خ/ التوحيد/ باب قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فتح الباري 13/420 ح 7439 من طريق ... عطاء بن يسار عن أبي سعيد به مطولا.
م/ الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية 1/167 ح 302 من طريق ... عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به مطولا.
حم/ 3/94 من طريق ... عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخذري به مطولا.
[35] خ/ كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فتح الباري، 13/393 ح 7415 من طريق عمر بن حفص بن غياث، ثنا أبي، ثنا الأعمش به.
وباب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} فتح الباري 13/438 ح 7451.
م/ كتاب المنافقين/ 4/2148 ح 21 من طريق عمر بن حفص بن غياث، ثنا أبي عن الأعمش به.
ابن خزيمة في التوحيد ص 76.
والدارقطني في الصفات، ورقة 2/1 خ.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 333.
[36] خ/ كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فتح الباري 13/393 ح 7414 من طريق مسدد سمع يحيي بن سعيد عن سفيان به.
وابن خزيمة/ في التوحيد/ باب ذكر إمساك الله تبارك وتعالى اسمه السماوات ... الخ على أصابعه ص 77.
والدارقطني في الصفات، ورقة 2/ ب خ.(22/150)
[37] خ/ التفسير/ باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فتح الباري 8/550 ح (4811 من طريق ... عبيدة عن أبي مسعودبه) .
(وفي التوحيد/ باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم) فتح الباري 13/475 ح 7513.
ابن جرير في التفسير 24/26.
م/ كتاب المنافقين، 4/2147 ح 19، من طريق أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا فضيل بن عياض، عن منصور به.
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 335.
[38] محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي، أبو جعفر الكوفي الأصم، ثقة. تقريب 2/171.
[39] أبو كدينة -وهو يحيي بن المهلب البجلي- أبو كدينة بنون مصغرا، الكوفي، صدوق. تقريب 2/359 ويظهر أنه ممن روى عن عطاء بن السائب بعد الاختلاط. انظر التقييد والإيضاح ص 442-445.
[40] عطاء بن السائب أبو محمد الثقفي الكوفي، صدوق، تغير بآخره، تقريب 2/22، تهذيب 7/206.
[41] مسلم بن صبيح، بالتصغير، الهمداني أبو الضحى الكوفي العطار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل. تقريب 2/245.
[42] ابن خزيمة في التوحيد/ باب إمساك الله تبارك وتعالى السماوات والأرض وما عليها على أصابعه ص 78 من طريق عبيد الله بن عبد الكريم ... أبو زرعة الرازي ثنا محمد بن الصلت به.
[43] مسروق بن الأجدع، ثقة، لم يدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث المتقدمة قبل هذين الحديثين متفق عليها، وهي تغني عنهما.
[44] حم/4/282 من طريق عبد الله حدثني أبي ثنا الوليد بن مسلم به.
وجه/ في المقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية، 1/72 ح 199 من طريق هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد، ثنا ابن جابر به، والدارقطني في الصفات، ورقة 4/1 خ.
وله شاهد في المسند 2/168، 173 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومن حديث عائشة 6/91، 251.
وابن خزيمة في التوحيد ص 80.(22/151)
[45] ت/قدر/ باب ما جاء أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، تحفة الأحوذي 6/349 ح 2226 من طريق هناد ... عن أبي سفيان عن أنس، وقال حديث حسن صحيح وقال روى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح، قلت: ورواية أبي سفيان عن جابر هي رواية المصنف، وقد أخرجه الدارقطني في الصفات، ورقة 4/1خ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد باب الأدعية المأثورة 10/176 رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقد أخرج م/ له شاهدا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في القدر/ باب تصريف الله تعالى القلوب 4/2045 ح 17.
وحم 2/168-173 من حديث عبد الله بن عمرو.
وحم 6/251 من حديث عائشة.
وحم 6/302، 215 من حديث أم سلمة.
[46] ابن جرير الطبري في التفسير 9/53 من طريق المثنى قال ثنا هدبة بن خالد، قال: ثنا حماد بن سلمة به.
[47] ابن جرير الطبري في التفسير 9/53 من حديث أنس.
[48] سيأتي تخريجه حديث رقم 75.
[49] سليم بن عامر الكلاعي، أبو يحي الحمصي، ثقة، من الثالثة. تقريب 1/320. تهذيب 4/166.
[50] حم4/66 من طريق عبد الله حدثني أبي، أبو عامر به أتم من هذا.
[51] ويزيد بن يزيد هو ابن جابر. وسيأتي الحديث كاملا.
[52] ابن جرير في التفسير 7/247.
[53] لعله: أبو عبد الله.(22/152)
[54] وصله ت/ في التفسير/ 9/106-107 ح 3288 تحفة الأحوذي، من طريق محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هاني ... عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عايش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل به مطولا، ثم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا صحيح وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: ثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عايش الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ. هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عايش قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عايش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح. وعبد الرحمن بن عايش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.
والدرامي في السنن /باب في رؤية الرب تعالى في النوم، 2/51 ح 2155.
[55] حم/ 5/243.
[56] م/ كتاب الزهد/ باب في أحاديث متنوعة،4/2294 ح 60. وفيه: وخلق آدم.
حم/ 6/168.
[57] الحديث من قول عبد الله بن عمرو، وقد أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 343، وأشار إلى أنه من الإسرائيليات.
والسنة/ لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ص 151.
[58] حم/ 24/171 ح 419 ترتيب الساعاتي.
الحاكم في المستدرك/ كتاب الأهوال، 4/595. على شرط البخاري ومسلم.
[59] م/ في كتاب التوبة/ باب في الحض على التوبة، 4/2102 ح 1. من طريق سويد بن سعيد ... عن أبي صالح وفيه زيادة.
خ/ في التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، فتح الباري 13/512 ح 7537 من حديث أبي هريرة.
حم/ 2/251، 413 وفيه زيادة.
جه/ في الأدب/ باب فضل العمل، 2/1255-1256 ح 3822.
خلق أفعال العباد والرد على الجهمية/ البخاري ص 188.(22/153)
والبيهقي في الأسماء والصفات ص 342.
[60] تقدم الحديث رقم 80 يغني عن هذا وهو في معناه.
[61] خ/ التوحيد، 13/433 ح 7444. من طريق علي بن عبد الله، ثنا عبد العزيز عن أبي عمران به.
م/الإيمان/ باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم 1/163 ح 296.
ت/ في الجنة/ باب ما جاء في صفة غرف الجنة/ 7/232 ح 3648.
جه/ في المقدمة/ باب فيما أنكرت الجهمية 1/66/ ح 186.
[62] م/الإيمان/ باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة 1/163 ح 297-298.
[63] الآجري في الشريعة ص 257.
[64] الآجري في الشريعة ص 265.
[65] اللالكائي في السنة/ الرؤية عن عمار بن ياسر ص 64-65 خ/ مكتبة الشيخ حماد الأنصاري بالمدينة المنورة.
وفي مجمع الزوائد، باب الأدعية المأثورة عن رسول الله، 10/177 عن السائب الثقفي قال: كنت عند عمار وكان يدعو بدعاء في صلاته، وفيه وأسألك شوقا إلى لقائك.
[66] اللالكائي في السنة/ الرؤية، عن زيد بن ثابت. خ ص 65 مكتبة الشيخ حماد الأنصاري وفي مجمع الزوائد 10/177 عن أم الدرداء قالت: كان فضالة بن عبيد يقول، الحديث رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجالهما ثقات. وكذا اللالكائي في السنة/ الرؤية ص 66.
[67] مجمع الزوائد، باب أدعية الصحابة، 10/184 وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
[68] ابن جرير في التفسير، 9/222-223.
[69] د/ الزكاة/ باب كراهية المسألة بوجه الله، 2/309-310 ح 1671. فيه سليمان بن قرم بن معاذ البصري النحوي قال ابن حجر في تقريب التهذيب: سيء الحفظ يتشيع، وفي التهذيب وثقه أحمد وضعفه آخرون تهذيب 4/213، تقريب 1/329.
وله شاهد في ن/ الزكاة/ من سأل بوجه الله 5/62 من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإسناده حسن.(22/154)
[70] في مجمع الزوائد ج/ 3/103 عن أبي عبيد مولى رفاعة بن رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: رواه الطبراني في الكبير وفيه من لم أعرفه. قال: وعن أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله ... رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن على ضعف في بعضه مع توثيق، وفي ج 10/153 باب السؤال بوجه الله الكريم عن أبي موسى الأشعري وقال: رواه الطبراني عن شيخه يحيي بن عثمان بن صالح، وهو ثقة وفيه ضعف.
[71] د/ الأدب/ باب ما يقول عند النوم، 5/301 ح 5052 من حديث علي رضي الله عنه.
[72] مجمع الزوائد، 3/102-103 قال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون إلا أن فيه بقية بن الوليد وهو مدلس ولكنه ثقة.
قوله (ألفي سنة) في د/ ألف سنة.
[73] ثوير -مصغراً- ابن أبي فاختة، بمعجمة مكسورة ومثناة مفتوحة، سعيد بن علاقة بكسر المهملة، الكوفي، أبو جهضم، ضعيف، رمي بالرفض، من الرابعة، /ت. تقريب 1/121.
[74] ت/صفة الجنة/ باب رؤية الله في الجنة، تحفة الأحوذي، 7/268-270 ح 2677. من طريق عبد بن حميد، أخبرني شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير.
[75] ابن جرير الطبري في التفسير 29/193. من طريق أبي كريب، قال ثنا الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر به.
[76] ابن جرير الطبري في التفسير 29/193. من طريق علي بن الحسين بن أبجر، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير عن ابن عمر به.
واللالكائي في السنة، الرؤية ص 61 خ مكتبة الشيخ حماد الأنصاري.
ت/ صفة الجنة/ باب رؤية الرب ... تحفة الأحوذي، 7/270 ح 2678.
واللالكائي في السنة، الرؤية ص 71 خ مكتبة السيخ حماد الأنصاري.
[77] النرسي -عبد الأعلى بن حماد بن نصر الباهلي مولاهم البصري، أبو يحي المعروف بالنرسي، بفتح النون وسكون الراء وبالمهملة، لا بأس به، من كبار العاشرة. مات سنة ست أو سبع وثلاثين. خ/ دم س تقريب 1/464.(22/155)
[78] الآجري في الشريعة ص 265.
ومجمع الزوائد/ باب في رؤية أهل الجنة لله تبارك وتعالى ... ، 10/421 قال: رواه البزار والطبراني في الأوسط بنحوه، وأبو يعلى باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وقد وثقه غير واحد وضعفه غيرهم، وإسناد البزار فيه خلاف.
[79] عثمان بن عمير. والآجري في الشريعة ص 265.
[80] واللالكائي في السنة، الرؤية ص 63-64 خ مكتبة حماد الأنصاري، وقد سرد عددا من الصحابة والتابعين فليراجع.
[81] ابن جرير: التفسير، 29/192.
[82] ابن جرير: التفسير، 29/192.
[83] روي عن مجاهد، ابن جرير: التفسير 29/192.
[84] حديث ابن موسى تقدم ح رقم 89.
[85] حديث صهيب تقدم ح رقم 83.(22/156)
الأدب الذي يريده الإسلام
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
ملاحظة: قدم هذا البحث إلى: الندوة العالمية للأدب الإسلامي، المنعقدة في ندوة العلماء بلكناو، في 13-16/6/1401هـ.
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى محمد بن عبد الله الذي أرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد فمن حق ندوة العلماء على حملة القلم الإسلامي في كل مكان أن يسجلوا لها بمزيد من التقدير المحمدة التي سبقت إليها بالدعوة إلى هذا الحفل، الذي يتوقع أن يكون له أثره البعيد في إضاءة الطريق أمام الكلمة المؤمنة، لتنطلق على نور، وتعالج قضايا الحياة على بينة، ليس فقط في نطاق العربية، لغة الإسلام الأولى والعليا، بل في كل وسائل البيان الذي يترجم به الأديب المسلم أفكاره وتصوراته وتأملاته ووجداناته.
وليست هذه هي المأثرة الأولى ولا الأخيرة التي تقدمها هذه المؤسسة الإسلامية العريقة للفكر الإسلامي، ففي تاريخها الحافل بالجلائل ما يجعلها محط الآمال لتحقيق الكبير الكريم في الأعمال في خدمة الإسلام العظيم، الشامل لكل ما يصلح الحياة من فكر وعلم وتشريع وفنون رفيعة ونظيفة.(22/157)
وإنه ليسعدني بوجه خاص أن هذه الدعوة تحقق لي حلماً جميلاً طالما دغدغ خيالي، فكتبت وخطبت وحاضرت في توجيه العزائم والأذهان إليه ... وفي كتابي الموسوم بعنوان (أفكار إسلامية) بحث مفصل لما أتصوره من موجباته وعناصره وأهدافه.. ولولا بعض التطورات المتصلة بموضوع الأدب مما أعقب ذلك البحث، خلال العشر السنوات الماضية، لاكتفيت بتقديمه إلى هذه الندوة الموقرة دون أي تعديل.. ومن هنا كان شكري لفضيلة الرائد الإسلامي الكبير الشيخ أبي الحسن أمتع الله بحياته مزدوجاً، فهو شكر على تحقيق حلمي الذي فاتحت به العديد من إخواني في هذه الديار أثناء رحلتي السابقة للهند، وهو أيضا شكر، بل تهنئة قلبية، لندوة العلماء لنهوضها بهذا الواجب الذي ليس أحق به من حملة الفكر الإسلامي في شبه القارة الهندية، التي قدمت ولا تزال تقدم لعالم الإسلام قمماً من الرجال الذين أهدوا إليه روائع من إبداعهم في مجال العلوم الإسلامية، وبخاصة الحديث الشريف الذي يكاد وقفاً عليهم في هذا العصر.. وحسبهم أن منهم العلمين العالمين اللذين أثبتا بصماتهما على ثقافة الجيل الإسلامي المعاصر، إذ كان أحدهما الشيخ أبو الحسن الندوي صاحب الصوت الأعلى في الدعوة العملية إلى تعليم إسلامي صميم متحرر من سلطان الغرب والشرق، ومجدد لبناء الشخصية الربانية على أسس الكتاب والسنة ومناهج السلف الصالح.. وكان ثانيهما الإمام أبا الأعلى المودودي تغمده الله برضوانه، ذلك السابق المجلّي في مجال الفكر العلمي، الذي رفع لواء المعرفة الإسلامية فوق سائر المذاهب الجاهلية، وقدم لهذا الجيل المخطَّطَ المحكم لنهضة واعية قادرة على مواجهة كل مشكلاته العالمية بالحلول الإسلامية الحاسمة ...(22/158)
ولقد كان بودي أن أسهم في هذه الندوة ببحث ضاف عن الأدب الإسلامي، يستوعب خبراتي الطويلة في خدمة الأدب والفكر الإسلاميين، ويعالج التطورات الطارئة على مسيرة هذا الأدب خلال تاريخه الحافل، وبخاصة في هذه الحقبة التي سجلت فيها هذه التغيرات ذروتها.. ولكن الأعباء الكثيرة، إلى قصر الوقت، حالت دون المراد، وأكرهتني على الاجتزاء بالإشارات العجلى إلى أهم النقاط التي تراودني في هذه المناسبة.
الأدب: قيمته وأثره:
بغض النظر عن كل التعريفات الاتباعية أقدم فكرتي عن الأدب على أنه (الفن المصور للشخصية الإنسانية من خلال الكلمة المؤثرة) ومن هنا كان الأدب بنظري هو ضابط الارتباط بين جوانب الحياة الإنسانية على الاختلاف منطلقاتها وتصوارتها.. وفي ضوء هذا التعريف البرقي تتضح قيمة هذا الفن وآثاره في ميسرة الحضارة البشرية على امتداد وتعدد مذاهبها.
ومع كل ضجيج الذي يحركه ذوو النوايا الطيبة في تنكرهم للكلام، وتحريضهم على الاكتفاء بالعمل، سيظل للكلمة ومفعولها العميق في إثارة العقول والقلوب، ثم التوجيه إلى الأعلى أو الأدنى من مسالك الحياة. وغير خافٍ على أولي العلم أمثله ذلك في رسالات النبيين، اللذين كانت الكلمة المبينة البليغة وسيلتهم الفضلى إلى أعماق الإنسان، وقد تجلى ذلك على أتمه في المعجزة الكبرى التي أنزلها الله على قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، قرآناً يهدي للتي هي أقوم، وسنةً تُخرجُ الناسَ من الظلمات إلى النور.
وبهذين الرافدين من أدب السماء بدأ التغيير الأكبر في أدب العرب، شعراً وخطابةً وحكمةً ومثلاً، ثم ترسُّلاً وتصنيفاً وقصةً وملحمةً.. وما إلى ذلك من أساليب وفنون أدت مهمتها في تبليغ الرسالة، وتوسيع المدارك، ونشر الثقافة العليا في كل مجال وصلت إليه الفتوح الإسلامية، أو أظله الفكر الحيّ الجديد.(22/159)
* وقد استمر ذلك الأدب عربيَّ اللسان ربانيَّ المضمون، حتى بدأ الخلل في مسيرة الحياة السياسية، فاختلف حَمَلَةُ الرسالة حتى الاقتتال، وكان مستحيلا على الأدب أن يقف على الحياد في ذلك المعترك الصاخب، فإذا هو مأخوذ بِرَهَجِهِ، يضطرب بين المختلفين في تحيز ترك أثَره عميقاً في كثير من شعره ونثره على السواء، ثم تتابعت الأحداث، وتفاقمت المشكلات، وإذا نحن خلال عصور الأدب التالية تلقاء ركامٍ من الكلام، قليل منه المتماسك في نطاقِ المواريثِ العليُا، وأكثره الزائغ الخطى هنا وهناك.. حتى إن الأديب الواحد ليجمع في نتاجه بين الضربين المتضادين من الألوان، فهو في بعضه إسلامي الرؤية لا يفارق خَطَّ النور، ولكنه في بعضه الآخر مدخول الهوية لا يمت إلى المنظور القرآني بأي صلة، والمؤسف بل المبكي أن المسيرة الأدب العربي -بخاصة- واصلت حركتها في هذا الطريق المضطرب، فلم تُقَيَّضْ لها القوة التي تردها إلى مسلك السليم، حتى إذا فوجئت بطلائع الزحف الغربي الدافق، لم تكن لديها المقومات القادرة على مواجهته بالوعي الذي يفرق بين الغث والسمين، فكان من نتائج هذه المواجهة تراكم العقبات في طريق الفكر الإسلامي، وطُغيان الضجيج الصادر عن المبهورين بتلك الطلائع.. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام جيلٍ لا يرى سبيلاً للتقدم إلاَّ بالإعراض الكلي عن المنهج الإسلامي الأصيل، والذوبان التام في تيارات الفكر الواغل الدخيل.
* وقد بلغت هذه الدفعة الرهيبة أشدها في أعقاب النكبة الكبرى التي نزلت بعالم الإسلام أثر سقوط الخلافة، إذا انفرط عِقد المجموعةِ الإسلامية، فتوزعتها النزعات الوافدة مع الزحف الغربي، فإذا الأمة أمم، والأسرة الواحدة فرق، لا تقل عدداً ولا خطراً عن الفِرَق التي أفرزتها الثقافات الدخلية خلال قرون الدولة العباسية..(22/160)
* وقد انعكست آثار ذلك كله في هذا السيل العارم من نتاج الأقلام، التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وإذا هناك أخيرا مؤتمرات مشبوهة يحمل كل منها لافتة أدبية ذات لون خاص، تحتضن في ظلالها أقزاماً لا يكادون يُرَوْن من ضالتهم، ولكنهم لا يزالون يُنْفخون وتُسَلط عليهم الأضواء الملونة حتى يشكوا أن يحجبوا الرجال ذوي الأصالة في عالم الفكر والأدب والإنتاج الحق.. ولقد اتسع المدى جناياتهم حتى شمل لغة القرآن نفسها، فراحوا ينبزونها بكل نقيصة، فهي في زعم بعضهم فقاعات من التحاسين اللفظية لا محصول لها من الفكر ولا علم، وهي في نظر بعضهم الآخر معرض للجمود الفاضح لا تمد الباحث بأي قدرة على إعطاء مدلول صحيح.. ومن هنا كان أدبها ميتاً أو مختصراً لا يملك قدرة التعبير عن أي جانب من النفس الإنسانية، فضلا عن أن يحاول اللحاق بموكب الآداب العالمية، ... وطبيعي أن غرضهم الأقصى من هذه الحملات إنما هو تشكيك قرائهم في صلاحية العربية للحياة، ومن ثم صرفهم عن الاهتمام بكتابها الأسمى الذي يقول منزله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
* على أن لكل أجل كتابه، ولكل نبأ مستقره، كما قرر الحكيم العليم، وهكذا لم يكن بُد لهذه الغمرة المضلَّلة من حد تصير إليه، ثم ينجلي ما وراءها من المخلفات، كما تنجلي سحابة الدخان المصطنع بعد أن حجبت حقائق الأشياء إلى حين. وكذلك استفرغت هاتيك المزاعم طاقاتها، فهي اليوم تترنح تحت صفعات اليقظة الإسلامية التي لم تنطفئ شعلتها قط، ولم تستسلم لمناورات الباطل، منذ الغارة الأولى التي شنتها الشعوبية القديمة، وحتى آخر السلسلة من هجمات الشعوبية الحديثة على حصون الأدب القرآني في كل مكان أتيح فيه القلم الإسلامي أن يتنفس.(22/161)
ونظرة واعية إلى ميدان الصراع الفكري الراهن، سواء على النطاق الأرض العربية وحدها، أو على مستوى العالم الإسلامي كله تكشف للمبصر هذه الحقيقة على أتمها إذ تُريه أعداء الإسلام على اختلاف هوياتهم وتبعياتهم للصليبية المحلية، أو اليهودية العالمية، أو الشيوعية المفترسة، أو الوثنية الحاقدة، قد شرعوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، أمام انتفاضة الفكر الإسلامي، الذي أخذ يكتسح بأشعته قطع الظلام التي دسها الغزو الشيطاني في غيبة الوعي الإسلامي، كما اكتسحت عصا موسى (عليه السلام) حبائل السحرة التي خُيِّل للناظرين أنها تسعى، وحسبنا شاهداً على ذلك معارض الكتاب الإسلامي التي تنهض هنا وهناك وهنالك، فتلقى من إقبال القراء على اختلاف مستوياتهم ما لا يحضى ببعضه كل نتاج الفكر الهدام في عالم الإسلام
* أجل.. لقد أثبت الأدب الإسلامي وجوده حتى اليوم شامخاً متألقاً في كل فنون الأدب، ففي حلبة الشعر يعلو صوت إقبال كل ما عداه من أصوات الشعراء العالميين، ليس فقط بالأسلوب الفني الذي تستأثر به لغة الشعر في كل لسان، بل بالروح الإيماني الذي يخترق بأسراره جدران الباطل ليستقر في القلوب، نوراً يضيء، وطاقةً تُحَرِّك، وحُبًّا تتلاشى في طريقه الحواجز، ليشعر كل مسلم في الأرض أنه عضو في جسد يشمل كل مسلم على وجه الأرض، وعلى سَنَن إقبال تنطلق مواكب الشعر الإسلامي لتوقظ ما غفا من مشاعر الإيمان، وتُثير العزائمَ الفتية للاندماج في كتائب الجهاد الزاحف لمكافحة الطغيان في كل مكان وزمان.(22/162)
وفي الطريق نفسه مضى النثر الإسلامي يصور مشكلات الحياة قاطبة: تدغدغ الضمائر، وروايةً تجسم المنظور الإسلامي في أعماق المشاعر، وبحثاً يكشف الحقائق في ضوء الوحيين، ليأخذ بأيدي التائهين إلى ساحة النور، ومقالةً تعالج مشكلات الإنسان في مسيرته اليومية، فتفتح الأعين على كل ما هو بحاجة إليه من ألوان المعرفة المضيئة، ولا حاجة لاستقصاء الفنون التي يحقق بها الأدب الإسلامي رسالته في عالم الكلمة، لأن استقصاء ذلك فوق حدود الطاقة، وقصارى القول: أن الأدب الإسلامي قد استعاد بفضل الله، ثم بهمم الصفوة من موهوبي المؤمنين، الكثير مما فقده من أسباب التفوق، ولا تزيده التجارب اليومية إلاَّ نشاطاً ودَأْباً في هذه السبيل المَهْدِيُّ بنور الله، على الرغم من مئات العقبات التي تقيمها في طريق الحق الأيدي الملوثة بجراثيم الشيوعية، والقوى المسخرة لأهواء الظُّلام من طواغيت الحكام، وبخاصة أن هذه الأيدي هي التي تقبض على مخانق الوسائل الإعلامية مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً في معظم بلاد المسلمين فتسخِّر كُل شيء لخدمة أنصابها، حتى لتجعل من المسخ الهزيل الكبير العمالقة، ومن ألد أعداء الإسلام داعيةً، يستحق ألوان التقديس، ثم زاد اضطرب الرؤية لدى الجماهير المتأثرة بالإعلام المضلِّل، ذلك التكريمُ الذي توجهه السياسة المكيافيلية لقادة الفكر التخريبي، إذ يدعون المشاركة في كل مؤتمر يحمل اسم الإسلام، ثم ينفضُّون ليستأنفوا حربهم للإسلام شريعةً وتربيةً وتعليماً وإعلاماً، وكأنهم أخذوا من وجودهم في تلك المؤتمرات تفويضاً بمواصلة مساعيهم الشيطانية لتهديم كل ما هو إسلامي، وتنشيط وتشجيع كل ما هو مضاد لحقائق الإسلام ...(22/163)
* ولا أكشف سراً إذا ذكَّرت بآخر ما يشهده عالم الإسلام، من تلك المواقف المشبوهة، حيث طُرحتْ قضية الغزو الشيوعي لأرض الإسلام في الأفغان الشقيقة، فوقف هؤلاء ينافحون عن فجائعه بكل وقاحة، وفي مجتمع آخر قريبٍ حيث طرحت قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فكان أن وقف ممثل لإحدى الدول المشاركة فيه باسم الإسلام، ليعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا يوافق على هذا الطلب، ولكن شاء الله أن يجعل من تلك المفارقات قوة جديدة للدفع الإسلامي، إذ ساعدت على تمييز الراشد من الضائع، فشدَّتْ أواصر أهل الإيمان، وأبرزت انعزالية المعادين للإسلام، وكان أعظم رد فعلٍ لموقف ذلك الرافض لحكم الله، هو الذي قدمه ممثل نيجرية المسلمة في التعقيب على ذلك الكفر الصراح، يقترفه وزير لأوقاف إسلامية، أول واجبه هو احترام عقيدة شعبه، وتسخير كل مقاومات منصبه لإعلاء كلمة ربه، فكان الرد النيجري، تذكيراً حكيماً بقوله تعالى في أمثاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} (4-59) .
ولن يقل عن هذا وذلك تلك الحملة الطائشة التي تنطلق اليوم في وجه السنة النبوية حيث يقحم رجل نفسه في مالا صلة له بعلمه، فينكر، ويفتي، ويسفه، ويريد بذلك أن يجد جيلاً من المنتفعين بما لديه من مال المسلمين يصلح لإفساد الإسلام، وهو يظن، إذا أحسنا الظن، أنه يعمل كل ذلك في خدمة الإسلام..(22/164)
أجل.. إن العقبات التي تريد تثبيط المد الإسلامي لأكبر وأكثر من أن تُحصى ولكنها على رغم من هولها، ومن النكال الذي ينزله طواغيتها بحملة الفكر الإسلامي، مما يتجاوز بفظاعته حدود التصور، لا تزيد ذلك المدَّ المقدَّسَ إلاَّ اندفعاً وانتشاراً وعمقاً، وإنها للصورة التي تبدوا أكثر ما تكون تكاملاً في ألوان الأدب الإسلامي، الذي يطالعنا صباح مساء في أكداس المنشورات، التي تدفع بها المطابع، مصنفاتٍ ودواوينَ وصحفاً ومجلاتٍ، تتعدَّدُ تخصصاتها، وتلتقي في إطاراتها المميزة على خدمة الفكر النقي في الكلمة الجميلة البلغية..
* وأخيراً.. إن عشرات الصفحات تسطر في هذا الموضوع لن تستوعب الأفكار التي تثيرها في صدور الذين أوتوا العلم، ولذلك لا نرى مندوحة عن ضغطها في فقرات محدودة تنم بالقليل عن الكثير، وتعدل عن الهامِّ والأَهَّم، عملاً بالحكمة القائلة (ما لا يدرك كله لا يترك جله) .
(1) إن منطلق الرؤية الإسلامية هي العقيدة السليمة كما أوحى بها الله وتلقيناها عن رسوله الأعظم (صلى الله عليه وسلم) دون تأويل ولا تعطيل، وما لم تتركز هذه العقيدة في قلم الأديب، حتى تسيطر على كل تصوراته، فسيظل أدبه بعيداً عن سبيل المؤمنين، وأبعد من أن يكون أدباً إسلامياً، ومن البدائه أن منبع العقيدة الصحيحة والوحي الماثل في كتاب الله وسنة نبيه، فالتزامهما إذن أساس لا مُنصرفَ عنه لتثبيت الرؤية الإسلامية السليمة في قلب الأديب وطالب الأدب على السواء، ثم الاتصال بالمؤلفات الموثوقة في نطاق الثقافة الإسلامية المبنية على هذا الأصل. ومن هنا كان فرضاً على من يريد العمل في نطاق الأدب الإسلامي أن يتشبع بهذه المناهل، كي يظل في مسيرته على طريق اللاحب فلا يزيغ بصره عنها ولا يطغى..(22/165)
(2) لقد كثر الذين يتكلمون في الإسلام، وكثر ما يكتبونه وما يذيعونه وما ينشرونه في هذا المضمار، ولكن قليل منهم الذين يلتزمون أصول هذه الحقائق الإسلامية، فهم يقولون الكثير في كتاب الله دون أن يعتمدوا في ذلك على أساس سليم، متناسين أن أي عمل يُراد تحقيقه لابد من العدة المتعلقة به. وقد وجد هؤلاء بعض الإقبال على ما يذيعونه من قبل البسطاء، فتمادوا في جرأتهم على هذه الحمقات، يحسبون، أو بعضهم، أنهم يحسنون صنعاً، وقد أُخِذَ قراؤهم ببعض الطرائف التي وُفِّقُوا إليها فتوهموا أن كل ما يقولونه حق لا مرية فيه. وفي هذا ما فيه من تغرير بالجيل الذي لم يزود بالعواصم من القواصم، وعلى هذا فلا بد من حوار مع هؤلاء، يُذَكِّرُهم ويعظهم ويوجههم إلى الحق، وينوه في الوقت نفسه بالمصيب السديد من أعمالهم، ولقد جربت ذلك مع بعضهم فوجدت نية حسنة واستجابة طيبة وإقراراً بالأخطاء ووعداً بالعدول عنها، فمثل هؤلاء لا يكتبون أدباً إسلامياً خالصاً، ولكن بالإمكان تسديد خطاهم حتى يكون ما يكتبونه من الأدب الإسلامي المنشود.
(3) لابد من تعاون الأدباء الإسلاميين على حماية الإسلام من تسرب الأفكار الدخيلة إلى حقائقه، وذلك بإيضاح استقلالية الإسلام الكاملة عن كل فكر أو مذاهب آخر، كالاشتراكية والماركسية والديموقراطية وما إلى ذلك من مُدَّعيات كثر القائلون بها في هذه الأيام، حتى يعلم القارئ أيًّا كان أن الإسلام هو دين الله المصفَّى، فلا مساومة ولا ترقيع، بل شعاره الخالد أبداً هو: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .(22/166)
(4) كذلك لا بد من قصر دلالة (الأدب الإسلامي) على معناه الحق، فإذا وجدنا لكاتب أو شاعر نتاجاً متفقاً مع روح الإسلام اعتبرناه من الأدب الإسلامي، وكل إنتاج له شذ عن ذلك الخط أعطيناه حقه من تعربف منفصلاً عن الجانب الإسلامي، وأضرب مثلاً على ذلك بالدكتور محمد إقبال فهو في الذؤابة من شعراء الإسلام، ولكنه في فلسفته بعيد عن الخط الإسلامي، لأنه أخذ بمفهومات الفلاسفة الوثنيين والصليبيين، وأثَّر بطريقته هذه على غير واحد من مفكري المسلمين في هذا الجانب، ومثله في ذلك كتَّاب قدموا للإسلام خيراً كثيراً، فهم من هذا الجانب ذوو أدب إسلامي أصيل، ولكنهم في جانب آخر من إنتاجهم خرجوا حتى على نصوص الوحي المتواترة في القرآن والحديث، فأنكروا ما هو معلوم بالضرورة، وبذلك التقوا مع المؤوِّلة على من الباطنية الذين قامت نحلهم على صرف المعاني عن وجوهها التي أجمعت عليها الأمة على توالي القرون، فأدبهم من هذه الناحية مجانب للمعنى الإسلامي ومرفوض بمقياس الإسلام.
(5) من مهام الأديب الإسلامي مناقشة هذه الانحرافات بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، حتى يستقيم أمر أهلها على الجادة، وإذا أصروا على شذوذهم كان في ذلك النقاش خير للقراء إذ يصبحون هم الشهداء عليه. ومثلُ ذلك يقال في كل محاولةٍ لتشويه الوجه الإسلامي، سواء جاءت من الخارج أو الداخل، حتى لا يصل إلى أعين القراء إلا وبإيزائها التفنيد الكفيل بتزييفها.(22/167)
(6) من العقبات التي تواجه الأدب الإسلامي في أوساط المسلمين، قلة قرائِه، إذا قيسوا بغيرهم من الشعوب المتحضرة، والكثرة من هذه القلة تتجه في اختيارها إلى المجلات الملغومة والمسمومة مأخوذة بجاذبية الإخراج، وهي علة لا مندوحة عن معالجتها بالدواء، الناجع، وهو محصور في المضمون المشوِّق والإخراج الجميل، وبازاء الجمهور الأكبر من محسني القراءة طلاباً أو عمالاً نرى أفضل ما يقدم إليهم متمثلاً في القصة التي يجب أن تمدهم بالمتعة والفائدة من خلال المنظور الإسلاميّ، الذي لا يضيق بأي جانب من الزاد الفكري الخيِّر، وفي عناية دقيقة بالإخراج المنافس بل المتفوق على سواه.(22/168)
(7) لقد أدى تدهور الثقافة في أوساط الشعبية -في البلاد العربية- إلى شيوع اللحن ومجانبة العربية السليمة، ومن ثم انتشار الأدب العامي الذي زاد في تشتيت المجموعة العربية، حتى لا يكاد يفهم العربيُّ العربيَّ إلا على طريق اللسان الوسيط، ومع أن التقدم الواسع في نطاق التعليم والنشر، قد ساعد على تفتيت الكثير من تلك الحواجز، فلا يزال لذلك الأدب العامي سوقة الرائجة في مختلف بلاد العرب، وهو منافس خطير للأدب الإسلامي الذي نريده، والذي نراه أن أفضل مقاوم لهذا الواغل هو العناية بتفصيح العامية، وأعني بها إقبال الأديب الإسلامي على تتبع المفردات الفصيحة في لغات العامة، واستعمالها في عرض مناسب خلال تعابيره، دون أن يُقيم وزناً لمقاييس البلاغيين الذين يرون ذلك من معايب البيان العربي، وبذلك نكسب المزيد من القراء في الوقت الذي نربح الرشيق الجميل الذي كان محجوبا من لغتنا الحبيبة، وبذلك يقترب أولو المواهب الشعبية من لغتهم الأم، حتى يأتي اليوم الذي يلجئون فيه إلى الأسلوب الفصيح في الإعراب عن مشاعرهم. بيد أن هذا التدبير سيظل مشلولاً حتى يمسك المدرسون وأولو العلم عن هجرهم الفصحى خلال الدروس وفي المواقف الأخرى، فيرفعوا بذلك أسلوبهم التعبيري، ويرفعوا مستويات مَن حولهم ممن لا يجدوا مفراً عن محاكاتهم والتأثر بهم من الأهلين والطلاب والإخوان.(22/169)
(8) الطفل المسلم هو إنسان الغد الذي سيتعهد البناء الاجتماعي بالإعلاء أو التدمير، وقد أهملناه طويلاً فلم نسعفه بالتوجيه الإسلامي الحافظ، ولم نقدم إليه من المنشورات ما يحبب إليه القراءة، والقراءة الإسلامية بوجه خاص، ومن المؤسف القول بأن ما تقوم به بعض المجلات الإسلامية من محاولات لسد هذه الثغرة قلما يراعي استعداده الفطري والبيئي، وبذلك يظل عرضة للمؤثرات غير الإسلامية، ولا سيما بعد تسلط التلفاز والفيديو والوسائل الإعلامية الأخرى على جو المنزل، وهذا يقتضي من كتاب القصص الإسلامي بوجه خاص إعادة النظر في هذا الجانب، وبذل الوسع لإيجاد البديل الإسلامي الجذاب، الذي يجب أن يأخذ سبيله إلى الطفل والبيت عن طريق هذه الأجهزة الحديثة بأي ثمن، ولئن كان بعض هذه الأجهزة مغلق النوافد والأبواب بوجه الإسلاميين فإن بعضها الآخر مفتوح ولله الحمد، وقد بدأ يبذل رعايته لهذا النوع المنشود من الأدب الرفيع في مسلسلات معتبر من التجارب الناجحة في هذا الميدان. فما على القاصّ الإسلامي إذن إلا إبداع الروائع لتأخذ طريقها إلى تلك الميادين، محفوقة برعاية المؤمنين من ذوي النفود الفعال في تلك الأجهزة.
(9) للقلم المسلم جولاته المشرقة في كل جانب من عالم الإسلام، فهناك القصة الجيدة، والمقالة البارعة، والبحث النافع، والمؤلف الفخم العميق، ومن الظلم لهذا الإنتاج الكريم أن يُحبس في نطاق اللغة التي أنشئ فيها. ومن فضل الله أن كثيراً من هذه الكرائم قد أخذت سبيلها للترجمة إلى مختلف لغات المسلمين، وكان لها الفضل الكثير في توثيق عرى الأخوة بين أعضاء الجسم الإسلامي، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى المزيد من هذا المجهود المحمود.(22/170)
وطبيعي أن لذلك تكاليف تنوء بها كواهل الأفراد من الناشرين، اللذين لا مندوحة لهم عن إقامة أعمالهم على أساس الربح والخسار، ومن هنا كان أثرهم في إشاعة هذا الخير محدوداً في نطاق قدراتهم الشخصية، ويمكن تدارك ذلك عن طريق الاستعانة بإعانات المحسنين من ميسوري المسلمين، الذين لمسنا آثارهم في كل مكان ولله الحمد، وكثير منهم على أتم الاستعداد للإسهام في نشر المؤلفات التي يتقرر نفعها للناس، لو أتيح من يقنعهم بأهمية هذا النوع من الإحسان. وإني لأعرف رجالاً يبذلون الآلاف المؤلفة في بناء المساجد تقرباً إلى الله، ولكنهم لم يقتنعوا بعد بفضلية الإسهام في نشر الثقافة الإسلامية، ولن يترددوا في تقويم نظرتهم إلى هذا الجانب إذا قرؤوا في الموضوع فتوى الثقات من العلماء.
(10) إن العناية بنشر العربية على المستوى العالمي واجب يسهم بحمله كل مسلم مستطيع، وهو أكثر توكيداً بالنسبة للعالم الإسلامي، الذي يفتح ذراعيه لاحتضان لغة القرآن بلهفة المحب إلى لقاء حبيبه الأثير، وقد رأينا دول الغرب الصليبي تبذل أكداس الملايين لإشاعة لغاتها في كل مكان، تثبيتاً لمصالحها السياسية والاقتصادية، ومما لا شك فيه أن مصلحة الدول العربية بإذاعة لغة القرآن في الشعوب الإسلامية، غير الناطقة بالعربية، أكثر وأعظم وأعمق، ومن فضل الله أن بعض هذه الحكومات قد تنبهت لهذه القضية الهامة، فهي تبذل الكثير لنصرتها، ولكن الذي نراه أن يرفع اقتراح إلى مجموع الدول العربية وعن طريق جامعتهم بتخصيص نصف بالمئة على الأقل من ميزانية كل منها لتمويل هذا العمل الجليل، بواساطة النادي الذي نرجوا أن ينبثق عن هذه الندوة الموقرة، وفي ذلك خير لا يُقَّدر لأنه سيزيد عرى الأخوة الإسلامية قوة، ويقرب بين الأفكار، ويسهل سبيل التفاهم بين أبناء الإسلام، ويعيد للعربية مكانتها التي سبق أن احتلتها في عالم الإسلام أيام ازدهار الحضارة الإسلامية.(22/171)
* وحتى الآن نكاد نقتصر في فقراتنا الآنفة على مجرد العرض النظري، ومن حق الناظر فيها أن يسأل: وأخيراً ما السبيل إلى ترجمة هذه المقترحات إلى الأعمال؟
وهنا ننتهي إلى الغاية التي نعتقد أنها أهم الوسائل إلى تحقيق ذلك وأكثر منه بفضل الله.
في نهاية البحث ختمتُ به محاضرتي في موضوع الأدب الإسلامي قبل عشر سنوات قلت: "إن أقرب السبيل لإخراج هذا الحلم إلى حيز الواقع تأليف لجنة تحضيرية تتولى الدعوة إلى مؤتمر للأدباء الإسلاميين يخطط لمستقبل الأدب، الذي لابد منه في هذه الفترة الحرجة من حياة العالم الإسلامي، وعن هذا المؤتمر ينبثق النادي الدائم باسم (نادي القلم الإسلامي) وإلى عضويته ينتسب كل مؤمن بأهدافه، التي يجب أن تحدَّد في دستور مستوحى من التصور الإسلامي المحض، بحيث يصبح كل عضو منتسب ملتزماً بإقامة أدبِه على أساس من ذلك الدستور، حتى إذا انحرف عن سبيله نُزعت عنه عضويته، ومفروض في هذا النادي أن يضم شمل أدباء الإسلام في سائر أقطارهم، ويجمعهم في مؤتمرات دورية لدراسة ما جدَّ وما ينبغي أن يجدَّ من العمل، وبديهي أن هذا يقتضي وجود مكتب دائم للنادي يظل في انعقاد دوري، ليعمل على متابعة مقرراته واستطلاع آراء أعضائه في كل طارئ، ويتولى تنسيق مجهوداتهم، ليتمكنوا من أداء واجبهم في توعية الشعوب الإسلامية توعية تُبَصِرها بما يراد لها، وما يجب عليها، ويُحَصَّنُها من السقوط من حبائل الختالين من أصحاب الشمال واليمين".
وها نحن أولاء في هذه الندوة المباركة نحقق الجانب الأول من هذه الأماني، ويبقى الجانب الآخر وهو تكوين (نادي القلم الإسلامي) ووضع دستوره المحكم.
أما مقر هذا النادي فيقرره المؤتمرون، وإن كنت من الموقنين أن مقره الطبيعي هو الجامعة الإسلامية في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، حيث وضع القدر أول لبنة في بناء الأدب الإسلامي العظيم.(22/172)
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على قائد الفكر الإسلامي في الطريق القويم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.(22/173)
شاعرية البحتري
لفضيلة الدكتور بابكر البدوي دشين
كلية الحديث الشريف بالجامعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشراف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فقد غلب الوصف بالشاعرية على أبي عبادة البحتري حتى كاد يقصر عليه دون غيره من الشعراء، ومما يدل على هذا ما روى عن أبي الطيب المتنبي، أنه قال: "أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري".
وعسى القارئ الكريم أن يذكر حديث النحويين عن "أل"في كلمة الشاعر هنا وأمثالها، فإنها تدل عندهم على استغراق خصائص الجنس، وهذا أمر فوق الوصف بالشاعرية كما هو واضح.
هذا ونقترح أن أهم ما تتجلَّى فيه شاعرية البحتري شيئان: أنغامه المطربة، وانفعالاته الخافقة.
أما ناحية الإطراب في شعره فقد تنبه لها القدماء، وفي مقدمتهم معاصروه الذين كانوا يسمعون إنشاده، ومن هؤلاء الفتح بن خاقان وزير المتوكل، كما يفهم من هذا الخبر الذي رواه الصولي قال [1] : "وحدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: إني لعند الفتح إذ دخل البحتري فأنشده قصيدته:
وأُليفه والشيب تَزْجِيَةُ الهوى وخُفُوفُه شرخ الشباب أخو الصِّبا
فلما بلغ قوله:
يقري البدرو بها ونحن ضيوفُهً.
ملك بعالية العراق قبابه
فلما بلغ إلى قوله:
فضل إلى جدوى يديك تضيفُهُ
فهلمَّ وعدك في الإمام فإنه
رأيت الفتح قد اهتزَّ وطرب لذلك.... فأعاد البحتري الأبيات الخ".
كيف لا يطرب الفتح ويهتز -وهو الأديب البليغ- من سماع هذه القصيدة الفائيِّة وفيها يقول البحتري:
لجب تسير مع الجنوب زحوفُهُ
فإذا تحمَّل من تهامة بارق
ذعر الأجادل في السماء حفيفُهُ
صخب العشيِّ إذا تصوَّب مزنه
عهد اللوى أيام نرتبع اللوى ونصيغُهُ
فسقى اللَّوى لا بل سقى(22/174)
في ناجر برد الشام وريفُهُ
حَنَّتْ ركابي بالعراق وشاقها
في صنفتيه تلاعه وكهوفُهُ
ومدافع الساجور حيث تقابلت
بعد إنشادنا هذه الأبيات ذات الكلمات المتخيَّرة الرنَّانة، والعبرات المنسَّقة البديعة والانفعالات القوية الخافقة من القصيدة الفائية التي اهتز الفتح لها وطرب، نعود فنقول: وممن تَنَبَّه لناحية الإطراب في شعره، ممدوحه الخليفة المعتز، فقد روى البحتري قوله له [2] : "يا وليد ما أنشدتني قطُّ إلا أطربتني"، ومن القدماء الذين تنبهوا لناحية الإطراب في شعره أبو بكر الخوارزمي، كما يفهم من قول الثعالبيّ عنه [3] : "ومن أطرف شعره وأرقه وألطفه قوله: -وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: لا تنشيدونيهما فأرقص طربًا ...
مَشَابِهُ فيك بَيِّنَةُ الشُكُولِ
يذكرنيك والذكرى عناءُ
وبرد الماء في راحٍ شمولِ
نسيم الروض في ريحٍ شمال
وهناك طريفة أرويها هنا، لما فيها من الدلالة على ما أنا بصدد تأكيده من ناحية الإطراب في شعر البحتري قال [4] :
.. أخبرنا ابن حبيب المذكر قال: دخلت دار المَرْضَى بنيسابور فرأيت شابًّا من أبناء النعم يقال له أبو صادق السكري، مشدودًا وهو يجلب فلما بصر بي قال: أتروي من الشعر شيئًا؟ قلت: نعم، قال: من شعر مَنْ؟ قلت: من شعر من شئت، قال: من شعر البحتريّ، قلت: أيّ قصيدة تريد؟ قال:
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
ألمع برق سرى أن ضوء مصباح
فأنشدته القصيدة فقال: أفأنشدك قصيدة؟ قلت: نعم، فأخذ في إنشاء قصيدته:
وأقِلاَّ لا ينفع الإكثارُ
أقصرًا إنَّ شأني الأقصارُ
أو تناءت منَّا ومنكِ الدِّيارُ
إن جرى بيننا وبينك عتْب
مقيم والدموع الذي شَهِدْتِ غِزارُ
فالغليل الذي عَهِدْتِ
فقفز وجعل يرقص في قيده ويصيح، إلى أن سقط مغشيًا عليه.(22/175)
هذه الحادثة الطريفة على الأقلِّ مما يستأنس به في الدلالة على مدى ما في شعر البحتري من قوة الإطراب، والحقُّ أنَّ البحتري نفسه كان شديد الإحساس بناحية الإطراب في شعره شديد الاحتفال لها، يدلك على صِحَّة ما نقول افتخاره بها في غير ما موضع من شعره مثل قوله:
فيكم إذا أنشدت قام امرؤ يستعيدها
وكم لي من محبوكة الوشي
أي يهز الطربُ سامعها فيقوم طالبا من الشاعر إعادتها، لقد كان شعره يَهُزُّ كلَّ السامعين، حتى الخلفاء والملوك الذين عرفوا بالهيبة والوقار، كان يطربهم ويهيجهم فيتخرقون في العطاء ويصيحون بالثناء كما يفهم من قوله:
فيحمد راويها ويُحْبَى قئولها.
يهيِّج إطراب الملوك استماعُها
وهذا مما يدلك على شدة إحساس شاعرنا بناحية الإطراب في شعره ما عرف عنه من عادة الترنم بشعره وإنشاده إياه، مع الإتيان بأشياء غريبة ساعة إنشاده تدلُّ على إعجابه بشعره وطربه به، حيث كان يتلفت يمنةً ويسرةً حين إنشاده ويتفل، ويصيح في الناس: ألا تسمعون؟
وقد روى [5] المعرِّي أنَّ أبا عبادة "كانت قدماه قدمي طاووس" [6] .
والواضح فيما نرى -أن يكون المقصود بهذا الوصف حركاته ومشيه زهواً وطرباً ساعة إنشاده شعره.
أضف إلى ما مضى أن البحتري انفرد بعادة لم يشركه فيها أحد من الشعراء حسب اطلاعنا وهي أنه كان إذا فرغ من إنشاد القصيدة أعاد البيت الأول منها، كما يدل عليه ما جاء في الأغاني [7] : " ... أن البحتري أنشد المتوكل وأبو العنبس الصيمريّ حاضر قصيدته:
وبأيّ طرف تحتكم
عن أيّ ثغر تبتسم
إلى آخرها، وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به فإذا فرغ من القصيدة ردَّ البيت الأول فلما رده بعد فراغِه منها وقال:
وبأي طرف تحتكم
عن أي ثغر تبتسم
قال أبو العنبس الخ".(22/176)
يهمنا من هذه الرواية أنها تثبت العادة التي ذكرنا انفراد البحتري بها وهي ردُّ مطلع القصيدة بعد الفراغ منها، وهذا كما ترى يدل على طرب واندفاع في الإنشاد يمضي به الشاعر من أول القصيدة حتى ينتهي به عند إعادة البيت الأول منها يعيده على السامعين من شدة طربه به.
والحق أن هذه العادة التي امتاز بها البحتري وهي رد البيت الأول من القصيدة لها دلالة نقدية قيِّمة تنبه لها الدكتور عبد الله الطيب حيث وضح أن فيها دلالة قوية على الوحدة الفنية في القصيدة العربية، كأنَّ الشاعر حين يقرن في إنشاده أول القصيدة بآخرها فلا يختل بهذا شيء من بناء القصيدة ينبهك على أن قصيدته بناء فني كامل تنتظمه وحدة فنية وهذا كما ترى عكس ما لهج به بعض الكتبة المحدثين من نفي الوحدة الفنية عن القصيدة العربية فشتان ما بين صنيعهم وصنيع الدكتور عبد الله إذ في صنيعه شجاعة الإحساس بقيمة اللغة العربية وآدابها.
هذا ومما لا ريب فيه أن ناحية الإطراب والنغم التي كاد البحتري يكون فيها الشاعر المجلى من أهم مقومات الشعر العربي بل إنها الركيزة الثابتة له التي عرفها أعداء اللغة العربية فحاولوا هدمها فكانوا كما قال الأعشى:
فلم يَضِرْها وأوهى قَرنه الوَعِلُ
كناطح صخرة يوماً ليُوهِنَهَا
عَدِّ عن هؤلاء وأنشد الناس قول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
إنَّ الغناء لهذا الشعر مِضْمَارُ
تَغَنَ في كل شعر أنتَ قائله
وفي هذه الدلالة الواضحة على مكان الوزن والعروض والقافية والنغم في الشعر العربي وهي الناحية التي فاز شاعرنا البحتري منها بأكثر نصيب. هذا ما كان من أمر الحديث عن ناحية الإطراب في شعره.
أما ناحية الانفعال الخافق في شعره، فإنها أوضح من أن يدل عليها وهو معروف بالإجادة فيها كما ذكر هذا الدكتور عبد الله الطيب فقال [8] :
"والبحتري رحمه الله كان يحسن تصوير الانفعالة الخافقة".(22/177)
هذا ونود هنا أن نوضح بعض مظاهرها وآثارها في شعره، فمن هذا وصفه لتكشف الأشياء وانجلائها فقد كان معنياً بهذا مثل قوله:
وكَشِفَتْ سجوف الدجى عن مائه ونخيله
إلى أن بدا صحن العراق
حيث سجل فيه حركة تكشف الظلمات والتماعة الماء والنخيل من ورائها ووصفُ التماع الماء من المعاني التي تكررت في شعره كما سيمر بنا.
ومن أمثله انجلاء الأشياء قوله يتحدث عن شبابه الذي ولّى:
ماضي شباب أغذذت في طلبهْ
كيف به والزمان يهرب بِهْ
مسافة النجم دون مقتربهْ
مقترب العهد إن أَرُمْهُ أجدْ
كما أرفضَّ دخان الظرام عن لهبهْ
يَرْفُضُّ عن ساطع المشيب
في القاموس المحيط: ارفضاض الدموع ترششها ومن الشيء تفرقه وذهابه، وقد اختار الشاعر هذا الفعل وكرره ليستعين به على تسجيل حركة تكشف الدخان عن اللهب المتضرم، لقد غدا الشيب لهيباً ظراما وسواد الشباب دخانه المتبدد، وعسى أن نقارن هذا بقول الفرزدق [9] :
والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار
فنحن -عند الشاعرين- أمام معنى ظلام يقشعه ضياء في حديثهما عن الشيب لكننا نحسُّ في بيت الفرزدق حيوية الحركة والجلبة والصياح، بينما نحس في بيت البحتري حيوية الحركة وخفقة الالتماع من وراء الدخان ومن آثار هذا في مدحه كثرة وصفه للحظات ظهور الممدوح كأنَّه البدر أو الصبح لحظة تجليه من وراء الحب كما ورد هذا في مثل قوله:
فانجلت تلك الدجى وإنجاب ذلك العِثْيَرِ
حتى طلعت بضوء وجهك
وفي مثل قوله:
بدا طالعاَ من تحت ظلمتها البدر
وكان ذاك الهول إلا غَيابة
وقوله:
على قمر تنجاب عنه سدولها
وتعطف أثناء السرادق حوله
وقوله:
تبدو بُدُّو الهلال من حجبه
يصون منه الحجاب منظرة
وقوله:
إلى القمر من الإيوان بادي [10]
يؤدُّون التحية من بعيد(22/178)
تشترك هذه المثل في اشتمال كل منها على تشبيه الممدوح بالبدر منجابة عنه الظلمات وقد سجَّل فيها الشاعر انفعال نفسه بالخفقة التي تكون أول ظهور الشيء وبدوُّه وبخاصة الضوء اللامع ساعة انبثاقه لينبه بهذا على قوة تعلق أنظار الناس بالخليفة أو الممدوح، بحيث لا يكاد يشغل إنسان عن أول لحظة يطل عليهم فيها بوجهه.
وقريب من هذا قوله:
والليل يكشف غيهباً عن غيهب
ورأيت بِشْرك والتنائف دونه
إذ فيه انفعال نفس البحتري بحركة انقشاع الظلام؛ هذا وبشر الممدوح الذي رآه البحتري هنا من وراء التنائف هو الصبح الذي يتجلى له دائما من وراء الحجب والظلمات واستمع إليه يقول:
هو في حلوكته وإن لم ينعب
والليل في لون الغرب كأنه
صبغ الشباب عن القذال الأشيب
والعيس تنصل من دجاه كما انجلى
كالماء يلمع من وراء الطحلب
حتى تجلَّى الصبح في جنابته
فإن فيه انفعال نفسه بحركة تجلي الأشياء البيض المضيئة والتماعها من وراء حجبها تحس هذا في حركة نصول العيس البيض من الدجى وفي انجلاء صبغ الشباب عن بياض المشيب وفي تجلي الصبح في جنبات الليل وأخيراً تحسه في التماعة الماء من وراء الطحلب وهي اللمعة التي تعلق بها البحتري كما ذكرنا قبلاً.
هذا وكأنَّ البحتري هنا ينظر إلى شاعرين الأول ذي الرمة في قوله يصف ورود الحمر الوحشية الماء:
منصدع عنها وسائره بالليل محتجب
فغلست وبياض الصبح
فيها الضفادع والحيتان تصطحب
عيناً مطحلبة الأرجاء طاميةً(22/179)
هذا منظر الحمر الوحشية وقد ظهر أول نور الفجر فأظهرها ولا يزال الظلام يحجب باقي نور الفجر ومنظر العين تلمع من وراء طحلبها، وقد قصدتها هذا الحمر للشرب في هذا الوقت لا تسمع إلا صخب ضفادعها وحيتانها، والفرق بين الوصفين أنك تحس في وصف ذي الرمة بمشهد كامل وشخص كأنه واقف يتأمل هذا المشهد بينما لا تحس في وصف البحتري بهذا الانفصال لأن البحتري قدر على أن ينقل لك المشهد وانفعال نفسه به، لقد ولَّد معنى ذي الرمة، وجعل عيسه متحركة تنصل به من دجى الليل، وهذه الحركة كافية في أن تنقل لنا انفعاله.
هذا والشاعر الثاني الذي نظر إليه البحتري هنا هو الراعي النميري في قوله يصف العيس:
قلق الفؤوس إذا أردن نصولاَ
في مهمه قلقت به هاماتها
حيث شبه حركة هامات الإبل حين ترقل بحركة الفؤوس التي توشك أن تنصل فولَّد البحتري معنى الراعي وجعل النصول للعيس نفسها والله تعالى أعلم.
هذا ومن مظاهر انفعاله الخافق، كثرة وصفه لالتماع الأشياء حين تنعكس في شيء آخر كقوله يصف الطيف:
والشمس تلمع في جناح الطائر
أهوى فأسعف بالتحية خلسة
فهو هنا يسجل انفعاله بانعكاس ضوء الشمس في جناح الطائر، وهذا كما ترى وقت الشروق قبل أن تظهر الشمس لعينيك فأنت لا ترى الشمس وتظنها لم تشرق بعد، ولكنك إذا نظرت وقد مرَّ طائر محلق في السماء فإنك سترى التماع الشمس في جناحه وهذا من معاني البحتري المبتكرة التي تدل على دقة ملاحظته؛ ومن الأمثلة أيضا قوله:
وشياً يكاد على الألحاظ يلتهب
هذا الربيع يُسدي من زخارفه
نلاحظ هنا أنه يعبر عن انعكاس الأشياء المضيئة في الألحاظ بالالتهاب، وهو يفعل هذا في غير ما موضع، كقوله يصف ياقوتة حمراء في يد الخليفة:
جبينك عند الجواد إذ يتألَّق
إذا التهبت في اللحظ ضاهى ضياؤها(22/180)
ففي هذين المثالين يقرن بين شيئين يوحيان بالخفقة السريعة، وهما اللحظ والالتهاب.
ومن آثار هذا في معاني مدحه أنك تجده يخلع على الممدوحين بعض صفات نفسه المنفعلة بالخفقات السريعة كقوله:
هديا وإن خمدوا في رأي تلتهب
رآك إن وقفوا في الأمر تسبقهم
كأنه يصف نفسه فهو الذي يكره الخمود ويولع بالالتهاب حتى يكاد يلتهب في الرأي، وكقوله:
يلاحظ أعجاز الأمور تعقبا
فتى لم يضيّع وجه حزم ولم يبت
وكقوله:
تسبقها قبل وقتها عدده
مأخوذة للأمور أهبته
يمدحه هنا بالتيقظ للأمور ومهاجمتها قبل وقتها، وهو هنا كأنَّه يتحدث عن نفسه فهو الذي ينفعل بالأشياء قبل اكتمال ظهورها، كلمعة الماء من وراء الطحلب ولمعة الضياء من وراء الحجب، بل إن نفسه لتنفعل بجذوة الثورة وهي في نفوس أصحابها ويكاد يسمع جلبتها في خفوتها، استمع إليه رحمه الله إذ يقول:
إلى إرمٍ إذ ما نعت وعمادِها
تشوَّف أهل الغرب فارم بعزمة
فلسطون عن عصيانها وعنادها
لتسكن ضوصاء العَريش وتنتهي
ومن جمرة مخبوءة في رمادها
فكم ثَمَّ من إجلابة تحت خفتة
إنه هنا ينبه على الفتنة وهي تزال في نفوس أصحابها، سبحان الله كأنَّ أبا عبادة في بعض كلامه يتكلم على فلسطين اليوم، إن في كلامه حيوية لا يحسنها ذوو الكلام الركيك ممن يزعمون أنفسهم مجددين في الشعر. نعم يا أبا عبادة قل، فلن تسكن ضوضاء العريش ولن تنتهي فلسطين عن عصيانها وعنادها حتى يعود القدس الشريف إلينا وحتى تنتصر الثورة الفلسطية، يا قومنا الفلسطية أفصح من قولك الفلسطنية فلا تتركوا الأفصح إلى غيره نصركم الله نعود هذا الاستطراد إلى وصف أبي عبادة لنورد مثالاً آخر بديع كلامه في هذا المضمار إذ يصف فيه انعكاس المعاني والمحسوسات وذلك حين يقول:
على العرنين والخدِّ الأسيلِ
ووجه رق ماء السجود فيه(22/181)
شعاع الشمس في السيف الصقيلِ
يريك تألُّقُ المعروف فيه
لقد أرانا أبو عبادة الجود وهو المعاني التي لا تحس متألقا يشع من وجه الممدوح المضيئ، وما قوله شعاع الشمس في السيف الصقيل فإنه عَوْذَةُ كلامه كما كان يقول الثعالبيُّ وفيه كما ترى وصف التماع شعاع الشمس الخافق منعكساً في التماع السيف الصقيل وهذا تشبيه رائع أُعْجب به الشاعر الشامي المشهور السري الرفَّاء فأخذه من بيت البحتريِّ وذلك في قوله:
مجال الماء في السيف الصقيل
أتتك يجول ماء الطبع فيها
لقد رام السريّ مراماً صعباً فأخذ الماء والسيف الصقيل ولكنَّه لم يستطع أن يأخذ من بيت البحتري تألقه ولا التماع الشعاع فيه؛ مسكين أنت أيها السريُّ فقد أتعبك شعر البحتري وصدق عليك قوله:
تعلقن من قبلي وأتعبن من بعدي.
سوائر شعر جامع بدد العلى
إن الشعر أبي عبادة فرس أرَّن لا يتعب ولا يلغب وبعض الشعر يتعب ويلغب، كما قال هو عن قصائده:
وبعض الشعر يدركه اللغوب
بلغن الأرض لم يلغبن فيها
وهذا قريب مما تقدم قول البحتريّ:
يضيئ على العيون ويستنير
يجلِّي سدفة الهيجا بوجه
رأيت الماء يلبسه الصبير
إذا لمعت بوادي البشر فيه
ولا نغالى إذا قلنا إن شعر البحتري كله بريق ولمح ولمع ومن هنا كان الشعر عنده لمحاً كما قال:
وليس بالهذر طُوِّلَت خطبه
والشعر لمح تكفي إشاراته
هذا وكان البحتري يجيد وصف آثار الذعر كقوله يصف السحاب:
ذَعَرَ الأجدالَ في السماء حفيفه
صخب العشيِّ إذا تألق برقه
سجل هنا رعشات الذعر التي تصيب قلوب الأجدال من حفيف هذا السحاب الذي جعله كأنَّه أجدل كبير أو رُخٌّ أخافها وكأنَّ هذا من قول علقمة الفحل:
سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
كأنهم صابت عليهم(22/182)
كما كان البحتري يجيد وصف التلفت وفي التلفت حركات وخفقات، مثل قوله:
فلم يبق إلا لفتة المتذكر
ولما خطونا دجلة انصرم الهوى
إذ تحس فيه خفقة اللفتة التي يبعثها التذكر وحسبك في هذا قوله:
وما التفت المشتاق إلا لينْظُر
نظرت وضمَّت جانبيَّ التفاتة
هذه خفقة انتظمت الجسم كله ومن هذا أيضا قوله:
رأيت الهوى نفس بطيئ نزوعها
إذا انصرفت يوما بعطفيه لفتةٌ
ونُنَبِه هنا على موضع التاء في لفتة وفي التفاتة، إذ أن البحتري مولع بهذا الخاصة في المصادر، كما رأينا فما سبق في قوله: إجلابة، وكما في قوله:
لم أنصرف عنه انصرافة عاتب
إِمَّا تعذَّرَ نائل من منعم
حيث ذكر الهاء في المصدر وهو انصراف فقال انصرافة وكقوله:
وأسرعهم إمضاءة حين يعزم
أمدَّ الرجال لبثه حين يرتئ
وقوله:
بأحمد بن عليٍّ ثم تنقلب
فما تزيد على إلمامة خُلْسُ
وقد لاحظ المعري هذا وجعله من خصائص شاعرنا حيث يقول [11] : "أبو عبادة يدخل الهاء على المصادر كثيراً وقلما يوجد ذلك في أشعار المحدثين وإدخال الهاء على المصادر عريق فصيح"اهـ.
ونحن نميل إلى تفسير هذه الظاهرة بما يدخلها في حاقِّ عناية البحتري بوصف الانفعالات الخافقة السريعة، إذ في المصدر ذي الهاء ما يوحي بالسرعة كأنه أخذ جزء منه وهو دلالته على المرَّة وسيتضح لك هذا إذا رجعت إلى الأمثلة السابقة، أو إلى غيرها من كلامه، وارجع على سبيل المثال إلى قوله:
نظرت وضحت جانبيَّ التفاتة الخ.
لترى أثر التاء في سرعة الالتفاتة بخلاف ما لو جاء المصدر بغير تاء فقيل: التفات، وبعد.
أيها القارئ الكريم، هذه هي شاعرية البحتري تجلت في أنغامه المطربة وانفعالاته الخافقة، فكان حقاً كما قال ابن الأثير عنه [12] : "وأما أبو عبادة فإنَّه أحسن سبك اللفظ على المعنى وأراد أن يشعر فغنَّى".(22/183)
هذا وآمل أن أوفق لإكمال هذا الموضوع في مقالة أخرى أتحدث فيها عن طيفه، وحسن سبكه ورصفه، والله الموفق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخبار البحتري (للصولي تحقيق الدكتور صالح الأشتر (ط) . الثانية م. دار الفكر بدمشق ص 79.
[2] نفسه ص 107.
[3] خاص الخاصّ لابن منصور الثعالبي منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت.
[4] مصارع العشاق لأبي محمد القارئ ط بيروت مجلد أول ص 38.
[5] رسائل المعري ص 89.
[6] في الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية مجلد 3 ص 368: "قدما ديك" بدل "طاووس"بينما النص الإنجليزي “Peacocks Feet” ومعناها "قدما طاووس"ونحسب ما في الترجمة العربية وهماً من الأساتذة الفضلاء المترجمين أوقعهم فيه ورود النص الإنجليزي مقطعاً هكذا: Pea آخر السطر ثم cocks Feet. أول السطر التالي فحسبها المترجمون قدمي ديك وانظر الطبعة الإنجليزية 774. V.I.P.
[7] جـ 18 ص 174 مطبعة التقدم بمصر.
[8] انظر كتابه مع أبي الطيب.
[9] ديوانه ط دار صادر بيروت جـ 1 ص 372.
[10] الياء في الكلمة بادي وأمثالها في القافية ليست بلام الكلمة بل هي وصل.
[11] عبث الوليد.
[12] المثل السائر.(22/184)
اْلتَّمَتُّعُ فِي اْلحَج
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قوله تعالى:
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد فقد يحسن أن يقدم بين يدي شرح هذه الآيات القرآنية المباركة شرحُ مفرداتها أولا، ثم شرح جملها وتراكيبها، ليكون ذلك عوناً للقارئ على فهم مراد الله تعالى من هذه الآية الكريمة.
شرح المفردات:
1- أمنتم: حصل لكم الأمن وهو عدم الخوف من عَدْوٍّ أو مرض.
2- تَمتّعَ بالعمرة إلى الحج: أحرم بالعمرة في أشهر الحج فلما أداها تحلل من إحرامه فتمتع بما كان محظوراً عليه بسبب الإحرام من لبس الثياب، وتغطية الرأس، ومس الطيب ومباشرة النساء.
3- العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة.
4- الحج: زيارة بيت الله تعالى لأداء أنواع من العبادات تسمى مناسك، وهي الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات، والنحر، والحلق، والمبيت بمنى ثلاث ليال، وطواف الوداع.
5- استيسر: تهيّأ وسهل بدون كلفة ولا مشقة.
6- الهدي: ما يهدى إلى البيت من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم.
7- حاضري المسجد الحرام: مقيمين ساكنين بالمسجد الحرام، وهو الحرم كلّه بحدوده المعروفة غربا وشرقا وشمالا وجنوبا.
معنى الآية:(22/185)
لمَّا ذكر تعالى حكم الإحصار وهو أن يُمنَع الحاجُّ من دخول الحرم بسبب عدوٍّ حال بينه وبين دخول مكة للأداء المناسك، أو بسبب مرض كذلك، قياساً على المنع بالعدو، فيذبح أو ينحر ما تيسر له نحره أو ذبحه، ويتحلل من إحرامه ويعود إلى أهله، ولا شيء عليه بعد ذلك.
وكذلك ذكر حكم من مرض وهو محرم فاضطرَّ إلى تغطية رأسه، أو لبس ثيابه، أو حلق شعره لأذى في رأسه، وهو أنه يفعل ما اضطر إليه، ويفدي، والفدية واحدة من ثلاث: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاه.
لما ذكر تعالى هذين الحكمين" حكم الإحصار، وحكم المرض عقَّب على ذلك بحكم التمتع، فقال عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية.
يريد تعالى أن على المسلم إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج: شوال أو القعدة أو العشر الليالي الأول من شهر الحجة، فأدّاها بأن طاف وسعى وحلق أو قصر، ثم تحللَّ فلبس الثياب ومسَّ الطيب وتمتع بكل ما كان محظوراً عليه وبقي في مكة ينتظر الحج، فإذا جاء يوم التروية أحرم بالحج وحج.
إن على هذا المتمتع بالعمرة إلى الحج ما تيسر له من الهدي، شاة أو بقرة أو بدَنة (بعير) ، فإن لم يجد ما يهديه، إما لعدم وجود نقود زائدة على نفقته في سفره، أو لعدم وجدود الهدي نفسه، فإن الواجب عليه عندئذ أن يصوم ثلاثة أيام في الحج أي ما بين تحلله من العمرة ويوم عرفة، وإن صام السابع والثامن والتاسع من شهر الحجة، أجزأ، وإن صام السادس والسابع والثامن، كان خيراً وأفضل..
ثم إذا عاد إلى أهله صام سبعة أيام، وبها يكون قد أتم صيام عشرة أيام كاملة، وذلك المطلوب في حق من تمتع بالعمرة إلى الحج مفرداً للعمرة عن الحج، أو قارناً لها معه.(22/186)
ثم استثنى الله تبارك وتعالى ساكني المسجد الحرام، وهو الحرم كله كما قدمنا، فإنه ليس لهم أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج، وذلك لعدم وجدود مشقة تحصل لهم بالإحرام، فإن أحدهم يحرم على منزله يوم التروية ويخرج إلى منىً، بخلاف بعيد الدار فإنه يحرم من المواقيت فيبقى في سفره أياما وليالي محرماً، يعاني من الشعثة والغبرة والتعب؛ فرخص الله تبارك وتعالى في أن يحرم بعمرة، فإذا قضاها تحلل منها، وتمتع بلبس الثياب ومس الطيب ومباشرة النساء إن كانت امرأته معه.
ومقابل هذا التيسير الإلهي وجب عليه هديٌ شكراً لله تعالى على نعمة التيسير ورفع الحرج والمشقة، ولله الحمد والمنّة.
ولما بين تعالى حكم التمتع بالعمرة إلى الحج، أمر بتقواه وهي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، وحذر من معصيته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم، بقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، فإن من كان شديد العقاب ينبغي أن يُتقى فلا يُعصى.
وكان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعباده ورأفة بهم، حتى لا يتعرضوا لنقمه وأليم عذابه: فله الحمد وله الشكر، لا إله غيره ولا رب سواه. هذا معنى هذه الآية المباركة الكريمة.
نعقب عليه بمسائل مهمة تتعلق بما تضمنته الآية من أحكام التمتع:
الأولى: هذه الآية نص صريح في جواز التمتع بالعمرة إلى الحج وهي عامة في كل حاج يريد أن يتحلل بعمرة انتظاراً للحج، غير أن السنة خصصتها بمن لم يسق الهدي، فإن من ساق معه هدياً من الحل لا يجوز له أن يتحلل من إحرامه حتى يقف بعرفة، ويرمي جمرة العقبة، وينحر هديه أو يذبحه، لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع أن يتحللوا بعد الطواف والسعي إلا من كان معه هدي، فقد أمره بالبقاء على إحرامه، نظراً لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .(22/187)
الثانية: في الآية دليل قطعي على جواز الإفراد فإن مفهوم قوله تعالى فمن تمتع إلخ أن من لم يتمتع بأن يحج مفرداً فلا هدي عليه. وهذه المسألة أجمع المسلمون عليها أي على جواز الإفراد والتمتع والقران، الصحابة فمن دونهم إلى هذا اليوم. وخالف فيها الروافض والظاهرية، فقالوا بوجوب التمتع، ولازمه أنه لا إفراد وهو خطأ بيّن، وخروج عن إجماع المسلمين وغرهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل إلا من ساق الهدي، وهو أمر أراد به -فداه أبي وأميّ- التوسعة على هذه الأمة، ورفع الحرج عنها، إذ كانوا يرون عدم جواز التمتع بل كانوا يعدونه من أفجر الفجور. حتى قالوا: إذا برأ الدَبَر حلت العمرة لمن اعتمر. مع ما فيه من الحرج، فإن المرء محرم في المدينة المنورة ويقضي عشرة أيام مسافراً أو أكثر وقد ينتظر الحج أياما أخرى فتحصل له المشقة ويتعب من ملازمته الإحرام هذه المدة الطويلة، فرأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فأمرهم بالتحلل تخفيفاً عليهم ورحمة بهم، وبين بهذه مراد الله تعالى وحققه عملياً، وهو قوله {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية. ويؤكد هذا ويقرره فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقريرهم له، إذ حج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين مفردين بالحج، بل كان عمر ينهى عن العمرة رغبة منه في أن لا يخلو البيت من زائر وطائف، ولذا أجمع الأئمة الأربعة ومعهم السواد الأعظم على جواز أيّ من الأنساك الثلاثة، وهي الإفراد والتمتع والقران. كما أجمعوا على أن من كان يعتمر في غير أشهر الحج ويحج عامه ذاك أن الإفراد أفضل له، كما أن من ساق الهدي معه من الحل أن القران أفضل له، ومن لم يعتمر في غير أشهر الحج. ولا ساق الهدي أجمعوا أن التمتع أفضل له، ذكر هذا وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عن هذا هذه الأمة الإسلامية خير الجزاء أمين.(22/188)
الثالثة: اختلف فيمن أحرم بالعمرة متمتعا بها إلى الحج، ثم لما أداها خرج من الحرم ثم عاد محرما بالحج، هل يعتبر متمتعا يجب عليه الهدي، أو خروجه من الحرم أسقط عنه التمتع ولا هدي عليه في هذه الحال؟
وأوسط أقوال العلماء في هذه وأعدلها أن من سافر حتى تجاوز المواقيت وحصلت له بذلك مشقة السفر ذهاباً وإياباً فإنه يسقط عنه هدي التمتع، ولم يعتبر متمتعاً بما حصل له من السفر والمشقة. أما من كان دون المواقيت فهو متمتع ولم يسقط عنه الهدي بل يجب عليه.
أما من عاد إلى بلاده وأهله فإن الإجماع على أنه غير متمتع ولا هدي عليه. وهذه مفهوم قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ...
الرابعة: من لم يصم قبل العيد جاز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة رخص في ذبك غير واحدة من الصحابة والأئمة، إذا كان تأخيره للصوم لعذر مرض ونحوه..
هذا والله أسأل أن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا ويزيدنا من العلم والعمل الذي يرضيه عنا آمين.(22/189)
رسائل لم يحملها البريد
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة هل
لقد أرسلت إليك قبل هذه الرسالة رسائل ثلاثا حدثتك فيها عن أربع صيغ من الصيغ التي أدخل فيها على "لم"النافية الجازمة للفعل المضارع، وها أنا ذي اليوم محدثتك عن الصيغة الخامسة {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ ... } .
في هذه الصيغة ترينني أنا همزة الاستفهام قد دخلت على "لم" النافية الجازمة لمضارع " رأى " مسنداً إلى ما يدل على جمع هو واو الجماعة، يليه " أنَّ " المفتوحة الهمزة المشددة النون، وقد جاءت هذه الصيغة في إحدى عشر آية:
1- الآية الأولى قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} الآية (148) من سورة الأعراف.
2- الآية الثانية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الآية (41) من سورة الرعد.
3- الآية الثالثة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً} الآية (99) من سورة الإسراء.
4- الآية الرابعة قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية (86) من سورة النمل.(22/190)
5- الآية الخامسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} الآية (67) من سورة العنكبوت.
6- الآية السادسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية (37) من سورة الروم.
7- الآية السابعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} الآية (20) من سورة لقمان.
8- الآية الثامنة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} الآية (27) من سورة السجدة.
9- الآية التاسعة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} الآية (71) من سورة ياسين.
10- الآية العاشرة قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} الآية (15) من سورة فصلت.
11- الآية الحادية عشرة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (33) من سورة الأحقاف.(22/191)
وقد جاءت هذه الصيغة أيضا وقد أسند فيها مضارع "رأى " إلى ما يدل على جمع هو اسم الموصول (الذين) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} الآية (30) من سورة الأنبياء.
وقد جاءت هذه الصيغة أيضا وقد أسند فيها مضارع " رأى " إلى اسم جنس يفيد العموم بسبب اقترانه بـ (أل) الجنسية وهو الإنسان [1] (1) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} . الآية (77) من سورة ياسن.
وعلى هذا تكون هذه الصيغة قد جاءت في ثلاث عشرة آية.
هذه الآيات الكريمة الثلاث عشرة المتقدمة منها ما يتضمن بعض آثار قدرته سبحانه وتعالى الدالة على أنه واحد لا شريك له، ومنها ما يرد على منكري البعث ويقيم الدليل على قدرته تعالى على أن يحي الناس مرة ثانية يوم القيامة، ومنها ما يذكر أنواعا من النعم تفضل الله بها على عباده، وفي الآية الأولى ذكر تعالى قوم موسى الذين اتخذوا عجلاً صنعوه من الحلي بأيديهم إلهاً وكانوا ظالمين.
ومعنى همزة الاستفهام في هذه الصيغة الواردة في الآيات الثلاث عشرة المتقدمة، معناها: الإنكار والتوبيخ، ينكر الله سبحانه وتعالى على الكافرين ويوبخهم ألاَّ يروا رؤية تدبر وتبصر ما تضمنته هذه الآيات من آثار قدرته تعالى التي تؤدي إلى الإيمان بأنه واحد لا شريك له.
وينكر عليهم سبحانه وتعالى ويوبخهم ألاَّ يروا ما تضمنته من أدلة تؤدي إلى الإيمان بقدرته تعالى على أن يبعث الموتى وهو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن وخلق هؤلاء المنكرين أنفسهم من نطفة.(22/192)
وينكر عليهم سبحانه وتعالى ويوبخهم ألاَّ يروا ما تضمنته من نعم توجب على هؤلاء المنعم عليهم {لَوْ كَانُوا يُبْصِرُونَ} أن يشكروا الله عليها وأن يخلصوا العبادة له وحده.
وفي الآية الأولى ينكر الله سبحانه وتعالى على الذين اتخذوا العجل إلهاً أن لم يروا الرؤية التي ترشدهم إلى أنه لا يصلح أن يكون إلهاً، ويوبخهم بذلك.
والإنكار هذا بمعنى لا ينبغي، ويجيء أحياناً في غير هذا الموضع بمعنى النفي المحض.
والفعل المضارع في صيغة الاستفهام هذه {ألم يروا أن ... } مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة ضمير مبني على السكون في محل رفع فاعل، والفعل المضارع في {أو لم ير الذين ... } مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف الألف والذين اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
و {ير} في هذه الصيغة بمعنى يعلم فهي تتعدى إلى مفعولين، و (أَنَّ) من نواسخ المبتدأ والخبر تنصب الأول وترفع الثاني وهي حرف مصدري تؤوَّل هي وخبرها بمصدر في محل نصب يسدّ مسدّ مفعولي {يَرَ} في هذه الصيغة، و (أَنَّ) فوق هذا وذاك حرف توكيد، تؤكد مضمون جملتها، ومضمون الجمل التي أكدتها في الآيات السابقة جدير بالتوكيد، لأنها ماعدا الآية الأولى أخبار عن الله سبحانه وتعالى، فجاء توكيدها اهتماماً بما تضمنته ومزيد عناية به.
أما في آية قوم موسى الذين اتخذوا العجل إلهاً فقد جاء التوكيد لتنزيلهم منزلة المنكرين. والواو الواقعة بين همزة الاستفهام و (لم) عاطفة على ما قبل الهمزة، وهذا رأي سيبويه والجمهور، وزعم الزمخشري أنها عاطفة على فعل مقدر بين الهمزة والواو، وأبو السعود في تفسيره ممن يرون رأي الزمخشري في هذه المسألة، وربما كان أكثر المفسرين عناية بتقدير المعطوف عليه لكل واو أو فاء تجيء بعد همزة الاستفهام، وقد قدَّر المعطوف عليه في الآية التاسعة من الآيات المتقدمة الذكر (ألم يتفكروا أو لم يلاحظوا) [2] (2) .(22/193)
وقدره في الآية العاشرة من هذه الآيات (أغفلوا أو لم ينظروا) [3] (3) .
ولعلك تلاحظين أيتها الأخت أن هذه التقديرات للمعطوف عليه لا يتطلبها معنى ولا سياق ولا أسلوب، وإنما هي تكلف يدل ما على في هذا الرأي من ضعف، وقد ذكر ابن هشام في كتابه مغني اللبيب أوجه الضعف في رأي الزمخشري هذا [4] (4) وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الرسالة الثالثة من هذه الرسائل.
أختي الكريمة " هل "
أنتقل بك الآن إلى الصيغة السادسة من الصيغ التي أدخل فيها أنا همزة الاستفهام على لم النافية الجازمة لمضارع " رأى " وهي: {لَمْ يَرَوْا كَيْفَ ... } وقد جاءت هذه الصيغة في آيتين:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . الآية (19) سورة العنكبوت.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} . الآيتان (15-16) من سورة نوح.
وتتضمن هاتان الآيتان الصورة البديعة التي خلق الله عليها الإنسان لأول مرة بعد أن لم يكن شيئا مذكوراً، وخلق عليها السموات السبع وما فيهن، تلك الصورة التي رآها المشركون وكان ينبغي أن تدلهم على أن الله الذي خلق هذه الأشياء على هذه الصورة الرائعة البديعة قادر على أن يعيد خلقهم مرة ثانية بعد الموت وأن ذلك عليه يسير. فليس لهم من عذر بعد أن رأوا ما رأوا أن ينكروا البعث وأن يكذبوا الرسل.
وهمزة الاستفهام في هذه الصيغة معناها الإنكار أي النفي، وقد دخلت على حرف النفي " لم " فتكون قد نفت النفي، ونفي النفي إثبات، أي قد رأوا ذلك وعلموه.(22/194)
وهذا معنى قولهم الاستفهام للتقرير أي تثبيت المنفي بـ (لم) وتثبيت المنفي بـ (لم) معناه: قد رأوا ذلك وعلموه. فقولنا الهمزة لإنكار النفي وقولنا الاستفهام للتقرير معناهما واحد وهو الإخبار بما ولي حرف النفي على جهة الإثبات.
وهمزة الاستفهام هنا في هذه الصيغة تفيد التوبيخ أيضا، يوبخ الله سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله فيما يرونه من خلق أنفسهم والأشياء التي تحيط بهم.
ولقد مر إعراب {أَوَلَمْ يَرَوْا} أكثر من مرة. و {يَرَوْا} بمعنى يعلموا فهو فعل متعد إلى مفعولين ولكنه معلق عن العمل في مفعوليه، والذي علقه عن العمل اسم الاستفهام (كيف) . و (كيف) اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال من مفعول الفعل الذي بعده، و (كيف) وجملتها في محل سدَّت مسد مفعولي فعل (يروا) .
أختي الكريمة " هل ":
لم يبق في هذه الرسالة شيء أكتبه إليك سوى الصيغة السابعة، وهي الصيغة الأخيرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على " لم " النافية الجازمة لمضارع " رأى "، وهذه الصيغة هي: {ألم يروا كم ... } ، وقد جاءت في آيتين اثنتين: الآية الأولى قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} . الآية (6) من سورة الأنعام.
والآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} . الآية (31) من سورة ياسين.(22/195)
تتضمن هاتان الآيتان أن أهل مكة قد علموا أنه تعالى قد أهلك قبلهم كثيراً من الأمم بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل، وكانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعاً للأموال وخصباً في الأرض ورفاهاً في العيش، أهلكهم ولم يُبق منهم أحدا، وأنشأ بعد المهلكين أمم أخرى تعمر أرضهم وديارهم.
فليحذر أهل مكة أن يصيبهم العذاب ما أصاب المكذبين بالرسل من قبل.
وهمزة الاستفهام في هذه الصيغة وفي هاتين الآيتين معناها الإنكار أي النفي، وقد دخلت على نفي فأبطلته فأصبح الكلام مثبتاً، والمعنى قد علم هؤلاء الكفار أننا أهلكنا قبلهم كثيراً من الأمم.
ومن العلماء من يقول بدلاً من هذا: الاستفهام هنا معناه التقرير أي الإيجاب.
والمعنى: قد علم هؤلاء الكفار ... الخ.
والقولان معناهما واحد كما تقدم في الصيغة السادسة.
وهمزة الاستفهام هنا في هاتين الآيتين تفيد التوبيخ أيضاً، يوبخ الله سبحانه وتعالى أهل مكة أن لم يروا رؤية تبصر واعتبار واتعاظ ما أصاب كثيراً من الأمم قبلهم من إهلاك وتعذيب وتدمير من جراء كفرهم وتكذيبهم الرسل، وقد كان مَن قبلهم أشد منهم قوة وأكثر مالا وأوسع نعمة.
وإعراب (ألم يروا) قد تقدم أكثر من مرة، والرؤية هنا علمية (فيما أرى وأرجح) و (يروا) بمعنى يعلموا، فالفعل متعد إلى مفعولين.
و (كم) في هاتين الآيتين تكثيرية (فيما أرجح) مبينة على السكون في محل نصب مفعول به مقدم للفعل الذي بعدها وهو أهلك.
و (كم) -وإن كانت تكثيرية- معلقة لفعل الرؤية عن العمل في مفعوليه، وهذا التعليق باعتبار أصلها وهو الاستفهام [5] (5) .
وكم مع جملتها في محل نصب سدَّت مسدَّ مفعولي (يروا) .
أختي الكريمة " هل ".
يكفني ويكفيك هذا المقدار من هذه الرسالة، وأسأل الله تعالى أن يعين على رسالة خامسة أكتبها إليك عما قريب، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ...
أختك
همزة الاستفهام(22/196)
المراجع
1- مراجع الصيغة: {ألم يروا أن ... } وهي الصيغة الخامسة.
أ- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي. الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض جـ4 ص392/ جـ6 ص82/ جـ6 ص308/ جـ7 ص347/ جـ7 ص490.
ب- تفسير أبى السعود. الطبعة السالفة الذكر.
جـ3 ص272/ جـ5 ص27/ جـ6 ص64/ جـ7 ص73/ جـ7 ص178/ جـ7 ص180/ جـ8 ص89.
جـ - الفتوحات الإلهية المشهورة بحاشية الجمل على الجلالين. طبعة الحلبي بمصر.
جـ2 ص192/ جـ2 ص511/ جـ3 ص525.
د- تفسير ابن كثير. طبعة الحلبي. بمصر جـ2 ص247.
هـ - تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية جـ3 ص524) الطبعة السالفة الذكر.
و تفسير الزمخشري. جـ3 ص223. الطبعة السالفة الذكر.
ز- تفسير القرطبي جـ16 ص281. الطبعة المصورة عن الطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
2- مراجع صيغة {ألم يروا كيف ... } وهي الصيغة السادسة.
أ- تفسير البحر المحيط. جـ7 ص146 (المؤلف والطبعة السالف ذكرهما) .
ب- تفسير أبي السعود جـ7 ص34 الطبعة المتقدمة الذكر.
جـ - الفتوحات الإلهية جـ3 ص371 الطبعة المتقدمة الذكر.
د- تفسير القرطبي جـ13 ص336 الطبعة المتقدمة الذكر.
3- مراجع صيغة {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ ... } وهي صيغة السابعة.
أ- تفسير البحر المحيط جـ4 ص75 (المؤلف والطبعة السالف ذكرهما) .
ب- تفسير أبي السعود جـ3 ص110. الطبعة السالفة الذكر.
جـ - الفتوحات الإلهية جـ2 ص6. الطبعة السالفة الذكر.
د- تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية جـ3 ص511) الطبعة السالفة الذكر.
هـ- تفسير الكشاف للزمخشري جـ3 ص321.
و إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس تحقيق الدكتور زهير غازي زاهد الناشر: مطبعة العاني - بغداد.
--------------------------------------------------------------------------------(22/197)
[1] تفسير ابن كثير جـ4 ص581. طبعة الحلبي مصر.
[2] تفسير أبى السعود جـ7 ص 178. الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
[3] تفسير أبى السعود جـ8 ص8. الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
[4] مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري: جـ 1 ص 8، تحقيق: الدكتور مازن المبارك وزميله، الناشر: دار الفكر.
[5] تفسير الكشاف للزمخشري جـ 3 ص 321. طبعة الحلبي بمصر.(22/198)
بحث في صيغة (أفعل)
(بين النحويين واللغويين واستعمالاتها في العربية)
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
المدرس بكلية اللغة العربية -جامعة الأزهر
(الحلقة الثانية)
آراء العلماء في فعل وأفعل بمعنى واحد:
رأى ابن درستويه في مجيء فعل وأفعل بمعنى واحد وقد أورده السيوطي في المزهر [1] قال:
قال ابن درستويه في شرح الفصيح [2] : لا يكون فعل وأفعل بمعنى واحد كما لم يكونا على بناء واحد إلا أن تجيء ذلك في لغتين مختلفتين فأما من لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد كما يظن كثير من اللغويين والنحويين، وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة، وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها ولن يعرف السامعون تلك العلة فيه والفروق فظنوا أنهما بمعنى واحد وأولوا على العرب هذا التأويل من ذات أنفسهم فإن كانوا قد صدقوا في رواية ذلك عن العرب فقد أخطؤوا عليهم في تأويلهم ما لا يجوز في الحكمة وليس يجيء شيء من هذا الباب إلا على لغتين متباينتين كما بينا أو يكون على معنيين مختلفين أو تشبيه شيء بشيء على ما شرحناه في كتابنا الذي ألفناه في افتراق معنى فعل وأفعل.(22/199)
ومن ههنا يجب أن يتعرف ذلك وأن قول ثعلب: وقفت الدابة ووقفت أنا، ووقفت وقفا للمساكين لا يجوز أن يكون الفعل اللازم من هذا النحو، والمجاوز على لفظ واحد في النظر والقياس لما في ذلك من الإلباس، وليس إدخال الإلباس في الكلام من الحكمة والصواب، وواضع اللغة عز وجل حكيم عليم، وإنما اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين أو أحدهما ضد للآخر لما كان ذلك إبانة بل تعمية وتغطية ولكن قد يجيء النادر من هذا لعلل، كما يجيء فعل وأفعل فيتوهم من لا يعرف العلل أنهما لمعنيين مختلفين وإن اتفق اللفظان، والسماع في ذلك صحيح من العرب فالتأويل عليهم خطأ وإنما يجيء ذلك في لغتين متباينتين، أو لحذف واختصار وقع في الكلام حتى اشتبه اللفظان وخفي سبب ذلك على السامع وتأول فيه الخطأ وذلك أن الفعل الذي لا يتعدى فاعله إذا احتيج إلى تعديته لم تجز تعديته على لفظه الذي هو عليه حتى يُغير إلى لفظ آخر إما بأن يزاد في أوله همزة [3] أو يوصل به حرف جر بعد تمامه ليستدل السامع على اختلاف المعنيين إلا أنه ربما كثر استعمال بعض هذا الباب في كلام العرب حتى يحاولوا تخفيفه فيحذفوا حرف الجر منه كقولهم: كلته -وزنته أي كلت له وزنته له فيعرف بطول العادة وكثرة الاستعمال وينوب المفعول وإعرابه فيه عن الجار والمجرور المحذوف، أو يشبه الفعل بفعل آخر متعد على غير لفظه فيجري مجراه لاتفاقهما في المعنى كقولهم حبست الدابة وحبست مالاً على المساكين.(22/200)
وقد استقصينا شرح ذلك كله في كتاب فعلت وأفعلت بحججه ورواية أقاويل العلماء فيه وذكر علله والقياس فيه اهـ، وقال في موضع آخر، أهل اللغة أو عامتهم يزعمون أن فعل وأفعل بهمزة وبغير همزة قد يجيئان لمعنى واحد وإن قولهم دير بي وأدير بي من ذلك وهو قول فاسد في القياس والعقل مخالف للحكمة والصواب، ولا يجوز أن يكون لفظان مختلفان لمعنى واحد إلا أن يجيء أحدهما في لغة قوم والآخر في لغة غيرهم، كما يجيء في لغة العرب والعجم أو في لغة رومية ولغة هندية.
وقد ذكر ثعلب أن أدير بي لغة فأصاب في ذلك وخالف من يزعم أن فعلت وأفعلت بمعنى واحد، والأصل في هذا قد درت وهو الفعل اللازم ثم ينقل إما بالباء وإما بالألف فيقال: قد دير بي أو أدرت فهذا القياس.
ثم جيء بالباء مع الألف فقيل: قد أدير بي كما قيل قد أسرى بي على لغة من قال أسرى في معنى سرى لأن إدخال الألف في أول الفعل والباء في آخره للنقل خَطأ إلا أن يكون قد نقل مرتين إحداهما بالألف والأخرى بالباء [4] اهـ.
رأي ابن قتيبة:
وقال ابن ابن قتيبة [5] باب فعلت وأفعلت بإتقان معنى.
جد فلان في أمره وأجد، ويقال فلان جاد ومجد، لاق الدواة وألاقها "الفراء"أضاء القمر وضاء وأنشد غيره للعباس بن عبد المطلب عم الرسول يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.
ض وضاءت بنورك الأفق
أنت لما ظهرت أشرقت الأر
وقال الفراء أوحى ووحى وأومأ وومأ وقال غيره محصته السوء وأمحصته، وسلكته وأسلكته. قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} .
وقال الهذلي:
شَلاَّ كما تطرد الجَمَّالة الشُرُدا
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة(22/201)
عمَّر الله بك دارك وأعمرها، أمر الله ما له وأمر، نضر الله وجهك وأنضره، مددت الدواة وأمددتها وأمددته بالرجال لا غير، خلف الله عليك بخير وأخلف، نهج الثوب وأنهج إذا بلى، سكت القوم وأسكتو، وصمتوا وأصمتوا، خلق الثوب وأخلق، سمح الرجل وأسمح محَّ الكتاب وأمحَّ إذا درس، ينعت الثمرة وأينعت، نسل الوبر وأنسل إذا وقع، سندت في الجبل وأسندت، قطرت عليه الماء وأقطرت، خلد إلى الأرض وأخلد، نزفت البئر وأنزفتها، جلب الجرح وأجلب إذا صارت عليه جلبة، قدعته وأقدعته، فتنته وأفتنته، ساس الطعام وأساس إذا سوس، وداد وأدادا إذا دود، سريت وأسريت، كنبت يداه وأكنبت إذا اشتدت وغلظت، سوءت به ظنا وأسأت الظن، قتر الرجل وأقتر إذا قل ماله، خفقت الأمر وأخفقته وهرقت الماء وأهرقته، زها البسر وأزهى، شنقت القربه وأشنقتها إذا شددت رأسها، قصر عنه وأقصر عنه، زكا الزرع وأزكى الزرع، جمَّت الدابة وأجمت، قتله البيع وأقتله، سار الدابة وأسارها، مُطرنا وأُمطرنا، وأبو عبيدة يفرق بينهما، غسا الليل يغسو وأغسى إذا أظلم، حشمته وأحشمته، أغضبته. زننت به خيراً وأزننت، جهده السير وأجهده، جرمت وأجرمت من الجرم، خلا المكان وأخلى، عسرت الرجل وأعسرته إذا طلبت الدين منه على عسرة خفق الطائر بجناحيه وأخفق، سقفت الباب وأسقفته، ثاب جسمه وأثاب، أجرت الغلام وآجرته، ذرت الريح وأذرت، لغطوا وألغطوا، وضجوا وأضجوا.
نبت البقل وأنبت، رجنت الشاة وأرجنت، ثرى الرجل وأثرى إذا أيسر، رجف وأرجف إذا أعيا، سحته الله وأسحته إذا استأصله، وقرىء فيسحتكم وفيسحتكم، (بفتح الياء وضمها) ، جاح الله ماله وأجاحه، هديت العروس وأهديتها، عرض لك الخير وأعرض حدت المرأة وأحدت، فرزت الشيء وأفرزته.(22/202)
عقم الله رحمها وأعقمها، حدق القوم به وأحدقوا، أوخفت الخطمى ووخفته، دجنت السماء وأدجنت، جلبوا عليهم وأجلبوا إذا صاحوا، لاذوا به وألاذوا وجرته الدواء وأوجرته، صلَّ اللحم وأصلَّ، وخمَّ وأخمَّ، سعرني شرا وأسعرني، مهرت المرأة وأمهرت، شار العسل وأشار، عذر الغلام وأعذره، ضب الرجل وأضب إذا سكت، صددت الرجل وأصددته، صردت السهم وأصردته إذا أنفذته، وعيت العلم وأوعيته، وأوعيت الطعام لا غير، وفيت بالعهد وأوفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، غللت وأغللت من الغلول، لحدت القبر وألحدته، ولحد الرجل في الدين وألحد، وقرئ يَلحدون يُلحدون (بفتح الياء وضمها) بدأ الله الخلق وأبدأ وقال عز وجل {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} ، بشرت الرجل وأبشرته وبشرت الأديم وأبشرته إذا قشرت ما عليه.(22/203)
قبل وأقبل، ودبر وأدبر، وقح الحافر وأوقح، جهشت في البكاء وأجهشت، جمع القوم رأيهم وأجمعوا رأيهم، سمل الثوب وأسمل، عصفت القارورة وأعصفتها، حل من إحرامه وأحل، بل من مرضه وأبل أي نجا، ثويت عنده وأثويت، منيت وأمنيت من المني، مذيت وأمذيت، من المذي، طافوا به وأطافوا، حال في متن فرسه وأحال، صرَّ الفرس أذنه وأصرَّ، مر الطعام وأمر، وقعت بالقوم في القتال وأوقعت، نويت النوى وأنويته، إذا أكلت التمر ورميت بالنوى، غمي عليه وأغمي، مطيت عنده وأمطيت تنحيت، وكذلك مطت غيري وأمطيته، هذا قول أبي زيد وقال الأصمعي مطت أنا وأمطيت غيري لا غير، قمعت الرجل وأقمعته، صعقتهم السماء وأصعقتهم، ألقت عليهم صاعقة، قمسته في الماء وأقمسته إذا غططته، مضَّني وأمضَّني، قال الأصمعي أمضَّني بالألف ولم يعرف غيره، صليت الشيء في النار وأصليته نجوت الجلد عن اللحم، وأنجيته إذا قشرته، جننته في القبر وأجننته، ربعت عليه الحمى وأربعت، وغبت عليه وأغبت، رميت على الخمسين وأرميت زدت، كلأت الناقة وأكلأت، إذا أكلت الكلأ، حكمت الفرس وأحكمته، ورسنته وأرسنته، رحبت الدار وأرحبت إذا اتعست، جهرت بالقول وأجهرت، خسرت الميزان وأخسرته نقصته، حصُر الرجل من الغائط وأحصر، صقعت الأرض وأصقعت من الصقيع، عَنَدَ العِرْقُ وأعند إذا سال أكثر، لخيت الغلام وألخيته إذا أوجرته الدواء، فرشته فراشاً وأفرشته، صرَّت إليَّ رأسه وأصرته إذا أملته ضنأت المرأة وأضنأت إذا كثر ولدها، هلكت الشيء وأهلكته. قال العجاج: ومهمه هالكٍ مَنَ تَعَرَّجا بمعنى مهلك، هذا قول أبو عبيد وقال غيره أي هالك المتعرجين أي من عرج فيه واحتبس هلك.(22/204)
جذا الشيء وأجذى إذا ثبت قائما، زلت الشيء وأزلته، رفل من مشيته وأرفل، وضعت في مالي وأوضعت، ووكست وأوكست، زحفت في المشي وأزحفت أعييت، أويته وآويته، وأويت إلى فلان مقصور لا غير، حلت في ظهر دابتي وأحلت إذا وثبت عليه، حشت عليه الصيد وأوحشت، قصرنا وأقصرنا في قصر العشىِّ.
وكف البيت وأوكف، خطل في كلامه وأخطل، حاك فيه القول وأحاك أي نجح، غمدت سيفي وأغمدته، رشَّت السماء وأرشَّت، وطشَّت وأطشَّت، هلت عليه التراب وأهلت، نار الشيء وأنار، خذ ما طف لك وأطف، شمس يوماً وأشمس، حالت الدار وأحالت من الحول، وبان وأبان، حضرت حتى عنت وأعينت أي بلغت العيون، طلق يده بالخير وأطلق رملت الحصير وأرملته، وسفقته وأسفقته نسجته، برا الله حجك وأبره، وسعده الله وأسعده ونعشه الله وأنعشه، قطبت الشراب وأقطبته فرجته، شظظت الوعاء وأشظظته من الشظاظ، رجعت يدي وأرجعتها، لمحته وألمحته، تبله الحب وأتبله، جلا القوم عن الموضع وأجلوا تنحوا عنه، وأجلوتهم.
قال أبو ذؤيب:
ثبات عليها ذُلُّها واكتئابها
فلما جلاها بالأيام تحيرت
يعني مشتار العسل جلاها عن موضعها بالدخان ليشتاره.
لاح الرجل وألح أي أشفق، سقت إليها الصداق وأسقته، جفلت الريح وأجفلت، خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر، غبش الليل وأغبش أظلم، ذرق الطير وأذرق، صم الرجل وأصم، غامت السماء وأغامت، خلف فوه وأخلف، زففت العروس وأزففتها، وعزت إليك في الأمر وأوعزت، شنقت الناقة وأشنقتها، إذا كففتها بزمامها، وسنفتها وأسفنتها من السناف، بقَّت المرأة وأبقَّت كثر ولدها، وقد بقفت يا رجل وأبقفت إذا كثر كلامه.
حرست الناقة وأحرستها إذا سرت عليها حتى تهزل، قحدت الناقة وأقحدت إذا صار مقحادا وهي العظيمة السنام، وهنه الله وأوهنه قال طرفة أنني لست بموهون فقر.
فقال الآخر:
إلا لتوهن آمن العظْم
أقتلت سادتنا بغير دم(22/205)
صغوت إلى الرجل وأصغيت، ذروت الحب وأذريته الفراء، وجملت الشحم وأجملته أذبته، نجزت الحاجة وأنجزتها قضيتها، ركست الشيء وأركسته إذا رددته قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} يروى في التفسير ردهم إلى كفرهم ابن العربي، مرأني الطعام وأمرأني، وروى لطَّ دون الحق بالباطل وألطَّ، وقول الناس الإلطاط وهو ملط من هذا، ويروى كفأت الإناء وأكفيته، ألفت المكان وآلفته، نكرت القوم وأنكرتهم، نعم الله بك عيناً وأنعم، جدب الوادي وأجدب، وخصب وأخصب، وبأت الأرض وأوبأت، وحطبت وأحطبت، وعشبت وأعشبت، وبقلت وأبقلت، وضبعت الناقة وأضبعت اشتهت الفحل، لحقته وألحقته ومنه إن عذاب بالكفار ملحق أي لاحق، قويت الدار وأقوت، زكنت الأمر وأزكنته، خطئت وأخطأت.
وقال الله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} .
وقال الشاعر:
رب بِكَفَّيْكَ المنايا لا تموت
عبادك يخطئون وأنت
ردفته وأردفته، ملح الماء وأملح، ونتن الشيء وأنتن، أعورت عينه وعرتها، دير بالرجل وأدير من دوار الرأس، مرع الوادي وأمرع ... انتهى كلام ابن قتيبة.
قال في لحن العامة [6] فعل وأفعل: يخلطون بين هذين الوزنين ففي العربية أفعال جاءت على وزن أفعل ينطقونها ثلاثية على فعل فيقولون: ضج القوم، وحكّني رأسي وأحس كذا وشرعت الرمح، وعييت، وحسن الشيء ومسكت كذا وصح الله بدنك، وعازني الشيء وباده الله وخزاه.
وشبه فلان أباه وصحت السماء فهي صاحية، وجبرت فلانا على كذا، وفلان يأوي اللصوص، وكل هذه الأفعال رباعية في اللغة العربية على أفعل.(22/206)
وحدث عكس ما سبق أيضاً قالوا: أرفدت فلانا وأرسنت الدابة، وأردمت الباب وأسعرهم شراً، وأشملت الريح، وأشغلت فلانا، وأشفاك الله وأصرفته عما أراد، وأعناني الشيء، وأقلينا الماء، وأقست الشيء وأكريت النهر، وأكببت فلانا على وجهه، وأنعشه الله وأنجع الدواء، وأنبذت، وأوقفت دابتي، وأهديت العروس، وصواب كله على وزن فعل لا فعل وهذا الباب أعني الخلط بين فعل وأفعل قد شاع من القرن الثالث الهجري فعالجه ابن السكيت في إصلاح المنطق [7] ، وابن قتيبة في أدب الكاتب [8] ، وثعلب في الفصيح.
وقد صنفت في باب (فعل وأفعل) كتب خاصة للأصمعي وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي إسحاق الزجاج [9] .
أفعال ينطقها العامة بالهمزة والفصيح بدونه
وقد عقد لها ابن السكيت في كتابه إصلاح المنطق [10] .
تقول نعشه الله يَنْعَشَه أي رفعه الله ومنه سمى النعش نعشاً لارتفاعه ولا يقال أنعشه: وتقول: نجع فيه الدواء، وقد نجع في الدابة العلف ينجع ولا يقال قد أنجع فيه.
ويقال قد نبذت نبيذاً وقد نبذت الشيء من يدي إذا ألقيته فقال: أبو محمد أنشدني غير واحد:
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
نظرت على عنوانه فنبذته
ومنه قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} ولا يقال أنبذت نبيذاً. وقد شغلته ولا يقال سعرهم شراً ولا يقال أسعرهم، وقد رعبته إذا أفزعته وكذلك رعبت الحوض إذا ملأته وهو مرعوب.
قال الهذلي أبو خراش:
من الفُرنّى يرعبها الجميل
نقاتل جوعهم بمكلاّت
ويقال جملت الشحم إذا أذبته وكذلك أجتملت وقال مليح بن الحكم الهذلي:
ودقة فتروى وأيما كل واد فيرعب
بذي هيدب أيما الربا تحت
أيما في معنى أما.
وقد هزلت دابتي وكذلك هزل في منطقه يهزل ويقال قد أهزل الناس إذا وقع في أموالهم الهزال.
وقد كفأت الإناء فهو مكفوء إذا قلبته.(22/207)
ويقال قد قلبت الشيء وأقلبته قلباً، وقد قلبت الصبيان وصرفتهم بغير ألف.
وقالوا أقلبت الخبزة إذا نضجت وأنى لها أن تقلب. وقد وقفت دابتي وقد وقفت وقفاً للمساكين، ووقفته على ذنب كله بغير ألف.
وحكى الكسائي: ما أوقفك هاهنا؟ أي شيء أوقفك هاهنا؟ صيرك إلى الوقوف.
قال الأصمعي: جنبت الريح وشملت وقبلت وصبت ودبرت كله بغير ألف.
ويقال قد برقت السماء وأرعدت وقد برق ورعد إذا تهدد وأوعد، قال ولم يكن يرى بيت الكميت حجة لأنه عنده مولد وهو قوله.
فما وعيدك لي بضائر.
أبرق وأرعد يا يزيد
وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: برق ورعد، وأبرق وأرعد إذا تهدد وأوعد، الفراء يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا بإسقاط الألف فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير وعدته وفي الشر أوعدته، وفي الخير الوعد والعدة وفي الشر الإيعاد والوعيد وإذا قالوا أوعدته بالشر أو بكذا أثبتوا الألف مع الياء وأنشد.
رجلي ورجلي شثنة المناسم
أوعدني بالسجن والأداهم
ويقال قد كببته لوجهه وكب الله الأبعد لوجهه ولا يقال أكب الله، ويقال قد علفت الدابة وقد رسنتها بغير الألف.
وقد حششت بعيري، وقد حميت المريض وأحمية حمْيَة وقد حميت أَنَفًا أن أفعل كذا وكذا حمية ومحمية إذا أنفت أن تفعله.
ويقال: عبته ولا يقال أعبته، وحدرت السفينة ولا يقال أحدرتها، وعن غير يعقوب حميت المكان وأَحْميته أي جعلته حمى لا يقرب، ومنعت الناس منه وكذلك المسمار وأحميته أنشدنا أبو الحسن ويعقوب وغيره.
وأحمى ما يليه من الإجام
حمى أحماته فَتُركن قفرا
وقد رفدته ولا يقال أرفدته.
وقد عقد لها الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت باب ما تكلم فيه بفعلت دون أفعلت وما اختير فيه فعلت [11] على أفعلت.(22/208)
يقال بهأت به وبهئت به إذا أنست به ... وبردت عيني أبردها ... وبرد الماء حرارة جوفي بردا ... وبحرت أذن الناقة شققتها وبترت الشيء قطعته من أصله.
تنح بالمكان وتنأ به أقسام به وتمك السنام إذا ارتفع.
ثنيت الشيء عطفته، وثلمت الشيء فهم مثلوم، وثبر الله العدو أهلكه فهو مبثور، وثروت الرجل إذا كنت أكثر منه مالاً وثلجت صدر الرجل إذا أتيته بما يسره وهو حق. وثمأت رأسه بالحجر شدخته.
يقال دمعت العين تدمع ... ودرأته عن الشيء أدراه دفعته ... ودهنت الناقة ودهنت إذا قل لبنها، ودنأ يدنأ دناءه ودنوء إذا كان دنيا لا خير فيه.
يقال رعف الرجل من الرعاف، ورعبت الرجل أرعبُه ورزأته أرزؤه رزءً أي أصبت منه خيرا ... وربأت القوم أربؤهم إذا كنت لهم طليعة ... ورفأت السفينة رفءً إذا قربتها من الشط ... ورقأت العين إذا جفت دمعها ... ورأيت الشيء إذا أصلحته ... ورأفت الرجل أرأف به إذا رحمته ورأس الرجل القوم صار رئيسهم.
يقال زريت على الرجل أزري عليه إذا أعبته، وزرى الرجل وجهه عني، وزرى الميراث عن الورثة ... وزعيت له من المال زعية أعطيته منه قطعة، وزيده زيدا أعطاه ... وزأدت الرجل دعوته ... وزنأ في الجبل صعد وزبرت الكتاب كتبته.
سحوت القرطاس وسحيته قشرته ... وسبيت العدو سبيا وسبأت الخمر شربتها ... وسأبت الرجل ختنته ... وسرأت المرأة كثر ولدها ... وسلأت السمن أَسْلَؤُهُ إذا خلصته.
شريت الشيء أشريته وشريته بعته، وشملت الريح ... وشأوت القوم سبقتهم ... وشفأ الناب طلع.
صرف الله عنك الأذى ... وصرفت القوم عن الشيء وصرف عن الأمر أعرض عنه ... وصمدت للشيء أصمد له وصبت الريح من الصبا ... وصبأت عن الشيء رجعت عنه وصبا الرجل في دينه صار صابئاً ... وصبأ الناب طلع وصال الطيب وغيره يصيل بالشيء إذا لزق به.(22/209)
ضفا الشيء إذا كثر يضفو ... وضمر الشيء فهو ضامر ... وضفرت الشعر ... وضربت إليه لجأت إليه ... وضامه يضميه إذا ظلمه ... وضبأ الرجل بالمكان إذا اختبأ ضبوءا ... وضلعت مع فلان مِلْتُ معه.
طما الشيء يطمو إذا علا ... وطمأت الشيء واريته ... وطم الشعر جزه ... وطان الكتاب يطينه ختمه بالطين ... وطبأه إلى الشيء يطبؤه دعاه إليه ... وطبن له فطن له ... وطببت له صرت طبيباً ... وطببت الطب صرت رفيقاً بالشيء فهماً به.
عبأت الطيب وغيره خلطته ... وعبأت بالشيء باليت به ... وما عبأت بفلان ما باليت ... وعابني فلان وعبته بغير ألف وعرضت الجيش ... وعلفت الدابة ... وعناني الأمر يعينيني بغير ألف ... وعززت فلان بالشر ... وعدا فلان على فلان يعدو إذا ظلمه.
غارهم إذا أتاهم بالميره وغار على الشيء غيرة ... وغبنته في البيع غبناً، وغلت القدر تغلي ... وغثت نفسه تغثي وغبطته أغبطه إذا أحببت أن يكون لك مثل ما له من غير أن يُسلبه.
فتأت الرجل عن رأيه أفتوه صرفته عنه ... وكل شيء رددته عنك فقد فتأْته عنك.
قال الشاعر:
وتفتؤها عنا إذا حميتها غلى
تغور علينا قدرهم فنديمها
وفأوت رأسه شققته وفأيته أيضاً ... وفأدت الرجل أصبت فؤاده ... وفرق الرجل بين الشيئين وهو فارق بينهما فرقاً ... وفقأت عينه.
قاس الرجل الشيء يقيسه ... وقلمت ظفري ... وقنا للون إذا احمر ... وقلبت الشيء ... وقلبت القوم إلى منازلهم وقريت الضيف أطعمته، وقنط الرجل قنوطاً إذا استحكم يأسه.
كسبت مالاً بغير ألف أكسبه ... وكتفت الرجل أكِفُه توليت حياطته ... وكرف الحمار إذا شم البول ورفع رأسه ... وكبا الزند يكبو إذا لم يخرج ناره ... وكفلت الرجل صرت كفيله، وكعَّ الرجل عن قرنه كبن عنه ... وكلمت الرجل إذا جرحته وكسأت وسطه قطعته بالسيف.(22/210)
لبأت القوم أطعمتهم اللبأ ... ولطأ الرجل بالأرض لزق بها ... ولمَّ الشَّعث أصلحته ... ولبأت اللحم من العظم قشرته ... ولززت الشيء بالشيء ألزقته ... ولددت الصبي صببت الدواء عن جانب فيه ... ولبقت الطعام خلطته ومثله لكته ... ولهف الرجل ولهث.
مجن الرجل صار ماجنا ... ومأوت بين القوم أفسدت بينهم ... ومأست بينهم مثله ... ومأنت الرجل احتملت مؤنته ... ومريت الشيء مسحته ... ومقرت السمك مقراً جعلته في الخل.
نفيت الرجل بغير ألف أنفيه ... ونبذت النبيذ اتخذته ... ونبذت الشيء ألقيته ... ونقل الرجل بين القوم سعى بالفساد بينهم وناء الرجل بالحمل ينوء إذا نهض به ... وناء اللحم ينئ إذا لم ينضج في الطبخ ونسأت الإبل في مشيها إذا تأخرت ... ونبأت من بلد إلى بلد خرجت ... ونكأت الجرح ... ونكيت في العدو ... وما نبس فلان بكلمة أي ما نطق ... ونوى البعير سمن.
وقفت الدابة والضيعة بغير ألف ... ووصلت بين الشيئين جمعت بين طرفيهما ... ووديت الرجل أعطيته ديته ... ووراه الداءُ يريه أفسد جوفه ... ووسمت الدابة وسما ووألت من الشيء نجوت منه ... ووسقت المرأة حملت ... ووسق الإبل حملها ... ووشيت الثوب من الوشى وولب الرجل الكلام سلقه وأسرع فيه ... ووقمت العدو قمعته وقهرته ... ووأد الموؤدة دفنها وهي في الحياة ووترت الرجل من التِّرة وهي العداوة ... ووصل السيب كثر واتصل ... ووشيت الشيء إذا خرزته.
هنأته النعمة وهنأني الأمر ... وهرف القوم بالرجل أفرطوا في مدحه ... وهرقت الماء صببته ... وهتيت بالرجل إذا دعوته رافعاً صوتك ... وهمدت النار طفئت، وهمد الثوب أخلق ... وهزأت بالرجل وهرئت به سواء ... وهال التراب صبه وهالني الأمر بغير ألف ... وهجأني الطعام أشبعني.
يمن الرجل القوم بيِمنهُم إذا صار ميمونا عليهم مباركاً ... ويعر الجدي يتعر يعارا إذا صاح ... ويسرت بالقداح إذا ضربت بها.(22/211)
أجر العظم إذا جبر على فساد ... وأفل النجم إذا غار وغاب وأبر النخل يأبرها إذا لقحها ... وأدمت الخبز أكلته بإدام وأممت القوم صرت لهم إماما ... وأجن الماء يأجن ويأجن وأسن يأسن ويأسُن إذا تغيرت رائحته، وأطر الرجل الشيء على الشيء إذا ثناه عليه ... وأصر الشيء يأصره إذا عطفه ... وأشر الرجل الشيء بالحديد يأشره ويأشره بالمنشار.
(يتبع)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر المزهر ج 1 ص 384-386. وانظر تصحيح الفصيح ج 1 ص 165 تحقيق عبد الله جبوري طبعة بغداد. وقد ذكر هذا الكلام تعقيباً على الإمام ثعلب تصحيح الباب الثالث وهو باب فعلت بغير ألف، عند قوله، وأما قوله في رعد وبرق في باب فعلت إنه يقال فيه أرعد وأبرق فإن لكل واحد من هذين معنى يخصه ... الخ.
[2] في تصحيح الفصيح إتمام للكلام هو: الهمزة التي تدخل لنقل الفعل الذي على فعل فيجعل على أفعل نحو كرم وأكرم وحس وحسن.
[3] هناك وإما بان يوصل الخ مثل ذهب بغيره، وقام وقام بأخره.
[4] قال في لسان: أسريت بالألف لغة أهل الحجاز وجاء القرآن العزيز بهما جميعا.
[5] انظر أدب الكاتب لابن قتيبة ص 360 دار صادر بيروت.
[6] انظر لحن العامة للدكتور مطر طبع وزارة الثقافة المصرية ص 94.
[7] من ص 225 إلى ص 228. من 333-353.
[8] أبواب فعلت بغير ألف، فعلت وأفعلت، أفعل.
[9] انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ج 2 ص 149.
[10] انظر إصلاح المنطق ص 251 باب يتكلم فيه بفعلت مما تغلط فيه العامة فيتكلمون بأفعلت.
[11] انظر الأفعال لابن القطاع، وإصلاح المنطق لابن السكيت وتصحيح الفصيح ج 1 ص 163 طبعة بغداد.(22/212)
حداثة الشعر العربي
الدكتور: عبد الباسط بدر
الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالجامعة
(الحلقة الأولى)
تعد قضية الحداثة من قضايا الشعر العربي الخطرة، إن لم تكن في عصرنا أخطرها على الإطلاق، فهي قضية تطوره وتغير مفهومه وطبيعته وعناصره الشكلية والموضوعية.
وقد اكتسبت هذه القضية أهميتها الخطيرة في عصرنا من كونها تحولت إلى مسوغ أساسي لتغير أي من مقومات الشعر، ولا أستثني من ذلك كيان الشعر كله. وصارت عند بعض المتنطعين غاية وهدفاً.
لأجلها "يُسْتَشْهد"بعضهم، وفي سبيلها يعاني آخرون المتاعب ويعللون فقرهم في الجمهور، وبسببها يتحمل فريق ثالث لعنات مجتمعه غير مبال بها. فهو -كما يزعم- يؤصل قواعد الحداثة ويرود التطوير.
وللحداثة قامت صراعات كثيرة بين أجيال متوالية في هذا القرن، وما زالت تقوم، تشتد تارة وتهدأ تارة.. وربما تظل كذلك إلى ما شاء الله.
فما الحداثة؟ ولم صارت شغل النقاد والشعراء؟ وهل تستند إلى جذور أصلية في تراثنا الأدبي؟
هذا ما سأجيب عنه في الصفحات التالية..
من الحقائق الثابتة أن ظواهر الحياة البشرية، المادية والفنية، تخضع لتطور دائم عبر الزمن. ونظرة سريعة إلى أية ظاهرة منها في زمنين متباعدين تظهر الفروق الكبيرة بين شكل الظاهرة في الزمن الأول وشكلها في الزمن الثاني، حتى ليصح أن يقال: إن الثابت الوحيد في هذه الظواهر هو التطور.(22/213)
والشعر ظاهرة فنية عريقة، صاحبت الحياة البشرية منذ فترة مبكرة من تاريخها، وستصحبها إلى ما شاء الله، هذا الشعر لا يخرج عن قانون التطور أياً كان زمانه ومكانه، ولا يمكنه أن يتوقف عن التطور دون أن تتصلب شرايينه وتسكت نبضات الحياة فيه، فالتطور -أو لنقل التغير خشية أن بفهم التطور على أنه الاتجاه نحو الأفضل- خيط دقيق يمتد فيه طوال تاريخه، وقد يدق ويرق في عصر من العصور حتى لا يرى منه إلا أثر بسيط، ولكنه لا يغيب نهائياً، والشعر العربي -مهما قيل عن ثباته وتطوره- لا يخرج عن هذه الحقيقة.
وقد أدرك الشعراء العرب هذه الحقيقة منذ القديم، وكان بعضهم واعياً يحس نبضها في شعره، كما أدركها عدد من النقاد القدماء ورصدوها بمقاييس مختلفة، وجعلوها إحدى قضايا نقدهم التطبيقي حيناً والتنظيري حيناًً آخر، واتخذها بعضهم مقياساً في تقويم العمل الشعري.
وفي العصر الحديث تطور قضية الحداثة وتطور مفهومها، وغَدت صاحبة الدور الأساسي في قيام الاتجاهات الشعرية الجديدة وكسب الأنصار والمؤيدين. ولابد -لتوضيح قضية الحداثة- من العودة إلى جذورها، والمرور بها -خطفاً- في الشعر والقديم ونقده، تمهيداً لرصدها في العصر الحديث، والوقوف على بصماتها في الحركات الشعرية المتتالية، وتطروها بين هذه الحركات.
الحداثة في الشعر القديم:
بلغ الشعر العربي في الفترة التي نعرفها عن العصر الجاهلي -درجة عالية من النضج، وتنبئنا الصورة التي وصلتنا عنه أنه حصيلة تطورات فنية لا نعرفها، وأن قواعده بلغت درجة من الاستقرار جعلت الشعراء يخضعون لها حقبة طويلة من الدهر، ولو كانت بدايته المبكرة [1] مدونة لاستطعنا أن نعرف شكل تطوره واتجاهاته.(22/214)
ولا يعني هذا أن الشعر لم يتطور منذ الفترة المعروفة من العصر الجاهلي، فقد شهد بعض التطور في العصر الأموي، إذ تغيرت بعض موضوعات الشعر، وتطور بعضها الآخر، وظهرت أصداء الحياة الإسلامية في شعر الفتوح وشعر الطوائف السياسية. ولوَّن الشعراء الكبار -ولا سيما جرير والفرزدق والأخطل- قصيدة المديح بألوان جديدة مستمدة من نظرية الدولة الأموية في الخلافة، ومن الظروف المعيشية آنئذ، وثبَّت جرير ألواناً حديثة من قيم المديح استقاها من الإسلام، أما الجانب الفني في القصيدة فالتجديد فيها قليل الشأن إذ بقيت هندسة القصيدة على حالها، وظلت وسائل التصوير بمستواها القديم وطريقتها القديمة، ولم يتطور القاموس الشعري إلا عند الشعراء الغزليين كعمر بن أبي ربيعة وكثيّر، وبقيت الأوزان الشائعة في قصائد العصر الجاهلي مستعملة بالنسبة نفسها تقريباً في العصر الأموي [2] اللهم إلا المقطوعات التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في الغزل على أوزان خفيفة والأدوار التي تغنى بها المغنون، وإلا المقطوعات التي أنشدها المجاهدون في معارك الفتح..
وهكذا يمكننا القول: إن ملامح التجديد في العصر الأموي يسيرة وإن أثرها في شكل القصيدة وبنائها الفني محدود، في حين أنها أكثر وضوحاً في موضوعها ومضمونها [3] .(22/215)
وفي العصر العباسي لا نجد انعطافا حاداً، بل نجد تطويراً أوسع من تطوير العصر الأموي يشمل الشكل والمحتوى معاً، ففي الشكل صفت لغة القصيدة وبلغت درجة عالية من الرشاقة والعذوبة عند عدد من الشعراء، لتلائم الحياة العباسية الجديدة وتناسب الذوق الموسيقي الشائع، وكثرت المقطوعات الصغيرة المنظومة على الأوزان الخفيفة والمجزوءة، وانتعشت بحور كانت ضارمة من قبل كالمضارم والمجتث والمقتضب [4] ، وظهر المتدارك الذي يقال إن الأخفش استدركه على الخليل، ولحق القوافي بعض التجديد فظهر المزدوج والمسمط في فترة مبكرة، ويذكر الجاحظ أن بشاراً كان صاحب مزدوج [5] . كما نجد في دواوين أبي العتاهية وبشر بن المعتمر وابن المعتز عدة مزدوجات. ويذهب الدكتور شوقي ضيف إلى أن المزدوج هو الذي رشح لظهور الرباعيات في الشعرين العربي الفارسي [6] .
ولعل أوسع تجديد شعري عرفه العصر العباسي هو التجديد البديعي وقد سماه معظم النقاد القدماء " شعر المحدثين ". ويجمع الدارسين -قديماً حديثاً- على أن بشار بن برد رائد هذا المذهب، وأنه كان يحافظ على توازن دقيق بين العناصر الجديدة والعناصر التقليدية. وأن مسلم بن الوليد طور المذهب من بعده وجعل الشعر صنعة مجهدة، لابد فبها من التريث والتدقيق، ولابد فيها من الصقل والتجويد، وأن أبا تمام أخذ الشوط من بعدهما فبلغ به الغاية.
ويُعَدًّ لمذهب البديع -إن صحت تسميته مذهباً- قدرته على استيعاب الفلسفة ومعظم جوانب الثقافة الأخرى في العصر العباسي وبراعته في المواءمة بين العناصر الفنية والعناصر الفكرية في القصيدة فالأدوات البديعية من جناس وطباق ومشاكلة ... الخ تمتزج بالفكرة الفلسفية وتخدمها، والاستعارة تأخذ أطرافاً من المنطق، والقواعد الفلسفية تؤثر على الصورة الفنية عامة، وعلى لغة القصيدة، وتجعل اللون العقلي أقوى من اللون العاطفي. وهذا الضرب من الصناعة الفنية لم يؤلفه الشعر العربي من قبل.(22/216)
أما محتوى القصيدة فكان متأثراً إلى حد كبير بالحياة الجديدة في العصر العباسي، وكان متصلاً بالثقافة المنتشرة. وقد لحق موضوعات القصيدة تطور واضح: تطور الغزل وذاغت فيه ضروب من الصراحة المكشوفة، وظهرت في بعضه دعوة إلى التهتك والخلاعة وانتهاز اللذات، ومن جهة أخرى ازداد الاهتمام بموضوع الزهد وشاع في عدد من القصائد والمقطوعات. أما قصيدة المدح " الشعر الرسمي " فكان أقل نصيباً في التطور، لأن الشاعر المداح يحرص على التجديد في مضمون القصيدة دون شكلها غالباً، ويستخدم كل ما ترفده به الثقافة من معان جديدة لإضفائها على ممدوحه، وقد جعل البديعيون -ولا سيما أبو تمام- ألفاظ الثقافة ومعانيها معرضاً للمذهب الجديد.
وبوجه عام لم يكن التغيير في الشعر العباسي كبيراً: لم تتغير موضوعاته بل بقيت كما كانت من قبل: المديح والهجاء والرثاء والوصف والغزل، وقد تجددت هذه الموضوعات دون أن تتغير، ولم يكن تجديدها جوهرياً ولا مضطرداً. كما لم يتغير في شكله، بل بقي يعتمد على وحدة الوزن والقافية، ولم تشع المسمطات والمزدوجات، ولم تلق تشجيع النقاد آنئذ [7] ..
وفي الأندلس: كان الشعر يحتذي خطرات الشعر في المشرق الإسلامي إلى حد كبير، حتى قال عنه بعض المشرقيين: هذه بضاعتنا ردت إلينا. ولكن القرون الأخيرة من حياة الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس ولا سيما عصر ملوك الطوائف، شهد تطويراً أوسع في لغة القصيدة وفي عدد في أدواتها التصويرية، وشهد انتشار الموشح بأنغامه القوية وألوانه الموسيقية الجديدة، وسواء أكانت ولادة الموشح في الشرق على يد ابن المعتز أم كانت في الأندلس على يد شعراء أندلسيين لم يتأثروا بالمشرقيين في توليده. فإن الواضح تماماً أن الموشح نما وتطور في الأندلس وأنه بخصائصه الفنية ومقوماته الأخرى [8]-صناعة أندلسية كاملة.(22/217)
ولا شك أن الموشح هو أوسع تجديد شكلي عرفه الشعر العربي قبل العصر الحديث. وقد تداوله الشعراء في الأندلس وفي عدد من البلاد الإسلامية الأخرى. وعدوه تلويناً في موسيقى الشعر العربي لا يلغي ما قبله بل يرفده بإضافة جديدة -فكتبوا به كما كتبوا بالأوزان الخليلية الأخرى، ولم يجدوا أي تعارض بينهما، وسرعان ما طوعوه لأغراض القصيدة كلها، فكان فيه المديح والوصف والهجاء إضافة إلى موضوعه الأساسي.
وفيما عدا الموشح في الأندلس، والتجديد الذي شهده العصر العباسي لا نجد طائلاً، فقد ضعف الشعر بعد ذلك وأصبح الابتكار فيه ينحدر به درجة بعد أخرى. وشاع التقليد الضعيف، وغدا الشعراء المتأخرون يستهلكون التراث القديم ويحتالون على ألوان البديع ويملؤون بها شعرهم، ولكنها ألوان باهتة ليس لها قدرة كبيرة على التعبير وإبداع الجمال. وأسفّت موضوعات معظم القصائد وأصبحت أقرب إلى العبث واللهو، لذا من العبث أن نبحث عن التجديد والحداثة في تلك الفترة فهو تجديد خير منه العدم [9] .
الحداثة في النقد القديم:
على الرغم من أن الحداثة في الشعر القديم لم تكن شيئًا كبيراً، فإن صداها كان كبيراً، أثار خصومة واسعة، وأنشأ قضية نقدية شغلت النقاد ردحاً من الزمن وهي قضية "الحداثة والقدم".
وقد ظهرت قضية الحداثة والقدم أو ل مرة عند النقاد اللغويين، وكان هؤلاء النقاد يتصدرون ساحة النقد في القرن الثاني الهجري من خلال عملهم في اللغة، وكانوا يجمعون الشعر القديم ويدونونه ويتخذونه مثالاً للغة الفصية الصحيحة. وقد دفعهم اهتمامهم الشديد به إلى منحه هالة من التعظيم واتخاذه نموذجاً أعلى للشعر.
يروي ابن رشيق أن اللغوي الكبير أبا عمرو بن العلاء كان يقول: " لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق " [10] . ويقول عنه أيضا: " وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين " [11] .(22/218)
وينقل ابن الأثير عنه هذه الرواية: " قال أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل: لو أدرك يوماً واحداً من الجاهلية لما فضلت عليه واحداً " [12] .
وتعرض كتب الأدب والنقد حكايات كثيرة عن ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما من أعلام اللغويين آنئذ. تتشابه كلها في إظهار حماستهم للشعر القديم لأنه قديم فحسب، منها أن ابن الأعرابي سمع أرجوزة أبي تمام -وكان معاصراً له- التي مطلعها:
فظن أني جاهل من جهله
وعاذل عذلته في عذله
فاستحسنها وأمر بكتابتها، ولما عرف أنها لأبي تمام قال: خرِّقوه [13] .
ومنها أن إسحاق الموصلي أنشد الأصمعي بيتين يقول فيهما:
فيروى الصدى ويشفى الغليل
هل إلى نظرة إليك سبيل
وكثير ممن تحب القليل
إن ما قل منك يكثر عندي
فقال الأصمعي: لمن البيتان؟ قال إسحاق: لبعض الأعراب. فقال الأصمعي: هذا هو والله الديباج الخسرواني. قال إسحاق: فإنهما لليلتهما. فقال الأصمعي: لا جرم، والله إن أثر الصنعة والتكلف باد عليهما [14] .
هذه الحكايات -وأمثالها كثيرة في كتب الأدب النقد- تظهر تعصب اللغويين الشديد للقديم.
وقد نلتمس لهؤلاء اللغويين بعض العذر في أنهم ارتبطوا بقواعد التقنين اللغوي، فالشعر القديم مقياس القاعدة اللغوية وحجتها، في حين أن الشعر المعاصر لهم متهم لاحتمال وقوع اللحن فيه. الأمر الذي جعلهم يشكلون تياراً مضاداً للحديث والحداثة، ولكن لا عذر لهم في مخادعة أذواقهم الفنية.(22/219)
لذا لم يكن من الممكن أن يستمر النقد على مقاييس اللغويين "الاجتماجية"وبدا أن اتجاهاً مناقضاً سينمو ويأخذ بناصية النقد. ويخبرنا تاريخ النقد العربي أن هذا الاتجاه ظهر على أيدي النقاد المنهجيين الأوائل كابن سلام والجاحظ وابن قتيبة والآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم. وقد سعى هؤلاء النقاد لإنصاف الشعر المحدث وإسقاط مبدأ "الأفضلية المطلقة للقديم"فأعلن ابن قتيبة في مقدمة مصنفه الكبير "الشعر والشعراء" أنه يرفض مقياس اللغويين المجحف، وأنه سيتخذ مقياساً جديداً يقوم على "الجودة الفنية". قال:
"ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلاً حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر على زمن دون زمن، ولا خص بهم قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً، في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثاله يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بروايته" [15] .
وكذلك فعل النقاد المنهجيون الآخرون، فقد اتخذوا "الجودة الفنية"مقياساً يحكمون به على الشعر، لا فرق بين قديمه وحديثه، ولا ميزة لأحدهما على الآخر، ولأول مرة يزاحم شعر المحدثين شعر الأقدمين في مصنفات الأدب والشعر وعند الرواة، ويزيد من هذه المزاحمة ظهور شعراء ذوي مواهب فذة ترفد الرواة والمصنفين بقصائد رائعة كالبحتري وأبي تمام وابن الرومي وأبي العتاهية وأبي فراس والمتنبي وغيرهم.(22/220)
ويبدوا أن هؤلاء المبدعين عكفوا على الشعر القديم فتثقفوا به ثقافة عالية، ثم أضافوا ثقافة عصرهم. واستخدموا كل ذلك في نسج روائعهم الشعرية، فنجحوا في شد الأنظار إليهم وأثاروا ضجة واسعة وكتب عنهم النقاد والمصنفون، فكان هذا سبباً في إشاعة الاهتمام بالشعراء من أبناء العصر نفسه.
وقد بلغ الاهتمام درجة جعلت ابن المعتز يصنف كتاباً عن طبقات الشعراء ويقصره على الشعراء المحدثين أبناء عصره، ويصرح في ثناياه بأن شعر المحدثين أصبح في عصره أكبر مكانة من شعر القدماء، فيقول:
" ولكننا لا نخرج عن شرط الكتاب (الاختصار) لئلا يمله القارئ إذا طال عليه الفن الواحد، وليحفظ هذه النكت والنوادر والملح، وليستريح من أخبار المتقدمين وأشعارهم، فإن هذا شيء قد كثرت رواية الناس له فملوه، وقد قيل: لكل جديد لذة. والذي يستعمل في زماننا إنما هو أشعار المحدثين وأخبارهم. فمن هاهنا أخذنا من كل خبر عينه، ومن كل قلادة حبتها " [16] .
وهكذا تكشف عبارة ابن المعتز أن الذوق الأدبي في عصره اتجه إلى شعر " المحدثين " وأنه ملَّ " القديم " لأن العناصر الجديدة في الشعر المحدث أقرب إلى أذواق النقاد والمهتمين بالشعر. ولأن هؤلاء النقاد حكّموا حسهم الجمالي، وأن التجديد الذي جاء به المحدثون استطاع أن يهزهم ويشد أنظارهم.(22/221)
ولكن بعض الدارسين في عصرنا ينظر إلى هذا النقد نظرة مخالفة ويرى أن بجملته كان يرجح كفة القديم على المحدث، وأن النقاد المنهجيين تحيزوا إلى القديم على الرغم من إعلانهم الصريح عن تساوي القديم والحديث عندهم وعن خضوعهما لمقياس الجودة الفنية وحسب [17] . وحجتهم في ذلك أن مقاييس الجودة الفنية التي اتخذوها معياراً للحكم مرتبطة إلى حد كبير بالشعر القديم. وأن شواهدهم على فصاحة اللفظ وروعة التشبيه وحسن الاستعارة ولطف الكناية ... الخ مأخوذة من أبيات متفرقة من الشعر القديم، وأنهم في تحليلهم لنماذج من الشعر المحدث يرتبطون -بشكل ما بنماذج من الشعر القديم ويقيسونها بها ويشبهون جودة هذه بروعة تلك.
وأجدني أميل إلى هذا الرأي. ويشجعني على ذلك موقف معظم النقاد المنهجيين من حركة البديع في الشعر، فقد ترددوا في قبولها، وحاكموها بمقاييس الشعر القديم، وعدوها خروجاً على عمود الشعر [18] .
وكذلك الحال في موقف النقاد من محاولات التجديد الشكلية، فقد أهملها معظمهم، وعدها معظمهم محاولات هزيلة تدل على ضعف الشاعرية، وهذه صورة أخرى لارتباط المقاييس الفنية ارتباطاً شديداً بأنظمة الشعر القديم.(22/222)
فابن رشيق الذي أنصف المحدثين وشعرهم في مثل قوله: "فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع ومعرفة الصواب، على أنه أرق حوكاً وأحسن دياجة" [19] . نجده بعد ذلك يشكك في المخمسات والمسمطات، وينسبها إلى ضعف الشاعرية فيقول: "وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون فيها، ولم أرى متقدماً حاذقاً صنع شيئًا منها، لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه، ما خلا امرئ القيس في القصيدة التي نسبت إليه -وما أصحها له- وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة، وبشر بن المعتمر، فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، ووضع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد، ركب فيها هذا الطريق، لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع" [20] .
مما سبق نصل إلى النتائج التالية:
أولاً: أن مفهوم الحداثة كان عند بعض النقاد لا يتعدى معناه اللغوي البسيط، أي الشيء الجديد، وبناء على هذا المفهوم رفض هؤلاء النقاد كل جديد يظهر في عصرهم دون أن يميزوا بين الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، والجديد الذي هو نسخة عما قبله.
ثانياً: أن مفهومها تطور عند نقاد آخرين وأصبح يعني: الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، وهذا المفهوم هو أساس مفهوم الحداثة في عصرنا الحاضر بعامة.
ثالثاً: أن النقاد القدماء لم يهتموا بمصادر السمات الفنية الجديدة، ولم يربطوا بينها وبين الثقافة الوافدة في ذلك العصر.
رابعاً: أن قضية الحداثة برمتها -كانت في النقد القديم- قضية مضخمة شغلت جزءًا أكبر من حجمها، واستهلكت من الجدل والنقاش أضعاف التجديد الذي جاء به المجددون.
(يتبع)
--------------------------------------------------------------------------------(22/223)
[1] ثمة إشارات كثيرة إلى بداية الشعر العربي: تربطه بالموسيقى أو بالعمل أو بالعبادة. انظر عرضاً موجزاً لبداية الشعر العربي في الدكتور أحمد كمال زكي: نقد -دراسة وتطبيق 65. دار الكتاب العربي -القاهرة 1967.
[2] انظر الدكتور إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر العربي 193-194 مكتبة الأنجلو 1972.
[3] استفدت في عرض ملامح التجديد في العصر الأموي من كتاب الدكتور شوقي ضيف: التطور والتجديد في العصر الأموي ص 60-142 دار المعارف بمصر 1959.
[4] الدكتور إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر العربي 195-196 مكتبة الأنجلو 1965.
[5] البيان والتبين 1: 94 المكتبة التجارية الكبرى 1926م.
[6] الدكتور شوقي ضيف: العصر العباسي الأول 198 دار المعارف بلا تاريخ.
[7] استفدت في عرض ملامح التطور في العصر العباسي من: الدكتور شوقي ضيف: العصر العباسي الأول ص 159-200 ط دار المعارف بمصر بلا تاريخ –والعصر العباسي الثاني ص 203-254 ط دار المعارف بمصر 1973م.
[8] انظر رصداً لهذه الخصائص والمقومات في المؤلفات القديمة: ابن سناء شاء الملك: دار الطراز في مجمل الموشحات. بتحقيق جودة ركابي 1949. وفي المؤلفات الحديثة: د. مصطفى عوض الكريم. فن التوشيح. بيروت 1965م.
[9] انظر: الدكتور عمر موسى باشا: أدب الدول المتتابعة الصفحات 226-710. دمشق 1965م.
[10] ابن رشيق القيراوني: العمدة 1: 91 المكتبة التجارية الكبرى. بتحقيق محي الدين عبد المجيد.
[11] ابن رشيق القيراوني: العمدة 1: 91 المكتبة التجارية الكبرى. بتحقيق محي الدين عبد المجيد.
[12] ابن الأثير: المثل السائر 489 مطبعة حجازي بمصر 1935.
[13] الآمدي: الموازنة1: 22 دار المعارف بمصر 960 بتحقيق أحمد السيد صقر.
[14] السابق: 1: 23.
[15] ابن قتيبة: الشعر والشعراء 6 و7 دار حياء الكتب العربية. القاهرة 1364 بتحقيق أحمد محمد شاكر.(22/224)
[16] ابن المعتز طبقات الشعراء المحدثين 86 دار المعارف بمصر 1968م.
[17] الدكتور محمد مندور: النقد المنهجي عند العرب 130 دار نهضة مصر بلا تاريخ.
[18] انظر: الدكتور أحمد إبراهيم موسى: الصبغ البديعي في اللغة العربية 82-101 دار الكاتب العربي- القاهرة 1966.
[19] العمدة: 1: 9.
[20] السابق: 1: 182.(22/225)
من تراثنا الشعري
ليزيد بن الحكم
رِبُهَا لذي اللّبِّ الحكيمُ
يا بَدْرُ والأمثالُ يَضْـ
ما خيرُ وُدِّ لا يَدومُ
دُمْ للخليلِ بِوُدِّه
فالحقُّ يعرِفُه الكريمُ
واعْرِف لِجارِكَ حَقَّهُ
ماً سَوْف يَحْمِّدُ أو يَلومُ
واعلم بأنَّ الضيفَ يو
دُ البناية أوْ ذميمُ
والناسُ مُبتَنِيان مَحْمُو
بِالعلم يَنْتَفِعُ العليمُ
واعلم بُنَيَّ فإنه
مما يَهيجُ له العظيمُ
إنَّ الأمورَ دقيقُها
ـضاهُ وقد يَلوى الغريمُ
والتَّبْلُ مِثْلُ الدَّيْنِ تُقْـ
والظلمُ مرتعهُ وخيمُ
والبغْيُ يَصْرَعُ أهلَه
أخاً ويَقْطَعُكَ الحميمُ
ولقد يكونُ لك الغريبُ
ويُهانُ للعَدَمِ العديمُ
والمرءُ يُكْرَمُ للغنى
ويُكْثِرُ الحَمِقُ الأثيمُ
قد يُقْتِرُ الحَوِلُ التقيّ
هذا فأيُّها المضِيمُ
يُمْلَى لذاك وَيَبْتلي
ق وللكلالة ما يُسِيمُ
والمرءُ يَبْخَلُ في الحقو
ن ورَيْبِهَا غَرَضٌ رجيمُ
ما بخلُ من هو للمنو
همدوا كما همد الهشيمُ
ويرى القرون أمامهُ
بؤسٌ يدوم ولا نعيمُ
وتُخَرَّبُ الدنيا فلا
ـهُ العِرْسُ أو منها يئيمُ
كل امرئٍ ستئيم مِنْـ
ـهُ أم الولدُ اليتيمُ
مَا عِلْمُ ذِي وَلَدٍ أَيَثْكَلُـ
ـبُ على تَلاَتِلِها العَزُومُ
والحربُ صاحبُها الصليـ
ولدى الحقيقِة لا يَخِيمُ
من لا يَمَلُّ ضِراسها
يسطيعُها المَرِحُ السَّؤُومُ
واعلم بأنَّ الحربَ لا
هِب عند كَبَّتِها الأزُومُ
والخيلُ أجودُها المُنا
خيٌر وشرُّ
للشيخ محمد المجذوب
إن كنت لا تدري ألا تسأل!
يا أيها المغرور في ماله
لله لا يطغى ولا يجهل
المال خير في يَدَيْ شاكر
لا يتقي الله ولا يعقل
وياله شراً بكف امرئٍ
إن لم يكن في فضله يؤمل
فليس بالمال يَعزُّ الفتى
زاد غنى في قومه يسفل
فكم خسيسٍ لم يزل كلما
وإن علاه الدهن لا يؤكل
والكلبُ قد يَسمنُ لكنه(22/226)
رسالة إلى شباب الإسلام
لفضيلة الشيخ محمود محمد سالم
المدرس بكيلة اللغة العربية بالجامعة
توارثتم المجد الذي يتجددُ
هنيئًا بني الإسلام عزٌّ وسؤدد
لغير إله الكون لم تتعبَّدُوا
وكنتم -ومازلتم- أباةً أعزةً
على الدهر لا يبلى ولا يتبددُ
بكم تزدهي الدنيا ويبقى جمالها
تنازع فيه اليوم طاغ وملحدُ
فدينكم التوحيد آمال عالمٍ
به يأمن العاني الشقي ويسعد
وشرعتكم في الحق والعدل مورد
ترددها الأيام والدهر يشهد
وماضيكم الزاهي سجل بطولةٍ
وقصَّر عنها في المفاخر أصيد
تقاصر عنها الطامحون إلى العلا
من المسلمين الغُرِّ تسمو وتخلد
بكل مجال في الحياة نماذجُ
لأهل المعالي نورها متجدد
وتبقى على الأيام نوراً وقدوةً
تولَّوا فإن الله مولىً ومقصد
جهادهم في الله كان – فأينما
فعزوا بأمر الله حين توحّدوا
وهانت عليهم في الجهاد نفوسهم
أسوداً يُخاف الشر منها ويُرْعَدُ
إذا قيل هبوا للجهاد تواثبوا
صفوفا لوجه الله تعنو وتسجد
وإن قيل هيا للفلاح تواكبوا
بها ليل ربّاها النبي محمد
أولئك جند الله حول رسوله
يطيعونه فيما يقول ويقصد
يُحفوّن بالهادي البشير أحبةً
من الله يهدي العالمين ويرشد
يفدون بالأرواح من جاء رحمة
وكان لهم نعم الإمامُ المسِّدد
نبي الهدى والحق كان إمامهم
بهم يرتجي خير الحياة ويُنْشَدُ
فكانوا - كما شاء الإله أئمة
بهم تعمر الدنيا ويصلح مفسد
وكانوا شموساً للمعالي وقادةً
على العدل والتقوى فأعلوا وشيدوا
بهم ولهم دان الوجود فأسسوا
ليسفل عبد أو يمجد سَيِّدُ
تساوَوْا فلا الأنسابُ تفرق بينهم
هم القدوة المثلى التي تتجسد
هم المثل الأعلى هم النور والهدى(22/227)
وينطقْ لساني بالمديح يُرَدَّدُ
فإن يُذكَروا يخفقْ فؤادي بحبهم
نعيش ومن أخلاقهم نتزود
ونحن على ما خلفوا من فضائل
من العزة القعساء ما نتقلد
وإن تكن الأيام لم تبق بيننا
سعيد فلا تأسوا ولا تتنكدوا
فإن الغد المأمول فيكم أحبتي
إذا كان منكم للشريعة مقصد
ولا تيأسوا أن تستردوا مكانكم
لأن تجهروا بالحق لا تترددوا
شباب بني الإسلام آن أوانكم
لما يأمر الباري وللحق فاصمدوا
فهذا أوان الجد والبذل فانهضوا
وجودوا بما جادوا به وتوحدوا
وضحوا بما ضحى الأوائل منكمُ
يعنكم فإن العود لله أحمد
ولله عودوا واستعينوا بعونه
ضعيف وحزب الله أقوى وأرشد
ولا ترهبوا حزب الشيطان إنه
عيون على الإسلام في الشرق ترصد
ولا تأمنوا كيد المضلين إنهم
من الخلف بين المسلمين وتسعد
تقَّرُ عيون الحاقدين بما ترى
على كِلْمة التوحيد فينا تَرَدَّدُ
ويكبتهم أن يجمع الله شملنا
صديقا يوالهم وفِدْماً يُمَجِدِّ
ويسعدهم أن يبصروا في ديارنا
وما لعدو الله إلا المهند
فوا أسفاه!! هل نوالي عدونا
وما هو إلا مجرم يترصد
وهل يصبح الإلحاد يوماً حليفنا
وهل غاب عنا يوم حطين مشهد
وهل ترتجى الصلبان إلا حتوفنا
يواليه دون المسلمين ويحمد
وهل صار صهيون ابن عم ليعقنا
يساء بلا ذنب إليه ويبعد
يكال لصهيون المديح وغيره
شقيُّ ثمود حين ضلوا وأفسدوا
فكان كأشقاها قدار بن سالف
وعابوا نبي الله حين يهدِّد
وقد كذَّبوا آي السماء مضيئة
طَوَتهم فسُوُّوا بالتراب وأُخْمِدوا
فها هي إلا صيحة بعد رجفة
يمهنم تشويهم وخزي مؤبد
وإن مصير المجرمين لواحدٌ
حمانا ومن مِنَّا إليه توددُّوا
لقد ضلَّ فينا من أباحوا عدونا
وهم لعدو الله جند مجند
ومن عجب أن يُحْسَبُوا من صفوفنا(22/228)
وبين نياطي جمرة تتوقد
فبين ضلوعي من تخاذلهم أسىً
من الأرض طاغوت ومزِّق ملحد
وما تنتهي شكواي إلا إذا انتهى
يسود ولا صوت سواه يردد
وحتى أرى الإسلام لا دين غيره
ونرضى بما يرضاه منا محمد
وما ذاك إلا أن نعود لشرعه
وللحق نسعى في الحياة ونحفد
ونصبح جند الله لله أمة
إليكم يُزّجِّيها هوى يتجدد
هيا إخوة الإسلام هذي رسالتي
وفيكم ومنكم يشرق اليوم والغد
فأنتم غدُ الإسلام أنتم حماته(22/229)
أخي ...
الشيخ محمد رجب حميدو
أخي في الهند والصين
أخي في الله في الدين
يعذبني ويضنيني
شكوتُ إلي من همٍ
وما يؤذيك يؤذيني
فما يشقيك يؤلمني
وما يحييك يحييني
وحتفك يا أخي حتفي
بسيف أو بسكين
كلانا اليوم مذبوح
تمت موت المساكين
فمت موت الرجال ولا
بأفواه الشياطين
ولا تك مطعماً سهلاً
فإن لعسرنا يسرا
وصبراً يا أخي صبراً
سيحدث بعد ذا أمرا
وإن الله مولانا
ليكمل في الدجى بدرا
وإن هلالنا ينمو
لكل مقدَّر قدرا
وسنة ربنا جعلت
ومن عسر إلى لينِ
فمن ضيق إلى سعة
فإنَّ الحق لن يُصرع
أخا الإسلام لا تجزع
على تقويض ما نصنع
وإن البغي لن يقوى
من الصاروخ والمدفع
وإيمان الفتى أمضى
فما آذاك قد ينفع
فلا تخشع لنازلة
فخذ بالأرفع الأرفع
وإن غامرت في شرف
أسير الذّل والهُون
وإلا فاسترح واقعد
وأعيا الناس داهيةً
أخي كم عاث طاغيةٍ
وكم ملكت أباطرةً
وكم حكمت أكاسرةً
وكم ظَلَمَتْ جبابرةٌ
وكم عُبدت فراعنةٌ
وما للقوم باقيةً
فأين همُ؟ لقد ذهبوا
على الأحياء دائرةٌ
وكأس الموت يا هذا
ومستبقيً إلى حين
فمحمول على نعشٍ
لنا يا قوم أخدودا
حذار فإنهم شقُّوا
على الأبرار مشدودا
وصار القيد في يدهم
بنار الحقد مهدودا
وصَرْحُ الدين قد أمسى
فبات العُهْرُ محمودا
وأغروا كل ساقطة
بلا عرض ولا دينِ؟!
فهل في العيش من خيٍر(22/230)
المشارق في المغارب
فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
في مطار هنغ كنغ:
وكان وصولنا إلى مطار هنغ كنغ في تمام الساعة الثانية بتوقيت طوكيو، الواحدة بتوقيت هنغ كنغ، فكانت مدة الطيران أربع ساعات وكان الاتجاه إلى الجنوب الغربي باستمرار.
وعندما دخلنا إلى قاعة مبنى المطار بدأنا نحس بأن المعاملة تختلف عن البلدان التي زرناها، وأصبحت شبيهة بمعاملة الموظفين والعمال في منطقتنا: فكان العمَّال يرمون العفش بعنف، وبدأ موظفو الجوازات يدققون، كما بدأنا نشعر بالخوف من المجرمين الذين يختلسون الجيوب أو يسرقون الأثاث، إلا أن المفتش كان لطيفاً معنا فلم يفتح حقائبنا الكبيرة.
شاب صالح في انتظارنا:
وبعد إنهاء الإجراءات خرجنا من الباب المعد لخروج مسافري الرحلات الخارجية، فوجدنا شاباً ملتحياً بيده ورقة كتب فيها اسمي وعندما رآنا سأل أفيكم الأخ عبد الله قادري فقلت نعم فأخذ يعانقنا ويرحب تريحباً عاطفياً، ومعه شاب من نفس الجزيرة اسمه يوسف كريم، وهو مسؤول عن الطلبة المسلمين في هنغ كنغ.
وكان الأخ الشاب الباكستاني هو محمد أحمد الذي اتصل به بعض الإخوان من طوكيو عن طريق الهاتف وأخبره بقدومنا، فأخذ هو وزميله حقائبنا وخرجنا إلى الشارع لاستئجار سيارة توصلنا إلى الفندق الذي كان الأخ محمد قد حجز لنا فيه حجرة، وكان المطر منهمراً بغزارة، كأن سحبا كاملة تسقط على الأرض.
والمعمول به في سيارات الأجرة توزيعها تحت إشراف جندي مرور على المسافرين يجب ترتيبهم الأول فالأول، وجاء دورنا فأخذنا سيارة أوصلتنا إلى الفندق.(22/231)
وصعد بنا الفراش إلى الحجرة وبعد أن وضع العفش في الحجرة وقف ينتظر، ولم ندر لماذا؟ ولكن الأخ محمد أفهمنا أنه يريد شيئا من المال وهذه أول مرة في رحلتنا يقف لخادم ينتظر منا شيئا من المال. نعم إذا أعطي الخادم في الغرب مالا يأخذه ويشكرك، ولكنه لا ينتظرك ولا يشير بحركات تدل على أنه يطلب شيئًا.
عوائق:
ومكث الأخ محمد معنا في الفندق مدة طويلة يشرح لنا أوضاع المسلمين في هذه البلاد، وهو في غاية السرور لقدومنا وأخلاقه فاضلة، وحماسه للإسلام واضح وتمسكه به كذلك، وأراد أن يرتب لنا لقاء عاماً مع من يمكن إبلاغهم من المسلمين الموجودين، ولكن المطر كان غزيراً ومستمراً ليلاً ونهاراً، إذ كان ذلك موسم الأمطار.
ولذلك لا يدري ما يفعل، وسألنا عن الوقت الذي يمكن أن نقضيه فسألناه نحن عن الرحلات الجوية هل هي متيسرة في كل وقت؟ فقال: هي متيسرة إلا أنها في هذه الأيام بسبب وجود العواصف تتعطل الرحلات بين وقت وآخر وفي الأسبوع الماضي بقي الركاب لمدة يومين لم يتمكنوا من السفر بسبب ذلك، ولذلك فقد حصلت الآن زحمة في الرحلات وذكر أنهم يتوقعون عاصفة شديدة يشتد بسببها هياج المحيط وتتعطل الرحلات.
وكنا عازمين على أن نكون في المملكة في أول من أيام رمضان وكان الزميل الدكتور بيلو يبدي رغبته في مواصلة السير لارتباطه بهر النيل من الدلتا إلى الأزرق والأبيض وذلك يقتضي منه رحلات أخرى بالإضافة إلى قرب وقت عودته إلى المدينة.
طلب متكرر:
لذلك طلبنا من الأخ محمد أحمد أن يحجز لنا يوم الأحد في أقرب رحلة وواصل معنا الحديث وتمنى أن يوجد في هذه البلاد من يقوم بإرشاد المسلمين وتعليم أولادهم، وذكر أن المسلمين يجتمعون يوم الأحد مع أولادهم على الطعام، ويلعب الأولاد، وبهذا الاجتماع والأكل واللعب يشعرون بارتباطهم بالإسلام، وهذا يقع في قاعة تابعة لأحد المساجد.(22/232)
وطلب مني إبلاغ الملك خالد هذه الرغبة، وذكر أنه قد طلب من الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومن ورابطة العالم الإسلامي بعث مرشدين إلى هنغ كنغ عندما زار المملكة في صيف السنة الماضية 1397هـ. عضوا في ندوة الشباب العالمية.
وذكر أن إمام الحرم المكي، والأخ أحمد توتنجي زارا هذه البلاد واطلعا على حالة المسلمين وحاجتهم ووعد أنهما سيقدمان تقريرا بذلك، وأنه قد جاءت كتب من المملكة على أثر ذلك. ولكن الكتب لا تفيد إلا قليلاً من المسلمين والمهم هو بعث من يدعو الناس وتعليمهم مباشرة.
وقال الأخ محمد: إن عدد المسلمين في البلاد يبلغ ما بين خمسة وعشرين ألف وخمسين ألفا، وأغلبهم من أهل الصين، وهم المتعلمون (العلم المدني) والأقليات الأخرى يغلب عليهم الجهل.
وقال الأخ محمد: حبذا لو منحت المملكة المسلمين في هذه البلاد مدرسة ومدرسين، وتكون جامعة بين المنهج الإسلامي والمواد المطلوبة هنا.
وذكر أن المدرسة الثانوية التي يدرس فيها الدين عامة، ويدرس فيها شخص واحد مسلم صيني، وهو لا يمثل الإسلام في سلوكه، وإن كان قد تأثر بنصح إمام الحرم وأحمد توتنجي له.
في مسجد قالون:
ذهبنا بعد ذلك إلى مسجد قالون، وقالون هذه بلدة متصلة بالصين الشعبية، وهي قطعة من أراضيها استأجرتها منها بريطانيا بعد استيلائها على جزيرة هنغ كنغ التي تقع في جنوب شرق الصين، وهذا المسجد أنشأته بريطانيا للمسلمين من الباكستان عندما استولت على الجزيرة وكانوا في الجيش.(22/233)
والمسجد قريب من الفندق الذي نزلنا فيه، وعندما دخلنا المسجد كان قد حان وقت المغرب، فأذن المؤذن، والتقينا بذلك الشيخ الكبير الذي تضرب لحيته في نصف صدره، طويل القامة، وقور، وفرح بنا أيما فرح حتى لقد اغرورقت عيناه بالدموع، وأراد منا أن نصلي بالناس ولكنا أصررنا على أن يصلي هو، لأنه إمام المسجد، وصلى بنا، وبعد الصلاة جلسنا نتذاكر معه أحوال المسلمين ونتعرف عليه هو، فظهر أن له في هذا المسجد ستة عشر عاماً يسكن في منزل صغير تابع للمسجد وهو يتكلم باللغة العربية وكان المصلون قليلين بسبب انهمار المطر المستمر، وكان في تلك اللحظات قد خف قليلاً وأبدى حزنه وأسفه الشديد على الحالة التي يعيشها المسلمون في هذه البلاد، وقال إن الدول الإسلامية مسؤولة عنا وقد نسيتنا ههنا فلم تبعث لنا من يعلم أبناءنا.
وهذا المسجد يخشى عليه من السقوط وهو لا يتسع للناس أيام الجمع ولا أيام الأعياد وبدأ الناس يفدون إلى المسجد فكان من جاء صلى وجلس معنا وكلهم متفقون على ضرورة بعث من يقوم بدعوة المسلمين وتعليمهم وإنشاء مدرسة، ووعدناهم بأننا سنعمل جهدنا في إبلاغ الجهات المختصة بذلك ورجونا الله لهم التوفيق، كما حرضناهم على بذل -جهدهم في الحفاظ على أولادهم وطلبنا من الشيخ الإمام أن يكرس جهوده في تعليم أبناء المسلمين مبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية في المسجد.
ولكنه قال: أبناء المسلمين لا تفيدهم إلا مدرسة فيها المواد الإسلامية والمواد الأخرى.
بقينا معهم إلا أن صلينا العشاء، ورجعنا إلى الفندق، وذهب الأخ محمد أحمد إلى منزله على أن يعود إلينا في الغد.
المكالمة الهاتفية:
وفي هذه الليلة -أي ليلة السبت- كان الزميل يحاول الاتصال هاتفياً ببعض طلبة الجامعة الإسلامية الباكستانيين في كراتشي لنشعره بقدومنا حتى يحجز لنا غرفة في الفندق، وسيكون وصولنا في آخر الليل نحتاج إلى من يرشدنا.(22/234)
ولكن الاتصال الهاتفي اختلف علينا عن الاتصال الهاتفي في أمريكا، حيث كنا إذا أردنا أن ننام في مدينة ديترويت أو إنديانا أو لوس أنجلس نرفع السماعة وفي خلال دقيقة يكون صاحبنا قد رفع سماعته في المدينة المنورة ليقول نعم أما هنا في هنغ كنغ فأمسى الزميل ينتظر ويعاود الاتصال وكانت موظفة الهاتف تسليه بين وقت وآخر تتصل به وتقول له: قريباً تأتي المكالمة.
أما أن فقد سبحت في بحر نوم عميق هادئ، والمحيط الهادي حولي من هياج عنيف في جزره ومده، أمواجه تتلاطم والأمطار تنهمر بغزارة طول الليل.
وبعد مضي وقت ثم الاتصال الهاتفي بكراتشي فوقع الدكتور في مشكلة، إن الطالب الذي نريده متأثر وليس قريبا من الهاتف، والأسرة الموجودة عند الهاتف في حيرة، الزميل يتكلم بالعربية أو الإنجليزية وهم لا يجيدون إلا لغتهم المحلية ويتكلمون فيما بينهم للتشاور فيما يفعلون وهو يظنهم يكلمونه فيكلمهم مرة بالعربية وأخرى بالإنجليزية دون جدوى.
ولكن موظفة الهاتف في هنغ منغ فهمت مشكلته فأنقذته إذ جعلت الاتصال بينه وبين موظف الهاتف في كراتشي وهو يجيد الإنجليزية فسمع كلام الزميل ووعده بنقله إلى الأسرة المحتارة وكان ذلك فعلاً.
وفي يوم السبت الموافق 24-8/ 1398 هـ تأخر عنا الأخ محمد أحمد بسبب غزارة الأمطار، وعدم وجود مواصلات بسبب ذلك.
المظلات:
ثم جاءنا بعد ذلك في شدة غزارة الأمطار حرصا على لقائنا وعدم التأخر عنا وهو يحمل ثلاث مظلات -لنرفعها فوق رؤوسنا للوقاية من المطر عندما نخرج. وخرجنا مع الأخ محمد رافعين مظلاتنا فوق رؤوسنا، والهواء يكاد يأخذنا من أيدينا، وذهبنا إلى مضيق من البحر يفصل بين قالون التي نزلنا فيها، وبين هنغ كنغ، وهي التي استأجرتها بريطانيا من الصين، وهي الجزيرة التي استعمرتها بريطانيا وتقع جنوب قالون وبها يسكن الأخ محمد، وهناك ركبنا زورقا أوصلنا إلى الشاطئ التي تقع عليه الجزيرة.(22/235)
على قمة الجبل:
وأراد الأخ محمد أن يرينا أحد الأماكن السياحية في الجزيرة، فهناك جبل عالي يصعد عليه السائحون (الزائرون) ووسيلة النقل سيارة نقل "حافلة"تسير بالكهرباء على الحديد، مخصصة لذلك الجبل تهبط بقوم وتصعد بآخرين، وقفنا قليلا وإذا الحافلة قد جاءت فركبنا، وكان صوتها مزعجا وكان طلوعها مخيفا إذ يشعر الإنسان أنها ستسقط على ظهرها، والبيوت تكتنف الطريق من الجانبين والسكان الذين ركبوا معنا يوقفونها بين لحظة وأخرى في المكان المناسب لهم. وما كنا نرى البيوت القريبة منا إلا بمشقة لأن الأمطار الكثيفة تحول بيننا وبين الرؤية، وعندما وصلنا إلى قمة الجبل وجدنا بعض المباني السياحية وفيها بعض البقالات وبعض الدكاكين، فأسرعنا بالدخول إلى قاعة المبنى المحاط بسور من الزجاج الذي يدفع الرياح الشديدة التي تحمل الأمطار إلى الداخل لولا وجوده.
ولم نجد فائدة في البقاء هناك، إذ كان المطر ينزل في هيئة سحب كثيفة فلا يتمكن الإنسان من رؤية شيء لذلك فضلنا أن نعود فورا. فاستأجرنا سيارة صغيرة لتوصلنا إلى بيت الأخ محمد الذي كان قد أوصى أهله بتهيئة طعام الغداء.
في منزل الأخ محمد:
وكان السائق يسير بنا في الطريق الملتوي، وكان في بعض الأوقات يدور بنا حول بعض التلال الصغيرة في الجبال حتى أوصلنا إلى بيت الأخ محمد الذي يسكن في إحدى عمارات شركات الكهرباء التي يعمل موظفاً فيها والأجرة التي يسلمها للشركة رمزية، ولكن الأخ محمد كان قد ترك الشركة وعنده مشروع تجاري نأمل أن يحقق به للمسلمين فوائد طيبة.
رجل عمل ولكنه مربي:(22/236)
واستقبلنا أبناء الأخ محمد في منزله، فرأينا أثر تربيته في الأولاد، فهم في غاية الأدب، وذكر أنه قد انتهى من قراءة القرآن بنتاه الكبيرتان وأحد أبنائه وأن الآخر من أبنائه في طريقه إلى إكماله، كما علمهم بعض مبادئ الإسلام والصلاة وغير ذلك مما يدخل تحت طاقته الثقافية والزمنية.
وهناك لعبة محببة إلى قلوب أولاده، وهي في الواقع ليست لعبة، بل إنها رمز تذكاري لما تهفو إليه نفوس المسلمين من كل أقطار الأرض، إنها صورة مجسمة لمبنى الحرم المكي على هيئته الجديدة التي تمت في العهد السعودي الحاضر في وسطه الكعبة وفيه بطاريات وشريط تلبية يضغط الولد على الزر فتضئ منارات الحرم وتنطلق التلبية، والأولاد حوله يكادون يطيرون إلى بيت الله الحرام الذي كثيراً ما شوقهم إليه أبوهم الذي صارحنا أنه يتمنى أن يحج هو وأسرته وأبوه وأمه.
وقدم لنا طعام الغداء الخامس من نوعه من حيث الاطمئنان إلى حله والثالث من حيث الطهي الشرقي الذي ألفناه، وكان الأول في بريطانيا في منزل الأخ محمد أشرف والثاني في منزل الأخ الدكتور محمود رشدان في إنديانا والثالث في منزل الأخ الدكتور أحمد العسال في إنديانا والرابع في منزل الأخ محمد نور السوداني في شيكاغو وهذا هو الخامس.
انضمام مظهر السيد إلينا:
وبينما كنا نتذاكر في أمور المسلمين، ويرينا الأخ محمد بعض الكتب الموجودة عنده، بعضها باللغة الإنجليزية، وبعضها باللغة الأردية، وغالبها عن مؤلفات الأستاذين المودودي والندوي، وبعضها للأستاذ محمد قطب وخليل الحامدي، جاءنا الأخ مظهر السيد مع أسرته التي جاءت لزيارة أسرة الأخ محمد وللبقاء عندها لأن الأخ مظهر أحب أن يرافقنا للاستفادة والمؤانسة، وهو مهندس إذاعي ومن الباكستان أيضاً، ويتوقد حماسا للإسلام مثل أخيه محمد والجو بالنسبة للأسرة المسلمة يعتبر خانقا ولذلك -فوجود أسرة مسلمة مع مثيلتها يجلب الأنس.(22/237)
واصلنا المذاكرة وأكد الأخ مظهر السيد ما طلبه منا الأخ محمد من بعث الدعاة والمعلمين، وبعد ذلك صلينا الظهر والعصر جمع تأخير بالنسبة لنا وخرجنا فودعنا أولاد الأخ محمد وهم يبدون عاطفة جياشة لفراقنا.
مقارنة بين بيوت الله الواحد وبيوت الشرك الثلاثي:
وذهبنا بعد ذلك إلى أحد المساجد في هنغ كنغ ليرينا الأخوان حالة المساجد فوجدنا بعض النساء يخرجن فرش المسجد المبللة لتجفيفها ويجرفن المياه التي تجمعت فيه، وعندما رأيننا اعتذرنا لنا بأننا لا نستطيع الصلاة في المسجد الآن لحالته التي نراها وكن ظننا أننا جئنا للصلاة فيه.
ثم ذهبنا لنرى بعض الكنائس القريبة منه لنرى كيف يعتنى بها في بنائها ونظافتها ونقارن بينهما، وبعد رؤيتها سجلت عندي أنه يجب إبلاغ رابطة العالم الإسلامي خاصة المجلس التأسيسي الأعلى للمساجد الذي يجب أن يوفد إلى العالم من يقدم له تقارير عن المساجد وحالتها للقيام ببناء المساجد وتجديد ما يحتاج إلى تجديد وبعث الأئمة والمرشدين في وقت واحد. فالإمكانات المادية موجودة، والدعاة موجودون، ويمكن الاستفادة من الطلبة الذين يتخرجون في الجامعة الإسلامية أو من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ومهما قدمنا من مساعدات في مجال الدعوة والإمامة وغيرها من الشؤون الإسلامية فلا فضل لنا في ذلك إلا أداء واجب مفروض من الله الخالق الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس بشروطها.
وكم يبذل المسيحيون من مال ورجال في مجلات متعددة لا تصل جهودنا إلى عشر معشار ما يعملون، ونحن أهل حق وهم أهل باطل؟
سيل من المطر لا يبقى على وجه الأرض:(22/238)
ثم ذهبنا بعد ذلك إلى السوق لقضاء بعض الحاجات الخفيفة والمطر ينهمر والناس يمشون في الشوارع وعلى رؤوسهم المظلات ولو قعدوا في بيوتهم انتظارا للصحو لما قضوا حاجاتهم لاستمرار نزول المطر، ومع شدة نزول المطر واستمراره لا تجد في الشوارع ما يبلل ثوبك، بل كأن المطر لا ينزل إلا لتنظيف الشوارع لأن الشوارع شبه مسنمة وبجانبها مجاري تصريف الماء الذي لا يقع في الشارع إلا ليهبط إلى المجرى. تذكرت عندئذ كيف تنطفئ سياراتنا في شوارعنا إذا نزل مطر كثير نسبيا والمطر عندنا نادر فقلت: أما درس مهندسون في بلاد الغرب فيكون تخطيطهم مثل هذا - التخطيط؟
عدنا بعد ذلك إلى الفندق، وتواعدنا على اللقاء غداً الأحد صباحا لنجتمع ببعض المسلمين في أحد المساجد التي يجتمع فيها المسلمون يوم الأحد من أجل تقديم النصح لهم والإجابة على أسئلتهم.
وفي يوم الأحد 25/ 8/ 1398 هـ. تأخر عنا الأخ محمد أحمد كثيراً، ثم اتصل بنا معتذرا من كثرة الأمطار وعدم وجود مواصلات ووعدنا أنه سيصل في أقرب وقت ممكن. وجاءنا بعد ذلك، ومعه الأخ مظهر السيد، وقالا: الاجتماع في المسجد معتذراً لعدم استطاعة الناس الاجتماع فيه من شدة المطر وتفرق أماكنهم.
لذلك نزلنا إلى السوق قليلا ثم ذهبا بنا إلى مطعم باكستاني يقدم للمسلمين الطعام الحلال فتناولنا فيه الطعام وكان الأخ مظهر اتصل ببيته فأفاده أهله أن ابنه الصغير سقط من على السرير وأنه ينزف دما، فهمس للأخ محمد وأخبره بذلك، فقال له الأخ محمد: يجب أن تذهب لتنظر ما إذا كان يحتاج إلى إسعاف فلم يرضى فأخبرنا الأخ محمد فألححنا عليه أن يذهب، وبعد إلحاح ذهب وهو مكره، لأنه أحب أن يودعنا عند السفر.
واتصل الأخ محمد بأهله وطلب منهم زيارة بيت الأخ سيد لمؤانسة أهله ومساعدتها إن احتاجت، ثم اتصل يعد ذلك للاطمئنان على صحة الطفل فأفادوه أنه طيب فحمدنا الله على ذلك.
سفرنا في الليل كان اضطراراً:(22/239)
ثم رجعنا إلى الفندق وحاسبنا المسؤول فيه واستأجرنا سيارة إلى المطار، وكان ذلك في الساعة الثامنة مساء، وهذه أول رحلة لنا يكون سفرنا فيها ليلاً اضطرارا خشية عدم تيسر الرحلات في الأيام التالية كما كانوا يتوقعون، إذ كانت رحلاتنا كلها في النهار من أجل التأمل في الكون الدال على خالقه سبحانه من بحار وأنهار وغابات وقفار وغيرها.
وبعد عمل الإجراءات اللازمة ودعنا الأخ محمد أحمد فدخلنا إلى الطائرة التي أقلعت في العاشرة والدقيقة الخامسة والعشرون من مطار هنغ كنغ.
في مطار بانكوك:
وكانت المحطة الأولى لهذه الرحلة -والطائرة سويسرية- في بانكوك عاصمة تايلند وكان هبوط الطائرة في مطار بانكوك في الساعة الثانية عشر والدقيقة الخامسة والثلاثين بتوقيت هنغ كنغ فكانت مدة الطيران ساعتين وعشر دقائق.
والفرق بين التوقيت المحلي لتايلند والتوقيت المحلي لهنغ كنغ ساعة واحدة، فكان وقت هبوطنا في مطار تايلند بتوقيت بانكوك الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والثلاثين.
نزلنا في مطار بانكوك وأخذنا بطاقة المرور (ترانزيت) وتجولنا قليلاً في قاعات المبنى ثم رجعنا وكانت مدة الوقوف ساعة تقريباً إذ أقلعت بنا الطائرة في الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والأربعين إلى كراتشي.
وكنت متلهفاً لرؤية المناظر التي تمر الطائرة فوقها، وأغلبها جبال وغابات وأنهار حسب معرفتي الجغرافية، ولكن الله أراد ما أراد، لذلك سبحت في بحر النوم فوق تلك الجبال والغابات والحمد لله على راحة أرادها لي هو سبحانه.
في مطار كراتشي:
لم أفق من نومي إلا بالقرب من مطار كراتشي عندما بدأت الطائرة تنزل استعداداً للهبوط، وكان الهبوط في مطار كراتشي في تمام الساعة الخامسة بتوقيت هنغ كنغ، والساعة الثالثة بتوقيت كراتشي، والفرق بين توقيت هنغ كنغ وتوقيت كراتشي ساعتان.(22/240)
بذلك تكون مدة الطيران من هنغ كنغ إلى كراتشي ست ساعات تقريبا.
ودخلنا إلى قاعة تسلم الأثاث في المطار وأخذنا في الانتظار فكان العمال يأتون بعفش اثنين أو ثلاثة فيشكو الباقون، وتتصل الموظفة المسؤولة بجهاز اللاسلكي الذي بيدها بالجهات المسؤولة فيأتي العمال بمثل ذلك، وهكذا استمر الحال وشبهت حالنا وحال عفشنا بالطفل الذي يجب أن يعطيه الدواء ولي أمره بمقدار معين في أوقات معينة وكان انتظارنا لا يقل عن ساعتين حتى فرج الله علينا. بمجيء حقائبنا التي كنا نظنها قد ارتفعت بين السماء والأرض في الطائرة السويسرية وتذكرنا أنا وزميلي ما كان يحصل في مطارات الغرب حيث كانت حقائبنا في كثير من الأحيان تسبقنا وتنتظرنا هي. وأخذنا نلتفت يمنة ويسرة لعلنا نرى الأخ خليق أحمد أحد طلبة كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية الذي تم الاتصال بأسرته من هنغ كنغ، وكان الأمل في لقائه ضعيفا لأن أهله ذكروا أنه مريض ولكن الرجل كان ينتظرنا هو وزميل له من نفس الكلية ووالد زميله وعندما رأونا أسرعوا إلينا، وكان الوقت متأخرا جدا فرحبوا بنا وأخذوا حقائبنا إلى الجمرك الذي احترمنا فلم يفتش الحقائب بل أشار عليها وخرجنا.
في فندق مهران:
فركبنا في السيارة التي كانت معهم وأوصلونا إلى فندق مهران وتركونا حيث لم يبق على الفجر إلا نصف ساعة تقريبا، ووعدنا الأخ خليق أحمد أن يأتينا غدا، بل اليوم الاثنين في الساعة الثانية عشر لتناول طعام الغداء في منزل والده. توضأنا وصلينا الفجر، ثم أسلمنا أنفسنا للنوم الذي أخذ حقه فلم يطلقنا إلا عندما قرع الباب الأخ خليق أحمد في الوقت الذي وعدنا أن يأتينا فيه الساعة الثانية عشرة يوم الاثنين 26/ 8/ 1398 هـ.
في منزل مفتي رشيد أحمد:(22/241)
قمنا توضأنا ولبسنا وذهبنا معه، وكان وصولنا في وقت آذان الظهر دخلنا المسجد الذي يقع بجوار بيت والده، بل في داخل الحائط الدائر حول المنزل. وجاء والده واسمه مفتي رشيد أحمد إلى المسجد فرحب بنا وأقيمت الصلاة فصلى بالناس إماما.
ثم قام وطلب منا الدخول معه إلى منزله، فدخلنا في غرفة الاستقبال التي يجتمع به فيها تلاميذه وضيوفه، وفيها بعض الكتب من المراجع الإسلامية ومن مؤلفاته وفتاواه. والرجل يحب العزلة إلا في مذاكرة العلم، ويكثر من ذكر الله تعالى فبدأ في مذاكرة بعض المسائل العلمية، ومنها كيفية تحديد القبلة بمناسبة رحلتنا الطويلة التي كانت حول الأرض في مشارقها ومغاربها وكذلك تحديد أوقات الصلاة، وتحديد الأهلة، وله إلمام طيب بعلم الفلك وله في ذلك مؤلفات، تأتيه الفتاوى من داخل باكستان ومن خارجها فيجيب عليها.
ومن الأمور التي ينتقدها التبكير بصلاة الفجر في الحرمين الشريفين كما قال: فقلت له: إننا نصلي في المسجد النبوي، ونخرج والصبح مسفر جدا أما في المسجد الحرام فلم أنتبه له، وهو ينتقد تقويم أم القرى ويرى أنه مأخوذ عن تقويم أجنبي غير سليم ولذلك لابد من إعادة النظر في ذلك.
وكان من الحاضرين في مجلس الشيخ الأستاذ محمود أمين عام دار العلوم الذي طلب منا زيارة الدار غدا الثلاثاء فلبينا الطلب.
وبعد أن تناولنا طعام الغداء عدنا إلى الفندق وفي هذا اليوم تم الحجز في الخطوط الباكستانية ذهابا وإيابا إلى لاهور لزيارة الجماعة الإسلامية هناك، كما تم الحجز في الخطوط السعودية من كراتشي إلى جدة يوم الجمعة الموافق 30/ 8/ 1398 هـ.
وفي يوم الثلاثاء 27/ 8 زارنا بالفندق الأخ عبد الله كاكاخيل الذي يعمل الآن مدرسا في نيجريا، والأخ عبد الرزاق إسكندر، وكلاهما كانا من زملائي في الجامعة الإسلامية إذ تخرجنا معا في 85-1386 هـ.(22/242)
وفي الساعة الحادية عشر جاء إلينا الأخ خليق فأخبرنا أن والده في انتظارنا ليصحبنا إلى دار العلوم، فحسبنا المسؤولين في الفندق وأخذنا حقائبنا ليوصلها الأخ خليق إلى منزلهم، لأنا سنسافر مساء اليوم إلى لاهور، على أن يقابلنا الأخ خليق بالحقائب مساء الخميس في مطار كراتشي.
متخمون وعالة:
وعندما خرجنا إلى والد الأخ خليق الذي كان ينتظرنا في السيارة وجدنا بعض الفقراء موجودين يتوسمون فينا قضاء بعض حاجتهم، وكانوا يلحون في الطلب، فسألت الدكتور إذا كان عنده شيء يمكن أن يساعدهم به وعندما رأوه يدخل يده في جيبه أخذوا يتزاحمون ويتدافعون فأعطاهم وكانت عجوز مسنة تمد يدها ففاتها أن تنال شيئا فأخذت تصرخ وتضارب بعض الذين نالوا شيئا. وهكذا وجدنا حالة الناس في باكستان بائسة جدا، إذ لم يجد بعضهم المأوى، فرأينا من ينام تحت قطعة قماش ربطت على أربعة أخشاب جوانبها لا يسترها شيء، ومنهم من ينام تحت الأشجار ومنهم من ينام تحت الجسور.
وسبب ذكري لهذا الأمر هو التنبيه على حالة بعض المسلمين في الشعوب الإسلامية، مع أن الناس من شعوب أخرى يلتمسون ما يهضم لهم الأكل الذي أصيبوا من كثرته وتنوعه بالتخمة وبالأمراض الكثيرة التي تستدعي العلاج والاستشفاء ويرمي الطعام في آنية القمامة فتأكل منه الحيوانات ويزيد، مع أن الآخرون لا يجدون لقمة العيش بسهولة.
بعد هذا كله قلت: ترى لو أن للمسلمين خليفة واحدا ترتفع راية خلافته على كل بلاد من بلدانهم أترى كان يحصل هذا التفاوت العظيم.
وهنا رجوت لدعوة التضامن الإسلامي أن تحقق أمل المسلمين في كل مكان.
في دار العلوم:
ذهبنا بعد ذلك إلى دار العلوم، وهي في ضاحية من ضواحي كراتشي حيث تم اللقاء بالأمين العام للدار، ونائب المدير العام وبعض أساتذة الحديث الشريف في الدار.(22/243)
وحصل نقاش ومذاكرة لأحوال المسلمين الذين زرناهم في جولتنا هذه وللعمل الإسلامي في باكستان. وقد خصصت للدار أرض واسعة أقيمت عليها مباني سكنية للطلبة. وفصول دراسية ومسجد ومكاتب إدارية، وتبنى الآن مكتبة كبيرة تتسع للكتب الموجودة وغيرها من الكتب التي تشترى مستقبلا وبها قاعات للمطالعة.
وذكرنا لهم حاجة الإخوة الباكستانيين في هنغ كنغ إلى التشجيع ببعث الكتب المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، أو المؤلفة بالأردية فوعدوا بمراسلتهم.
وقد أسست دار العلوم في كراتشي عام 1371هـ. أسسها الشيخ محمد شفيع. وهي تشتمل على ثلاث مراحل.
المرحلة الابتدائية – ومدتها خمس سنوات.
المرحلة الثانوية - ومدتها خمس سنوات.
المرحلة العالية - ومدتها خمس سنوات.
وبها مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم.
في جامعة العلوم الإسلامية:
وبعد أن انتهينا من زيارة دار العلوم ذهبنا إلى جامعة العلوم الإسلامية التي أسسها الشيخ محمد يوسف البنوري، إذ كنا على موعد مع الأخ عبد الرزاق إسكندر الذي يعمل في نفس الجامعة المذكورة، وعند بابها ودعنا الشيخ مفتي رشيد أحمد الذي عاد إلى منزله.
استقبلنا الأخ عبد الرزاق، وكانت الصلاة قد أقيمت فصلينا معهم الظهر في المسجد الموجود بداخل المدرسة وهو جامع كبير.
وبعد الصلاة أطلعنا الأخ عبد الرزاق على أقسام الدراسة بالجامعة فقال: يوجد بها القسم الإعدادي، ومدته ثلاث سنوات.
والقسم الثانوي، ومدته ثلاث سنوات.
والقسم العالي، ومدته أربع سنوات.
وقسم التخصص في ثلاث شعب، هي: الحديث، والفقه الإسلامي، والدعوة والإرشاد، ومدته سنتان في كل شعبة وأن في الجامعة طلبة وافدين من خارج باكستان من نحو خمس وعشرين دولة من دول أوربا وأمريكا وآسيا وإفريقيا وكندا.(22/244)
وتجولنا في مباني الجامعة، المشتملة على فصول الدراسة والمسجد وسكن الطلبة المغتربين والمكتبة، ودار الإفتاء ودار التصنيف.
كما ذكر الأخ عبد الرزاق أن للجامعة مشاريع جديدة منها مساكن لأساتذة الجامعة وموظفيها.
ثم قدم لنا طعام الغداء في نفس الجامعة، وودعناهم بعد ذلك وذهبنا إلى مطار كراتشي، للسفر إلى لاهور. وباطلاعنا على دار العلوم، وجامعة العلوم الإسلامية رأينا تلك الجهود الجبارة التي يقوم بها المسلمون دون أي عون يأتي من الحكومات، بل يقومون بجهود يحاربها بعض الحكام وهذا يدل على الرغبة الشديدة عند الأهالي لنشر العلوم الإسلامية وتعليم أبنائهم.
والواجب على المسلمين أن يكونوا مستعدين دائما للبذل والتضحية في سبيل نشر العلم الإسلامي وإقامة المساجد والمؤسسات الإسلامية سواء حصلت إعانات من حكام تلك الشعوب لتلك المؤسسات أم معارضات.
وعلى تبرعات الأهالي تقوم المؤسسات الإسلامية في الهند والباكستان وغيرها من العالم، من مساجد ومدارس وجامعات ومستشفيات وغيرها.
من كراتشي إلى لاهور:
ذهبنا إلى مطار كراتشي، ومعنا التذاكر التي تم الحجر عليها إلى لاهور ثم من لاهور إلى كراتشي، وعندما وصلنا إلى المطار، نظرت الموظفة في التذاكر وقالت لم يحجز إلا لواحد منكم، قلنا كيف؟ قالت هكذا، وواحد منكم ينتظر وبعد ربع ساعة راجعها الأخ خليق فقالت: لا يوجد مقعد لأحد منهما ولم يتم الحجز، وتأثر الأخ خليق وذهب ليشكو إلى صديق له في المطار ولكن الموظفة بعد قليل أخذت التذاكر وأعطتنا بطاقتي الدخول.
وهكذا في خلال ساعة تقريبا حصلت هذه التناقضات. وكان إقلاع الطائرة من مطار كراتشي في الساعة الخامسة والدقيقة العشرين كما كان هبوطها في مطار لاهور في الساعة السادسة والدقيقة الخامسة والأربعين من مساء يوم الثلاثاء المذكور.
في المنصورة:(22/245)
وكان في استقبالنا الأخ فيض الرحمن الذي انتدب لاستقبالنا من قبل الجماعة الإسلامية بسيارة خاصة، واصطحبنا معه إلى مدينة المنصورة الخاصة بالجماعة والتي تحتوي على دار للضيافة ضمن مبانيها تتكون من دورين، وهي -درا الضيافة- شبيهة بفندق صغير، وكان في استقبالنا الأخ الأستاذ خليل الحامدي مدير دار العروبة، وهي إدارة مختصة بما يتعلق باللغة العربية ترجمة وتأليفا وغير ذلك. وقد هيئوا لنا حجرة خاصة نزلنا بها فشعرنا بالارتياح ونحن ننزل بين إخوة أحبة في الله واسترحنا من أجواء الفنادق التي سئمنا النزول بها.
وبعد قليل من نزولنا جاء إلينا الأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة وبعض أعضاء الجماعة فرحبوا بنا وأظهروا سرورهم لزيارتهم فشكرناهم على حسن الضيافة والاستقبال.
وبعد أن قدم لنا طعام العشاء، صلينا العشاء ثم نمنا إلى الصباح. وفي يوم الأربعاء 28/8/98 بعد صلاة الفجر بقليل جاء إلينا الأخ خليل الحامدي وقدم طعام الإفطار والشاي، ثم أخذنا الأخ خليل الحامدي لزيارة المدينة التي تشتمل على مباني سكنية لعوائل العاملين المتفرعين من الجماعة، وعلى رأسهم أمير الجماعة، ومكاتب إدارية، ومسجد كبير، بجواره مسجد صغير للنساء، فصل عن مسجد الرجال بجميع مرافقه ولكنه وضع ليكون صالحا لتصلي فيه النساء صلاة الجماعة مع الرجال، وفي الدور الأعلى في المسجد خصص ليكون معهدا يوضع له منهج يخرج المسلم الذي يجمع بين علم السلف والعلوم الجديدة.
وعندهم مشروعات للمستقبل جيدة، ولكنهم يسيرون خطوة خطوة في التنفيذ حسب استطاعتهم.
مع أمير الجماعة الإسلامية:(22/246)
ثم زرنا الأستاذ طفيل أمير الجماعة الذي كان في انتظارنا في مكتبه وشرح لنا منهاج الجماعة الإسلامية في العمل والأوضاع الحالية في الباكستان وطلب منا أن ندعو للباكستان بأن يبلغها الله غايتها التي انفصلت عن الهند من أجلها وهي تطبيق الإسلام، وأثنى آنذاك على الجنرال ضياء الحق وذكر أنه يريد تطبيق الإسلام في الباكستان، كما يظهر من حاله وأعماله، والله سبحانه المسئول أن يذلل الصعاب التي تعترضه في ذلك.
وكان قد ضرب لنا موعدا مع الأستاذ أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة سابقاً، وحدد الموعد بعد صلاة العصر من هذا اليوم عدنا بعد ذلك إلى مقر نزولنا.
زيارة الأستاذ المودودي:(22/247)
وبعد أن صلينا الظهر وتناولنا طعام الغداء، وكان معنا الأستاذ خليل الحامدي، نمنا إلى أن أذن صلاة العصر، صلينا العصر في مسجد الجماعة ثم ذهبنا لزيارة الأستاذ المودودي في داخل المدينة وكان وصولنا إلى منزله في تمام الساعة السادسة مساء، وكان عنده بعض الزوار، ولم ننتظر في غرفة الانتظار إلا دقيقتين تقريبا فخرج الذين كانوا عنده فدخلنا نحن إلى الغرفة الصغيرة التي انطلقت منها صيحات إنذار الأستاذ المودودي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وفيها ربى رجاله الذين رأى فيهم ثمار تربيته في حياته. لم أكن قد رأيت الأستاذ المودودي شخصيا على رغم أنه زار الحجاز وزار المدينة المنورة وأنا موجود فيها عندما كنت طالبا بالجامعة الإسلامية في كلية الشريعة بها التي هي أول كلية أنشئت بالجامعة الإسلامية، لأني في تلك الفترة لم أكن قد قرأت كتب المودودي بإمعان، وإن كنت مررت مرورا سريعا ببعضها ولكن بعد ذلك قرأت غالب كتبه فرأيت فيها عمق التفكير وتشريح الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وبيان الجذور التي أثمرت هذا الواقع داخلية كانت أم خارجية، ثم الدعوة إلى تغيير هذا الواقع الأليم بأسلوب الإسلام في الدعوة والتربية والتكوين وإقامة راية الإسلام بإقامة نظامه الذي طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن سار بعدهم على هديهم.
كما سمعت عن المودودي أنه يطبق ما يدعو إليه فعلا فتعرض للمخاطر والمضايقات والسجون والمعتقلات وهو واقف كالجبل الأشم الذي لا تحركه عواصف الامتحان والابتلاء من قبل قوم أذاقوا المسلمين وبالا وشعوبهم فناء، كل ذلك جعلني أشتاق للقاء عملاق الفكر الإسلامي الذي أنجب أمة عاهدته على السير في طريقه الذي هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ألا وهو الدعوة إلى الله على بصيرة مع الصبر على الأذى مهما كان ذلك الأذى.(22/248)
دخلنا غرفة الأستاذ المودودي، وهو يقعد على كرسي عادي، بجانبه بعض الكراسي المشابهة للزوار، فسلمنا عليه ورحب بنا، وجعلت أحييه وأنا أنظر إلى هذه الغرفة التي ملئت بالمصادر الإسلامية باللغة العربية والإنجليزية والأردية وعن يساره من الجهة الشرقية الشمالية من الغرفة يوجد الباب الذي يدخل منه ويخرج إلى غرفة نومه ومنها إلى هذه الحجرة وعندما سألناه عن حاله أجاب بقوله: الحمد لله، اشتدت علي الآلام من مدة سبعة شهور حيث أشعر بأنني مشلول النصف الأسفل، وعمر الرجل خمس وسبعون سنة، كان أغلبها في جهاد وكفاح مريرين ولا زال الرجل يجاهد ويكافح. إذ يقضي ثماني عشرة ساعة يوميا في العمل كما أفادنا الأستاذ خليل الحامدي.
وكانت عندي بعض الأسئلة تتعلق بنقد بعض العلماء في الباكستان للمودودي كنت أود أن أسأله عنها ولكنه في تلك الحال لا يتحمل كثرة النقاش وإطالة الكلام، وكان يتكلم معنا باللغة العربية وإن كان فيها ثقل فهي مفهومة، وسئل الأستاذ المودودي أن يقدم نصيحة لنا وللمسلمين فلم يزد على وصية الله للأولين والآخرين: وهي تقوى الله وخشيته في السر والعلانية.
وتخفيفاً عن الرجل استأذنا لندعه يستريح فأذن لنا ودعا لنا بخير وبعد أن خرجنا وأردنا أن نركب في السيارة جاءنا مدير مكتبه الخاص الذي لم يكن موجودا من قبل يطلب منا الرجوع إلى غرفة الاستقبال لنتناول الشاي أو البارد، وكان ذلك بطلب من الأستاذ المودودي، والذي قال لمدير مكتبه اعتذر لي منهم لخروجهم من عندي قبل أن يتناولوا شيئا ولابد أن يقدم لهم شيء، فحققنا رغبة الأستاذ ثم خرجنا.(22/249)
وسألت الأستاذ خليل الحامدي عن الدار التي يسكن فيها الأستاذ المودودي بأسرته أهي ملك له أم مستأجرة؟ فأجاب عندما انفصلت الباكستان عن الهند أقام أعضاء الجماعة الإسلامية المخيمات في مدينة لاهور، ثم استأجرت الجماعة هذه الدار منذ ثلاثين سنة، وأخذ الأستاذ المودودي شقة منها لأسرته وكان يعطي الجماعة أجرتها سنويا، وعندما ارتفعت الأسعار كان هو يزيد باستمرار، ويقول: كما يزيد الناس في الأجرة فأنا يجب أن أزيد.
وفي عام 1973 اشترى المنزل فأصبح ملكا له، بعد أن اشترى للجماعة الأرض التي أقيمت عليها مدينة المنصورة حاليا.
وقد تنازل الأستاذ المودودي عن إمارة الجماعة بصفة رسمية ولكن الجماعة لازالت تتجمع حوله كما يتجمع خلايا النحل على يعسوبها يستشيرونه في أمورهم المهمة، وهو ينصح ويشير [1] .
وفي طريقنا إلى المنصورة تعطلت بنا السيارة، فاستأجرت سيارة لإيصالنا، وعندما ركبنا نزل السائق وهو شيخ كبير السن مثل سيارته فأخذ يغلق الأبواب بقوة ليطمئن أنها أغلقت، والظاهر أنها لا تغلق إلا بمثل تلك القوة، لأنها مصلبة، كبقية هيكلها وأخذت ترتفع منها أصوات ضربات حديدها بعضه ببعض، وعندما أظلم الليل سألناه إن كان عنده نور فمال بسيارته إلى جانب الطريق ونزل منها ففتح غطاء الماكينة وأشعل النور من هناك بسبب عدم اتصال النور بالزر الذي عنده في داخل السيارة.
وهنا تواردت الذكريات السودانية على الزميل الدكتور محمد بيلو فقال: كأننا في السودان، ثم شرح ذلك بحالة السيارات في السودان بأنها لا تختلف عن هذه، ولقد وصلنا إلى مدينة المنصورة في تلك السيارة والحمد لله.
وفي صباح يوم الخميس الموافق 29/8/1398هـ. بعد أن تناولنا طعام الإفطار تم اللقاء مرة أخرى بالأستاذ خليل الحامدي الذي زودنا ببعض مؤلفات الأستاذ المودودي.
نبذة موجزة عن حياة المودودي(22/250)
1- ولادته: ولد بمدينة أورنك آباد في ولاية حيدر آباد في أسرة هندية فاضلة اشتهرت بالدين والفضل والعلم.
2- تعليمه: التحق بمدرسة دينية في سن الحادية عشرة، وقد كان والده على ثقافة عالية. رفض هذا الوالد أن يرسل أولاده إلى المدارس الإنجليزية ومنهم المودودي، ولم يتمكن المودودي من إكمال تعليمه وحصل على الشهادة الثانوية فقط ذلك لتدهور صحة والده بسبب إصابته بالشلل فانصرف إلى خدمة والده وتعلم منه في المنزل اللغات الأردية والعربية والفارسية والإنجليزية، ولم تطل حياة هذا الأب الفاضل فافتقده المودودي في يفاعه وهو في السادسة عشرة من عمره.(22/251)
3- أهم أعماله: تولى منصب رياسة التحرير في كبريات صحف الهند مثل "تاج"و "مسلم"وصحيفة الجمعية في دلهي، ثم أصدر مجلته الشهيرة بترجمان القرآن عام 1923م، وقدم على صفحاتها تصوراً واضحاً للإسلام ولكنه خطا خطوات أعظم آثاراً في ميدان العمل الإسلامي بإيجاد تجمع حركي يتمثل هذا التصور الواضح للإسلام في حياته الواقعية وأول خطوة خطاها في هذا السبيل إنشاءه "دار السلام"عام 1938م بدأت هذه الدار بأربعة رجال شاركوه في تبني الفكرة وأخذ العدد يتزايد يوماً بعد يوم مما شكل خطراً على المودودي نفسه وبدأت حملات مكثفة للنيل منه شأن كل داعية يكون له أثر في دنيا الناس كما أرجف به المرجفون وجسموا له المخاطر التي ستحيق به إن هو واصل السير في هذا الميدان الإسلامي فقال قولته الشهيرة الفياضة بروح اليقين والثقة بالله قال: "وهل خفي عني كل ذلك عندما أقدمت، لقد أعددت للشدة يقينا وللمعوقات دينا، وللظلم صبرا، وللسجون قرآنا وذكرا وللمشانق "وعجلت إليك ربي لترضى"هذا اليقين والإيمان هو الذي يقف في وجه الطغيان المائج الهائج ولا يقدر على ذلك من لا يملك هذه الروح وهذا الإيمان والتجارب أمامنا أكبر برهان. تعرض المودودي للسجون واعتبرته السلطات الحاكمة خطراً عليها فشددت الرقابة عليه وزجوا به في السجن في أكتوبر عام 1948م وأطلق سراحه في 28 من مايو سنة 1950م ثم قبض عليه في 28 من شهر مارس عام 1953م عندما كتب كتابه "المسألة القاديانية"ثم أطلق سراحه في 7 من مايو في نفس السنة ثم اعتقل مرة أخرى في العام نفسه وقدم إلى محكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام شنقا، وحين سمع المودودي الحكم وقف في ملابس الإعدام وخاطب ابنه قائلا "لا تضطرب يا بني.. لو ناداني ربي إلى جواره وحانت لحظات اللقاء فعلى الإنسان أن يذهب للقاء ربه مسروراً وإذا لم يصدر حكمه عز وجل في هذا الأمر فلن يشنقوا لي إصبعاً واحداً رغم كل من شنقوهم من قبل". واهتز العالم الإسلامي لنبأ(22/252)
هذا الحكم وانهالت برقيات الاحتجاج وتدخلت حكومة المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت فخفف الحكم إلى السجن المؤبد وحين طلب منه أن يلتمس العفو رفض في عزة المؤمن بالله قائلاً: "إن تعليقي على حبل المشنقة أهون عليّ من أن أطلب العفو من أناس يعرفون جيداً ما هي التهمة الموجهة ضدي"وفي هذا السجن أكمل تفسيره الشهير "بتفهيم القرآن"في سبعة مجلدات وفي سنة 1955م صدر حكم بالإفراج عنه وعن زملائه ثم في عام 1967م أعتقل مرة أخرى لمدة شهرين ثم أطلق سراحه، هكذا كانت حياة المودودي سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح الطويل والنضال المرير وألف مجموعة من الكتب الفكرية هدف منها إلى تنقيح الأفكار وغربلة الدعوات ومعالجة المشكلات في الاقتصاد والاجتماع والتربية والسياسة كما هدف إلى إفراغ التعاليم الإسلامية في قالب عصري يلائم مدارك أهل العصر وأذواقهم مع الاحتفاظ بالأصالة الإسلامية التي لا تميع فيها ولا جمود وقد كشف النقاب عن عورات زنادقة هذا العصر والمحرفين والقاديانيين وفند مزاعم منكري حجية السنة وانتقد جمود بعض علماء المسلمين وزيف أباطيل المتصوفة المنحرفين عن منهج الكتاب والسنة ومعظم تراث هذا الداعية باللغة الأردية لم يترجم منه إلى العربية إلا النزر اليسير.(22/253)
عاش المودودي حياته كلها وهو يسعى لتحقيق قيام الإسلام ليحكم حياة الناس واتخد لذلك أساليب شتى جديرة بالدراسة الجادة للاستفادة منها فأفكار هؤلاء المفكرين ليست هي النهاية في التصور الإسلامي الواعي ولكنها منافذ معرفة وفكر يدخل منها الجيل الإسلامي المنشود ليشيد البناء وليتمم العمل وليكمل النقص أما الوقوف عند هذه الأفكار واعتبارها النهاية القصوى في المعرفة والفكر فذلك لا يعدو أن يكون تقليداً أعمى على غرار التقليد المذهبي المتعصب الجامد الذي أمات روح الابتكار ووقف بالمد الإسلامي عند اجترار أفكار من سبق فكانت كارثة عظيمة لا تخفى نتائجها في كل الظواهر فعسى أن لا تتكرر المأساة مع العاملين في الحقل الإسلامي وأن يأخذوا العبرة ويطوروا من أساليب العمل للإسلام.
نال المودودي الرضى في جميع الأوساط الإسلامية، ونهل الشباب والعلماء من بحر أفكاره ولا تزال كتبه ورسائله ومحاضراته معيناً فكرياً غزيراً، وقد توجته المملكة العربية السعودية بجائزة الملك فيصل العالمية تكريماً منها له على جهوده العظيمة في مجال الجهاد والفكر والعمل الإسلامي في شتى المجالات وفي يوم السبت الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1979م توفى المودودي بعد أن خلف تركة ضخمة في خدمة ميراث النبوة جزاه الله عن كل ما قدم ما يجزي عباده الصادقين ورزق الله المسلمين خير خلف لخير سلف وإنا لله وإنا إليه راجعون.
جامعة إسلامية بكوريا الجنوبية
قرر اتحاد المسلمين الكوريين إنشاء جامعة إسلامية في كوريا الجنوبية وذلك من أجل تجميع الأنشطة الدينية في البلاد لمواجهة الدعاية الخبيثة التي ينشرها أعداء الإسلام من صليبيين وشيوعيين وصهيونيين ومذاهب هدامة، لما لمثل هذه الجامعة من دور فعال ونبيل في بناء الفرد وبلورة أفكار المجتمع في إطار إسلامي.(22/254)
والجدير بالذكر أن في كوريا الجنوبية مع صغر حجمها ما لا يقل عن مائة جامعة تمتلكها الإرساليات المسيحية والبوذية.
وستضم الجامعة الإسلامية إن شاء الله تعالى خمس عشرة كلية موزعة على أربعة أقسام تضم مجموعة من الكليات منها كلية الشريعة وكلية الدراسات المقارنة بين الأديان وكلية التاريخ الإسلامي وكلية اللغة العربية.
وتشكل لجان خاصة من المختصين الأساتذة لوضع المناهج لهذه الكليات.
هذا وقد تبرعت الحكومة الكورية بقطعة من الأرض مساحتها أربعمائة وثلاثون ألف متر مربع بالقرب من سيول العاصمة لإقامة الجامعة الإسلامية عليها مع العلم بأن شركة سن للتعمير والهندسة في سيول قد قامت بإعداد الخرائط والرسوم من أجل البدء في تنفيذ هذا المشروع الذي دخل في دور التنفيذ وقد حددت المرحلة الأولى منه زمنيا بسنتين.
والجدير بالذكر أن المسلمين في كوريا الجنوبية كانوا قد قاموا ببناء مركز إسلامي ومسجد جامع في العاصمة سيول.. ولا شك أن هذه الجامعة سوف تؤدي خدمة كبيرة للمسلمين وللثقافة الإسلامية في المنطقة.
"الرأي الهندية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ولقد نقل إلينا نبأ وفاة مجدد القرن الرابع عشر الهجري عملاق الفكر الإسلامي المجاهد في سبيل الله العلامة الشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله في يوم 22 سبتمبر 1979م. حيث وافته المنية في إحدى مستشفيات نيويورك. وقد نقل جثمانه بعد ذلك بثلاثة أيام حيث صلى عليه في كراتشي وإسلام آباد ما يقارب مليوناً من المسلمين.
وقد هز نبأ وفاته العالم الإسلامي كله. وقد وجهت خطاب تعزية لأمير الجماعة الإسلامية الأستاذ طفيل محمد، بعد سماع نبأ وفاته كما أنشأت قصيدة في رثائه رحمه الله بعنوان: "غوثاه"وقد نشرت في العدد الأول من السنة الثانية عشرة من هذه المجلة.(22/255)
وقد كانت وفاته في وقت إعدادي هذه المذكرات للطبع. رحمه الله رحمة واسعة.(22/256)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
س (1) : هل يعتبر باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية مفتوحاً لكل إنسان، أو هناك شروط لابد أن تتوفر في المجتهد، وهل يجوز لأي إنسان أن يفتي برأيه دون معرفته بالدليل الواضح، وما درجة الحديث القائل "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" أو ما في معناه؟
والجواب: باب الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية لا يزال مفتوحاً لمن كان أهلاً لذلك بأن يكون عالماً بما يحتاجه في مسألته التي يجتهد فيها من الآيات والأحاديث قادراً على فهمهما والاستدلال بهما على مطلوبه، عالماً بدرجة ما يستدل به من الأحاديث وبمواضع الإجماع في المسائل التي يبحثها حتى لا يخرج على إجماع المسلمين في حكمه فيها، عارفاً من اللغة العربية القدر الذي يتمكن به من فهم النصوص ليتأتى له الاستدلال بها والاستنباط منها، وليس للإنسان أن يقول في الدين برأيه، أو يفتي الناس بغير علم، بل عليه أن يسترشد بالدليل الشرعي ثم بأقوال أهل العلم ونظرهم في الأدلة وطريقتهم في الاستدلال بها والاستنباط، ثم يتكلم أو يفتي بما اقتنع به ورضيه لنفسه ديناً.
أما حديث "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" فقد رواه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في سننه عن عبد الله بن أبي جعفر المصري مرسلاً، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
س (2) : هل يجوز استعمال العطورات ومزيل رائحة الإبط ومعجون الأسنان والايسكريم والشامبو لاحتوائها على الكحول، والصابون الذي فيه دهن الخنزير، وهل الخمر نجسة كنجسة البول، واللحم إذا اختلط بدهن أو دم الخنزير ولو بنسبة بسيطة جداً والجبن؟(22/257)
والجواب: الأصل في الأشياء الحل والطهارة فلا يجوز أن يحكم الشخص على شيء بأنه محرم ونجس إلا بدليل شرعي، ومتى تيقنت وغلب على ظنك اختلاط اللحم المباح بدهن أو دم خنزير وكذلك الجبن إذا خلط بدهن أو دم خنزير فلا يجوز لك تناوله، وقد دل القرآن والسنة والإجماع على تحريم لحم الخنزير وأجمع العلماء على أن شحمه له حكم اللحم، أما إذا كنت لا تعلم فيجوز الأكل منه لما سبق من أن الأصل في الأشياء الحل حتى يقوم دليل على التحريم.
والعطورات ونحوها التي مزجت بها الكحول حتى بلغت بها مبلغ الإسكار القول بنجاستها وطهارتها مبني على القول بنجاسة الخمر وطهارتها، والجمهور على القول بنجاستها، وعليه فينبغي تجنبها إذا بلغت مبلغ الإسكار بسب ما خلط بها من الكحول، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
س (3) : هل يجوز استعمال العادة السرية؟
والجواب: الصحيح من أقوال العلماء في الاستمناء باليد المعروف بالعادة السرية التحريم، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ} فأثنى سبحانه وتعالى، على من حفظ فرجه، فلم يقض وطره إلا مع زوجته أو أمته، وحكم بأن من قضى وطره فيما وراء ذلك أيا كان فهو عاد متجاوز لما أحله الله له، ويدخل في عموم ذلك الاستمناء باليد "العادة السرية"، ولأن في استعمال ذلك مضارا كثيرة، وله عواقب وخيمة، منها إنهاك القوى وضعف الأعصاب، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بمنع ما يضر بالإنسان في دينه وبدنه وماله وعرضه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(22/258)
القلب وعظمة الخالق
للدكتور إسماعيل صبحي حافظ
طبيب عام وأمراض باطنية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر/ 49، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} لقمان/ 11، وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} الذاريات/ 21.
ألا تبصر أيها الإنسان في نفسك التي بين جنبيك، وتتأمل عظمة الخالق في جسدك ولحمك ودمك وأعضائك، فترى العجب العجاب، ترى خلق الله في توازن وتناسق وتكامل، كل له دور يؤديه، وعملٌ يقومُ به على أكمل وجه، {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون/ 14. وإذا تبَصَّرت وأبْصَرت، وخاصة إذا كنت من فئة الأطباء، ترى كيف صنع الخالق هذا الجسم البشري من نطفة ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ ثم خلق النطفة عظاماً، ثم كسا العظام لحما، وجعل أجهزة كل يؤدي وظيفته بإحكام وإتقان.
تبَصَّر أيها الإنسان في جوف صدرك، تجد جرماً صغيراً، آية في الخلق والإبداع، آية في التخطيط والتصميم، ترى قلبا حوى ما يخطر لك ببال، من غرف وقنوات، ووصلات اتصال، ومولد ذاتي، ومحرك كهربائي، وأسلاك كهربائية، تعمل بأمر العلي القدير، فستعجب وتقول في نفسك، يا عجبا لأمر هؤلاء الكفرة والملاحدة من بني الإنسان، لماذا هم عن الفهم مبعدون وفي أنفسهم لا يبصرون؟ وتقول في نفسك واعجباً من أمر أولئك الأطباء الذين تعلموا الطب في بلاد الغرب والشرق، بعد هذا يكفرون وقد تبين لهم أنه الحق، وأنه من صنع عليم حكيم، وأحسن كل شيء خلقه.
عجبا للطبيب يلحد في الخا
لق من بعد درسه التشريحا(22/259)
تأملْ وتبصرْ في نفسك أيها الإنسان، تجد قلبا عجيباً، تجد فيه مولداً، ومحركاً، ومنبهاً، وخزاناً، ومغذياً، إذا توقف توقفت الحياة.
لذلك سأبحث هذا الموضوع على قدر جهدي البسيط، لعلي أوصل إلى قارئي بعض المعلومات المفيدة، لأن أعماقه تحتاج إلى مجلدات، تبحث وتمحص من قبل ذوي الاختصاص. وأصنف بحث الموضوع في ثلاث نقط، كما يلي:
أولا: القلب الطبيعي أو المادي.
ثانيا: العوامل المؤثرة في القلب.
ثالثا: القلب المعنوي أو الروحي.
أولا: القلب الطبيعي:
(أ) لمحة تشريحية أو بنيوية:
يتألف القلب من أربع غرف من الأذَيْنَة اليسرى والبُطَين الأيسر. والأذينة اليُمنى والبُطين الأيمن، والغرف اليسرى، تحوي الدم الأحمر القاني، واليمنى تحوي الدم الأسود القاتم.
والقلب يتركب كذلك من طبقات:
1- غشاء خارجي يغلف القلب هو التأمور.
2- وطبقة عضلية.
3- وغشاء باطني، هو الشفاف الذي يغطي القلب من الباطن.
4- وحجاب يفصل القلب الأيسر ذو الدم الأحمر القاني عن القلب الأيمن ذو الدم الأسود القاتم.
5- وأوعية تصب في الأذينة اليسرى، وهي الأوردة الرئوية تحمل الدم الأحمر القاني المملوء بالأكسجين والمواد الغذائية.
6- وأوعية تصب في الأذينة اليمنى وهي الوريد الأجوف العلوي والسفْلي، ويحملان الدم الأسود الممتلئ بثاني أوكسيد الفحم.
7- وأوعية تنشأ في البطين الأيسر، وهو شريان الأبهر الذي يحمل الدم الأحمر القاني إلى كل جزء من الجسم، حتى القلب نفسه يأخذ منه بالأوعية الأكليلية، والشريان الرئوي الذي ينشأ من البطين الأيمن، ليذهب بالدم الأسود إلى الرئة فيتصفى هناك بالمبادلات الغازية.(22/260)
ويتألف القلب من مركز تنبيه، ومولد ذاتي هي العقدة الجيبية، وتوضع في جدار الأذينة وتسمى بصانع الخطى، تصل بواسطة سلك إلى العقدة الأذينية البطينية، ومنها سلك هو حزمة هيس، تتفرع إلى الغصن الأيسر والغصن الأيمن يتفرعان إلى أغصان بوركنج التي تتوزع في عضلات البطينين.
(ب) لمحة فيزيولوجية آلية: كيف يعمل القلب ولماذا يعمل القلب؟
القلب خزانٌ يأتيه الدم النقي الأحمر الذي يحمل الأكسجين والمواد الغذائية بالأوردة الرئوية، بعد أن يكون قد أخذ الأكسجين بالمبادلات التنفسية، ثم يبقي في الأذينة اليسرى حتى ينفتح الصمام بينها وبين البطين الأيسر، أثناء راحة القلب من الانقباض، ثم ينقبض البطين الأيسر، فيخرج الدم الأحمر من الأبهر حيث يتوزع على جميع أنحاء الجسم، حاملاً الأكسجين والمواد الغذائية، الضرورية لجميع خلايا الحسم بدون استثناء، حتى خلايا القلب نفسه، فتأخذ خلايا الجسم ما تحتاجها من أوكسجين ومواد غذائية لتقوم بحياتها وتطوراتها التي قدرها الله تعالى، وتطرح الفضلات والمواد السامة في الدم العائد الأسود القاتم ضمن الأوردة، لتعود إلى الأذينة اليمنى، حيث تبقى فيها بنفس وقت خزن الأذينة اليسرى أثناء انقباض القلب، ثم يفتح الصمام الأيمن بين الأذينة اليمنى والبطين الأيمن أثناء راحة القلب من الانقباض، فيمتلئ البطين الأيمن، ثم ينقبض طارحاً الدم القاتم ضمن الشريان الرئوي ليذهب إلى الرئتين ليتصفى من المواد السامة، ويعود أحمر نقياً.
هذا يحدث في كل نبضة من نبضات القلب، أي بمعدل (80) مرة في الدقيقة.
كيف ينقبض القلب:(22/261)
إن في القلب عقدة صغيرة في جدار الأذينة هي العقدة الجيبية، أودعها الله سراً ذاتيا بأن تكون مبدأ التنبيه، أو نقطة الانطلاق التي تخرج منها التنبيهات بمعدل (80) مرة في الدقيقة، ولكن قد يتغير عددها حسب حالات كثيرة، ثم ينتقل التنبيه ضمن الحزمة الأذينة البطينية، ثم إلى محطة أخرى هي العقدة الأذينية البطينية، ثم إلى حزمة هيس فالغصنين، ثم أغصان بوركنج، فينقبض القلب الممتلئ بالدم إلى أماكنه المخصصة لها، ليعود بالأوردة إلى القلب من جديد. وهكذا في دوران مستمر، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
والعبرة ليست في عملياته المتلاحقة، وإنما في هذه العقدة الصغيرة، التي أسكنها نظما ذاتيا بقدرته لتطلق هذه التنبيهات، فتحدث هذه المراحل، ولو أمرها الله بالتوقف لوقفت الحياة، فكيف تكفر بعد هذا يا أيها الإنسان الجحود؟ أفلا تبصر قلبك لترى هذا العضو الصغير الذي خلقه الله تعالى بقدرته، وقال له منذ أن ظهرت الحياة على ظهر الأرض، أطلق تنبيهاتك بأمرنا، حتى قدرك المحتوم، وعندها نقول لك كُفَّ عن التنبيه فقد حان الأجل المحتوم تباركت يا رب في عليائك وسمائك، كم أنت عظيم في خلقك ما أعظمك.
فكيف لا تبصر أيها الإنسان وتفكر، وتتدبر في هذا الجرم الصغير الموجود في القلب، وكيف لا تبصر هذا المولد الذاتي الذي يعمل من تلقاء نفسه بمشيئة الله، ويا أيها الملاحدة انظروا في أجسادكم، انظروا في أنفسكم، انظروا في قلوبكم، يا من لستم قادرين على أن تخلقوا ذبابة، انظروا إلى هذا الجرم الصغير وتفكروا، تجدوا أنكم لا تملكون إلا أن تطأطئوا رؤوسكم خاشعين أذلة، أمام عظمة الخالق الذي بيده مقاليد كل شيء، أتعلم أيها الإنسان أن دواءك فيك ما تبصر.
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء/ 36.(22/262)
فكل شيء يسبح بعظمة الخالق، وكل نبضة من نبضات القلب تقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيّ} النمل/ 19 والأحقاف/ 15.
ثانيا: العوامل المؤثرة في القلب:
1- الجهد: كل جهد أو عمل لا يثير ألماً في القلب ولا ضيق نفس في الصدر، يجب أن يشجع عليه، لأن طاقة القلب ضمن إمكانياته، فالقلب الطبيعي لا يتأثر ضمن الحدود المعينة وحتى لو كان مريضاً، تشجيع الجهد.
2- التدخين: إن التدخين وخاصة المفرط يؤثر على تقبض الأوعية النبيلة في القلب، ومنه نقص التروية، ونقص تغذية عضلة القلب، ونقص الأكسجين فيها، وكذلك تسرع القلب عن الحد الطبيعي.
3- الخمر (الكحول) [1] : يحدث اعتلال العضلة القلبية ويتلفها.
4- الانفعال والغضب: يزيد سرعة القلب، ويرفع الضغط، ويشنج الأوعية المغذية للقلب.
5- المرض: يجب وقاية القلب خاصة من مرضى الروماتيزم الحاد، وعلى الأخص مراحل الطفولة إذ أن الروماتيزم يعضُّ القلب، فيجب عدم التهاون في هذا المرض خاصة عند الأطفال، والانتباه إلى التهاب اللوزات المتكرر الذي يعزى إليه هذا الروماتيزم.
6- الإفراط في الطعام: تمتلئ المعدة كثيرا ويحدث انتفاخ في البطن وتضغط على الصدر، ويحدث تسرع في القلب، وقد تحدث آلام انعكاسية.
ثالثا: القلب المعنوي أو الروحي:(22/263)
لا أقصد به القلب المادي الذي يضخ الدم لأنحاء الجسم، بل أقصد به القلب من حيث المعاني القرآنية الروحية، التي وردت في ذكر القلب، إذ أن هناك كثيراً من الناس لها قلوب من لحم ودم، ولكن ليس لها قلوب روحية أو معنوية، وقد أشار الله تعالى لهذا في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ق/ 37، وإن بعض الناس قلوبهم عمياء {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} الأعراف/179، فالقلب المعنوي أو الروحي قلب مطمئن بالإيمان لأنه ذاكر لله دائما {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} الرعد/ 28، وهو كذلك قلب بعيد عن النفاق والرياء والشرك، يبين الله تعالى فوز صاحبه يوم القيامة في قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء/ 89، قلب لا يخشى إلا الله، لا تجده وجلاً إلا من خالقه، بين الخوف والرجاء يرجو رحمته ويخشى عذابه، فوصف صاحبه بالإيمان في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الأنفال/ 3 قلب فيه الرأفة والرحمة: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} الحديد/ 27 قلب منيب تائب هادئ: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} ق/ 33، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} الفتح/18.
وقلوب المؤمنين مؤلفة مؤتلفة متجانسة {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} الأنفال/ 63، واطمئنان القلب، واعتقاده بالله، والإيمان به، والثقة به، لا تتغير مهما كانت الظروف والأحوال، لو تغير اللسان، بالأقوال والجوارح بالإكراه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} النحل/106.(22/264)
وهذه الصفات المعنوية للقلب المؤمن، نجد أنها أحياناً يعبر عنها بصفات جسدية، فتجد القلب هادئاً في مكانه آمناً مطمئناً ينبض باتزان وتؤدة، يأخذ الوقت الكافي للانقباض، والوقت الكافي للاسترخاء والامتلاء من الدم، ينبض ضمن الحدود الطبيعية، غير هياب ولا خائف من الناس، غير مسرع السرعة التي تفوق الحد الطبيعي عند تعرضه للشدة والانفعال والغضب والمصائب والأهوال وذلك للاطمئنان والسكينة بذكر الله.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} الأنفال/ 10، بينما نجد قلب الكافر أو المنافق في التعبير القرآني، قلباً مريضاً: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} البقرة/ 10، قلباً خائفاً إلى حد اضطراب التوازن النفسي، إلى حد اليأس والقنوط: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} الأحزاب/ 26، {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} آل عمران/ 151، قلباً أسود مليئاً بالفسوق والعصيان: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففون/ 14، قلباً قاسياً: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} البقرة/ 74 {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} المائدة/ 13، {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الأنعام/ 43، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر/22، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الحديد/ 16.(22/265)
وقلوب الكافرين أو المنافقين قلوب جاهلة: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الروم/ 59 قلوب مشمئزة من ذكر الله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} الزمر/ 45، قلوب مقفلة لا يخترقها التدبر ولا التفهم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد/ 24 {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} البقرة/ 88، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} النساء/ 155، {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْر} فصلت/ 5.(22/266)
وهي قلوب زائغة منحرفة يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء الانحراف والأهواء، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} آل عمران/ 27، وهي قلوب نجسة ملوثة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} المائدة/41، وهي قلوب مترددة، شاكة، {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} التوبة/ 45، وقلوبهم تبطن شيئًا وتظهر ألسنتهم غير ذلك: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الفتح/ 11، وقلوبهن محل للارتكاس والثأر وحمية الجاهلية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} الفتح/ 26، وهي قولب متفرقة: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} الحشر/ 14، وهي قلوب ملئت بالكبر والخيلاء والجبروت: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} غافر/ 35، وهي قلوب غافلة عن ذكر الله منشغلة بأهواء الدنيا وشهواتها: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الكهف/28.
وهي قلوب عمياء {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج/46.
فهذه الصفات القرآنية لقلوب الكافرين والمنافقين والفاسقين، قد يعبر عنها أحياناً بصفات جسدية، فتجد قلوبهم غير مطمئنة، إن أصابتهم مصيبةٌ تثور ثائرتهم وتنتفخ أوداجهم ويتسرع قلبهم إلى حد الرجفان، لأنها قلوب غير مكبوحة الجماح بالإيمان، أو الذكر أو العلم، فترتعش الأعضاء ويهتز الصدر كجناحي الطائر، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
التدخين والانتحار البطيء(22/267)
ليس أغرب من (التحذير الرسمي) الملصق على كل علبة سجائر في الأسواق، والذي يقول إن (التدخين يضر بصحتك ... ننصحك بالامتناع عنه) .. بينما السم داخل العلبة، وتحت هذا التحذير مباشرة..
أقول ليس أغرب من ذلك.. إلا الطبيب الذي يلح على مريضه بالإقلاع عن عادة التدخين، ثم يرسل في وجه المريض سحابة من سيجارته، أو يمص غليونه أمامه على مهل.. وبأناقة.. إن هذين التصرفين، أو المظهرين بعيدان عن المسئولية التي يتطلبها منع السم عن المريض، أو إقناع المدخن بالإقلاع عن التدخين.. الذي أصبح محوراً للعديد من البحوث العلمية في الآونة الأخيرة وكلها تجمع على أن التدخين سبب العديد من الأمراض القاتلة، وفي مقدمتها السرطان.
أمامي نتائج دراسات عديدة، وبحوث عليمة استغرقت سنوات طويلة، في أكثر من بلد، وإلى المدخنين أسوق بعض النتائج المذهلة كما وردت في (المختار) :
* خلال 6 ثوان يصل النيكوتين من دخان السيجارة إلى الدماغ، ومن يدخن علبة سيجارة واحدة في اليوم يتعرض كمية تتراوح بين 50 و70 ألف جرعة نيكوتين سنوياً.
* تحتوي علبة السجاير اليوم على أقل من ستين مللغراما من النيكوتين، وهذه الكمية كافية لو تناولها الإنسان جرعة واحدة أن تقتله.
* يسبب النيكوتين تسارعاً عنيفاً في دقات القلب، وبسببه تضيق الأوعية الدموية ويرتفع الضغط، وتندفق الأحماض الدهنية في الدم.. ثم يشعر المدخن بالارتخاء والتعب، فتخف سرعة القلب وينخفض الضغط، ويفقد العقل فطنته الحادة.
* عندما يبلغ النيكوتين الدماغ، يثير الوصلات العصبية ثم يهمدها، كما ينشط إفراز (الادرينالين) ثم يهمده، وهو ينبه الأعصاب في العضلات، ولكن سرعان ما ينتهي هذا التنبيه بنوع من الشلل، وهو إذا أعطي بكميات صغيرة يؤدي إلى الرجفة وبكميات كبيرة يؤدي إلى التشنجات.(22/268)
* والنيكوتين يهيج التقيؤ اللاإرادي في الدماغ في أعصاب المعدة وله تأثير مقاوم لإدرار البول.. وعلى الرغم من أنه ينشط الأمعاء في البداية إلا أن الجرعات اللاحقة منه (خلال التدخين) تبطئ حركة الجهاز الهضمي بأسره.. وكذلك الحال بالنسبة للفم والمجاري الهوائية.
هذه بعض النتائج فقط وهي كافية لوصف التدخين بأنه (انتحار بطيء) .. وعسى أن يتعظ المدخنون عندما يتصور الواحد منهم كل تلك التفاعلات داخل جسمه وعقله مع كل سيجارة.. أو حتى كل (جرعة) ..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكحول تحريف للأصل العربي الذي هو الغول. وقد ورد ذكره في الكتاب الحكيم في قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} الصافات/47.(22/269)
"من أعماق الكتب"
لقد كانت السنة مفتاحاً لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فلماذا لا تكون مفتاحاً لفهم انحلالنا الحاضر؟
إن العمل بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام.
لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أَفَيُدْهِشُكَ أن يتقوَّض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟
إننا نستعمل هنا كلمة السنة بأوسع معانيها، على أنها المثال الذي أقامه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم من أعماله وأقواله، إن حياته العجيبة كانت تمثيلا حيًّا، وتفسيراً لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكننا أن ننصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتبع الذي قد بلَّغ الوحي صلى الله عليه وسلم.
لقد أتى الإسلام بالرسالة الجديدة التي لا تجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة، تلك الخاصة الظاهرة في الإسلام تجلو الحقيقة الدالة على أن نبينا -الذي كان في رسالته الدليل الهادي للإنسانية- كان شديد الاهتمام بالحياة الإنسانية في كلا اتجاهيها، في المظهر الروحي، والمظهر المادي، وإن القول بأننا مجبرون على اتباع الأوامر المتعلقة بالنوع الأول، ولكننا لسنا مجبرين على أن نتبع الأوامر المتعلقة بالنوع الثاني إنما هو نظر سطحي، وهو فوق ذلك مناهض في روحه للإسلام، مثل الفكرة القائلة بأن بعض أوامر القرآن الكريم قد قصد بها العرب الذين عاصروا نزول الوحي، لا النخبة من الأكياس (الجنتلمان) الذين يعيشون في القرن العشرين.
- هذا القول بخس شديد لقدر النور النبوي الذي قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم.(22/270)
- وكما أن حياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام المطلق بين ذاته الروحية وذاته الجسدية، فإن هداية نبينا يجب أن تضم الحياة على أنها وحدة مركبة، أي على أنها مجموع أعمق المظاهر الخلقية، والعملية، والشخصية، والاجتماعية، وهذا هو أعمق معاني السنة.
من كتاب (الإسلام على مفترق الطرق)
للمستشرق النمساوي المسلم: محمد أسد
تعليق التحرير:
إن محمد أسد -المستشرق النمساوي المسلم- بفضل الله تعالى خالطت بشاشته بشاشة الإسلام قلبه، وظهر ذلك فيما سطره في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) .
فقد كتب فيه كلمات رائعة عن السنة المطهرة، وأوردت منها ما ذكره من أن ترك السنة هو انحلال الإسلام، وأن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمثيلاً حيًّا، وتفسيراً لما جاء في القرآن الكرم، فلابد إذن من اتباعها، في القرن العشرين كما اتبعت في الماضي، في الحياة الروحية والجسدية على السواء.
وما أروع تصوير هذا المستشرق المسلم لعظمة السنة المشرفة وأهميتها للمسلم، وضرورة الأخذ بها مع القرآن الكريم، لأن الأخذ بها أخذ بالقرآن الكريم، وردها رد للقرآن الكريم، فقد جاء فيه قول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر آية 7) ، وذلك كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي من الله تعالى كما قال جل شأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم آية 3-4) ، وحذر تعالى من ترك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور آية 63) . إذ أنه بدون السنة لا يفهم ولا يُطبق كثير من أحكام الدين.(22/271)
فإلى منكري السنة المشرفة، والمعرضين عنها، والمحادين لها، نوجه هذا التحذير الإلهي الشديد، وإلى الذابين عن السنة المطهرة، نوجه الدعاء لهم بالتوفيق، ونستحثهم للجد، وعدم ترك لواء الذب عن المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، والله معهم، ولن يترهم أعمالهم.
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وخاتم رسله محمد وعلى آله صحبه ...
سعد ندا
عضو التحرير(22/272)
إزالة الشبهة عن حديث التربة
فضيلة الشيخ عبد القادر السندي
المحاضر بكلية الحديث الشريف بالجامعة
(الحلقة الأولى)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فمما يؤسف له حقا بما أورده الشيخ محمود أبو رية في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنة المحمدية"من شبهات هزيلة، وآراء فاسدة، وأفكار هدامة نحو السنة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام، وقد رد على كتابه هذا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمهما الله تعالى، ولقد أجادا وأفادا في رديهما البارعين المفيدين، وكلامهما مطبوع في سنة 1377هـ. ولقد استفدت من كتابيهما كثيرا في هذا الباب، فلله درهما، رحمهما الله تعالى، فما كنت أتجاسر على كتابة الرد على الشيخ أبي رية بعد وجود هذين الكتابين العظيمين وهما: "الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتظليل والمجازفة"للعلامة الشيخ المعلمي "وظلمات أبي رية"للعلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة، فقد قام بنشر الكتابين المذكورين نصير السنة المحمدية الشيخ محمد نصيف رحمه الله تعالى، وتغمده برحمته ورضوانه آمين.(22/273)
وما كنت بحال من الأحوال -قد بلغت مبلغ هذين العلمين من العلم والفضل ومن سواهما إلا أني قد أردت- مع ضعف حيلتي وقلة بصيرتي وإدراكي- أن أرضي الله جل وعلا وذلك بالدفاع عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والذب عن كرامة أصحابه البررة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين وعلى رأسهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الذي طعن فيه أبو رية وذلك باتهامه إياه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بريء منه، وسائر أصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إذ قال أبو رية: "روى مسلم عن أبي هريرة أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة"، وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال أبو رية: ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث بسماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أخذ بيده حين حدثه به، وإني لأتحدى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث، وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا، أن يحلوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوة التي سقط فيها".(22/274)
قلت: هذا نص كلام أبي رية في كتابه آنف الذكر، والشبهة التي لعبت في رأسه أن هذا الحديث لا يمكن الجمع بينه وبين نص القرآن الكريم الوارد في سبعة مواضع في كتاب الله تعالى وهو أولا: في سورة الأعراف إذ قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [1] ونحو هذا القول المبارك في سورة يونس [2] وفي سورة هود [3] وفي سورة الفرقان [4] وفي سورة السجدة [5] وفي سورة ق [6] وفي سورة الحديد [7] . وليس هناك تعارض حقيقي بين معنى هذا الحديث الشريف، وما ورد في كتاب الله من خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما سوف يأتي ذلك مفصلا وموضحا إن شاء الله تعالى، لأن هذه التحديات لم تكن قد وقعت من الشيخ محمود أبي رية إلا لبعده لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين من علوم صافية نقية، وقواعد راسخة متينة، وأصول ثابتة محكمة لا يشذ عنها إلا من ابتلي بمرض الجهل أو النفاق، أعاذنا الله تعالى منهما، وإني سوف أتكلم على هذا الحديث الصحيح من جوانبه الأربعة المهمة.
1- تخريجه.
2- إسناده.
3- معناه.
4- شواهده.
تخريج الحديث(22/275)
أما تخريجه فقد أخرجه مسلم في صحيحه (1) والإمام أحمد في مسنده (2) وابن جرير الطبري في تاريخه (3) والإمام الحافظ أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410هـ في تفسيره (4) والإمام البيهقي في الأسماء والصفات (5) والنسائي في السنن الكبرى (6) . وقد عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم بابا على هذا الحديث بقوله: باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام، ثم ساق الإمام مسلم إسناده بقوله: حدثني سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، قالا: حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل ابن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ثم ذكر الحديث كما نقله أبو رية في كتابه، وزاد مسلم في نهاية الحديث "في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" وهذه الزيادة لم ينقلها أبو رية في كتابه آنف الذكر. ثم قال مسلم رحمه الله تعالى في نهاية الحديث: قال إبراهيم: حدثنا البسطامي وهو الحسين بن عيسى، وسهل بن عمار، وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث اهـ.(22/276)
قلت: هكذا أثبت إسناد الحديث بهذا السياق عن حجاج بن محمد الأعور المصيصي الترمذي الأصل وهو من شيوخ الكتب الستة، والإمام أحمد في مسنده، وقد تغير أخيراً عند قدومه بغداد، كما قال الإمام الذهبي في ميزانه، والحافظ في تهذيبه، وقد روى عنه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره شيئا كثيرا في حالة التغيير، وأما رواية مشايخ الكتب الستة عنه والإمام أحمد في مسنده فكانت قبل التغيير والله تعالى أعلم، وقد أخرج الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده [8] في مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ قال: حدثنا حجاج، أخبرين ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بطوله كما أخرجه مسلم في الصحيح، والحجاج هو ابن محمد الأعور المذكور الذي سبق فيه الكلام، وأخرجه أيضا الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه [9] ، عن شيخه القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن عبد الله الصدائي عن الحجاج بن محمد به، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات [10] عن طريق شيخه محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بلفظه، ثم قال في نهاية الحديث -هذا حديث قد أخرجه مسلم في كتابه عن شريح- هكذا في المطبوعة- والصحيح سريج بالسين ابن يونس وغيره عن حجاج بن محمد اهـ.(22/277)
وأورد هذا الحديث الإمام أبو الحجاج المزي في كتابه: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف [11] وعزا تخريجه إلى مسلم في الصحيح عن طريق سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في السنن الكبرى في التفسير، عن طريق هارون بن عبد الله ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع به.
وأورد الحديث الإمام ابن كثير في البداية والنهاية [12] نقلا عن مسند الإمام أحمد بإسناده ثم قال: وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن محمد بن المباح عن أبي عبدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الحديث بتمامه ونقله القاسمي في تفسيره [13] ، ثم قال رحمه الله تعالى في تفسيره [14] بعد إيراده هذا الحديث وبيان من أخرجه، ورواه النسائي من غير وجه عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا والله تعالى أعلم.
قلت: سوف يأتي النقل عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى من تاريخه الكبير في ترجمة أيوب بن خالد ما أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى.(22/278)
وعزى الإمام السيوطي في الدر المنثور [15] هذا الحديث إلى الحافظ أحمد بن موسى ابن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410 في تفسيره فقط، ولم أدر عن صنيعه هذا هنا في التفسير ربما خاف رحمه الله تعالى من تعارض هذا الحديث مع ظاهر القرآن الكريم في حالة عزوه إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده والإمام البيهقي في الأسماء والصفات والنسائي في سننه، أو لم يطلع على تخريجه كاملا والعلم عند الله تعالى، مع أنه رحمه الله تعالى، عزاه في الجامع الصغير [16] إلى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ومسلم في صحيحه.
وعزاه صاحب الكنز [17] بعد إيرداه كلاما إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده، وهكذا قال الشيخ النابلسي في ذخائر المواريث [18] ، والإمام ابن القيم في المنار المنيف [19] ، والشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية [20] ، وتكلم عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة [21] ردا على أبي رية وإثباتا لمعنى الحديث وإسناده فأجاد وأفاد رحمه الله تعالى، فهذا هو تخريج هذا الحديث، وأما الكلام حول إسناده فهو كالآتي.
إسناد الحديث(22/279)
وأما إسناد هذا الحديث فهو إسناد من أسانيد مسلم في الصحيح كما ترى وهو على شرطه الذي اشترطه على نفسه في مقدمة صحيحه إذ قال رحمه الله تعالى [22] في مقدمته العليمة على صحيح مسلم، ومقسماً الأخبار التي يخرجها في صحيحه وهي ثلاثة أنواع "فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى ما يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، وتخليط فاحش، كما عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثه، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم، وإن كانوا فيما وضعنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يحملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي الزياد وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار، ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان، والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة، لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء، ويزيد وليثاً بمنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك، للذي استفاض عندهم من صحة منصور، والأعمش، وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم وإنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء، ويزيد، وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون، وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة، وأشعت الحمراني وهما صاحبا الحسن، وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحبهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفصل، وصحة النقل، وإن كان عوف، وأشعت غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم،(22/280)
ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم، وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبى عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه يقصّر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرافع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطي كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل تخريج حديثهم كعبد الله بن مسور وأبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمر وأبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر، أو الغلط امسكنا أيضا عن حديثهم.
قلت: هذا هو النقل عن الإمام أبي الحجاج مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه وأنه لم يخالف في إخراج حديث أبي هريرة رضي الله عنه بحال من الأحوال وأنه على شرطه تماما كما نص في هذا النقل بأنه لا يخرج حديث من كان متهما بالكذب أو من كان منكرا كثير الغلط، وأما ما سواهما فإنه يخرج حديثهم للاستشهاد، والمتابعات وهكذا نقل السيوطي في تدريبه [23] عن مسلم فرواه وبهذا الإسناد الذي أنا بصدد الكلام حولهم فإنهم كلهم ثقات، إلا أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس بن جابر الأنصاري المدني الذي يروي عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة وروى عنه إسماعيل بن أمية فقد قال الحافظ في تقريبه [24] : فيه لين من الرابعة ورمز له بأنه من رجال مسلم، والترمذي، والنسائي، وقال في التهذيب [25] وذكره ابن حبان في الثقات، ورجحه الخطيب.(22/281)
قلت: صالح للمتابعات والشواهد، ويكتب حديثه، ولم يخرج له مسلم سوى هذا الحديث الواحد فقط في صحيحه، ولم يكن حديثه مخالف للثقات، كما سوف يأتي في معنى الحديث مفصلا إن شاء الله تعالى.
وقال الإمام البخاري في تاريخه الكبير [26] في ترجمة أيوب بن خالد هذا رقم 1317 وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربة يوم السبت"، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف [27] ويشبه هذا ما وقه فيه الغلط من حديث أبي هريرة: خلق الله التربة يوم السبت، وهو في صحيح مسلم ولكن الغلط في رفعه، وإنما هو قول كعب الأحبار، ثم نقل عن الإمام البخاري قوله من تاريخه الكبير الذي نقل آنفا ثم قال: وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم.
قلت: هكذا ضعف هذا الإسناد استنادا على قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى، المنقول من تاريخه الكبير، وإلى هذا التضعيف جنح الشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنيفة [28] إذ قال: وقد روى مسلم أيضا خلق الله التربة ثم ذكر الحديث، ثم قال: واتفقت الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد اهـ.(22/282)
قلت: سوف يأتي الرد على هذا عند الكلام على معنى الحديث، وقال العلامة المناوي في فيض القدير على شرحه على الجامع الصغير للسيوطي [29] . أخرجه مسلم وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه لكن اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي، وذكره ابن كثير في تفسيره، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين اهـ.
قلت: ليست هناك غرابة في معنى الحديث ولا تعارض مع نص القرآن الكريم، كما يفصل ذلك ويوضح عند الكلام على معنى الحديث، والإسناد قد تكلم عليه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وصححه كما سوف يأتي قريبا وقد صحح هذا الإسناد أيضا الإمام يحي بن معين، وابن منده، والدولابي، والثقفي كما نقله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير [30] ، وقد تكلم عليه في الأحاديث الصحيحة برقم 1833.(22/283)
وقال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات [31] : وزعم بعض أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير، وأهل التواريخ، وزعم بعضهم: أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به، ثم ساق إسناده بقوله: أخبرنا أبو عبد الله، أخبرني أبو يحي أحمد بن السمرقندي ببخارى، ثنا أبو عبد الله محمد بن نصر، حدثني محمد بن يحي، قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، خلق الله التربة يوم السبت، فقال علي: هذا حديث مدني رواه همام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، قال عليّ: وشبك إبراهيم بن أبي يحي، وقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد، وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع، وقال لي، شبك بيدي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال لي: "خلق الله الأرض يوم السبت" فذكر الحديث، قال لي علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى.(22/284)
قلت هكذا علل ابن المديني رحمه الله تعالى، إسناد هذا الحديث، بقوله إنه مروي عن طريق إبراهيم بن يحي، وإبراهيم غير محتج به كما قال البخاري في التاريخ الكبير [32] ، والصغير [33] ، والضعفاء له [34] والجرح والتعديل [35] والضعفاء للنسائي [36] والمجروحين لابن حبان [37] والضعفاء للعقيلي [38] وتهذيب الكمال [39] ، والذهبي في الميزان [40] ، وتذكرة الحفاظ للذهبي [41] ، وتهذيب التهذيب [42] ولم يثبت هؤلاء كلهم سماع أو رواية إسماعيل بن أمية عن إبراهيم بن أبي يحي هذا، وهو متروك متهم بالكذب، وهو من رواة ابن ماجة وقد انفرد به ولم يعلل البخاري رحمه الله تعالى هذا التعليل في تاريخه الكبير، ولم يضعف علي بن عبد الله المديني رحمه الله تعالى أيوب بن خالد الأنصاري الذي روى هذا الحديث، ولقد قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى بعد نقل ابن المديني حول هذا الإسناد في الأسماء والصفات.
قلت: أي قال الإمام البيهقي رادا على ابن المديني حين قال إن إسماعيل بن أمية روى عن إبراهيم بن أبي يحي -وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروى عن بكر بن الشرود، عن إبراهيم بن أبي يحي عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف، والله أعلم اهـ.(22/285)
قلت: لم يرتضي البخاري رحمه الله تعالى قول شيخه ابن المديني لأن إسماعيل بن أمية ثقة ثبت عند المحدثين، وليس بمدلس وهو معاصر لشيخه أيوب بن خالد الأنصاري كما لا يخفى هذا الأمر على من مارس من التحقيق في علوم الحديث، وكأن البخاري رحمه الله تعالى قد أعل هذا الإسناد بأمر آخر في تاريخه، كما قال الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة [43] ، إذ قال رحمه الله تعالى: ومؤدى صنيعه أنه يحس أن أيوب أخطأ، وهذا الحس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مرّ، والثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل، ولم يخرج مسلم إلا هذا الحديث كما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي، ولم ينقل توثيقه عن أحد الأئمة إلا أن ابن حبان، ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف.
الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله "وقال بعضهم: وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبِّه ومن يأخذ عنهم، أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت.(22/286)
قلت: هذا الوجه الثالث الذي ذكره رحمه الله تعالى كان ينبغي أن يحتفظ به على رده على الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تضعيفه لأيوب بن خالد الأنصاري وسوف يأتي ذلك مفصلاً عند ذكر معنى الحديث وخلاصة القول أن علي بن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى لم يتفقا في تعليلهما على تضعيف هذا الإسناد بل لكل واحد منهما رأي متغاير في التضعيف ولو اتفقا على علة واحدة لكان لرأيهما وزن كبير وثقل عظيم، وقد رد عليهما الإمام البيهقي، والشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي رحمهما الله تعالى، وسوف يأتي كلام المعلمي مفصلاً عند معنى الحديث بعد ما يثبت إسناد الحديث بالحجة القاطعة، والبرهان الواضح، فلله دره رحمه الله تعالى.(22/287)
وأزيد على ما ذكره المعلمي حول إسناد هذا الحديث والإمام البيهقي في ذكره الزيادات الإسنادية ثم تضعيفه إياها وسكوته عليها فأقول: إن هذا الإسناد الذي تكلم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير بقوله: "وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح"إن حكمه على هذا الإسناد بالأصحية يدل على أن رواية مسلم التي صرح فيها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شاذة في نظر البخاري رحمه الله تعالى، ولكن أين هذه الرواية التي أشار إليها بالأصحية ومن أخرجها من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، والبخاري رحمه الله تعالى لم يخرجها في الجامع الصحيح ولا في غيره من الكتب، ولقد فتشت عنها كثيرا في كتب الحديث المطبوعة التي بين يديّ والمخطوطة فلم أقف عليها، وكذا في كتب التراجم والسير والتاريخ والتفسير ولم يشر إليها أحد من المحدثين، ما عدا الإمام البخاري رحمه الله تعالى، ولم يعلل الإمام علي بن عبد الله المديني هذا الإسناد بما علل به تلميذه الرشيد رحمهما الله تعالى، والبخاري يقول في حق شيخه هذا كما نقل هذا المزي في تهذيب الكمال والحافظ في التهذيب وغيرهما من أئمة الحديث: "ما اصتغرت نفسي إلا عند ابن المديني فإنه خلقه الله تعالى للحديث"والإسناد قد صححه جملة كبيرة من المحدثين كما مضى، وأما قول الإمام البيهقي في الأسماء والصفات عند رده على ابن المديني، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي إلخ: فاستعماله كلمة "زعم"رد واضح وإنكار ظاهر، وكيف لا، وقد كان إسماعيل بن أمية معاصراً لأيوب بن خالد الأنصاري، ولم يكن متهماً بالتدليس، ولا بالإرسال الخفي وليس هناك انقطاع، فيما علمت، ولو كان هناك شيء لأشار إليه البخاري في تاريخه الكبير، ولهذا صحح الإسناد جملة كبيرة من أهل الفن كما نقل عنهم، وأما الزيادات التي أشار إليها الإمام البيهقي في هذا الإسناد فإنها زيادة في(22/288)
متصل الأسانيد كما لا يخفى مع ضعفها كما أشار إليها الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، والضعف محتمل في نظره رحمه الله تعالى، وفي نظر أهل الفن خصوصا متابعة موسى بن عبيدة الربذي لإسماعيل بن أمية عن شيخه أيوب بن خالد الأنصاري، واكتفى بهذا القدر بما يتعلق بإسناد خبر أبي هريرة رضي الله عنه، وهو إسناد صحيح كما اشترطه مسلم في صحيحه كما ظهر لك في هذه الدراسة المتواضعة التي تتعلق بقولي الإمام علي بن عبد الله المديني والإمام البخاري رحمه الله تعالى وعدم اتفاقهما على علة واحدة في تضعيف الإسناد فهناك دليل قوي على تفوق جانب المصححين قوة ورجحانا وهم أكثر والله تعالى أعلم بالصواب.
(يتبع)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الآية: 54.
[2] رقم الآية: 3.
[3] رقم الآية: 7.
[4] رقم الآية: 59.
[5] رقم الآية: 4.
[6] رقم الآية: 38.
[7] رقم الآية: 4.
[8] مسند الإمام أحمد بن حنبل: 327/2.
[9] تاريخ الأمم والملوك: 23/1.
[10] الأسماء والصفات: 383-384.
[11] تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: 133/10.
[12] البداية والنهاية: 71/1.
[13] تفسير القاسمي: 27/7.
[14] تفسير القاسمي: 178/3.
[15] الدر المنثور: 91/3.
[16] الجامع الصغير: 447-448/3.
[17] كنز العمال: 127/6.
[18] ذخائر المواريث: 20/4.
[19] المنار المنيف: ص 84، فصل 19.
[20] الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 429/2.
[21] الأنوار الكاشفة: ص 189.
[22] مقدمة صحيح مسلم: 50-60.
[23] تدريب الراوي: ص 45.
[24] تقريب التهذيب: 89/1.
[25] تهذيب التهذيب: 401/1.
[26] التاريخ الكبير: 1/1/413.
[27] المنار المنيف: ص 84، فصل 19.(22/289)
[28] الجواهر المضية في طبقات الحنيفة:429/2.
[29] فيض القدير: ج 3 ص 447-448.
[30] صحيح الجامع الصغير: 3230/3.
[31] الأسماء والصفات: 383-384.
[32] التاريخ الكبير: 1/1/223.
[33] التاريخ الصغير: 213.
[34] الضعفاء: ص 3.
[35] الجرح والتعديل: 1/1/125.
[36] الضعفاء: ص 3.
[37] المجروحين: 92/1.
[38] الضعفاء ورقة 13.
[39] تهذيب الكمال: 1/65.
[40] ميزان الاعتدال: 57/1.
[41] تذكرة الحفاظ: 246/1.
[42] تهذيب التهذيب: 158/1.
[43] الأنوار الكاشفة: ص 189.(22/290)
اعتماد مخطط جامعة أم القرى
علمت "الندوة"أنه قد اعتمد في ميزانية هذا العام المخطط العام لجامعة أم القرى وذلك باعتماد تصاميم المخطط العام للمدينة الجامعية الذي يشتمل على جميع منشآت الجامعة من كليات حالية وحديثة وهي كلية الشريعة والدراسات الإسلامية وكلية التربية ومعهد اللغة العربية والكليات الجديدة والمراكز العلمية بالجامعة وجميع ما يستلزم الجامعة من خدمات.
"الندوة"
أحدث كتاب عن الإسلام في الأسواق الفرنسية
صدر في باريس مؤخرا كتاب بعنوان "سحر الإسلام"وهو للكاتب الفرنسي الأشهر "مكسيم رودينسون" الذي صدر له قبل ذلك كتاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أما موضوع الكتاب الذي يعتبر أحدث ما صدر عن الإسلام من كتب في الأسواق الفرنسية: فهو تأثير الإسلام على الغرب، لاسيما في القرن التاسع عشر، ويتناول الكاتب بالعرض والتحليل آراء مجموعة من المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام، واعتبروه "القوة الدافعة"للتقدم الإنساني المنشود.
"المدينة"
سياسيون يابانيون يعتنقون الإسلام من بينهم وزير سابق
في نبأ من طوكيو أن اثني عشر سياسيا يابانيا قد اعتنقوا الإسلام بعد دراسة متأنية واطلاع واسع ومن بينهم "محمد يوشير كوميانا"عضو الحزب الديمقراطي والوزير السابق للبرق والبريد والهاتف ورشيد كاكوندو عضو الحزب الاشتراكي الديموقراطي، ومستشار العلاقات الخارجية بالمؤتمر الإسلامي الياباني.
وعبد الملك ايتيش عضو الحزب الديمقراطي الحر، ورئيس اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية، بالإضافة إلى تسعة أعضاء آخرين بالمجلس المحلي للعاصمة اليابانية.
15 شخصا يشهرون إسلامهم أمس بجدة(22/291)
شهدت محاكم جدة الشرعية ظهر يوم الاثنين 10/5 إشهار إسلام 15 شخص من كوريا والفلبين وتايلند وفرنسا من بينهم امرأة تعمل مربية وفرنسي يعمل خبيراً في علوم البحار لدى سمو الأمير مشهور بن عبد العزيز.
وقد التقى بهم الشيخ عبد العزيز العيسى رئيس محاكم جدة الذي رحب بهم وتناقش معهم عن الأمور الدينية عن طريق مترجم المحكمة وقد نطقوا جميعاً بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والإيمان بالله ورسوله وأن الجنة حق والنار حق.
وتحدثوا أمام فضيلته عن رغبتهم وعزمهم الأكيد في التمسك واتباع تعاليم الدين الإسلامي عن حب ورغبة والالتزام بأركانه الخمسة واتباع ما أمر الله به ورسوله واجتناب ما نهى عنه.
وقد عبر المسلمون الجدد "للمدينة"بعد تسجيل اعتناقهم للإسلام شرعاً بأنهم سعداء ومسرورون للغاية في هذه الساعة وأن اعتناقهم للإسلام تم بعد تأثرهم كثيراً بالمسلمين في المملكة وتمنوا أن يمن الله على إخوانهم الآخرين بالهداية إلى اعتناق هذا الدين ليتذوقوا حلاوة الإيمان وينعموا بما يتوفر في ظل الشريعة الإسلامية السمحة.
"المدينة 11/5/1401 هـ"
مخطط سوفيتي من أجل إضعاف الإسلام بالجمهوريات الإسلامية الآسيوية..!!
تقرير خطير لمراسل وكالة الأنباء الفرنسية في (طشقند) جاء فيه:(22/292)
إن مخاوف الاتحاد السوفيتي تتضاعف بسبب الزيادة المذهلة لعدد المسلمين في الجمهوريات الإسلامية بآسية الوسطى، وهي أعلى نسبة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي، كما ترجع إلى تمسك هذه الجمهوريات بالدين الإسلامي حتى الآن وأن الاتحاد السوفيتي حاول منذ قيام الثورة الشيوعية العمل على إبادة الإسلام والمسلمين، فقد تناقص عدد المساجد من خمسة وعشرين ألف إلى أربعمائة وخمسين مسجداً فقط، أبقى عليها لخداع المسلمين عن حقيقته المعادية للأديان، أما المدارس الإسلامية فهي في طريقها إلى الانقراض، وكذلك المطبوعات الإسلامية، خاصة القرآن الكريم، فهي نادرة الوجود.
الإسلام والتعريب جنبا إلى جنب في الجزائر
في نبأ لصحيفة المجاهد الجزائرية: أن السيد عبد الرحمن شيبان "وزير الشؤون الدينية" قد وجه نداء قويا من أجل تقوية برامج التعليم الإسلامي في الجزائر، وقال أن بلاده تواجه "أزمة هوية"منذ الاستقلال، لم يستطع حلها: الشعور القومي، ولا عملية التعريب، وقال: أن فكرة التعريب والإسلام قد برزتا جنبا إلى جنب.. كوجهين متلازمين لحقيقة واحدة، ولكن ثمة أمثلة تظهر أن التعريب شكل غطاء للتخلي عن المضمون الإسلامي، ولابد للتأكيد، أكثر من أي وقت مضى، أن لا مكان في الجزائر للتعريب الخالي من الإسلام.
ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة البولندية(22/293)
قام أحد الأساتذة بمعهد الدراسات التابع لأكاديمية العلوم البولندية لأول مرة بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة البولندية، وقد استغرقت هذه الترجمة خمسة وثلاثين عاما، وجدير بالذكر أن المسلمين البولنديين يصل عددهم إلى بضعة آلاف ينتمون إلى أصول تركية وتتارية، ومعظمهم يقيم في (وارسو) العاصمة، وقريتين أخريين في منطقة (بلاي ستوك) وهم حريصون أشد الحرص على دينهم ويقوم الإمام الشيخ (محمود طه زوق) بإصدار نشرة دورية بعنوان (الإسلام) ، وبينما كان عدد مساجدهم قبل الحرب العالمية "ستة عشر مسجدا"أصبح عددها الآن مسجدين فقط (!!) .
"المدينة 19/6/1401 هـ"
المسلمون في إيطاليا يشترون مقر السفارة البريطانية
يتمتع المسلمون في أوربا وفي إيطاليا بوجه خاص بكثير من الحرية لتأدية شعائر الإسلام، خصوصا إذا قورنت هذه الحرية ببعض البلاد الآسيوية التي تحارب الإسلام والمسلمين علنا كالفلبين وبورما.. فالجاليات الإسلامية متضامنة ويعملون بإخلاص في إيطاليا، وتضمهم الجمعية الثقافية الإسلامية التابعة للمركز الإسلامي، تحت إشراف سفراء الدول الإسلامية.
وقد نجحت جهود المركز الإسلامي في شراء قصر عظيم كان مقراً للسفارة البريطانية لدى الفاتيكان، والقصر مكون من ثلاثة طوابق، يحيط به حديقة غناء، تبلغ مساحته (خمسة آلاف متر مربع) بمجهود سفير المملكة العربية السعودية (سعادة الأستاذ خالد ناصر التركي) الذي يبذل جهدا ملموسا في إرساء دعائم المركز الإسلامي بإيطاليا مع زملائه من سفراء الدول الإسلامية المتعاونة جزاهم الله.
"المدينة 28/6/1401 هـ"
كمبيوتر باللغة العربية
نجح علماء ومهندسو معهد الأبحاث بجامعة البترول والمعادن بالظهران بالتعاون مع أخصائيين من جامعة مونتريال الكندية في تطوير جهاز (نهائي الكومبيوتر) يمكن الاستفادة منه في مجال التطبيقات الإدارية والمكتبية والتعليمية والعملية.(22/294)
ويقضي هذا التطوير باستخدام اللغة العربية أو أي لغة لاتينية الأصل في هذا الجهاز عن طريق إدخال المعلومات وتنسيقها والاستفادة منها في البرامج والقدرات المتنوعة للكومبيوتر.
ويتكون الجهاز النهائي للكومبيوتر من شاشة تليفزيونية ولوحة أصابع يمكن بواسطتها إدخال المعلومات بالجهاز الذي يمثل المرحلة الأولى من مشروع الكومبيوتر العربي الذي بدأ منذ عدة شهور بهدف تطوير حاسب آلي متكامل باللغة العربية للاستفادة من قدراته المتنوعة.
ويعتبر جهاز نهائي الكومبيوتر الأول من نوعه من حيث بنائه على حسب النظام المقترح من قبل اللجنة المنبثقة عن الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس.
"البلاغ"
لتقوية الغربيين وإضعاف المسلمين
"ولعل مما يلفت النظر أن الغرب يعمل جاهداً على زيادة النسل لا على تحديده، مع أنه هو الذي ينذر بالخطر ويساعد الدول الإسلامية على تحديد النسل. فحكومة اليونان قررت صرف مكافأة شهرية ثابتة لكل أبوين عن الطفل الثالث وما بعده، كما جاء في جريدة "كالاجار"بتاريخ 15/6/1975، وفي روسيا أصدر مجلس السوفيت الأعلى عام 1972 قراراً بإهداء ميدالية فخر الأمومة إلى الأمهات المنجبات لأكبر عدد ممكن من الأطفال. كما جاء في جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 16/3/1972، كما أنهم منعوا تداول الحبوب المانعة للحمل وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل. وفي إسبانيا أهدى الجنرال فرانكو قديماً جائزة الأب المثالي إلى فلاح إسباني أنجب 21 طفلاً كما جاء بصحيفة الجمهورية القاهرية بتاريخ 2/5/1973. وألمانيا الغربية تدفع 108 دولار للطفل الثالث و540 للرابع. وفرنسا ودول الغرب تدفع مرتباً ثابتاً 830 دولاراً لكل طفل"
"الدعوة القاهرية"
تعليق المجلة(22/295)
هكذا يشجع الغرب شعوبه على زيادة النسل بمختلف المغريات، ولكنه لا ينفك يبذل المستحيل لإقناع حكام المسلمين بتخفيض نسلهم ... فلم هذا التفريق بين الفريقين؟ ولم يكون الانفجار السكاني بين المسلمين وحدهم؟! ...
مخططات خطيرة
كتبت مجلة اليمامة تقول:
"إن شنودة الثالث بابا النصارى في مصر أصدر كتاباً يطمئن فيه الأقباط على أن مصر ستعود قبطية مثلما عادت الأندلس مسيحية بعد ثمانية قرون من الفتح الإسلامي".
ويقتضي لذلك الاستيلاء على مصر وتحويلها إلى دولة نصرانية كاملة ولتبدأ بدولة صغيرة في الوجه القبلي "جنوب مصر"ولتكن عاصمتها أسيوط مؤقتاً ولا بأس أن تتحول مصر إلى لبنان أخرى أو فلبين مادام النصارى سيجدون تأييداً من أمريكا بالذات وخاصة وأن شنودة الثالث استقبل هناك استقبال رؤساء الدول تماماً".
تعليق المجلة: لا ندري من أين استقت اليمامة هذا الخبر وإن كانت القرائن القائمة في مصر كافية للتوكيد على أن مثل هذا المخطط الشيطاني ليس بعيداً عن تفكير الباب شنودة، الذي سبق أن نشرت مجلة الجامعة الإسلامية خلاصة وافية عن تقريره الذي ألقاه في اجتماع كنسي مغلق، وفيه يحض أتباعه على الإكثار من النسل، والعمل الجاد للاستيلاء على زمام السلطة في مصر كلها، مبشراً إياهم بالعون الموعود من أميركة وإسرائيل.
ولكن.. بقي أن تنتبه الحكومة المصرية إلى هذه المؤامرات بقوة وحزم لتفوت على أعداء مصر والإسلام أغراضهم الخبيثة.
محمد المجذوب
عضو التحرير
الاقتصاد الإسلامي(22/296)
عقد المؤتمر العلمي الثامن للجمعية المصرية للإدارة المالية في الفترة من 14-16 أبريل سنة 1981 بفندق السلام، واستغرقت أعماله خمس جلسات متصلة، حضرها نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية ووزير المالية والاقتصاد ووزير الأوقاف ونقيب التجار وحشد كبير من وكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات والمؤسسات والشركات وأساتذة الجامعات، لمناقشة موضوع (العدالة الاجتماعية في ضوء السياسات المالية والاقتصادية.. في مصر) .
وكانت أولى توصيات المؤتمر بالنص التالي:
"إن النظام الإسلامي وهو يوائم بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع في مجالات الحرية والعمل والتملك والتوزيع.. نظام متكامل يضع أساس المجتمع بكل مقوماته الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم فإن تحقيق التوازن الاجتماعي بين الفرد والمجموع من ناحية، وبين الأفراد من ناحية أخرى يحقق التكامل الاجتماعي ومن ثم العدالة الاجتماعية بتحقيق حد الكفاية للإنسان والذي لا يقتصر على كفالة الضروريات وإنما يمتد ليشمل طيبات الحياة الأخرى.
إن مرونة النظام الإسلامي وواقعيته وشموله تجعله نموذجاً إنمائياً شاملاً قابلاً للتطبيق في كل زمان ومكان.. وفي مصر يتطلب الأمر تهيئة المجتمع تشريعياً للأخذ بهذا النموذج، وكفالة تطبيقه كاملاً أمينا".
محنة المسلمين في أندونيسية
قرر وزير التربية الإندونيسي توزيع 76 كتاباً نصرانياً ضمن مشروع المكتبات الصغيرة للمدراس المتوسطة.. وعندما سئل الوزير عن سبب عدم وضعه كتاباً إسلامياً واحداً في هذه المكتبات. أجاب بأن هذه هي الطريقة الأمريكية.
وفي خبر آخر قدمه يوسف هاشم أحد أعضاء البرلمان من حزب الاتحاد الإسلامي بأن 42 شخصاً حكمت عليهم الحكومة الأندونيسية بالإعدام في جاوى الشرقية بتهمة تعاطي السحر.. جميعهم من الذين يعلمون القرآن أطفال المسلمين في المساجد والمدارس.
"النور المغربية"(22/297)
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ودورها في نشر الدعوة الإسلامية في العالم
"ملخص لبحث قدم للمؤتمر السادس للجامعة الإسلامية لعموم الهند -
حيدر آباد: ربيع الآخر 1401هـ"
"ملخص لبحث قدم للمؤتمر السادس للجامعة الإسلامية لعموم الهند -حيدر آباد: ربيع الآخر 1401هـ"
للدكتور محي الدين الألواني
بالجامعة الإسلامية
إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مؤسسة إسلامية تتميز بميزات لم تجتمع لمؤسسة أخرى على وجه الأرض حتى الآن، فقد اجتمع لها إلى سمو الهدف وعالمية الغاية شرف المكان حيث تقوم في مهبط الوحي ودار الهجرة وعاصمة الإسلام الأولى. ويوفد إليها أبناء العالم الإسلامي من كل فج عميق للاغتراف من مناهلها الفياضة كما توفد الدعاة والعلماء المتخصصين في العلوم الإسلامية واللغة العربية إلى بلاد عديدة.
ومما زادها مهابة وساعدها على قفزات إلى الأمام في سبيل تحقيق أهدافها النبيلة أن رئيسها الفخري هو جلالة الملك خالد بن عبد العزيز ورئيسها الأعلى صاحب السمو الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد. وأما المجلس الأعلى للجامعة فيتألف من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي من مختلف أنحاء العالم.
وفي هذه المناسبة التي تحتفل فيها الجامعة الإسلامية التي هي إحدى المؤسسات الإسلامية الكبرى في هذا العصر، أرى من المناسب أن نقوم بتطواف سريع حول "الجامعة الإسلامية"بالمدينة المنور التي لها علاقات عديدة ووطيدة بالجامعات والمعاهد والمؤسسات الإسلامية في الهند وعلمائها، وتستقبل كل عام طلاباً جدداً من أبنائها، كما توفد إليها وفودها إليها الخاصة حينا فآخر لتعرف أحوال المسلمين فيها واحتياجاتهم.(22/298)
أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1381 هـ الموافق 1961م لأبناء العالم الإسلامي كله ليتفقهوا في دين الله ويتضلعوا في علوم الشريعة واللغة العربية ثم يعودوا إلى بلادهم حاملين مشاعل الهدى يدعون الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، وينقلون إليهم نور العلم والعرفان، ومنذ إنشائها تلقى عناية خاصة من حكومة المملكة العربية السعودية نظراً لعالميتها وشمول نفعها وشرف مكانها. وتتدرج الجامعة منذ إنشائها في مجال التقدم والازدهار كأكبر مصدر للإشعاع الروحي وأزهى مشعل للهداية.
ويمكن تلخيص الأهداف التي حددها نظام الجامعة فيما يلي:
أولا- تعليم الطلاب الذين يوفدون إليها من شتى أنحاء العالم اللغة العربية والعلوم الإسلامية متزودين من سائر العلوم والمعارف التي تؤهلهم للقيام بمهمة الدعوة إلى الإسلام وتنوير المسلمين في شؤون دينهم ودنياهم على هدى الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.
وثانيا- نشر رسالة الإسلام بين الشعوب المختلفة وغرس روح الدين بين الأفراد والجماعات وتطبيق الشريعة الإسلامية الغراء في حياة الفرد والجماعة وتعميق هذه الروح بكل الوسائل الممكنة.
وثالثا- إعداد الدعاة المخلصين في مجال تبليغ رسالة الإسلام إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم والإرشاد والقدوة الحسنة.
وأنشئت في الجامعة كلية خاصة باسم كلية الدعوة وأصول الدين لتحقيق هذا الهدف المنشود على وجه أتم وصورة أشمل.
ورابعا- تجميع التراث الإسلامي والعناية بتحقيقه ونشره. ولهذا الغرض تهتم الجامعة بإقامة الروابط العلمية والثقافية بالجامعات والهيئات العلمية في مختلف بلدان العالم.(22/299)
وخامسا- القيام بإعداد البحوث العلمية في مجالات العلوم الإسلامية والعربية بصفة خاصة وسائر العلوم والمعارف التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي بصفة عامة ونشرها وترجمتها، حتى تعم الفائدة وينتشر الانتفاع بها. وبفضل هذه الأهداف التي تعمل الجامعة من أجلها منذ إنشائها قد صارت فعلا مؤسسة إسلامية عالمية متكاملة من حيث الغاية والتطبيق العلمي وإلى جانب الكليات والمعاهد ومجالسها الخاصة أنشئت في الجامعة الإسلامية مجالس متخصصة وعديدة ومنها: مجلس شؤون الدعوة الإسلامية ويتبعه مركز شؤون الدعوة، والمجلس العلمي وتتبعه إدارة البحث العلمي، ومجلس شؤون المكتبات.
وتوفد الجامعة وفودا إلى مختلف البلاد لزيارة المكتبات العلمية والتاريخية فيها وتتبع المخطوطات فيها وتصويرها وتجميع فهارسها والتزويد بها مكتبة الجامعة المركزية وفي العطلة الصيفية الماضية أوفدت الجامعة وفدا إلى الهند لهذا الغرض، وفي هذا العام أيضا يقوم وفد يتألف من عدد من أساتذة الجامعة وطلابها بزيارة للهند لمشاهدة معالمها وآثارها الإسلامية وتوطيد أواصر التعاون والتفاهم مع المراكز الثقافية ودور العلم في أنحائها.
وفيما يلي جولة سريعة حول كليات الجامعة الإسلامية ومعاهدها المختلفة:
1- كلية الشريعة: وهي تعتني بدراسة الفقه وأصوله مع دراسات من التفسير والحديث والتوحيد وفقه اللغة العربية والعلوم الاجتماعية والديانات والمذاهب.
2- كلية الدعوة وأصول الدين: وتهتم بدراسة التوحيد والتفسير والحديث وبصفة خاصة طرق الدعوة الإسلامية إلى جانب العلوم الاجتماعية والديانات والمذاهب والفرق والملل والنحل.
3- كلية القرآن: وتوجه عناية خاصة نحو دراسة علوم القرآن الكريم والقراءات والتفسير وإعجاز القرآن، إلى جانب دراسات التوحيد والفقه والحديث ومناهج البحث العلمي.(22/300)
4- كلية اللغة العربية: وهي تعنى بدراسة علوم اللغة العربية والتاريخ وطرق البحث العلمي إلى جانب سائر العلوم الإسلامية.
5- كلية الحديث: وهي تقوم بتدريس علوم السنة النبوية والإسلام والمذاهب المعاصرة، وطرق الدعوة والتدريس، وحاضر العام الإسلامي إلى جانب دراسات في التوحيد والتفسير وأصول الفقه، واللغة العربية، ونظام الإسلام والأديان والفرق والمذاهب.
ومدة الدراسة بكليات الجامعة الإسلامية أبع سنوات ويحصل المتخرج فيها على الشهادة العالية أي الليسانس.
6- قسم الدراسات العليا: وهو قسم مستقل عن الكليات - ويمنح القسم درجة الماجستير ودرجة الدكتوراه، وفيه الآن أربع شعب وهي: شعب التفسير، وشعبة السنة النبوية، وشعبة أصول الفقه، وشعبة الفقه.
7- شعبة اللغة العربية لغير العرب وتعنى بتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية للطلاب الوافدين إلى الجامعة الذين لا يتكلمون اللغة العربية أو لا يجيدونها حتى يتمكنوا من الدراسة والتخاطب بها، وبعد نجاح الطالب فيها يلحق بالمرحلة الدراسية المناسبة حسب مؤهلاته العلمية، وتعتبر هذه الشعبة من أهم شعب الجامعة من حيث الغاية ودورها في تعليم اللغة وعلومها لغير الناطقين بها، ومدة الدراسة فيها الآن سنتان.
8- المعهد الثانوي: ويعنى بالدراسات الإسلامية والعربية. ويلتحق به الحاصلون على شهادة المرحلة المتوسطة (الإعدادي) أو ما يعادلها. ويحصل الطالب منه الشهادة الثانوية، ومدة الدراسة فيه ثلاث سنوات.
9- معهد الدراسة المتوسطة: ويحصل الطالب منه على شهادة المرحلة المتوسطة (الإعدادي) ويعنى أيضا بالدراسات الإسلامية والعربية، ومدة الدراسة فيه ثلاث سنوات.
10- دار الحديث: وكانت مدرسة أهلية مستقلة وضمت إلى الجامعة الإسلامية عام 1384هـ. وتوجد بمكة المكرمة أيضا دار مماثلة تابعة لجامعة تتفق مع دار الحديث المدنية، في المناهج والخطط الدراسية.(22/301)
ويبلغ مجموع طلبة الجامعة في الوقت الحاضر حوالي 6 آلاف (6000) طالب من مائة دولة من مختلف قارات العالم، (أما عدد الطلاب الهنود فيها الآن فيزيد عن مائة وخمسون طالبا) . وهم موزعون بين مختلف المعاهد والكليات وقسم الدراسات العليا. ويحصل الطالب على منحة دراسية شهرية طوال العام. وفضلا عن المكافأة الشهرية يتمتع طالب الجامعة بالامتيازات التالية:
1- استقدام الطالب من بلده جوًّا على حساب الجامعة عند قبوله بها وترحيله عند تخريجه.
2- ترحيل الطلاب في العطلة الصيفية إلى بلادهم ذهابا وإيابا على حساب الجامعة كل عام تيسيرا لالتقاء الطالب بأهله وقومه.
3- تأمين السكن المؤثث دون مقابل للطلاب من داخل الحرم الجامعي أو خارجه.
4- تقديم وجبات طعام عن طريق "مطعم الجامعة"مقابل اشتراك رمزي.
5- تأمين جميع الكتب الدراسية المقررة لكل طالب بالمجان.
6- تأمين المواصلات بسيارات الجامعة (بين مقر الجامعة والمدينة المنورة) صباحا للحضور إلى الدراسة، وعند انتهائها وفي المساء وفي أيام العطل للصلاة بالمسجد النبوي الشريف.
7- صرف 1000 (ألف ريال) لكل طالب ينجح بتقدير ممتاز، من جميع سنوات الدراسة بكليات الجامعة.
8- أنشئت في الجامعة إدارة لشؤون الإشراف والتوجيه الاجتماعي تعنى بتوفير الرعاية للطلاب في حياتهم السكنية والدراسية ومعاونتهم على حل مشكلاتهم وتنمية علاقات الأخوة والمودة والتعاون فيما بينهم. وإن الجامعة الإسلامية الآن مظهر من أهم مظاهر وحدة المسلمين فإذا زرت كليات الجامعة ومعاهدها ومهاجعها تجد ملامح هذه الوحدة كأروع ما يكون حيث ترى الطلاب من مختلف الأجناس واللغات والألوان والأوطان يعيشون تحت راية الإسلام وحظيرة العلم وشعارهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله ورايتهم: العلم رحم بين أهله.(22/302)
9- يتبع الجامعة صندوق خاص لمعاونة الطلاب على مواجهة ظروف الحاجة الطارئة بتقديم المساعدات المالية.
10- تؤمن الجامعة الخدمات الطبية لجميع طلابها وأساتذتها وموظفيها مع صرف الأدوية مجانا.
وأما مستوصف الجامعة فيعمل صباح ومساء تحت إشراف نخبة من الأطباء والأخصائيين.
11- تتبع الجامعة دار للطلبة بجدة لاستقبال الطلاب الوافدين والمرتحلين يسكنون فيها حتى تنتهي معاملتهم ويغادرون جدة إلى المدينة المنورة أو إلى بلادهم كما تقوم بمعاونتهم وتيسير إجراءات سفرهم.
وتصدر الجامعة مجلة إسلامية علمية باسم "مجلة الجامعة الإسلامية"وترسل بدون مقابل إلى الهيئات والمؤسسات العلمية والإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي.
وتنظم الجامعة أيضا موسما ثقافيا يلقي فيه أساتذة الجامعة محاضرات في شتى الموضوعات العلمية الهامة.
مجالس الجامعة:
1- المجلس الأعلى للجامعة: وهو يتألف برئاسة الرئيس الأعلى للجامعة وعضوية رئيس الجامعة ونائبه والأمين العام للجامعة ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ووكيل وزارة المعارف ورئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة وأحد العمداء وثلاثة عشر عضواً من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي ومديري الجامعات وأساتذتها، على أن يكون من بينهم عشرة أعضاء من خارج المملكة يمثلون مختلف المناطق الإسلامية في العالم.
2- مجلس شؤون الدعوة الإسلامية ويتبعه مركز شؤون الدعوة الإسلامية ولجنة التأليف والترجمة.
3- المجلس العمي وتتبعه إدارة المجلس العلمي.(22/303)
4- مجلس شؤون المكتبات وتتبعه المكتبة المركزية ومكتبات الكليات. وتضم هذه المكتبات مجموعة كبيرة من الكتب والمراجع العلمية في مختلف فروع المعرفة. وتعمل المكتبة المركزية على جمع المخطوطات الإسلامية وتصويرها من شتى أنحاء العالم. ويوجد فيها قسم لتصوير المخطوطات والكتب النادرة وكذلك قسم آخر للكتب في اللغات الأجنبية.(22/304)
أخبار الجامعة
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
في أقطار مختلفة من العالم بين الشرق والغرب
نائب رئيس الجامعة الإسلامية في لقاء مع المسلمين في أقطار مختلفة من العالم بين الشرق والغرب
قام فضيلة الدكتور عبد الله الزائد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بجولة إسلامية طويلة استغرقت أكثر من شهر، وبرفقته فضيلة الشيخ/ عمر محمد فلاتة الأمين العام للجامعة وشملت كثيراً من أقطار العالم في الشرق والغرب.
وقد صرح فضيلته بأن هذه الجولة كانت رحلة استطلاعية للتعرف على أحوال الأقليات الإسلامية في كثير من بلدان العالم من جهة، ولزيارة بعض خريجي الجامعة الإسلامية في مواقع عملهم، وكانت استجابة لرغبات كثير من الجامعات والجمعيات والجماعات الإسلامية في هذه الأقطار من جهة أخرى، وقد شملت هذه الجولة كل من البرازيل والأرجنتين وألمانيا وبعض الولايات في أمريكا الشمالية ثم الهند وبنجلاديش وباكستان ونيبال.
وقد التقى فضيلته بكثير من جماعات المسلمين في كل هذه الأقطار حيث شارك في عقد الندوات الإسلامية في المركز الإسلامي وفي الجمعية الإسلامية بمدينة برازيليا عاصمة البرازيل. كما زار المركز الإسلامي في كل من الأرجنتين وواشنطن ومركز وارث الدين آية اليجا. إلى جانب لقاءات إسلامية لفضيلته في جامعة متيشجان الأمريكية وفي مركز اتحاد الطلبة المسلمين والوقف الإسلامي في مدينة إنديانا وفي جامعة بلومونكتون وفلادليفيا.(22/305)
وفي تحقيقات صحفية أجرتها مع فضيلته بعض الصحف المحلية مثل جريدة عكاظ وجريدة البلاد وجريدة الجزيرة وجريدة المدينة، أشاد فضيلته بنشاط الجماعات الإسلامية العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية وقوة فعاليتها وتأثيرها في مجال الدعوة الإسلامية، وعلل فضيلته ذلك بما تتمتع به من حرية في مجال ممارسة الشعائر لدينية والقيام بالدعوة الإسلامية، وأيضا ما تتمتع به الجاليات الإسلامية في كل من أمريكا وبعض دول أوربا من مستوى ثقافي واجتماعي رفيع يجعلها في مركز حيوي وفعال وتصبح معه قادرة على النهوض بأعباء الدعوة إلى الإسلام وتعريف العالم بسماحة هذا الدين العظيم القادر على تحقيق سعادة المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها وانتشار العدل والمساواة بين الناس.
ودعا فضيلته كل المسلمين إلى القيام بواجبهم نحو إخوانهم المسلمين في كل مكان والاهتمام بأحوالهم عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" وأوضح أن واجب الدولة الإسلامية هو العناية بتعريف الأقليات الإسلامية بالعقيدة الصحيحة وبسماحة الشريعة الإسلامية السمحاء، ولاسيما وأن الدول الاستعمارية والإلحادية تساعد -في غير مواربة ولا خفاء ولا استحياء- أصحاب الديانات الباطلة والمذاهب الفاسدة بلا حدود.
وفي منطقة الشرق الإسلامي شارك فضيلته في احتفالات مؤتمر الجماعة الإسلامية في مدينة حيدر آباد، كما افتتح الموسم الثقافي الذي أقامته الجامعة السلفية ببنارس، كما أنه قام بزيارة لجمهورية بنجلادش اطلع خلالها على المدارس والجمعيات الإسلامية القائمة هناك وعلى أحوال القائمين عليها كما التقى ببعض الدعاة من خريجي الجامعة الإسلامية، وأكد فضيلته أن الجامعة الإسلامية ستجعل من اهتماماتها في المستقبل تلبية الاحتياجات العلمية والتطبيقية للأقليات الإسلامية التي يضيق عليها في فرص العمل مما يوجب تكوين ذوي الخبرات العملية والمهنية.(22/306)
وقائع الدورة الحادية عشر للمجلس الأعلى
عقد المجلس الأعلى اجتماعاته للدورة الحادية عشرة التي بدأت صباح يوم السبت الموافق 22/6/1401 هـ. ونيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة ترأس معالي وزير التعليم العالي الشيخ حسن آل الشيخ أعمال المجلس الأعلى في هذه الدورة.
وقد بدأت الجلسة الافتتاحية بتلاوة من آيات الذكر الحكيم، وقدم فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام للجامعة لأعمال هذه الدورة بكلمة ترحيب بمعالي الوزير وأصحاب السماحة والفضيلة الأعضاء، ثم ألقى معالي الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي كلمة نيابة عن سمو ولي العهد..
كلمة معالي وزير التعليم العالي الشيخ حسن آل الشيخ في المجلس الأعلى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه صلاة دائمة إلى يوم الدين، وبعد:
فيسعدني ويشرفني أن أشارك في افتتاح هذه الدورة للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية نيابة عن صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء الذي كان شديد الحرص على حضور هذه الدورة وترؤسها لولا ما تعلمون ونعلم من التزاماته ومسئولياته أعانه الله ووفقه.(22/307)
والجامعة الإسلامية أيها الإخوة حينما أقدمت المملكة العربية السعودية على إنشائها بوحي من شعورها بمسئوليتها العظمى عن دعوة الإسلام وعن كل مسلم يؤمن بالله، ويتجه إليه في صلاته وتلاوته إنما كانت بما فعلت تمارس واجبها المتعين، ورسالتها الكبرى.. وجدت فيما وجدت حرباً شرسة لا تعرف الهدوء ضد رسالة الإسلام في الأرض، وزيفاً وضلالاً يأخذ بالمسالك ويعرقل المساعي، وظلماً لا حد له ينزله أعداء الله والمسلمين في كل مكان -لا لذنب إلا لأنهم قالوا آمنا بالله.. وجموع تنتشر في كل مكان تنتسب إلى الإسلام لكنها تجهل حقائقه وتدخل عليه ما ليس منه.. وجهود مجرمة حاقدة تعمل على تفريق شمل المسلمين، وحرمانهم من أدنى حقوقهم وإبعادهم عما هم بحاجة إليه.. وهال ولاة الأمر في هذه البلاد التي قدسها الله وشرفها- هالهم ما وجدوا وما سمعوا وما شاهدوا.. فكانت الفكرة الرائعة الموفقة بإذن الله، وبدأت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مسيرتها.. وفتحت ذراعيها للمئات من شباب الإسلام ليتفقهوا في دينه، ويستزيدوا من نوره وإشراقه.. ثم دفعت بهم من حيث أتوا ليمارسوا دورهم الطليعي في شرح دين الله والدعوة إليه، والدفاع عنه.. ولم تكتف المملكة بما فعلت لكنها أخذت على عاتقها عون بعض الدعاة ممن أكملوا دراستهم ليستطيعوا الاهتمام والتفرغ لنقل ما علموا إلى من لم يعلم.. وأخذت على عاتقها مع ذلك دعم هذه الجامعة، وتدعيم جهازيها الإداري والعلمي، وتمكنيها من تحقيق المزيد من الانطلاقة المرجوة لها ومنها.. وولاة الأمر في ذلك إنما ينطلقون من دورهم الطبيعي كأنصار لدين الله، ومن مركز القيادة الإسلامية التي منحها الله لهذه الديار يوم أن اختارها موضعاً لبيته، ومثوى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.. ولن تتردد المملكة عن موالاة تأييدها ودعمها لهذه الجامعة الفريدة من نوعها لكنها تؤمِّل أن يعي الدارسون بها دورها ودورهم.. وأن يستشعروا عمق مسئولياتهم،(22/308)
وضراوة الحرب التي تواجههم، والوسيلة التي تدنيهم من أهدافهم، جاعلين من الحكمة والبصيرة والموعظة الحسنة سبيلهم في دعوتهم اقتداء برسولنا عليه الصلاة والسلام، وسعياً وراء إبلاغ ما يدعون إليه.. ومرحباً بالأخوة أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الأعلى للجامعة وبكل العاملين بها، ودعاء إلى الله أن يجزل مثوبته لكل من عمل في سبيله.
والسلام عليكم ورحمة الله..
كلمة فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة في المجلس الأعلى
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على محمد عبد الله ورسوله نبينا وإمامنا خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن اهتدى بهديه واقتدى بسنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
صاحب المعالي وزير التعليم العالي.
الرئيس المناب للدورة الحادية عشرة للمجلس الأعلى للجامعة.
أصحاب السماحة والمعالي.
أصحاب الفضيلة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ـ أما بعد:
فإني أرحب بكم في بداية أعمال هذه الدورة للمجلس الأعلى، وأدعو الله عز وجل أن يوفق خطانا على طريق الحق والهدى إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم.
وأنه لمن الموافقات الطيبة أن تنعقد هذه الدورة في الوقت الذي تجددت فيه آمال المسلمين في البعث الإسلامي الجديد مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري، ومع صدور قرارات مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي انعقد في بيت الله الحرام بمكة المكرمة، تلك القرارات التي اعتبرها العالم خطوات إيجابية نحو تحقيق الوحدة الإسلامية الشاملة ولتمكين المسلمين من الوقوف بعزة وقوة أمام التحديات العالمية حتى يعودوا قوة فعالة ومؤثرة في مصير العالم وقضاياه.(22/309)
إن تجدد هذه الآمال في تحقيق وحدة المسلمين لتزداد معها حاجتهم إلى العلم والعمل بالإسلام عقيدة وشريعة وآداباً، وأخلاقاً، وإنه مع حاجة الناس إلى العلم بالإسلام تزداد الحاجة إلى تدعيم هذه الجامعة الإسلامية ومثيلاتها في العالم، وهذا يضاعف مسؤوليات المسئولين عن إدارة هذه الجامعة ويفرض عليهم أن يبذلوا كل جهودهم وطاقاتهم ليجعلوا من هذه الجامعة أداة فعالة لتقديم الإسلام إلى الناس في كل مكان، ويفرض عليهم السعي الدائب الحثيث ـ إلى تطوير أساليبها، وطرقها في الإدارة والنظم وفي التربية والتعليم والتوجيه حتى تتمكن من تخريج الدعاة والقضاة والمربين القادرين على تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافة في كل مكان.
وإن الجامعة الإسلامية -وهي تستمد من الله عز وجل القوة والعون على أداء رسالتها السامية- لتحمده سبحانه وتعالى أن قيض لهذه البلاد قادتها الساهرين على رعاية الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الجامعة لتجد من صاحب الجلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز حفظه الله، ومن ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، ومن النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ومن حكومة صاحب الجلالة الملك كل دعم مادي ومعنوي يمكنها من السير قدما في العمل على كل ما من شأنه الوفاء بآمال المسلمين وتطلعاتهم نحو هذه الجامعة التي هي بحق جامعة كل المسلمين -كما قال صاحب السمو الملكي الأمير فهد في كلمته التي ألقاها سموه في الدورة السابقة للمجلس.(22/310)
ولقد لمست في الجولة التي قمت بها في كثير من أنحاء العالم في الشهر الماضي ومن خلال اللقاءات التي تمت مع كل العاملين في ميدان العمل الإسلامي للأقليات الإسلامية وللدول الإسلامية أن للمسلمين في كل مكان آمالا جساماً في المملكة العربية السعودية، وأن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة هي أحد المعالم البارزة التي أقامتها حكومة جلالة الملك لتجسد هذه الآمال إلى واقع ملموس وحقيقة ماثلة للعيان، وهذا ما يضاعف قوة إحساسنا بالمسئولية نحو هؤلاء المسلمين الذين تشتد حاجتهم إلى من يجلي لهم أصول الدين الإسلامي الحنيف ويضع أيديهم على مصادره ومنابعه، ويوضح للناس كافة قدرة الإسلام على قيادة الحياة الإنسانية وريادتها إلى حاضر أحسن ومستقبل أسعد.
أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة أعضاء المجلس الأعلى.
إن الجامعة لكبيرة الأمل في أن تستفيد من خبراتكم المتنوعة في مجال التربية والتعليم الجامعي والإدارة، وفي مجال الدعوة الإسلامية وفي مجال تحويل المبادئ السامية إلى سلوك عملي، وإنه ليطيب لنا القول بأن آراءكم السديدة إن شاء الله التي ستقدمونها في هذه الدورة كما قدمتموها في الدورات السابقة ستكون لنا بمثابة المصابيح الكاشفة المضيئة أمامنا لكل قرار من شأنه أن يقدم خدمة ونفعاً لأبناء المسلمين، وإننا لعلى يقين بأن مناقشاتكم في هذه الدورة ستثري أعمال المجلس الأعلى وستقدم أفكاراً بناءة ورائدة ستوضع في الاعتبار عند كل تطور منشود إن شاء الله تعالى، وإن الجامعة لَتَتَقَدَّمُ إليكم بمشروعاتها ومرئياتها للمستقبل وهي تتطلع بالأمل في الله أن تتجسد طموحاتها إلى واقع حي، وهي واثقة أنكم لن تضنوا عليها بجهد، ولن تحول مشاغلكم الكبيرة، ومسئولياتكم الجسيمة في ميادين أعمالكم دون بذل أقصى الطاقة في سبيل التعاون مع الجامعة نهوضاً بها لأداء مهامها، وارتقاء دائباً إلى الأفضل والأحسن إن شاء الله.(22/311)
وإننا لا نستطيع أن نوفي لكم واجب الشكر والعرفان على ما تقدمونه للجامعة من خدمات وما تبذلونه في سبيلها من جهود وعلى ما تلاقونه في السفر والارتحال من متاعب ومشاق ونضرع إلى الله أن يجزل ثوابكم ويحسن جزاءكم، فهو وحده القدير على أن يوفيكم جزاء أعمالكم وجهودكم في سبيله.
وفي ختام كلمتي أتوجه باسمكم بالتحية والتقدير لصاحب المعالي الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي والرئيس الأعلى للجامعات الذي شرفنا بحضوره، وبرئاسة هذه الدورة نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية حفظه الله.
وأستأذنكم أن يرفع المجلس باسمكم التحية والتقدير إلى كل من جلالة الملك وولي عهده الأمير فهد والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وإلى الحكومة الرشيدة لما يقدمونه للجامعة من تدعيم يمكنها من أداء رسالتها التي قامت من أجلها وهي تبليغ رسالة الإسلام.
وإني لأتوجه بالتحية والتقدير والشكر لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد على ما يوليه للجامعة الإسلامية من اهتمام ورعاية، وعلى ما يمدها به من إرشاد وتوجيه له عظيم الأثر فيما تقوم به من مهام وما تضطلع به من مسئوليات.
وأخيراً وليس آخراً أدعو لكم بالتوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
ثم ألقى فضيلة الدكتور محمد أديب الصالح كلمة الأعضاء.
وبعد إلقاء هذه الكلمات أغلقت الجلسات واستمرت صباحية ومسائية خلال يومي السبت والأحد 22، 23/6/1401هـ، وفي الجلسة الختامية لأعمال هذه الدورة ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة جامعة نصحاً لعلماء المسلمين وقادتهم وعامتهم وطلاب العلم والدعاة.(22/312)
كما ألقى فضيلة الدكتور الزايد كلمة بهذه المناسبة شكر فيها الأعضاء على ما أبدوه من آراء وأفكار وما قاموا به من جهود في أعمال هذه الدورة.
قرارات وتوصيات المجلس الأعلى في الدورة الحادية عشرة
وفي الجلسة الختامية أعلنت أهم القرارات والتوصيات التي اتخذها المجلس في هذه الدورة منها:
1- الموافقة على لائحة الابتعاث للدراسة خارج المملكة للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في التخصصات التي لا توجد في جامعات المملكة.
2- كما قرر المجلس تعديل بعض مواد اللائحة التنفيذية للجامعة لإعطاء بعض الصلاحيات لعمادة شئون الطلاب.
3- كما نظر المجلس التقرير السنوي للجامعة للعام 99/1400هـ، ومشروع ميزانية الجامعة للعام المالي القادم 1401/1402 هـ وأقر ما جاء فيهما.
4- كما وافق على مساعدة بعض الطلاب المتفوقين الذين يدرسون في جامعات المملكة، ولا تسمح ظروفهم بالبعد عن ذويهم.
5- كما وافق المجلس على تعيين الدكتور أحمد الحاج علي الأزرق الأستاذ المشارك بكلية الشريعة عضوا بمجلس الجامعة لمدة سنتين قابلة للتجديد لمرة واحدة.
أخبار الدراسات العليا
تعتبر الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية -في كل جامعة- إحدى الغايات الرئيسية التي يهدف إليها التعليم العالي، ذلك أنها تضع خريج الجامعة على عتبة البحث العلمي الصحيح ثم إذا اجتاز هذه المرحلة من مراحل الدراسة والبحث استطاع أن يرقى صعدا وإلى الأمام دائما. وحينئذ يكون قادرا على التوجيه والإرشاد، يكون قادرا على حمل الأمانة، والمسؤولية في توجيه الآخرين توجيها صحيحا وبمقدار ما تقدم الجامعات من خريجي الدراسات العليا يكون عطاؤها لحركة البحث العلمي، ويكون نفعها لعملية تصوير المجتمعات وتقدم الأمم.(22/313)
والدراسات العليا في الجامعة الإسلامية كثيرة العطاء، متجددة البذل، فقد حفلت الأشهر الخمسة الأولى من العام الهجري الجديد بمجموعة من رسائل الماجستير وقد بلغ عددها اثنتي عشرة رسالة.
من النشاط الثقافي
الندوات والمحاضرات
حفل الموسم الثقافي للعام الجامعي 1400-1401هـ بالعديد من ألوان المعرفة والثقافة على مختلف المستويات سواء فيما يتصل بنشاط الكليات والمعاهد والدور أو فيما نظمته وأشرفت عليه عمادة شؤون الطلاب بالتعاون مع بقية أقسام الجامعة.
أ - الندوات
وبمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي انعقد بمكة في شهر ربيع الأول 1401 هـ نظمت الجامعة الإسلامية ندوتين حول موضوع المؤتمر ومضمونه:
أولاهما: ندوة عن حاضر المسلمين ومستقبلهم: شارك فيها صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة ومعالي الدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وصاحب الفضيلة الشيخ/ عبد الله الزاحم مساعد رئيس المحاكم الشرعية بمنطقة المدينة المنورة.
وأدار الندوة والحوار صاحب الفضيلة الدكتور/ عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية وقد عقدت هذه الندوة يوم 19، 20/3/1401 هـ.
ثانيتهما: ندوة موضوعها التضامن الإسلامي: شارك فيها كل من فضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الشرعية الكبرى بالمدينة المنورة وسعادة الشيخ عبد العزيز الربيع مدير التعليم بمنطقة المدينة المنورة والشيخ محمد المجذوب المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين وقد أدار الندوة والحوار فضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري عميد كلية اللغة العربية وكان ذلك يوم الثلاثاء 21/3/1401 هـ.
ب- المحاضرات
وقد زخر الموسم الثقافي بكثير من المحاضرات الدينية والثقافية والعلمية القيمة ومنها:(22/314)
1- تجديد الدين: محاضرة يوم 25/1/1401 هـ. ألقاها الدكتور/ جعفر شيخ إدريس الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية "مركز البحوث".
2- الاتجاهات الفكرية بين قرنين: محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ/ مناع خليل قطان مدير قسم الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
3- تطلعات إلى المستقبل في مستهل القرن الهجري الجديد: محاضرة ألقاها الأستاذ/ محمد قطب الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة وذلك يوم الأربعاء 23/2/1401 هـ.
4- الزواج وأثره في الإسلام: محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ/ صالح العلي الناصر رئيس قسم الفقه بجامعة الإمام وذلك يوم الأربعاء 26/4/1401هـ.
5- اللحم الحرام: بحث علمي يتجلى فيه بعض مظاهر حكمة الله في تحريم اللحم الحرام، محاضرة علمية قيمة ألقاها سعادة الدكتور/ عبد الحافظ حلمي أستاذ علم الحيوان في جماعة الكويت وذلك مساء يوم الأربعاء 22/3/1401 هـ.
6- واجب الشباب المسلم: المحاضرة الدينية الرائعة التي ألقاها سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد، وذلك مساء الثلاثاء 25/5/1401 هـ.
7- الإسلام بين الجاهليتين: موضوع المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ/ أبو زيد محمد حمزة أحد الدعاة البارزين في السودان وذلك يوم الاثنين 30/5/1401 هـ.
8- أمتنا وآفاق المسؤولية: محاضرة لفضيلة الشيخ/ عمر عودة الخطيب رئيس قسم الثقافة الإسلامية بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك يوم الأربعاء 28/4/1401 هـ.
9- القرآن بين الدراسة والتطبيق: موضوع المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ/ محمد الراوي رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك مساء يوم الأربعاء 26/5/1401 هـ.(22/315)
10- التكامل الاجتماعي الإسلامي: محاضرة الدكتور/ أحمد الأزرق الأستاذ بكلية الشريعة يوم الاثنين 2/6/1401 هـ. ضمن نشاط جماعة الفقه وأصوله بكلية الشريعة بالجامعة.
11- البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي: عنوان المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ/ صالح السحيمي في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية بعد المغرب من يوم الاثنين 9/4/1401 هـ.
12- منهاج القرآن في الدعوة إلى الله: موضوع المحاضرة التي ألقاها الدكتور/ محمد السيد طنطاوي رئيس شعبة التفسير بالدراسات العليا وذلك يوم الأربعاء 19/5/1401 هـ.
صور من النشاط الثقافي بالجامعة
1- كلية الدعوة
أقامت كلية الدعوة وأصول الدين أمسية ثقافية مساء يوم الثلاثاء الموافق 18/5/1401 هـ. بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية حضرها فضيلة الدكتور/ عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة والدكتور/ أحمد عطية الغامدي عميد كلية الدعوة، وأساتذة الكلية وطلابها وعدد كبير من أساتذة الجامعة وطلابها من مختلف الكليات والمعاهد، وقد احتوت هذه الأمسية على ألوان من النشاط الثقافي الذي قدمه الطلاب من الكلمات والقصائد الشعرية والمختارات الأدبية والقصص التمثيلية.(22/316)
وفي نهاية الأمسية ألقى فضيلة الدكتور ألقى فضيلة الدكتور/ عبد الله الزايد كلمة توجيهية أشاد فيها بجهود كلية الدعوة وغيرها من كليات الجامعة ومعاهدها ودورها في مجال التربية والتعليم والتوجيه وفي مجال النشاط التي تعد هذه الحفلة لونا من ألوانها وتعد تدريباً عملياً للطلاب على أساليب الدعوة والاتصال بالناس، كما وجه فضيلته النصح للطلاب والمشرفين على التمثيل المسرحي بألا تتعرض التمثيليات لشخصيات الأئمة والصحابة والتابعين لعدم وجود النص الجيد الذي يحقق عرض الصورة الحقيقية والوجه الأكمل لهذه الشخصيات القائدة الرائدة في تاريخ الإسلام والإنسانية ولأن الطلاب الذين يمثلون أدوار هؤلاء الأئمة لا يتمكنون من السيطرة على حركات أنفسهم، كما لا يستطيعون إبراز العظمة الإنسانية في هؤلاء السلف الصالح.
2- كلية الغلة العربية
يدور نشاط كلية اللغة العربية في إطار جماعات بلغت إحدى عشرة جماعة منها جماعة القرآن وجماعة الحديث، وجماعات كل من الدعوة والخطابة والبحوث والندوات والإعلام وجماعة الإسعاف والتعارف والحفلات والجوالة، ويشرف على هذه الجماعات أربعة وعشرون أستاذاً في الكلية.
وقد أسهمت كلية اللغة مع مكتب التربية العربي لدول الخليج في إقامة ندوة لمعلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها واستمرت هذه الندوة لمدة أسبوع من 1/5/1401 هـ إلى يوم الخميس 6/5/1401 هـ.
وقد أقامت الكلية عدداً من الندوات لأساتذتها في قاعة خصصت لإقامة الندوات العلمية.
وقد قامت الكلية برحلة لزيارة معالم المدينة ورحلة مخيم بشاطئ ينبع على فوجين انتظمت كل طلبة الكلية وأساتذتها، ورحلة إلى مكة لأداء العمرة ورحلة إلى الرياض لزيارة جامعات المملكة في الرياض.
3- كلية الحديث(22/317)
أقامت كلية الحديث والدراسات الإسلامية حفلها الختامي للنشاط الطلابي للعام الجامعي 1400/1401 هـ وذلك في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأربعاء 11/6/1401 هـ.
وقبل بداية هذا الحفل تفضل فضية الدكتور/ عبد الله الزايد بافتتاح المكتبة الناطقة للمكفوفين وهذه المكتبة فرع تابع للمكتب الإقليمي للشرق الأوسط للمكفوفين.
إن هذه المكتبة الناطقة قد زودت بأحدث الأجهزة السمعية، وسجلت أمهات الكتب على أشرطة كاست، في علم اللغة والأدب والتفسير والحديث ومختلف فروع المعرفة في العلوم الإنسانية، وقد روعي في الكتب المسجلة أن تكون متنوعة المجالات والمستويات لتخدم القطاع العريض من المشتركين باشتراك رمزي في مختلف مراحل التعليم من المكفوفين.
4- كلية الشريعة
قامت كلية الشريعة خلال هذا العام الدراسي بأنشطة متعددة في عدة مجالات وتكونت فيها عدة جماعات مثل جماعة الرحلات وجماعة الصحافة وجماعة البحوث والمكتبات وجماعة الفقه وأصوله.
وقد قامت الكلية بعدة رحلات طلابية، واحدة في الفصل الدراسي الأول إلى منطقة القصيم، ورحلتان في الفصل الدراسي الثاني إحداهما إلى المنطقة الشرقية والأخرى إلى مكة المكرمة.
وتكونت بالكلية جماعة الصحافة التي أصدرت صحيفة بالكلية تحت اسم "أضواء الشريعة"، وجماعة البحوث والمكتبات. وصدر عن الجماعات المختلفة صحف ونشرات تبين رأي هذه الجماعات في شتى الموضوعات.
شخصيات ووفود إسلامية في زيارة الجامعة
استقبلت الجامعة الإسلامية في فترة الفصل الدراسي الأول من العام الدراسي 1400-1401 هـ الوفود التالية:
* وفد من طلاب جامعة الرياض يضم مائة طالب من مختلف الكليات.
* وفد من كلية التربية بجامعة الرياض يضم 45 طالباً من اللجنة الاجتماعية.(22/318)
* وفد من طلاب المعهد العلمي برأس الخيمة التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإشراف الشيخ تميم بن عبد الله.
* وفد جمعية التضامن الإسلامي، ووفد وزارة الشبيبة والرياضة بمملكة المغرب.
* وفد جامعة اليرموك يضم 50 طالبا.
* وفد من جمهورية مالديف برئاسة نائب وزير التربية والتعليم ومدير مكتبه.
* وفد طلابي من فيجي.
* وفد كلية العلوم بالرياض من 45 طالبا برئاسة الدكتور عبد الكريم خفاجي.
* وفود من طلاب جامعة البترول والمعادن بالظهران على فوجين مع طلاب من كلية الزراعة بجامعة الرياض.
* وفد ماليزي برئاسة فخامة الحاج وتوسيري رئيس وزراء مقاطعة فيراق بماليزيا.
* وفد من جامعة عليكرة الإسلامية بالهند ضم الأستاذ محمد شافعي نائب رئيس الجامعة والأستاذ م. د أنصاري رئيس كلية الهندسة والأستاذ جلال الدين عميد كلية الهندسة والتكنولوجيا والأستاذ س. هارسول رئيس قسم الجولوجيا.
* وفد من عمداء جامعات المغرب ضم الدكتور إدريس العلوي عميد كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش والدكتور محمد حجي عميد كلية الآداب بالرباط والدكتور آمال عميد كلية الحقوق بجامعة محمد بن عبد الله بمدينة فاس.
* الدكتور عين الدين عبد الواحد مدير جامعة التكنولوجيا بماليزيا.
* سفير باكستان بالبرازيل سعادة أحمد حسن إحساني.
* سعادة الأستاذ محمد الحافظي النحوي مدير التعليم الفني والمهني ومبعوث وزير التعليم العالي بموريتانيا وتفقد أحوال الطلاب الموريتانيين بكليات الجامعة ومعاهدها.
* الدكتور إبراهيم عمر مدير جامعة كانو بنيجيريا ويرافقه الدكتور محمد زهر الدين رئيس قسم الدراسات الإسلامية وذلك لعقد اتفاق ثقافي مع الجامعة.
* وفود من جامعة أم درمان الإسلامية.
* وفود من الجامعة السلفية بالهند.(22/319)
وفي كثير من هذه اللقاءات مع فضيلة الدكتور عبد الله الزايد تعرفت هذه الوفود والشخصيات على أوجه التطور الأكاديمي والتعليمي الذي تسير فيه الجامعة الإسلامية، وعلى ما تقدمه الجامعة لمنسوبيها من خدمات مختلفة وما وفرته من رعاية صحية واجتماعية، والتعرف على أحوال الأقليات الإسلامية لتقوم الجامعة بتلبية حاجات الجامعات والجمعيات والجماعات الإسلامية من الكتب والمدرسين. وتقديم إمكانياتها في خدمة المسلمين تحقيقا لرسالتها في نشر الدعوة الإسلامية.
إعداد فضيلة الشيخ محمود محمد سالم
المستشار الصحفي بإدارة العلاقات العامة(22/320)
ليهلك من هلك عن بينة
ويحي من حيي عن بينة
موفق القصاب
الجامعة الإسلامية
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} طه 123-126.
أيها المسلم ... مالي أرى الخطيب ينصحك في كل جمعة ولا تسمع ... مالي أرى عينك أسفاً على فساد الأحوال لا تدمع ... مالي أرى قلبك حزناً على ضعف الدين لا يتقطع ... مالي أراك لا تتوب وقد نزل بك ما نزل ... أيسرك الصلوات الخمس وقد تركت ... أيسرك أعرض المسلمات وقد هتكت ... أيسرك آداب الإسلام وقد هجرت ... أيسرك مجد الإسلام وقد رحل ... هل يليق بك أن ترى أختك في الدين تخرج عن الصراط السوي ... هل يليق بك أن ترى المسلمة في هذا السفور الفاضح الذي يتعارض مع أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ... أترضى أن يكون بيت اللهو معموراً وبيت الله في خراب ... أترضى أن تكون الظواهر في انتظام والبواطن في انقلاب ... أترضى أن تتأدب في مجلس فلان وفي مجلس القرآن تغتاب ... أترضى أن تكون في الدنيا على غير هدى وفي الآخرة على غير أمل ... أهكذا تفعل أمة رسولها سيد الأكوان ... أهكذا تفعل أمة يتلى بينها القرآن ... أهكذا تفعل أمة يحاسبها الملك الديان ... أهكذا الشرع ... أهكذا الدين ... أهكذا العمل ... ؟
قم سلسل الدموع حزناً على هذا الفساد الشائع ... قم مزق الضلوع حزناً على هذا الشرع الضائع ... قم ذكر نفسك بخطاياك فليس السكوت بنافع ... قم دبر أمرك قبل حلول الأجل ...
اتق الله واعلم أن الدنيا ليست دار الخلود ... اتق الله وقد نصحتك والله والملائكة شهود ... اتق الله فقد طال هجرك للملك المعبود ... اتق الله تفلح وتربح وتنجح.(22/321)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافرا يبيع دين بعرض من الدنيا" رواه مسلم رياض الصالحين ص 72.(22/322)
مفهوم الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ/ سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية
(الحلقة الرابعة)
في حلقات ثلاثٍ مَضَيْن، ذكرت تسعا وثلاثين اسما من أسماء الله الحسنى، وألقيتُ أضواء على بعض معانيها بحسب ما يسَّر الله عز وجل لي من فهم، وأشرتُ إلى أن تلك الأسماء وردت في القرآن الكريم مرات بلغ مجموعها (2758) ثماني وخمسين وسبعمائة وألفي مرة في مواضع مختلفة.
والذي يهمني أن أؤكده في كل حلقة من هذه الحلقات: أن تكرار أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم -فضلا عن السنة المشرفة- بهذه الأعداد الضخمة، لم يأت عبثاً، ولم يكن أمراً عشوائياً، وإنما هو لَفْتٌ إلى عِظَمِ أهمية هذه الأسماء، وضرورة تعرف المسلم عليها، لأن كل اسم منها يتضمن صفة كمال لله تبارك وتعالى، وصفات كماله -جلَّ وعلا- يتحتم على كل مسلم أن يعرفها، إذ لا يمكن أن يعبد إلهاً يجهله، وسبيل معرفته –سبحانه- لا تكون إلا بمعرفة أسمائه الحسنى، وصفات كماله العُلى. ومن ثمَّ تتضح الضرورة الملحَّة للمسلم التي تلزمه بمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته، إذ هي سبيله إلى توحيده سبحانه، وتوحيده هو الوسيلة الوحيدة لتصحيح عمله وقبوله.
وإتماماً لما بدأت في الحلقات الثلاثة السابقة، أعرض -بحول الله وقوته- بعضاً آخر من الأسماء الحسنى، محاولاً إلقاء بعض الأضواء -حسبما ييسِّر الله تعالى لي- على شيء من معانيها فيما يلي:-
المولى- الوليّ:
المولى:
هو اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. ويطلق لفظ المولى في اللغة على: المعتِق، وعلى المعتَق، وعلى الناصر، وعلى الجار، وعلى ابن العم، وعلى الحليف، وعلى القيِّم بالأمر. والقدر المشترك في هذه الاطلاقات هو القرب.
وحين يطلق (المولى) على الله عز وجل، فإن معناه: القريب من عباده [1] .(22/323)
* وقد ورد اسم (المولى) سبحانه في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة [2] ثلاث مرات [3] بلفظ (المولى) : في قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال آية 40) (وإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا. (فاعلموا أن الله مولاكم) أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
(نعم المولى) فلا يضيع من تولاه، (ونعم النصير) فلا يغلب من نصره [4] .
ومعنى المولى هنا: سيدكم وناصركم على أعدائكم فمن والاه فاز، ومن نصره غلب [5] .
وفي قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج آية 78) أي وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وانفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وثقوا به، ولا تطلبوا النصرة ولا الولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر [6] .
ومعنى المولى هنا: أي حافظكم وناصركم على أعدائكم والمتولي أموركم دقيقها وجليلها، وهو سبحانه لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم [7] .
أقول: لهذا أمر سبحانه تعالى المؤمنين أن يعتصموا به جل وعلا فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي تمسكوا بدين الله وثقوا به تعالى، فلا رجاء ناجح إلا أن يكون رجاءه وحده سبحانه. وقد جاءت هذه الآية الكريمة عقب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال آية 39) .
والمعنى: أي يا معشر المؤمنين قاتلوا أعدائكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يبعد إلا الله وحده.(22/324)
قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض. وقال ابن جريج: حتى لا بفتن مؤمن عن دينه [8] ومعنى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُهُ لِلَّهِ} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إلا دين الإسلام. واضمحلالها: يكون إما بهلاك أهلها جميعا، أو برجوعهم عنها خشية القتل [9] .
أقول: ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" [10] .
ومعنى قوله تعالى {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإسلامهم، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} أي وإن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم. {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي نعم الله أن يكون مولاكم، فإنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم، فإنه لا يغلب من نصره الله [11] .
وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد آية 11) .
ومعنى المولى هنا: أي ناصر المؤمنين [12] .
أقول: فبينت هذه الآية الكريمة أن المؤمنين مولاهم الله تبارك وتعالى يدافع عنهم وينصرهم على أعدائهم، وأما الكافرون فليس لهم من يدافع عنهم ولا من ينصرهم لأنهم على باطل، وأهل الباطل لا يستأهلون نصرا، ولا يظهرهم الله عز وجل على أهل الحق.(22/325)
* ومنها أربع مرات بلفظ (مولاكم) : وذلك في قوله تعالى {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (آل عمران آية 150) . وذلك بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران آية 149) .
والمعنى: أن الله تعالى يحذر عباده المؤمنين طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، وأمرهم سبحانه بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه لأنه هو معينهم ناصرهم ومتولي أمورهم، ومن ثم فهو خير من يحقق لهم النصر المبين [13] .
وكذلك في مثل قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (التحريم آية 2) . ومعنى مولاكم هنا: أي وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم [14] .
وقد ذكر القاسمي في تفسيره أن المقصود بقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} أي فأطيعوه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي فينصركم خيرا ممن نصروكم لو نصروكم، وكيف لا يكون خير الناصرين، وهو ينصركم بغير قتال كما وعد بقوله {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} أي الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حربكم {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي بكونه إلها متصفا بصفاته ومستحقا للعبادة {سُلْطَاناً} أي حجة قاطعة تنبني عليها الاعتقادات {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} هي المثوى والمقر، والمأوى والمقام [15]-والعياذ بالله-.(22/326)
وقد أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب. وقد قال القاشانيّ: جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده، وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القدرة بما أشرك بالله من الوجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة، ولم ينزل الله بوجوده حجة، فليس إلا العجز والجبن، وجميع الرذائل.
وقال القفال: كأنه قيل: أنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُد، إلا أن الله تعالى سيلقى الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل.. وفي حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغنائم، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خاصةً وبُعثتُ إلى الناس كافةً، وأعطيتُ الشفاعة" [16] .
ثم أخبر أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة، ولزموا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم، ففارقهم النصر على عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية، وحسن عاقبة الطاعة، بقوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [17] .
وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد آية 11) .
ومعنى مولاهم: أن هو سبحانه الذي يتولاهم فيدافع عنهم وينصرهم على أعدائهم.(22/327)
وقد جاءت الآية المذكورة بعد قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد آية 10) .
والآيتان مرتبطتان، ومعناهما: أفلم يَسِرْ المشركون بالله المكذبون لرسوله فينظروا كيف عاقب الله الذين من قبلهم بتكذيبهم وكفرهم ونجى المؤمنين من بين أظهرهم، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين يوم فرغوا من وقفة أحد أن يجيبوا أبا سفيان لما قال لهم: لنا العزى ولا عزى لكم فيقولون: "الله مولانا ولا مولى لكم" [18] . وقال الإمام الشوكاني في معنى الآيتين: أي ألم يسيروا في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا، فينظروا كيف كان آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية، إذ أهلكهم الله واستأصلهم، ثم توعد سبحانه مشركي مكة بأن لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرين، وذلك سببه أنه تعالى ناصر المؤمنين، وأن الكافرين لا ناصر يدفع عنهم.
ثم بين سبحانه وتعالى مظهر ولايته للمؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} (محمد آية/12) وبين في مقابلة ذلك عدم ولايته للكافرين ومظهر ذلك في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد آية 12) أي أن الكفار ليس لهم همٌ في دنياهم إلا الانكباب على الأكل والتمتع في الدنيا، لا هم لهم إلا ذلك، ولهذا ثبت في الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"أي كأن له سبعة أمعاء كناية على كثرة أكله. ويوم القيامة النار تكون جزاء لهم [19] .(22/328)
وذكر الإمام الشوكاني في معنى الجزء الأول من الآية الخاصة بالمؤمنين أنه مسوق لبيان ولاية الله تعالى لهم: وذلك بإدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وفي بيان معنى الجزء الخاص بالكافرين أنهم يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همٌ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة، لاهون بما هم فيه، والنار مقام لهم يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه [20] .
أقول: أن لا شك أن ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين تسعدهم بالحياة الطيبة في الدنيا، وبدار الكرامة جنات عدن في الآخرة. فهنيئًا لمن بلغ هذه الدرجة الرفيعة فكان الله مولاه.
* ومنها مرتان بلفظ (مولانا) : وذلك في قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة آية 286) . أي أنت وليُّنا وناصرنا، وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، فانصرنا على القوم الكافرين الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة. قال الله: "نعم". وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس: قال الله: "قد فعلت" [21] . وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: (أنت مولانا) : أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون. وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك. وذكر في معنى قوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} : أي من حق المولى أن ينصر عبيده، وأن المراد عامة الكفرة، وأن في هذا إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله [22] .(22/329)
أقول: وبمناسبة ذكر آخر آية من سورة البقرة، أود أن أذكر بأن هناك عددا من الأحاديث نصت على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، منها ما أخرجه الإمامان مسلم. والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا، فرفع جبريل بصره فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته".
وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه تحت العرش. فتعلموهما، وعلموهما نسائكم وأبنائكم، فإنهما صلاة وقرآن ودعاء". وروى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" [23] .
وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة آية 51) . وذلك بعد قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (التوبة 50) .(22/330)
ومعنى الآيتين: أن الله تعالى يُعْلِمُ رسوله محمدا صلى الله عليم وآله وسلم بعداوة هؤلاء له لأن أيَّ حسنة تصيبه هو وأصحابه تسوؤهم، وأن أيَّ مصيبة تصيبه يقولون لقد احترزنا من متابعته من قبل هذا، ويتولون وهم فرحون بما أصابه. فأرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم بأن يقول لهم: إننا تحت مشيئة الله تعالى وقدره، فما يصبنا كله مقدر علينا، فهو سبحانه مولانا أي سيدنا وملجؤنا، ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل [24] .(22/331)
* ومنها مرة بلفظ (مولاه) وذلك في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم آية 4) والخطاب في هذه الآية الكريمة موجه إلى أميّ المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، أي إن تتوبا إلى الله تعالى مما تظاهرتما به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مالت قلوبكما إلى الحق. وقد روى الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلتُ المسجدَ فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يأمر بالحجاب، فقلت: لأعلمنَّ ذلك اليوم، فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكفة المشربة، فناديت، فقلت: يا رباح استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكال، وأنا، وأبو بكر، والمؤمنون معك. وقلما تكلمت –وأحمدُ الله- بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يُصدقُ قولي، فنزلت هذه الآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلقتهن؟ قال: "لا"، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}(22/332)
النساء/14 [25] . فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ... } الآية: أي إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، ومعنى "صَغَتْ"عدلت ومالت عن الحق أو زاغت وأثمت، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إفشاء الحديث، وقيل المعنى: إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، ومعنى {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وإن تظاهرا بمعنى تتعاضدا وتتعاونا، والمعنى: وإن تتعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سره، فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل، ومن صلح من عباده المؤمنين والمقصود أبو بكر وعمر، فلن يعدم ناصرا ينصره، إذ بعد نصر الله له، وجبريل، وصالح المؤمنين، فإن الملائكة أعوان يظاهرونه [26] .
* ومنها مرتان بلفظ (مولاهم) : ذلك في قوله تعالى {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام آية 62) .
وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام آية 61) .
ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله تعالى فوق عرشه الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء يرسل ملائكته يحفظون عباده، حتى إذا حان أجل أحدهم توفته الملائكة الموكلون بذلك، ولا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة، فإن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين. ثم بعد الحشر ترد الخلائق إلى الله مولاهم الحق أي مالكهم الذي يلي أمورهم فيحكم فيهم بعدله، وهو أسرع الحاسبين لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر الروية والتدبر [27] .(22/333)
وفي قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (يونس آية 30) .
ومعنى هذه الآية الكريمة أنه في موقف الحساب يوم القيامة تخبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها خيرا كان أو شرا، ورجعوا في جميع أمورهم إلى الله مولاهم الحكم العدل ففصلها، وأدخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، وتخلى عن المشركين ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، سبحانه عما يشركون [28] .
وقال الإمام الشوكاني في معنى هذه الآية الكريمة: أنه في ذلك المكان وفي ذلك الموقف تبلو أي تذوق وتختبر كل نفس جزاء ما أسلفت من العمل، وعلى قراءة (نبلو) بالنون، أن الله تعالى يبتلي كل نفس ويختبرها، بمعنى أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها، ورد المشركين بعد ذلك إلى الله مولاهم الحق أي إلى ربهم الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وضاع وبطل ما كانوا يفترون، من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه.
ثم قال الإمام الشوكاني: وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في قوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} قال: نسخها قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} محمد/ 11 [29] .(22/334)
أقول: وقد اعتز رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولاه سبحانه وتعالى في أعصب المواقف، وعلم ذلك أصحابه رضي الله عنهم، ليكون لنا في ذلك أعظم قدوة. وبيانا لذلك أسوق من الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: بسنده. عن البراء رضي الله عنه قوله في شأن غزوة أحد: "فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان، فقال أفي القوم محمد؟ فقال: "لا تجيبوه"فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: "لا تجيبوه"، فقال: أفي القوم ابن الخطاب: فقال إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل"، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". وهذه إجابة تحمل عظيم الاعتزاز بالله تعالى مولى المؤمنين الذي يتولى أمرهم، ويدبر شؤونهم، ويظهرهم بالنصر على أعدائهم، في مقابلة أن أولئك الأعداء لا مولى لهم يدبر أمرهم، وينصرهم إلا ما يعبدون من العزى الساقطة التي لا تملك لهم -فضلا عن نفسها- نفعا ولا ضرا.
الولي:
هو اسم من أسماء الله تعالى الحسنى.
ومعنى الولي الناصر، وهو على وزن فعيل على صيغة المبالغة بمعنى فاعل، أي إنه عظيم النصر لعباده المؤمنين.
* وقد ورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم أربع عشرة مرة [30] .
* منها خمس مرات بلفظ "وليِّ"بالرفع، وذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة آية 257) .(22/335)
والوليّ هنا هو الناصر لمن وليهم وهم المؤمنون ومعنى الآية الكريمة أنه سبحانه يهدي المؤمنين الذين اتبعوا رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي السهل، وأما الكافرون فوليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجهم ويحيد بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك، فكانوا من أصحاب النار هم فيها خالدون. ولهذا وحَّدَ الله تعالى لفظ "النور"لأن الحق واحد، وجمع "الظلمات"لأن الكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة [31] .
وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أن الوليّ فعيل بمعنى الفاعل وهو الناصر، وأن قوله {يُخْرِجُهُمْ} تفسير للولاية.
أقول: أي أنه سبحانه لما ولي أمر المؤمنين كان من مظاهر ولايته لهم أنه يتولى إخراجهم من الظلمات إلى النور.
ويقول الإمام الشوكاني: أن المراد بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا} أي أرادوا الإيمان، لأن من وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور، إلا أن يراد بإخراج المؤمنين من الظلمات إخراجهم من الشُبه التي تعرض لهم، فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة.
ثم قال الشوكاني أن المراد بالنور في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر: أي قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء، ثم قال: وقيل: المراد بالذين كفروا هنا: الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ورؤوس الظلال من النور الذي هو فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج [32] .(22/336)
ومثل قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران آية 68) .
ومعنى أن الله ولي المؤمنين، أي أنه يتولى أمر المؤمنين جميعا بما فيهم أنبياؤه ورسله [33] .
أقول: ومن ثم فكل مؤمن لا ولي له إلا الله جل جلاله، يفوض له كل أمره، ليصرفه سبحانه بما يصلح لعبده المؤمن.
ومعنى هذه الآية الكريمة: أن أحق الناس بإبراهيم عليه السلام أولئك الذين اتبعوه على دينه في حينه. وكذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الذين تبعوهم بإحسان. وقد روى سعيد بن منصور -بسنده- عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي ولاة من النبيين، وإن ولي منهم أبي وخليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السلام". ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ... } [34] .
ومثل قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الشورى آية 9) .
والوليّ هنا معناه: أنه متولي شؤون خلقه، فهو وحده القادر على إحياء الموتى: وهو كذلك القادر على كل شيء، فإذا أراد شيئا كان قوله له: كن، فيكون، ولا يملك ذلك إلا هو سبحانه وتعالى.
ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى ينكر على المشركين اتخاذهم آلهة من دون الله، ويخبر أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير [35] .(22/337)
ويقول الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ وذلك تقدير لانتفاء كون للظالمين ولياً ونصيراً. وفي قوله تعالى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً، فإنه الخالق، الرّازق، الضار، النافع. وقال: وقبل: الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أرادوا أن يتخذوا وليا في الحقيقة فالله هو الوليّ، وفي قوله تعالى: {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ومن شأنه تعالى أنه يحي الموتى، ويقدر على كل مقدور، فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية، وإفراده بالعبادة [36] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في معنى الآية ذاتها: أن الظالمين لأنهم لا يصلحون لصالح، فقد حرموا من الرحمة، فما لهم من دون الله من ولي يتولاهم فيحصل لهم المحبوب، ولا نصير يدفع عنهم المكروه. وأن الذين اتخذوا من دونه أولياء يتولونهم بعبادتهم إياهم فقد غلطوا أقبح غلط، فالله هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات، ويتولى عباده عموما بتدبيره ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه، وإعانتهم في جميع أمورهم [37] .
ومثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى آية 28) . ومعنى الولي الحميد هنا: المتصرف وحده بخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدر ويفعله.(22/338)
ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى ينزل المطر من بعد يأس الناس من نزوله، وينزل عليهم وقت حاجتهم كقول عز وجل: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم/ 49) وإنزاله سبحانه المطر رحمة يعم بها من ينزل عليهم، ذلك بأنه جل وعلا هو وحده المتصرف بخلقه بكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المستحق الحمد في كل أقداره وأفعاله [38] .
(يتبع)
قَالَ اْللهُ تَعَالى:
{وَِللهِ اْلأَسْمَاءُ اْلحُسْنَى فَاْدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ اْلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (180) . "من سورة الأعراف"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 298.
[2] المعجم المفهرس.
[3] المرجع السابق.
[4] محاسن التأويل للقاسمي الجزء الثامن ص 2297.
[5] تيسير العلى القدير المجلد الثاني ص 186، وفتح القدير الجزء الثاني ص 308.
[6] المرجع السابق الجزء الثاني عشر ص 4282.
[7] تيسر العلى القدير المجلد الثالث ص 103، وفتح القدير الجزء الثالث ص 471.
[8] الطبري جزء 13 ص 538.
[9] روح المعاني للألوسي جزء 9 ص 207.
[10] صحيح مسلم الجزء الأول ص.
[11] صفوة التفاسير الجزء الأول ص 504.
[12] المرجع السابق –الجزء الخامس ص 32.
[13] تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 318.
[14] فتح القدير الجزء الخامس ص 250.
[15] محاسن التأويل الجزء الرابع ص 993.
[16] صحيح البخاري الجزء الثامن كتاب الصلاة ص 56.
[17] المرجع السابق ص 994.
[18] تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 58، 59.
[19] تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 59.(22/339)
[20] فتح القدير الجزء الخامس ص 32.
[21] تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 249.
[22] فتح القدير الجزء الأول ص 308.
[23] فتح القدير الجزء الأول ص 309، 310.
[24] تيسير العلى القدير المجلد الثاني ص 237، 238.
[25] تيسير العلى القدير المجلد الرابع ص 265، 266.
[26] فح القدير الجزء الخامس ص 250، 251، 253.
[27] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 20، 21، وفتح القدير الجزء الثاني ص 124، 125.
[28] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 297، 298.
[29] فتح القدير الجزء الثاني ص 440.
[30] المعجم المفهرس.
[31] تيسر العلي القدير المجلد الأول ص 222.
[32] فتح القدير الجزء الأول ص 276.
[33] تيسر العلي القدير المجلد الأول ص 281.
[34] المرجع السابق المجلد الثالث ص 573.
[35] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 565.
[36] فتح القدير -الجزء الرابع ص 527.
[37] تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص 94.
[38] المرجع السابق المجلد الثالث ص 573.(22/340)
البدع وأثرها في انحراف التّصَوُّر الإسلامي
لفضيلة الشيخ صالح سعد السحيمي
المدرس بكلية الحديث بالجامعة
(الحلقة الأولى)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار [1] .(22/341)
إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ذلكم هو الدين القيم الخالد الصالح لكل زمان ومكان، والمشتمل على كل ما من شأنه إسعاد البشرية في دنياها وأخراها، وهو الدين الخالص الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلة، وألف بين قلوبنا بعد التمزق، فمن تمسك به وحافظ عليه وقام به خير قيام بفعل المأمور وترك المحظور دون زيادة أو نقصان، فقد سعد وفاز برضى الله تبارك وتعالى وعونه وتوفيقه، وأما من طلب الهدى من غيره واتخذ سبيلا غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان، فذلك هو الخسران المبين الذي لا يعدله خسران، وأصبح من حزب الشيطان، {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
طريق الخلاص:
وإن طريق الخلاص وعنوان السعادة وسبب النجاة من عذاب الله هو التمسك بكتاب الله تعالى ذلك الكتاب العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وكذلك التمسك بالسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، فإنهما أعني الكتاب والسنة المصدران الأساسيان للتشريع الإسلامي.
كمال هذا الدين:
فإن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب العزيز ودلت عليه السنة، علم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة على أكمل وجه، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا هالك قد مرض قلبه، وخاسر قد طاش في مهاوي الضلال لبه، فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} .(22/342)
فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا هذا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الصادق الأمين. مما بلغ من الأحكام وبين لنا من حلال وحرام، فلم يكن هناك من خير إلا دلنا عليه وسهل لنا الطريق الموصلة إليه، ولم يكن هناك من شر إلا حذرنا منه كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم".
سبيل المؤمنين:-
إذا كان الأمر بهذه المثابة، فإن من طلب الهدي من غير الكتاب والسنة أو أتى بأمر زائد على ما شرعه الله فهذا بلا شك ضلال مبين وميل عن الصراط المستقيم واتباع لغير سبيل المؤمنين وإن من كان هذا شأنه لحقيق بأن يكون واقعاً تحت هذا الوعيد الشديد الذي تضمنته هذه الآية الكريمة قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ، فقد أمر الله تعالى بإتباع سبيله وما شرع من الدين القويم، ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين.(22/343)
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . فقد حثَّ سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثاً مقروناً بالنهي عن اتباع السبل، مبيناً أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلاً واحدا وهو سبيل الله الذي أمرهم بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء. فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة، وآرائهم الكاسدة، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقد روى النسائي وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً هم شماله، وقال هذه السبل المتفرقة، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إلي ثم قرأ هذه الآية حتى بلغ {تَتَّقُونَ} ".
الكتاب والسنة مصدر كل سعادة:-
وقال تعالى في معرض بيانه لشمول هذا الدين: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} فقوله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} أفاد شمول هذا القرآن لكافة أحكام الدين بما أودع الله فيه من تعاليم عامة صالحة للتطبيق على مر العصور والأزمان، وفيها السعادة كل السعادة للبشرية جمعاء، متى تمسكت بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(22/344)
وكذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم القويمة التي تبين القرآن وتوضحه وتفصل مجمله وتقيد مطلقه وتخصص عمومه إلى غير ذلك من أنواع البيان، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني أوتيت القرآن ومثله معه". والآيات والأحاديث الدالة على شمول هذا الدين وكماله وعدم حاجته إلى زيادة أو نقصان أجل من أن تحصر أو تعد في مثل هذا المقام، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى كمل الدين وتم بما أودع الله فيه من تشريع شمل كافة نواحي الحياة من عبادات ومعاملات وآداب وأخلاقيات وحدود وغير ذلك، مما يكفل للبشرية كل أمن ورخاء وطمأنينة متى تمسكت بها وسارت على نهجها القويم.
ذم التفرق وبيان أسبابه:(22/345)
إذا علم ذلك فإن الطريق الصحيح إلى النجاة هو التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهما حصن حصين وحرز متين لمن وفقه الله تعالى ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالبعد عن البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون، وأحدثها المحدثون، وروجها المبطلون، وأكلت أموال الناس بالباطل من دعاة النحل المختلفة، والطرق المتشعبة التي ليست من الإسلام في شيء، وقد ذم الله تلك الطرقة المنحرفة الكثيرة التي جعلت المسلمين شيعاً وأحزاباً وشتت شملهم، وجعلتهم لقمة سائغة لأعدائهم، لا لقلة عددهم وعدتهم، وإنما نتيجة لتمزق شملهم وتفرق كلمتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل"، وما لا شك فيه أنه لا شيء أعظم فساداً للدين وأشد تقويضاً لبنيانه وأكثر تفريقاً لشمل الأمة من البدع فهي تفتك به فتك الذئب بالغنم وتنخر فيه نخر السوس في الحب وتسري في كيانه سريان السرطان في الدم أو النار في الهشيم.
ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبالغ في التحذير منها، وتكشف عن سوء عواقبها من التفرق والاختلاف في الدنيا، والعذاب والخزي وسواد الوجوه في الآخرة، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة".(22/346)
وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وقد نص المفسرون رحمهم الله على أن الآية تعني أهل البدع والأهواء نقلاً عن كثير من السلف، ولا ريب أن من أعظم أسباب التفرق تلك البدع والمحدثات التي هي شرع لم يأذن به الله. وقد أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة بسبب انحرافها عن سنته القويمة وما عليه صحبه الكرام من بعده كما روى أبو داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم بأسانيد صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعون فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"، وفي رواية أن أمته "تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة"؛ والجماعة هي من كانت على الحق الذي كان عليه صلى الله عليه وأصحابه، رضوان الله عليهم.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فقيل ومن هم الغرباء؟ فقال الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي".
ولقد أحدث المسلمون في دينهم من البدع والدخيل ما انحرف بكثير عن سواء السبيل، وشوه عليهم حقيقة الدين، ولبس عليهم حتى أصبح الكثير منهم لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يعرف البدعة من السنة، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون وأغرقوا في ذلك حتى رأوا الحسن قبيحا والقبيح حسنا على حد قول القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .(22/347)
فما يفتح لهم الشيطان باباً من الظلال إلا ولجوه، ولا يزين لهم طريقاً من طرق البدع، إلا سلكوه، وما زال الخطر يستفحل والشر يتفاقم، حتى بلغ شأواً بعيداً في تفريق الأمة وتمزيق شملها، وقد ساعد على ذلك سكوت كثير من العلماء، وتهاونهم وجبنهم عن مواجهة العامة خوفاً من غضبهم ومجاراة لهم، وحرصاً على اجتلاب رضاهم ولو بسخط الله.
حفظ هذا الدين وبقاؤه:
ولكن الله عز وجل لم يكن ليترك دينه لعبث هؤلاء المبتدعين، بل قيض له من أرباب الألسنة والأقلام قديماً وحديثاً من يهب للدفاع عنه، ومحاربة كل دخيل عليه حيث تكفل سبحانه بحفظ هذا الدين وصيانته، وإن تكالب عليه أهل الأرض جميعا وقد حصل ولله الحمد والمنة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة:-
وقد تضافرت النصوص الكثيرة على الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة واتباع السلف الصالح الذين قام بهم الكتاب، وبه قاموا ونطق بهم وبه نطقوا، وطبقوه بكل صدق وإخلاص وأمانة، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في كل شؤون حياتهم، ولم يدخروا وسعاً في فهم معانيه ومعرفة أسراره، وقد نوه الكتاب العزيز بفضلهم ونص على أن لهم اليد الطولى في الفضل والعلم والعمل الجاد الخالص، قال تعالى: مشيداً بفضلهم وآمراً باتباعهم {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، التوبة/ 100.(22/348)
فهم خير من يقتدى بهم من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين وأولئك الأفذاذ الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وإن القدوة أولاً وأخيراً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب/ 21. فقد أمر الله بالتأسي به والاهتداء بهداه والاستنان بسنته، وحذرنا من مخالفة أمره، ورتب على ذلك ألواناً من الوعيد الشديد، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور/ 63. بل قد نبه الله تعالى بأنه ليس للمؤمن خيار إذا أمر الله أو أمر رسوله بأي أمر. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الأحزاب/ 36. بل أخبر سبحانه أن طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} النساء/ 80.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، محمد/ 33. أي بمخالفتكم لسنته التي سنها لكم وبارتكابكم المنكرات والبدع والمخالفات..
المرجع عند التنازع:-(22/349)
وأمرنا تبارك وتعالى بأن نرجع في كل أمر نختلف فيه إلى كتاب الله تعالى وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء/ 59.
فقد أمرنا بطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمور في حدود طاعة الله تعالى، ثم أرشدنا إلى رد ما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. بل علق صحة الإيمان بذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم المتمسكين بسنته من أمته بأعظم بشارة، وأشرف مقصد يطلبه كل مؤمن ويسعى إلى تحقيقه.
من كان في قلبه أدنى مسكة من إيمان ألا وهو الفوز بدخول الجنة، جاءت هذه البشرى في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى". وأي إباء ورفض للسنة أعظم من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم. وذلك بالإحداث والابتداع في الدين.
حكم الإحداث في الدين:-(22/350)
وبذا نعلم أن هذه النصوص دليل على أن كل من يقول باستحسان بدعة في الدين يكون له نصيب وافر، وجزاء كبير من الوعيد المذكور فيها، فإن من استحسن بدعة بعقله القاصر المحدود، وحث الناس على التعبد بها كان مشاقاً ومصادماً لهذه النصوص، وعليه تبعة ذلك في يوم القيامة، إذ أن من علم خيراً وتبعه الناس عليه ضوعف له الأجر بقدر أجر من يتبعه في هذا الخير، وعلى النقيض من ذلك فإن من عمل سوءا كالابتداع مثلا والإحداث في الدين فإنه لا يعاقب بوزر ارتكابه تلك البدعة فحسب بل يضاعف له العقاب حيث يتحمل وزر من تبعه في هذا الأمر، يدل لذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".
وعلى هذا فإن أي إحداث في الدين مردود على من أحدثه وغير مقبول لما روى الشيخان وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وإنما كانت البدع مردودة على من عملها لأن إحداث مثل هذه البدع يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون المبتدعون فأحدثوا في شرع الله ما يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا ولا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على رب العالمين، واستدراك على رسوله صلى الله عليه وسلم، واتهام له بالخيانة والكتمان، وحاشه صلى الله عليه من ذلك. كيف يكون هذا وهو القائل: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" فهذا محال بالنسبة لسائر المؤمنين، فكيف بقدوتهم وأسوتهم صلوات الله عليه وسلامه.(22/351)
ومعلوم أن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم".
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كانت هذه البدع التي أحدثها المخالفون من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هي من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، بسند صحيح، عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل يا رسول الله، كأن هذه الموعظة مودع فأوصنا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
وروى مسلم في صحيحه كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على المنبر ويقول: "أما بعد- فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". زاد النسائي "وكل ضلالة في النار".(22/352)
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم- أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ولا ريب أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم ما جاء من الوعيد في ذلك أن صاحب البدعة يحال بينه وبين التوبة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته".(22/353)
ويخشى أن يكون أهل البدع والأهواء ممن يحال بينهم وبين الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول: يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدلوا فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل"، أي بعداً له فهذه براءة من النبي صلى الله عليه وسلم ممن أحدث في الدين، وغيَّر وبدَّل، ومما لا شك فيه أن هؤلاء الذين يذادون عن الحوض من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي من أمة الإجابة، يدل ذلك أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث، بأن عليهم آثار الوضوء، وإنما حيل بينهم وبين الحوض، لما أحدثوه في الدين من عند أنفسهم، ولم ينزل الله به من سلطان، من تلك البدع والمنكرات والخرافات التي لا تعدو أن تكون من نسج خيالهم، وبنيات أفكارهم الضالة التي ظنوها حسنة وهي في الواقع من أقبح القبيح، وأي قبح أعظم من أن ينصب المرء نفسه مستدركاً على الله ورسوله ومشرعاً في دين الله بعد القرون المفضلة الأولى الذين هم خير الناس بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(22/354)
كما قال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وقد مضت تلك القرون المفضلة وليس لهذه البدع وجود أو رواج وإن وجد شيء منها فهو محدود، وعلى نطاق ضيق، يختفي أصحابها ولا يستطيعون الظهور، لأنهم يشكلون أقلية بخلاف ما وصل إليه حال المسلمون اليوم، فقد طغت البدعة، ودرست السنة، وتغيرت مفاهيم المسلمين، وأصبح تصورهم للإسلام تصوراً خاطئًا، وجعلوه في إطار ضيق، فقد وصل مثلا في بعض البلاد إلى حد كونه لا يعدو أن يكون مجموعة من الطقوس والاحتفالات التي قلدوا فيها أعداء المسلمين والإسلام، ويوجهون سهامهم المسمومة إلى الإسلام بسبب ضلال في ضل من المسلمين عن الطريق السوي، وانحرف عن الجادة الصحيحة التي رسمها لهم الإسلام، وأمرهم أن يسيروا عليها ولا يحيدوا عنها يمينا أو شمالا، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يوسف/ 108. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي توضح هذا المنهج القويم.
حرص الصحابة على لزوم الكتاب والسنة والبعد عن البدع:-
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أشدَّ حرصاً على العمل بالكتاب والسنة، وأشدهم عداوةً وبغضاً للبدع وأهلها، كذلك التابعون ومن جاء بعدهم ممن تبعهم بإحسان، وسأورد نماذج من أقوال الصحابة والسلف الصالح في ذم البدعة والمبتدعين، والحث على لزوم السنة.
من أقوال الصحابة في ذلك:-
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله يقول: "إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيقه، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا بمتبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني".(22/355)
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه ينكر على جماعة من المسلمين كانوا قد جلسوا يذكرون الله بذكر على غير الهيئة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الدارمي في سننه أن رجلاً أخبر عبد الله بن مسعود، أن قوام يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا وكذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوا الله كذا وكذا، قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم، فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون، قام فأتى ابن مسعود فجاء، وكان رجلا حديداً، فقال: أنا عبد الله بن مسعود، والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً، وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما، فقال عمرو بن عتبة: استغفر الله، فقال عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً. فإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه قد أنكر هذه الهيئة التي يذكرون الله بها رغم أن الذكر الوارد فيها مشروع بيد أنه أنكر عليهم الشكل والصفة وتخصيص هذا الوقت بالذات للذكر، فكيف لو اطلع ابن مسعود على هذه الأذكار التي يذكر بها المسلمون اليوم، وهي لا تمت إلى ذكر الله بصلة، مما ابتدعه أصحاب الطرق الصوفية، وغيرهم من الأذكار التي زينها لهم الشيطان، منها ما يرددونه بصوت واحد، من قولهم "هو هو"أو "حي حي"وغير ذلك من ألوان الهذيان، الذي يرددونه ويزعمون أنه ذكر الله، في الوقت الذي لو سمعتهم وهم يترنمون بهذه الأذكار التي لا يفهم منها شيء في كثير من الأحيان، لخيل لك أن أمامك سباعاً تتعاوى وتتهارش، على فريسة، بل تحولت أذكار كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم من أنواع من الرقصات المختلفة، فضلا عما يصحب ذلك من آلات الطرب والمعازف، واختلاط الرجال بالنساء، وشرب للمسكرات، وغير ذلك من أنواع الفساد التي يميلها عليهم الشيطان، فيا ليت شعري ماذا سيقول هذا الصحابي الجليل لو اطلع على هذه المناظر، أو سمع تلك الأصوات المنكرة {إِنَّ أَنْكَرَ(22/356)
الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، لقمان/ 19.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على الصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير، ويقول: "أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تنادون أصم ولا غائبا"، ولا شك أن ذكر الله واجب من أعظم الواجبات التي حث عليها الإسلام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الأحزاب/41-42. ومن أعظم وصايا النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله". لكن لابد أن يكون الذكر وفقا للمعايير التي جاء بها الكتاب والسنة، دون إفراط أو تفريط.
وجاء عن ابن مسعود أيضا في ذم البدعة "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". وقال ابن عباس لمن سأله الوصية: "عليك بتقوى الله والاستقامة اتبع ولا تبتدع"، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة". وقد روى هذه الآثار الكثيرة الإمام الدارمي في سننه، وآثار أخرى عن الصحابة والتابعين، وجاء في سنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً". هذه نماذج من أقوال الصحابة.
من أقوال السلف بعد الصحابة:-
وسنشرع الآن في ذكر نماذج من أقوال التابعين وغيرهم من السلف في الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع فقد روى الدارمي في سننه عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "أوصيكم بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعده". ونقل الأوزاعي عن حسان بن عطية أحد التابعين الفضلاء قوله: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة".(22/357)
وقال أبو حنيفة رحمه الله: "عليك بالأثر، وطريق السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"، وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً"، وقال الليث بن سعد: "لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته"فلما بلغ ذلك الشافعي رحمه الله قال: "إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة".
وهكذا نجد مما تقدم من النصوص أن الكتاب والسنة والآثار والأخبار التي نقلت عن السلف الصالح تفيد من نظر فيها بتبصر وتدبر أن كل بدعة في الدين صغيرة أو كبيرة في الأصول أو الفروع، في العقائد أو العبادات أو المعاملات، فعليّة أو قوليّة أو تركيّة، فهي ضلالة، صاحبها مؤاخذ معاقب عليها في النار، وبدعته مردودة عليه غير مقبولة منه، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما من كتاب الله وسنتي" وقال أيضا: "تركتم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
... البقية في العدد القادم
عَنِ الزُّبَيْرِ بنُ عَدِيٍّ قَالَ:
أَتَيْنَا أَنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: "اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي زَمَانٌ إِلاَّ وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكَمْ"
سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ
"رواه البخاري"
--------------------------------------------------------------------------------(22/358)
[1] هذه الإقتتاحية المشتملة على كثير من الفوائد والتي كان يسميها السلف خطبة الحاجة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها كلامه في أغلب أحيانه، ويعلمها أصحابه كما يعلمهم القرآن، لذا فإنه من الخطأ الشائع توهم كثير من الناس أن هذه الخطبة خاصة بعقد النكاح بل الصحيح أن هذه المقدمة مشروعة في أي موضوع خيري يريد أن يتكلم به متكلم.(22/359)
وَفِّرُوا اللِّحَى وَأحْفُوا الشَّوَارب
لفضيلة الدكتور محمد أحمد الشريف
الأستاذ المساعد بكلية الحديث بالجامعة
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين وفِّروا اللحى وأحفوا الشوارب" وفي رواية عبيد الله بن عمر بن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس" (2) ، وعنه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس: الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط" (3) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من الفطرة قص الشارب" (4) .
الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه للعالمين، وعليه فطر الخلق جميعا، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، (الروم/30) والمعنى والله أعلم أن هذا الدين القيم إنما هو دين يتفق مع الفطرة تماماً، ولو أن كل إنسان تُرك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى دين الحق بتوحيده وشعائره.(22/360)
وقد فطر الله الناس قابلين للحق متهيئين لإدراكه مائلين منساقين إليه، إذا خلوا وأنفسهم، بعيدين عن الوساوس الشيطانية والأهواء البشرية، ومن هذه الأمور التي فطر الناس عليها قص الشارب وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، والمضمضة.. هذه الأمور ملائمة لفطرة الإنسان ملائمة تامة. ولقد أكد الشارع أمرها فحث عليها ليذكر الناس بأصل فطرتهم وليكونوا على أحسن الصفات وأكمل الهيئات: قال شيخ الإسلام ابن حجر: ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع منها: تحسبن الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأدى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حَسَّنتُ صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة والتأليف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى إلى انبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه والعكس وبالعكس اهـ ولقد أغوى الشيطان الكثير من الناس وأضلهم عن فطرتهم وصرفهم عما جبلوا عليه، وزين لهم ما لم يكن من شأنهم وهيأ لهم أن حسن الهيئة وزينتها في تغيير هذه الفطرة ورفضها، وسار على ذلك المشركون، وتبعهم عليه نفر من المسلمين. فتركوا شواربهم لم يقصوها، وأنهكوا لحاهم، وأعرضوا عن الاختتان، وتركوا شعور العانة والإبط، وأطالوا أظافرهم، وتركوا الاستنشاق بالماء، والمضمضة، والاستنجاء بالماء، وتركوا البراجم، وأعرضوا عن السواك الذي هو مطهرة للفم ومرضاة للرب، واتبعوا في ذلك أهواء الذين لا يعلمون قال تعالى {اتَّبِعُوا مَا(22/361)
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف/3) ، وسأقصر البحث هنا على أمر الشارب واللحية والله المستعان وعليه التكلان.
والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا للفم، قال في المصباح: هو الشعر الذي يسيل على الفم ويثنَّى باعتبار الطرفين اهـ. وقد يجمع وهو من الواحد الذي فرق، ويسمى كل جزء منه باسمه فقالوا لكل جانب منه شاربا، ثم جمع على شوارب، وأما طرفا الشارب وهما السبالان فقيل هما من الشارب ويشرع قصهما وقيل هما من اللحية. وجمهور العلماء على أن قصه أو إحفاءه سنة، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك محمول على الندب بقرينة أن الأمر بذلك للنظافة وتحسين الهيئة، والنفس تميل إلى ذلك وتدعو إليه، فلم تحتج إلى أمر إيجاب. والندب كاف في ذلك. وذهب يعض الحنفية وابن حزم والقاضي أبو بكر بن العربي إلى وجوب أخذ الشارب لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ولأن في تركه تشويها للصورة الآدمية كما أن أخذه من الفطرة، والفطرة هي الدين وإذا أضيف قصه إلى الدين، فالظاهر أنه جزء من فرائض الدين لا من سننه وقد أمر إبراهيم عليه السلام بخصال الفطرة، وأمرنا باتباعه، وأمرُ الله يجب العمل به.. وقص الشارب من خصال الفطرة فهو واجب. والظاهر مع الجمهور فهو سنة الأنبياء جميعاً، والقصد به النظافة وتحسين الهيئة واتباع إبراهيم عليه السلام واجب. فإن كان الأمر واجباً عليه أو مندوباً كان حكم التابع كذلك ولا نعلم أن ذلك كان واجباً عليه فبقي الأمر على الندب.(22/362)
وإنما كان ذلك سنة لأن الأنبياء عليهم السلام هم أكمل الخلق وشرعهم أقوم الشرائع، وقد أمرنا بالاقتداء بهم، وما شرع الله شيئا إلا وفيه الخير والمصلحة وإن خفى ذلك علينا. والصادق في إيمانه يستجيب لأمر الله لأن مقتضى الإيمان التصديق والطاعة والاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى. وإن كانت معرفة الحكمة تزيده تصديقاً وثباتاً وانقياداً.. ويمكننا أن نفهم شيئا من الحكمة في الأخذ من الشارب، فالمشركون والمجوس الذين كفروا بالله وعبدوا غيره وأضلهم الشيطان عن فطرتهم كانوا يتركون شواربهم لا يأخذون منها شيئًا، وذلك أمارة على ما في أنفسهم من غلظة وتجبر وتعالٍ، ومن زهو وعجب واختيال، وشأن المؤمن التواضع والانكسار والتذلل لله عز وجل. ونحن مأمورون بمخالفة الكفار في هيئاتهم وأفعالهم غير المشروعة، فهم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولذلك أمرنا بقصه أو حلقه، إذ في ذلك من النظافة ما لا يخفى، فإن الإنسان إذا أكل أو شرب وكان شاربه طويلا عاقه عن أكله وشربه إذ يدخل الشعر في فمه ويختلط بطعامه وشرابه وفي ذلك إيذاء للإنسان، وقد يؤدي به الامتناع عنهما مع حاجته إليهما لضيق الصدر وتألم النفس بدخوله في الفم، وقد يؤدي به ذلك إلى مضغه وبلعه دون قصد. وكثيراً ما يتعلق به شيء من الطعام والشراب وذلك أمر مستقذر مستهجن، وفيه إهانة وإزراء بالرجل، وفي حلقه أو قصه أمان من ذلك، وإذا كان الشارب طويلا ثم تمخط الإنسان تعلق به شيء منه وهو لا يشعر، وقد يُرى بين الناس وهو كذلك فيكون مُزدرى مَهيناً ينفر الناس منه، ولما كان تركه ليس من الفطرة فإن النفس تشعر معه بضيق وثقل وأذىً حتى تستريح بالأخذ منه. وفي تركه تقبيح للهيئة، وفي الأخذ منه إصلاح وتحسين لها. وفيه كذلك إحسان إلى الناس بكف الأذى عنهم، وإحسان إلى النفس بالمحافظة على المروءة، وبالدعوة إلى التآلف.. قال ابن العربي: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر(22/363)
لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به اهـ.
وقد اختلفت الروايات في صفة الأخذ من الشارب، واختلفت تبعاً لذلك آراء العلماء. ففي بعض الروايات الأمر بإخفائه وإنهاكه وجزه. وفي المصباح أحفى الرجل شاربه بالغ في قصه. وقال ابن دريد: حفى شاربه حفوا إذا استأصل أخذ شعره. فالمعنى أزيلوا شعر الشارب إذا طال. والإنهاك هو المبالغة في الإزالة، والجزِّ قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد. قال الهروي معناه: ألزقوا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء. وفي المصباح: الجز القطع. وقد أخرج الطبري والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، قال: فكان ابن عمر يستعرض سبلته فيجزها كما يجز الشاة أو البعير.(22/364)
وأخرج رزين أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ويأخذ هذين –يعني ما بين الشارب واللحية- وفي رواية لغيره: "حتى يرى بياض الجلد"، وأخرج الطبري والبيهقي عن ابن عبد الله بن أبي رافع قال رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. وذكر الطحاوي عن أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم. وقد اقتدى هؤلاء رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الطبراني بسند حسن عن أم عباس قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يحفي شاربه".. وبهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه فقد سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال يحفى. كما قال صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب"، ولم يكن يرى ذلك لازماً وإنما كان يرى أنه أفضل وأولى من القص. سئل: ترى الرجل يأخذ شاربه أو يحفيه أم كيف يأخذه؟ فقال إن أحفاه فلا بأس وإن أخذه قصاً فلا بأس مخير، وقال الأثرم: كان أحمد يحفي شاربه إحفاءً شديداً، ونص على أنه أولى من القص كما ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإحفاء أفضل من التقصير. قال الطحاوي: ولما كان التقصير مسنوناً عند الجميع كان الحلق فيه أفضل قياساً على الرأس، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدةً فجعل حلق الرأس أفضل من تقصيره، وكذلك الشارب اهـ، ونقل أن الربيع والمزني يحفيان وقال: وما أخذا ذلك إلا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه. ونقل ابن العربي عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب وفي حاشية العدوي: وأخذ أبو حنيفة والشافعي في قولهما: السنة جزه بخبر: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى".(22/365)
وروي عن الشافعي غير ذلك. وهكذا نرى أن جمهور العلماء على إحفاء الشارب كله، وأما حديث "ليس منا من حلق" (1) ، فليس في الشارب. ولقد جاءت أحاديث أخرى تفيد أن المطلوب قص الشارب منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب" (2) ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس وحسنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه ويقول: إن إبراهيم خليل الرحمن يفعله"، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفيراً فقصه على سواك"، والمعنى أنه وضع سواكاً عند الشفة تحت الشعر وأخذ يعضه بالمقص. وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: "إيتوني بمقص وسواك فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه".. وعن أنس رضي الله عنه قال: "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك. أكثر من أربعين ليلة" (3) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية" الحديث، وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال رأيت خمسة من
أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي والمقدام بن معد يكرب الكندي وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي وعبد الله بن بسر، قال ابن حجر: وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث وجاءت رواية عند النسائي بلفظ: "تقصير الشارب" في خصال الفطرة وهو واضح المعنى، قال ابن فارس: القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء من ذلك قولهم اقتصصت الأثر إذا تتبعته وقال:(22/366)
ومن الباب قصصت الشعر، وذلك أنك إذا قصصته فقد سويت بين كل شعرة وأختها فصارت الواحدة كأنها تابعة للأخرى مساوية لها في طريقها، وفي المصباح: قصصته قصاً من باب قتل، قطعته، قال ابن حجر: والمراد هنا قطع النابت على الشفة العليا غير استئصال، وكذا قص الظفر أخذ أعلام من غير استئصال، وبقص الشارب قال طائفة من العلماء، قال الإمام مالك رضي الله عنه: "وتقصيره عندي أولى من حلقه"، وقال: "إحفاء الشارب عندي مُثْلَةٌ"، وسئل عمن يحف شاربه فقال: "أرى أن يوجع ضرباً"، وقال: "يؤدب من جز شاربه ويبالغ في عقوبته؛ لأن حلقه مُثْلَة، وهو فعل النصارى"، وحمل الجزّ والإحفاء والإنهاك على القص لا على الاستئصال. والمراد بالحديث عنده المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين. وقال ابن عبد البر يرجح قول مالك: إنما في هذا الباب أصلان أحدهما احفوا وهو لفظ يحتمل التأويل والثاني قص الشارب وهو مفسر والمفسر يقضي على المجمل وهو عمل أهل المدينة اهـ، وقال: وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ، وقال عمر بن عبد العزيز: "السنة في الشارب الإطار"، قال الإمام النووي: والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة والله أعلم"اهـ.(22/367)
وقد صرح في المهذب بأن هذا هو مذهب الشافعية.. وقوله صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب" يراد به إحفاء ما طال عن الشفة لا إحفاؤه كله. قال ابن حجر في أحاديث الإحفاء: كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها، نظراً إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس والأمْنُ من التشويش على الآكل، وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع متفرق الأخبار الواردة في ذلك وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر، ومقتضى تصرف البخاري لأنه أورد بعده حديث أبي هريرة في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك. قال ابن حجر: "وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار"اهـ، وقد رجح بعض العلماء قول الأكثرين وقال: الإحفاء الاستئصال، ورواية القص لا تنافيه لأنه قد يكون على جهة الإحفاء وقد لا يكون، ورواية الإحفاء معنية للمراد وحديث: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" (1) ، لا يعارض من حديث الإحفاء لأن فيه زيادة صحيحة يجب الأخذ بها.
والحق أن الأحاديث وردت بالأمرين، بالقص على أنه من الفطرة، وبالإحفاء على أنه أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل القص وزيادة. وكلا الأمرين صحيح والقص سنة، والإحفاء سنة، والمكلف مخير، والأمر واسع فيقص أحياناً ويحفي أحياناً ليعمل بكل الأدلة. قال الطبري: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتميز فيما شاء اهـ.(22/368)
وأما اللحى: فهي جمع لحية بكسر اللام، وهي اسم لما نبت من الشعر على الخدين والذقن، والذقن مجتمع اللحيين، واللحى عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوفيرها فقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب" (1) ، كما أمر بإعفائها فقل صلى الله عليه وسلم: "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" (2) . كما أمر بإيفائها فقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى" (3) ، كما أمر بإرخائها فقال: "جزُّوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس" (4) ، وذكر القاضي عياض أن بعضهم قال: "وأرجوا"بالجيم بدل الخاء.. ومعنى: "وفروا" اتركوها وافرة كاملة لا تنقصوا منها شيئاً ومعنى: "واعفوا" اتركوها على حالها حتى تعظم وتكثر ولا تتعرضوا لها بشيء فهي بمعنى وفروا أو أكثروا. ولا يقصد بذلك إباحة معالجتها حتى تغزر بقرينة سياق الحديث: "احفوا الشوارب"، وكذا بقية الألفاظ الدالة على مجرد الترك، ومعنى: "أوفوا" اتركوها وافية تامة لا تنقصوا منها شيئاً ومعنى: "أرخوا" أطيلوها وأطلقوها ولا تتعرضوا لها حتى تكثر وتنمو. ومعنى: "أرجوا" أخروها واتركوها على حالها، وأصلها: "أرجئوا" فحذفت الهمزة من الفعل تخفيفاً وكل هذه الروايات تفيد معنى متقارباً، وهو تركها على حالها وافية وافرة كاملة. عدم التعرض لها بشيء.(22/369)
وفي كل هذه الروايات أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حمله القاضي عياض والنووي والرافعي على الندب لأنه أمر يرجع إلى تحسين الهيئة وتجميلها ولا +-يحتاج إلى الوجوب كما أنه قرن بإحفاء الشارب، والجمهور على أنه سنة إلا من شذ كما أن توفير اللحية من خصال الفطرة كالختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والسواك، والإستنشاق، وغسل البراجم، والمضمضة، وانتقاص الماء، وظاهر كونها من الفطرة أنها سنة. وقد اختلف في وجوب بعضها. واللحية من زينة العرب التي امتازوا بها عن غيرهم وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد قومه عليها. ولذلك قال هؤلاء العلماء بكراهة حلق اللحية وقصها. وأما الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وجمهور الفقهاء والمحدثين فقد ذهبوا إلى أن الأمر بإعفائها وتوفيرها للوجوب لا للندب وقالوا بحرمة حلقها. واحتجوا بما يأتي:-
أولاً: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وقد وضعت صيغة الأمر للوجوب ما لم يصرفها عن ذلك صارف بقرينة تدل عليه، ولا قرينة هنا حتى تصرف هذا الأمر عن ظاهره ومقتضاه. وجمهور أهل الأصول والحديث على أنه إذا أمر بشيء كان ذلك الأمر نهياً عن ضده سواء كان ذلك الضد واحداً أو متعدداً. والأمر بإعفاء اللحية نهيٌ عن حلقها أو قصها أو تقصيرها. وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر/7) ، وإعفاء اللحية ثابت من هديه صلى الله عليه وسلم، ونحن مأمورون بالإقتداء به. فهو صلى الله عليه وسلم قد أعفاها وأمرنا بذلك. ولا شك أن أكرم العادات وأشرفها هي عاداته صلى الله عليه وسلم. وإعفاء اللحية وإن كان شأن العرب وخاصيتهم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره به قد نقله من كونه عرفاً وعادةً إلى كونه عبادة مأموراً بها مثاباً على فعلها معاقباً على تركها.(22/370)
ثانياً: أضف إلى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بمخالفة المشركين والمجوس ثم أمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب تدل على أن في ذلك الأمر مخالفة لهم، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن حلق اللحية وقصها وترك الشارب، من هيئات الكفار الخاصة بهم، فأمر المسلمون بمخالفتهم في فعلهم تماماً. وقد كان بعض الأعاجم يوفرون الشوارب واللحى معاً فأمرنا بمخالفتهم في صنعهم هذا بأن نأخذ من الشوارب ونترك اللحى، قال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها، وقد روى البيهقي أنه ذكر لرسول الله المجوس فقال: "إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قيل يا رسول الله: إن أهل الكتاب لا ينتعلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب"، قال فقلت يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب" (1) ، ومخالفة المشركين واجبة وقصد التشبه بهم حرام، قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين"، "خالفوا المجوس" غاية في الزجر عن التشبه بهم فيما يختصون به من ملبس أو هيئة، ولقد ظهر في المسلمين حلق اللحية وتوفير الشوارب من مخالطة المشركين واستحسان عوائدهم والميل إلى اتباعهم وتقليدهم، وقد نرى بعض الكافرين الآن يوفر لحيته. وذلك لا يغير من حكم اللحية في شريعة الإسلام ومع هذا فإنهم لا يفعلون ما هو مشروع لنا فإنهم يتركون اللحى والشوارب معاً ونحن مأمورون بمخالفة ذلك كما هو صريح الأحاديث. وبعضهم يترك شعرات أسفل الفم ليست هذه هي اللحية الشرعية، ولو سلمنا جدلاً أنهم يصنعون مثلنا تماماً فليس هذا مبرراً لأن نخالف هذا القليل بزعم إبليس، ونخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم(22/371)
الواجب اتباعه في كل حال. ولقد كان من الحكمة في الأمر بإعفائها مخالفة المشركين، ثم بقي الأمر على عمومه واستقر عليه. ولا نعلم ما يخالف ذلك.
إن الإنسان إذا ضعفت شخصيته ورق دينه وشغل بالدنيا مال إلى ما يميل إليه أهل الغواية والضلال والمشركون، وقد حلقوا لحاهم وتركوا شواربهم فإذا رأى بعض المسلمين منهم ذلك استحسنوا هيئاتهم وزيهم وعادتهم، وزين لهم الشيطان حب اتباعهم، وجعلهم ينسون محاسن دينهم ومآثر نبيهم الكريم، فتشبهوا بهم، وشاع ذلك الأمر وانتشر، وأصبح أمر اللحية أمراً شاذاً عند الكثيرين ولم ينته الأمر عند هذا الحد من انقلاب المعروف إلى منكر، بل صار بعض من لا خلاق لهم يهزأ بأصحاب اللحى ويسخر بهم وهم الذين يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعون السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، والخير كله في الاقتداء بهؤلاء الكرام، والشر كله في التشبه بالكفرة اللئام.
ثالثا: لقد زين الله الرجال باللحى وهي لذلك تضفي على الرجل كمالاً وجلالاً وهيبة ووقاراً. كما أنها تدعوه إلى الكمال في دينه وتصونه من المنكرات، وتبعث فيه الهمة والعزيمة والتحمل والصبر، وتجعله معروفاً بالفضل والدين والكمال، ويقدم من أجلها على غيره في كثير من المواقف الهامة.
وزينة المرأة في خلو وجهها من شعر اللحية. وفي حلق الرجل للحيته تشبه بالمرأة في تخلية الوجه من الشعر. والتشبه بالنساء حرام, وهو شبيه بحلقها لشعر رأسها وإزالة شعر عينها، ومروءة الرجل تنأى به عن ذلك. ولقد حسن الله صورتنا فعار علينا أن نشوهها بما يقبحها وبما يذهب حسنها وجمالها.(22/372)
رابعاً: إن اللحية أمر فطري خلق عليه الرجال يتلاءم وما خلقوا له وما أمروا به. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء". قال زكريا قال مصعب، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وفي حلق اللحية اعتداء على هذه الفطرة وتغيير لما خلق الله عز وجل وذلك من الكبائر. وهو مثلة في حق الرجل حقه أن يزجر وأن يؤدب لئلا يعود إليها. ولقد تغير الناس وصار المعروف لديهم حلق اللحى وإعفاء الشوارب، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً ولقد وصل الأمر إلى أن نعتبر ظهور شعر اللحية في الوجه أمراً غير محمود ولا كريم فيبادر البعض إلى إحفائه وإزالته طوعاً أو كرهاً طلباً لحسن المظهر في زعمه أو خوفاً من الاستهزاء أو الاستنكار وما يزال مفروضاً على شبابنا المسلم في القوات المسلحة بالدول الإسلامية أن يحلقوا لحاهم، وهذا أمر لا يليق ولا ينبغي فكيف يأمرون بأمر حرمه الله ورسوله والمؤمنون؟ وكيف يتأتى هذا في دولة دينها الرسمي الإسلام؟ وإعفاء اللحية من الواجبات الإسلامية ومن الشعارات المميزة للمسلمين؟ والمفروض من الجندي أن يكون رجلا بكل مظاهر الرجولة حتى يعطيه ذلك قوة وصلابة وبراً ويقيناً، ولقد كان ذلك بأمر المستعمرين حتى يبعدوا الشباب عن دينهم، أما وقد رحل المستعمر فحتم أن ترحل معه مبادئه المخالفة لشرعنا وشعائرنا. ولقد صارت اللحية الآن علامة على التدين والصلاح، ولقد مل الكثير من شبابنا المبادئ والأفكار المستوردة التي لا تتفق وديننا الحنيف وعرفنا الصحيح وبدءوا العودة إلى الدين كله، فعادت لهم الصورة الكريمة المهيبة الموقرة. وحق علينا أن نوفر السبل لهؤلاء ليتحقق لهم القدر الضروري من الفقه في الدين، حتى يلتزموا الصراط المستقيم ويسلكوا الطريق الوسط، بعيداً عن المبالغة(22/373)
والتغالي والإفراط. وحق علينا أن نتعهدهم وأن نرعاهم وأن نحسن إلى المحسن ونقدره ونكافئه، وأن نبصر المسيء بالحق والخير حتى يعود إلى الجادة، ولا خوف على الأمة إذا عاد شبابها إلى حظيرة الإيمان والعمل الصالح والعلم النافع، بل إن الرقي الحقيقي والسعادة الغامرة والفلاح والتوفيق في العودة إلى الإسلام خلقاً وسلوكاً وعبادة ومعاملة ومظهراً وشعاراً، أما الخوف الحقيقي على الأمة فإنما يكون بانسلاخ الشباب من ثياب الإيمان والعمل الصالح والعلم النافع إلى الفوضى والإلحاد والشك والفسق والجهل وما أخطر المسؤولية التي أنيطت بأعناق العلماء والدعاة. ولأجهزة الإعلام دورها الكبير الذي يجب أن تقوم به بعد طول غياب، ومسؤولية الأمراء والولاة والأئمة أن ييسروا السبيل وأن يشعروا الناس بالأمن والطمأنينة والسكينة بعد خوف قد طال.
لقد ثبت الأمر بتوفير اللحى لما فيه من خير كثير ولكن ذلك الأمر قد خفى على الكثيرين لما رأوا اختفاء اللحى وشذوذ وجودها خوفاً من الإيذاء، أما وقد أمن الناس بعد خوف فعليهم أن يعلموا وأن يعملوا بما علموا والعلماء والدعاة مسئولون عن ذلك أمام الله عز وجل ولقد خفي هذا الأمر على بعض العلماء لشغلهم بواجبات أخرى، كما أنه يشق على بعضهم العثور عليه في بطون الكتب. ولقد اتضح هذا الأمر أمام جهابذة العلماء ووضعوا فيه رسائل وبحوث مستفيضة، وكتب السنة الصحيحة وفقهاء الإسلام فصلت هذا الموضوع بإيضاح.
ما يكره في اللحية!(22/374)
يكره خضابها بالسواد لإظهار الشباب لا لغرض إرهاب العدو في الجهاد، ويكره خضابها بالصفرة رئاء الناس في ظهروه بمظهر الصالحين، وأما خضبها بالصفره اقتداء بالسنة فَحَسَنٌ ويكره تبيضيها بالكبريت ونحوه تعجلاً للشيب، ويكره نتف ما شاب منها، ويكره إهمالها حتى تصير مشعثة غير نظيفة ويكره قصها إلا للنسك، فيستحب عند الشافعي تقصيرها ويكره أخذ شيء من طولها أو عرضها لغير ما حاجة وتكره الشهرة في تعظيمها وتطويلها، ويكره عقدها.
---
(1) البخاري ج 4 ص 27.
(2) مسلم ج 3 ص 147.
(3) البخاري ج 4 ص 27، مسلم ج 3 ص 147.
(4) البخاري ج 4 ص 36.
(5) فتح الباري ج 10 ص 262.
(6) فتح الباري ج 10 ص 271.
(7) زاد المعاد ج 1ص 46.
(8) أبو داود والنسائي.
(9) البخاري ج 4 ص 27.
(10) أبو داود.
(11) مسلم ج 3 ص 146.
(12) مسلم ج 3 ص147.
(13) فتح الباري ج10 ص 258.
(14) مقاييس اللغة ج5 ص11.
(15) المصباح المنير.
(16) فتح الباري ج10 ص 258.
(17) القرطبي ج1 ص 491.
(18) شرح مسلم ج3 ص 151.
(19) فتح الباري ج10 ص 269.
(20) أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
(21) فتح الباري ج10 ص272.
(22) تقدم.
(23) تقدم.
(24) مسلم ج3 ص147.
(25) تقدم.
(26) فتح الباري ج10 ص273.
(27) جمع عثنون وهو اللحية.
(28) أحمد بسند حسن.
(29) أبو داود وابن حبان.
(30) مسلم ج3 ص147.(22/375)
رُخصَة الفِطر في سَفر رَمَضَانَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآَثَارِ
لفضيلة الدكتور أحمد طه ريان
الأستاذ المساعد بكلية الحديث
(الحلقة الأولى)
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، وسعت رحمته كل شيء من خلقه، وتجلت رأفته لأهل طاعته ومحبته، حيث وفقهم لعبادته، ثم أحسن إليهم بقبولها، وأجزل لهم المثوبة عليها، ففازوا بالسعادتين نعمة الطاعة في الدنيا، ونعمة الرضا والتكريم في دار النعيم، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإننا سنعرض في هذا التقديم -بإيجاز- لبيان أهمية هذا البحث ثم لدور السنة فيه، ثم بعد ذلك نعالج موضوع البحث في ثلاثة أصول، يشتمل كل منها على عدة مطالب، نتناول في الفصل الأول: رخصة الفطر في السفر، مبيناً كل جوانبها الهامة، ثم نتناول في الفصل الثاني: كيفية العمل بهذه الرخصة من بداية السفر إلى نهايته، وبعد ذلك نتناول في الفصل الثالث: بيان أهم الآثار المترتبة على الآخذ بهذه الرخصة، ثم نختم البحث بذكر أهم النتائج التي أمكن الوصول إليها من خلال هذا البحث، فتقول: وبالله التوفيق.
أهمية هذا البحث:
تتبين أهمية هذا البحث من خلال ارتباطه بالأمور الثلاثة الآتية:
الأمر الأول:(22/376)
إنه يتناول بالتفصيل رخصة الفطر في السفر باعتبارها تطبيقاً جزئياً لقاعدة هامة من قواعد الشريعة الإسلامية، ألا وهي قاعدة رفع الحرج، تلك القاعدة التي تعتبر من الحصون المنيعة التي أقامها رب العزة تبارك وتعالى للدفاع عن الشريعة الإسلامية ضد أعدائها الرامين لها بكثرة التكاليف وشدتها، كما أنها من جملة البراهين الساطعة الدالة على سماحة تعاليم الإسلام ويسرها، ومناسبتها لكل الظروف والأحوال، لذلك كانت هذه القاعدة وما تشتمل عليه من تطبيقات جديرة بأن يسجلها القرآن الكريم في كثير من آياته، مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة/286) ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج/78) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة/185) ، وقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء/101) وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء/179) .
الأمر الثاني:
إن هذا البحث يتناول أهم الأحكام المتصلة بجانب حيوي من جوانب الحياة الإنسانية، وهو السفر، وهو جانب لا يمكن الاستغناء عنه، وكيف يمكن الاستغناء عنه وقد جعله الإسلام واجباً في كثير من التشريعات العملية، فالحج فريضة على كل مسلم مستطيع، ولا يمكن تأديته لأكثر المسلمين إلا بالسفر، والوسيلة إلى تحقيق الواجب واجبة، ويقال هذا أيضا في الجهاد لمن تعين عليه.(22/377)
كما أن السفر ضرورة من ضرورات الحياة، إذ هو الوسيلة لتنمية التجارات، وتشغيل الصناعات، وطلب العلوم والمعارف، كما أنه من أهم الوسائل الموصلة إلى العلم بالله والتعرف على آياته، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..} (العنكبوت/20) .
ومع ضرورته ولزومه، فإنه لا يمكن فصله أو تجريده من المشقات التي تصاحبه في كل مرحلة من مراحله، من بدء التفكير فيه إلى الانتهاء منه، لذلك منَّ الله على الخلق بتهيئة السبل والوسائل التي تيسر لهم تحقيق غايتهم منه، قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (النحل/7) .
فلولا ما اقتضته رحمته تعالى بخلقه ورأفته بهم، من شرعية هذه التيسيرات –المتمثلة في رخصتي الفطر والقصر وما يتعلق بهما- لقعد المسلمون عن السفر، وتعطلت كثير من الفرائض، وكسدت التجارات وجمدت العقول.
ثم يأتي الأمر الثالث:
والذي يمسس هذا البحث جانباً هاماً منه وهو الصوم، تلك الشعيرة الربانية، والعبادة الصمدانية، التي أضافها الرب تبارك وتعالى إلى نفسه تعظيماً لها، وتشريفاً لفاعلها، ووعد المتصفين بها، بأنه سيتولى مثوبتهم بنفسه، ولن يوكل أمرهم إلى أحد من ملائكته.
فهذه العناية الإلهية بأمر الصوم والصائمين، تلزم أهل العلم -كل على قدر طاقته- أن يعطوا هذه الفريضة ما تستحقه ما اهتمام سواء بإيضاح ما تنطوي عليه من أسرار عظيمة، أو ببيان ما تشتمل عليه من أحكام جزئية، أو مسائل فرعية.
لذلك كله وغيره كان هذا الموضوع جديراً بما يبذل فيه من جهد أو ينفق فيه من وقت، ونسأله سبحانه أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن يوفقنا إلى تحقيق الغاية المرجوة منه وأن ينفع المسلمين به.
دور السنة في هذه الرخصة:(22/378)
تعتبر آية البقرة: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية، هي الأصل الأصيل لهذه الرخصة، ولم يقتصر دورها على التأصيل والتأسيس، بل إننا سنرى ضوؤها يشع في كثير من الفروع والآثار التي انبثقت عنها أو ترتبت عليها.
أما دور السنة في هذه الرخصة، فقد كان في أكثر الأحايين هو التبيين والتوضيح لما أجملته الآية السابقة من قواعد وأحكام، كبيان المراد من السفر الذي يباح فيه القصر أو الفطر، أو دور التقييد والتخصيص لما جاء مطلقاً أو عاماً من الفروع والجزئيات، كتحديد بداية العمل بالرخصة ونهايته.
كما أننا سنجد أنها قامت بدور التأكيد لما أفادته الآية، فقد جاء في حديث حمزة ابن عمرو الأسلمي حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر قال: "هي رخصة من الله" [1] ، وهو نفس المعنى المستفاد من الآية السابقة.
وأخيرا فإننا سنجد أنها قامت بدور التأسيس أو الإنشاء لأحكام لم تستفد من الآية كتحديد المدة التي إذا أجمع المسافر على إقامتها في مكان ما من سفره، فإن حكم السفر يرتفع عنه.
لذلك كان دخول هذا البحث ضمن نطاق فقه السنة أولى من دخوله في مجال فقه الكتاب العزيز، إذ هي تشمل ما جاء في الكتاب الكريم وزيادة.
الفصل الأول: رخصة الفطر في السفر
معنى الرخصة لغة وشرعا:
يقال رخص له في الأمر، أذن له فيه بعد النهي عنه، والاسم: الرخصة والرخصة -بتسكين الخاء وضمها- والرخصة- ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه [2] .
ومن هنا أطلق الفقهاء لفظ الرخصة على كل معنى خاص -روعي في تشريعه التخفيف سبب ما- إذا ما كان هذا المعنى مستثنى من حكم عام، وذلك كإباحة الفطر في السفر بسبب المشقة، وهذا الأمر مستثنى من الحكم العام، وهو وجوب الصوم على كل مسلم بالغ صحيح مقيم.
وعلى هذا فالرخصة شرعاً مستعملة في نفس المعنى اللغوي التي وضعت له.(22/379)
معنى السفر لغة وشرعا:
السفر -بفتح السين والفاء- يطلق في اللغة على عدة معان، من بينها: الكشف والذهاب والسعي بالإصلاح، يقال: سفر شعره: استأصله وكشف عن رأسه، وسفرت الريح التراب والورق كنسته وذهبت به كل مذهب، وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عنه، وسفرت بين القوم أي سعيت بينهم بالإصلاح، ومنه قول علي لعثمان رضي الله عنهما: إن الناس قد استسفروني بينك وبينهم، والجمع أسفار وسافرة وسفر وسفار، وفي الحديث: "صلوا أربعا فإنا قوم سفر" [3] والرجل المسفر كثير الأسفار القوي عليها، والأنثى مسفرة، وقد اشتق لفظ السفر المستعمل في لسان الشرع، وهو الضرب في الأرض من هذا المعنى.
وقد ربط الأزهري بين المعنى اللغوي والشرعي للسفر بقوله: لكشفه قناع الكن عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنازل الخفض عن نفسه: وبروزه إلى الأرض الفضاء ... ولأنه يسفر عن وجزه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافياً منها [4] .
المطلب الأول: الفطر في السفر رخصة عامة
يرى جمهور أهل العلم أن الفطر في السفر رخصة عامة، سواء حضر المسلم بداية الشهر مقيماً أو مسافراً، وقد نقل هذا القول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد، والعلماء كافة ما عدا بعض التابعين.
وقد استند الجمهور فيما ذهبوا إليه على ما يلي:
1- قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية، وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى: قد أعطى الإذن في الفطر لكل مريض أو مسافر على أن يقضي الأيام التي أفطرها بعد ذلك.(22/380)
2- ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" [5] . وجه الدلالة: قوله صلى الله عليه وسلم هي رخصة.. إلى آخره. يفيد العموم، لأن الشأن في الرخصة العموم، كما أنه عبر "بمن"المفيدة للعموم في جانب المستفيدين بالرخصة.
3- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس" [6] .
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة خلال شهر رمضان، أي بعد أن استهل عليه الشهر وهو مقيم صائم بالمدينة المنورة، ومع ذلك أفطر في بعض مراحل سفره.
المخالفون ووجهتهم:
نقل عن أبي مجلز التابعي أن من أدركه الشهر مقيماً فعليه أن يتمه مقيماً صائماً، ولا يسافر في أثنائه، فإنه إن سافر لزمه الصوم وحرم عليه الفطر [7] .
وما نقله عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني -بفتح العين-: من سافر في رمضان وكان قد صام أوله مقيما فليصم آخره، ألا تسمع أن الله يقول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة/185) .
كما نقل هذا القول أيضا عن سويد بن غفلة [8] .
وما نقله عبد الرزاق عن معمر عن أيوب، أن أم ذر دخلت على عائشة تسلم عليها وذلك في رمضان فقالت لها عائشة: "أتسافرين في رمضان؟ ما أحب أن أسافر في رمضان، ولو أدركني وأنا مسافرة لأقمت" [9] .
وما نقله أيضا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال علي رضي الله عنه: "لا أرى الصوم عليه -أي على من بدأه مقيماً صائماُ- إلا واجباً قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [10] .(22/381)
وقد نقل البيهقي الأثر السابق عن عبيدة السلماني بسنده.. إلى أبي البختري بنفس اللفظ السابق تقريباً إلا أنه عقبه بقول أبي البختري: قال ابن عباس -وكان أفقه منا- من شاء صام ومن شاء أفطر [11] .
وقد حرصت على نقل أسماء القائلين بهذا الرأي مع ذكر وجهتهم بالسند الصحيح إليهم، لأن ما ذكر عن هذا الرأي وعن القائلين به ووجهتهم لم يكن محققاً، ولنأخذ على سبيل المثال ما ذكره صاحب الفتح نقلاً عن ابن المنذر "روي عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما، ونقله النووي، عن أبي مجلز وحده" [12] .
واضح من رجال السند إلى علي رضي الله عنهم أنهم ثقات: فقد قال الحافظ ابن حجر في كل من معمر وقتادة: إنه ثقة ثبت [13] وأما عبد الرزاق صاحب المصنف فهو معروف. وقد قال فيه ابن حجر: إنه ثقة حافظ [14] . كما أن النووي لم يقتصر في نقله عن أبي مجلز وحده، بل نقله أيضاً عن أبي عبيدة السلماني وسويد بن غفلة كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ويتلخص مستند هذا الفريق في الاستدلال بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . ووجه الدلالة، أن من شهد الشهر حاضراً مقيماً وجب عليه صومه، ولفظ الشهر يطلق على الكل وعلى البعض، فيكون المعنى، فمن شهد منكم الشهر -كله أو بعضه- حاضراً مقيماً صائماً فإنه يجب عليه تكملة صيامه سواء أكمله حاضراً أم مسافراً.
ولكن الجمهور: يرون أن المعنى أن من أدرك الشهر أي حضره كله حاضراً غير مسافر وجب عليه صومه. وأما المسافر فله حكم آخر جاء به في الجزء التالي في الآية، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية [15] .(22/382)
ولكني أرى -والله أعلم- أن المعنى: أن كل من شهد الشهر وجب عليه صومه سواء شهده مقيماً أو مسافراً، صحيحاً أو مريضاً، ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من هذا العموم المريض والمسافر واختصهما بحكم خاص بهما، وهو إباحة الفطر لمن شاء منهما على أن يقضيه بعد ذلك في أيام أخر.
وهذا المعنى وإن كان يتفق مع المعنى الذي قصده الجمهور. لكنه يختلف عنه من حيث الدلالة فإن الآية على تقدير الجمهور: نزلت بحكمين مختلفين كل جزء منها نزل بحكم خاص منقطع الصلة عن الجزء الآخر، الجزء الأول نزل بحكمٍ للمقيم والصحيح، والجزء الآخر نزل بحكمٍ للمسافر والمريض. مع أن لفظ (من) في قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ} بفيد العموم، و (شهد الشهر) بمعنى حضره أي أدركه، وكل حي موجود يدرك هذا الشهر لا فرق بين مقيم ومسافر وصحيح ومريض، فمن أين لهم قصر معنى (من) على بعض الأفراد وهم المقيمون دون غيرهم ممن أدرك الشهر.
ويمكن أن يعتذر لهم بأنهم لجأوا إلى هذا التقدير ليتفقوا مع ما قاله أهل اللغة في الآية، فقد جاء في لسان العرب: تعليقاً على الآية السابقة: "معناه: من شهد منكم المصر في الشهر -لا يكون إلا ذلك [16]- لأن الشهر يشهده كل حي فيه، قال الفراء: الشهر نصب بنزع الصفة ولم ينصب بوقوع الفعل عليه، المعنى: فمن شهد منك في الشهر أي كان حاضراً غير غائب في سفرة" [17] والتكلف هنا ظاهر.
أما على تقدير: بأن كل من شهد الشهر وجب عليه صومه إلا المسافر والمريض فقد رخص لهما في فطره، فهو متفق مع سياق المعنى في الآية، وربما يعترض على هذا التقدير: بالصبي والمجنون ونحوهما من غير المكلفين إذ هم يشهدون الشهر، ومع ذلك لا يجب عليهم صومه، فيجاب عن ذلك: بأن أمثال هؤلاء يخرجون من الوجوب بنصوص أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" وغيره.(22/383)
وعلى فرض أن الآية تحتمل التأويلين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين المراد منها بفعله في غزوة الفتح، إذ صام أول الشهر بالمدينة، وخرج منها صائماً حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال الزهري -في رواية أخرى لحديث ابن عباس السابق-: "فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان" [18] .
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري -ولعله في غزوة بدر- قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" [19] .
وفعله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح -وكانت في العام الثامن من الهجرة- يعتبر من التشريعات المحكمة لما جاء في حديث ابن عباس السابق -في رواية ثالثة له-: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" [20] .
فهذه الأحاديث الواردة في محل النزاع تقطع كل احتمال يتوهمه البعض من الآية وترفع كل لبسة قد يحوم حول دلالتها على عموم الرخصة، سواء لمن شهد بداية الشهر مقيماً أو مسافراً فقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر/7) ، وقال جل من قائل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل/44) .
لذلك كان هذا هو الرأي المختار والله أعلم.
أما ما نقل عن علي رضي الله عنه من القول بوجوب إتمام الشهر صائماً فلعله كان اجتهاداً منه, ومعلوم أن النص الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أقوى من اجتهاد الصحابي مهما كان قدره.(22/384)
ومما يقوي أنه كان اجتهاداً منه، إشارته للآية بعد قوله بالوجوب مما يدل على أن ذلك كان استنباطاً منه للحكم من نص الآية. وقد قلنا: إن الآية وإن كان فيها احتمال لكن السنة قد رفعت عنها هذا الاحتمال.
أما ما نقل عن السيدة عائشة رضي الله عنها من كراهتها للسفر في رمضان، فلما في صومه من عظيم الثواب، وما في قيام ليله من المغفرة والرحمة فالمسافر وإن رخص له في الفطر، لكنه سيفوته ثواب الصيام في نفس الشهر، وسيفوته قيام ليله المؤدي للمغفرة والرحمة، مما ينبغي الحرص عليه.
وهذا في حق من كان يمكنه تأجيل سفره، أما من كان لا يمكنه، وكان التأجيل سيترتب عليه ضرر كبير على المسلم في أهله أو ماله، فليس هناك ما يمنعه، وما قلناه في حق علي رضي الله عنه، يقال فيما نقل عن عبيدة السلماني وغيره من التابعين رضي الله تعالى عنهم.
الدستور الأساسي
قال الفيلسوف (جيبون) :
القرآن مسلم به من حدود الأقيانوس إلى نهر الفانك بأنه الدستور الأساسي. ليس لأصول الدين فحسب بل للأحكام الجنائية والمدنية والشرائع التي عليها مدار نظام المجتمع الإنساني وترتيب شؤونه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم ج1 ص 145 دار التحرير- القاهرة.
[2] لسان العرب ج 8 ص 306 مصورة من طبعة بولاق. مادة رخص.
[3] لسان العرب ج 6 ص 31 مادة سفر.
[4] (والكن: الستر والوقاية، والخفض: الدعة والراحة والاطمئنان) .
[5] صحيح مسلم ج 3 ص 145 دار التحرير. القاهرة.
[6] صحيح البخاري ج 11 ص 45 مع شرحه عمدة القاري. دار الفكر ببيرو.
والكديد: بفتح الكاف وكسر الدال الأولى: موضع بينه، وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
[7] المجموع ج 6 ص 216- مطبعة المدني بالقاهرة.
[8] المجموع ج 6 ص 216.(22/385)
[9] المصنف ج 4 ص 270 الطبعة الأولى. المكتب الإسلامي ببيروت.
[10] المصنف ج 4 ص 269.
[11] السنن الكبرى ج 4 ص 246 -دار الفكر.
[12] فتح الباري ج 5 ص 83 مطبعة مصطفى الحلبي.
[13] تقريب التهذيب ج 2 ص123، 266 دار المعرفة ببيروت.
[14] تقريب التهذيب ج 1 ص 505.
[15] تفسير فتح القدير للشوكاني ج1 ص182 درا المعرفة ببيروت.
[16] الإشارة إلى المعنى الذي قدره.
[17] لسان العرب ج4 ص227 مادة شهد.
[18] صحيح مسلم ج3 ص141 دار التحرير ـ القاهرة.
[19] صحيح مسلم ج3 ص142.
[20] مسلم ج3 ص140.(22/386)
تطَلُعَات إلى المستقبل في مُسْتَهَل القَرْنِ الهجْرِي الْجَدِيدُ
لفضيلة الأستاذ محمد قطب
في مستهل هذا القرن الهجري الجديد.. استبشر كثير من المسلمين وهي ظاهرة طيبة، نرجو أن يحقق الله من ورائها الخير الكثير، ولكن الاستبشار وحده لا يكفي إذا كان مجرد أماني خاوية، يقول سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء/123) .
فالأماني الفارغة لا تغير شيئاً من الواقع، ولا تحدث ما نرجوه من الخير، إنما يحدث هذا التمني أثره الطيب بإذن الله حين يكون استبشاراً مبنياً على عمل، استبشاراً له رصيد من الواقع، إننا نريد أن نتدارس معاً أمر هذا الاستبشار بالقرن الهجري الجديد، هل هو مجرد أماني؟ أم أنه استبشار له رصيد من الواقع؟ وما ذلك الرصيد؟ على وجه التحديد؟ ما حجمه؟ ما الذي ينبئ به؟ ما الذي نرجوه من وراءه؟
أقول بادئ ذي بدء: إن الله لا يغير أحوال البشر بأرقام السنين، ولا بأرقام القرون، فكوننا دخلنا في قرن تاريخي جديد، ليس معناه بالضرورة أن يغير الله لنا، إنما علمنا الله سبحانه وتعالى طريق التغيير، قال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد/11) .
فطريق التغيير إذن: الطريق الذي يغير الله على أساسه واقع الناس هو أن يغيروا ما بأنفسهم، والتغيير بحالتيه من سيئ إلى حسن، أو من حسن إلى سيئ لا يحدث في حياة الناس إلا إذا غيروا ما بأنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال/53) .(22/387)
فإذا أنعم الله على قوم نعمة فإنه يحفظها لهم ما داموا هم حافظين لها، فإذا غَيَرُّوا ما بأنفسهم فإن الله يغير حالهم إلى حال سوء والعياذ بالله، ثم إنهم إذا كانوا في حال سوء، وأرادوا أن يخرجوا منها إلى حال خير فإن عليهم بادئ ذي بدء أن يغيروا ما بأنفسهم إلى خير فيغير الله ما بهم من سوء ويبدل أحوالهم إلى خير.
فعلى هذه القاعدة، أو على هذه السنة الربانية التي لا تتبدل ولا تتحول ككل سنن الله سبحانه وتعالى، نتدارس أمر هذا القرن الجديد، فنسأل عن هذا الاستبشار: هل هو مبني على واقع في نفوس الناس؟ أي بعبارة أخرى: هل بدأ الناس يغيرون ما بأنفسهم؟ فنتوقع إذن أن يغير الله لهم؟ أم إنهم ما زالوا يسيرون على الحال الذي يسيرون فيه؟ فلا تغيير إذن من عند الله ما دامت القلوب لم تتغير والعقول لم تتغير؟
أنا شخصياً من المستبشرين والحمد لله، استبشر لا بالسنوات، ولا بالأرقام، لكن استبشر بما أراه في قلوب الشباب في العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط، من تغير نحو الإسلام.. إنه اتجاه جديد.. بعث إسلامي جديد.. يعمر هذه القلوب من بعد ما كانت خاوية خلال القرون الماضية، فحل بالمسلمين ما حل بهم نتيجة خواء قلوبهم من الإيمان الصحيح، ولكني وأنا أستبشر بمطلع هذا القرن، وأرجو للمسلمين فيه خيراً، لا أغفل عن الواقع الذي نعيشه، لا أغفل عن الظلمات.. عن الأزمات.. عن المصاعب والمشقات التي تحيط بالمسلمين اليوم، وتعتصرهم اعتصاراً على يد أعدائهم في كل مكان في الأرض.(22/388)
ولعلنا لا نستطيع أن نمضي في الحديث عن هذا القرن الجديد، إلا إذا تحدثنا عن القرون القريبة الماضية، فالمستقبل حلقة من حلقات التاريخ متصلة بالحاضر، والحاضر حلقة متصلة بالماضي، ولا يمكن أن ندرك الحاضر ولا أن ندرك المستقبل المرقوب إلا إذا مررنا بالماضي نستشف أحداثه، ونعرف ما جرى فيه من تغير في أحوال المسلمين بعد أن كانوا هم الأمة، بعد أن كانوا هم القوة في الأرض، بعد أن كان لا يبرم أمر في الأرض إلاَّ برضاهم أو بمشورتهم، أو يغضبون فتهتز الأرض كلها.
كيف تغير الحال؟ كيف صار المسلمون إلى الذل والهوان والتشريد الذي يعيشونه اليوم؟ يُقَتَّلون في كل مكان في الأرض، يعذبون.. يشردون.. يطاردون.. تنتهك أموالهم وديارهم وأعراضهم.. بل تنتهك أرواحهم وقلوبهم.. وتحْشى بأفكار ليس بينها وبين الإسلام صلة، وبأمور مخالفة تمام المخالفة لدين الله. كيف حدث ذلك وقد وعد الله المؤمنين من هذه الأمة بالاستخلاف والتمكين والتأمين، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور 55) نعم، هنالك في الآية وعد من الله سبحانه وتعالى بالاستخلاف والتمكين والتأمين، ولكن الوعد مقرون بشرط {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} . إن هذا هو الشرط الذي اشترطه على هذه الأمة، والذي تكفل في مقابله أن يمنح هذه الأمة بركته ونصره وتأييده وعونه في الاستخلاف والتمكين والتأمين.
"يؤمنون"و "يمكن دينهم في الأرض"و "يصبحون هم الخلفاء"أي هم القوة التي تسيّر أمر هذه الأرض.(22/389)
كذلك قال الله في وصف هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران 110) .
وقال كذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة 143) .
هذا الوصف الرباني، هذا التقرير الرباني لهذه الأمة، أنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها شاهدة على البشرية كلها، وقائدة لها ورائدة، كيف تحول إلى هذا الهوان الذي تعيشه الأمة الإسلامية؟ هل يتخلف وعد الله؟ حاشا لوعد الله أن يتخلف، وهو الوعد الحق والله أصدق القائلين، ماذا حدث إذن؟ كيف نفسر القرون الثلاثة الأخيرة من حياة المسلمين، التي انحدروا فيها تباعاً، وظلت قوتهم تتضاءل بينما ظلت قوة أعدائهم تتصاعد، حتى غلب عليهم أعداؤهم وغزوهم في عقر دارهم، ومزَّقوا العالم الإسلامي مزقاً، ودخلوا لا الأرض والديار فقط، بل القلوب والأرواح، يغزوننا بما نصطلح على تسمينه "الغزو الفكري".
كيف حدث ذلك؟ كل شيء بقدر، نعم، ولكن قدر الله يجري من خلال أعمال الناس:-
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم 41) .
يظهر الفساد في البر والبحر بقدر من الله، نعم، لكن بما كسبت أيدي الناس، فقدر الله مرتبط بأعمال الناس في الأرض: هل يستقيمون على النهج أم يحيدون عنه؟ وبحسب سلوك الناس في الأرض يجري قدر الله.(22/390)
حين وقعت هزيمة "أحد"قال الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران 166) .
هو قدر من عند الله، نعم، مقدر في كتابه من قبل أن يبرأ السموات والأرض، لكنه جرى بما كسبت أيد المؤمنين يومئذ، {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . بمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدهم ونبيهم ومعلمهم، فأصابهم ما أصابهم في ذلك اليوم بقدر من الله وبفعل من أنفسهم، كذلك ما أصابهم في ذلك أصاب المسلمين في القرون الثلاثة الأخيرة إنه جرى بقدر من الله، ولكنه جرى من خلال أعمال المسلمين، فماذا عمل المسلمون في تلك القرون بالذات مما أورثهم هذا الهزال، وهذا الهوان، وهذا الضعف وهذا الذل الذي عاشوا فيه في القرن الأخير بصفة خاصة؟(22/391)
بكلمة مختصرة: لقد حادوا عن طريق الله، فإن أردنا أن نفصل هذه الكلمة شيئا من التفصيل، فلنراجع مفاهيم الإسلام وقواعده وأركانه، كيف نزلت من عند الله سبحانه وتعالى؟ كيف فهمها الصحب الكرام رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ كيف قامت بها تلك الأمة التي وصفها خالقها سبحانه، بأنها كانت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .. ثم كيف تحولت هذه المفاهيم، هذه الأركان، هذه المعاني الإسلامية في نفوس المتأخرين من المسلمين، وأبدأ بالركن الأكبر والأعظم من أركان الإسلام. الركن الذي يدخل به الناس الإسلام. "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله". ذلك ركن الإسلام الركين، ركنه الأول، قبل الصلاة والزكاة والصوم والحج، قبل كل شيء، هذا الركن الأساسي الذي ينبني عليه الإسلام، انبنى في الماضي، وينبني في الحاضر، وينبني في المستقبل، وبغيره لا يتم بناء على الإطلاق، كيف كانت "لا إله إلا الله"في حس هذا الجيل الأول الذي استحق وصف الله بكامله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ذلك الجيل الفريد الذي لم يتكرر في تاريخ البشرية، كيف نشأ؟ بم تفرد هذا التفرد في التاريخ كله؟ هل كانوا بشراً غير البشر؟ كلا والله، لقد كانوا بشراً تجري بشريتهم في عروقهم، في سلوكهم وفي أعمالهم، هم في كل لحظة بشر، ولكنهم بشر على الصعيد الأعلى. بشر في أعلى آفاق البشرية، فبم استطاعوا أن يصعدوا إلى ذلك الأفق السامق؟ بأي شيء ارتفعوا حتى استحقوا أوصاف الله لهم؟ ارتفعوا باستيعاب هذا الركن الأول بصفة خاصة، باستيعاب "لا إله إلا الله محمد رسول الله" استيعابها إلى أعمق أعماقهم، والسلوك بها في واقع الحياة في كل لحظة من لحظاتهم.(22/392)
ليست "لا إله إلا الله"تلك الكلمة العابرة التي صارت إليها في حس المسلمين المتأخرين، كلمة يقولونها، يظنون أنهم بها حازوا الإسلام وهم بعيدون عن معناها، بعيدون عن مقتضاها، بعيدون عن منهجها الشامل التي يشمل الحياة كلها، يقولونها بألسنتهم، وقلوبهم وعقولهم غافلة عنها، وسلوكهم الواقعي مخالف لها أتم المخالفة. وأي مخالفة أكبر وأعظم من أن يحكم المسلمون بشريعة غير شريعة الله وهم ينطقون "لا إله إلا الله"؟ ما معنى "لا إله إلا الله"إذن إذا لم يكن أول مقتضاها أن يتحاكموا على شريعة الله، ماذا بقي منها في واقع الحياة، بقي الصوت والصدى، وما كان المقصود بها أن تكون أصواتا تخرج من أفواه الناس، إنما كان المقصود بها أن تكون واقعا يعايش، كان المقصود بها أن تلغي الجاهلية التي تعبد أرباباً متفرقةً، وتحدث بدلاً من الجاهلية واقعاً جديداً فيه إله واحد يُعبد، لا آلهة متعددة، إله يُعبد في المسجد، وهو ذاته سبحانه يُعبد في كل مكان. أما أن يُعبد الله في المسجد، ويُعبد إله آخر في واقع الحياة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل/51) .(22/393)
فأما الجيل الأول الذي كتب بدمه.. بمشاعره.. بفكره.. لكل لحظة من حياته أمجاد التاريخ الإسلامي ووضع البذرة التي نمت خلال القرون، فقد كان يستوعب "لا إله إلا الله". كان يعرف مقتضياتها كلها، كان يعيش كل لحظة من حياته بـ "لا إله إلا الله"، فيتحاكم إلى شريعة الله، ويتخذ منهج الله منهجاً له في الحياة، يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله، ولا نقول إنهم كانوا ملائكة، كلا، لقد كانوا بشراً، وكان يجري عليهم ما يجري على البشر من خطأ وخطيئة، ولكنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران/135-136) .
نعم: لقد كانوا يخطئون كما يخطأ البشر، وتقع منهم الخطايا كما تقع من البشر، ولكنهم سرعان ما يفيئون إلى الله، يعرفون أنهم مخطئون، فيقومون من وهدتهم ويتجهون إلى الله من جديد، فيتقبل الله توبتهم ويعطيهم العزم والقوة على أن يسيروا في طريقه.(22/394)
كان ذلك الجيل يعرف حق المعرفة، ويقدر حق القدر ما "لا إله إلا الله"لم تكن في حسه كلمة عابرة، ولا قضية خفيفة الوزن، وإنما كانت حياته كلها هي "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله"، وبذلك كان خير جيل عرفته البشرية وبذلك فعل تلك المعجزات العجيبة التي لا يصدقها البشر لولا أنها واقع حدث بالفعل. كيف تأتىَّ لهذه الحفنة القليلة من البشر أن تنشر دين الله بهاذ اليسر، بهذه السرعة، بهذا التمكن من خلال نصف قرن كان الإسلام قد امتد من المحيط إلى ما وراء الهند، حركة لا مثيل لها في التاريخ كله من قبل ولا من بعد، هل تحدث جزافاً؟ كلا، إنما تحدث بمقوماتها، وأول مقوماتها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
حين يستوعبها القلب، حين تتعمق في النفس، حين تصبح هي منهج الحياة إنها تكتب الواقع على ذلك النحو الفريد الذي كتبه أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.(22/395)
ثم إن أجيالا مضت ومسلمون يستمسكون بأركان الإسلام ولكن يدهم تتخلخل من القبضة المتينة رويداً رويداً فيصيبهم من جراء هذا التخلخل ما ذكره الله لهم في سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، يجيء الأعداء يهاجمون دار الإسلام، جاء الصليبيون، وجاء التتار، وغزوا أرض الإسلام، ما غزوها اعتباطاً كل شيء بقدر، وكل شيء يسير حسب السنن الربانية، كان المسلمون قد غفلوا، قد ركنوا إلى الأرض، إلى الشهوات، إلى متاع الدنيا القليل، شغلتهم أموالهم وأنفسهم، شغلهم متاع لا يساوي أن يشغلوا به عن الدار الآخرة وعن الجهاد في سبيل الله، فجاء الغزاة: إنه عقاب سريع من الله سبحانه وتعالى، جاء الصليبيون وجاء التتار، وأغاروا.. وعاثوا فساداً في الأرض الإسلامية.. ولكن الله الغالب على أمره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف/21) ، إن الله الغالب على أمره كان قد قدر قدراً أن يستيقظ المسلمون مرة أخرى، أن يعودوا إلى الله بقيادة علمائهم وزعمائهم وقادتهم العسكريين.(22/396)
أرسل الله من العلماء من يذكِّرُ هذه الأمة بقضية عقيدتها، من ينقي لها تلك العقيدة مما شابها من أخلاط ليست منها، وكان في مقدمة أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، وبعث الله قادة من قادة المسلمين يذكرونهم، كما فعل "صلاح الدين"بأنهم غلبوا على أمرهم لأنهم نسوا الله، وشردوا عن دينه الصحيح، فيجب عليهم أن يعودوا إلى الدين، يجب عليهم أن يعودوا إلى النهج الصحيح، لينصرهم الله واستجابت الأمة، سواء وراء "صلاح الدين"في حربه للصليبين، أو رواء "قطز"في حربه للتتار، وصيحة "قطز" الشهيرة.. "وا إسلاماه"حين دخل المعركة الفاصلة بينه وبين التتار، بهذه الصيحة العظيمة "وا إسلاماه"وتغير مجرى التاريخ، لقد كان التتار قد خرجوا من ديارهم في رحلة مخربة مدمرة لم يتوقفوا فيها أبداً خلال ألوف من الأميال حتى دخلوا عاصمة الخلافة "بغداد"وعاثوا فيها فساداً بأبشع ما يعيث جيش غازٍ، جيش بربري، جيش لا يعرف للرحمة سبيلاً ولا معنى من معاني الإنسانية: يُقتِّل.. يُذبِّح.. لقد ألقوا بكتب المكتبة الكبرى في بغداد، ألقوا بها في النهر لتعبر عليها خيولهم، وحولوا مجرى النهر دماً أحمر أربعين يوماً وليلةً من المذابح التي أوقعوها بالمسلمين، ووصل الذل بالمسلمين يومئذ إلى حد أن التتري في بغداد كان يمر بالمسلم، والتتري ليس معه سلاح فيقول للمسلم: قف مكانك حتى أذهب إلى بيتي فآتي بالسيف فأقتلك، فيقف المسلم مكانه حتى يأتي التتري بالسيف ويقتله.(22/397)
وبعث الله لهذه الأمة قائدها الذي يقودها باسم الإسلام وتحت راية الإسلام، في تلك المعركة الشهيرة الحاسمة التي دخلها قطز رافعاً هذه الصيحة رافعاً هذه الراية "وا إسلاماه"وتغير مجرى التاريخ، ففي يوم واحد، في معركة واحدة، استغرقت من الصباح الباكر إلى ما بعد العصر، تغير ميزان القوى، وارتد التتار في "عين جالوت"لأول مرة منذ أن خرجوا من ديارهم، هزموا وتقهقروا، وكان ذلك فتحاً تاريخياً لأن التتار بعد ذلك بدأوا يدخلون في الإسلام.
ومضت جولة جديدة للمسلمين، اعتز فيها الإسلام ولكنه اعتز على دَخلٍ فيه، تلك هي الفترة التي قامت فيها الدولة العثمانية، وليس هنا مجال التفصيل في أمر هذه الدولة التي كثر الكلام ضدها في كتب التاريخ التي بين أيدينا، حتى قام قائل وهو مسلم أو يدعي أنه مسلم.. يقول: "الاستعمار التركي"وما ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه اللفظة، إن المسلم لا يكون مستعمر في أرض الإسلام، قد يكون ظالماً.. نعم، قد يكون فاسقاً.. نعم، قد يحدث منه ما يحدث مخالفةً ومعصيةً، أما أن يكون مستعمراً وهو يحكّم شريعة الله، إنها كلمة دخيلة، أدخلها أعدائنا إلى قلوبنا وأفواهنا لنكره الحكم الإسلامي.
ينبغي أن نحترس ونحن نتحدث عن هذه الدولة، لقد كانت فيها مظالم كثيرة.. نعم، ولقد كان فيها انحرافات كثيرة من دين الله.. نعم، ولكن يكفي هذه الدولة عند الله أنها حمت العالم الإسلامي أربعة قورن متوالية من الغزو الصليبي والصهيوني، ويكفي هذه الدولة عند الله أن السلطان "عبد الحميد"أبى أن يقيم الوطن اليهودي في الأرض الإسلامية، ودفع حياته أو ملكه ثمناً لذلك، وله عند الله عاقبة.(22/398)
ولكن علينا أن نقف وقفة عند هذه الأحداث: "عبد الحميد واليهود"، لأن حاضرنا الذي نعيشه مرتبط أشد الارتباط بهذه الأحداث، لقد ذهب اليهود بقيادة قائد الصهيونية أو مبتدعها "هرتزل"ذهبوا إلى السلطان عبد الحميد يعرضون عليه عروضاً مغرية لو أنه كان يريد الحياة الدنيا، وكان يريد لنفسه المجد والسلطان، فلم يكن ليطلب لنفسه أكثر مما عرضه عليه "هرتزل"له ولدولته، كانت "تركيا"في ذلك الوقت أو "الدولة العثمانية"تدعى "بالرجل المريض"لكثرة المشكلات التي كانت تحيط بها، وتوقعاً لسقوطها ميتة بعد طول المرض، كانت في أزمة اقتصادية حادة، وكانت فيها مشاكل سياسية كثيرة، وكانت الدولة الصليبية لا تكف عن استثارة الأقليات، المسيحية واليهودية لتشغل بال السلطان لكي لا يهدأ ولا يستقر، كانت روسيا تستثير المسيحيين الأرثوذكس لأنها هي أرثوذكسية المذهب، وكانت بريطانيا تتكلف بإثارة الأقليات الكاثوليكية والبروستانتية مع أنها هي بروستانتية، وكانت تلك الأقليات، ومن أبرزها الأقلية الأرمنية لا تكف عن إثارة المشاكل للدولة العثمانية، كل يوم مشكلة في ركن من أركان الدولة، ويضطر "السلطان"أن يضرب بيد من حديد على مثيري الفتن، فيقول الأعداء: انظروا. هذا هو الجلاد، هذا هو الدكتاتور، هذا هو البربري الذي لا يعرف الرحمة يقتلَّ رعاياه، يستثيرونهم ليثوروا ضد الدولة، ضد الإسلام، يريدون أن يقوضوا الإسلام، فإذا فتك بهم، وما كان أمامه إلا أن يفتك بهم، يقولون: "انظروا إلى السفاح".(22/399)
وذهب "هرتزل"إلى "عبد الحميد"يعرض عليه قروضاً طويلة الأجل ويعرض عليه تنشيط الحياة الاقتصادية في الدولة العثمانية، ويعرض عليه التدخل لدى الدولتين المناوئتين "روسيا"و "بريطانيا"لكي تكفا عن إثارة الأقليات، ماذا يطمع حاكم أكثر من ذلك: يستقر حكمه، يغني شعبه، يأمن من الفتن والاضطرابات، ماذا يريد أكثر من ذلك، وكان لهم في مقابل ذلك كله طلب صغير، هو إعطاء اليهود قطعة من الأرض في فلسطين ليقيموا عليها وطناً قومياً لهم، ورفض السلطان المسلم بما أوحى إليه إسلامه، وقال "لهرتزل": "إن هذه ليست بلادي ولكنها بلاد المسلمين وقد روتها دماؤهم، ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها".
وكان أن عُزِل.. وكانت نهايته، كما تعلمون منفياً في الأرض، ولكن له الأجر عند الله، لأنه وقف تلك الوقفة البصيرة.. المستبصرة بنور الله، التي عرف فيها أن هؤلاء الخادعين يريدون هذه القطعة القليلة من الأرض لتكون غداً دولة ولتتوسع هذه الدولة ولتنخر في عظام العالم الإسلامي، وهذا الذي كان.
نريد أن نتتبع بشيء قليل من التفصيل تلك السنوات التي مرت ما بين هذا العرض الإجرامي الذي رفضه "عبد الحميد"، وبين قيام الدولة اليهودية، التي لقد ائتمر المؤتمرون أو المتآمرون.. هرتزل ورفقائه، في مؤتمر أقيم في سويسرا عام 1897 للميلاد.. وقرروا في ذلك المؤتمر ضرورة إقامة الدولة في خلال خمسين عاماً. وإذا حسبته التاريخ تجد الدولة قد قامت بالفعل من خلال خمسين عاماً 1897-1947.. خمسون عاما بالضبط، فماذا فعل اليهود ونصارهم وحلفاؤهم من الصليبيين لكي يقيموا تلك الدولة.
لقد بدأوا بإزالة الخلافة الإسلامية.. لأن الخلافة كانت هي السد المنيع الذي يقف أمام أطماعهم، حتى "الرجل المريض"كانت أوربا تخشاه!!، ولست أنا الذي أقول ذلك، اقرءوا ذلك إن شئتم في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي".(22/400)
بألسنتهم هم، يقول واحد من المبشرين: "إن أوربا كانت تخشى الرجل المريض وهو مريض.. لأن وراءه ثلاثمائة مليون من المسلمين مستعدون للجهاد بإشارة من يده"، لذلك كانوا يخشونه وهو مريض، ولذلك كانوا يعملون بغية الإجهاز عليه، وبالفعل جاءوا بدعِيِّهم "مصطفى"وما هو بمصطفى، وما هو بمسلم، ولكنه تمسْلَم، "مصطفى كمال أتاتورك"وهو من أصل يهودي، من يهود "الدونمة"الذين هاجروا من المغرب إلى البلقان بأمر من قيادتهم السرية، وتمسلموا "ادعوا الإسلام"قبل تلك الأحداث كلها بمائة وخمسين عاماً، واستوطنوا بالقرب من دار الخلافة ليقيموا بدورهم حين يجيء الوقت المحدد لهذا الدور، وجاء "كمال أتاتورك"المتسمي بمصطفى ليزيل الخلافة الإسلامية وليمهد لإقامة الدولة اليهودية في حين غفلة من المسلمين، فما كان أحد في ذلك التاريخ يوم أزيلت الخلافة الإسلامية يتصور على الإطلاق أن الأحداث ستجري في طريق إقامة الدولة اليهودية في الأرض الإسلامية إنما كان الأشقياء، كان الشريرون يعبثون، يعيثون في الأرض فساداً وأول فسادهم إزالة الخلافة الإسلامية، وتمزيق العالم الإسلامي، أولا إلى كتلتين كبيرتين: الكتلة العربية، الكتلة التركية، وإثارة البغضاء والحقد والحسد بين الكتلتين، يدعون الترك إلى تتريك الدولة، أي إلى اضطهاد العرب، ثم يذهبون إلى العرب فيلعبون بقلوبهم، ويلعبون بعقولهم، يجئ "لورانس"ويدعي أنه صديق العرب، وأنه ينصحهم نصيحة خالصة، وما كانت نصيحته إلاَّ إثارتهم ضد الدولة التركية، فيتمزق العالم الإسلامي تمهيداً لتمزيق أكثر، لتفتيته إلى دويلات لا تستطيع أن تحمي نفسها، ولا تستطيع أن تدفع عن الإسلام شيئًا.
ومُزِّق العالم الإسلامي مزقاً متنافرة متناحرة متنافسة متباغضة على غير ما أمرهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(22/401)
وتكون جيش من المسلمين العرب يقاتل الدولة الإسلامية تحت راية "أللنبي"البريطاني وحين يدخل "أللنبي"بيت المقدس عام 1917م يقول: "الآن انتهت الحروب الصليبية ... "وما انتهت في الواقع، ولكنها كلمة تعبر عن الحقد الصليبي الذي يمتلئ به قلب ذلك الرجل، ولكن من أتباعه؟ من المقاتلون معه؟ مسلمون، عرب، يقاتلون مسلمين.
ويقول لورد "أللنبي"في مذكراته: إنه لولا المعونة الضخمة التي قدمها الجيش العربي ما استطعنا أن نتغلب على الدولة العثمانية.
يمزق العالم الإسلامي مزقاً، والعالم العربي بصفة خاصة، لتزرع فيه تلك الدولة الدخيلة وما كان في الإمكان أن تزرع وهناك إسلام في الأرض يحكمها، ما كان في الإمكان لشذاذ الآفاق أن يحتلوا الأرض المقدسة لو أن الناس كانوا يعون "لا إله إلا الله محمد رسول الله"وإن هذه الكلمة كانت تقتضيهم ألاَّ يقبلوا أن تدنس أقدام الكفار شبراً واحداً من الأرض الإسلامية، ولكن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط فيما عدا رقعاً قليلة منها أجزاء من الجزيرة العربية، وجسم الدولة التركية -أرض تركيا- ما عدا ذلك كله دخل في نطاق الاستعمار الصليبي، الذي تدخل الصهيونية تحت جناح الصليبية فيه لتعيث فساداً في الأرض ولتمكن وتهيء لقيام الدولة اليهودية.
وبعد خمسين عاماً من هذا التشتيت، من هذا التمزيق، في موعدها الذي قدره الله، والذي قال به "هرتزل".. وما كان ينطق بالغيب، ولكنه يخطط والمسلمون غافلون، يدبر، والمسلمون مشغولون بخلافاتهم بعضهم مع بعض، بأحقادهم بعضهم على بعض، بتنافسهم على لعاعات من الحياة الدنيا، ينسون بها الله وينسون بها الآخرة، ينسون بها مقتضيات "لا إله إلاَّ الله"وإن كانوا يقولون بألسنتهم صباح مساء.
ومنذ قامت تلك الدولة ماذا حدث في العالم العربي بصفة خاصة والعالم الإسلامي بصفة عامة؟(22/402)
لقد كان اليهود وحلفاؤهم الصليبيون قد دبروا وخططوا تخطيطاً دقيقاً ألا تقوم قوة على الإطلاق تواجه تلك الدولة، فأزالوا القوة السياسية والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة الروحية للمنطقة كلها، فأما القوة السياسية فماذا تملك تلك الدويلات التي تحتضنها بريطانيا وفرنسا؟. ماذا تملك أن تصد عن نفسها وأن تمنع عدوان العادين؟ وأما القوة العسكرية، فقد فتت جيوش العرب، ووضعت تحت وصاية حليفتي اليهود بريطانيا وفرنسا، فصارت أسلحة العرب من بريطانيا وفرنسا، وذخيرة السلاح من بريطانيا وفرنسا، فإذا كفت هاتان الدولتان أيديهما من الذخيرة فقط تتوقف الجيوش العربية كلها في ساعة، أما الاقتصاد فقد سيَّره الصليبيون والصهيونيون في خطة معينة: إضعاف العالم العربي، واستنزاف ثرواته، وتركه مريضا فقيراً جاهلاً لا يملك أمر لنفسه.
أما قوة الشباب، وهي قوة هائلة تُخشى، فقد سلطوا عليها السينما والإذاعة ولم يكن التلفزيون قد اخترع بعد، وسلطوا عليها المراقص، والحانات والشواطئ العارية، سلطوا عليه الصحافة.. العارية بصورها العارية بأخبارها، العارية بقصصها.. العارية بأفكارها.. التي تبعد الشباب عن الله، تبعده عن الدين، تبعده عن الجدية في أي أمر من الأمور.
وحسب المخططون أنهم قد خططوا تخطيطاً كما يقول المثل العامي "لا يخر الماء منه""محكم"، وهو في الحقيقة محكم، ولكنهم نسوا أن هناك مسلمون ما يزالون يقولون "لا إله إلا الله"لا بأفواههم فقط.. إنما يقولونها بقلوبهم، بأرواحهم، بمنهج حياتهم، يقولونها يقصدونها حقاً، ويعيشون في ظلها، ويعيشون على نحو مما عاش المسلمون الأوائل الذين قال فيهم أبو بكر رضي الله عنه: "إنهم قوم أحرص على الموت من حرص أعدائهم على الحياة".(22/403)
في عام 1948م حين أعلنت الدولة، وقامت مسرحية الحرب بين الدول العربية والكيان اليهودي، وتراجعت في نهايته الجيوش العربية إلى خط الهدنة المقرر من قبل، المصطلح عليه من قبل، الذي يعرف القادة المحاربون في المسرحية أنهم سيعودون إليه بعد المسرحية!! حين قامت تلك المسرحية كان "فتيةٌ" من المؤمنين بالله، من الذين يردون أن يصلوا إلى الله شهداء، أو منتصرين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة/52) . الشهادة أو النصر.. كان "فتية"يملأ قلوبهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يقاتلون في أرض فلسطين، وما كانوا يزيدون في أي معركة عن مائة، ولكنهم كانوا يقاتلون بقوة الإسلام، بقوة الإيمان، القوة التي لا تغلب، فما إن عركهم اليهود وعركوهم في معركة أو معركتين، حتى صاروا إذا سمعوا صيحة "الله أكبر ولله الحمد"يفرون من مستعمراتهم، تاركين أسلحتهم وذخائرهم لينجوا بجلودهم، عند ذلك تقرر أنه لا يمكن للدولة الوليدة أن تعيش إلا إذا قضى على هؤلاء "الفتية"المقاتلين.
وكان تخطيط عالمي اشتركت فيه كل قوى الشر العالمية للقضاء على هذه "الحفنة"من المؤمنين لكي تستقر الدولة في مأمنها، لكي لا يزعجها "لا إله إلا الله محمد رسول الله".(22/404)
وقوتلت تلك "الفئة"من الشباب، وحوربت، واضطهدت، وعذبت.. عُذبت عذاباً لا مثيل له في التاريخ إلا محاكم التفتيش في الأندلس، وما كان يقصد بمحاكم التفتيش في الأندلس إلا القضاء على الإسلام والمسلمين في تلك البلاد، لم تكن مجرد حرب، لم يكن مجرد اضطهاد، إنما هو تعذيب منظم للإبادة، ولكن قدر الله شيء، وما يقدره البشر شيء آخر، قدر البشر أن تفنى هذه الحفنة من "الفتية"المؤمنين، أن ينتهي الإسلام من الأرض لتستقر تلك الدولة، ولتستقر قلوب الصليبية الحاقدة، لتسقط الثمرة التي طالما اشتهوها، وظنوا أنها طابت واستوت، وأنها واقعة في أيديهم لا محالة، قدَّروا ذلك، وقدَّر الله أن يقوم بعث إسلامي في كل بلاد العالم الإسلامي، قدَّر الله أن ينشأ جيل جديد من الشباب يقول "لا إله إلا الله"لا يقولها بلسانه فقط، إنما يقولها بلسانه وقلبه، يعيشها.. يريد الإسلام واقعاً يُعَايَش، لا يريده كلمات جوفاء، لا يريده شعارات، لا يريده أفكاراً موضوعة في كتب.. سواء كانت تلك الكتب صحيحة التصوير للإسلام أم فاسدة التصوير.. إنها في حالتيها لا تصلح، الكتب وحدها لا تصلح الشعارات وحدها لا تصلح الأفكار الجامدة الميتة لا تصلح، إنما يصلح "لا إله إلا الله محمد رسول الله"عقيدة حية تملأ القلب، تشكل السلوك، تغير الواقع.(22/405)
ومشيئة الله الغالية، الله الذي أنزل هذا الدين ليبقى إلى يوم القيامة وليظهره على الدين كله، وحفظ كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر/9) ، حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث لم تحفظ سيرة ولا سنة لنبي من قبل إلا ما حفظه القرآن من سير الأنبياء السابقين، هذا الدين الذي أنزله الله ليبقى لن يمحى من الأرض بإذن الله، فيقيِّض الله له بقدر منه جنوداً يحمونه، ولابد من هؤلاء الجنود، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال/62) .
ولقد كان يكفي لعقولنا نحن أن يقول الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} فماذا بعد نصر الله؟!! ولكن الله يلفتنا إلى سنة من سننه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، لابد أن يكون هناك مؤمنون في الأرض يكونون جنوداً، يكونون ستاراً لقدر الله، يُجري الله قدره، ولكن من خلال هذا الستار البشري جنود مؤمنون، يعيشون "لا إله إلا الله محمد رسول الله"يعيشونها واقعاً حياً، يسلكون بها سلوكهم الواقعي، فينصر الله بهم هذا الدين.
إن الواقع الذي عشناه في نهاية القرن الرابع عشر، ودخلنا به مستهل القرن الخامس عشر هو هذا الواقع الذي وصفته لكم.
الصليبية والصهيونية جاثمتان على أرض الإسلام، تمتهنان كل كرامة في الأرض الإسلامية، يسلبون المسلمين أرضهم وديارهم وأموالهم، ينتهكون أعراضهم، ينتهكون قلوبهم وأرواحهم بالغزو الفكري، يضعون في تلك القلوب أفكاراً غير إسلامية وسلوكاً غير إسلامي، واتجاهات غير إسلامية، وفي ذات الوقت بعث إسلامي جديد يملأ قلوب حفنة من الشباب، قليلون هم: نعم بالنسبة لتعداد المسلمين، ولكنهم هم الأمل، هم البشير الذي نستبشر به بالنسبة للقرن الخامس عشر وما يتلوه إن شاء الله من القرون.(22/406)
قلت في مستهل كلامي: إن الاستبشار، إن الأماني الخاوية لا تغير شيئا، ولا يغير الله بها شيئا في الواقع، إنما يغير الله حين يغير الناس ما بأنفسهم:- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد/11) .
فهل حدث التغيير؟ نعم لقد بدأ يحدث، بدأ منذ نهاية القرن الرابع عشر وندخل القرن الخامس عشر وهذا التغيير قائم في قلوب تلك الفئة من الشباب، إن تكن قليلة اليوم بالنسبة لتعداد العالم الإسلامي: الألف مليون.. الذين تحدث عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في لمحة من لمحات الوحي فقال:
"يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" [1] .
هذه الألف مليون من البشر التي تعمر الأرض الإسلامية غثاء كغثاء السيل، لا يقام له وزن، تقضى الأمور وهو غائب. كما كان الشاعر العربي القديم يقول عن قبيلة "تيم":
ويقضي الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأذنون وهم شهود(22/407)
كذلك الحال مع هذا الغثاء الذي يملأ الأرض الإسلامية. ولكن يشاء الله أنه من وسط هذا الغثاء يبرز هذا الجيل الذي نستبشر به ونرجو من الله على يديه الخير، جيلٌ يرجع إلى أصول الإسلام الصحيحة من كتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة السلف الصالح، يريد الإسلام واقعاً حقيقياً خالياً من الغبش، لا يريده شعارات. لا يريده ألفاظاً، لا يريده أفكاراً جامدة، إنما يريده واقعاً حياً مأخوذاً من النبع الصافي: من كتاب الله وسنة رسوله، ومقتدى فيه بالسلف الصالح الذي كان يعيش الإسلام حقاً، ويدرك معانيه حقاً، ويطبقه في واقع حياته حقاً. هذا هو البشير الذي نستبشر به بالنسبة للقرن الخامس عشر. وما نقول أبداً إن الظلمات قد انتهت وإن المشكلات قد ذهبت، ولا إن الأعداء قد تركوا عداءهم لهذا الدين. كيف والله تعالى هو الذي يقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة/217) .(22/408)
إن أعداء الله الذين ذكرهم الله في كتابه المنزل، إنهم فئات أربع: اليهود، والنصارى، والمنافقون، والمشركون. هؤلاء هم أعداء "لا إله إلا الله"وهؤلاء هم الذين لم يكفوا أبداً عن عدائهم للإسلام، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة/120) . وقال عن المشركين عامة: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة/217) ، ومصداق ذلك هو الواقع الذي نعيشه، بل مصادقة الأربع عشر قرناً التي عاشها الإسلام في الأرض، ولكن هذا القرن بصفة خاصة -أقصد القرن الرابع عشر- كان مصداقاً لتلك العداوات: اليهود والنصارى في كل بلاد الأرض، المنافقون، المشركون وهم اليوم فئات كثيرة أبرزهم الشيوعيون والملحدون الذين يعادون هذا الدين عداوة لا هوادة فيها.. والذين يتحالفون مع المعسكر الغربي حين يبرز الإسلام وينسون عداوتهم معه فهم في حرب دائمة مع أوربا وأمريكا إلا حين تكون القضية قضية الإسلام فيتحالف الأمريكان والروس كما تحالفوا في تقسيم "باكستان"إلى شرقية وغربية، وكما تحالفوا في أفغانستان. ونفذها الشيوعيون كانت برضاً من المعسكر الغربي، وإن كان المعسكر الغربي يتصايح بين الحين والحين.. إنه صياحٌ يشجع القاتل على ذبح الفريسة..
إنك إذا وجدت رجلاً يمسك بالسكين ليقتل إنساناً ثم وقفت من بعيد تصيح به "عيب يا شيخ ماذا تصنع؟! "فأنت في الواقع تشجعه على أن يتم جريمته.. وهذا هو الذي حدث من أمريكا بالنسبة للشيوعيين.. هم الذين هيأوا لروسيا أن تغزوا أفغانستان. نعم إن الشيوعية لها حقدها الخاص وهو أشج الحقد.. ولكنهم يتآزرون جميعا على حرب الإسلام.(22/409)
ما من قضية يبرز فيها الإسلام إلاَّ وتتكالب كل دول العالم؛ اليهود والنصارى، والمنافقون والمشركون.. كلهم في أرجاء الأرض يتكالبون للقضاء على الإسلام والمسلمين، وإن استبشاري الذي أعبر عنه إنني لا أغفل عن الواقع الموجود، لا أغفل عن الظلام الذي يكتنف المسلمين.. لا أغفل عن المذابح التي تقع في كل أرض الإسلام والمسلمين.. لا أغفل عن مذابح سوريا أو مذابح أفغنستان.. أو مذابح الفلبين.. أو مذابح تشاد.. أو مذابح أوغندا.. وكل بلد من بلاد المسلمين تقع فيه المذابح.. إلاَّ من رحم ربك.
لا أغفل عن ذلك الواقع ولا أغمض عيني عن الظلام الكائن اليوم.. ولكني فقط أقول.. أن هناك فارقاً بين بداية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر.
لقد استعرضنا معاً أهم الأحداث أو أكبر الأحداث في القرن الرابع عشر.. فكيف كان حال المسلمين حين وقعت تلك الأحداث؟ كانوا في يأس حين زالت دولة الخلافة.. يئسوا.. قنطوا.. شردوا من الإسلام.. انسلخوا منه.. ذهبوا وراء أوربا شرقها وغربها.. ظنوا أن طريق الخلاص هو أن يتبعوا أعداءهم ... حتى إن دخلوا جحر ضَبٍّ دخلوه.
نبذت أوربا دينها فانسلخ المسلمون من دينهم.. عرَّت أوربا نساءها فعرى المسلمون نساءهم وأخرجوهن في الشوارع والشواطئ عاريات.. قالت أوربا أن التقدم يقتضي القضاء على الدين لأنه خرافة.. فقال المسلمون أو من يحملون أسماءً مسلمة.. إنه لا بد لنا لكي نتقدم أن نقضي على الغيبيات.. أن نقضي على الخرافات لكي نتقدم!!! قالت أوربا إن التقدم هو المصانع.. وهذا التقدم المادي.. وهو التكنولوجيا.. بعيداً عن عالم الروح.. بعيداً عن الدين.. بعيداً عن الله.. بعيداً عن اليوم الآخر.. فقام مسلمون أو من يتسمون بأسماء المسلمين يقولون هلم ننشئ المصانع.. هلم نتعلم التكنولوجيا ولكن على أساس قتل الدين وإزالة الغيبيات من النفوس.(22/410)
وذلك كان القرن الماضي.. واليوم تقع الأحداث في العالم الإسلامي وستستمر لأن العداوات المتأصلة ما زالت متأصلة. ولأن القوة الإسلامية لم تنمُ بعد إلى الحد الذي تصد فيه العدوان الصليبي والصهيوني والشيوعي والإلحادي.. ولكن الفارق هو أن موجة الانسلاخ من الإسلام كانت هي عنوان القرن الرابع عشر، وموجة العودة إلى الإسلام هي عنوان هذا القرن والقرون التالية بإذن الله.
إني أستبشر بمستقبل الإسلام لأمرين كبيرين.. الأمر الأول هو الذي شرحته.. قيام حركات البعث الإسلامي في كل مكان في الأرض الإسلامية.. العودة إلى الإسلام، الرغبة في تطبيق الإسلام بصفائه، بنقائه، بحيويته، بحركيته، بواقعيته. والأمر الثاني الذي يبعث الاستبشار في نفسي -لا مجرد أماني ولكن قراءة للواقع، وقراءة له على ضوء السنن الربانية.. هذا الأمر هو أن الحضارة الأوربية آخذة في الانهيار. ويتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما علاقة هذه البشرى أو هذا الاستبشار بانهيار الحضارة الغربية؟.. نعم: لقد كان أشد ما فتن المسلمين عن دينهم في القرن الماضي بصفة خاصة هو هذه الحضارة الغربية.. وذلك لأن قوماً من المسلمين من المسلمين أو ممن يحملون أسماء مسلمة قالوا لأنفسهم، هذه أوربا بلا دين وهي قوية ممكنة في الأرض، ونحن مسلمون ومع ذلك فنحن جهلاء، ونحن ضعاف ونحن متخلفون، فما قيمة الدين إذن؟! فلننبذه ولنصنع كما صنعت أوربا. تلك المعادلة الخاطئة غير المستبصرة كانت سبباً في فتنة الشباب المسلم في القرن الماضي.(22/411)
لقد شهدوا جزءًا من سنة الله ولم يدركوا بقية السنة ولم يدركوا الحكمة لقد وجدوا أوربا الكافرة ممكنة في الأرض.. نعم.. ولكن ذلك لا يخالف سنن الله، وحاشا لشيء يقع في الأرض أو في الكون كله أن يكون مخالفاً لسنن الله.. لقد نسي أولئك الذين فتنوا بأوربا.. بل لم يتدبروا أصلاً قرآنهم الذي بين أيديهم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد/24) .
يقول الله موضحاً ومبيناً ما يقع في أوربا اليوم وما وقع في أمم سلفت من الجاهليات القديمة.. يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام/44) . نعم: هذه هي السنة الربانية، نسيت أوربا ما ذكرت به، نسيت إلهها نسيت الآخرة، وانحصرت في الحياة الدنيا، وعلى مستوى من أحط المستويات من الحرص على الحياة الدنيا ومتاعها الرخيص. فماذا فعل الله بهم؟.. فتح عليهم أبواب كل شيء.. أبواب القوة السياسية.. أبواب العلم.. أبواب التكنولوجيا أبواب القوة الحربية.. أبواب القوة الاقتصادية.. كل أبواب القوة.. انظر إلى العبارة " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} .
نعم. هذا جزء من السنة الربانية.. ولكن المتدبر لكتاب الله يعرف النهاية المحتومة لهؤلاء القوم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام/44) .
لقد بدأت السنة تتحقق، بدأ هذا الكيان الشامخ المخيف يتزلزل. القوة المادية ما تزال في أيديهم.. نعم.. ولكن كتابهم ومفكريهم وفلسفاتهم هم الذين يقولون إن هذه الحضارة آيلة إلى السقوط.. آخذة في الانحدار لخلوها مما يسمونه هم "القيم الروحية"، ومما يسميه الله سبحانه وتعالى "لا إله إلا الله محمد رسول الله".(22/412)
هذا البناء الشامخ المخيف الذي أزاغ قلوب المسلمين في القرن الماضي يبدأ اليوم يتزلزل. ولو قلت للناس قبل عشرات السنوات إن الحضارة الأوربية آخذة في الانهيار ما صدقوك. لكنهم اليوم والحمد لله يصدقون لأن أوربا تقول هذا من نفسها.. تقول: إنه ما لم يتغير واقع الحياة الأوربية.. ما لم يعودوا إلى القيم الروحية.. فإنهم صائرون إلى الانهيار.
ماذا يهمنا نحن من انهيار أوربا؟ أنشمت فيهم؟ كلا: لا شماتة. ليست القضية قضية شماتة.. إنما هي إرادة الخير للبشرية كلها.. وأوربا من بينها.. إن أوربا حين مُكنت فُتنت.. وزادت جحوداً، وزادت بعداً عن الله.. ولن تعود إلى الله أبداً إلا بقارعة.. لن تعود حتى يهتز كيانها اهتزازاً لن تعود حتى تحس أن بنيانها يتقوض.. عندئذ إذا قدر الله لها.. تعود إلى الله.. فيغير الله لها حين تغير ما بأنفسها.
ولقد بدأوا يحسون. فبدأ أفراد منهم يدخلون في دين الله، ولكنا نطمع غداً -لا أن يدخلوا في دين الله أفراداً- إنما يدخلوا في دين الله أفواجاً.
أرأيتم ما الذي يمنعهم اليوم من الإسلام؟؟ إنهم حائرون إن القلق والحيرة والضياع تملأ عليهم حياتهم، فتضيق بهم الأرض.. وتضيق قلوبهم بهم فينتحرون، ويصيبهم الجنون والقلق والأمراض العصبية والأمراض النفسية. ويفرون يريدون العلاج.. يبحثون عن الطريق.. يدخل بعضهم في "البوذية"يظنون أنها هي الطريق. يدخل بعضهم في "الهندوكية"يظنون أنها هي الطريق. بعضهم يدخل في عبادة "كريشنا"وهي إحدى العبادات الجاهلية القديمة التي تعاد إلى الحياة اليوم في أوربا وأمريكا.. ويدخل فريق منهم في الإسلام. لماذا لا يدخلون كلهم في الإسلام؟! أولئك الباحثون عن الطريق. وهل الطريق إلاَّ الإسلام؟!(22/413)
تعلمون ما الذي يصدهم؟ إنما يصدهم واقع المسلمين.. يسمعون كلاماً طيباً عن الإسلام، في الدعوة، في الكتب في المحاضرات.. في البحوث التي تلقى عليهم.. ثم يقولون للدعاة، إذا كان الإسلام بهذا الشكل فلماذا كانت حياتكم أنتم نقيضاً لما تقولون؟
من أجل ذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يعلم المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف/2-3) .
ولكن الجيل الجديد الثابت في رحاب الإسلام.. الذي نستبشر به للغد في العالم الإسلامي.. نستبشر به أيضاً لمستقبل البشرية. أن الحائرين الضالين الذين يلدغهم الضياع فيبحثون عن الطريق سيجدون الطريق غداً.. حين يجدونه في واقع سلوكي مطبق.. حين يجدون مجتمعاً إسلامياً.. يعيش الإسلام حقاً.. يعيش "لا إله إلا الله محمد رسول الله"مع بقية أركان الإسلام.. عندئذ فإن الجادين في البحث عن الطريق سيجدون الطريق أمامهم. وسيدخلون في دين الله أفواجاً. متى يحدث ذلك؟؟.. ذلك غيب.. ولكنا نرى بشائره منذ اليوم..
ثن نستبشر ونختم حديثنا اليوم بهذه البشرى التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث بلسان الوحي:
"لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" (م ـ عن أبي هريرة) .
وفي إحدى روايات الحديث.. رواية عجيبة، بالنسبة لنا.. ولا عجب في الوحي.. في إحدى روايات الحديث "أنتم شرقي الأردن وهم غربيه".. فيتحدد مكان المعركة بالضبط.. المعركة التي نتهيأ بوادرها اليوم.. وقال واحد من الصحابة "ما كنا ندري مل أردن حتى سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث".(22/414)
إنها لبشريات.. وما أقول أبداً إن الواقع الحالي مشرق مريح للأعصاب.. بل أقول: إنه يكتنفه الظلام.. تكتنفه العقبات.. تكتنفه المشقات.. تكتنفه المشانق المعلقة للمؤمنين في كل مكان في الأرض.. نعم ولكن البشرى غالبة بإذن الله.. إني أمد بصري إلى القرن القادم وقرون تالية بإذن الله.. فأرى أن هذا البشير الذي ولد في نهاية القرن الماضي سيكبر بإذن الله.. يترعرع كما وصف الله المؤمنين.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح/29) .
يترعرع هذا الجيل بإذن الله.. ويمتد هذا الخط على الأفق.. فيلتقي بخط انهيار الحضارة المادية الكافرة فيكون النصر المؤزر بإذن الله.. وتكون جولة جديدة للإسلام.. يدخل فيها الناس في دين الله أفواجاً وتقوم المعركة الكبرى بين الإسلام وبين أكبر أعدائه.. بين المسلمين وبين اليهود.. فينتصر المسلمون بعون الله.. وتكتب صفحة جديدة للإسلام.
ذلك ما خطر في نفسي من خواطر في مستهل القرن الخامس عشر أحببت أن أشرككم فيها.. أحببت أن تشاركوني استبشاري بهذا القرن.. لا على أنها مجرد أماني.. ولكن على رصيد من الواقع بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اليوارنيوم في الوطن الإسلامي(22/415)
طالب الدكتور عدنان مصطفى الأمين العام المساعد لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (الأوبك) ببدء التحرك العربي لحيازة التقنية النووية تمهيداً لاستغلالها في تلبية الطلب المستقبلي على الطاقة في الوطن العربي.
وقال في ورقة العمل التي تقدم بها إلى المؤتمر العربي الرابع للثروة المعدنية أن أي قرار يتخذ بشأن استغلال الطاقة النووية لا بد له أن يستند إلى المعرفة التامة بمقدار وفرة مصادر الوقود النووية المقرر تشغيلها لتوليد الطاقة المطلوبة. وحث الدكتور مصطفى المنظمة العربية للثروة المعدنية ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط على التعاون لتحقيق رؤية عامة لمصادر اليورانيوم العربية.
وأشار إلى وجود جهود جادة ومنهجية لاستكشاف وتقييم وجود اليورانيوم في مناطق محدودة في الجزائر والمغرب وموريتانيا والصومال ومصر وفي العام الماضي تم توقيع عقود عديدة لاستكشاف اليورانيوم في السعودية والسودان والأردن.
وتذكر ورقة العمل أن مجمل الاحتياطي العربي المؤكد لأوكسيد اليورانيوم يقدر بحوالي ستين ألف طن إلا أن استخلاص اليورانيوم من الفوسفات الذي دخل في حيز الاستغلال الاقتصادي يرفع الكميات الممكن استخلاصها كإنتاج ثانوي من الفوسفات الرسوبي العربي إلى 3.6 ملايين طن.
الرائد الهندية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحديث عن ثوبان رضي الله عنه. أخرجه أبو داود في الملاحم، ورواه أحمد في مسنده بسند قوي.(22/416)
العدد 50-51
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير - أمتنا المسلمة: بقلم الشيخ سعد ندا
2- أداء الأمانات والحكم بالعدل: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
3- من مظاهر البلاغة القرآنية قوة الحجة ووضوحها: الدكتور علي محمد حسن العمّاري
4- إزالة الشبهة عن حديث التربة: فضيلة الشيخ عبد القادر السّندي
5- مسلك القرآن الكريم في إثبَات البعث: د. علي بن محمد بن جبر الفقيهي
6- مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الخامسة) : بقلم الشيخ سعد ندا
7- البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي: الشيخ صالح سعد السحيمي
8- رخصة الفطر في سفر رمضان وَمَما يَتَرَتب عَلَيهَا مِن الآثارِ (الحلقة الثانية) : للدكتور أحمد طه الريان
9- الحدود في الإسلام: للدكتور جمعة علي الخولي
10- الرَّق في الجَاهليّة والإسلام: للشيخ إبراهيم محمد الحسن الجمل
11- دراسات في أصول الفقه: للدكتور علي أحمد بابكر
12- القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق: للشيخ محمد الراوي
13- التربية الإسلامية للشباب: للدكتور عبد الرحمن بله علي
14- خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي: للشيخ محمد إبراهيم برناوي
15- أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور أبو المجد سيد نوفل
16- حقوق الإنسان في الإسلام (الحلقة الثالثة) : بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
17- أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية: د/ جاد أحمد رمضان
18- كتاب في رؤية الله تبارك وتعالى: تأليف أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد، تحقيق وتخريج الشيخ محفوظ الرحمن بن زيد الله السلفي
19- رسائل لم يحملها البريد: فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
20- بحث في صيغة (أفعل) وبين نحويين واللغويين واستعمالاتها في العربية (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد النماس
21- حداثة الشعر العربي (الحلقة الثانية) : الدكتور عبد الباسط بدر
22- برهان الحق في الخلق (1) : د/ عز الدين علي السيد
23- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن: للشيخ يوسف الهمزاني الشافعي
24- عبر وعبرات: للشيخ محمد مجذوب
25- المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
26- ردود ومناقشات يوم عاشوراء: بقلم: الدكتور نايف الدعيس
27- من فتاوى الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
28- القلب: لفضيلة الشيخ سعد ندا
29- حاسة السمع: للدكتور فكري السيد عوض
30- مختارات من الصحف
31- من أعماق الكتب
32- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(22/417)
كلمة التحرير
أمتنا المسلمة
بقلم: سعد ندا (مدير التحرير)
أمتنا المسلمة هي خير أمة أخرجت للناس، كما يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران) . ذلك لأنها تميزت بصفات لم تبلغها أمة لم تنعم بنعمة الإسلام.
وأمتنا المسلمة ينضوي تحت لوائها أفراد يسيرون مساراً واحداً لا عوج فيه، كما أمرهم ربهم سبحانه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} (الأنعام) ، وذلك ابتغاء بلغ مرامهم الأسمى المشار إليه في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف) . وهؤلاء الأفراد المتجانسون يكونون مجتمعا له شخصيته الفريدة، الفذة، القوية، العابدة المؤمنة، التقية، التي تجعله دائما في صدارة المجتمعات.
يقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء) .
وأمتنا المسلمة تنتظم أفراداً كل منهم لبنة فى صرحها الشامخ إذا صلحوا صلحت الأمة، وإذا فسدوا فسدت الأمة.
الإسلام يجعل الإصلاح النفسي للفرد هو الدعامة الأولى لصلاحه واستقامة أمره في الحياة الدنيا والآخرة. وهو في سبيل تحقيق ذلك ينظر إلى الفرد من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن فيه فطرة طيبة تميل إلى الخير، وشرح بإدراكه، وتأسى للشر وتحزن بارتكابه.
والناحية الثانية: أن فيه نزغات طائشة، وطبائع شريرة، تنحرف به عن سواء السبيل.
ومصير الإنسان في دنياه وآخرته مرتبط بالناحية التي تكون لها الغلبة عليه.(22/418)
إلى هذا يشير قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشمس) .
والإسلام يهتم بفطرة الإنسان اهتماما بالغا من جهة، فيدعمها، ويدعو إلى المحافظة على طهرها، ونقائها وتخليصها مما عسى أن يكون قد لا بسها من أخلاط وشوائب، كما أمر تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم) .
ومن جهة أخرى يحذر الإسلام من الاستسلام لنزغات الشياطين التي أشار إلى بعضها قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران) . وكما أشار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يشيبُ أبن آدم ويشيبُ معه خصلتان: الحرصُ، وطول الأمل) (مسلم) .
والإسلام- فوق ذلك كله- يرى أن نزغات الشر تلح على النفوس إلحاحا مستمرا لتوهن من عزماتها وتجذبها لتلقى بها في ساحات الهوى. وبؤر الضلال، لاستمتاع الفاني. والزاد الهباء، وتزيين التشبث بهذه الحياة العاجلة.
والإسلام - من أجل ذلك كله- ربط النفوس بعبادات من شأنها أن تتكرر بين أوقات قريبة متلاحقة لتكون صقلا لها، وغرسا لمبادئ البر فيها غرساَ سليماَ تثمر به وتؤتي أكلها طيبةً بإذن ربها. وبهذا يكون الفرد المسلم شخصية مسلمةً حقاً لها قدر ووزنها عند اللِّه، ثم عند الناس. ومن ثم تصلح نواةَ للأمة المسلمة التي فضلها الله تعالى على أمم العالمين.(22/419)
من هذا المنطلق. أدعو كل مسلم أن ينظر في نفسه. ويراجع أحوالها، ليرى: هل يصلح بها أن يكون نواةَ للأمَّة المسلمة؟ فإن وجدها كذلك، فليحمد الله تبارك وتعالى، وليسأله الثبات، والمزيد من الخير، وإن وجدها غير ذلك، فَلْيَرْعَوِ، ولْيَحْزمْ أحوالها، ولْيَسْتَقمْ بها على أمر الله، إذ أن المسلمين أشد ما يكونون اليوم حاجة إلى لَبنات قوية صالحة، تشيد بناء أمتهم، وترسخ دعائمه، وتعلى صرحه، لتدك معاقل أعداء الله: من صهاينة غادرين، وصليبيين حاقدين، وشيوعيين ملحدين، واشتراكيين ماركسيين، وأَعوان هؤلاء وأولئك في أي صورة، وفي أي مكان، حتى تقرّ أعيننا بأمتنا المسلمة الواحدة التي تكون لها الهيمنة والصدارة على مدى الزمان.
أسأل الله تعالى أن يعجل بتحقيق ذلك، إن عليه وحده قصد السبيل، وإن عليه وحده التكلان. وصلى الله وسلم وبارك على عبده رسوله الكريم محمد وعلى أله وصحبه ...
سعد ندا(22/420)
الرَّق في الجَاهليّة والإسلام
للشيخ إبراهيم محمد الحسن الجمل
مدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
معنى الرقي ونشأته:
الرق في اللغة: العبودية، وسمى العبيد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم، ويذلون ويخضعون، والرقيق هو المملوك.
وقيل: الرق في اللغة: الضعف ومنه رقة القلب [1] وهو نظام اجتماعي معروف بين الشعوب القديمة، واستمر قائما حتى أخريات القرن التاسع عشر، وكان يعتبر بين تلك الشعوب نظاما مشروعا تحميه قوانين الدولة [2] . وعرف أيضا بأنه حرمان الشخص من حريته الطبيعية، وصيرورته ملكا لغيره [3] ، وهذا ما كان مصطلحا عليه عند الأمم القديمة.
ولقد عرف الرق من قديم، وكانت الحرب بادئ الأمر عاملا على نشأة الرق. وذلك أن القوي حينما كان يظهر بالضعيف يقتله، ولا يقبل بغير القتل بديلا، وكان الناس في ذلك الوقت يعملون لأنفسهم فكان الرجال يقومون بالصيد والحروب وكان النساء والأبناء يقومون بغير ذلك من الأعمال.(22/421)
وحينما اتجه الإنسان إلى الزراعة، كان في حاجة إلى العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وإلى تنظيم العمل، كما أنه كان مع حاجة إلى من يساعده، وهذه المساعدة كانت تعتمد في النهاية على القوة والإرغام، وحدوث التعاون بين الناس، انتهى إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء ثم فكر القوى الظافر في القتال أن الأسير الذي يقتله يمكن أن يبقيه حيا. فيستخدمه في زراعة الأرض. وبهذا قلت المجاور وقل أكل الناس لحوم بعضهم بعضا. وحين أمتنع الإنسان المنتصر عن قتل المغلوب اعتبر هذا تقدما عظيما للإنسان من حيث الأخلاق، حين أقلع عن قتل زميله أو أكله واكتفى من أعدائه باسترقاقهم، وإعمالهم في الأرض وفي الزراعة [4] ثم انتقل استرقاق الغير من الزراعة إلى الصناعة، حتى إذا زادت الثروة، ومال الأغنياء إلى الدعة والراحة، واستغلال الآخرين في ذلك جعل الناس ينظرون إليه كأنه نظام فطري لا غنى عنه.
وكانت الجماعات البدائية لا ترى فارقا بين الحر والعبد، ولا تجد رقا ولا طبقات، ولا تدرك من الفوارق بين الرئيس وتابعيه إلا قدرا ضئيلا وبالتدريج، أخذ تقسيم العمل. وما يقتضيه الاختلاف بين الناس، يستبدل شيئا فشيئا المساواة بقليل من التحكم الذي زاد على مرور الأيام، ثم لما ازدادت الآلات والصناعات تعقدا، عمل ذلك على إخضاع الضعيف لمشيئة القوى، وكلما ظهر سلاح جديد في أيدي الأقوياء زاد من سلطانهم على الضعفاء واستغلالهم إياهم.
ثم عمل نظام التوريث على اتساع الهوة بأن أضاف إلى الامتياز في الفرص السانحة امتيازا في الأملاك.
وقسمت المجتمعات التي كانت يوما متجانسة إلى عدد لا يحصى من طبقات وأوساط، وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساسا يؤدى إلى التشاحن، وأخذت حرب الطبقات تسرب خلال التاريخ حتى انتهت إلى وجود طبقة من الناس تُستخدم وكأنها آلة تتحرك بغير إرادتها يحركها الغير، وكأنها دمية توجه حسب ما يريد لها سيدها [5] .(22/422)
ولم يستطع الفلاسفة القدامى أن يغيروا شيئا من الواقع، وإنما زادوه تثبيتا، وكأنما هذا الصنف من الناس إنما خلق بغير إرادة ولا حول ولا قوة، فأفلاطون يقضي في جمهوريته الفاضلة بحرمان الرقيق حق المواطنة وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من ساداتهم أو من السادة الغرباء، ومن تطاول منهم على سيد غريب أسلمته الدولة إليه ليقتصَّ منه كما يريد.
ومذهب أرسطو في الرق أن فريقا من الناس مخلوقين للعبودية؛ لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر والمشيئة، فهم آلات حية تُلحق في عملها بالآلات الجامدة. ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال والتمييز فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل الرشيد [6] .
الرق قبل الإسلام
كان الرق من دعائم المجتمع عند قدماء المصريين، وكانوا يتخذون الإماء للخدمة، وللزينة. ولمظاهر الأبهة، فكانوا بقصور الملوك، وبيوت الكهان والأعيان، وهم إن كانوا يسيئون معاملة رقيق الخدمة، بحيث يعتبرونهم كآلة صماء، فإنّ رقيق الزينة على العكس. فقد كانوا يلقون معاملة حسنة كما يدل على ذلك قول العزيز لامرأته في حق يوسف عليه السلام. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} (يوسف آية1 3)
ولقد أباح العبرانيون الرق، وذكر في التوراة في مواضع [7] ، وكان الرق عندهم نوعين: استرقاق الأفراد لارتكاب خطيئة محظورة، واسترقاق غير اليهود في الحروب [8] . وكذلك أباحته المسيحية، وأمر بولس مدعي الرسالة العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح. فقال في رسالته إلى أهل أفسس:(22/423)
"أيها العبيد! أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس عالمين، أنه مهما عمل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا".
وأوصى مدعى الرسالة بطرس بمثل هذه الوصية، وأوصاها آباء الكنيسة، لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوا من غضب السيد الأعظم [9] .
ونص في الإنجيل على أن الناس كلهم إخوان، ولكنه لم ينص على منع الاسترقاق، لذلك أقرته جميع الكنائس على اختلاف أنواعها ولم ترفيه أقل حرج.
ولم ير من جاء من باباوات النصارى ولا قديسيهم حرجا من إقرار الرق حتى قال باسيليوس، في كتابه القواعد الأدبية، بعد أن أورد ما جاء في رسالة بولس إلى أهل افسس: "هذا يدل على أن العبد تجب عليه طاعة مواليه تعظيما لله عز وجل"إن الطبيعة (هكذا قول بولس) قضت على بعض الناس بأن يكونوا أرقاء، واستشهد على نظريته (كما يرى هو أي بولس) بالشريعة الطبيعية والشريعتين الوضعية والإلهية.
وقال القسيس المشهور بوسويت الفرنسي: "إن من حق المحارب المنتصر قتل المقهور فإن استعبده واسترقه فذلك مِنهُ مِنّةٌ وفضل ورحمة".
وقد بقى الاسترقاق معتبرا من الأمور المشروعة لدى المسيحيين؛ فقد جاء في دائرة معارف لاروس أن رجال الدين الرسميين يقرون صحة الاسترقاق ويسلمون بشرعيته [10] .
وإذا كانت الأديان التي سبقت الإسلام، قد أباحت الرق، فإن جميع الأمم المعروفة لنا في القديم قد أباحته كذلك.
ففي الهند قسمت الشرائع البرهمية القديمة الأشخاص الملزمين بالخدمة إلى قسمين وهما الخادمون والأرقاء، فالأعمال الطاهرة من خصائص الخادمين، والأعمال النجسة على عواتق الأرقاء [11] .(22/424)
وكانت الشريعة الهندية تقضى على أن الرقيق لم يُخلَق إلا لخدمة البرهمي- وهم الطبقة المقدسة عندهم- فكانوا يتخذون الرقيق من إحدى طبقات المجتمع التي تعتبر صفة العبودية لازمة لها حتى لو تخل السيد عن عبده فإنه يبقى رقيقا لا يصلح أن يتمتع بحريته كغيره من الناس، وكانت القوانين عندهم تقضى بقتل العبد لأقل هفوة يرتكبها، أما التنكيل به والانتقام منه بسائر الوسائل الوحشية فحدث ولا حرج [12]
وكان الرق عند الفرس بدولتهم العظيمة التي امتدت في حدود آسيا المعروفة كثيرة، فكان الأرقاء الرعاة، والأرقاء المختصون بحاجات الزينة والثروة واليسار، ومنهم من خُصص لعمل القبائح المنكرة التي قضت بها خرافات القوم.
قال هيرودت: "ولا يجوز لأي قاس أن يعاقب عبده على ذنب واحد اقترفه بعقاب بالغ في الشدة والصرامة لكن إذا عاد العبد لارتكاب هذا الذنب بعدما أصابه من العقاب. فَلِمَولاَه حينئذ أن يعدمه الحياة أو أن يعاقبه بجميع ما يتصور من أنواع العذاب" [13] .
ولعل الصين كانت في القديم من أكثر الدول اعتدَالا في معاملة رقيقها، فكان يستخدم للمنفعة العامة، وكانوا يجلبون الرقيق من الخارج بواسطة الحروب والأسلاب، أو يأخذونهم من البلاد بسبب الفقر والحاجة، لأن الفقير كان يضطر لبيع نفسه أو لبيع أولاده، وكان الاسترقاق في تلك البلاد قليل الشدة والصعوبة؛ لأن الشرائع والعرف والأخلاق كانت تساعد على تلطيف حاله. وقد ورد في أثارهم:
"إن الإنسان هو أفضل وأشرف المخلوقات التي في السماء والتي على الأرض، فمن قتل رقيقه فليس له من سبيل في إخفاء جرمه، ومن أخذت به الجرأة فكوى رقيقه بالنار، حُوكِم على ذلك بمقتضى الشريعة، ومن كواه سيده بالنار دخل في عدد الوطنيين الأحرار" [14] .
وإذا تركنا آسيا وانتقلنا إلى أوربا لم يكن حال الرقيق بأحسن مما كان عليه الحال في بلاد فارس أو الهند.(22/425)
فلقد كان المجتمع اليوناني المقسم إلى سادة وعبيد يبالغ في احتقار العبيد على الرغم من استخدامهم في سائر المرافق، وكانوا يعتقدون أن الأرقاء إنما خلقوا لخدمة السادة والأمراء، وكانوا يعتبرونهم جزءاً من الأرض يباعون ويشترون، وكان المورد الأساسي للعبيد عندهم الأسر في الحروب، وأهل البلاد المغلوبة التي يعملون فيها، وكانت القرصنة هي المورد الثاني للعبيد.
وعندما نشطت تجارة الرقيق في أثينا لم تقف مطامع النخاسين عند حد، وصار القرصان اليونانيون يخطفون المسافرين، والسكان الآمنين في الشواطئ الأفريقية والأوربية ويبيعونهم للناس في الأسواق من غير خجل ولا تكبر [15] .
وكان حق المولى على عبده أنه جزء من أملاكه وأمتعته، فله رهنه أو بيعه، والتصرف فيه كما يشتهى لا يمنعه مانع [16] .
ولم يكن الحال عند الرومان بأقل مما كان عليه غيرهم من حيث استخدامهم في الأعمال الجسمانية، ومساواتهم بالأمتعة والفرش، فكانوا يباعون بالمزاد. وكانوا يوقفون على مكان عال بحيث يتيسر لكل واحد أن يراهم ويمسهم بيده، ولو لم يكن له نية في شرائه. أحيانا كانوا يشاهدون كيوم ولدتهم أمهاتهم، وكان الرق في نظرهم نتيجة الأسر والسبي، أو الميلاد، أو الدين أو الفرار من الجيش [17] . ومن العجيب أن الدولة كانت تسترق بعض الأفراد بسلطة القانون مثل أن يمتنع الشخص من أداء الضريبة، أو بعيب عندما يطلب منه الحضور، فيمتنع فيصبح حينئذ في عداد الأرقاء. وكذلك كان المجرمون والثوار يسترقون للدولة، أما الملحدون في الدين فكانوا يسترقون للمعاد.
وكان الإسبرطيون يكَروُن العبيد لمن يرغب في ذلك، ويشغلونهم في الحروب والقتال زيادة في الخدمة، وفلاحة الأراضي وحراستها وغير ذلك من أنواع العمل الشاق.
وكانت القرون الوسطى مسرحا للاسترقاق. وتكاد كلها تتشابه مع الرومان.(22/426)
ويعتبر الرقيق كجزء من متاع البيت فهو بمنزلة الفرس والثور، وغيرهما من الحيوانات المستخدمة الأهلية، فكان المولى في شرعهم يتصرف بعبده كما يتصرف بما عنده من الأشياء ذات القيمة، وكان لا يجوز له قتله لأنه شيء من الأشياء التي تملكها يمينه، ولم يختلف الاسترقاق عن سابقه عند الغاليين وهم السكان المعروفون في فرنسا وأمام جبال الألب في إيطاليا الشمالية. وأقاليم الغاليا في الجزر البريطانية وإسبانيا وكذلك سكان جرمانيا- ألمانيا- فكانوا يحتكمونهم بطريقة الشراء أو الميراث، وكانوا يكلفون بخدمة المنازل، وكان الولي يفرض عليه مقدارا من القمح أو الماشية أو الملابس كأنه من مؤاجريه، وكان سكان نَهر الرين الأسفل إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد. وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها، وينالها العقاب.
وكان عند القوط أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها، كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة، وإذا كانت لا تمتلك العبد يفسخ النكاح، ويجلد كل منهما بالسياط، ولكن التصرف في العبد بالموت، كان يلجأ السيد إلى القاضي، ليحكم حكمه، ثم يسلمه لسيده ليفعل به ما يريد، وكانت قبائل الويز يغوط تشدد النكير في مسألة تزواج الأحرار بالأرقاء، حتى نص القانون على أن المرأة الحرة إذا تزوجت بعبدها فعقابها أن تحرق هي وهو حيين، وكذلك كانت قبائل الاستورغوط، فقد كانوا يقتلون المرأة التي تتزوج بعبد [18] .
وكان الأنجلو ساكسون يقسمون الرقيق إلى نوعين هما الرقيق المشبهون بالمنقولات والمشبهون بالعقارات، فالصنف الأول يجوز بيعهم أما الآخرون فكانوا لا ينفكون عن الأرض يقومون بحراثتها وزراعتها [19] .
من هذا يتبين أن الأرقاء لم يكن لهم أي تصرف في أنفسهم، ولا أمل لهم في حياة إنسانية أو شبه إنسانية.(22/427)
وكانت تجارة الرقيق نشطة في أسواق أوربا، ومواني جنوة والبندقية وليفورن في إيطاليا، تعج بالمراكب التي تحمل أبناء السود من الجنسين المخطوفين من إفريقيا، وبعض دول آسيا، وكان أكثر القائمين على هذه التجارة من اليهود.
ولم يكن الحال في أمريكا بأقل منه في الدنيا القديمة، فلقد كانت بواخرها تنتقل بين شاطئ أفريقية وبين أمريكا حاملة الألوف من أهل إفريقية للاتجار، وللزراعة، وكانت حالتهم شبيهة بحال إخوانهم في الدنيا القديمة، فهم بين العمل، والاحتقار، والمهانة فكان على غاية الشدة والقسوة، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحرّ إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة في المستعمرات.
وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والإماته. وكَان يجوز للمالك رهن عبده، وإجارته، والمغامرة عليه وبيعه، كأنه بهيمة وكان لا حق للأسود أن يخرج من الغيط، ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانوني، ولكن إذا اتفق واجتمع في شارع واحدٍ أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانوني، كان لكل أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم، وقد صرح قانونهم على أن ليس للعبد روح ولا عقل وأن حياتهم محصورة في أذرعهم [20] .
ولقد بدأ إلغاء الرق في أمريكا في منتصف القرن الثامن عشر، وفي سنة 1788م نشبت الحروب بين الولايات الشمالية والجنوبية من أجل إعلان حرية العبيد، ولم يتحقق إلا سنة 1865م بعد انتصار الشماليين على الجنوبيين وقد ظلت التفرقة العنصرية شائعة سنوات عديدة، ولم يكن من الممكن أن يدخل العبيد في الأماكن التي فيها الأسياد ولا أن يركبوا مراكبهم، وكثيرا ما كان البيض يثورون ضدهم، ويشبعونهم ضربا وتقتيلا، وكان القانون دائما في صف البيض.
ومع مرور الأيام بدأ يخف هذا النمط من المعاملة حتى أخذ العبيد أو السود كما يسمونهم شيئا من المشاركة في الحياة العامة.(22/428)
ولقد بقي الرق على شرعيته عند غير المسلمين إلى أن قررت الثورة الفرنسية إلغاءه سنة 1779 م ومع ذلك فإن عامة البلاد الأوربية والأمريكية ظلت تمارسه إلى نهاية القرن التاسع عشر؛ أي بعد الثورة الفرنسية التي أعلنت مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بما يزيد على قرن كامل من الزمن.
وكان الرق في الجزيرة العربية لا يختلف كثيرا عما كان عليه في الأمم الأخرى. وكانت الحروب الدعامة الكبرى للرق، فعندما تقوم الحرب. ويأسر الغالب المغلوب يأخذه أسيرا عنده. وأيضا كان الرق نتيجة للثراء بعد أن يخطف الرقيق؛ فلقد خطف زيد بن حارثة وهو صغير في أثناء لعبه بعيدا عن أمه وهو عند أخواله، ثم بيع في إحدى الأسواق القريبة من مكة واشتراه حكيم بن حزام ابن أخي السيدة خديجة بنت خويلد، ثم أهداه حكيم إلى عمته ولما رأت رضى الله عنها رغبة زوجها الأمين محمد بن عبد الله قبل البعثة أن يلازمه فيقوم بخدمته، قدمته إليه هدية فلزم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة وبعدها.
وكانت تجارة الرقيق من أهم موارد الثروة عند أهل مكة في الجاهلية ومن أشهر تجار الرقيق عبد الله بن جدعان. وكان ذا تجارة واسعة في الرقيق.
ولقد حرم الأرقاء في الجاهلية من كافة الحقوق المدنية، ومن التصرف في شئونهم الخاصة وغالبا ما كنوا يطلقون كلمة السبايا على النساء خاصة وفي ذلك يقول الشاعر:
فعادوا بالغنائم حافلات
وعدنا بالأسارى والسبايا [21]
وكان العبد أحيانا ينال حريته؛ وذلك إذا أظهر شجاعة فائقة في الحروب والقتال ضد من يعتدي على سيده وعلى قبيلته، ويحفظ لنا التاريخ قصة عنترة المشهورة وعتق وليه وأبوه له، وجعله حُرًّا يتصرف تصرف الأحرار بعد أن كان عبدا يرعى الغنم، وأيضا فقد يكون الإخلاص الشديد سببا في العتق.(22/429)
ومهما يكنا من وجود طريق إلى حرية الرقيق فقد كانت قليلة بل نادرة، وكانت معاملة الرقيق لا تضرج عما كان متبعا في الدول الأخرى.
الرق في الإسلام
جاء الإسلام والعالم تتحكم فيه قوتان كبيرتان هما الفرس في أسيا والروم في أوربا، والفوارق الطبقية بلغت مداها، وما يزال الرق منتشرا، والرقيق يعاملون وكأنهم جزء من المتاع لا يملكون من أنفسهم شيئا.
جاء الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية بشريعة رب العالمين، فيها سعادة البشر في الدنيا والآخرة، ولم تكن دعوته لقوم دون قوم، أو لطائفة وحدها وإنما هي دعوة لجميع البشر، في أنحاء المعمورة لا تتقيد بمكان أو زمان إلى يوم القيامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سورة سبأ 38) .
وأول ما دعا إليه الإسلام حفظ كرامة المسلم، وتحريره من كل القيود لا فرق بين أسود وأبيض أو غني وفقير أو حاكم ومحكوم، الكل أمام الله سواء.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} (سورة الحجرات 13) .
ومما يروى في سبب نزول هذه الآية: ما روي أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا يا رسول الله ونزوج بناتنا موالينا فنزلت الآية.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله" [22] .
ولقد عامل الإسلام في أول عهده الرقيق الذين أسلموا- وما يزالون قريبين من العهد الجاهلي- أحسن معاملة، ولم يلغ ما سبق في الجاهلية حتى لا تفسد أمور الناس، وينشغلوا عن أصل الرسالة بأمور جانبية.(22/430)
لقد عاملهم معاملة حسنة، وكان إسلامهم طريقا إلى التخلص من الرق بطريق مشروع؛ كأن يُشتَرى العبد المسلم من سيده ويعتق، كما حصل للعبد بلال بن رباح، فقد أسلم، ولكنه ما يزال عبدا لسيده أمية بن خلف الذي أذاق بلالاً كل أصناف التعذيب، فكان يتركه في حرارة الشمس القاتلة ساعات الظهيرة كي يرجع عن إسلامه، ولكنه كان قوي الإيمان فتحمل العذاب الأليم إلى أن جاء أبو بكر الصديق واشتراه وأعتقه.
ولقد وجد الرقيق في الإسلام عزا وكرامة، ووجدوا في أخوة الإسلام ما جعلهم يعيشون أحرارا، يرتقون بهذه الأخوة إلى أسمى الرتب ولنضرب لذلك مثلا بزيد بن حارثة وابنه أسامة الذي ولى قيادة جيش المسلمين، ولما يناهز الثامنة عشرة وقد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ونفذه كبار الصحابة بعد وفاته، ومشى أبو بكر الخليفة رضي الله عنه وهو راكبـ، وكان تحت قيادته الصحابة من أمثال عمر وعلى وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين ...
ولقد افتخر المسلمون بأن رابع الذين أسلموا كان زيد بن حارثة، فقد أسلم بعد السيدة خديجة زوج الرسول علية الصلاة والسلام وأبى بكر وعلى رضي الله عنهما.
الإسلام المنقذ
إن من حق الإسلام أن يترك ابتداء، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار. وحسبه أنه يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
سيد قطب
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لسان العرب لابن منظور جـ11 ص415.
[2] دائرة المعارف الحديثة لأحمد عطية الله مادة "الرق)) .(22/431)
[3] قصة الحضارة تأليف ول ديورانت ترجمة د. زكي نجيب محمود جـ1 ص37.
[4] المرجع السابق.
[5] قصة الحضارة جـ1 ص38.
[6] حقائق الإسلام وأباطيل وخصومه للعقاد ص210.
[7] سفر التكوين 31-2-7 وسفر التثنية 21، 14، 24، 7
[8] النظم الإسلامية د. حسن إبراهيم ص301.
[9] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص209.
[10] دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي جـ4 ص278 مادة رقق.
[11] الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص11.
[12] دائرة معارف القرن العشرين جـ4 ص275 مادة رقق.
[13] الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18.
[14] الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18.
[15] معجم لاروس مادة "رق))
[16] النظم الإسلامية ص 301.
[17] النظم الإسلامية ص 301.
[18] دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص277.
[19] الرق في الإسلام ص 32.
[20] دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص 278.
[21] النظم الإسلامية ص 301.
[22] الترغيب والترهيب للمنذري جـ3 ص57.(22/432)
دراسات في أصول الفقه
للدكتور علي أحمد بابكر
المساعد بكلية الشريعة بالجامعة الأستاذ
في الحلقة الأول من هذه الدراسة الأصولية والتي نشرناها في العدد 46 من هذه المجلة والتي دارت حول أهمية علم الأصولي وخصوبته، أشرنا إلى المضمون العام لهذا العلم، ولكن لابد لنا من بيان الحد الاصطلاحي له كما قرره العلماء، ثم مناقشة وتحليل ذلك حتى نخرج بفكرة واضحة لما أراده العلماء من حدهم الذي وضعوه في عبارات مختصرة ثم ننتقل بعد ذلك لعرض ودراسة مباحث علم الأصول الرئيسية، والتي أشرنا فيما مضى إلى أنها تطلب الاتصال بعلوم متعددة.،
حقيقة علم الأصول:
نلاحظ أن العلماء في تحديدهم لعلم الأصول، منذ أن ظهر هذا العلم منظماً ومكتوبًا، قد أوردوا تعريفات متعددة ومتنوعة في صياغتها، ونجد مناقشات تدور حول تلك التعريفات، ولعل هذا التنوع في التعريفات يرجع إلى أسباب نحاول توضيحها فيما يلي:
أولا: يميل بعض العلماء إلى الاختصار الشديد وتقديم أقصر العبارات لإعطاء معنى إجمالي لهذا العلم، بينما يميل البعض الآخر إلى أن تكون الكلمات التي يشتمل عليها التعريف متضمنة بارتياح لذلك المعنى. فيبدو للناظر أن بعض هذه التعريفات غير جامع لمعنى العلم وبعضا آخر غير مانع من دخول علوم أخرى في التعريف.
ومن هنا تتوجه بعض الملاحظات والانتقادات والمآخذ من العلماء على بعضهم.
ثانيا: من الأسباب التي يرجع إليها التنوع في تعريفات هذا العلم أن بعض الكلمات والعبارات التي تستخدم في التعريفات تلقى ظلالا، وتشير إلى معان زائدة والبعض الآخر من العبارات والكلمات لها معان محددة، فاستعمال الكلمات التي لها ظلال قد يؤدي إلى اختلاف في فهمها ومدى أدائها للمعنى المقصود. فيحدث بذلك اختلاف في الاعتداد بالتعريف أو عدم الاعتداد به.(22/433)
انظر مثلا إلى تعريف الغزالي لهذا العلم حين يقول: "هو عبارة عن أدلة الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالاتها على هذه الأحكام " [1] . فعبارة وجوه دلالاتها ضمّنها الغزالي القياس ووجوه الاجتهاد العقلي الأخرى. وهى عبارة قد تعطى ذلك المعنى الذي أراده الغزالي، وقد يرى غيره أنها لا تتسّع لتشمل كل ما أراده بها، وقد وردت مناقشات حول هذا التعريف، نوردها في مكانها عندما نعرض لهذا التعريف بتحليل أكثر.
ثالثا: من الأسباب التي يرجع إليها تنوع التعريفات للأصول أن بعض العلماء يعتبر أن الأصول هي المصادر التي تستقى منها الأحكام فحسب، والبعض الأخر يرى أن الأصول تشمل المصادر والقواعد الأصولية المختلفة والأبحاث التي إشتمل عليها العلم. ومن هنا يخرج بعضهم ما يدخله الآخرون في مضمون العلم فيحدث الاختلاف.
رابعاً: اختار العلماء ما يناسب عصورهم المختلفة من عبارات وألفاظ بحيث يسهل على أجيالهم فهم مضمون التعريف من غير كبير عناء. وللتحقق من هذا يمكن النظر في تعريفات بعض المعاصرين من الأصوليين ومقارنتها بالتعريفات القديمة؛ فالصياغة والأسلوب، يسببان اختلافا في صورة التعريف، وربما يوحيان باختلاف في المعنى.
هذه بعض الأسباب التي بدت لنا، والتي نظن أنها أدت إلى الاختلاف في تعريف علم الأصول في كتبه المختلفة على مرّ العصور. وربما كانت هنالك أسباب أخرى لم تبد لنا في هذه الساعة التي نكتب فيها هذا البحث.
وينبغي أن لا يفهم من ذكر هذه الأسباب -من إيضاح أن هنالك اختلاف في صورة التعريفات التي وردت في كتب الأصول- أن هذا الاختلاف هو اختلاف مخلّ بالمضمون، يؤدى إلى تعارض في المعنى، ولكن هذا الاختلاف ربما يحدث فرقا في توسيع المعنى أو تضييقه حسب ما سنرى بعد أن نعرض بعض نماذج من هذه التعريفات ونتعرض لتحليلها ومقارنتها.(22/434)
بعد هذه الملاحظات التي أبديناها حول اختلاف تعريفات علم الأصول التي وردت في كتبه، نورد بعض هذه التعريفات ولا نستقصيها لتساعد في توضيح النقاط التي أثرناها في الفقرات السابقة، ثم نتوصل إلى تقرير أوضح حد لعلم الأصول. ونرجو أن لا يمل القارئ عرض هذه التعريفات التي سنوردها تباعا من غير تعليق، ثم نعقب عليها بتعليق مجمل يسهّل مقارنتها ويوصل إلى الخلاصة.
أول تعريف نورده هو التعريف الذي أورده أبو الحسين البصري [2] في كتابه المعتمد في الأصول، والذي كان شرحا لكتاب العمد في الأصول للقاضي عبد الجبار بن أحمد [3] بحسبان أن هذا الكتاب هو أقدم الكتب الأصولية بعد رسالة الإمام الشافعي ألف على طريقة الشافعية، وأن الإمام الشافعي في رسالته نثر مفهوم علم الأصول في عبارات مطولة ومشروحة خلال بيان مفهوم هذا العلم؛ فلخص أبو الحسين البصري هذا المفهوم في عبارات محددة، كما لخَّصها من بعده الإمام الغزالي في كتابه المستصغى في تعريف مشابه لتعريف أبي الحسين، كما سنورد ذلك.
يقول أبو الحسين البصري في تعريفه لعلم الأصول: "هو طرق الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وما يتبع كيفية الاستدلال بها" [4] .
وقد شرح أبو الحسين هذا التعريف الذي أورده بأنه أراد بطرق الفقه على وجه الإجمال: أن هذه الطرق غير معينة؛ مثل أن يتكلم الفقيه عن أن الأمر للوجوب والنهى للتحريم وكذلك إذا تكلم في مطلق الإجماع والقياس. فليس الحديث في هذه الأمور مثل الحديث في أدلة الفقه التفصيلية المعينة؛ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا ينتمي إلى الفقه وليس لأصوله.
وشرح كيفية الاستدلال بأنها: الشروط والمقدمات وترتيبها الذي يستدل معه بالطرق على الفقه- أما ما يتبع كيفية الاستدلال فقد بينه بأنه الحديث عن المجتهدين.(22/435)
وعند مقارنتنا للتعاريف التي سنوردها سندرك وجوه الاتفاق والاختلاف بينها، ووجوه التقارب.
وبما أننا أوردنا تعريفا قديما من تعريفات العلماء الذين كتبوا في الأصول على طريقة الشافعية، فينبغي أن نورد هنا أيضا تعريفاً من التعريفات القديمة التي أوردها العلماء الذين كتبوا في الأصول على طريقة الحنفية [5] ، وسنورد هنا التعريف الذي أورده البزدوي [6] ؛ لأن البزدوي من أهم العلماء الذين كتبوا في الأصول على هذه الطريقة، وقد اعتمد عليه المتأخرون من علماء المدرسة الحنفية في كتابتهم في أصول الفقه. على الرغم من أنه كان مسبوقا بعدد من علماء الأحناف الذين كتبوا في الأصول، وكان أسبقهم أبو الحسن الكرخي [7] الذي ألف رسالة في الأصول ذكر فيها الأصول التى عليها مدار فقه الأحناف. ولكنه لم يضع تعريفا محددا لعلم أصول الفقه كما وضعه البزدوي.
يقول البزدوي في تعريف هذا العلم: "اعلم أن أصول الشرع ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبطة من هذه الأصول" [8] .
أما أبو حامد الغزالي الذي اتبع في تعريفه لشيخه إمام الحرمين [9] فيقول: "افهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالاتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل" [10] .
وقد أورد ابن قدامة نفس هذا التعريف مع الاختصار قليلا حيث قال: "وأصول الفقه أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل" [11] .
ونسبة لأن تعريف ابن الهمام يعطينا نموذجا مستقلا متميزا عما أوردنا من تعريفات فيستحسن أن نورده للاستفادة منه في تحليل هذه التعريفات. يقول ابن الهمام: "أصول الفقه هو القواعد التي يتوصل بمعرفتها إلى استنباط الفقه" [12] .(22/436)
ونختم نماذج تعريفات القدماء بما أورده الإمام الشاطبي [13] في كتابه الموافقات من بيان يريد به توضيح معنى أصول الفقه، وهذا البيان الذي أورده يتناسب مع أسلوبه في الكتابة. ومع أنه أطول من التعريفات المعهودة، فسنورده كآخر نموذج من التعريفات القديمة، يقول الإمام الشاطبي:
"الأدلة الشرعية ضربان: أحدها ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني ما لا يرجع إلى النقل المحض. وهذه القسمة بالنسبة إلى أصول الأدلة. وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر. لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر. كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل. فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة- وأما الثاني فالقياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب- الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان، والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول، إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية- ثم نقول: إن الأدلة في أصلها محصورة في الضرب الأول. لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل وإنما أثبتناه بالأول- وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة" [14] .
والآن نورد بعض نماذج من تعريفات المعاصرين لعلم أصول الفقه. فقد عرفه الشيخ الخضري بقوله: "أصول الفقه هو القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة".
وعرفه الشيخ عبد الوهاب خلاف بقوله: "هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" [15] .(22/437)
ونختم نماذج التعريفات المعاصرة بالتعريف الذي أورده الشيخ أبو زهرة ونكتفي بذلك لتشابه التعريفات المعاصرة، بل يمكن أن نقول تطابقها حتما في الألفاظ، يقول الشيخ أبو زهرة: "أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية" [16] .
هذه نماذج من التعريفات التي أوردها العلماء على مر العصور لعلم الأصول- وهي تعريفات تمثل آراء العلماء في المدارك الفقهية المختلفة إلى حد، من القرن الثاني الهجري إلى عصرنا هذا.
وبإلقاء نظرة فاحصة على هذه التعريفات ومقارنتها، نخرج بملاحظات عامة، نخلص بعدها إلى نتيجة توضع ما إذا كان هذا الاختلاف فما شكل وصورة التعريفات يشكّل اختلافاً فما المضمون، والملاحظات العامة تتلخص فيما يلي:
الملاحظة الأولى هي: أن جميع هذه التعريفات تدور حوله ثلاثة أمور: فهي إما أن تشير إلى منابع الفقه ومصادره، أو تشير إلى القواعد المستخدمة لاستخراج الأحكام من هذه المنابع، أو تشير إلى الأمرين معاً.
الملاحظة الثانية هي: أننا بتتبع الكتب التي ألفت في الأصول، لم نجد اختلافا في وضع منابع الأصول ومصادرها ودراستها في بداية جميع هذه المؤلفات بلا استثناء- ثم تأتي بعد ذلك الأبحاث التي تتضمن القواعد المختلفة التي يتوصل بها إلى استخراج الأحكام.
الملاحظة الثالثة هي: أن المتأخرين تأثروا بالمتقدمين من حيث المذهبية، فجاءت صياغة التعريفات متماثلةً تقريباً بعين فقهاء المدرسة الواحدة. مثلا فقهاء المدرسة الشافعية ومن تبعهم تشابهت تعريفاتهم، وفقهاء المدرسة الحنفية تشابهت تعريفاتهم.(22/438)
فالتعريفات التي أوردناها للمؤلفين المعاصرين كلها تأثرت بالتعريف الذي أورده صدر الشريعة الحنفي. وبما أننا لم نورد تعريفه في مضى فإننا نقول إن صدر الشريعة عرّف الأصول بقوله: "وعلم أصول الفقه: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه [17] على وجه التحقيق"فانظر إلى التشابه بينه وبين التعريفات المعاصرة.
الملاحظة الرابعة هي: أن بعض الأصوليين يبدأ تعريفه بقوله: هو العلم بكذا. وبعضهم يحذف كلمة العلم -هذه- ويبدأ تعريفه بقوله: هو كذا. وطبعا العلم بالشيء ليس هو حقيقة الشيء. وربما تأثر بعض المعاصرين ببعض المتقدمين في ذكر هذه الكلمة في أول التعريف.
هذه بعض الملاحظات التي نلاحظها ونحن نقرأ تعريفات الصيغ المختلفة لتعريفات علم الأصول التي أوردها العلماء على مرّ العصور.
ومن ذلك نستطيع أن نقول: إن الذين أرادوا أن يقصروا التعريف على القواعد المتبعة لاستخراج الأحكام فقط بحيث لا يشمل المصادر نفسها قد حذفوا من التعريف ما لا يمكن إهماله. حتى هم -أنفسهم- لم يستطيعوا الاكتفاء بالقواعد فقط في كتاباتهم، بل بحثوا المصادر نفسها أولا، ثم بحثوا القواعد التي تتبع لاستخراج الأحكام من هذه المصادر. ولأن كلمة أصول نفسها أقرب إلى المصادر منها إلى أي شيء آخر.
أمّا الذين قصروا تعريفهم على المصادر فقط، فقد اعتبروا أن حديثهم عن المصدر كالقرآن مثلا يتضمن الحديث عن القواعد المتبعة لاستخراج الأحكام من القرآن، من تفسير مجمل أو تخصيص عام الخ وهذا أقرب فيما يبدو.
ولكن التعريف الأشمل فيما نرى هو الذي يشمل الطرفيين: المصادر والقواعد، ولعل التعريف الذي نقلناه عن الغزالي هو التعريف الشامل للطرفين.(22/439)
ولعل هذه النتيجة التي توصلنا إليها هي التي توصل إليها التفتازاني [18] عندما كان يبحث في حقيقة علم الأصول قال: "ثم نظروا- أي العلماء- في تفاصيل تلك الأدلة- يشير إلى الأدلة الفقهية- فوجدوا أن الأدلة راجعة إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا، وبيان طرقه وشرائطه- أي الاستدلال- ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية. فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات، وبيان الاختلافات ما يليق بها وسموا العلم بها أصول الفقه".
ولكن التفتازاني بعد وصوله إلى هذه النتيجة يعود فيقول: "فصارت- أي أصول. الفقه- عبارة عن العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه" [19] ولو قال: فصارت عبارة عن المصادر والقواعد الخ لكان التعريف مطابقا تماما لما سبقه من تفصيل.
لقد أطلنا في تحقيق معنى علم الأصول- ولكنا نظن أن هذا التحقيق ضروري لمعرفة النتيجة التي يسوق إليها اختلاف الصيغ التي وردت في تعريف حقيقة هذا العلم. والآن ننتقل إلى الحديث عن مباحث علم الأصول.
مباحث علم الأصول إجمالا:
من خلال تعريف وتحليل علم الأصول في الفقرات الماضية، نستطيع أن نلمح المباحث والمواضيع التي يتعرض لها ويبحثها العلماء في هذا العلم. ولكن لابد من عرض سريع به بعض التفصيل، يلقى ضوءاً على مباحث هذا العلم، ووجه بحثها فيه، وارتباط هذه المباحث ببعضها. كما يوضح هذا العرض علاقة بعض العلوم الفرعية بعلم الأصول مثل علم الخلاف [20] وقواعد الفقه العامة.(22/440)
ولن نتعرض في هذا الفصل للعلوم التي أشرنا إليها من قبل في معرض حديثنا عن خصوبة علم الأصول، لأن تلك علوم مساعدة للتمكن من علم الأصول، وليست من المباحث الأساسية التي درج علماء الأصول على بحثها في كتبهم.
سنحاول ما أمكن إعطاء فكرة عن المباحث تقارب الصورة التي بسطها الأصوليون في تأليفاتهم مع محاولتنا تبويبها على وجه يتمشى مع ترابط وتسلسل تلك المباحث. وسيكون عرضنا لهذه المباحث إجماليا بحيث نذكر رأس المبحث ونعلق عليه تعليقاً خفيفا ونترك تفصيل المبحث إلى مكانه من العلم.
وعليه فربما يبدو عرضنا لمباحث علم الأصول مجملا جدا، وهو المقصود هنا لأن المطلوب هو التعريف الإجمالي بتلك المباحث.
بعض هذه المباحث التي سنتعرض لها هنا ربما تبدو غير مندرجة في مباحث هذا العلم، لأن العلماء ظلوا يبحثونها في كتب أخرى، لكنها- كما نرى- من المباحث التي يجب أن ترتبط بمباحث علم الأصول، مثل مبحث الثبات والمرونة في الشريعة.
ولابد من أن يتصدر المباحث المندرجة في علم مبحث نشأة علم الأصول، وتدرجه والكتابة فيه وأساليبها وأسسها مع أن العلماء بحثوا هذا الأمر ضمن تاريخ التشريع. لكن حين يكون هذا المبحث متصدرا لمباحث علم الأصول فإنه يساعد كثيرا على فهم العلم، وفهم أصول المذاهب المختلفة، وكيف تكونت. وبالطبع فإن مثل هذا المبحث يعده كثيرون مبحثاً تاريخياً ما كان ممكنا أن يتصدر كتب الأقدمين، خاصة الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا العلم مثل الإمام الشافعي؛ لأنهم كانوا يؤسسون علما لم يسبقهم عليه مؤلفون- أما اليوم فهناك رصيد من الماضي يمكن أن يكون تقديما مفيدا لمباحث علم الأصول.
وفيما يلي من الفقرات نعرض لهذه المباحث إجمالا كما أشرنا:
(1) أوّل المباحث التي بحثها الأصوليون في هذا العلم هو مبحث بيان حقيقة هذا العلم وهو المبحث الذي قدمناه على هذه الفقرات المخصصة للمباحث.
(2) الحكم الشرعي:(22/441)
يقع الحكم الشرعي- بعد بيان حقيقة الأصول- على رأس مباحث علم الأصول.
فجميع علم الأصول ومباحثه هو وسيلة للتوصل لاستخراج الأحكام الشرعية. فالحكم هو محور العلم كله وغايته التي يهدف إليها.
ففي تعريفنا لعلم الأصول قلنا إنه: أدلة الأحكام، ووجوه دلالاتها على الأحكام. فالغاية من العلم واضحة من هذا التعريف وهى التوصل إلى الحكم الشرعي. ومن هنا كان مبحث الحكم على رأس مباحث الأصول. وهذا المبحث فيه تفصيلات كثيرة مثبته في مكانها من كتب الأصول.
3) الحاكم:
ومبحث الحاكم من المباحث الأصولية التي يوضح فيها من تصدر عنه الأحكام الشرعية، ثم يوضع فيه إجمالا مكان العقل البشرى من التشريع. أما مكان العقل من التشريع تفصيلا فله مباحث أخرى معنونة بعناوين خاصة تأتى في الفقرات التالية. فالحكم الشرعي لابد له من مصدر ينطلق منه ومن هنا جاء مبحث الحاكم تاليا لمبحث الحكم.
4) التكليف والمكلف:
عندما يصدر الحكم من الحاكم فإنه يتطلب من يكلّف به لتطبيقه وتنفيذه. من أجل هذا ارتبط مبحث التكليف وحدوده بمباحث الأصول لأنه متفرع عن الحكم. وكذلك المكلَّف (بفتح اللام) معرفته ترتبط بمبحث الحكم. ومن هنا كانت له أهميته بين مباحث علم الأصول.
هـ) أفعال العباد:(22/442)
وهى ما يشير إليها الأصوليون بالمحكوم فيه. وهو مرتبط بمبحث التكليف. ويمكن أن يكوّنا معاً مبحثا واحداً، لأن حدود التكليف. والأفعال التي يكلف الله بها عباده أمر يكاد يكون واحداً، ومن نقاط مبحث أفعال العباد صفات الأفعال؛ أي أفعال الناس وحسنها وقبحها العقليين، واتفاق واختلاف تلك الصفات مع أحكام الشريعة، من واجب وحرامٍ الخ ولقد درج بعض الكتاب في أصول الفقه أن يشيروا إلى أن هناك أبحاثاً دخلت ميدان الأصول وهى ليست منه، ويضربون مثلا لذلك بمبحث صفات أفعال العباد من حسن وقبح عقليين وما يتعلق بذلك. ولاشك أن أفعال العباد من الجانب الذي بحثها منه الأصوليون من المباحث الهامة في هذا العلم، ولم يدخله علماؤنا المتقدمون في هذا الميدان إلا بعد إدراكهم لخطورة هذا الموضوع بالنسبة لعلم الأصول. إدراكهم أنه يتعلق تعلقا وثيقاً بعلل الأحكام، ومدى اتفاق الشرع والعقل في علة الحاكم وتأثير ذلك في الحكم، وهل يدرك العقل الحكم بإدراكه لصفات الأفعال من غير معاونة الشرع، وهل يترتب على ذلك شيء في الآخرة، إلى غير ذلك من النقاط الهامة التي لها اتصال مباشر بالحكم الشرعي [21] .
6) تعليل الأحكام:
هذا من المباحث الأصولية التي لها أهمية قصوى. وقد درج العلماء على مناقشة هذا الموضوع وعرضه أثناء عرضهم لباب القياس على أساس أن هذا الموضع هو ركن من أركان القياس. ولا شك أنه ركن من أركان القياس ولكن لو نظرنا إلى تعليل الأحكام لوجدناه يرتبط بالمصالح عموماً. كما أن الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة منها ما له علله ومقاصده التي ينبغي أن تعرف حتى إذا لم نكن محتاجين لاستخدام القياس في موضوعها. ويرتبط موضوع التعليل أيضا بموضوع تحديد أهداف الشريعة العامة. وسنفرد للأهداف بندا خاصا من بين بنود هذه المباحث. ويرتبط مبحث تعليل الأحكام بمباحث الأسباب والشروط والموانع الخ [22] .(22/443)
وبحث موضوع التعليل في باب مستقل لا يعنى أن نمنع عرضه كركن من أركان القياس. بل يعرض هناك بوصفه ركناً من الأركان، أما عرض التعليل مفصلا من حيث حقيقته في الشريعة فينبغي أن يعقد له فصل مستقل لأهميته بالنسبة للتشريع.
7) الكتاب:
مبحث القرآن الكريم -كمصدر رئيسي للتشريع- هو المبحث الرئيسي في علم الأصول وقد رأينا أن يتأخر في ترتيب بحثه- كما درج علماء الأصول- ليتمكن الدارس من إدراك الحكم وما يتعلق به من أبحاث. لأن الحكم هو المقصد الذي نزل القرآن الكريم لبيانه. ومن هنا كان تقديم مبحث الحكم على مبحث الكتاب؛ ليدخل الدارس على الكتاب ولديه تصور لما يهدف الكتاب الكريم لبيانه.
وفي مبحث الكتاب تقدم الدراسات التي يحتاج إليها في تصور القرآن الكريم عموماً لا تفصيلاً، ويحتاج إليها في بيان أن القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي ترجع إليه كل الأصول.
8) السنّة النبوية:
يأتي مبحث السنة النبوية عقب مبحث القرآن الكريم فهي الأصل الثاني والمكمل للأصل الأول. وما قلناه في تأخير مبحث القرآن عن مبحث الحكم الشرعي وما يتعلق به نقوله أيضاً هنا في تأخير مبحث السنة عن الحكم الشرعي. وتبحث السنة في علم الأصول من حيثيات مختلفة. من حيث مكانتها في التشريع وكيفية أخذ الأحكام منها ومقارنتها مع الأصول الأخرى إلى غير ذلك من المباحث المستفيضة والتي يطلبها الدارس في مكانها من علم الأصول.
9) الإجماع:
مبحث الإجماع هو المبحث الثالث الذي يلي مبحث السنة وهو المصدر الثالث من مصادر الأحكام. وفي حقيقته ومستنده ومراتبه والأخذ به تفصيلات مبسوطة في مكانها.
10) الألفاظ وتفسيرها:(22/444)
هذا مبحث واسع من مباحث الأصول ويشتمل على فصول عديدة وهو من أهم مباحث هذا العلم. ففي هذا المبحث تدرس كيفية فهم وتفسير ألفاظ القرآن والسنة ببيان معاني ألفاظ هذين المصدرين الرئيسيين، ودلالاتها وإشاراتها، وأمرها ونهيها، وعمومها وخصوصها، وإطلاقها وتقييدها، وناسخها ومنسوخها، ووضوحها وعدم وضوحها ومنطوقها ومفهومها.
11) القياس والمصادر العقليه الملحقة به:
ومبحث القياس والمصادر العقلية الأخرى -كالمصالح المرسلة والاستحسان والعرف والذرائع والمخارج، هذا المبحث من المباحث المهمة في ميدان الأصول- وقد حدث عليها اختلاف كبير مما جعل تفصيلاتها ومناظراتها ومناقشاتها مستفيضة في كتب الأصول، لأن جميع هذه المباحث تقوم على العلة المعقولة؛ لتبنى عليها الأحكام من خلال هذه الأبواب ولقد عد بعض علماء الأصول القياس وبقية الأصول العقليه من وجوه دلالات نصوص القرآن والسنة ولم يجعلوها أصولاً قائمة بذاتها [23] وجعلها بعضهم أصولا قائمة بذاتها ولكنها مرتبطة بالنصوص وبأهداف الشريعة التي حددتها النصوص. وليس هنالك فرق بين المذهبين في الحقيقة.
12) الاجتهاد:
هذا المبحث حقيقته جمع وتلخيص وترتيب للمباحث السابقه خاصة مباحث الألفاظ والمصادر العقليه. حيث أن تلك الأبحاث تحدد كيف تستخرج الأحكام من النصوص ومن معقول النصوص -والاجتهاد في النهاية لا يعني أكثر من هذا المضمون- وفى هذا المقام تدرس نقاط عديدة من بينها: المجتهد وأحواله ويلحق بذلك الإفتاء.
12) التقليد:
التقليد من مباحث علم الأصول وإن لم تناقشه بعض كتب الأصول فبدراسته يتبين الحد الفاصل بين الاجتهاد والتقليد. فالتقليد هو ضد الاجتهاد كما أن المقلد هو في مقابلة المجتهد.
14) مباحث متفرقة:(22/445)
هنالك مباحث أخرى متفرقة تدرس في علم الأصول لمعرفة ما إذا كانت مضامينها أصولا تستقى منها الأحكام أم لا، نذكرها جملة هنا. تلك المباحث هي: الشرائع السماوية السابقة للإسلام، قول الصحابي، الاستصحاب.
15) أهداف الشريعة العامة ومبادئها:
على الرغم من أن هذا المبحث مرتبط بتعليل الأحكام لكن رأينا تخصيصه بمبحث خاص. فربما يفهم من مبحث تعليل الأحكام أن المقصود من ذلك بحث علل الأحكام الفردية. لذا رأينا أن ندقق على أهمية دراسة مقاصد الشريعة العامة من حفظ دين ونفس وعقل ومال ونسل ومن تيسير ورفع حرج ... الخ.
16) الثبات والمرونة في شريعة الإسلام:
هذا المبحث ينبغي أن يدرج ضمن علم أصول الفقه مع أنه بحث في كتب مستقلة ولكني أرى أنه من صميم علم الأصول. فتحديد الأصول والمبادئ التي تقوم عليها مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان من قياس ومصالح والأصول التي يقوم عليها ثبات بعض الأحكام من خصوص وتقييد وتفسير، كل ذلك لا يأتي إلا من خلال علم الأصول. فهو الميزان الذي نزن به تلك الأسس التي تقوم عليها مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان وهو المقياس الذي نميز به الأحكام التعبدية من الأحكام المدركة عقلا والأحكام الخاصة والمقيدة وغيرها مما لا يدخله تغيير أبدأ والأحكام الاجتهادية غير المجمع عليها مما يمكن أن يخضع لاجتهادات جديدة.
ففي نظرنا أن هذا الموضوع ينبغي أن يلحق بمباحث الأصول. هذا مجمل ما أردنا أن نقوله هنا حول بيان حقيقة علم الأصول ومباحثه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المستصفى جـ1 ص4-5.
[2] توفي أبو الحسين البصري في ربيع الآخر سنة 436هـ (أنظر وفيات الأعيان)
[3] توفي عبد الجبار بن أحمد في عام 415هـ(22/446)
[4] المعتمد، جـ1 ص9. الذين كتبوا في الأصول على طريقة الحنفية [4] وسنورد هنا التعريف الذي أورده البزدوى [4] لأن البزدوى من أهم العلماء الذين كتبوا في الأصول على هذه الطريقة، وقد اعتمد عليه المتأخرون من علماء المدرسة الحنفية في كتابتهم في أصول الفقه. على الرغم من أنه كان مسبوقا بعدد من علماء الأحناف الذين كتبوا في الأصول، وكان أسبقهم أبو الحسن الكرخي [4] الذي ألف رسالة في الأصول ذكر فيها الأصول التي عليها مدار فقه الأحناف. ولكنه لم يضع تعريفا محددا لعلم أصول الفقه كما وضعه البزدوى.
[5] كانت الكتابة في الأصول الفقه في القديم على طرقتين، طريقة الشافعية وطريقة الأحناف، ثم اندمجت الطريقتان فيما بعد كما سنوضح ذلك في فصل خاص.
[6] توفي سنة 482هـ
[7] توفي ببغداد سنة 340هـ.
[8] أصول البزدوي جـ1 ص19-20 الخ.
[9] توفي سنة 478 هـ
[10] االمستصفى جـ1 ص4.
[11] روضة الناظر ص4.
[12] التحرير وشرحه جـ1 ص24.
[13] توفي سنة 790هـ.
[14] الموافقات جـ3 ص24-25 الخ.
[15] أصول الفقه لخلاَّف ص12.
[16] أصول الفقه لأبي زهرة ص7.
[17] قوله إليه الضمير راجع إلى الفقه.
[18] توفي سنة 793 هـ
[19] التلويح على التوضيح
[20] أمر الغزالي، المستصفى جـ 1ص 4- 5.
[21] أنظر الآمدى. الأحكام جـ3 ص 102الخ
[22] أنظر الغزالي المستصفى جـ1 ص8
[23] أنظر الغزالي جـ1 ص9(22/447)
القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق
للشيخ محمد الراوي
رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمود بن سعود الإسلامية
إن تحولا هائلا قد وقع في الأرض بنزول القرآن صارت معه قافلة الحياة على هدى ونور، ونشطت مع فجره نفوس لبت نداء الله فأحياها وجعل لها نورا تمشي به بين الناس وبقي القرآن للحياة بقاء النور في الكون لا يتوقف مده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولم أر شيئا تفجرت به ينابيع الحكمة وامتدت أنهار المعرفة في غير انقطاع كما تم للقرآن الكريم. لقد شغل الناس جميعا من آمن به ومن أعرض عنه وأثر في هذا وذاك مطاوعة ومكابرة، تأييدا ومعارضة ونجاة وهلاكاً رفعا وخفضا وحربا وسلما وهزيمة ونصرا، وظل القرآن في جميع الأحوال وسيظل عزيزا شامخا أبيا ولو تكسرت من حوله السيوف أو ضعفت النفوس {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
لقد نزل القرآن وبنزوله طويت الكتب وختمت الرسالات وحفظت للناس أسباب الحياة وصان الله كتابه من التزييف والتبديل ومضى القرآن في الحياة يعلن الرسالة رسالة الأنبياء جميعا كما جاءت من عند الله وتقيم الحجة على الناس جميعا وعلى أهل الكتاب ويدعوهم إلى كلمة سواء ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف 158) .(22/448)
مضى القرآن يدعو الناس في كل زمن ويتلى عليهم في كل مكان ويحمله موجات الأثير إلى كل بيت، ومن قبل كان ينتقل مع حركة الحياة إلى كل مكان هاديا في تجارة تعبر البحار ومع قافلة تنقل الزاد والمتاع وكانت هذه الحركة في نشاطها أسبق وأقوى من وسائل عصرها هاكم ساحة الأمن أمام أعيننا.. سلوا التاريخ وسلوا أنفسكم كيف امتد القرآن في هذه الساحة الواسعة بوسائل العصر الذي نزل فيه وكيف استطاع أن يقوم الألسن مع اختلافها ويجعلها تنطق به كما نزل من عند الله. أليس من عجائب القرآن أن ترى على الفطرة رجلا يجلس في ظل شجرة تنبت بعيدا عن موطن الوحي يكتب من آيات الله ما يكتب ثم يردد بلسان عربي مبين {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف 43) ولو جلست تخاطبه باللسان العربي في غير القرآن لاضطربت الألفاظ وذهبت الكلمات وجاءت الإشارات.(22/449)
ولا أنسى ما حييت منظر بائع متجول في نيجيريا يبيع الفاكهة والثمار يأتي ويجلس في جانب الدار ليبيع ما قدر له، ولا يمل من قرب، إذا غبت عنه يؤثر البقاء في الظل ولو طال الوقت وعلى وجهه بسمة مشرقة لا تفارقه اشترى الناس منه أو أعرضوا عنه.. خرجت يوما وقد تعودنا عليه فوجدته قد بدأ التلاوة في سورة الأعراف فلم أخاطبه في بيع أو شراء وآثرت أن أسمع وهو يتلو حتى فرغ من القراءة فلم يقع في لحن ولا خطأ مع طول ما قرأ، وكنت قد تعودت عند البيع والشراء أن استعمل أصابه اليد في تحديد السعر من أخذ وعطاء. أليس دليلا على تيسير الله وهدايته أن ترى ماهرا في القرآن من وصفت حاله ولسانه فلا يتتعتع فيه ولا يكون عليه شاقا، أليس هذا دليلا على عزة القرآن وغلبته أن تتوحد الألسنة المختلفة عند تلاوته كما تتوحد القلوب المتنافرة بتوفيق من الله عند جبله. وقد تعجز جميع الوسائل من أن توحد بين اللهجات المختلفة لأصحاب اللغة الواحدة واللسان الواحد كما تعجز في إنفاق ما في الأرض جميعا أن تؤلف بين قلبين لا يجمعهما الإيمان ونفسين لا يقود سعيهما القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
(الاسراء 9) .(22/450)
أي والله للتي هي أقوم في كل شيء وإني أقسم بمواقع النجوم وإنه قسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إن فيه غنى لطالب الحق والراغب فيه، ومن قبل كانت المعجزات لزمن محدود لا يتأثر بها إلا من رآها أو عاش في عصرها فهي لا تدوم ولا تكون حجة إلا لمن رآها ولمن شاهدها من جيل أو قبيل. أما القرآن فآية لا تزول وهو حجة على كل من بلغه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. آيات تتلى على جميع الناس في كل زمان ومكان {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إلاّ الْكَافِرُونَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ومن لم يكفه القرآن فالنار أولى به فإن الجبال الصم لو خوطبت به لكان حالها كما ذكر الله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .(22/451)
القرآن يتلى على الناس فهو حجة لهم أو حجة عليهم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً} وكما قال السلف: ما جالس أحد القرآن وقام عنه سالما إما أن يربح أو يخسر، وقال ابن مسعود رضى الله عنه القرآن شافع مشفع وحاصل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار. وعنه قال يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون قائدا إلى الجنة أو شاهدا عليه فيكون سائقا إلى النار. وقال أبو موسى الأشعري رضى الله عنه إن هذا القرآن كائن لكم أجراً وكائن عليكم وزراً فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن فإن من أتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن أتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار فقد ورد في السنة الصحيحة ما يؤكد أن موقف الإنسان يتحدد بموقف القرآن شهادة له أو عليه. روى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"، وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين" وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا يقدمهم سورة البقرة وآل عمران يحاجان عن صاحبهما".(22/452)
إن القرآن يتلى وبتلاوته تقوم الحجة وتنقطع المعذرة {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .(22/453)
آيات تتلى على جميع الناس وترى في الآفاق والأنفس وفي كل زمان. والناس غاديان فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها؛ قال أبو بكر بن عباس: قال لي رجل مرة وأنا شاب: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من ربق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً قال فو الله ما نسيتها بعد. وكان بعض السلف يبكي ويقول: ليس لي نفسان إنما لي نفس واحدة إذا ذهبت لم أجد أخرى. القرآن يتلى ولذا تستطيع أن تقول إن جانب الدراسة لم ينقطع أبدا منذ نزول القرآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فإن الدراسة لا تحتاج لفلسفة متعمقة إنما تحتاج لتلاوة متدبرة، وقلوب حاضرة، تعرف مقاصد القرآن وهدايته، وتستمسك به في نزاهة لا يخالطها هوى أو رغبة، ولا تقعدها حظوظ عاجلة، أو يأسرها منفعة باطلة وعندئذ تقترن الدراسة بالتطبيق وينتصر الحق في نفس الإنسان ويتغلب على هواه ويستطيع الإنسان أن يعرف ذلك من نفسه حين يصادم مطلب الحق مقاصد النفس من مطالب وشهوات، فإما أن يؤثر الحق ويرضى به وإما أن يركن إلى النفس ويخلد للأرض. ولا تمر الحياة على إنسان دون تجربة أو امتحان {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} العنكبوت آية 1- 3، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} محمد آية 31.(22/454)
وكل جيل من الأجيال يمر بالتجربة، ويأتي الجزاء من جنس العمل، جزاء المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} والقرآن الكريم يسجل لنا نتائج كل شيء وبين سمات الهالكين وصفات الناجين لكي نعي ونتدبر ونحذر {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ومع القرآن الكريم لنعرف سنن الله في خلقه، ونبصر عواقب الأمور ونتائجها، ونرى من تأسوا بنبيهم. وكان القرآن لهم خلقاً كيف صدعوا به وارتقوا؟ والقرآن يوضع لنا مواطن الفوز والنجاة ويبين خصائص من يرفعهم الله ومن يخفضهم، تقرأ القرآن {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} والدراسة تعي الدلالة وتعرف المقصود والتطبيق والعمل، يبين أن من الناس ناساً يتعلقون بالرغائب وينسون العواقب، وربما فقدوا صفاتهم من أجل أن ينالهم عرض من زخرف الدنيا وزينتها، وقد يختلط عليهم إكرام العبد في دار الجزاء وتفاوت الحظوظ في دار الابتلاء فتلهيهم العاجلة عن الآجلة، والقرآن الكريم يوضع ذلك في مواطن كثيرة ليأخذ الناس بأسباب الرفعة وأسباب الحياة {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأصحاب فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وبين القرآن من هم السابقون، ومن هم أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة، ويذكر جزاء كل فريق، ثم يبين في نهاية السورة أن هذا الجزاء مرهون بالأجل، فإذا جاء الأجل - وما أسرع أن يجيء - لقي كل فريق جزاءه {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ(22/455)
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .(22/456)
إن هذا البيان لا يعزل الناس عن الحياة الدنيا أو يزهدهم فيها إنما يصحح أمرها بالآخرة، والعاجلة لو قصدت وحدها لقادت أصحابها إلى النار والدمار {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} . وكل حسبان أن الخير في عاجل يعطاه الإنسان من مال وبنين رده القرآن وبين أنها زينة، والزينة يخدع بها من غفل عن العاقبة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} .(22/457)
فواضح أن الآخرة تُطلب بصفات وهذه الصفات لا يتوفر للناس الأمن والسلام إلا بها، فهي لدنيا الناس أمن وسلام، ولآخرتهم نور ورضوان، وواضح أن حسبان الأمر غير هذه الصورة دليل على عدم الشعور بحقائق الأمور {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وإذا أصيب الناس بعدم الشعور رغبوا في الزينة والمتاع وغفلوا عما ينتظرهم من حساب وجزاء، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين ما يعطى للإنسان استدراجا وإملاءً وبين ما يعطى تعليماً وجزاءً، إن فقدان الشعور وتبلد الحواس يلحق الإنسان بالأنعام، بل ينزله به دونها، وعندما تختلط الأمور فلا يفرق الناس بين العاجلة والآخرة وبين ما هو فانٍ وما هو باق ويؤثرون ما يفنى على ما يبقى ويحبون العاجلة ويذرون الآخرة. عندئذ تتحول الأمة إلى غثاء كغثاء السيل ولا يغني عنها شيئا من وفرة عددها وكثرة ما بيدها. وهذا ما حذر منه الرسول صلى اللهْ عليه وسلم: "ما الفقرا أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت عليكلم من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" وفي الحديث المتفق عليه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرد وأنا شهيد عليكم فإن موعدكم الحوض وإنما أنظر إليه من مكاني هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال فكانت آخر نظرة نظرتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفي رواية: "ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" فقال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. من القرآن الكريم ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم نرى نتائج الأعمال وآثارها في نجاة الأمم(22/458)
أو هلاكها. وبالعمل كما أمر الله ورسوله يكون القرآن حجة لنا وبالدراسة وحدها يكون حجة علينا لأن الدراسة فهم وعلم، وبالعلم تقوم الحجة والتطبيق تنفيذ وعمل وعليه يكون الجزاء وبه تقع قيمة الدراسة ويعلو شأنها {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} .(22/459)
الدراسة هنا تفهم الدلالة والتطبيق يقتضي ألا نستعين إلا بالله وأن نأخذ بالأسباب والاستعانة بغير تفريط أو استهانة، بأن تخلص القصد لله وتستقيم كما أمرنا وأن تكون جميع أقوالنا وأعمالنا لإعلاء كلمة الله ولنصرة دينه عندئذ نصدق في حسن التوكل عليه. وطلب النصرة والنجاة منه -وإن فعلنا- ذلك فلأنفسنا إن فرطنا فعليها وما ربك بظلام للعبيد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الدراسة هنا تفهم الدلالة والتطبيق يقتضي استقرار النفس بما أعطيت، وهذا الاستقرار دلالة صدق الإيمان؛ لأن الآيات إذا لم يظهر أثرها في الحياة تكون قد وقفنا بها عند الدراسة فحسب، وهذا قدر قد يزيد من حسابنا ويقيم الحجة علينا، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} .(22/460)
هذا بيان لنتائج العمل الجاحد الخاسر؛ إذ العمل المقبول عند الله لا يكون إلا بصدق الولاء له وحسن الاستقامة على دينه. وكل شيء يناصب الإنسان العداء إذا عادى الإنسان ربه حتى جوارحه التي ينالها من العذاب ما ناله تخضع وتخشع لإرادة الخالق لا إرادة المخلوق ولا يملك الإنسان في فترة الحساب إلا أن يجعلها طوع إرادته كما طوعها في فترة الامتحان في الحياة الدنيا والتطبيق العملي لفهم هذه الآيات أن يتجنب الإنسان ما من شأنه أن يقع فيما وقع فيه الجاحدون ويتقى الله في السر والعلن "قل آمنت بالله ثم استقم" إذ لا فائدة من الدراسة إذا عرفنا مصير الجاحدين وفعلنا فعلهم ويا ويل من أضله الله على عدم والقرآن الكريم بين مصير هؤلاء ويذكر جزاء من آمن واستقام في آيات متباينة بلا فصل {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} بعد هذا نقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} .(22/461)
وتلك طريقة القرآن في إعطاء النتائج متقابلة ومتجاورة فمن ضاقت أنفاسه من عقاب أولئك- فليأخذوا طريق النجاة ليكون ممن أنعم الله عليهم ورضي عنهم ومن رأى كيف تكون العداوة هناك بين الجاحدين فليأخذوا طريق أخوة المؤمنين وصداقة المتقين {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاّ الْمُتَّقِينَ. يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف.(22/462)
وهكذا نجد القرآن الكريم يقدم لنا بيانَ كلِّ شيء ويوضع النتائج التي تترتب على الأعمال، وكثيراً ما يقدمها في أسلوب الشرط والجزاء أو الأمر وجوابه وهي أشد انضباطا في المعادلات الرياضية التي لا يختلف الناس على أمرها {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .(22/463)
وربط الجزاء والنتيجة بالمقدمة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} . {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} . {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ} . {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُون وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .(22/464)
إن القرآن الكريم يتلى على الناس جميعا وقد يسمعه المتقون والفجار ولكن مواقف الناس لا تتحدد بالسماع والدراسة وحدها؛ فإن العلم بالشيء قد يستوي فيه بار وفاجر وإنما تتحدد مواقف الناس بالعمل وما يشفع إليه بالبيان وفرق بين الاتباع والأعراض، والجهاد والقعود والطاعة والمعصية واتباع سبيل المؤمنين أو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين وكل ذلك سيوزن بميزان دقيق {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} . {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} .(22/465)
ولذا فإن النفر من الجن لما سمعوا القرآن علموا أن السماع يتبعه الإجابة والتنفيذ وإلا لزمت الحجة {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} قاموا بتبليغ ما سمعوا وكانوا أمناء صادقين طلبوا من قومهم أن يجيبوا داعي الله وأن يؤمنوا به وبينوا الجزاء {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وحذرهم من عدم الإجابة تحذيرا بالغاً {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لقد فهم هؤلاء النفر من الجن دلالة ما يتلى من الكتاب فلم يقفوا عند حدّ السماع وحده أو الدراسة وحدها، بل قاموا بواجب التبليغ على خير وجه وحددوا موقفهم على أساس من هذا الدين {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} عرفوا النتائج وبلغوها إلى قومهم وعلموا ألا نجاة إلا بالصدق مع الله ولا ملجأ من الله إلا إليه {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} يقول الله تعالى {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا(22/466)
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
إن القرآن الكريم لحركة الحياة ولشرفها وطهارتها، بل هو الحياة نفسها لأنه روح ولا حياة بلا روح ونور، وهل يستوي من أحياه الله وجعل له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله من الظلمات ليس بخارج منها {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} .
والذكر يطلق على الشرف ويطلق على البيان والتذكرة فإذا أعرض من شرفهم الله به فقد رضوا لأنفسهم أن يعيشوا بلا شرف وأن يسيروا على غير هدى وفي ذلك من الإساءة لأنفسهم في عاجل أمرهم وأجله ما فيه.(22/467)
إن جيل القرآن الأول لم ير لنفسه شرفاً في غير ما شرفه الله به ولم يبتغ العزة في غير ما أعزهم الله به ولذا كانت دراستهم للقرآن دراسة علم وعمل وكان مواقفهم معبرة عن مدى تأثير القرآن في نفوسهم وكان بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أمام أعينهم تطبيقاً عملياً للقرآن يتبعونه ولا يخافون وما كان لهم الخيرة من أمرهم إذا قضى الله ورسوله أمرا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} كانوا لا يتباطئون ما فيما أمروا به ولا يلتفتون لما نهوا عنه أن سمعوا من رسولهم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" قاموا إليها مسرعين يقول قائلهم: "والله لئن بقيت حتى آكل تمراتي تلك إنها لحياة طويلة"وإن أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعاة إلا الله فواجهوا الخطر استقبلوه راضين مستبشرين وإن طعنوا في سبيل الله حمدوا الله أن جعلهم من الفائزين، وإن خرجوا إلى أعدائهم لم يخرجوا بطراً ورئاء الناس بل دعاة إلى الله يعلون كلمة الله بأنفسهم وأموالهم ولا يرون لأنفسهم حظاً إلا فيما عند الله ولا ينشدون إلا رضاه.(22/468)
في الحديث المتفق عليه عن أنس رضى الله عنه جاء ناس للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: "ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة"فبعث معهم سبعين رجلاً من الأنصار فيهم خالي حرام يقرأون القرآن ويدرسونه بالليل ليتعلموه وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا أو أتى رجل حراما خالد أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه قال حرام "فزت ورب الكعبة"فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.." تلك دراستهم وهذه مواقفهم دراسة تعتني بتدبر القرآن وتنفيذ أمره ويأتي الامتحان بعد الدراسة في مواطن كثيرة فلا يتعثرون في إجابتهم ولا يجيبا أحد منهم إجابة خاطئة بل تكون إجابتهم درساً للإنسانية كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لقد أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا دعاة لفريق من الناس في زمنهم فكانوا بإجابتهم دعاة للزمن كله وللناس جميعا بعدهم.(22/469)
كانوا يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل ليتعلموا فأعدت نفوسهم بالقرآن إعداداً يواجه الحياة بسرائها وضرائها بيسرها وعسرها، في ثبات لم تتبدل نفوسهم بتبدل الأحوال ولم تتغير بتغير العوارض، يقول عتبة بن غوان وهو يخطب الناس في البصرة وكان أميراً عليها لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فأخذت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فأتزرت بنصفها وسعد بنصفها فلم يصبح منا أحد إلا وأصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا. هذا حالهم في العسر وهم رجال في جميع الأحوال لا تتغير نفوسهم بتغير الأحوال.
وبعد مرة أخرى فإن المسلمين لا يستطيعون في كل زمان ومكان أن يواجهوا قضايا عصرهم وزمانهم إلا بالقرآن، يعتصمون به في روابطهم ويقيمون أحكامه في حياتهم ويجاهدون به أعداءهم ويصلحون به دنياهم، ويستقبلون به آخرتهم ولقد اقتضت سنة الله في خلقه أن تكون هداية الله سبباً لنجاتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . ولقد أدرك جيل القرآن الأول منذ اللحظة الأولى أن أقوى العدة والعتاد في مواجهة أعدائهم أن ينتصر دين الله في نفوسهم، وأن يكونوا أهلا لنصر الله فإذا تخلف عنهم بحثوا في عيوب أنفسهم، وهم يعلمون أن الذنوب أخطر على المسلمين من العدو وعلى أنفسهم، ولقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا إلى سعد بن أبى وقاص لما أرسله إلى فتح فارس جاء فيه:(22/470)
أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة على الحرب. آمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عدونا ليس كعدوهم ولا عدتنا كعدتهم. فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإن لم ننتصر عليهم بفعلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منه، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بنى إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألوه النصر على عدوكم. (الله أكبر.... الله أكبر) .(22/471)
تستطيع أن ترى في كل كلمة من هذه الكلمات قبساً من نظر القرآن أو هدي النبوة. إن ناسا شغلوا أنفسهم فأصلحوها، وفروا إلى الله موحدين جديرون أن يخاطبوا من قبل الله عز وجل إكراما لهم {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} . إن العالم كله في حاجة إلى نور القرآن لتصان كرامة الإنسان الذي صار في عصرنا هذا أرخص شيء في دنيا الناس. العالم في حاجة إلى القرآن ليكون الحق والعدل أساساً في معاملة الإنسان للإنسان، ودراسة القرآن لم تتوقف ولن تتوقف أبداً بإذن الله لأنه يتلى ويكفي أن يتلى، ولكن الذي يتوقف أحياناً هو التطبيق وبه يتباين جيل عن جيل ويعز ناس ويذل آخرون، وجيلنا هذا قد انحسر عنه التطبيق في كثير من دياره إلى درجة لم يسبق لها نظير فانحدر المسلمون إلى درجة لم يسبق لها مثيل ولكن من رحمة الله بخلقه أن حفظ لهم الذكر كما حفظ لهم بفضله بيانه فجمع الأسباب التي صعدت بأسلافنا ورفعهم الله بها قائمة أمام الأجيال كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كتاب وسنة، فهل نستطيع أن نجعل دراستنا عملاً وتطبيقاً كما كان أسلافنا من قبل، أم نطمع من الدراسة بالشهادة والألقاب، وإن فعلنا ذلك كان القرآن حجة علينا فإن عملنا به مقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن حجة لنا.
نسأل الله أن يجعله حجة لنا لا علينا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،،،
نكون أسعد الخلق لو وصلنا إليه بعد ألفى عام
إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كحمد- صلى الله عليه وسلم- إليها. إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد الخلق لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي عام.
شبرل
عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا(22/472)
التربية الإسلامية للشباب
للدكتور عبد الرحمن بله علي
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
لمحة لغوية:
الشباب جمع شاب، وقد تجمع على (شبان) كفارس وفرسان، وقد تجمع على (شببة) ككاتب وكتبة. جاء في السيرة: لما برز يوم بدر عتبة وشيبة والوليد برز لهم شببة من الأنصار، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كنت أنا وابن الزبير وشببة معنا". والمؤنث منه شابة وتجمع على (شواب) كدابة ودواب.
ومادة (ش ب ب) من باب (ضرب) تشير هي وجميع مشتقاتها إلى معنى القوة والفتوة والحداثة والجمال والنماء. فالشؤبوب هو الدفعة من المطر، وأول كل شيء وشدة دفعه، يطلق كذلك على شدة حرّ الشمس. وفرس مشب هائج متمرد عَصيّ القياد. والشباب بالكسر النشاط.
ومن معانيها الحداثة والابتداء تقول فعل فلان هذا الشيء في شبابه أي في أول عمره وحداثة سنه، وتقول: سافر فلان في شباب الشهر أي في أوله. وتقول: جئتك في شباب اليوم أي في أوله؛ ومنه التشبيب، وهو ما يذكر في أول القصيدة من ذكر النساء، وما يتصل بهن، ويدور حولهن؛ قالت أم معبد: "لما سمع حسان قولا لهاتف شبب بجارية"، أي أخذ يجاوبه من التشبيب وهو الابتداء بالكتب والأخذ فيها.
ومما تحمله المادة: الحسن والجمال تقول: شب الخِمار لون المرأة؛ أي زاد في بياضها وجمالها، لأن الضد يزيد في الضد، ويبدو ما خفي منه، لهذا قالوا: (وبضدها تتميز الأشياء) وقالوا (والضد يظهر حسنه الضد) ؛ ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين جيء له بجواهر ولآلىء: يشب بعضها بعضا. أي يزيد بعضها في جمال بعض.
من معانيها النماء والزيادة، تقول: شب فلان أي كبر وزاد حجمه ومنه قول جزيمة الأبرش: "شب عمرو عن الطوق"؛ أي نما جسمه وزاد حجمه، حيث الطوق لم يعد يمكن الدخول في عنقه.(22/473)
والإنسان إذا بلغ السادسة عشر من عمره يسمى (شابا) حتى سن الأربعين ثم هو كهل حتى سن الستين، ومن ثم يسمى (هرما) حتى يموت. وهذه الحدود ليست موضع اتفاق ولا هي حدود بارزة كحدود الحجرات، في المنزل ولكنها حدود وهمية كخطوط العرض والطول. ومن ثم فقد نرجع بالحديث عن الشباب إلى ما قبل مرحلة الشباب لما بين هذه المراحل من تداخل واضح وارتباط وثيق
سر الاهتمام بالشباب:
يمثل الشباب من حيث الكم 60% من مجموع الأمة. ومن حيث الكيف يمثل قلب الأمة النابض وقوتها الدافعة ودرعها الواقي.. هم بُدورها إذا أظلم ليلُها، وهم سيوفُها إذا جَلَّ خطبها.. هم كنزها المدخر، ورصيدها المعتبر.. ومستودع آمالها، وموضع ثقتها ورجائها.
إذا نظرت بعين الحقيقة إلى فترة الشباب، وجدتها فترة التأثير والتأثر، والعطاء والبذل، لأننا ونحن نعد الشباب نستثمر مواهبه، ونفجر طاقاته ونستغلها في البناء والتعمير، ودفع العدو المغير، هي فترة الحاجة الماسة إلى التوجيه والترشيد والتبصير والعناية والرعاية.. هي فترة وضع حجر الأساس، وكلما كان الأساس متينا كان البناء قويا شامخ الذرى، وكلما كان الأساس ضعيفا كان البناء هشًا سرعان ما يتحطم وينهار عند أول هبة ريح أو رشة مطر.(22/474)
إذن هي فترة لها ما بعدها، ومرحلة لها أثرها الخطير في المستقبل: سلبا أو إيجابا. صلاحا أو فسادا، سموا أو هبوطا فلا غرو إن وجدنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يوجه بحسن استغلال هذه الفترة فيقول: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك" كما نجده يوجه الشباب إلى كل ما يحفظ عليهم صحتهم، ويستبقى قوتهم، ويصون أخلاقهم فيقول: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة -المقدرة على الزواج والقيام بواجباته الحسية والمعنوية- فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". . أي وقاية من الوقوع في الفاحشة والآثام -إنما خص الشباب بوصيته الغالية لحاجتهم إليها بحكم نوازعهم الفطرية والشباب في هذه السن الباكرة يكونون أصلح للتربية والتوجيه، وأسمع للنصح والترشيد. فإذا وجدوا من يأخذ بأيديهم اتبعوه، وعملوا بأمره.
من هنا كان السر في إقبالنا على الشباب، وعنايتنا به ورعايتنا له حتى يمضى إلى غايته الكبرى وهدفه الأسمى مصونا من الانحراف الفكري والتدهور الخلقي والضعف العقلي. أما إذا تركناه هملا بلا رعاية، وسدى بلا ولاية فلسوف يتضعضع كيانه ويضمر بذله وعطاؤه، ويستشرى خطره وفساده فيصبح نقمة بعد أن كان نعمة، ومحنة بعد أن كان منحة، وبلاء بعد أن كان نفحة وعطاء.(22/475)
إن شبابنا اليوم يواجه هجمة استعمارية فكرية شرسة تحاول زعزعة إيمانه وزحزحة أقدامه، وضعضعة كيانه، فلا بد من تسليحه بالسلاح الذي يصيب مقاتلها. إن أعداءنا لما عجزوا من غزونا عسكريا لجأوا إلى غزونا فكريا. وبتعبئة الأمة وتجنيد طاقاتها وإعداد شبابها سيؤول أمر الغزو الفكري مآل الغزو العسكري: هزيمة نكراء وفشلا ذريعا. إذا شيدوا للشباب المراقص شيدنا له المساجد، وإن أقاموا له الحفلات الغنائية أقمنا له الكتائب الليلية، ليكونوا رهبانا بالليل وفرسانا بالنهار، لينشدوا أراجيز الحرب والقوة بدل التغني بفنون اللذة....ليحرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة وحبهم لها.. ليقتلوا أعداءهم بدل قتلهم أوقاتهم.. وهكذا نواجه مكر أعدائنا بمكر أدهى، وهجماتهم بدفاع أعتى حماية لشبابنا، وصونا لعقيدتهم وحقيقتهم....
لماذا نعد الشباب؟
السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا ما هي الأهداف التي من أجلها نهتم بتربية الشباب وإعداده؟ هل نُعدّ الشباب ليكون -صالحا في نفسه غير مصلح لغيره؟ هل نعدّ الشباب ليكون مهتما بأمره هو، لا بأمر غيرها؟ هل نُعِدّ الشباب ليتمثل فيه الدين ثقافة وعلما؟ هل نربي الشباب ليؤدى شعائر الإسلام من صلاة وصوم وحج وزكاة؟ هل نربي الشباب ليكف بصره، ويصون فرجه ويحفظ جوارحه ويرسل لحيته وكفى!؟(22/476)
الواقع أن السؤال الواحد تفرعت عنه أسئلة، ولكنها نشأت عنه وارتبطت به كارتباط الفروع بالشجرة. ونجد المفكرين ورجال الإصلاح يجيبون على هذه الأسئلة إجابات كافية شافية، فهم يرون أن المرمَى من إعداد الشباب أن يكون هو في ذاته صالحا، لأن الفاسد لا يصلح غيره. ثم يقوم بمهمة التغيير والتحويل والتبديل ... نعدُّه ليكون ثورة الحق على الباطل، وحملة الإيمان على الإلحاد، وكتيبة الصدام في وجه الأعداء ... نعدُّه ليصون دينه وطنه من خطر المذاهب الهدامة والأفكار الملحدة المنحلة.. نعدُّه ليكافح بحزم لا هوادة فيه البدع والخرافات وأنواع الضلالات.. نعدُّه ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، نعدُّه ليمسح بيده الحانية القوية آلام أمته وآلام الإنسانية، ويوفر للحياة جوا من الطهر والأمن والسعادة. نعدُّه ليمزق بسيف الحق جيوش الباطل، ويبدد بنور العلم ظلام الجهل.. نعدُّه ليقود أمته بقوة العزيمة وشدة الشكيمة إلى حيث يضعها في مكانها اللائق بها تحت الشمس.. نعدُّ في الشباب سواعده لتحمل راية الإسلام ودعوته، نعدُّ عقوله لتحمل فكر الإسلام وثقافته.. نعدُّ أرواحه لتحمل هدي الأسلم وصفاءه وشفافيته.
وإن الشباب لقادرون على كل ذلك -إن شاء الله تعالى- إذا وجدوا العناية الفائقة، والتوجيه السديد، والمتابعة الدقيقة التي تراقب خطوهم، وتزيل العقبات من دروبهم. ونحن نرى كيف أن المذاهب المختلفة تتلقف الشباب، وتحتضنهم بالجماعات، وتعدُّهم إعدادا، ليقوموا بمهمة الدعوة إليها والذود عنها، وهي في سبيل ذلك ترسم الخطط المحكمة، وتجند الطاقات الهائلة، وتنفق الأموال الطائلة، لتضمن بقاءها على أيد قوية، وعزائم ماضية فتية. وعلى الشباب أن يدركوا هذه الحقيقة، ويعوا تلك الغاية البعيدة المدى، وتكون همهم الملازم ينامون به، ويقومون به ويمشون به بين الناس، عاقدين عليه قلوبهم، حانين فوقه ضلوعهم:(22/477)
قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الشباب عنوان الأمة:
إذا أردت أن تعرف ماهية الأمة وحقيقة أمرها، فلا تسأل عن ذهبها ونشبها وبترولها ورصيدها المالي، ولكن انظر إلى شبابها، فإن رأيته شبابا متدينا متمسكا بقيمه الأصيلة منشغلا بمعالي الأمور، قابضا بأذيال الكمال وأهداب الفضائل -فاعلم أنها أمة جليلة الشأن، رفيعةُ القدر والجاه، قوية البناء، مرفوعة العلم لا ينال منها عدو، ولا يطمع فيها قوى.
وإذا رأيت شباب الأمة هابط الخلق والقيم، منشغلا بسفاسف الأمور، يتساقط على الرذائل كما يتساقط الذباب على جيف الفلاة -فاعلم أنها أمة ضعيفة البناء مفككة الأوصال هشة الإرادة، سرعان ما تنهار أمام عدوها، فيستلب خيراتها، ويحقر مقدساتها، ويهين كرامتها، ويشوه تاريخها وثقافتها.
وتلك حقيقة جلية لا يزيدها تعاقب الزمن إلا رسوخا ووضوحا، لأنها جاءت نتيجة لتجارب الأمم وحوادث التاريخ وسنن الكون.. إن الشباب هو عنوان الأمة والمتحدث بلسان حالها، والمترجم عن مصيرها ومآلها -تستطيع الأمة بشبابها -بعون الله- حماية دينها وأرضها واستخراج كنوزها، وتطويع مواردها، واستغلال خيراتها.. إلا أن ذلك مرهون بتربيته، والعناية به وصيانته من كل خطر يهدد خلقه وعقيدته.. ذلك مرهون بتمكن الإيمان في قلبه وبين جنبيه.. ذلك مرهون بتنمية روحه وضميره وعزمه وفكره تلك هي التنمية المطلوبة، والتي ينبغي أن نهتم بها أكثر من غيرها كتنمية الموارد الطبيعية، لأن الأخيرة هذه إنما تدار من أجل الإنسان فهو إذن قطب الرحى، فالاعتناء به ينبغي أن يكون في مقدمة ما نعتني به، وفرق بين تنمية تدفع إليها الحاجة، وتنمية يسار إليها مع الحاجة.(22/478)
لعلنا على اتفاق أن حاجتنا الملحة هي تنمية شبابنا ليكون عنوان الأمة والناطق بلسانها والذائد عن حياضها. إذا وجدت غريقا جائعا يستغيث من الغرق والجوع فإن منطق العقل والحكمة والحاجة يقتضي أن تنقذه أولا ثم تذهب فتبحث له عن طعام، وإن أنت تصرفت على غير هذا النحو تكون قد جافيت الصواب، وأخطأت التصرف.
ماذا نقول عنك لو أنك تركته لأمواج البحر تبتلعه، وذهبت تبحث له عن طعام؟
وإنها لتنمية تعلو في درج المشقة، درجات، وتمضى في مشوار الصعوبة أشواطا، وتتقدم على التنمية المادية بمسافة شاسعة، إذ ليس بناء النفس كتشييد العمارات، ولا تعمير الأرواح كتأسيس المصارف، الأمر إذًا يحتاج منا إلى منهج رشيد وجهد مكثف يقرب البعيد، ويسهل الصعب ويجعل القول عملا والخيال واقعا.
ونحن لا نقلل من أهمية التنمية المادية المتمثلة في النهوض بالناحية الاقتصادية والزراعية وغيرهما، ولكن الذي نعيبه هو الانشغال بها عن التنمية الروحية والتربية الدينية.. فهلا سارت التنميتان معا كركبتي بعير، أو كفرسي رهان، إن لم تتقدم الثانية على الأولى.
مظاهر الاهتمام بالشباب:
لم يبدأ اعتناء الإسلام بالشباب عند بلوغهم سنَّ الشباب، بل اعتنى بهم وهم نطف في أصلاب آبائهم وترائب أمهاتهم وذلك حين دعا إلى:
1ـ اختيار الزوجة والتحري من كرم أصلها وطيب منبتها؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يبذر بذرا اختار له الأرض الصالحة بغية أن يخرج نباته بإذن ربه، والأمر بالنسبة للزوجة أجل خطابا وأعظم هولاً، لأنه إنتاج بشري وذاك إنتاج زراعي، وفرق شاسع بين إنتاج وإنتاج، فلا عجب إن دعا الإسلام إلى التدقيق في اختيار الزوجة والنظر إليها والوقوف على أخلاقها ودينها حتى يكمل الانسجام، وتزداد المحبة، وصولا إلى عش الزوجية الهادئ الذي يستقبل الأبناء في عطف وحنان فيترعرعون في ظله؛ ليقدمهم إلى المجتمع رجالا أصلاء ونساء عريقات.(22/479)
2ـ من آداب المعاشرة الزوجية أن يسمى الرجل الله تعالى، ويأمر زوجته بها اتباعا للسنة وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا "وهكذا يدعو الأبوان لابنهما قبل أن يولد بل قبل تكوينه.. حتى إذا جاء إلى الحياة نشأ نشأة رحمانية بعيدة عن غواية الشيطان ومكائده.
3ـ حينما يولد المولود نؤذن في أذنه اليمنى، ونحنكه بمضغ تمرة ووضعها في فيه، وندعو له بالبركة، ثم نعقّ له في اليوم السابع، ونختار له اسما حسنا، وهذه كلها معان خيرة تتعاون على رسم بداية طيبة لحياة قادمة مليئة بالكرامة والخير والاستقامة والسعادة.
4ـ حفظا لفطرة المولود من أي شيء يغيرها، ويعكر صفوها نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم- من استرضاع المرأة الحمقاء حتى لا يتعدى حمقها إلى الطفل متسربا إلى نفسه الذكية مع لبنها، فيلوثها بما يشوه جمالها، ويغير طبيعتها.
5ـ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطعم الطفل، ويغذى من حلال؛ لأن الذي ينبت لحمه من حلال ينشأ وهو يحب الحلال -كما أن الذي ينبت لحمه من حرام ينشأ وهو يحب الحرام، ولا يخفى ما في هذه المسألة من خير كثير في شقها الأول، ومن شر مستطير في شقها الثاني.
6ـ إذا بلغ الأطفال السابعة من أعمارهم أمرناهم بالصلاة فإن داوموا عليها فبها ونعمت، وإلا ضربناهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقنا بينهم في المضاجع حتى لا يلتفتوا إلى أشياء جنسية، في وقت مبكر، هم لم يتأهلوا لها عقليا فتؤثر في أخلاقهم وتنحرف بسلوكهم. ومن حكمة الله ورحمته بخلقه أن الإنسان لا يبلغ الحلُمَ إلا في مرحلة متأخرة يكون فيها عقله قد نما وأصبح يدرك الأمور ويتحكم لحد ما في رغبته، وكبح جماح شهوته.(22/480)
7ـ يزود الإسلام الشباب في وقت مبكر بثقافة جنسية تتناسب مع سنه وتصلح أساسا لثقافة جنسية كاملة، فنحن نعلمه الصلاة نعرفه بآداب قضاء الحاجة، ونواقض الوضوء.. وهكذا. والثقافة الجنسية لازمةٌ للأولاد؛ لأنها ترشد سلوكهم، وتضبط نوازعهم، وتصون خطاهم من الانحراف.
إشادة وتكريم:
إنَّ الشباب إذا أخلص انتماءه لدينه تمسكا به ودعوة إليه وجهادا في سبيله، استحق أن يحلى صدره بأوسمة المجد والفخار.. قال تعالى إشادة بأهل الكهف الذين فروا بدينهم، وآووا إلى كهف حفاظا على عقيدتهم، وتعرضا لرحمة ربهم قال سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} ، فسجل موقفهم قرآنا عربيا يتعبد بتلاوته، وقال عزَّ وجل تنويها بموقف إبراهيم عليه السلام الذي وقف يصيح بكلمة التوحيد في وجوه قومه الذين عبدوا الأصنام، وأمام صيحته القوية العالية، انخلعت قلوب القوم، وخابت وخسرت أصنامهم.. قال سبحانه: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ورسولنا الأعظم يثنى على الشباب المتدين الناشئ في طاعة ربه، ويجعله مع الحكام العادلين والأخوة المتحابين والأغنياء المتصدقي، ن وبقية السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
كما نجده عليه الصلاة والسلام يسند إلى الشباب أرفع المناصب وأخطر المسئوليات فيسند إلى علي رضي الله عنه وكان في ريعان الشباب وميعة الصبا -أن ينام على فراشه ليلة تسور عليه سبعون فتى من فتيان قريش ينتظرون (ساعة الصفر) ليميلوا على رسول الله ميلة رجل واحد- أمره أن ينام على فراشه ليعمى عليهم أمرهم وأحسن التخلص عليه الصلاة والسلام حيث كانت بداية الهجرة النبوية المباركة. أما علي رضى الله عنه فقد قال فيما بعد عن نومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما نمت ليلة أهدأ من تلك الليلة".(22/481)
ويُسنِد عليه الصلاة والسلام مهمةَ الدعوة في المدينة إلى مصعب بن عمير وكان شابا في مقتبل العمر- فقام بواجبه على خير وجه، وبلغ من التوفيق والنجاح أن أهل المدينة يكادون يكونون قد اسلموا جميعا على يديه. وفي غزوة (أحد) نجده عليه الصلاة والسلام يرجح رأي الشباب على رأى الشيوخ فيخرج لمواجهة العدو خارج المدينة، كما وكل قيادة الجيش الذاهب إلى الشام إلى أسامة بن زيد - وكان في العقد الثاني من عمره، وفي الجيش كبار الصحابة ... وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يعد الشباب جنوداً مجاهدين وعمالا حركيين، ويكل إليهم من المسئوليات أخطرها ومن المناصب أعلاها وأرفعها.
وقد سار على قدمه ومضى على سنته سلف الأمة في إعدادهم الشباب وثقتهم فيه وتقليدهم المهام الجسام؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه ينادى (زيد بن ثابت) رضي الله عنه، ويعهد إليه بجمع القرآن الكريم بعد أن أثنى على أخلاقه وأنه شاب مستقيم، الأمر الذي أهله ليرأس المجموعة الخيرة التي نهضت بذلك العمل الفخم الجليل.
كان ذلك في ماضي الأمة الناضر الزاهر فينبغي لها في حاضرها أن تهتم بأمر الشباب حضًّا لهم على التمسك بأهداب الدين والخلق المتين مع إزالة كل عقبة تقف في سبيل إعدادهم، ولعله من الأفضل أن تسند إليهم بعض المناصب والمسئوليات مع إعطائهم الصلاحيات التي تجعلهم يتحركون في حرية واختيار، فإن في ذلك إعداداً لهم، وتنمية لملكاتهم، وتفجيرا للكامن من طاقاتهما مع إتاحة الفرصة لهم للالتقاء بالشيوخ، والاستفادة من خبرتهم، والاقتباس من تجاربهم حتى تلتحم قوة الشباب مع حكمة الشيوخ فيثمران رشادا في الرأي وصلاحا في العمل، وإلا جاءت الأمور كما قال حكيم الشعراء:
إن الأمور إذا الأحداث دبَّرها
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
الشباب والتقليد:(22/482)
يقول علماء الاجتماع: "الإنسان مدني بطبعه"أي أنه لا يذوق للحياة طعما إلا إذا عاش بين جماعة، ومادامت هناك جماعة فلابد من أن يؤثر بعضهم في بعض، ويقلد بعضهم بعضا؛ لأن التقليد وسيلة من وسائل التعليم ونقل الخبرات، خاصة لمن هم في ريعان الشباب ومقتبل العمر، والواقع أن التقنية الحديثة وسرعة المواصلات جعلت العالم كله أسرة واحدة مرتبط بعضها ببعض ارتباطا عضويا.
وليس في هذا ضرر بل فيه منفعة، ولكن الضرر يكمن في أن يتحول التقارب إلى امتزاج، والالتصاق إلى ذوبان يفقد الناس معه أصالتهم وذاتيتهم وتراثهم. إننا لا نمانع أن تهب علينا رياح الثقافات، ولكن لا نرضى أن تصبح الرياح ريحا تقتلع شجرة ثقافتنا.
وإنك لتجد كثيرا من شبابنا اليوم يتخلى عن عاداتنا السمحة وتقاليدنا الأصيلة منصرفا إلى تقليد الغربيين في شتى مناحي الحياة، ولم يقفوا عند حد التقليد بل ذهبوا إلى الدعوة إليها والمناداة عليها باعتبار أن كل ما يأتي من الغرب حق كله والأخذ به تقدمية، والانصراف عنه تأخر ورجعية.(22/483)
وإحقاقا للحق واعترافا به أن ما يأتي من الغرب ليس شرا كله، بل هناك جوانب مشرقة وخيرية، فيجب علينا أن نقف ونتبين ونميز، ولا نكون أمامها (كحاطب ليل) ، فما وافق ديننا وأخلاقنا أخذناه (خذ الحكمة من أي وعاء خرجت) وما خالف ديننا نبذناه نبذ النواة. ولكن شبابنا -هداهم الله- قلدوا أهل الغرب في الجوانب المظلمة وتركوا المشرقة فمثلهم -كما قال الشيخ محمد الغزالي حفظه الله- مثل رجل مسلول- مصاب بذات الرئة - رأى عملاقا- فارع الطول مفتول العضل ولكنه يشرب الدخان- فلم تعجبه هذه العملقة بقدر ما أعجبه شرب الدخان فقلده فيه ليجلب على نفسه الضعف والهلاك. ولعل التربية الإسلامية كفيلة بتبصير شبابنا بمساوئ الحضارة الغربية حتى لا يغتروا بزخارفها الخادعة، وأشكالها الفارغة من المحتوى والكيان، وفي الوقت نفسه تحضهم على التمسك بأخلاقنا الإسلامية العظيمة وعاداتنا الوطنية الأصيلة محافظة على تراثنا واعتزازا به، وإن في تمسكهم به غنى لهم عن غيره، وتحصينا لهم من ضرره، وعاصما لهم من الانحراف الفكري والانحطاط الخلقي. كما تبين لهم الأثر الكبير- للحضارة الإسلامية في تقدم أوربا، وأن نهضة الغرب الحالية إنما كانت بدفع قوى من يدي الإسلام، وأنه لولا جهود المسلمين لتأخرت نهضة أوربا بضعة قرون، وأن مؤلفات ابن سينا وغيره من علماء المسلمين كانت تدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
وأن العلماء المسلمين كانوا أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة، وأن الغربيين مدينون لهم في الحقل العلمي. وقد اعترف علماء أوربا بهذا الفضل للمسلمين- والفضل ما شهدت به الأعداء.
والواقع أننا لسنا في حاجة لشهادتهم لنا، ولكن نذكرها لما رأينا قومنا يجهلون ما علمه غيرهم وينكرون ما اعترف به سواهم، ليقبلوا عليه وينشغلوا به، ويضيفوا إليه كل ما يعلى أسواره ويغيظ غرامه وحساده.
واجب الآباء:(22/484)
الأبناء نعمة وشكرها يكون بحسن الرعاية لها، وكمال الإشراف عليها من جانب الأب والأم؛ ليتم التعاون بين المدرسة والبيت على التربية القويمة والتوجيه السليم والمتابعة الدقيقة.
وتطلعا للنتائج العظيمة وتفاديا للعواقب الوخيمة، أذكر بعض التوجيهات راجيا النظر فيها والعمل بها:
1ـ الاهتمام بالتربية الإيمانية، وذلك بتعميق الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر في نفس الابن وغرس العقيدة السليمة، في أعماقه لتكون مصدرا للسلوك الشريف والمعاملة الصادقة، فالعقيدة هي سفينة النجاة وصمام الأمان، وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكان يركب خلفه على دابة فقال له: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك …"الحديث. ومما يقوي العقيدة ويعمق جذورها الصلاة على وقتها وفي جماعة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، وقراءة السيرة النبوية وسير الصحابة الأجلاء والسلف الصالح. ولابد من متابعته حتى لا ينحرف بها عن الجادة أو يخلطها بشيء من البدع والخرافات.
2ـ تقديم النصيحة الخالصة، والمعرفة الصحيحة على حسب نموه العقلي، لتقع موقعها من الحاجة فتثمر ثمارها، وتحدث أثارها، تنمية ملكات واتساع مدارك واستقامة سلوك. ولا يكفي أن نلقي إليه بذلك وكفى، ولكن لابد من المتابعة والوقوف على أثر هذه الجرعات في تكوينه الفكري وسلوكه الفعلي.. وهكذا نراقبه مراقبة الطبيب مريضه حتى تذهب العلة، وتحل العافية، أو مراقبة الزارع حرثه حتى يستغلظ ويستوي على سوقه ويدلي بثماره.(22/485)
3ـ التأكد من صلاح الصحبة التي يلتقي بها، ويخرج معها؛ لأن الشاب سريع التأثر بأصحابه شديد الرغبة في أن ينسجم معهم ولا يشذَّ عنهم، فإن كانوا أخيارا انسجم مع أخيار، وتَطبَّع بطباعهم وتخلق بأخلاقهم، وإن كانوا أشرارا فالأمر واضح، والنتيجة أوضح ومن الحكم النبوية البالغة قوله صلى الله عليه وسلم: عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة "متفق عليه، أما أن يترك للشاب الحبل على الغارب يخرج متى شاء، ومع من شاء بلا رقابة من أب أو أم أو ولي فليس هذا من حسن التربية وتقدير المسئولية ورعاية الأمانة.
4ـ تنظيم أوقات الأبناء وبرمجةُ استذكارهم مع إشعارهم بقيمة الوقت وأنه هو الحياة، وأن فواته من غير منفعة أشق من فوات الروح، بهذا يحرصون على أوقاتهم حرص الشحيح على المال والجبان على الروح فيستثمرونه على وجه نافع. ومن المعلوم تربويًا أنه لا بد من وقت للترفيه والتسلية البريئة؛ لأن سير الأمور على وتيرة واحدة - مجلبة للسآمة والضجر والملل، والقلوب إذا كَلَّتْ عميت، وسويعةُ ترفيه تجدد النشاط وتقوى العزيمة، وتفتح نوافذ البصيرة. أما وسائل الترفيه البريء فأنت أعرف بها، وأقدر عليها.(22/486)
5ـ أن نكون قدوة صالحة لأبنائنا، لأنهم يقلدون الآباء، ويتشبهون بهم، وينشأون على ما عودوهم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وأكثر ما تقع أعينهم على آبائهم، فتنطبع صورهم على شاشة فطرتهم، فلنحرص على أن تكون تلك الصور مرسومةً بمداد الاستقامة، لابسة ثياب التقوى. وهم إنما يتأثرون بما يشاهدون أكثر من تأثرهم بما يسمعون، إذ الدلالة الفعلية أقوى أثرا من الدلالة القولية، وإذا اجتمعت الدلالتان فعلتا في النفس فعل السحر، وجذبتا القلب بأسلس عنان:
وينشأ ناشىء الفتيان منا
على ما كان عوّده أبوه
العلماء والشباب:
إن هناك خطراً مريعاً يتهدد شبابنا، وحتى ننبهه إلى هذا الخطر ليأخذ حذره، ويتفادى الوقوع فيه، لابد من دق ناقور الخطر. والسؤال من الذي يدقه؟ والجواب: العلماء فعليهم يقع عبء المسئولية، وواجب الإنقاذ، وإن لم يكن هم فمن؟
العلماء هم الأساة الذين يشخصون الداء، ويعطون جرعات الدواء ويراقبون العلة حتى تذهب، وتحل مكانها الصحة والعافية. وكل مرض ترك وشأنه فتك بالمريض، وأهلكه، فليس هناك مناص من أن يقوم العلماء بواجبهم، ويؤدوه على وجه يرضى ربهم وضمائرهم، ويحفظ شباب الأمة، وإلاّ فهم مسئولون أمام التاريخ، فضلاً عن المسئولية الكبرى أمام الله عز وجل الذي أخذ الميثاق وأكد العهد على العلماء في كل ملة أن يبينوا الحق، ولا يكتموه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه …} ، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة 159- 160] .(22/487)
ولله در الشيخ عبد الله بن أحمد قادري إذ يقول متحدثا عن واجب العلماء تجاه الشباب:
يا علماء الأمة
شبابكم في ظلمة
قد حاد عن إسلامه
وغاص في آثامه
وصار جل همته
إشباعه لشهوته
وقاده الأعادي
للكفر والإلحاد
حتى غدا مناصرا
لمن يكفر جاهرا
ففقد الشخصية
والنبل والحمية
وأنتم في غفلة
يا علماء الأمة
ما بكم لم تنهضوا
وكسلا لم ترفضوا
من غَيرَكمُ للجيل
يهديه للسبيل
أليس في القرآن
والسنن الحسان
قد جاءنا وعيد
مغلظ شديد
لكل ذي كتمان
وتارك البيان
فانتهوا يا علماء
لخطر قد دهما
وكل مالا يحسن
فللشباب بينوا [1]
فعلى العلماء أن يلتقوا على أمر الله تعالى وتلتحم صفوفهم، وينطلقوا في دروب الجهاد والإصلاح، ينازلون الباطل بخطة محكمة وطاقات مجندة، وعزائم لا تعرف الضعف ولا الفتور، وصولاً إلى الانقلاب الإسلامي المنشود، وظفراً بالغاية المخطط لها والمتفق عليها، وهما تحقيق أمر الله جل جلاله واقعا يعاش، ومنهجا يتبع، وسلوكا يمارسا وقانونا يحكم، ودولة تسهر على حمايته، وتسعى جادة لنشره بين البشر، وبهذا نوفر الجو الصالح لشبابنا لينمو نموا كاملا، يرمي إلى الناس بالخيرات المباركات والثمار اليانعات. ذلكم واجب العلماء الذي لا يجوز لهم التغافل عنه، أو التهاون فيه وإنما واجب الساعة، الإقبال عليه، والقيام به، قياما لا جلوس بعده وسيرًا لا جلوس عقبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جوهرة الإسلام: 44.(22/488)
خصائص ومقومات: الاقتصاد الإسلامي
للشيخ محمد إبراهيم برناوي
مدرس بدار الحديث المدنية
الاقتصاد كما يبدو لنا في بعض معانيه أو جلّها:- هو الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفّريط، الاعتدال في الدخول والإنتاج، والمنصرفات، لضمان بقاء الحياة الاقتصادية في جو معتدل بعيدا عن التدهور والكساد ـ والاقتصاديون يحاولون حل المشاكل الجماعية والفردية وفق المنهج الاقتصادي العادل الذي لا ظلم فيه لأحد على حساب آخر.
والمتأمل في النظريات الاقتصادية السائدة ـ اليوم ـ يراها تقوم على أصل مضاعفة الإنتاج الذي يعتبره رجال الاجتماع والاقتصاد الحل الوحيد للمشكلات الاقتصادية، فهذا الحل في الواقع وجيه وسليم لولا ما في ذلك من إنكار ذات الفرد في المجتمع وإنكار ملكيته وتحديد الدخل القومي للمجتمع بأسره باسم القضاء على الطبقات لتحل محل ذلك المساواة -المزعومة- ... كي تصبح السلطة في يد الدولة ـ الحاكمة ـ فيتجرع مرارة ذلك الحرمان الشعب المغلوب على أمره ... وقد وضع الاقتصاديون لذلك خطة عنيفة تمشيا مع التفسير المادي للتاريخ الذي يرون فيه أنه نتيجة للصراع الطبقي على هذه البسيطة.
وأسلوب الخطة يتلخص عندهم فيما يأتي: ـ
1- التحليل المادي للتاريخ: فيزعمون أن التطور المادي في مكان ما هو وحده الذي يفرض نظام المجتمع الواجب الاتباعِ.
2-إنكار كيان الفرد، ومحاربة الحوافز الفردية ووجوب تغيير نظام المجتمع القائم على هذا الأساس ...
3- حتمية الصراع الطبقي من أجل تغيير المجتمع، وإلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج فيه.(22/489)
4- إلغاء الدولة عندما يصبح الناس فيها اشتراكيين ويتضمن هذا القضاء على الطبقات- هذه أفكار المذاهب التجريبية عند الشيوعيين والاشتراكيين ... وتلك هي الفلسفة المادية التي جعلت المجتمع الذي يرزح تحت سيطرتها طبقة واحدة من الفقراء والبؤساء، فلا هي تركت الفقير يعالج مشكلاته الاقتصادية على أساس من حرية الكدح والاكتساب المشروع لتنمية وتغطية احتياجاته الاقتصادية في هذا الصدد، ولا هي تركت الغني يعيش في مستواه الطبيعي ويستثمر مدخولاته لتنمية مورده الاقتصادي في هذا المجال.
الاقتصاد في نظام الاشتراكية:-
يؤسس الاقتصاديون النظام الاشتراكي على أساس التفسير المادي للتاريخ ... فهم يفسرون الصراع الطبقي في الحياة بأنه نتيجة للحالة الاقتصادية لدى الأفراد والجماعات التي يحتاجها الإنسان، وضربوا لذلك مثلا بتأمين المأكل، والمشرب، والمسكن، والجنس ... فإذا اشترك الناس جميعا في هذه الأمور فقد تمت المساواة بينهم، ولا محل للصراع والشقاء في نظرهم ...
ومن ثم قرروا ما يلي:
1- إنكار كيان الفرد في المجتمع ومحاربة الحوافز فيه، ضرورة تغيير نظام المجتمع.
2- إلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج.
ومعلوم أن إلغاء الملكيةَ الفرديةَ وهدم كيان الفرد وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات يؤدي إلى تدهور الحالة الاقتصادية لديهم، حتى تصبح السلطة الرئيسية للدولة، وبالتالي تكون هي المسيطرة على الحالة الاقتصادية في البلاد بزعم المساواة في الطبقات وما ذهبوا إليه لحل المشاكل الاقتصادية التي اصطنعوها ويودون حلها بهذه الفكرة، إنما هي في الحقيقة عمل مضاد للمنهج الإلهي العادل وكذلك للسنن الكونية، والفطرة الإنسانية السليمة.
المنهج الإسلامي:(22/490)
في الظروف الحرجة التي تضل فيها البشرية الطريق السوي لتنظيم حياتها وحلّ مشكلاتها في شتى نواحي الحياة، وحينما يعجز المفكرون عن وضع الحلول المناسبة لإنقاذ الإنسانية عامة، ويصلون بتجاربهم وفلسفاتهم ونظرياتهم المادية إلى طريق مسدود. يقف الإسلام دائما لإنقاذ البشرية من حمأة المادة وويلاتها، ويصف لها العلاج الناجع في هذا الصدد؛ لأنه المنهج الصالح لكل زمان ومكان، وهو بحق الكفيل بتنظيم حياة الإنسان خاصها وعامها في شتى النواحي الاقتصادية الفردية والجماعية، لأنه المنهج الرباني العادل الذي لا ظلم فيه ولا حيف، بعكس النظم الوضعية النفعية التي تظلم فريقا لتحقيق رغبات فريق آخر. وهذا مشاهد في الأنظمة الشيوعية والاشتراكية.
أما الإسلام فهو نظام مستقل إذ يقدر للعاملين نتيجة عملهم وكسبهم المشروع في الحياة، ويحقق مصلحة الفرد والجماعة، بل ويحثهم على السعي كما في قوله جل وعلا في سورة الجمعة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والشاهد في هذه الآية هو الانتشار في الأرض ابتغاء فضل الله، وكذلك كما في قوله تعالى في سورة الملك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فالإسلام يحث المسلم على الكدح في ميادين الحياة الفسيحة. مع مراعاة الطهر والنزاهة، وعطاء إخوانه السائلين والمحرومين حقهم المعلوم، فتطيب نفوسهم وتنتزع منهم الأحقاد.(22/491)
إن الإسلام يعلم المسلم أن المال في الحقيقة هو مال الله، والله تبارك وتعالى هو الذي استخلفه فيه، والسائل والمحروم إذا لم يُعط حقه في هذا المال يمتلئ قلبه حقدا وحسدا على الغني الذي منعه حقها، أما إذا أدى الأغنياء حقوق الله فيه؛ شعر الفقراء أنهم أخوة لهم، وبهذا يعيش المجتمع المسلم حياة كلها وئام وصفاء لا ترف فيها الأنانية أو النفعية الخاصة، التي لا تعرف الرحمة، ولا تعرف حق الإنسان- نحو الإنسان الذي يدعو إليه دعاة (حقوق الإنسان) الذين أكلوا حقوق الإنسانية كلها تحت هذا الستار.
مرة أخرى نقول إن نظام الإسلام الاقتصادي أفسح المجال للعاملين والكادحين لمضاعفة- الإنتاج في شتى النواحي الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية على السواء وأتاح الفرصة- أيضا لتسخير جميع القوى الإنسانية الفردية منها والجماعية والآلية على طول الخط شريطة ألا تضر بالمصالح العامة على حساب المصالح الخاصة كما أن استثمار الأموال يجب أن يبعد عن الطرق غير المشروعة كالقروض الربوية طويلة المدى والقصيرة المدى وما شابه ذلك من احتكار وغش وتدليس، تلك هي بعض الأسس التي يقوم عليها النظام الإسلامي لتنظيم حياة البشرية في شتى مجالات الحياة، ولن تصل الإنسانية كافة إلى ما تصبو إليه من سعادة وطمأنينة واستقرار، وتحقق معنى الخلافة في الأرض إلا إذا طبقت منهج الله العادلة.
خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي
قلنا إن النظريات الاقتصادية الغربية هي نتيجة- الصرع الطبقي التي دعت الإنسان لحب التملك والاستعلاء كما يزعمون ...(22/492)
لكنا نحاول بيان مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي بعد أن عرفنا موطن الداء في النظريات الاقتصادية- السلبية- التي تتنافى مع فطرة الإنسان ومع المصلحة الجماعية في آنٍ واحد، فضلا عن منافاتها للسنن الكونية. فمنهج الإسلام كما يبدو واضحا وواسعا وشاملا في نفس الوقت- تراعى فيه مصلحة الجماعة من جهة وتراعى فيه مصلحة الفرد من جهة أخرى لأن الفرد عضو في هذه الجماعة وليس كمًّا مهملا ساقطا من أي اعتبار وإنما هو كيان له ما للجماعة المتمثلة في بقية الأفراد.
فالشريعة الإسلامية لا تسقط من حسابها مصلحة الفرد، ولا تهمل أيضا المصلحة الجماعية كذلك فهي تقيد هذه وتلك بقيود لا تتنافى مع العدل والإنصاف، ولا تترك العنان لإحدى المصلحتين- الجماعية أو الفردية، أن تطغى على الأخرى.
فلئن كانت المصلحة الجماعية مقدمة في الأصل على المصلحة الفردية فكذلك الربط بين المصلحتين الفردية والجماعية أيضا، فلا تضر الشريعة بمصلحة الفرد على حساب المصالح الجماعية، وإنما تدور هذه المصالح جميعها في فلك واحد لا يتنازعان على طول الخط مادام هناك تقدير لجهود الفرد- ومادام هناك شعور بحق الجماعة كما سلف.
وهذه هي أبرز مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي نلخصها فيما يلي:-
1- تسخير ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء.
2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية.
3- مراعاة المصلحة الفردية.
4- مراعاة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف.
5- محاربة الفوائد الربوية بشتى طرقها.
تلك هي أهم خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي كما سنوضح ذلك بإذن الله تعالى.
1- تسخير الله ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء:(22/493)
بهذه الخاصية نستدل على أن الإسلام خول للناس جميعا حرية العيش في الأرض، واستخدام- الوسائل التي تمكنهم من الاستفادة مما خلق الله لهم في السماوات والأرض بشتى الطرف. بل وطلب الإسلام من الإنسان أن يستخدمها ليستفيد ويفيد. فالله سبحانه وتعالى ذلل لهم ما خلق في السماوات وما خلق في الأرض وسخر جميع ما فيها من خيرات ومواد وخامات وجعلها معايش للناس جميعا لا احتكار فيها ولا استئثار فيها لأحد دون أحد، والآيات- التي تشير إلى ذلك وتحث الناس على أن يشكروا لله تلك النعم الكثيرة التي لا تحصى؛ يقوله تعالى من سورة البقرة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً الآية} وقوله تعالى من سورة الأعراف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى من سورة الملك: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهذه الآيات المتقدمة تشير إلى أن الله خلق جميع ما في الأرض للناس على السواء. والهدف من هذا كله هو الانتفاع بذلك ليكون عونا لهم على عبادته جل وعلا؛ لأنه في الحقيقة لم يُمكن الله العباد في هذه الأرض هذا التمكين ويكشف لهم عن- أسرارها ودواخلها وما تحويه بين طياتها من كنوز ومعادن ومواد إلا ليعبدوه وحده، لا لتسيطر عليهم "مادة"فيعبدوا من دونه فتثقلهم، وتقعدهم عن السمو بأرواحهم، بل ليعيشوا مع خالقهم ورازقهم الذي منحهم هذه الأشياء بمحض كرمه وامتانه، وإلا فإن الله قادر على قهرهم وعدم تمكينهم من أن يتوصلوا إلى كل هذه الاكتشافات، ولكنه سبحانه يبلوهم فيما آتاهم على حد قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك) . وبهذا نستطيع تحديد الأبعاد ... ما بين طبيعة المنهج الرباني الذي وضعه الله للناس على علم، وما بين الفلسفات "المادية التي وضعها البشر"، وشتان ما بينهما، فبينما يسخر الله(22/494)
تبارك وتعالى كل ما في الأرض وما في السماء للبشرية عامة ويطلب منهم أن يجتهدوا في طلب الرزق على تفاوت منازلهم ليعموا هذا الكون وفق منهجه، إذا بالفلسفات الحمقاء تقف حجر عثرة على الطريق لتعرقل سير الإنسانية عن هذا الطريق السوي بكبت المواهب وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات، فتحجر عليهم طرف الكسب والتحصيل كما سنوضع ذلك في محله، فإلى أين تذهب البشرية في عملياتها إلى متى تستمر في تنكبها عن الطريق.
2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية:
وهذه الخاصية كسابقتها من حيث الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله فلم تضيق الشريعة الإسلامية الخناق على الناس في طرق كسبهم من الرزق المقدور لهم شريطة ألا يتعدى ذلك المنهج الذي رسمه الله لهم وألا يخرج عن إطاره، وعلى الفرد أن يختار بعد ذلك العمل الذي يريده من حرف يدوية، وصناعة آلية ومن بيع وشراء وما إلى ذلك بصور فردية جماعية. مادام ذلك الكسب والتحصيل بطرق شرعية نظيفة.
والطرق الشرعية في ذلك كثيرة. نذكر أهمها فيما يلي:
أ- البيع والشراء الشرعيان.
ب- طرق المضاربة. برؤوس الأموال.
جـ- العمل بأجر أو الاحتراف وما إلى ذلك.
ويشترط فيها جميعها "الطهارة والنزاهة وصدق المعاملة"في كل كلمة واحدة منها مع عدم الغش والتدليس.
3- مراعاة المصلحة الفردية:(22/495)
سبق لنا القول عن حرية الكسب والتحصيل وكيف سخر الله ما في السماوات وما في الأرض للناس جميعا. إلا أننا نكرر في هذه الخاصية ما سبق أن ذكرناه من أن الشريعة الإسلامية نظرت للمصلحة الفردية بعين الاعتبار، فراعت تلك المصلحة بل وجعلتها من المصلحة العامة أيضا أفمن مراعاتها للمصلحة الفردية وجعل مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة هو مقت البطالة ومحاربتها بشتى الوسائل حتى ولو كانت عن ظهر غنى وتلك من مصلحة الجماعة أيضا؛ لأن توقف هذا الفرد عن العمل بدون أي مبرر هو خسارة فادحة على المجتمع بأسره إذ قد خسر المجتمع موهبة هذا الفرد الذي كان بإمكانه أن يسهم بدوره في رفع إنتاج البلاد فيفيد ويستفيد.
فالإسلام يشجع على العمل، ويمقت البطالة ويعتبر العامل في نظر الشريعة الإسلامية- كالمجاهد، وهو يفضل على العابد المنقطع للعبادة وحدها، فقد جاء في الأثر "أن من الذنوب.. ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة [1] يكفرها الهموم في طلب المعيشة"وجاء أيضا في الحديث الصحيح: "ما أكل ابن آدم طعاما قط خيرا من عمل يديه".
تلك هي مراعاة المصلحة الفردية التي تدعو الفرد لتنمية مواهبه وثرواته المادية وتقدر له ذلك حق التقدير، وترى أن عود الفائدة ليست له وحده، وهو كذلك بلا شك فقد تعود الفائدة إلى ورثته من بعده، وقد تعود للمصلحة العامة التي يشترك فيها جميع إخوانه من المسلمين، وتعتبر تلك الثروات التي قدمها زيادة الإنتاج كان له دوره في إسهامه وتعود فيه الفائدة أيضا على الجميع فضلا عما يقدمه هو لآخرته من أعمال البر والإحسان ليكون له رصيد يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
4- مصلحه الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف:(22/496)
في هذه الخاصية نرى الترابط الوثيق بين المصلحتين. فمصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة في نفس الوقت، ولكن المصلحة الجماعية في الحقيقة لها دورها الكبير في هذا المجال لأنها مصلحة الأمة بأسرها والتي يعتبرها الشرع من المصالح العامة التي لا يحل لفرد من أفراد الأمة استغلالها لحسابه الخاص، فمن هذه المصالح العامة على سبيل المثال ما يلي:-
1- الطرق والميادين العامة وما شابهها والتي جعلت للناس كافة، فلا يحل لفرد من الأفراد استغلالها لمصالحه الشخصية.. فيعرقل مصالح المسلمين بوضع عوائق في طرقاتهم وشوارعهم.
2- الأموال العامة تعتبر من المصالح العامة للمسلمين فلا يحل لوال من الولاة التصرف فيها وصرفها في غير وجهها، وإنما يوزعها على المستحقين وفق العدل والإنصاف فيقرض من يحتاج إلى القرض. ويحمى بها الثغور الإسلامية.
3- عدم احتكار أقوات الناس للإضرار بهم لحساب مصلحة شخصية، كما هو الحال لدى أصحاب رؤوس الأموال حينما يلجئون لكسب السوق، بتعطيل المصالح الجماعية فلا يحل لفرد من الأفراد أن يبخل على إخوانه ببعض ما أتاه الله فيبيعهم بالأسعار المناسبة المعقولة فضلا عن احتكار أقواتهم وأرزاقهم فقد جاء في الحديث أن المحتكر ملعون والجالب مرزوق.
هذه هي النظرة الإسلامية لمصلحة الأفراد والجماعات، وهى في حقيقتها نظرة عادلة لا ظلم فيها ولا حيف؛ لأنها تقدر حق الفرد ولا تسقط من حسابها حق الجماعة المتمثلة في هؤلاء الأفراد وتلك هي سنة العدل والإنصاف.
5- محاربة الفوائد الربويه:-(22/497)
المتأمل في عمليه الربا يجدها في الواقع عملية ((سلبية بحته)) جامدة فضلا عن نتائجها السيئة التي تأباها الفطرة السليمة. ولما كانت الشريعة الإسلامية تنظر- نظرتها الواسعة للأمور وتضع لكل مشكلة حلولها المناسبة لها بعد علم المقدمات والإحاطة الشاملة "بالنتائج "عندها تحلل وتحرم عن علم ودراية بمصالح البشرية كافة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وما كان الربا من أفحش الظلم وأشنعه حرمة إلا لأنه يتنافى مع العدل الذي أراد الله أن يُسَوِّد العباد- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة) .(22/498)
فلئن ظن المرابي أنه يحقق بهذه العملية رغباته في الحياة ويصبح من أصحاب الأموال الطائلة التي لا تحصى، بما يتحصل عليه من فوائد ربوية لا تقف عند حد فيجب أن يتيقن كذلك أن ما جمعه إلى زوال وأن مآله "المحق"كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . فشتان ما بين وجه السماحة وطهارة النفس وسمو الإنسانية، وهو الوجه المقابل للصدقة الذي تكفل الله له النماء والزيادة، والوجه الآخر المقابل لعداء الإنسانية كلها بما لا يعرف للرحمة أو الشفقة طريقا، ذلك الوجه المرذول الممثل للأنانية والحقد والشّحّ وخبث النفس والذي توعده الله بالمحق. ولسنا في حاجة بعد ذلك كله لنعت المرابي بأكثر من تلك النعوت التي نعت بها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم لأن مرد ذلك إلى شيء واحد وهو مرض القلب والعياذ بالله، ومرض القلب معروف النتائج ِ… ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يبين حقيقة المنافقين؛ إنما نعتهم بذلك فقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . وبالاستقراء والاستنتاج نجد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما عمل -أول ما عمل في بادئ الأمر- على معالجة القلوب في كثير من الأحيان، ووردت في ذلك أحاديث كثيرة تعالج هذه النواحي النفسية بما لا نستطيع حصرها في مثل هذه المعالجة. ولا بأس بذكر شيء منها على سبيل المثال.. فقد جاء في ذلك من حديث طويل رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخوانا -كما أمركم الله تعالى- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره...." الحديث.(22/499)
ومعلوم أن كل هذه الأفعال إنما هي من أعمال القلب. وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". إنما يعالج أمراضا نفسية مناطقها القلب. وكذلك الأمر في بيع الرجل على بيع أخيه المنهي عنه في الحديث، لأنه يسبب التباعد والتباغض، والإسلام إنما جاء في الحقيقة ليجمع لا ليفرق، إذا كان الأمر كذلك فما هو موضع- آكل الربا الذي آذنه الله ورسوله بالحرب ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(22/500)
هذه هي بعض العلاجات لأصحاب القلوب المريضة والأمراض التي حاربها عليه الصلاة والسلام في المجتمع المسلم؛ حتى تسود في الأمة المحبة والألفة والتعاون في الخير بدلا من الاختلاف والفرقة. وإنما سقنا الكلام هنا عن هذه الأمراض كلها لمحل الشاهد: وهو اجتماع هذه الخصال المذمومة في شخص المرابي، فتجده من أعدى الأعداء لله ولعباد الله وأشدهم إنكارا لأنعم الله، فهو حسود حقود كالحيوان المفترس، فكيف يتصور ولاء شخص منعوت بهذه النعوت جميعا، وكيف يرجى منه النفع للمجتمع وهو بؤرة للفساد والهدم والتخريب {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ؛ لذا أراد الله تبارك وتعالى أن يطهر المجتمع المسلم من مثل هؤلاء جميعا ليعيش الناس كافة تحت راية العدل والإنصاف. ولا بأس من نقل رأَي لفقيد الإسلام "سيد قطب رحمه الله "في هذا الصدد من تفسير الظلال؛ حيث يقول عن الربا وبشاعته ما نصه: "فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائنة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر. ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع في حياة البشرية أشد مما كانت منكشفة في الجاهلية الأولى، ويدرك من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام.(23/1)
يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة وأمامه من واقع العالم- ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا، والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتؤكله تنصب عليها البلايا الساحقة من جراء هذا النظام الربوي في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، وتتلقى- حقا حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام- الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي، والنظام الربوي؟ وهما لا يلتقيان في تصور ولا يتفقان في أساس ولا يتوافقان في نتيجة؛ لأن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.(23/2)
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي ونظام الحياة كلَّها على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود، يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان وهو الذي وهب كل موجود وجوده، وأن الله سبحانه هو مالك كل موجود، وبما أنه هو موجده فقد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ومكنه مما ادّخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قول وطاقات على صد منه وشرط، ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه ما شاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة ... استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله- وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف، فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء- لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض كما هي في الكون كلّه لله وحده والناس حاكمهم ومحكومهم إنما يستمدون سلطانهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه وليس لهم في جملتهم أن يخرجوا عنها؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق. ومن بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينفقوا وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، لا على أساس قاعدة الشيوع المطلق- كما تقول الماركسية، ولكن على أساس الملكية الفردية المفيدة.(23/3)
فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل، كلّ حسب طاقته واستعداده فيما يسره الله له، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر) .... أقول: تلك هي طريقة الإسلام في نظامه الاقتصادي واضحة المنهج تقوم على أساس التكافل الاجتماعي في أزهى حلله بعيدة عن الأثرة والشح أو الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل أو بكل وسيلة من شأنها أن تعرقل نمو الحركة الاقتصادية في بلادنا ...
نظرة الإسلام للمال(23/4)
لا يعتبر "المال "في نظر الإسلام حقيقيا إلا إذا كان بطرقه الشرعية، فليس كل مال مهما كانت مصادر الحصول عليه يعتبر "مالا" شرعيا يستطيع المرء المسلم أن يتقرب به إلى الله من نفقات واجبة وصدقات يبتغى بها وجه الله. بل المال مقيد في الإسلام بقيود شرعية وهي تعني طهارة الكسب وأوجه التحصيل، فالأموال المجموعة من أوجه غير شرعية تعتبر أموالا باطلة كأثمان المحرمات "الخمر والميسر وثمن الكلب والخنزير " وما إلى ذلك؛ لأن الله إذا حرم شيئا حرَّم ثمنه. كل هذه الأموال لا تعتبر شرعا بالنسبة لمن يدين بالإسلام، وإن كانت معتبرة في حق غيره ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف ينظر الإسلام للمال. إنه ينظر إليه على أنه وسيلة لتبادل المنافع بين العباد ووسيلة للتعايش في الأرض، ولما كان الأمر كذلك أقر الله تبارك وتعالى هذه الخاصية: خاصية حب المادة وحب التملك " للمال"في الناس وهي طبيعة فطرية فطرهم عليها بل وحثَّهم على الطلب والتحصيل من هذه المادة على تفاوت طبقاتهم وسعيهم في طلب الرزق ونهاهم أن ينظروا لغيرهم نظرة حسد وكره لمن فضلوا عليهم في الرزق، وأمرهم أن يسألوه سبحانه وتعالى من فضله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء) فجعل المال فتنة وامتحاناً وميدان سباق للخير والإحسان في نفس الوقت، وجاءت الآيات الكريمة في كلا الوجهين تبين للناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وتنهاهم أيضا أن يجعلوا "المال"وجمعه من أي طريق كلَّ غرضهم في الحياة بما لا يقبل المنافاة بين الآياتِ التي تشجع على الكسب والتحصيل، والآيات التي تهدد وتنذر الذين يكتَنِزون الأموال ولا يؤدون حق الله فيها، فآيات الفتنة والامتحان إنما هي في الحقيقة تنذر أولئك الذين جعلوا المال هدفا لذاته، وغاية كل غاية، فقد(23/5)
سمى الله تبارك وتعالى المال مرة "زينة"ومرة "فتنة"فقال جل ثناؤه {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف) وقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن) .. فهو في الآية الأولى زينة الحياة الدنيا "والزينة تغرى- والزينة تلهي عن الله والدار الآخرة إلا من وفقه الله"لذا قال تعالى في سورة المنافقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ؛ لأنه يعلم أن بعض العباد تشغلهم الأموال وتلهيهم عن ذكر الله، واللهو عن ذكره سبحانه وتعالى خسارة أيما خسارة، فأرشد عباده المؤمنين لتلافي تلك الخسارة الكبرى، ولا يكون ذلك إلا بمراقبة الله في السر والعلن، وأداء حقوق الله. وقد علم الله تعالى كذلك أن من العباد من تقطع أعناقهم الأموال، التي يجلبها البيع والشراء.. فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فالحكم وإن كان خاصا بالجمعة إلا أنه عام في غيرها، كذلك مع ما في الجمعة من خصائص ومميزات، فالمال فتنة بلا شك يفتن أصحاب القلوب الضعيفة ويقعدهم عما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة كما فتن قارون وفرعون وأشباههم من الأولين والآخرين، والمال كذلك ميدان سباق لأعمال البر والإحسان لأصحاب الهمم العالية حينما يبذلون أموالهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته كقوله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي(23/6)
التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فهو وسيلة للفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل السعادة الأبدية التي تكفَّل المولى عز وجل بها لعباده المؤمنين. وقد امتدح الله سبحانه وتعالى أصحاب هذه الطبقة في غير موضع من كتابه. وجاءت السنة المطهرة فأيدت ذلك كل التأييد وحثت المسلم على أن يكون له فضل مال يقيم به أوده في الحياة ويتقرب به إلى الله، ويترك لورثته من بعده ما يسد عجزهم من الفاقة والسؤال؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص رضي الله عنه "إنك إن تذر ورثتك أغنياء- خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وشجع المسلم على الاكتساب من المال الحلال كقوله عليه الصلاة والسلام "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".... بل وعظمت السنة المطهرة شأن المال فجعلته من الكليات التي جاء الإسلام بالمحافظة عليها صيانةً للحقوق المشروعة فيه. فمن قاتل دون ماله وعرضه فقتل فهو شهيد.
هذه نظرة الإسلام إلى المال، نظرة تقدر فيها للعاملين نتيجة كسبهم وكدحهم في الحياة فلا تبخس أحدا ولا تظلم أحدا لمصلحة آخر.
فلا إباحية تبيح للماجنين أن يعيشوا على أَكتاف الآخرين شأن النظرية الماركسية التي تبيح الشيوع وتنادى به، وإنما لكل امرئ نتيجة سعيه لا يعدوه إلى سواه.
ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في المال نصيب مفروض للبائسين والمحرومين يأخذونه من أموال إخوانهم الذين وسع الله عليهم في الرزق إما بطيب خاطر ورضى نفس كالصدقات وأعمال البر، وإما على سبيل الوجوب والإلزام كالزكاة وجعلت الشريعة الإسلامية مصارف تصرف فيها الأموال لمستحقيها كما بين الله ذلك في مواضع كثيرة من كتابه الكريم.
أوجه صرف المال(23/7)
لما كان -المال- عصب الحياة وشريانها، وكانت المشاكل تحصل بسببه بين الناس ويحصل النزاع والقتال من أجله. جعل الله تبارك وتعالى له مصارف عادلة يُصرف فيها لمستحقيها- من المساكين والمحرومين. فعدد الله ثمانية أصناف من هذا النوع تعطى لهم الزكاة من أموال الأغنياء، يأخذها ولي أمر المسلمين ويقسمها بينهم كما أمر الله جلت قدرته، ووضح ذلك غاية الإيضاح، فلم يترك ذلك لاختيار أحد، ولم يتركها كذلك للأغنياء أنفسهم يعطون من شاءوا ويحرمون من أرادوا حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وآراؤهم فقال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فهؤلاء هم أصحاب الزكاة الذين سماهم الله في كتابه فلا تجوز لغيرهم ولا تحل لغني ولا لقوي مكتسب. هذه هي مصارف الزكاة في الإسلام… مصارف عادلة لا ضرر فيها على أحد من الأغنياء، ولا بخس فيها للفقراء والمساكين كذلك، فيشعر الجميع بشعور الأخوة والتعاون على البر والتقوى، فحينما يقدم الغني الميسور لأخيه الفقير المعدم بعض فضله ويفيض عليه من سعته إنما يشعر أن هذا العمل الذي قام به واجب من واجباته وحق من حقوق أخيه يجب أن يؤديه ويقابل ذلك الأخ هذه المعاملة بالرضى والامتنان لله أولاً- ثم لأخيه ثانيا: فأولاً: لله الذي فرض هذه الفريضة العادلة فكفلته وشملته بعدلها وإنصافها ورحمتها، فلم تتركه للضياع والحيرة ولم تسلمه للفساد والانحراف أو السرقة والنهب والتخريب بعد أن عجز عن العمل تماما، وثانيا: لأخيه من بعد الذي تذكر أن له أَخا في الله له عليه حقٌ، يؤديه له طاعة لله، وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى، فيعيش الجميع في صفاء ومحبة وألفة يستمتعون جميعا بعدل الله رحمته، إخوة متحابين متعاونين كالجسد(23/8)
الواحد.
وفي اعتقادي أن أية أمة من الأمم تطبق هذا المنهج الرباني الخالد في نظام حياتها واقتصادها وشتى شئون الحياة لاشك أنها ستعيش في سعادة كاملة صراحة تامة، لا تعرف معها الفوضى الأخلاقية ولا الحرمان والظلم والجور والأنانية وحقد الطبقات بعضها على بعض كما هو مشاهد اليوم في الدول الاشتراكية بل ولا تشكو من الفائض ولا التضخم المتزايدين اللذين يشكلان الأزمات الاقتصادية لتكدس الثروات بأيدٍ قليلة لها السيطرة التامة على النظام الاقتصادي العام للبلاد.
مزية الاقتصاد الإسلامي
على ضوء ما تقدم نستطيع وضع اللمسات السريعة على مزية الاقتصاد الإسلامي على سائر النظم الاقتصادية الوضعية. السائدة التي لا تقوم ولا تنهض إلا على إنكار الذات الإنسانية ومحاربة الفوارق بين الناس كافة بزعم العدل والمساواة في الطبقات ... يقول الأستاذ العقاد رحمه الله في كتابه الديمقراطية الإسلامية ما نصه: "والمتأمل في حقيقة الأمر يجد أن الفوارق بين الناس متعددة لا تنحصر في شئون الرزق والثروة فحسب، بل منها ما هو فوارق طبيعية تلازم البشرية كافة ولا تكاد تنفصل عنهم ولا يخلون منها على طول الخط.... إذا كان الناس متفاوتين بطبيعتهم فمن الظلم البين أَن تسوي بينهم، وأن تجعل المتقدم منه كالمتخلف- والعامل كمن لا يعمل. ومن المسخ للطبائع أن تحرم الفاضل ثمرة فضله، وتؤمن الكسلان والبليد على عاقبة كسله وبلادته، فلا إنصاف لذي كفاءة في هذه المساواة، ولا فائدة لعاجز فيها، لأن العاجز لا يسلم من عجزه باختياره، وكل ما نجنيه من هذا الإجحاف تعجيز الأكفاء وتثبيط العاملين".(23/9)
أقول: وكذلك فعلت النظم الشيوعية والاشتراكية. فالنظام الشيوعي يقوم على أساس إلغاء الفوارق، ويرى عدم استقامة الحياة مع بقاء الفوارق بين الناس في المال، أو شئون الرزق على العموم. والنظام الاشتراكي يقوم على أَساس إلغاء الملكية الفردية وإباحة الشيوع على طول الخط، وأما النظام الرأسمالي فهو يقوم على أساس الملكية المطلقة وبدون حدود. وموضع الخطأ في النظم الأخرى واضح بلا جدال.
ومن هنا تتضح لنا مزية الاقتصاد الإسلامي بين تلك المتناقضات والاضطرابات الفلسفية، فموقف الإسلام وسط وفي غاية الاعتدال، فلا يبيح الشيوع ولا يبيح إطلاق الملكية بلا حدود، وإنما يقيد الملكيات كلها الخاصة والعامة بقيود الشرع، ومن هنا أيضا تبرز مزية النظام الإسلامي في قاعدتين أَساسيتين هما: إنكار قوة الاستغلال والاستبداد، وتقدير حق العمل وتشجيع أصحاب الكفاءات. تلك مزية الاقتصاد الإسلامي في جلاء ووضوح تقدر للعاملين نتيجة عملهم في ميادين الحياة، وتقمع قوى الظلم والجور، وتقرر مبدأ التكافل الاجتماعي في إطار من العدل والرحمة لمن هم في مسيس الحاجة إلى العون والمساعدة، وذلك بتوزيع الثروة كما قررته شريعة الإسلام، وعددت أصحاب الفريضة في الزكاة، وكذلك الحماة والغزاة في سبيل الله، وسد الثغور الإسلامية، وسائر من يتولى مصالح الأمة الإسلامية من خليفة المسلمين إلى من يقم الشوارع. وهكذا يقف النظام الرباني شامخا صامدا يتحدى جميع النظم والنظريات وغيرها على مدى الأيام.
تربية
قال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، بهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحونك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلا ثقيلاً؛ فيملوا عليك حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك…(23/10)
فقال معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد أرضيتني عمن سخطت عليه من ولدي. ووصلة بعطية عظيمة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ((إن من الذنوب الخ)) رواه الطبراني وأبو نعيم عن أبي هريرة مرفوعا ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه وفي لفظ (عرق الجبين) بدل الهموم وللديلمي عن أبي هريرة رفعه:" إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم يعنى في طلب المعيشة"اهـ كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس- للمفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجرافي(23/11)
أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور أبو المجد سيد نوفل
أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة
(الحلقة الثانية)
5- منهج القرآن في الاستدلال على صدق العقيدة الإسلامية.
ولقد ساق القرآن الكريم الأدلة الكثير على صحة العقيدة الإسلامية وفساد غيرها من العقائد الأخرى.
فالله عز وجل يوجه الأنظار إلى الآثار الناطقة بوجوده؛ وهو استدلال بالصنعة على الصانع وبالأثر على مؤثر، وهو دليل واضح لا يحتاج إلى كبير عناء.
ومن هنا فلقد كان الكون كله أرضه وسماؤه، وما فيهما.. حقلا واسعا لصياغة هذه الأدلة فجاءت آيات القرآن تحمل الدعوة إلى النظر في السماء، والنجوم، والشمس، والقمر، والأرض، والجبال، والبحار، والأنهار، والإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد داعية إلى التأمل الصحيح والنظر الدقيق في هذه الآيات البينات. وليس بعد ذلك سوى الإيمان بوجود الصانع جل وعلا، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. ويوجه القرآن العقول إلى ملاحظة الواقع المشاهد والتزام المنطق السليم في الحكم على الأشياء؛ وذلك في استدلاله على صحة الإيمان بالبعث والإعادة، فإن المنكر للإعادة يقول: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ فيقول الله. عز وجل: {.. يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس أية 79) .(23/12)
ويعني هذا: أنك أيها المنكر للبعث تسلم ولاشك بوجود العظام.. وهو يستلزم الإقرار بأنها مصنوعة ولا يمكن أن تصنع من عدم؛ لأن العدم لا يصنع وجودا. فإذا انتهيت من ذلك وجب عليك التسليم بأن العظام إذا رمت وبليت فليس هناك أي مانع من إعادتها إلى ما كانت عليه قبل أن تبلى؛ لأن من قدر على صنعها ابتداءً، فهو أقدر على إعادة صنعها؛ لأن الإعادة أَسهل من البدء.. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . والقرآن الكريم يستدل بالظاهرة الكونية على صدق ما يقول، بإيراد الظاهرة مجملة ثم يأخذ في بيان ما تشتمل علَيه من آيات، وفي بيان أنوع كل آية، وما تحمله من دليل وبيان آثارها وجمال صنعتها.. فالسماء مثلا أصلها كذا، وهي مؤلفة من كذا، ووظائفها كذا.. ثم يفصل هذه الآية (السماء) ويبين ما اشتملت عليه، ففيها النجوم والشمس والقمر.. وكل من هذه له خصائصه وآثاره في الكون.
والماء مثلا. له أنواعه، ووظائفه، وأثاره، وكذلك الإنسان ... خلق من كذا وركب من كذا وهكذا يستخدم القرآن الكريم المظاهر الكونية أدلة على صحة ما يقول، وينهج في هذا الاستدلال منهج الإجمال والتفصيل، والتنويع.. ليزيد من تقرير العقيدة وتثبيتها.
6- نماذج من هذا الاستدلال(23/13)
فعندما صدع الرسول صلى والله عليه وسلم بأمر ربه معلنا كلمة التوحيد، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين. وأَن رب العالمين ليس وَدَّا، ولا سواعا،. ولا يغوث، ويعوق، ونسرا، وليس وثنا، ولا ملكا، ولا زعيما، ولا حاكما.. ولا شمسا ولا قمرا، ولا ماء ولا نارا، إنه الله وحده رب العالمين ... استدل على صحة ما يقول بوجود الأرض والسماوات. فهما الآيتان الناطقتان بوجوده تعالى ووحدانيته، فهو وحده خالقهما، وهو الذي خلق الأرض، وجعل فيها الرواسي، وأودع فيها البركة والأقوات، وقسم فيها الأرزاق، وهو صاحب السموات السبع، لا يعجزه شيء فيها ولا في الأرض وكل من السماوات والأرض وما فيهما طوع يمينه. فالإيمان به جلّ وعلا واجب، ولا ينبغي الإيمان بغيره؛ لأنه كفر وانحراف عن الطريق المستقيم.
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فصلت-12.
وفي سوق هذا الدليل على هذا النحو الكفاية لذوي العقول والألباب.. لكنه تعالى، وهو الأعلم بخلقه، وما يصلح لهم من أدلة الإقناع والتأكيد...... يأخذ في بيان بعض صفات كل من السماء والأرض ثم يبين بعض ما اشتملت عليه كل منهما.(23/14)
فالسماء: خلقها الله بغير عمد {.... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.....} لقمان/10. كما خلقها بقدرته تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الذاريات/47 وهي سبع سموات مطبقة بعضها فوق بعض {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} نوح/15 وهي عظام شداد {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} النبأ/12.. وهي لا شقوق فيها ولا تصدع {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} الملك/3. وهى السقف المحفوظ {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} الأنبياء/32 وهي الممسوكة بقدرته حتى لا تقع على الأرض {.. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ..} الحج/65.
والأرض: جعلها الله تعالى ذلولا صالحة للمشي والإعاشة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الملك/15 وهي مدحوة {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} النازعات/30 ممدودة غير مطوية {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً} الرعد/3. مبسوطة غير مقبوضة. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} نوح 19- 20 وهي مهاد وسكن للإنسان ولغيره {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} النبأ/6. وهي الميتة بالجدب والحية بالخصب والري {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} يس/33. وهي التي خلق منها وعاش فيها الإنسان، وهي التي يعاد إليها ميتا، ويبعث منها يوم القيامة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} طه هـ/55.(23/15)
والماء: هو أصل كل حي {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..} الأنبياء/30، وهو سبب إحياء الأرض بعد موتها. {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... } النحل/65. وهو سبب إخراج الثمر، ورزق للعباد {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ..} البقرة/22. ومنه العذب ومنه الملح {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} الواقعة/ 68- 70. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} الرحمن/19-20 وهو يكون البحار والأنهار التي يستخرج منها اللؤلؤ والسمك وتسير فيها الفلك { ... لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه ... } النحل/14.(23/16)
والإنسان: مخلوق من تراب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ... } فاطر/11. ومن نطفة {.. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} عبس/19 ومن علقة {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلق/19 ومن طين {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} الأنعام/2 ومن نفس واحدة {.. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } النساء/1. ومن ماء دافق {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} الطارق/6. ومن صلصال من حمأ مسنون {.. مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} الحجر/26. وجعل خليفة لله في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..} البقرة/30 وخلقه سويا {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ..} الانفطار/7. وجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهداه النجدين {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} البلد/ 8-10. وفضَّله على سائر المخلوقات بعقله {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} الفجر/5، وعلمه البيان {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن/4. وخلقه على ألوان ولغات متعددة {.. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ..} الروم/22. ويسر له أمره.. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس/20 وسخر له ما في السموات وما في الأرض {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ... } الجاثية/17.
وهكذا في سائر الآيات يبين أصلها، وخصائصها، وأثارها ... كآيات الشمس، والقمر والنجوم، والظلمات، والنشر، والليل، والنهار، والرياح، والسحاب، والشجر، والجبال، والحيوان، والطير، والنبات، والزرع، والثمر..... جاء بها على هذا النحو السابق لبيان عظمة الصنع الإلهي، وروعة الخلق الرباني.... وبهذا يتأكد الإيمان بالذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. كما سلك القرآن الكريم هذا المسلك في تقرير سائر مبادئه ومطالبه....(23/17)
7- العقيدة في الأساليب الخبرية والإنشائية:
ولا يمكننا عرض كلّ الأساليب التي صيغت فيها العقيدة في القرآن الكريم في هذا البحث القصير؛ إذ أن هذا أمر يصعب تحققه. ولهذا سنكتفي بإيراد نماذج من هذه الأساليب موضحين كل نموذج بمثال أو أكثر، وفيه الكفاية لبيان المراد.
الأساليب الخبرية:
يقول أهل اللغة والبيان: إن الكلام ينحصر في نوعين هما الخبر والإنشاء، فالكلام الذي يحتمل التصديق والتكذيب هو الخبر، والكلام الذي يقترن معناه بلفظه هو الإنشاء [1] .
ولقد أورد على تعريف الخبر السابق خبره تعالى، فإنه لا يكون إلا صادقا. وأجيب بأنه يصح دخوله إذا نظرنا إليه من حيث اللغة بقطع النظر عن محتواه. أما من حيث معناه ونسبته إلى قائله فأخبار الله تعالى لصدورها عنه جل وعلا لا تحتمل إلا الصدق فقط سواء كانت إيجابا أو سلباً {.. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} النساء/122. فإذا قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات 47- 49 فهو إخبار عن أنه هو الخالق للأرض والسماء، وكل شيء، وهو إخبار صادق؛ لأنه من الله عز وجل. والقصد من هذا الخبر أن ينظر المخلوق في هذه الآيات ويتأمل صنعها ليؤمن بوجود صانعها.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الأعراف/54.(23/18)
كما أخبر تعالى بأنه واحد لا شريك له. والدليل على ذلك يظهر فيما يراه الإنسان أمامه من صنع السماء والأرض، واختلاف الليل والنهار، وخلق البحار والماء، والرياح والسحاب، ولولا وجود هذه الأمور لتوقفت الحياة. وهذه الآيات توجد بنظام وأحكام، وكلّ منها دائب في عمله على أبدع ما يكون، وهو مسخر لإيجاد الحياة الطيبة للإنسان، وهو ما ينطق بوحدة الصنع الدالة على وحدة الصائغ جل وعلا {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة 163- 164.(23/19)
وتأكيداً لتفرده سبحانه وتعالى بالخلق والصنع، وتقرير لوحدانيته، فلقد نفى إيجاد أي شيء في هذا العالم عن غيره، ونفى وجود إله أو آلهة أخرى، ونفى أن يكون له شريك، وأخبر أن المتخذين من دونه آلهة لا يستطيعون ضرا ولا نفعا، وأنهم سيكفرون بمن عبدوهم يوم القيامة. إنه تعالى الواحد الأحد المنفرد بالخلق، والمحيطة علمه بجميع مخلوقاته في حركاتهم وسكناتهم، وفي شتى أمورهم وأحوالهم، يعلم أعمارهم وبيده رقابهم.. وهو وحده القادر. ومن قدرته أنه خلق البحرين العذب والملح، لا يطغى أحدهما على الآخر، ومنها يأكل الإنسان لحوم الأسماك، ويستخرج اللؤلؤ وغيره مما يتحلى به الإنسان، وفيهما تسير الجواري المنشآت في البحر كالإعلام، وسائل نقل بحرية للإنسان وغيره.. وهو وحده الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وهو وحده مسخِّر الشمس والقصر للإنسان، كل يجرى إلى أجل مسمى عنده سبحانه وتعالى.. وهو وحده مالك الملك وهو على كل شيء قدير، أما الذين يدعون من دونه فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا لغيرهم من باب أولى..(23/20)
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فاطر/11-14.
في الأساليب الإنشائية:
والإنشاء كما تقدم، هو ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام فإذا قلت (لا تقم) فإن عدم القيام يحصل بعد تلفظك ب (لا تقم) .
وأقسام الإنشاء كثيرة منها (الأمر) وهو: طلب فعل غير كف ومثاله قوله تعالى لنبي أمرا إياه بالشهادة {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ..} محمد/19 والأمر للنبي عليه السلام أمر لأمته ومنها (النهي) . وهو: طلب الكف عن الفعل؛ ومثاله: قوله تعالى لنبيه ناهيا إياه عن الشرك: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..} الإسراء/22 وهو نهي له عليه السلام ولأمته.(23/21)
ومنها الاستفهام وهو طلب الفهم مثل قوله تعالى {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا..} النازعات/27 -28.
ومنها (الشرط) مثل قوله تعالى الذي أقام به الدليل على فساد عقيدة الشرك، واستقامة عقيدة الوحدانية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..} الأنبياء/22.
ومنها (النداء) مثل قوله تعالى الذي بين فيه فساد عقيدة الشرك، وأن المدعوين من دون الله ضعفاء لا يستطيعون خلق أقل الأشياء، وأَنهم إذا ضاع منهم شيء لا يملكون إرجاعه ومن كان هذا شأنه لا يستحق التأليه ولا العبودية.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} الحج/73.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وقيل: إن الخبر كلام يفيد بنفسه نسبة أمر من الأمور نفيا أو إثباتا. فإذا قلنا القرآن كلام الله تعالى فإننا نفيد نسبة القرآن إلى الله تعالى. وإذا قلنا الأناجيل الموجودة الآن ليست كلام الله فإننا ننفي هذه النسبة.. أما الإنشاء فهو الذي يحصل مدلوله في الخارج بالكلام أي إذا قلت (قم) فإن القيام يحصل بعد تلفظك بلفظ (قم) لا قبله. والخبر خلافه. والقصد بالخبر هو: إفادة المخاطب أمرا من الأمور كإخبار الله تعالى بأنه خلق كذا وكذا.. ومن أقسامه النفي مثل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} .(23/22)
حقوق الإنسان في الإسلام
بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
محاضر بكلية الحديث
(الحلقة الثالثة)
أمَّا عن الحرية الدينية التي ذكرها إعلان حقوق الإنسان فكان عليهم أن يتواروا خجلا من أن يذكروا شيئا عنها، لقد لقي المسلمون منهم أفظع ما لقي أهل دين من اضطهاد وإبادة، وزاد سعيرها اليوم بما هو صارخ في كل مكان يحتوى على أقلية إسلامية، إن اليهودية والنصرانية والشيوعية والهندوسية والبوذية ليس لهم جميعا اليوم إلا عدو واحد، هو الإسلام وأهله، وأصبح اليوم أرخص دمّ في العالم دمّ المسلم، في مدنية القرن العشرين وهيئة الأمم المختلفة ومجلس خوفها الحامي حمى الأمان والسلام على الأرض، إلا المسلمين فلا أمان لهم عندهم ولا سلام، وكل ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله.
ونحن ماذا فعلنا لما هيمنا وحكمنا، وعاشوا أَقليات مصانة محفوظة في ظل شريعتنا السمحة، لقد قال في ذلك قائل هذين البيتين:
حكمنا فكان العفو منا سجية
فلما حكمتم سال بالدم أبطح
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح(23/23)
إننا لم نتمشق الحسام ولم نخرج سيوفنا من أغمادها إلا عندما نفذ الصبر وفاض الإناء، وَوصِفْنا من الحكم العدل بأننا ظلمنا، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، وإذا كان علينا أن ندفع عن أنفسنا وأن نؤدب عدونا وأن نريه أن صبرنا ما كان إلا بأمر ربنا، فلما أمرنا كان شعارنا الخالد قوله تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} ، ومنذ نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم ونحن على هذا الصراط السوي نسير، فلا نعتدي على أحد ولا نقبل أن يعتدي علينا أحد، وتركنا لغيرنا حرية اختيار ما يعتقده والدين الذي يعتنقه وإثمه على نفسه، إن فرعون قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فلما أدركه العقاب المؤقت لإثمه في الدنيا بالإغراق، قال وهو على وشك الغوص في الماء: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، بل تركنا غيرنا يتعصب لنبي معين لا يعتقد بنبوة سواه، كما فعل اليهود والنصارى، ولم نعاملهم بالمثل لما كفروا بنبينا صلى الله عليه وسلم، بل أمنا بأنبيائهم وبكل نبي رسول من لدن نوح عليه السلام إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، ولا نعتبر مؤمنين على الإطلاق إذا أنكرنا واحدا منهم، ومبشروهم يجوبون الآن خلال الأرض في ظل إعلان حقوق الإنسان، ليخرجوا الناس من دينهم ويحملوهم على الإيمان بنبيهم فقط، وبوسائل تخلو من كل إنسانية، ثم يأتوا ليعتموا على الناس اعتدائهم على الأديان بليِّ ألسنتهم بكلمة (الحرية الدينية) وهم ألذ أعدائها، وحصيلة الحديث أن الإسلام يأبى بترفع أن(23/24)
يتطفل على أحد ليعتنقه، لأن المعتنق له هو المستفيد وحده، ومنزله سبحانه لا يناله نفع ولا ضر {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، بل حتى الذي يدخل في الإسلام لا يرضينا منه إلا أن يكون مقتنعا به عاملا بالأوامر مجتنبا للنواهي، يقول في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده:-
"إن التقليد بغير عقل ولا هداية شأن الكافرين، فإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن رُبي على التسليم بغير عقل، وعلى العمل- ولو صالحا- بغير فقه، فهو غير مؤمن، فليس القصد من الإيمان أن يذَلَّلَ الإنسان للخير كما يُذَلَّلَ الحيوان، بل القصد أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير وهو يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر وهو يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته".
فإذا كان هذا حالنا مع من يعتنق الإسلام أصلا، فهل نرغم الناس على أن يعتنقوه؟ أم أن الذين "وضعوا حقوق الإنسان" أحسّوا بأنهم يفعلون ذلك كما بينا آنفا، فراحوا يصرفون النظر عنهم. بحقوق متكلفة متصنعة؟.
أما عن الفقرة الخاصة في حقوقهم التي وضعوها، بحرية ترك ما عليه من دين والانتقال كما يشاء من دين إلى آخر، فنحن نقر ذلك تماما إذا انتقل من النصرانية إلى اليهودية إلى الشيوعية إلي البوذية إلى الهندوسية إلى آخر قائمة الكفر الطويلة؛ لأن الصورة عندنا واحدة وهى أنه ترك حقا ليس سواه، وهو الله، واعتنق باطلا يتردى في نتن أنواعه المتعددة، لا يترك واحدا منها إلا ليذهب إلى ما هو مثيله في الضلال والوبال، فلا مفاضلة بين الباطل مهما تفاحشت أنواعه وأعداده وأوساخه.(23/25)
أما بالنسبة لديننا الذي نسبه الله إلى نفسه {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أيّ دين الله هذا؟ {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، والآية الأخيرة أنهت الجواب بأعظم حسم لمن يريد أن يدْخل الإسلام في تلون الحرباء والتقلب في دناءة الهوى، فالمسلم يوم أن أسلم قطع مع الله عهدا هائلا، ووضع يده في يده سبحانه لتكون هي العليا، فلا تسمح له بأن ينفض يد البيعة ببساطة متى عنَّ له ميله، دون أن يذوق وبال أمره {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِه} ، فليست كل بيعة تقوض بسهولة، وليس كل عهد يلعب به، وكان الطرف الأقوى هو خالق المعاهد ورب المبايع، ثم يترك هكذا سُدًى طليقا، وإنما كما قال الأجلُّ الأعزّ {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ، وقبل هذا الأمر الرهيب الذي ينتظره في الآخرة بما ذكرت الآيات، فلا بد أن نجعل منه نحن زاجرا مخيفا لمن يتلاعب بدين الديان، الذي ما أقر دينا سواه ليبقي على الأرض، حتى يرث هو أرضه ومن عليها.
(الباب الخامس)(23/26)
ونتناول الحديث في هذا الباب عن مادة واحدة من مواد إعلان حقوق الإنسان وهى المادة السادسة عشرة، ومع أنها مادة واحدة فسيكون الكلام عنها هو أطول ما قيل في الأبواب العشرة؛ ذلك لأن هذه المادة تختص بالمرأة، والحديث عن المرأة متشعب ومشكل، وشائك أيضا، وقد يكون ذلك هو السبب في أن المرأة كثيرة الكلام لا تنتهي لها ثرثرة، وعلى أي حال سنبدأ الحديث عنها في هذا الباب بالصورة التي رتبناها منذ البداية، وهى نقل حرفية المادة المذكورة فيما زعموا (حقوق الإنسان) ، وهى:-
(المادة السادسة عشرة)
أ- للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسس أسرة، دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج، وأثناء قيامه، وعند انحلاله.
ب- لا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين الراغبين في الزواج، رضا كاملا لا إكراه فيه.
ج- الأسرة هي الوحدة الطبيعية للمجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع وحماية الدولة.
على أنني سأبدأ الحديث أولاً عن المرأة بتناول بعض ما اتخذه الحانقون على الإسلام قصة من قصص الترديد المتبدلة، والتقطها منهم الناعقون المحسوبون علينا عروبة ودينا، قالوا: لماذا يبيح الإسلام الزواج بأكثر من واحدة إلى أربع، بل ولماذا تزوج نبي الإسلام صلوات الله عليه بأكثر من أربع، تزوج بتسع؟ وظنوا أنهم بهذا التهجم الوقح على خير دين وأكرم رسول قد وجدوا ضالتهم، عسى أن ينالوا بذلك النيل الذي يريدونه، فراحوا يبثونه في أوساطنا الإسلامية، بل وشاركهم في ذلك أبناؤنا الذين ترسلهم حكوماتنا إلى الخارج ليتعلموا، فيسقونهم هناك من الكأس المعدّ لهم، وننتظر نحن عودتهم بعد أن تعلموا، وإذا بهم عادوا ليتهجموا، أما نحن فنرد قائلين، آخذين أساس ردنا من القرآن الكريم إن شاء الله، ….. سنبدأ أولا بما هو لعامة المسلمين، ثم حسن التثنية والثناء بما هو خاص بنبي المسلمين صلى الله عليه وسلم.(23/27)
أما عن إباحة الزواج بأكثر من واحدة إلى أربع، فنقرأ بعضا من الآية الخاصة بذلك ثم نتناولها بالتوضيح، يقول تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة} ، وقد اكتفينا بهذا الجزء من الآية وصولا إلى أساس الموضوع وتجنبا للإطالة، فالأمر هنا {فَانْكِحُوا} ، ليس للإلزام وإنما للتخيير، بدليل قوله تعالى بعد ذلك {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة} ، لأن القاعدة أنه لا تخيير بعد الإلزام، وما وجه الإباحة إذا؟ لقد علم الله فينا شدة الميل إلى النساء، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء} ، فهن أوّل قائمة الشهوات المذكورة في الآية بعد ذلك، وأنه بعد زواج الواحدة، وبعد قضاء المأرب منها زمنا ما، فقد ينظر إلى أخرى على أنها قد تكون أحسن من التي معه، فهذه الثانية التي أعجبته، بدل أن يعمل على نيل ما يريد منها بالفاضح المشين، فليتوجها بالواضح المبين وبنفس الإحساس مع الأولى الذي جعله يأتي بالثانية، بدأ يحس به بالنظر إلى ثالثة، فقد يكون فيها ما ليس في السابقتين، فلا مانع بالعلنية وليس بالسرية، لم يقنع بعد الثلاث بأن الطعم واحد، فطابت في عينه رابعة، وإلى هنا يكون الأمر قاطعا لديه بأنه وجدهن جميعا في الخلوة شيئا واحدا، فلا يبحث عن خامسة ليزني بها، حيث لن يجد فيها جديدا بعد أن تأكد من أربع، وهنا يقدم الإسلام للمجتمع أمرًا من أعظم الأمور المبعدة للفسق والمشككة في النسب.(23/28)
ثم إن الآية خَوَّفتْ بعد السماح بالزواج إلى أربع من شيء هو مستحيل، وهو العدل بين الزوجات {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} ، فإذا أمكن العدل بما هو ظاهر فلا يمكن العدل بما هو باطن، وهو القلب الذي لا يقلبه إلا فاطره سبحانه، وخوفتنا الآية بلفظ الخوف الصريح {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، أي الأحسن أن تكتفوا بواحدة لعدم استطاعة العدل بينهن، وأن الذي يضطر إلى الزواج بأكثر من واحدة يكون لغير الميل الغريزي، وإنما لأسباب قد يصبح التعدد فيها خيرا من الاكتفاء بواحدة.
نقول ذلك وقد أصبح الذين يعيبون على الإسلام إباحة التعدد يطالبون حكوماتهم أن تبيح لهم ذلك، لما كثرت الفواحش، وأهلكت الحربان العالميتان من الرجال ما أهلكت، بالإضافة للحروب الجانبية المنتشرة في كل أرجاء الأرض ولا تنقطع سنة واحدة، حتى زاد عدد النساء على الرجال أضعافا، وأصبحت المرأة لا تتزوج سرًّا بأربعة رجال فقطع، بل بما يحلو لها وتريد، وبعدد غير محدود، فالحمد لله على سماحة هذا الدين ودقة تشريعه. فهل لازال منا من يسأل، لماذا أباح الإسلام تعدد الزوجات؟ .
أما عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فما أحلى الكلام في ذلك دحضا لقذر ما قالوا.
فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتزوج بتسع كما قال هؤلاء وكما اشتهر على ألسن الكثير من الناس، وإنما لنزيد في غيظهم نقرر أنه صلوات الله عليه تزوج بأكثر من تسع، تزوج بإحدى عشرة، ونقصد بالزواج هنا من دخل بهن، عليهن رضوان الله، فالثابت وقوع العقد منه على غير الإحدى عشرة ولم يبن بهن، وإنما التسع اللواتي عرفهن الناس من مات عنهن وعشْنَ بعده، وهذه أسماء الإحدى عشرة كرمهن الله.(23/29)
(1) خديجة بنت خويلد (2) عائشة بنت الصديق (3) حفصة بنت عمر (4) أم حبيبة (رملة) بنت أبي سفيان (5) أم سلمة (هند) المخزومية (6) سودة بنت زمعة (7) زينب بنت جحش (8) زينب بنت خزيمة (9) جويرية بنت الحارث (10) ميمونة الهلالية (11) صفية بنت حُيَىّ.
مات منهن في حياته صلى الله عليه وسلم اثنتان، خديجة، وزينب بنت خزيمة، المعروفة بـ (أم المساكين) ، والتسع الباقيات بقين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أعمارا مختلفة، رضي الله عنهن من أمهات للمؤمنين.
وقد جمعهن أحد العلماء في الأبيات الثلاثة الآتية:-
توفى رسول الله عن تسع نسوة
إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية
وحفصة تتلوهن هند، وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة
ثلاث وست ذكرهن مهذب
ويلاحظ لمجرد ذكر أسمائهن وأنسابهن، أنهن يجمعن باقة أشهر القبائل العربية وأقواها، لهذا كان اختيار هن وسيلة من وسائل شد هذه القبائل بصاحب الرسالة صلوات الله عليه، ليكون ذلك صورة من صور التبليغ عندما تقع المصاهرة، وهى من أهم وشائج الصلات عند العرب. وأظهرها وقوع التواصل والتلاقي، وترديد اسم مشهور لخير من زاوج وصاهر، وهو اسم محمد الذي هزّ مجتمعهم كله من أساسه، ولذا ثبت بسبب هذا التصاهر دخول كثير منهم في الإسلام، ممن لم يسبق لهم الدخول فيه قبل المصاهرة.(23/30)
ثانيا: وهو الأخطر شأنا، أن هذه الباقة النابهة من الزوجات، وقد اخترن من الله لرسوله، فقد قال له بعد ذلك {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج} ، كان عليهن مهمة تبليغ الرسالة للنصف البشرى الذي يقيده الحياء؛ وهن: النساء، خاصة ما يتصل بتشريع الأنوثة، ولهذا لا تكاد بيوتهن تخلو من أفواج النساء ليتلقين منهن عاطر الوحي الخاص بهن، والدليل بأن هذا تكليف لنساء الرسول وليس مجرد تطوع بالخير منهن هو قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، وخص هذا الأمر مباشرة بهن، فالكلمة {وَاذْكُرْنَ} تكليف بِمَعَانٍ ثلاثة، اذكرن بمعنى احفظن ما أنزله على زوجكن الرسول، اذكرن ذلك في ذوات أنفسكن؛ بمعنى: العمل والتنفيذ لأنكن القدوات لغيركن، وثالث المعاني اذكرن ذلك بين النساء تبليغا وتعليما.(23/31)
فلما كانت الرسالة بهذا الاتساع والتعاظم، ونصيب المرأة منها كبير، أصبح كثرة المعلمات المتصلات بِسر النبوة شيئا يزيد في كمية العلم المبلَّغ وسعة انتشاره، وعودا إلى كتب الإسلام على اختلاف أنواعها وكثرتها، نجد عائشة وزميلاتها قد أضأن هذه الكتب بما أخرجن من التشريع والعلم، من داخل حجرات النبوة، ليس عن النساء فقط ولكن عن الرجال أيضا، فقمن بتنفيذ الأمر كاملا، فذكرن حفظا وتطبيقا وتبليغا، وهكذا زوجه سبحانه بعدد من النسوة وخاطبهن بالجمع {وَاذْكُرْنَ} لعلمه بما زوج به نبيه، وأن من مهمتهن مساعدة رسوله في تبليغ رسالته الثقيلة ولهذا كُنَّ جديرات بأن يجعلهن أمهات المؤمنين وكأنهن وَلَدْنَ جميع أمة زوجهن العظيم، صلى الله عليه وسلم، فكل أمّ يمكن أن تلد، ولكن ليس كل أم يمكن أن تعلم وتربي أبناءها، وهذا هو خير ما في الأم، فأعطاهن الله هذه الصفة كاملة وليس مجرد تشبيه، فلم يقل سبحانه: وأزواجه كأمهاتهم، إنما قال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، حتى إن كبار الصحابة كانوا يرجعون إلى أمهاتهم هؤلاء في كل معضل من الشريعة، ثم إن نبينا عليه الصلوات، لم يكن بدعا من الرسل حين تزوج بهذا العدد المحدود، وهو كثير عند الأعداء والجاهلين، والذي كان لحكمة عظيمة أوضحنا منها ما ذكرنا، والذي تخرج هذه البغضاء من أفواههم، يعلمون يقينا أن أكثر من نبي كريم من أنبيائهم كسليمان عليه السلام، تزوج بتسعين امرأة كما هو ثابت في الحديث الصحيح، فيتركون التسعين ويتكلمون عن التسع، وذلك لحاجة في نفس يعقوب لم يقضها.(23/32)
وإنه والله زيادة في الكفر، حينما يعترض أحد على من له التصرف في ملكه بما يشاء.. فما دخْلُ الخلق في عمل الخالق؟، حيث الرجال عباده والنساء إماؤه، زوج من يشاء بالعدد الذي يشاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَه} ، إن الواحد منا لا يقبل من غيره التدخل في شؤونه، فكيف بالتدخل في شأن من له الشأن كله؟، والرسل هم أحبابه وصفوته، يميزهم بما يشاء، ويدخل في ذلك بما يعجز عنه غيرهم، فسبحان من أتم عليهم نعمته خَلْقا وخلقا، وبعد ذلك. أفنحن نسمع الصّم ولو كانوا لا يعقلون.(23/33)
ثم قال الأعداء وردد أدعياء الإسلام قولهم: إنكم أيها المسلمون تمزقون ما أحكمته أواصر الزواج بتشريد الزوجة وأطفالها بمجرد كلمة طلاق تخرج من فم أحدكم، أما غيركم فلا يطلق إلا بدعوى أمام القاضي ليحكم بالطلاق أو عدمه، وجوابنا من كتاب الله أيضا، فإذا كان بعض الرعناء والحمقى قد أساءوا استعمال كلمة الطلاق فقد خالفوا صميم تعاليم دينهم، ومكنوا عدونا من اصطياد التي ضدنا، وإلى قرآننا وهو نبعنا الذي لا يغور فراته، لنأخذ منه ما نرد به الكيد، ولنرى كيف يعالج الأمر منذ أوّل بادرة شر بين الزوجين، وبصورة ترفع من هام المسلم بهذا التشريع الرفيع، يقول عزّ من قائل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .
أما القوامة وما يتصل بها، فسأعود إليها في فاصل آخر يأتي بعد إن شاء الله، وسأبدأ الآن من قوله تعالى:(23/34)
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} ، أي مطيعات حافظات لغيب الزوج في عرضه وولده وماله {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ، يعني حقها الذي أمر الله زوجها أن يفي لها به مقابل حفظها له، فإذا قام الرجل بما عليه- فليس غير القائم محل حديثنا- وإن كنا لن نغفله ولو بقليل؛ لأن حديثنا الآن حول المرأة؛ ولأن الآية التي نحن بصددها مختصة بها أيضا، فإذا لم تعد مطيعة لزوجها حافظة لغيبه، وبدأ (النشوز) وهو التمرد والمعصية، فهل تخرج طلقات الطلاق كما يطلق المدفع الرشاش، لتقتل أسرة بأكملها ولتصبح مشردة تعسة في هذه الحياة؟ ، تباعد بين زوجين عزيزين أفضيا إلى بعضهما، وتحكم باليتم المحزن على أطفال برآء لم يمت أبواهما، لمجرد لحظات من تعكير صفو، كما يفعل الآن الكثير من المتهورين والمندفعين.
ولننظر كيف يكون من القرآن وقتئذ، فقد جعل الطلاق آخر مرحلة من خمس مراحل، بعد أربع لا بد أن تسبق خامستها، وهي مرحلة الفراق.(23/35)
الأولى: مرحلة الكلام الهادىء، المرهب أو المرغب، وهو المعبر عنه بقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} ، ولا يكتفي بذلك بيوم ولا بأيام، وإنما بمدة تكفى للتفكر والتبصر، ولو طال هذا النصح سنة أو أكثر، فإن انتهى النشوز، وإلا فالمرحلة الثانية، وهي الابتعاد عن فراشها، فلا يمسها بمدة تشغل بالها، بنحو الخوف من أن يتجه إلى غيرها، وهو المعبر عنه بقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ، والغيرة عند المرأة معروفة، فإذا طال الأمر ولم تقلع، فتأتي المرحلة الثالثة وهي الضرب، ولكم أسيء إلى هذه الكلمة إساءة بالغة، سواء ممن لم يفهمها من المسلمين، أو ممن سمعها منا أعداء الإسلام المتربصين، فقالوا إن دينكم يأمر بضرب المرأة، وربما قطعت هذه الجملة من الآية بتعمد لئيم مقصود، ورددتها كثيرات من المتعلمات التعليم المعروف الذي لا صلة له بالإسلام، فلم تذكر الآية بكاملها، وإنما على طريقة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} و {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فمع أن كلمة الضرب لم تأت إلا في ثالث مرحلة قد تكون بعد سنوات يهب الوعظ والهجر، فإنها ليست بالأمر اللازم التنفيذ، بمعنى أن الزوج إذا رأى أن الجرم الذي وقع منها يوجب ضربها، ولكنه تنازل عنه ولم يضرب، فهل عليه من إثم؟، لم يقل أحد بذلك أبدا، ودليل أنه ثبت عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل هذه الرخصة أبدا، فلم يضرب واحدة من زوجاته قط طول حياته، رغم أنهن أغضبنه لأكثر من مرة كما نعلم، ثم إن معنى الضرب هنا بما أجمع عليه المفسرون أخذاً من تفسير النبي صلى ولله عليه وسلم بنفسه، بأنه ضرب غير مبرح، أي الذي لا يسيل الدم، ولا يكسر العظم، بل ولا شديد الألم، فلا يكثر من ضرب الزوجة إلا الزوج الضعيف الشخصية، حتى إن أبا حنيفة رحمه الله لا يجيز الضرب بأكبر من حجم السواك غلظا وطولا، ولعله رحمه الله أخذ هذا الحكم من قول نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه، ومنع اللطم على الوجه أو(23/36)
باليد مقبوضة لأنها قد تكسر بل قد تقتل، وإنما بعود رفيع يؤلم ولا يحطم، بنحو ما ذكر الفقهاء، ولكم أصلح هذا الضرب بصورته هذه معوجات كثيرات وناشزات، شريرات، وقد ورد أن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال، يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه، ولا تضرب" رواه أحمد، وكلمة (لا تضرب) أي بمعنى الضرب الغير جائز وهو المبرح، مع الابتعاد عن الوجه على أي حال.
أبعْد ذلك يقال إن الإسلام أمر بضرب المرأة وكفى؟ وأن يعصى الكثير منا أمر القرآن وحديث الرسول وسيرته مع أهله، فيغالي في الضرب بما نرى ونعلم؟ وبما يتخذه الخصوم سببا للتشويش والتشهير، مع أن ضربهم للنساء في الخارج بوحشية أصبح أمرا مألوفا عندهم.
نعود إلى الآية لما لم يجد التخويف بالضرب، فتكون المرحلة الرابعة عندما يتحول الأمر إلى شقاق {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} ، واشترطت الآية الحَكَم الذي لا يميل مع هوى القرابة {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فإرادة الإصلاح ونيته لا بدّ أن توجد عند الحكمين، ولو وجداه في الانفصال بعد محاولة الوصال أولاً فلا بأس باعتباره آخر مرحلة. وقيل إن عمر رضى الله عنه أرسل حكمين إلى زوجين، فعادا ولم يصهل ولم يفصلا، فضربهما بالدرة قائلا: إنكما لم تريدا إصلاحا كما قال الله، ولو أردتماه لأصلح الله بكما.
وأخيرا إذا لم يفد ذلك كله يأتي خامس المراحل وهو الطلاق، وعندئذ يكون أبغض الحلال ويغن الله كلا عن الآخر من سعته {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} ، هذا هو الطلاق عندنا، فإذا فعل أحدنا غير ذلك، فهل يكون من تقصير الدين أم تقصير الجاهلين.
إلى الإسلام(23/37)
لقد اضطلعت الجزائر بدور الريادة خلال تاريخها الطويل.. فكانت ثورتها التحريرية قدوة للشعوب المستعمرة.. كما كافحا معركتها في البناء- بعد الاستقلال- نموذجا للشعوب السائرة؟ في طريق النمو، بفضل سياستها الرشيدة، ومبادراتها الشجاعة المشرفة، في خدمة الإنسانية وقضايا العدل، لكن الجزائر اليوم، ينتظر منها دور أعظم، هو تقديم النموذج الحي للمجتمع السليم المعافى، في عالم مريض، أختل توازن إنسانه؛ لأنه يطلب السعادة في التقدم الصناعي التكنولوجي وحده، وتجاهل الجانب الروحي في الوجود الإنساني.
إن ناقوس الخطر، الذي يهدد الكيان الحضاري بالانهيار يدقه أبناء هذه الحضارة نفسها، الذين يغارون عليها، فما أكثر الصيحات التي أطلقها المفكرون الواعون الذين نادوا بضرورة العودة إلى الإسلام، عقيدة ومنهاج حياة، وأنه لمن العجب، أن يقتنع غيرنا بالإسلام منقذا لإنسان الذرة وغزو الفضاء، بينما يظل بعض أبنائه شاكين تائهين، أو معرضين متنكرين لصلاحية مبادئه وقيمه!
((جوهر الإسلام التونسية))(23/38)
أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية
د/ جاد أحمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
الحمد لله الذي هدى المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد
فإنه في الوقت الذي كان المسلمون ينعمون فيه بظل الحضارة الإسلامية التي أفاضت عليهم كل أنواع الخير ووقتهم مفاسد الشر وأبعدتهم عن مواقع الفتن، في هذا الوقت الذي كان فيه المسلمون كذلك، كان أهل أوروبا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء بعيدين كل البعد عن كل مظاهر التقدم الحضاري.
ومنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري بدأ شعاع الحضارة الإسلامية يصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس، ثم عن طريق صقلية وكذلك عن طريق الحروب الصليبية، ومن قبل تلك الحروب، عن طريق السفارات بين دول أوروبا وبين دول المسلمين، في الشرق والغرب.
ولم يكن تأثير هذا الإشعاع الحضاري متساويا في الدرجة بل كان بعضه أكثر تأثيرا من الآخر فالأندلس كانت أسبق مصادر الإشعاع وأكبرها تأثيرا، ثم تلتها في الأهمية صقلية ثم تأتي بعد ذلك الحروب الصليبية ثم الاتصالات السياسية والتجارية بين الدول الإسلامية والدول الأوروبية.
الأندلس مصدر الإشعاع الأول
عبر المسلمون إلى الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري وواصلوا فتوحهم في أوروبا حتى استولوا على شبه جزيرة أيبريا وجنوب فرنسا ثم استمروا في فتوحهم حتى استولوا على جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا ونشروا دينهم فيما فتحوه من البلاد.(23/39)
وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية.
وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية.
وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية.
وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين.
وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين" [1]
وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين.(23/40)
وبعد جيل من الفتح تكوَّن من المسلمين العرب والأسبان عنصرٌ جديدٌ عرف "بالمولدين"وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أسبانيات، وعلى مرّ الزمن كثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا يكونون أغلب سكان الأندلس.
وقد وصلت الحضارة العربية في الأندلسي إلى درجة عالية من الازدهار، وبخاصة في القرن الرابع الهجري؛ حيث كانت مدينة قرطبة العاصمة تضم مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وواحد وعشرين ضاحية، وكان بها سبعون دارا للكتب، وعدد لا يحصى كثرة من الحوانيت كما كان بها كثير من المساجد، وكان أغلب شوارعها مرصوفا ومضاءة [2] وكانت بقية المدن صورة مصغرة من العاصمة.
وفي محيط الزراعة غرس العرب الكروم في بلاد الأندلس، وأدخلوا إليها كثيرا من النباتات والفواكه التي لم تكن بها، مثل الأرز والقمح وقصب السكر والمشمش والخوخ والبرتقال والرمان، وقد حفر المسلمون الترع والقنوات، ونظموا وسائل الري وكان الرقى الزراعي أحد مفاخر أسبانيا الإسلامية [3] .
وفي ميدان الصناعة ازدهرت صناعة النسيج والزجاج والنحاس والخزف والسيوف، وكثر استخراج الذهب والفضة والحديد والرصاص، وغيره من المعادن [4] . وكان ما تنتجه الأندلسي من مزروعات وفواكه ومصنوعات يفيض عن حاجة سكانها.(23/41)
ولقد ازدهرت الحياة الثقافية في الأندلس وبخاصة في عهد الحكم الثاني (350- 366 هـ) وكانت جامعة قرطبة التي أنشأها والده عبد الرحمن الناصر في المسجد الجامع يفد إليها الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، ومن أفريقيا وأوروبا، وقد استدعى الحكم بعض الأساتذة المشهورين من الشرق ليحاضروا فيها، ومن بينهم العالم اللغوي المشهور أبو على القالي مؤلف كتاب الامالي [5] وكان المؤرخ الأندلسي ابن القوطية يدرس النحو بها. وكان الحكم مغرما باقتناء الكتب؛ فكان يكلف رجاله بالبحث عن المخطوطات في حوانيت الإسكندرية ودمشق وبغداد، وشرائها ونسخها، وبهذه الطريقة تمكن من جمع أربعمائة ألف مجلد [6] وكان يطالع بنفسه على بعض هذه المخطوطات ويكتب ملاحظات في هوامشها مما جعل لها قيمة كبيرة في نظر العلماء المتأخرين. وقد أراد أن يحصل على النسخة الأولى لكتاب الأغاني التي كتبها أبو الفرج الأصفهاني بنفسه- وهو من سلالة الأمويين- وكان يقيم إذ ذاك بالعراق فبعث إليه بألف دينار ثمنا لها [7] .
وكان المسيحيون الأسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوروبا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الأسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك- من حيث لا يقصدون- دعاية طيبة للمسلمين في أوربا ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في أسبانيا.
وكان هؤلاء المهاجرون قد تسرعوا في هجرتهم خوفا على أنفسهم من بطش المسلمين بهم، من غير أن ينتظروا ما سيكون منهم، ولكنهم لم يلبثوا أن ندموا على هجر بلادهم حين علموا من مواطنيهم الذين لم يهاجروا مثلهم أن المسلمين يحسنون جوارهم ويطلقون لهم الحرية في أداء شعائر دينهم، ويعاملونهم بالحسنى وينشرون العدل والأمن في سائر البلاد وأنهم حولوا أسبانيا إلى مروج خضراء وجنات فيحاء [8] .(23/42)
هذه الدعاية غير المقصودة التي نشرها المهاجرون الأسبان، في أكثر بقاع أوروبا جعلت أهلها يتطلعون للوقوف على هذه النهضة الحضارية، التي وصلت أخبارها إليهم وكان أسبق الأوربيين إلى ذلك الملك فيليب البافاري؛ حيث بعث إلى الأندلس يرجو الأمير الأموي هشاما الأول (172- 180 هـ) يرجوه أن يسمح له بإيفاد بعثة إلى قرطبة لدراسة أنظمة الأندلس وثقافتها، ومشاهدة أوجه النشاط بها، فقبل الأمير رجاءه وأرسل الملك الجرماني وفداً إلى الأندلس برئاسة وزيره الأول "ويلميبن "الذي أطلق عليه الأندلسيون اسم "وليم الأمين "لأنه تحرى الأمانة في نقل ما رأوه من مظاهر نهضة بلادهم إلى الملك. وقد أشار الوزير على الملك بالاستمرار في إرسال البعثات العلمية لاقتباس ما يفيد البلاد من فنون الحضارة العربية [9] .
وقد توالت البعثات على الأندلس بعد ذلك، وفي أوائل القرن الخامس الهجري أرسل جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه الأميرة "دوبانت "، على رأس بعثة من ثمان عشرة فتاة، من بنات الأمراء والأعيان، إلى أشبيلية بمرافقة النبيل "سفليك "رئيس موظفي القصر الملكي، وأرسل معه كتابا إلى الخليفة هشام الثالث آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس جاء فيه بعد الديباجة: "وقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم، والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل؛ لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد أرسلنا ابنة شقيقتنا الأميرة "دوبانت "على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتتشرف بلثم أهداب العرش؛ والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم؛ وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص من خادمكم المطيع: جورج.(23/43)
وقد ردّ الخليفة هشام الثالث على ملك إنجلترا برسالة جاء فيها: "لقد اطلعت على التماسكم فوافقت- بعد استشارة من يعنيهم الأمر- على طلبكم وعليه فإننا نعلمكم بأنه سينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهى من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام- خليفة رسول الله على ديار الأندلس: هشام.
وفي عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت توفد إلى معاهد غرناطة، وأشبيلية، وغيرهما بعثات من فرنسا، وإيطاليا، والأراضي الواطئة؛ لتنهل من الحضارة العربية، وكان طلاب هذه البعثات يعجبون بالحياة العربية وتقاليدها وثقافتها حتى أن بعضهم اعتنق الإسلام وفضل البقاء بالأندلس ولم يعد إلى بلاده [10] .
وكانت مدينة طليطلة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين سنة 487 هـ المركز الرئيسي لحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد أنشأ "ريموند "رئيس أساقفتها مكتبا للترجمة، وكان المستعربون من أهل الأندلس أكبر المساهمين في حركة الترجمة ومن أشهرهم " دومونيقوس جوند يسا لفى "و "بطرس الفونسى "و "حنا الأشبيلى "وغيرهم [11]
وقد ترتب على هذه الحركة وجود ثورة علمية وفكرية هائلة في غرب أوروبا؛ ذلك لأن المعارف الجديدة التي نقلت من العربية إلى اللاتينية أضاعت أمام الأوربيين طريق الحياة, وبددت ضباب الجهالة الذي حجب عنهم رؤية الحضارة وأيقظتهم من سباتهم العميق ونبهتهم من غفلتهم الطويلة فأقبلوا على دراسة الحضارة الإسلامية بشغف بالغ ونهم شديد [12] .(23/44)
ففي علم الحساب مثلا عرفوا نظام الأعداد الهندية عن العرب، وهو النظام الذي تتغير فيه قيمة الرقم بنقله من خانة الآحاد إلى خانة العشرات أو المئات أو الآلاف وما بعدها استعملوه في عملياتهم الحسابية بدل الأرقام الرومانية التي كانت عملياتها الحسابية تتطلب منهم وقتا طويلا.
ومن المرجح أن البابا "سلفتر "الثاني الذي قضى سنوات عديدة في شمال إسبانيا كان من أوائل الأوروبيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربي إلى الغرب، هذا بالإضافة إلى تشجيعه على ترجمة كثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الجغرافيا.
وقد عرف الأوروبيون علم الجبر- لأول مرة- عن العرب، كما نقلوا عنهم علوم الهندسة والفلكَ والطبيعة والكيمياء والطب والفلسفة، وكثيرا من أنواع فروع المعرفة المختلفة.
وقد سلكت الفنون الإسلامية سبيلها إلى أوربا عن طريق الأندلس، كذلك، مثل صناعة الخزف والنسيج، والتعدين، وصناعة المعادن، والنجارة، والتطعيم بالعاج وغيرها من الصناعات [13] .
ومن هذا العرض السريع نتبين أهمية الدور الذي قامت به الأندلس في نقل الحضارة الإسلامية إلى ربوع أوربا، فكانت أساس نهضتها في العصور الحديثة، وسببا في تنعم به الآن من حياة مرفهة وثراء وفير، وما تفخر به من تفوق في العلوم والفنون.
صقلية مصدر الشعاع الثاني
حاول المسلمون فتح جزيرة صقلية منذ عهد معاوية بن أبى سفيان فقد أرسل واليه على مصر وأفريقية (معاويةُ بن حديج) جيشا بقيادة عبد الله بن قشر الغزاوي؛ لغزوها ولكن ابن قشر لم يتمكن من ذلك ثم تجددت المحاولة عدة مرات، ولكن أقدام المسلمين لم تثبت في هذه الجزيرة إلا في أوائل القرن الثالث الهجري حيث ابتدأ فتحها سنة 313 هـ زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب الذي كان والي على إفريقية من قبل الخليفة المأمون العباسي.(23/45)
وكان سبب فتحها أن إمبراطور الدولة البيزنطية " ميخائيل الثاني"ولى عليها "قسطنطين البطريق"، فأرسل الأمير القائد قسطنطين "بوفيموس"على رأس أسطول نهب ساحل أفريقية، ولكن الإمبراطور غضب على هذا القائد، لما بلغه من أنه اختطف راهبة من أحد الأديرة هناك،؛ ففر القائد إلى مدينة "سرقوسة"الواقعة على ساحل صقلية الشرقي، وأعلن الثورة على حاكم الجزيرة، غير أنه رأى أن لا طاقة له على مقاومة جيوش الإمبراطور وأساطيله، فلجأ إلى زيادة الله بن الأغلب أمير أفريقية، وأغراه بغزو صقلية وهوّن عليه فتحها فجهز الأمير الأغلبي جيشا وأسطولا يتألف من مائة سفينة بقيادة أسد بن الفرات قاضى القيروان وسيره لفتحها ( [14] ) .
وقد لقي المسلمون صعوبات كثيرة في فتحها ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها جميعها إلا في عهد إبراهيم الثاني الأغلبي سنة 364 هـ، وقد ظلت صقلية تابعة لدولة الأغالبة حتى سقطت هذه الدولة على أيدي الفاطميين سنة 396 هـ، فدخلت صقلية في حوزتهم ولكن العرب الذين كانوا يستوطنونها أعلنوا الثورة على الفاطميين، بزعامة أحمد بن قرهب بعد أربع سنوات من حكمهم اعترفوا بسيادة الدولة العباسية [15] .
غير أن الفاطميين تمكنوا من إخضاع الثورة، وإعادة سيطرتهم على الجزيرة، واتخذوها قاعدة حربية لأسطولهم يشنون منها الغارات على جنوب إيطاليا، وبخاصة مدينة جنوة التي تكررت غاراتهم عليها.(23/46)
وقد عيّن الخليفة المنصور (ثالث خلفاء الفاطميين) الحسن بن علي بن الكلبي واليا على صقلية فوضع الحسن أساس حكومة شبه مستقلة في صقلية يتوارثها أبناؤه من بعده وفي عهد هذه الأسرة بذرت بذور الثقافة العربية، وأخذت تنمو وتزدهر على مرّ الأيام في تلك الجزيرة. ولم يتدخل العرب في الشئون الداخلية لأهل الجزيرة، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة عاداتهم وتقاليدهم، وفي أداء شعائر دينهم، واكتفوا بجباية جزية قليلة ممن لم يعتنق الإسلام منهمن، وكان مقدارها أقل بكثير من الضرائب التي كان الرومان يفرضونها عليهم، وقد أعفوا من هذه الجزية الرهبان والفقراء والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يتعرضوا لكنائسهم بسوء.
وقد اهتم العرب بالزراعة، وأدخلوا في الجزيرة العربية زراعة قصب السكر والكتان والزيتون، وكثيرا من النباتات، وأشجار الفاكهة التي لم تكن موجودة بها من قبل، وقد ساعد خصب تربة الجزيرة على نمو زراعتها وجودة فواكهها؛ فتوفرت حاصلاتها، وكثرت مواردها. وقد مرّ الرحالة ابن جبير بها سنة 580 هـ بعد ست وتسعين سنة من انتهاء حكم العرب بها، فأعجب بأشجار الفاكهة فيها، واسترعى انتباهه ما شاهده من جودة كرومها [16] .
ولم يكن اهتمام العرب في صقلية بالصناعة أقل من اهتمامهم بالزراعة، فقد أنشأوا مصانع للورق، ومصانع للنسيج، واستخرجوا الذهب والفضة، والحديد والرصاص والنوشادر من مناجمها، وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية وصناعة النجارة والتطعيم بالعاج وصناعة الرخام والفسيفساء وغيرها وشيدوا المساجد الفخمة والقصور الجميلة.
وقد ساعدت موارد الجزيرة الفنية، كما ساعد اشتغال العرب بالتجارة على زيادة ثروتهم؛ فعاشوا عيشة مرفهة، ومضوا منازلهم بالأثاث الفاخر، وفرشوها بأحسن أنواع السجاد، وتزينوا بأغلى أنواع الثياب، ولبست نساؤهم ثياب الحرير الموشى بالذهب وانتعلن الأخفاف المذهبة وتزيّن بالذهب والجواهر.(23/47)
ومنذ أوائل القرن الرابع الهجري أخذ البيزنطيون يكثرون من الغارات على الجزيرة فشغل ولاتها من قبل الفاطميين بعد هذه الغارات، وفي الوقت نفسه، قامت اضطرابات بين العرب أنفسهم داخل صقلية؛ فأدى ذلك إلى ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن الجزيرة، ولم يكن في وسع الفاطميين بالقاهرة أن يمدوهم بالجيوش لاضطراب الأمور فيها، فانتهز النورمانديون هذه الفرصة وأخذوا يستولون على ثغور الجزيرة ومدنها الواحدة تلو الأخرى حتى تم للملك "روجر الأول"الاستيلاء على جميع نواحي الجزيرة سنة 483 هـ وبذلك انتهى حكم العرب فيها بعد أن استمر مائتين وعشرين عاما [17] .
ولم يكن استيلاء النورمانديين على الجزيرة آخر عهد العرب بها، بل ظلوا بعد زوال الحكم العربي يقيمون فيها، وقد اعتمد حكامها النورمانديون على العناصر العربية في الشئون السياسية، والاقتصادية؛ لأنهم كانوا على جانب كبير من الخبرة والحضارة والرقي، كما كانوا عناصر نشيطة ومنتجة.
وكان "روجر الثاني" يرتدى الملابس العربية ويطرز رداءه بحروف عربية وقد نقش على سقف كنيسته التي بناها في مدينة "بارمو"نقوشا بالخط الكوفي. وكان الإدريس الجغرافي الرحالة، وأعظم رسامي الخرائط، محببا إليه مقربا عنده، وقد شجعه الملك على بحوثه الجغرافية وقدم له كل مساعدة وبذل له من المال ما مكنه من إرسال الرسل إلى كثير من الأقاليم؛ لإمداده بالمعلومات الجغرافية عنها.
وكذلك كان الملك "وليم"بن الملك روجر الثاني وحفيد الملك روجر الأول يعتمد على العرب فيقربهم إليه ويثق فيهم، وقد عبر عن ذلك شاهد عيان هو الرحالة بن جبير في حديث له عن الملك بقوله: "لا.... إنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه لكثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله منهم الأطباء، والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم" [18] .(23/48)
وكان الإمبراطور "فردريك الثاني"الذي ورث عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عن أبيه الألماني، كما ورث عرش صقلية عن أمه الإيطالية، كان قد ولد بصقلية وتربى بها، وتعلم فيها؛ فنشأ محبا للعلوم العربية وكان يحسن التكلم باللغة العربية. وقد أفاض المؤرخون العرب والأوربيون في وصف حبه للمسلمين، وإعجابه بعلومهم، وحضارتهم، وأخلاقهم، وتقريبه لهم واستخدامهم في حاشيته حتى أن الموذنين المسلمين كانوا يؤذنون عند موعد كل صلاة في معسكره [19] .
وقد قامت بين الإمبراطور "فرديك الثاني" وبين السلطان الأيوبي الكامل محمد بن آخي صلاح الدين صداقة متينة، وكانا يتبادلان السفارات والهدايا. فتذكر المصادر التاريخية أن السلطان الكامل أرسل هدية إلى الإمبراطور، كان من بينها زرافة كانت أول زرافة دخلت أوربا، وأن الأشراف الأيوبي صاحب دمشق أرسل إليه جهازا عجيبا للكواكب في صدر تمثل الشمس والقمر، وتحدد الساعات في مداراتهما، وأن الإمبراطور أرسل هدايا لكل من الكامل والأشرف منها دب أبيض وطاووس أبيض أعجبا أهل القاهرة ودمشق، كما أعجبت الزرافة وجهاز الكواكب أهل صقلية [20]
وقد استمرت الصداقة قائمة بين "فردريك الثاني"وسلاطين مصر بعد وفاة السلطان الكامل سنة 635 هـ؛ يدلّ على ذلك ما أشارت إليه المراجع التاريخية من أن الإمبراطور حذر الصالح نجم الدين أيوب عندما علم بنية ملك فرنسا "لويس التاسع"القيام بالحملة الصليبية السابعة ضد مصر سنة 647 هـ حيث أرسل إليه- وهو بدمشق- رسولا تظاهر بأنه تاجر، وأسرّ إليه بأن لويس التاسع يعتزم توجيه حملة إلى مصر؛ للاستيلاء عليها، فأسرع الصالح بالعودة إلى مصر للدفاع عنها [21] .(23/49)
وقد ظل العرب يحتفظون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم في الجزيرة، ويزاولون نشاطهم الزراعي والتجاري والصناعي بحرية تامة، كما ظلت اللغة العربية شائعة في الجزيرة، وكان ملوك النورماند يحسنون التكلم بها ويطربون لأدبها وشعرها. ويظهر أن استعمالها استمر إلى أواخر القرن التاسع الهجري؛ ويؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها علماء الآثار حديثا سواء كانت قبور مسلمين أم قبور مسيحيين.
وقد ترك العرب في جزيرة صقلية كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، التي لا تزال باقية حتى الآن، كما تركوا ألفاظا عربية كثيرة في اللغة الصقلية والإيطالية. ولا تزال مدن كثيرة في الجزيرة تحمل أسماء عربية. وفي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباني العرب أحدهما قلعة العزيزة والآخر قصر القبة.
ومما تقدم يتبين أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في الجزيرة نحو ستة قرون من الزمن وقد خرّجت صقلية العربية عددا غير قليل من المحدثين والفقهاء والنحويين والأدباء والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلاسفة. نذكر منهم على سبيل المثال أسد الدين بن الحارث، صاحب كتاب الأسديات في الفقه، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمد يس الصقلي الشاعر المبدع، والشريف الإدريسي الجغرافي المحقق، والحسن بن يحي المعروف بابن الخزاز صاحب تاريخ صقلية، وعيسى بن عبد المنعم، وكان من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وغيرهم كثير.(23/50)
وقد أنشأ العرب في مدينة بالرمو، عاصمة صقلية، أول مدرسة للطب في أوربا، وعن طريقها انتشر الطب في إيطاليا، وسائر أرجاء القارة. إذن كانت جزيرة صقلية مركز إشعاع للحضارة الإسلامية العربية، أفادت منه أوربا أعظم الفائدة؛ لأن الجزيرة كانت على صلة وثيقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة ما يقع منه على شواطئ البحر المتوسط؛ مثل الشام، ومصر وبلاد المغرب، وكانت البلاد الإسلامية في العصر الوسطى وطنا عاما للمسلمين لا فرق بين مشرقي ومغربي. فلم تكن هناك قيود على انتقال العلماء من بلد إسلامي إلى بلد آخر فكثرت تنقلاتهم، وساعد هذا على تبادل الآراء وانتقالها من جهة إلى جهة فلم تكن حضارة المسلمين في صقلية من صنع أهلها وحدهم بل كانت حضارة إسلامية شاملة لنتاجها ونتاج العالم الإسلامي كله ومن هناك ترجمت وتسربت إلى جميع أصقاع أوروبا.
لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن صقلية ساهمت في تحضير أوروبا وتنويرها بنصيب يقرب من نصيب الأندلس، ولكنه يقّل عنه لأن رقعتها أضيق بكثير من رقعة الأندلس ولأن عدد من أنجبتهم من العلماء لم يصل في شهرته العلمية إلى ما وصل إليه علماء الأندلس.
وهذا لا يغض من قيمة الدور الذي قامت به صقلية في إمداد أوروبا بكل مظاهر الحضارة ما كان منها من صنع العرب الذين استوطنوها أو مما نقلوه عن غيرهم من الدول الإسلامية الأخرى.
دور الحروب الصليبية في نقل الحضارة الإسلامية
في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) خرجت جموع من المسيحيين الأوروبيين مختلفي النزعات والأغراض لغزو الشرق الإسلامي. والأسباب التي دفعت هؤلاء إلى شنّ تلك الحروب التي عرفت في التاريخ باسم "الحروب الصليبية"نسبة إلى الصليب -الذي اتخذه المحاربون شعارًا لهم- أسبابٌ غير واضحة، تختلف باختلاف الطوائف التي اشتركت فيها.(23/51)
ويمكننا أن نعتبر رغبة القبائل القيوتونية في الهجرة، وحبهم للمخاطرة من بين تلك الأسباب، كما لا نستبعد أن يكون هدم الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) لكنيسة القيامة في أواخر القرن الرابع الهجري من بين الأسباب البعيدة لهذه الحروب [22] .
أما ادعاء الحجاج المسيحيين أنهم كانوا يلقون مصاعب في أثناء اجتيازهم أسيا الصغرى الإسلامية، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، أو أنهم كانوا يتعرضون لمضايقات من جانب المسلمين في أثناء حجهم، فليس له ما يبرره؛ لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم، ونهت عن التعرض لهم بسوء ماداموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.
ولئن سلمنا حدوث بعض مضايقات، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حوادث فردية صدرت من بعض جهلة المسلمين، وحتما على فرض صدورها، فإنها لا تقتضي هذه الضجة الكبرى التي أثارها الغرب ضد المسلمين ولا تستلزم سفك ما سفك من دماء في هذه الحروب التي استمرت نحو قرنين من الزمن.
وكان الراهب بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس، وعزّ عليه أن يراه مِلكا للمسلمين، وهو المكان الذي يقدسه المسيحيون؛ كان هذا الراهب هو الذي روّج تلك الإشاعات.
على أن السبب المباشر لتلك المأساة التي ذهب ضحيتها عدد من البشر هو استنجاد الإمبراطور "ألكسيوس كمنينوس"إمبراطور الدولة البيزنطية بالبابا "إربان الثاني"بطريك الكنيسة الغربية بعد هزيمة البيزنطيين أمام السلاجقة في موقعة "ملاذكر"في أواخر سنة 462 هـ[23] ، وكان هذا الاستنجاد بعد الموقعة بأكثر من عشرين سنة ولكنه صادف هوى في نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ العالمي.(23/52)
وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة "كليرمنت"في الجنوب الشرقي لفرنسا حثّ فيها المؤمنين من النصارى على أن "يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعوه لأنفسهم" [24] ، ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماس في نفوس الجماهير المسيحية شريفهم ووضيعهم على السواء، وبلغ عدد المتطوعين لهذه الحرب مائة وخمسين ألفا من النورماندبين والفرنج.
ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شنّ الغارة على الشرق بل إن كثيرا من الأمراء- ومن بينهم "بوهيمند"_ خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط، كما كانت المصالح الاقتصادية هدف تجار البندقية وبيزة وجنوة.
وقد نجح الصليبيون في تكوين أربع إمارات لهم في الشرق وهى إمارة الرها وإمارة أنطاكيا وإمارة طرابلس وإمارة بيت المقدس وسميت هذه الإمارات مملكة بيت المقدس حيث كان أمير بيت المقدس يتوج ملكا لهذه المملكة، وإن كان كل أمير مستقلا داخليا في إمارته. وكان الاعتداء الصليبي على الشرق سببا في ظهور قوى إسلامية فتية؛ فقد تحمس الأبطال المسلمون لاسترداد بلادهم المغتصبة، وتمكن البطل عماد الدين زنكي من استرداد إمارة الرها أول أمارة أنشأها الصليبيون في الشرق، وأهم إماراتهم وقد تم له ذلك سنة 539 هـ[25] .
ثم جاء بعده ابنه السلطان نور الدين محمود (541- 569 هـ) فوحّد بلاد الشام تحت حكمه وضم إليها مصر، ولم يتمكن الصليبيون في عهده من إضافة شبر واحد إلى ممتلكاتهم في الشرق، بل انتزع السلطان من أيديهم كثيرا من البلاد التي كانوا قد احتلوها قبل أن يتنبه المسلمون لخطرهم، وحمل لواء الجهاد في عهده ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي (567- 589 هـ) فانتزع بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ[26] .(23/53)
ثم أخذ سلاطين الأيوبيين والمماليك من بعدهم ينتزعون المدن الإسلامية من أيدي هؤلاء المغتصبين مدينة بعد أخرى حتى انتزع السلطان المملوكي الأشراف خليل (689-693 هـ) مدينة عكا أخر معقل لهم في الشرق سنة 692 هـ[27] وبذلك قضى على مملكة الصليبيين القضاء الأخير.
وكان الأثر الحضاري لهذه الحروب فنيا وصناعيا وتجاريا أكثر منه علميا أو أدبيا؛ فقد كان الأوروبيون الذين أقاموا في الشام في الإمارات التي أنشئوها يعيشون داخل حصون وسكنات عسكرية، وكان اتصالهم بالزراع الوطنيين والصناع أكثر من اتصالهم بالطبقة المثقفة. على أنهم مع ذلك استفادوا علميا، وإن كانت استفادة محدودة فقد نقل أحد علماء مدينة بيزة الكتاب الطبي المشهور "كامل الصناعة الطبية"لعلي بن العباس المعروف بالمجوسي نسبة إلى أحد أجداده الذي كان يدين بالمجوسية قبل أن يعتنق الإسلام وترجم فيليب الطرابلسي مخطوطا عربيا في الفلسفة والأخلاق يسمى "سر الأسرار"يقال إن أرسطو ألفه لتلميذه الإسكندر المقدوني.
كما كان من أثر الحروب الصليبية العلمي اهتمام الأوروبيين بتعلم اللغة العربية؛ لأنهم وقد فشلوا في نشر الديانة المسيحية بحدّ السيف رأوا أن تعلم اللغة العربية يمكنهم من التخاطب مع الشرقيين ونشر المسيحية بينهم باللين والإغراء [28] .
على أن إنشاء المستشفيات ومعالجة المرضى فيها لم يعرف في أوروبا قبل الحروب الصليبية؛ مما يرجح أن هذا النظام منقول عن الشرق الإسلامي، بعد أن شاهد الأوروبيون المستشفيات فيه أثناء الحروب الصليبية، كما يرجح أيضا أن نظام الحمامات العامة الذي انتقل إلى أوروبا بعد الحروب الصليبية منقول كذلك بواسطتها.(23/54)
وقد كان أثر الحروب الصليبية في نقل الفنون الحربية إلى أوروبا واضحا؛ فقد تعلم الصليبيون من المسلمين استخدام حمام الزاجل في نقل الأخبار الحربية [29] كما اقتبسوا منهم الاحتفال بالانتصارات بإشعال النيران، ولعبة الفروسية المعروفة باسم "الجريد"، وكذلك نقلوا عنهم اتخاذ الشعارات ونقشها على الأسلحة والخوذات، وكان اتخاذ الشعارات معروفا عند المسلمين، فقد كان صلاح الدين يلبس خوذة عليها رسم النسر، وكانت خوذة الظاهر بيبرس على شكل أسد كخوذة ابن طولون من قبل، ولم يكن ذلك معروفا في أوروبا قبل الحروب الصليبية.
وفي مجال الزراعة والصناعة والتجارة نقل الصليبيون العائدون إلى أوروبا كثيرا من النباتات وأشجار الفواكه مثل السمسم والبصل والأرز والبطيخ والبرقوق والليمون، كما حملوا معهم حين عودتهم البسط والسجاجيد والمنسوجات، وبدأت تظهر في أوروبا مصانع الآنية والبسط والأقمشة تقليدا للمنتجات الشرقية، ووجدت سوق أوروبية جديدة للمنتجات الزراعية الشرقية، والسلع الصناعية مما ساعد على نشاط التجارة الدولية التي كانت قد ركدت منذ سقوط الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي [30] .
السفارات بين دول أوروبا والدول الإسلامية
حدثت اتصالات بين دول أوروبا والدول الإسلامية في العصور الوسطى كان لها أثر- ولو ضئيل- في نقل حضارة المسلمين إلى أوروبا. فيحدثنا التاريخ أنه عندما يئس الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين من مدّ سلطانه إلى بلاد الأندلس التي أَسس فيها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إمارة أموية.
عندما يئس أبو جعفر من التغلب على هذا الأمير بالقوة لجأ إلى سلاح سياسي يستعين به على الوصول إلى غرضه فأراد التحالف مع "ببن" ملك الفرنجة على طرد الأمويين من الأندلس.(23/55)
وقد مهد أبو جعفر لذلك بإرسال سفارة إلى "ببن" وجرت مفاوضات بين رسل الخليفة وبين ملك الفرنجة حول الغرض الذي جاءوا من أجله، ثم عادوا إلى بغداد يصحبهم سفراء من الفرنجة ليتفاوضوا مع أبى جعفر في التحالف مع دولة الفرنجة على سحق الدولة البيزنطية عدوتها، وعادوا إلى بلادهم يحملون الهدايا النفيسة التي أرسلها الخليفة إلى ملكهم.
ولم تؤد هذه المفاوضات إلى نتيجة إيجابية لكل من الطرفين أكثر من إزعاج عبد الرحمن الداخل وتخويفه من هجوم الفرنجة على بلاده، وإزعاج البيزنطيين من هجوم العباسيين على بلادهم. ويؤخذ على حكام المسلمين الاستعانة بغير المسلمين للتغلب على إخوانهم في الدين؛ فالمسلمون إخوة ينصر بعضهم بعضا، ويقفون صفا واحدا للدفاع عن عقيدتهم وصد أي عدوان يوجه إليها {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
وفي عهد الخليفة هارون الرشيد تجددت العلاقة بين دولة الفرنجة والدولة العباسية؛ حيث خطب شارلمان ود الرشيدَ؛ فأرسل إليه يطلب التحالف معه ضد البيزنطيين ويرجوه أن ييسر الحج إلى بيت المقدس للفرنجة، وأن تتبادل دولة الفرنجة التجارة مع الدولة العباسية وأن يمده بالكتب العلمية، كما أرسل الرشيد بعثة إلى بلاط شارلمان بغية التحالف معه ضد الإمبراطورية البيزنطية، والأمويين بالأندلس.
وقد أسفرت هذه المفاوضات عن إرسال مفاتيح كنيسة القيامة إلى شارلمان، وتبادل الهدايا بينه وبين الرشيد وكان من بين الهدايا التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان: فيل وساعة مائية دقاقة، وأقمشة فاخرة من الموشى المنسوج بالذهب، وبسط ومواد عطرية [31] .(23/56)
ولم تسفر هذه المفاوضات عن عمل إيجابي من جانب شارلمان ضد الأمويين في الأندلس؛ لأنه لم يجازف بالدخول في حرب مع الأمويين لا يدرى مغبتها حيث أدرك استحالة الفضاء على الأمارة الأموية التي أصبحت ثابتة البنيان، موطدة الدعائم، واكتفى هو وأولاده من بعده بالدفاع عن أملاكهم ولم يفكروا في توجيه حملات هجومية ضد الأمويين.
وكما حاول الفرنجة والعباسيون أن يتحالفوا ضد البيزنطيين والأمويين كذلك حاول الأمويون والبيزنطيون أن يتحالفوا ضد العباسيين والفرنجة. وقد بدأت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور البيزنطي "تيوفيل"الذي اشتد العداء بينه وبين الخليفة العباسي المعتصم بالله، فقد هاجم الإمبراطور حصن زبطرة الإسلامي وضربه فرّد عليه الخليفة بالهجوم على عمورية وتخريبها سنة 223 هـ، كما خرّب كثيرا من المدن البيزنطية [32] .
بعث الإمبراطور "تيوفيل"، سفيره "كريتوس"ومعه هدايا نفيسة رسالة يطلب فيها صداقة عبد الرحمن الثاني (الأوسط) أمير الأندلس ويرجوه عقد معاهدة صداقة ويحرضه على استعادة مقر خلافة أجداده. وقد ردّ الأمير عبد الرحمن الأوسط على لا "تيوفيل"بخطاب عبّر فيه عن عداوته للعباسيين، دون أن يرتبط معه بمعاهدة حربية ضدهم وهذا تصرف نبيل من الأمير المسلم، يستحق الثناء عليه حيث لم يتفق مع المسيحيين على حرب المسلمين.
ومع أن هذه المراسلات لم تؤد إلى عقد تحالف فعلي فإنها لم تخل من فائدة حيث أوجدت حالة استقرار في غرب أوروبا؛ إذ أن الأمويين والفرنجة اقتنعوا بأنه من الخير لهم أن يتفاهموا، وأن تكف كل من الدولتين عن حرب الأخرى وتنصرف كل منها إلى رعاية مصالحها وتعمل على تقدمها الحضاري.(23/57)
وقد نشأت بين المدن الإيطالية وبين الدولة الفاطمية بمصر والشام علاقات تأرجحت بين الودّ، والعداء فقد أرسلت مدينة بيزا سفيرا إلى بلاط الخليفة الفاطمي الظاهر (411-417 هـ) لتسوية المشكلة التي تسببت عن اعتداء بعض تجار بيزا على جماعة من التجار المصريين في البحر الأبيض، على مقربة من بيزا وسلب أموالهم، وقتل بعضهم. وقد انتقمت الحكومة الفاطمية لرعاياها وعاقبت التجار البيزيين المقيمين بمصر.
ونجح سفير بيزا في تسوية الخلاف بعد أن تعهد عن حكومته بالاقتصاص من المعتدين كما تعهد بالامتناع عن إمداد أعداء المسلمين بأي مساعدة، وفي نظير ذلك تعهدت الحكومة الفاطمية بإطلاق سراح التجار البيزيين المسجونين بمصر، وحماية حجاج بيت المقدس القادمين من بيزا على سفن غير حربية.
وعندما تولى الصالح طلائع بن رزيك الوزارة المصرية سنة 549 هـ بادرت حكومة بيزا بإرسال وفد لتهنئته، فرحب الوزير بهم وأكرمهم وأكد المعاهدات القديمة بينهما.
وقد قامت صلات ودية بين مدينة جنوة والدولة الفاطمية وازدادت هذه الصلات في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فقدي بعثت جنوة سفراء معاهدة مع الحكومة الفاطمية وتمخضت المفاوضات بين الطرفين عن تعهد الحكومة الفاطمية بحماية رعايا جنوة في مصر، وكان معظمهم يقيمون في مدينة الإسكندرية.(23/58)
وكذلك قامت علاقات بين البندقية والدولة الفاطمية؛ حيث تعهدت البندقية في القرن الرابع الهجري بإمداد الفاطميين بما يحتاجونه من الأخشاب التي تلزم لبناء الأسطول الفاطمي المرابط في سواحل مصر، وسواحل الشام، ولكن البندقية توقفت بعد فترة عن إرسال الأخشاب- تحت تهديد حكومة بيزنطة- فتعكر صفو العلاقات بينها وبين الفاطميين، غير أن البندقية لم تلبث أن أدركت أن مصالحها التجارية تحتم عليها أن تعيد علاقاتها الطيبة بالقاهرة؛ فعادت إلى ما كانت عليه من إمدادها بالأخشاب نظير حصولها على امتيازات خاصة لسفنها التي تمر بالمياه المصرية، وتنقل حاصلات إفريقية وأسيا إلى أوروبا [33] .
ومما لاشك فيه أن هذه السفارات قامت بدور في توصيل حضارة المسلمين إلى دول الغرب؛ لأن السفراء كانوا يطلعون على مظاهر الحضارة في العالم الإسلامي، وينقلون فكرة عما شاهدوه إلى بلادهم لكن عدد هؤلاء السفراء- بالطبع- كان محدودا وإقامتهم في البلاد الإسلامية لم تكن طويلة، بل كانت مدتها تتوقف على انتهاء المهمة التي أرسلوا من أجلها.
ولذلك لم يكن دور هذه الاتصالات بارزا في نقل الحضارة الإسلامية، بل كان نصيبه في نقلها محدودا يقتصر أغلبه على الجانب المادي للحضارة، أما الجانب الثقافي منها فقد كان قليلا جدا، كما اقتصر نقل التجار على الجانب المادي فقط لأن همتهم كانت متجهة أولاً وبالذات إلى الحصول على المال فكانوا ينقلون التحف بقصد الكسب من ورائها فحسب ولم تكن الثقافة والفن مما يحرص التجار على تداوله.
من كل ما تقدم نعلم أن ما تنعم الدول الغربية به من حضارة ليس من ابتكار عقول أهلها، ولا من صنع أيديهم إنما هو فيض الحضارة الإسلامية وصل إليهم عن تلك المصادر التي تكلمنا عنها.(23/59)
وقد اهتم الغربيون بالجانب المادي من الحضارة التي وصلت إليهم من الشرق وأغفلوا الجانب الروح، وهو المهم، وليتهم وجهوا الجانب المادي وجهة صالحة تعمّر ولا تخرب، وتبني ولا تهدم. بل تفننوا في نقل وسائل التخريب والتدمير، حتى أصبح العالم يعيش اليوم في جو من القلق والرعب اللذين يجب أن يخلو منها المجتمع الحضاري.
ويوم يرجع المسلمون إلى التمسك بقواعد دينهم، والسير على هداها فسوف يعيدون إلى المجتمع الإنساني نعمة الأمن، ويخرجونه من جو القلق والرعب إلى جو الطمأنينة والسعادة والله سبحانه وتعالى يهدى إلى سواء السبيل، نسأله جلت قدرته أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لطفي عبد السميع، الإسلام في أسبانيا ص31.30.
[2] المقري، نفح الطيب جـ1 ص298.
[3] جوت هل، الحضارة العربية ص119.
[4] ابن حوقل، المسالك والممالك ص79.78.
[5] ابن خلكان، وفيات الأعيان جـ1 ص131.130.
[6] ابن خلدون، كتاب العبر جـ4 ص 146.
[7] المقري، نفع الطيب ج1 ص 250.
[8] المدوّر. الديانات والحضارات ص 67.
[9] علي الخربوطلي: العرب والحضارة ص 313.
[10] المدور الديانات والحضارات ص 70.
[11] سعيد عاشور. أوروبا في العصور الوسطى ص 217.
[12] بالنشيا، تاريخ الفكري الأندلس ص 536.
[13] هل، الحضارة العربية ص 120.
[14] أماري، مكتبة صقلية العربية جـ1 ص 427،429.
[15] ابن الأثير، الكامل جـ1 ص 54،53
[16] رحلة ابن جبير ص 228.
[17] أماري، مكتبة صقلية العربية ص 472
[18] رحلة ابن جبير ص331.
[19] المقريرزي، السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص382
[20] أبو المحاسن، النجوم الزاهرة ج6 ص283(23/60)
[21] المقريزي، الخطط، ج1 ص219
[22] ابن الأثير، الكامل جـ1 ص45.44.
[23] ابن الأثير، الكامل جـ8 ص45.44.
[24] فيليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص822.
[25] إسحاق أرملة، الحروب الصليبية ص106
[26] ابن شداد. سيرة صلاح الدين ص 67066.
[27] أبو الفداء المختصر في أخبار البشر جـ4 ص 24.
[28] فليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص 857، 858.
[29] السيوطي، حسن المحاضرة جـ3 ص 168.
[30] فيليب حتى تاريخ العرب جـ3 ص 65.
[31] جميل نخلة حضارة الإسلام ص 151.
[32] إبراهيم العدوى، المسلمون والجرمان ص 270.
[33] جمال سرور الدولة الفاطمية ص 1760175(23/61)
كتاب في رؤية الله تبارك وتعالى
تأليف
أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد، المعروف بأبي النحاس
تحقيق وتخريج
الشيخ محفوظ الرحمن بن زيد الله السلفي
المعيد بكلية الحديث بالجامعة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله:
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لاشك أن رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة قد ثبتت في الآيات الكريمة نحو قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (سورة القيامة الآية 23- 33) وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (سورة يونس الآية 36) والأحاديث الصحيحة المتواترة التي تدل دلالة ناصعة على وقوع رؤية الله تعالى، وهي حقيقة لا ينكرها إلا من زاغ قلبه وعمى بصره.
فأنكر الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرها من الفرق الضالة، وحملوا هذه النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة حسب هواهم على غير محملها، وأولوها تأويلا لا يحتمله العقل السليم والفكر الصائب، ولا توافقه اللغة العربية وأساليبها؛ وذلك لإشباع غرائزهم الخبيثة، وتأييد معتقداتهم الفاسدة التي ترفضها نصوص الكتاب والسنة رفضا باتا.
لذلك فقد تناول علماء السلف هذا الموضوع- منذ قديم- بالبحث والدراسة والأخذ والردّ، فمنهم من استعرضه في كتبهم كباب من أبوابها، وذلك في حقول مختلفة:
* كتب التفسير.
* كتب الصحاح والسنن.
* كتب المذاهب والفرق.
* كتب العقيدة.
وغيرها.(23/62)
ومنهم من أفرد في هذا الموضوع كتبا رسائل مستقلة منها ما يلي:
1- النظر إلى الله تعالى لابن وضاح: محمد بن وضاح بن بزيع أبو عبد الله
(ت: 286 هـ) مخطوط في مكتبة حسن حسنى التونسي [1]
2- جواز رؤية الله تعالى بالأبصار: لأبى الحسن الأشعري، على بن إسماعيل
(ت: 324 هـ) .
3- جواز كتاب العمد في رؤية الباري له ذكرهما البغدادي في هدية العارفين 677/1.
4- الرؤية لأبى أحمد العسال، محمد بن أحمد (ت: 349 هـ) كما ذكره البغدادي في هدية العارفين 43/2.
5- التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة للآجرى، محمد بن الحسين بن عبد الله (ت: 360) مخطوط، توجد في مكتبة الجامعة الإسلامية نسختان مصورتان من دار الكتب الظاهرية بدمشق [2] .
6- كتاب الرؤية للدار قطني، علي بن عمر البغدادي (ت: 385 هـ) مخطوط، توجد في الجامعة الإسلامية صور منه وهي مصورة من اسكوريال بأسبانيا [3]
7- كتاب في رؤية الله لابن النحاس، وهو هذا الكتاب الذي نتشرف بتقديمه للقراء.
8- الضوء الساري إلى صرف رؤية الباري لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت: 665 هـ) توجد في الجامعة الإسلامية نسخة مصورة من ريوان كشك بتركيا.
9- رسالة في رؤية الله تعالى للنساء لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم (ت: 728 هـ) ذكرها ابن عراق في تنزيه الشريعة: 2/384
10- الغنية في مسألة الرؤية لابن حجر العسقلانى (ت: 853 هـ) مخطوط. وهي موجودة في معهد المخطوطات بالقاهرة 133/1.
11- رسالة في مباحث الهوية والكلام لخطيب زاده، محمد إبراهيم، مخطوط. توجد نسخة في الجامعة الإسلامية وهي مصورة من اسكوريال بأسبانيا.
12- إسبال الكساء في رؤية الله للنساء للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت:911 هـ) مطبع.
13- تحفة النساء في رؤية الله للنساء للسيوطي، توجد منه نسخة خطية في الجامعة الإسلامية.(23/63)
14- اللفظ الجوهري في رد خباط الجوجري للسيوطي، مخطوط توجد في الجامعة الإسلامية وهي مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق.
15- البغية في مسألة الرؤية للشوكاني محمد بن على (ت: 1250 هـ) كما ذكرها البغدادي في هدية العارفين 2/365. وتوجد منه نسخة في الجامعة مصورة من كلناؤ.
16- رؤية الله تبارك وتعالى، رسالة قدمها الأستاذ أحمد الناصر الحمد لنيل درجة العالمية (ماجستير) .
فمساهمة في الرد على زحمة الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم، والدفاع عن العقيدة الصحيحة أقدم إلى القراء الكرام هذا الجزء الصغير محققا، وأترك التفاصيل حول الرؤية واختلاف الفرق وأدلتهم العقلية والنقلية، ومن يريد التفصيل فليراجع كتاب التوحيد لا بن خزيمة، وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب الرؤية للدار قطني، وشرح السنن لللالكائي، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية، وحادي الأرواح لابن القيم، والنهاية لابن كثير رحمهم الله تعالى.
ترجمة ابن النحاس
اسمه ونسبه:
هو عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد، أبو محمد التجيبي [4] المصري المالكي، البزار، المعروف بابن النحاس [5] .
مولده:
ولد بمصر ليلة الأضحى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة من الهجرة [6] .
نشأته:
قد اعتنى ابن النحاس بالعلوم الإسلامية منذ طفولته، وبدأ يتردد على مجالس العلماء ويتلقى الحديث والفقه وغيرهما، فأوّل سماعه كان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة حينما كان عمره ثماني سنين فقط [7] .
وحج سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وجاور بمكة، وسمع من ابن الأعرابي شيخ الحرم في وقته فأكثر عنه [8] حتى صار من أبرز تلامذته، وقد روى عنه المعجم [9] .(23/64)
وواظب ابن النحاس بالجد والاجتهاد على طلب علم الحديث والفقه، وبرع حتى صار محدثا وفقيهاً، ومسند الديار المصرية في وقته، فهو كما قال الإمام الذهبي: "الشيخ الإمام الفقيه المحدث الصدوق، مسند الديار المصرية [10] .
وذاع صيته في العالم حتى عزم الخطيب على الرحلة إليه فلم يقض [11] .
رحلاته:
لم تشر المصادر إلى أنه ارتحل إلى خارج الديار المصرية، غير أنه حج سنة تسع وثلاثين، وجاور وسمع من ابن الأعرابي [12] .
مشايخه:
سمع بمكة وبمصر من خلق كثير لا يمكن حصرهم، وأكتفي بذكر بعضهم مرتبا إياهم على حروف المعجم مع ذكر تاريخ وفياتهم- إن وجدته-.
1- أحمد بن بهزاد السيرافي، مسند مصر (ت: 346 هـ) .
2- أحمد بن عبد الله بن الحسن، أبو هريرة العدوى (ت: 346 هـ) .
3- أحمد بن محمد بن زياد، أبو سعيد، ابن الأعرابي (ت: 340 هـ) .
4- أحمد بن محمد الصابوني، أبو الفوارس (ت: 349 هـ) .
5- أحمد بن محمد بن عمرو، أبو طاهر المديني (ت: بمصر: 341 هـ) .
6- أحمد بن محمد بن فضالة الدمشقي (ت: بمصر: 339 هـ) .
7- الحسن بن مروان القيسراني.
8- الحسن بن يوسف بن مليح الطرائفي (ت: 340 هـ)
9- سليمان بن داود العسكري (ت: 338 هـ) .
10- عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، أبو سعيد صاحب تاريخ مصر (ت: 347 هـ) .
11- عبد الله بن جعفر بن الورد (ت: 351 هـ) .
12- عبد الله بن محمد بن الخصيب.
13- عثمان بن شعبان، أبو عمرو القرظي الياسري.
14- عثمان بن محمد، أبو عمرو المحدث السمرقندي (ت: 345 هـ) .
13- على بن عبد الله بن أبي مطر الإسكندراني، قاضي إسكندرية ومسندها (ت: 339 هـ) .
16- الفضل بن وهب.
17- محمد بن إبراهيم بن حفص البصري.
18- محمد بن أيوب بن الصموت، الرقى نزيل مصر (ت: 341 هـ)(23/65)
19- محمد بن بشر، أبو بكر العكري الزنبري، مسند مصر (ت: 332 هـ) .
20- محمد بن وردان العامري.
وغير هم [13] .
تلامذته:
قد سمع منه خلق أذكر بعضهم:
1- إبراهيم بن سعيد بن عبد الله، أبو إسحاق الحبال (ت: 482 هـ) .
2- أحمد بن أبى نصر.
3- الحسين بن أحمد العداس.
4- خلف بن أحمد.
5- عبد الرحيم بن أحمد بن نصر البخاري (ت: 461 هـ) .
6- عبيد الله بن سعيد بن حاتم، أبو نصر السجزى (ت: 444 هـ) .
7- عثمان بن سعيد القرظي، أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) .
8- علي بن الحسن أبو الحسن الخلعي صاحب الخلعيات (ت: 492 هـ) .
9- محمد بن سلامة بن جعفر القضاعى (ت: 454 هـ) .
10- محمد بن عبد الله بن علي أبو عبد الله الصوري (ت: 441 هـ) .
وغير هم [14] .
مؤلفا ته:
1- مشيخة، وهي في جزئين كما ذكره الذهبي [15] .
2- كتاب في رؤية الله تعالى وهو هذا الكتاب الذي نقدمه للقراء.
وفاته:
توفي ابن النحاس بمصر في ليلة الثلاثاء، في العاشر أو الثالث عشر من صفر، سنة ست عشرة وأربعمائة [16] .
وعاش اثنتين وتسعين وشهرين.
توثيق نسبة الكتاب:
إن المصادر القديمة لم تشر إلى هذا الكتاب ولا إلى مؤلفه، وكذلك اسم المؤلف لم يذكر على طرة الكتاب، ولكن الشيخ الألباني حفظه الله ذكره في فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية من مؤلفات ابن الأعرابي [17] .
وتبعه فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي [18] .
ولعل السبب أن الكتاب واقع بعد كتاب المعجم لابن الأعرابي برواية ابن النحاس، والأحاديث في أول الكتاب وفي آخره قد رويت من طريق ابن الأعرابي.(23/66)
ولكن بعد التدقيق ظهر لي أن الكتاب ليس لابن الأعرابي، بل لتلميذه عبد الرحمن ابن عمر المعروف بابن النحاس؛ لأن الكتاب يحتوى على ثمانية عشر حديثا من إحدى وعشرين طريقا وهي مروية عن تسعة مشايخ غير ابن الأعرابي وهم:
1- أحمد بن عبد الله بن الحسن، أبو هريرة العدوى فقد روى عنه حديثا واحدا [19] .
2- الحسن بن يوسف بن مليح الطرائفي، روى عنه حديثين [20] .
3- سليمان بن داود أبو القاسم العسكري، روى عنه حديثا واحدا [21] .
4- عبد الله بن جعفر بن محمد بن داود أبو محمد، روى عنه حديثين [22] .
5- عثمان بن شعبان، ابن عمرو القرظي روى عنه حديثا [23] .
6- على بن أحمد بن على الحربي روى عنه حديثا واحدا [24] .
7- محمد بن عبد الله بن محمد بن هاشم الأزدي، روى عنه حديثا واحدا [25] .
8- محمد بن ملاق بن نصر بن سلام العثماني، روى عنه أربعة أحاديث [26] .
9- يحيى بن الربيع بن محمد بن الربيع، أبو الفضل العبدي روى عنه حديثا واحدا [27] وأما ابن الأعرابي فقد روى عنه سبعة أحاديث فقط [28] .
فعرف من هذا أن سبعة أحاديث فقط رويت عن طريق ابن الأعرابي والباقي عن طريق غيره، وهذا يرجع أن الكتاب ليس لابن الأعرابي بل لتلميذه ابن النحاس.
ومن الجدير بالذكر أنه ورد في حديث رقم: 12: "نا أبو القاسم سليمان بن داود- في مسجده بالعسكر سنة ثمان وثلاثمائة"، وأضفت أنا كلمة (وثلاثين) بين القوسين تقويما للنص اعتماد على بقية أسانيد الأحاديث؛ لأن النسخة- فيما ترجح لدي من تأليف ابن النحاس لابن الأعرابي؛ ويؤيد صنيعي هذا أن في الحديث رقم 14 "نا أبو عمرو عثمان ابن شعبان- سنة ثمان وثلاثمائة- وسقطت منه كلمة "وثلاثين"فأضافها كاتب النسخة في الحاشية (1/354) .
وصف المخطوطة:(23/67)
لم أعثر إلا على هذه النسخة الفريدة فقط وهي مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق، مع كتاب المعجم لابن الأعرابي برواية ابن النحاس.
الخط:-
خطها مغربي جيد، وكثير من الكلمات قد استدركت على الحاشية، كما أن شرح بعض الكلمات ذكر على الهامش.
الناسخ:
لم يعرف.
تاريخ النسخ:
سبع عشرة ليلة خلت من صفر من سنة سبع وأربعين وأربعمائة [29] .
عدد الأوراق:
خمس ورقات جاءت بعد كتاب المعجم لابن الأعرابي (250/1.255/1) .
عدد السطور:
18 سطرا في كل صفحة.
عدد الكلمات:
في كل سطر اثنتا عشرة كلمة إلى ثماني عشرة كلمة.
مقاسها:
19 ×35 سم
عملي في الكتاب:
1- حاولت تقويم النصوص بالرجوع إلى مصادر الحديث.
2- وضعت ما أضفته مما تستلزمه سلامة النص بين قوسين هكذا: [] .
3- بينت مواضع الآيات من السور استعملت القوسين هكذا () للآيات.
4- خرّجت الأحاديث، وذكرت أولا اسم المؤلف، ثم اسم الكتاب، ثم الباب، إذا كان مرتبا على الأبواب، والترجمة إذا كان في كتب التراجم، ثم ذكرت أقوالهم إذا وجدت في ذكرها فائدة، ثم ذكرت الجزء والصفحة في المطبوعات والورقة واللوحة في المخطوطات.
وإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فلم أذكر مصادر أخرى إلا إذا كان لذكرها فائدة.
5- حكمت على الأحاديث.
6- ترجمت للرواة الواردين في الكتاب إلا الصحابة والثقات الموجودين في تقريب التهذيب لا بن حجر- إن وجدتها- وضبطت الأسماء والأنساب التي تحتاج إلى ضبط.
7- شرحت الكلمات الغريبة الواردة في الكتاب.
8- أشرت لبدء أوراق المخطوطة واللوحة؛ ليسهل الرجوع إليها؛ ووضعتها بين قوسين ورمزت لوجه اللوحة (1) ولظهرها (2) فمثلا (252/1-252/2) .
9- كتبت مقدمة وجيزة ذكرت فيها ترجمة المؤلف وتوثيقهما نسبة الكتاب إليه.(23/68)
10- أثبت المصادر والمراجع في آخر الكتاب مع ذكر المؤلفين، ومكان طبعها إذا كانت مطبوعة، ومكان وجودها إذا كانت مخطوطة، وفهرست الأحاديث وتركت الفهارس الأخرى؛ لأن المقام لا يتحملها.
الرموز:
نا= حدثنا
ثنا= حدثنا
أنا= أخبرنا
ح= تحويل السند
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله
1- أنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن النحاس قراءة عليه، أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن الأعرابي [30] بمكة في شوال من سنة أربعين وثلاثمائة، نا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، نا وكيع بن الجراح، نا إسماعيل ابن أبا خالد، عن قشي بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم ستعرضون على ربكم عز وجل فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون [31] في رؤيته فان استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " [32] .
2- أنا أبو سعيد بن الأعرابي، نا سعدان بن نصر المخرّمي [33] نا سفيان بن عيينة، نا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه [34] .
3- أنا أبو سعيد بن الأعرابي، نا أبو أمية بكر بن فرقد التميمي [35] نا يحيى ابن سعيد [36] نا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيل بن أبي حازم عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه [37] .(23/69)
4- أنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن الورد [38] حدثني أبو عبد الله عبد ديزويه الرازي سنة ثلاث وثمانين ومأتين [39] نا أبو الحسن سرى بن مغلس السقطي البغدادي [40] نا محوان بن معاوية الفزاري عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال لنا: "ترون هذا القمر؟ ترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضامون (251/1) في رؤيته" [41] .
5- أنا أبو على الحسن بن يوسف بن مليح الطرائفي [42] سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، نا إبراهيم بن مرزوق بن دينا والبصري [43] نا حماد بن سلمة.
ح/ وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن هاشم الأزدي، نا أبو غسان مالك بن يحيى بن مالك، بن يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة.
ح/ وأنا أبو العباس محمد بن ملاق بن نصر بن سلام العثماني، نا يوسف بن يزيد القراطيسي [44] نا أسد بن موسى [45] ، نا حماد بن سلمة.
ح/ وحدثنا أبو هريرة أحمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي العصام العدوي [46] لفظا في المحرم سنة أربعين وثلاثمائة، واللفظ له، نا أحمد بن محمد بن أبى موسى [47] ، نا عمر بن الحسن البصري، نا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ناداهم مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله مواعد يريد أن ينجزها لكم، فيقولون: يا رب أليس قد بيضت وجوهنا، وثقلت موازيننا وزحزحتنا عن النار وأدخلتنا الجنة؟ فيأمر بالحجاب فيكشف، فينظرون إلى وجه الله عز وجل، فما هم لشيء مما أعطوا أقرّ أعينهم من النظر إلى وجه الله عز وجل"، ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس آية 36) الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل " [48] .(23/70)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجح الإعلام للزركلي 358.
[2] حققه الأستاذ شهاب الله جنغ بهادر البستوي وقدمه لنيل درجة العالمية (الليسانس- في الجامعة الإسلامية المدينة المنورة.
[3] يحققه الأستاذ سليم الأحمدي في الجامعة الإسلامية بالمدينة.
[4] بمضمومة، ويجوز فتحها وكسر جيم وسكون مثناة تحت فموحدة وبشدة الياء في آخر المغنى للفتنى، 14.
[5] سير أعلام النبلاء 11/69/2، النجوم الزاهرة 4/263.
[6] المصدران السابقان.
[7] سير أعلام النبلاء 11/69/ 2ز. العبر، 3/122. شذرات الذهب، 3/402.
[8] سير أعلام النبلاء 11/69/2.
[9] توجد صورة من المعجم في مكتبة الجامعة الإسلامية برقم 329-330 وهي مصورة من دار الكتب الظاهرية بدمشق.
[10] سير أعلام النبلاء 11/69/2.
[11] المصدر السابق.
[12] سير أعلام النبلاء 11/29/2.
[13] راجع سير أعلام النبلاء 11/69/2، العبر3/121-122.شذرات الذهب 3/204.
[14] سير أعلام النبلاء 11/69/2
[15] المصدر السابق.
[16] الوفيات للحبال 179/2 (مجموع) سير أعلام النبلاء 11/69/2 العبر 3/122 النجوم الزاهر 4/263. شذرات الذهب 3/204.
[17] ص، 25.
2/478.
[18]
[19] الحديث رقم، 5.
[20] الحديث رقم، 5.17.
[21] الحديث رقم، 12.
[22] الحديث رقم، 10.4.
[23] الحديث رقم،.14.
[24] الحديث رقم، 8.
[25] الحديث رقم، 5.
[26] الحديث رقم، 18.13.9.5.
[27] الحديث رقم: 6.
[28] .الحديث رقم: 17،16،15،7،3،2،1
[29] راجع الصفحة الأخيرة من المخطوطة.(23/71)
[[30 أحمد بن محمد بن زياد أبو سعيد المعروف بابن الأعرابي البصري الصوفي شيخ الحرم في وقته وكان ثقة توفي سنة أربعين وثلاثمائة، وقيل إحدى وأربعين. سير أعلام النبلاء 10/100/1-2. التذكرة 3/152-853. تاريخ دمشق لابن عساكر 2/86/2.
[31] على هامش: يروي تضامون- بفتح التاء وتشديد الميم- ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ومن رواه بضم التاء وتخفيف الميم، ومعناه لا يؤدي بعضكم بعضا في رؤيته راجع النهاية 3/101.
[32] أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد باب ذكر البيان أن الله عز وجل ينظر إليه جميع المؤمنين الخ، عن الحسن بن محمد 167-168 والدارقطني في كتاب رؤية عن شيخين له عن الحسن بن محمد 37/1، وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب السنة باب الرؤية عن عثمان نا جرير ووكيع وأبو أسامة، ثم ساق السند والمتن وفيه زيادة، ثم قرأ (فسبح بحمد ربك) الآية 3/374-375. والترمذي في سننه في باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى عن هناد نا وكيع مع زيادة، وقال هذا حديث صحيح 3/333 وابن ماجة في سننه في المقدمة باب فيما أنكرت الجهيمية بسنده إلى وكيع، وفيه أيضا زيادة 1/63 (177) ، وأحمد في مسنده في سند جرير عن وكيع، وفيه أيضا زيادة 4/365-366 وابن أبي عاصم في كتاب السنة بسنده إلى وكيع، ثم ساق السند والمتن مختصرا 1/193-195 الحديث الصحيح.
[33] سعدان بن نصر بن منصور، أبو عثمان الثقفي المخرّمي، بكسر الراء المشددة، نسبه إلى مخرّم محلة ببغداد قال أبو حاتم: صدوق، وقال: الدارقطني ثقة مأمون. مات سنة خمس وستين ومائتين.
جرح التعديل 2/1/290-291 تاريخ بغداد 9/205-206 تبصير المنتبه 4/1347.
[34] أخرجه الدارقطني في كتاب الرؤية عن شيخين له عن سعدان بن نصر 1/70/1-2 والطبرني في الكبير بسنده إلى ابن عيينة ومروان 2/334 (ح2234) وأيضا رواه مختصرا 2/333 (ح2232) وابن أبي عاصم في السنة بسنده إلى ابن عيينة مختصرا 1/195.(23/72)
[35] بكر بن محمد بن فرقد أبو أمية التميمي قال الدارقطني: ليس بالقوي وذكره ابن حبان في الثقات، وقال محمد بن مخلد: كان شيخا حافظا، وقال مسلمة بن قاسم ثقة.
تاريخ بغداد 7/94، اللسان 2/58.
[36] هو القطان
[37] في سنده بكر بن محمد بن فرقد ولكن أخرجه البخاري في جامعه الصحيح في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة الفجر عن مسدد ثنا يحي 2/52 (573) .
[38] عبد الله بن جعفر بن محمد بن الورد أبو محمد، سمع منه ابن النحاس السيرة، توفي بمصر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
التذكرة 3/883، سير أعلام النبلاء 11/69/2 (ترجمة ابن النحاس) .
[39] كلمة (ومأتين) غير واضحة في المخطوطة.
[40] السري بن مغلس بمعجمة ولام مشددة فمهملة- أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد المشهور صحب معروفا الكرخي اشتهر بالصلاح والزهد والورع مات سنة ثمان وخمسين ومائتين.
اللسان 3/13-14، المغني للفتي: 74.
[41] لم أجد من أخرجه من طريق المؤلف، ولكن أخرجه البخاري في جامعه الصحيح في كتاب مواقيت الصلاة باب فضل صلاة العصر، عن الحميدي ثنا مروان وفيه زيادات 2/33 (ح554) .
[42] الحسن بن يوسف بن مليح- بضم الميم- ابن صالح الطرائفي- بفتح الطاء المهملة والراء والياء بعد الألف وفي آخرها الفاء- أورد له الدارقطني في غرائب مالك، وقال هذا منكر بهذا الإسناد لا يصح وقال العراقي بعد ذكر قول الدارقطني هو المتهم إما عمدا أو وهما وقال الذهبي السيد المسند توفي سنة أربعين وثلاثمائة.
الأنساب 369/1 سير أعلام النبلاء 10/103/1 ذيل الميزان 49/2 اللسان 2/260.
[43] إبراهيم بن مرزوق بن دينار الأموي البصري نزيل مصر ثقة عمي قبل موته وكان يخطئ ولا يرجع مات سنة خمس وسبعين ومائتين- التقريب 1/43.(23/73)
[44] يوسف بن يزيد بن كامل، أبو يزيد القراطيسي- بفتح القاف والراء المهملة، وكسر الطاء المهملة، وسكون الياء بعدها سين مهملة- المصري، صاحب أسد السنة من كبار شيوخ الطبراني، مات سنة تسع وثمانين ومائتين.
الأنساب 445/1. شذرات الذهب 2/202.
[45] أسد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الملك الأموي، أسد السنة صدوق يغرب، وفيه نصب، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين. التقريب 1/63.
[46] أحمد به عبد الله بن الحسن أبو هريرة العدوى كتب ببغداد عن أبي مسلم الكجي وغيره، وبمصر عن أبي يزيد القراطيسي، وكان يورق ويستملي على الشيوخ وكان تقة مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة المنتظم 6/384-385.
[47] أحمد بن محمد بن أبى موسى، أبو بكر الأنطاكي الفقيه، ذكره ابن عساكر في تاريخه ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً 2/1/110/2-11/1.
[48] لم أجد من أخرجه من طرق المؤلف. ولكن أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى عن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون ثم ساق السند والمتن مختصرا 1/163 (ح298) ، وأيضا سنده إلى ابن مهدي عن حماد بن سلمة 1/163 (ح 297) .
والترمذي في سننه في تفسيره سورة يونس عن محمد بن بشار عن ابن مهدي عن حماد، ثم ساق السند والمتن نحوه، وقال: هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة مرفوعا، وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله ولم يذكر فيه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم 4/125، وأيضا في باب ما جاءت رؤية الرب تبارك وتعالى وقال هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة، ورفعه وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله 3/333-334.(23/74)
والدارقطني في كتاب الرؤية بسنده إلى هدبة بن خالد ثنا حماد بن سلمة ثم ساق السند والمتن، وقال حديث صحيح أخرجه مسلم عن القواريري عن عبد الرحمن بن مهدي وعن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون جميعا عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد 97/2.
لاشك أن الحديث صحيح مرفوعا، وحماد بن سلمة أثبت الناس وأعلمهم في ثابت، كما نقل الدارقطني عن يحي بن معين يقول: من خالف حماد بن سلمة في ثابت، ن فالقول قول حماد بن سلمة، قيل له سليمان بن المغيرة عن ثابت؟ قال: سليمان ثبت وحماد بن سلمة أعلم الناس بثابت. كتاب الرؤيةِ 100/1.(23/75)
رسائل لم يحملها البريد
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة هل
رسائلي إليك ستكون كثيرة، وحديثي إليك لن يكون قصيرا، فاعقدي العزم على الصبر وطول السفر، وسيرى معي على هينة وطول أناة. وما أظنني فاعلة غير هذا حين تكتبين إليّ رسائلك الماتعة، وتتحدثين بما أنعم الله عليك في كتابه المبين.
أختي العزيزة:
في رسائل أربع سلفت، كتبت إليك سبع صيغ من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع، وها أنا ذي محدثتك اليوم عن صيغ أخرى جديدة:
أما الصيغة الثامنة فهي: ((ألم تعلم أَنّ…)) ففي هذه الصيغة دخلت أختك همزة الاستفهام على لم النافية الجازمة لمضارع ((علم)) مسندا إلى ضمير المفرد المذكر يليه (أَنَّ) الناسخة للمبتدأ والخبر المؤكدة لمضمون جملتها، وقد وردت هذه الصيغة في ست آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (106) من سورة البقرة.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} الآية (107) من سورة البقرة.
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (40) من سورة المائدة.
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الآية (70) من سورة الحج.(23/76)
الآية الخامسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} الآية (78) من سورة القصص.
الآية السادسة قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} الآية (14) من سورة اقرأ.
وقد تضمنت هذه الآيات بيان قدرة الله تعالى على كل شيء، وعلمه بكل شيء على وجه التوكيد في الآيات الست.
ومعنى همزة الاستفهام مع هذه الصيغة الواردة في هذه الآيات كلها: التقرير، أي قد علمتَ أيها المخاطب أَنّ ... أو قد علم أَنّ ...
وفي الآية الخامسة التي تتحدث عن قارون، تدل الهمزة على التقرير والتوبيخ معاً، تدل على التقرير بمعنى: أن قارون قد علم إهلاك الله تعالى من عاشوا قبله، وتدل على توبيخه أَن لم يعظه علمه هذا، ولم يمنعه من الاغترار بكثرة ماله وقوته.
وفي الآية السادسة، تدل همزة الاستفهام على التقرير والتوبيخ والوعيد جميعا، التقرير بمعنى أن أبا جهل قد علم أن الله تعالى يراه، وعلى توبيخه أَن لم يعمل بما يقتضيه علمه هذا، وعلى الوعيد بالعقاب والعذاب من جراء أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقال: "واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب" [1] .
وإعراب (ألم تعلم) ظاهر، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل من يصلح للخطاب، وأنّ وخبرها في تأويل مصدر سدّ مسدّ مفعول (تعلم) ، وأكد متعلق العلم في الآيات الأربع الأولى اهتماما بشأن الخبر ومزيد عناية به.
أما في الآية الخامسة ففاعل (يعلم) ضمير مستتر يعود على قارون، والواو الواقعة بين همزة الاستفهام و (لم) عاطفة على ما قبل الهمزة، وقد أكد متعلق العلم في هذه الآية لتنزيل قارون منزلة المنكر؛ لأنه لم يعمل بمقتضى علمه.(23/77)
وفاعل (يعلم) في الآية السادسة ضمير مستتر يعود على أبي جهل، وأكد متعلق العلم في هذه الآية لتنزيل أبي جهل منزلة المنكر؛ إذ لم يعمل بمقتضى علمه أيضا.
أختي العزيزة هل:
الصيغة التاسعة من الصيغ التي تدخل فيها أختك همزة الاستفهام على (لم) النافية الجازمة للفعل المضارع هي: ((ألم يعلموا أن..)) ففي هذه الصيغة ترين همزة الاستفهام قد أتبعت ب (لم) النافية الجازمة لمضارع (علم) ، مسندا إلى واو الجماعة، يليه أَنّ الناسخة للمبتدأ والخبر، المؤكدة لمضمون جملتها.
وقد وردت هذه الصيغة في خمس آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} الآية (63) من سورة التوبة.
ومعنى همزة الاستفهام في هذه الآية: الإنكار والتوبيخ؛ الإنكار بمعنى لا ينبغي لهؤلاء المنافقين المخالفة والمعاداة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتوبيخهم على إقدامهم على هذه المخالفة والمعاداة، مع علمهم بالعاقبة الوخيمة، وهي: أن لهم نار جهنم خالدين فيها، وذلك العذاب هو الخزي العظيم.
و (يعلموا) فعل مضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة (وهم فريق من المنافقين) ضمير مبنى على السكون في محل رفع فاعل، و (أَنّ) الأولى حرف توكيد ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، والهاء المتصلة بها ضمير الشأن والقصة مبني على الضم في محل نصب، اسمها والجملة الشرطية كلها: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} في محل رفع خبر أن، والمصدر المؤول من أن وخبرها في محل نصب سدّ مسدّ مفعول (يعلم) ، والتقدير ألم يعلموا وجوب نار جهنم لمن يحادد الله ورسوله.(23/78)
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} الآية (78) من سورة التوبة.
معنى الهمزة في هذه الآية الإنكار والتوبيخ.
ينكر الله سبحانه وتعالى على المنافقين كذبهم، وبخلهم، إعراضهم، وإخلافهم الوعد، ويوبخهم على ذلك كله بعد أن عاهدوه سبحانه وتعالى أن يتصدقوا، وأن يكونوا من الصالحين إن أعطاهم من فضله، وقد أعطاهم.
ويوبخهم أيضا على ما كانوا يخفونه من نفاق، وما يتناجون به من طعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتنقيص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعييب المؤمنين.
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية (104) من سورة التوبة.
ومعنى الاستفهام بالهمزة في هذه الآية هو الأمر؛ أي ليعلموا، فإن كان الضمير (واو الجماعة) في يعلموا يعود على المتوب عليهم فالغرض حينئذ تأكيد قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم.
وإن كان المراد بواو الجماعة غير المتوب عليهم ممن لم يتوبوا، كان الغرض حينئذ من هذا الأمر حثهم على التوبة والصدقة وتهييجهم إلى الإقدام عليها. وقد مضى إعراب هذه الصيغة.
الآية الرابعة قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} الآية (80) من سورة يوسف.(23/79)
حين يئس إخوة يوسف من رد أخيهم إليهم، اعتزلوا يتناجون ماذا يفعلون، ويبدو من كلام كبيرهم أنهم اعتزموا العودة إلى أبيهم، تاركين أخاهم عند يوسف عليه السلام فقال كبيرهم منكرا عليهم: ألم تعلموا أن.... الآية. فمعنى الهمزة في هذا الاستفهام الإنكار، ينكر كبير إخوة يوسف على إخوته أن يعودوا إلى أبيهم بدون أخيهم، وهم يعلمون أن أباهم قد أخذ عليهم موثقا قال لهم {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (الآية (66) من سورة يوسف) .
ومن أجل هذا الموثق قال كبيرهم: لن أبرح هذه الأرض، أرض مصر التي أنا فيها الآن، إلا بما يجعلني في حلّ من موثق أبي، أو يحكم الله إلي- وهو خير الحاكمين- بحكم لا يؤدي إلى نقض ذلك الموثق.
الآية الخامسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية (52) من سورة الزمر.(23/80)
الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يعطيهم نعمة من عنده فيقولون: إنما أوتيت ذلك على علم مني بوجوه المكاسب والمتاجر، أو على علم منى بأني سأعطاه لما فيَّ من فضل واستحقاق، أو على علم من الله أني أستحق هذا وأني أهل له. ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك هذا القول الدال على إعجاب بالنفس، وتعاظم مفرط وجهل بعيد، ويوبخهم على جهلهم أن الله سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، وإن لم يكونوا من ذوي الحيلة والقدرة على كسبه، وأنه تعالى يضيق الرزق على من يشاء من عباده، وإن كانوا من ذوي الخبرة في وجوه الكسب، فالله سبحانه وتعالى يبسط الرزق ويقبضه لحكمة يعلمها وحده، وليس السبب عقل عاقل ولا جهل جاهل، يدل على ذلك أنا نرى كثيرا من العقلاء في ضيق، وكثيرا من الجهلاء في سعة.
أختي العزيزة هل:
أما الصيغة العاشرة من هذه الصيغ التي تدخل فيها أختك همزة الاستفهام على لم النافية الجازمة للمضارع فهي: ((ألم يسيروا ... )) . وقد وردت هذه الصيغ في سبع آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآية (109) من سورة يوسف.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الآية (46) من سورة الحج.(23/81)
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . الآية (9) من سورة الروم.
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} الآية (44) من سورة فاطر.
الآية الخامسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} الآية (21) من سورة غافر.
الآية السادسة قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (83) من سورة غافر.
الآية السابعة قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} الآية (10) من سورة محمد.(23/82)
وتتضمن هذه الآيات الكريمة حث كفار مكة الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، على السير في الأرض لينظروا عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فقد دمّر الله عليهم بذنوبهم، وكانوا أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوفر عامرانا للأرض، فليعتبروا بمن قبلهم، قبل أن يصيبه ما أصابهم، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، في السموات ولا في الأرض.
ومعنى همزة الاستفهام في هذه الصيغة: (ألم يسيروا ... ) ، الإنكار والتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ألاّ يسيروا في الأرض سيراً يصحبه التدبر والاعتبار، والتفكير في عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبلهم، ويوبخهم على ذلك.
والفاء والواو اللتان جاءتا بعد همزة الاستفهام في هذه الصيغة هما حرفا عطف على ما قبل الهمزة، فكان من حقهما أن يتقدما عليها، ولكن همزة الاستفهام لها الصدارة في جملتها، فتقدمت عليها، وأخذت مكان الصدارة. والعطف على ما قبل الهمزة هو مذهب سيبويه والجمهور.
ويرى فريق من النحويين على رأسهم الزمخشري أن الفاء والواو في مثل هذا الموضع تعطفان على مقدر يقتضيه المقام، وقد قدره أبو السعود في تفسيره فقال: ((أغفلوا فلم يسيروا)) (جـ6/ص111) . ((أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا)) . (ج 7/ص52) وهو تقدير متكلف لا يحتاج إليه المعنى، ولا يستدعيه الأسلوب.
ويرى هذا الفريق أن كلاّ من الهمزة والعاطف الذي بعدها قد جاء في مكانه الأصلي وليس هناك تقديم ولا تأخير. وقد تقدم الكلام مفصلا في ضعف هذا الرأي.
أختي العزيزة: هل:
في ختام هذه الرسالة أحب أن أنبهك على أشياء:(23/83)
من هذه الأشياء أن متعلق العلم في آيات الصيغة الثامنة: ((ألم تعلم أن ... )) وفي آيات الصيغة التاسعة: ((ألم يعلموا أن....)) قد جاء مؤكدا بأن، ولا غرو في ذلك، فهو يتضمن صفات الله سبحانه وتعالى: وأفعاله جلّ وعلا، وقد جاء التوكيد اهتماماً بها ومزيد عناية.
ولعلك تلاحظين أن الفعل المضارع (يعلم) جاء متعديا بالباء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، وقد جاء هذا التعدي بالباء في آية أخرى وهي: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} الآية (26) من سورة يسن. ولا أعلم أن هذا الفعل قد تعدى بالباء في غير هاتين الآيتين من آيات القرآن الكريم. وقد تسألين: لماذا تعدى هذا الفعل بالباء في هاتين الآيتين، وهو الفعل القويّ الذي يتعدى إلى معموله مباشرة دون حاجة إلى هذه الباء، من الحق أن يقال إنه من باب التفنن في التعبير، ولكن نفسي غير مطمئنة إلى الاكتفاء بهذا، وإن كان فيه الكفاية.
أحس- والحس يخطئ ويصيب- أن هذه الباء قد جاءت لتقوية الصلة بين الفعل ومعموله وتوكيدها، والمقام في هاتين الآيتين يستدعى ذلك: فالآية الأولى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} تتحدث عن أبي لهب الذي يعمل عمل من ينكر علم الله بأنه يراه ويرى ما يصنع، والآية الثانية: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تحكي قول الذي آمن بالرسل حين قيل له ادخل الجنة، فقد كان حريصا على أن يعلم قومه الذين كفروا بالرسل، وعنفوه على إيمانه بهم، أن يعلموا بما غفر الله له، وبدخوله الجنة، ليتبينوا أنه كان على حق، وأنهم كانوا على باطل، وليزدادوا حسرة على حسرة وندامة على ندامة، ولشيء آخر غير ذلك؛ هو ما ركب في طباع البشر من أن من أصاب خيرا في غير وطنه ودّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم.(23/84)
هذا، ولعلك قد لاحظت في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أن مفعول (يرى) قد حذف، ولم يقل (يراه) ؛ هذا الحذف يمكن أن يقال فيه بحق: إنه للتناسب؛ تناسب أواخر الآيات. وفي هذا التناسب، خفة على اللسان وجرس جميل في الآذان، وما أكثر ما جاء هذا في القرآن الكريم.
على أنني أريد أن أزيد على ما تقدم أن هذا الحذف كان أيضا للدلالة على شمول الرؤية وإطلاقها، وأنها ليست مقصورة على روية أبي لهب، وما يصنع، فالله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ومن الأشياء التي أحب أن أنبهك عليها هذا الضمير الذي جاء اسم لأن الواقعة بعد ((يعلموا)) في قوله تعالى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} .
لقد اصطلح أهل النحو على أن يسمّوا هذا الضمير ضمير الشأن، أو ضمير القصة وهو ضمير مبهم لا يتقدم عليه مرجع يزيل إبهامه، فهو لهذا يثير النفس ويبعث فيها الرغبة، والتطلع إلى ما بعده، فإذا جاء ما بعده يوضع معناه، ويزيل إبهامه؛ تلقته النفس في لهفة واستقبلته على شوق، فتعيه على غير شرود ذهن، وعلى حضور قلب، ويستقر في أعماقها على مكنة وثبات.
ولذلك يؤتى بهذا الضمير بين يدي الجمل التي تشتمل على معان عظيمة، أو أحكام جديرة بالتذكير والتحذير، ومعاداة الله ورسوله ذنب ليس بعده ذنب، وجزاؤهما عذاب جهنم الذي لا يزول. ومثل هذا حقيق بأن يعلم، خليق بأن يفهم، قمين بأن يمهّد له بهذا الضمير، ضمير الشأن، الذي يدلّ على أن ما بعده مهم له شأن.
ومن هذه الأشياء: هذا الضمير الذي جاء بعد اسم الجلالة وقبل الفعل المضارع (يقبل) في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .(23/85)
فأنا مع الذين يرون أن هذا الضمير هو ضمير الفصل، وإن جاء بعده فعل مضارع، وأنه يفيد التخصيص، أي أن قبوله التوبة، وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره، ويؤيد ذلك ما جاء في ختام هذه الآية واصطلح علماء البلاغة على تسميته "تذييلاً"وهو:
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فالضمير (هو) في هذا التذييل ضمير الفصل بلا منازع، وإفادته التخصيص قائمة لا خلاف فيها، والتذييل مؤكد لمضمون الجملة قبله. وفي هذا التأكيد قرينة على أن ما قبله يفيد التخصيص.
أختي العزيزة: هل:
يكفيني ما كتبت، ويكفيك ما قرأت. وأسأله سبحانه وتعالى أن يعين على رسالة قادمة أكتبها إليك يكون فيها خير وإحسان.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فتوحات الإلهية جـ4 ص563(23/86)
أداء الأمانات والحكم بالعدل
أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية
يقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء: الآية 58) .
مناسبة الآية لما قبلها:
كانت الآيات في التنديد بأهل الكتاب وإظهار بعض مساوئهم، والتعجيب من حالهم؛ إذ هم أهل كتاب، ثمّ هم يسفون إسفاف أهل الجهل والضلال، حتى إنهم فضلوا أهل الوثنية -كفار قريش- على أهل الدين الحق والتوحيد الخالص محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ قالوا لكفار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، وذلك لما سألهم بعض زعماء قريش عن أيّ الفريقين أهدى ...
ولو أدى أهل الكتاب الأمانة التي اؤتمنوا عليها وهي البيان للناس، وعدم كتمان الحق، لما جحدوا نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كفروا به وبالدين الحق الذي جاء به، ولكن خانوا أمانتهم، وجاروا في حكمهم، فكتموا نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكموا بتفضيل الباطل على الحق، والكفر على الإيمان، والعياذ بالله تعالى، فناسب أن يذكر الأمر بأداء الأمانات، والحكم بالعدل، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ} فكان وجه المناسبة واضحًا قويًا بين الآيات.
سبب نزول الآية:(23/87)
ما هناك حاجة إلى ذكر سبب نزول الآية بعد بيان اتصال الآيات ببعضها واتحاد معناها. بيد أن أكثر أهل التفسير يذكرون هنا حادثة مفتاح الكعبة. وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم له من عثمان بن طلحة ورده إليه بعد دخوله الكعبة وخروجه منها يوم فتح مكة المكرمة، لأن سياق القصة يقول: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت وهو يتلو أية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وأعطى المفتاح لعثمان، وابن عمه شيبة وقال لهما [1] : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم. فظن أن الآية نزلت في هذه الحادثة والرسول صلى الله عليه وسلم في البيت فخرج يتلوها. غير أنه ليس لازما أن تكون نزلت بالبيت، لأن قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بعد خروجه من الكعبة قد تكون من باب التمثل بالآية والاستشهاد بها على رد الأمانات، وإن كانت الآية قد نزلت قبل في سياق السورة الطويلة سورة النساء التي منها هذه الآية. كما أنه لا مانع أن تكون الآية قد نزلت في هذه الحادثة أثناء وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الكعبة وخرج يتلوها بياناً لحكم رد المفتاح إلى عثمان وابن عمه وقد أخذه منهما على أساس أنه أمانة مؤداة كما جاء في ألفاظ القصة، ثم وضعت الآية في الموضع الذي يناسبها من السورة.(23/88)
ولعل القراء الكرام يودون سماع قصة المفتاح فنورد لهم بعض ألفاظها هنا فنقول: ذكر صاحب تفسير المنار رحمه الله تعالى: أن صاحب كتاب لباب النقول قال: أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن أبى طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح! فلما بسط يده إليه، قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكفَّ عثمانُ يدَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتِ المفتاح يا عثمان،فقال هاك أمانة، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان ابن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} حتى فرغ من الآية. وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال نزلت هذه الآية في عثمان بن أبي طلحة أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح، قال: وقال عمر ابن الخطاب ما سمعته يتلوها قبل ذلك. قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة اهـ.
مباحث الألفاظ:
إن: حرف توكيد ونصب، توكيد يؤكد به الخبر الذي تضمنته الجملة التي دخل هو عليها. ونَصْب أي ينصب الاسم الذي بعده. ويرفع الخبر لفظا إن كان مفرداً، أو حكماً إن كان جملة كما هو هنا (يأمركمْ)
الله: هذا هو اسم الجلالة الأعظم، وهو عَلَمُ على ذات الربّ تبارك وتعالى، فيُنادى به ويُدعى فيقال يا الله، فيجيب سبحانه وتعالى.
يأمركم: الأمر: الطلب على وجه الاستعلاء، فالله تعالى هو الآمر، والعباد هم المأمورون، والله تعالى هو الغالب القاهر والعباد هم المغلوبون المقهورون.
فلذا كان طلبه تعالى منهم أداء الأمانات والحكم بالعدل أمراً يجب أن يطاع فيه.(23/89)
أنْ: حرف مصدر ونصب. سميّت المصدريّة لأنها تسبك مع الفعل الذي دخلت عليه بمصدر فقوله: أن تؤدوا الأمانات، يصح سبك أَنْ والفعل بمصدر فيصبح الكلام: تأدية الأمانات، أو أداء الأمانات. ونسبت إلى النصب لأنها تنصب المضارع بعدها فيُفْتَحُ إن كان مجرداً من ألف الاثنتين، أو واو الجماعة، أو نون المخاطب، وتحذف النون إن كان متصلا به ما ذكر من ألف الاثنين.. الخ.. كما هو الآية: أن تؤدوا. فحذفت نون تؤدون وهى نون الرفع المتصلة بواو الجماعة. فأصبحت تؤدوا
تؤدوا: معناه: تعطوا ما ائْتُمِنْتُم عليه وتُقْضُوهُ صاحبَه الذي أمَّنكم عليه، وائتمنكم على حفظه.
الأمانات: جمع أمانة وهي كل ما ائتمن عليه الإنسان ليحفظه ويؤديه إلى من ائتمنه عليه وقت الطلب. ويدخل في الأمانات كل ما تعهد العبد بأدائه لله تعالى من سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة أمانة. وأحاديث تجرى في المجلس أمانة وفي الخبر المجالس بالأمانات.
إلى: حرف جر يجر الاسم ويخفضه نحو ذهبت إلى المسجدِ فالمسجد مجرور بمعنى مخفوض بالجرة التي هي الكسرة. ويقال فيها حرف جر وغاية لأن المجرور بها هو منتهى المطلوب وغايته.
فغاية الذهاب المسجد. وغاية أداء الأمانات أهلوها.
أهلها: أصحابها المستحقون لها استحقاقا شرعياً لأنها لهم وهم مالكوها؛ ولذا لم يقل أصحابها بل قال: أهلها، لما في معنى (أهل) من الأهلية التي هي الاستحقاق بجدارة وتأهيل وثبوت.
وإذا: الواو حرف عطف، إذ عطفت بها جملة الحكم بالعدل على جملة أداء الأمانات. و (إذا) شرطية، وهى ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه.
حكمتم: قضيتم بما يمنع أحد الخصمين من صاحبه ويكفه عنه، ولا يتم ذلك إلا إذا كان القضاء بالحق.
بين: ظرف بمعنى وسط منصوب على الظرفية.(23/90)
الناس: لفظ دال على جمع كلفظ قوم ورهط. وَاحِدُهُ من غير لفظه وهو إنسان، ويجمع إنسان على أنَاسِيّ وهم البشر. خلاف الحيوان والجان والملائكة.
أن تحكموا بالعدل: أنْ: حرف تقدم معناه.
تحكموا: تقدم معناه أيضا.
بالعدل: الباء حرف جر ومعناها هنا الآلة بمعناها أن ما دخلت عليه فيه معنى الآلة التي يكون بها الشيء فقولنا ذبحت بالسكين: السكين آلة الذبح، وحكمت بالعدل: العدل آلة الحكم. والعدل ضد الميل والجور، وهو إذًا الإنصاف والمساواة بإعطاء صاحب الحق حقه، ومنع الآخرين من الجور والظلم.
إنَّ: تقدم معناها.
الله: تقدم معناه أيضا.
نِعِمَّا: أصل الكلمة نِعْمَ ما. فنعم كلمة مدح واستحسان، مشتقة من النعمة التي هي الخير وما يحسن بالإنسان ولا يسوؤه. وما نكرة بمعنى شيء. ركبّت مع بعضها بعضا فأصبحت نِعمَّا. ودخلها إعلال بتسكين الميم الأولى وإدغامها في الثانية، وكسر العين بعد تسكين الميم حتما لا يلتقي ساكنان.
يعظكم: يأمركم. أي نعم شيء يأمركم الله به: (أداء الأمانات والحكم بالعدل) .
به: الباء حرف جر: الضمير يعود على الشيء المأمور به وهو أداء الأمانات والعدل في الحكم بين الناس.
إنَّ: حرف تقدم معناه.
الله: تقدم معناه أيضا.
كان سميعاً بصيراً: كان فعل ماض ناقص يُخبر به عن الماضي المنقطع، والمستمر إلى زمن التكلم وما بعده. يرفع الاسم وينصب الخبر، واسم كان هنا ضمير مقدر فيها تقديره هو، يعود إلى الله تعالى، وسميعا بصيراً خبران عن اسم كان. ومعنى السميع ذو السمع الكثير، والبصير ذو الأبصار الكثير أيضا، لأن صيغة فعيل المعدولة عن فاعل تكون للمبالغة في الكثرة فهي أعظم من سامع، ومبصر.
معنى الآية الإجمالي:(23/91)
يخبر تعالى أنه يأمر عباده المؤمنين بأداء الأمانات إلى أهلها الذين ائتمنوهم عليها، وبالعدل في أحكامهم إذا هم حكموا بين الناس في كل شيء حكموا فيه. كما يخبرهم أن ما أمرهم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل هو أمر حسن، لهم فيه خير عظيم إذ عليه تتوقف سعادتهم وهناؤهم في دنياهم وأخراهم. وحفزًا لهم على قبول أمره وامتثاله لما فيه من الخير الكثير أخبرهم أنه سبحانه وتعالى سميع لما يقولون بصير بما يعملون، يعلم منهم أماناتهم، وخياناتهم، وعدلهم، وجورهم. وسيترتب جزاءهم على كسبهم، ويجزيهم به إن خيراً فخير وإن شرَّا فشر.
خَطَر هذه الآية:
إن هذه الآية الكريمة: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الخ ... ذات خطر عظيم على الهيئة البَشرية كلها: لأن قوام الحياة كلها على أداء الأمانة، والحكم بالعدل، ولذا قال بعضهم: هذه الآية والآية التي بعدها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} عليهما قيام الدولة الإسلامية، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا، ولما احتيج في نظام الدولة إلى غيرهما.(23/92)
وبيان ذلك: أن الأمانة لفظها يشمل كل ما ائتمن الله تعالى عليه عباده المؤمنين من سائر التكاليف؛ وهى أعمال القلوب والألسن والجوارح، فإذا أدى كل فرد ما التزم به مما ائتمنه الله تعالى عليه استقامت الحياة للناس كلهم وسعدوا أجمعون. وبما أن الضعف فطرى في الإنسان {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} فإن وجود ظلم أو حيف من بعض الأفراد من أهل الأمانات ضروري حسب طبيعة الحياة الإنسانية، فإذا وجد الحكم العادل وكان خلقا لكل مؤمن، فما يحكم أحدٌ في شيء إلا تحرى العدل وحكم به، تلافى المؤمنون ذلك الضعف في حياتهم الإيمانية، فكملوا وسعدوا. والكمال والسعادة في الدنيا آية الكمال في الآخرة والسعادة فيها. كما أن النقص والشقاء في الدنيا علامة الشقاء والنقص في الحياة الآخرة.
عنايَة الشارع برعاية الأمانة والعدل:
لما كانت الحياة السعيدة وهي الآمنة المطمئنة لا تتوفر إلا في أجواء الأمن والعدل الكاملين، كانت عناية الشارع بهذين الخُلُقين كبيرةً جداً، ففي القرآن الكريم، تذكر الأمانة في موضع منه،وأنها عامة في سائر التكاليف الشرعية، فكل شيء في حياة المؤمن أمانة يجب رعايتها "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"فالمؤمن مسئول عن قلبه لا يسمح للشيطان أن يحتله عليه فيفسده عليه ولا يخرج منه، مسئول عن بدنه بكل حواسه لأنه الآلة التي بها يعبد ربه، فإذا فرَّط في جزء منه تعطلت المهمة التي خلق لها وهى العبادة. وموضع هذه الآية المفيدة لعموم الأمانة هي قوله تعالى من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .(23/93)
كما تذكر الأمانة في موضع آخر من القرآن وأنها أحد الأسباب القوية في تطهير الروح وتزكية النفس من داء الشح ومرض الهلع. وذلك من سورة المعارج. كما ذكرت في سورة المؤمنون وأنها أحد موجبات الجنة ومقتضيات دخولها والأسباب المورثة لها. وفى السنة النبوية تصريحات خطيرة في شأن الأمانة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم. "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد وابن حبان وغيرهما وعلم عليه بالصحة في الجامع الصغير. ومعناه ظاهر، فإن الذي لا يحفل بالأمانة ولا يهتم برعايتها حتماً سيؤدى به ذلك شيئاً فشيئاً حتى يسلب الإيمان. والعياذ بالله تعالى، لأن المعاصي بريد الكفر كما يقولون، وهو الواقع.. وكمضيع الأمانة ناكث العهد فإن نكث العهود والاستمرار على ذلك لم يبق للعبد ديناً يدين به الله تعالى، وذلك لعدم احترامه لالتزاماته مع الله ومع الناس. وما دام لم يلتزم لله بطاعة، ولا لعباده بحق، فماذا بقى له من الدين؟ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُنْ من خانك" [2] . فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأذن للمؤمن أن يعاقب من خانه بخيانة مثل خيانته، وذلك خشية أن يؤدي استعمال الخيانة ولو مرة واحدة وقصاصا أيضا لا ابتداء، خشية أن يؤدي إلى أن تصبح الخيانة خلقا للمؤمن فيسلب إيمانه ويهلك.(23/94)
هذا في الأمانة. أما ما جاء في العدل. فهو أعظم. فمن سورة الأنعام يقول تعالى في الوصايا العشر: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} فهو تعالى يأمر بالعدل في القول، وهو يتناول الأخبار، فيلتزم المؤمن في أخباره بالصدق المنافي للكذب، ويتناول الشهادات، فيلتزم المؤمن فيها بالعدل فيؤديها كما تحملها فلا يحرفها ولا ينقص فيها ولا يزيد، كما لا يخفى شيئا ولا يكتم آخر منها. ويتناول الأحكام إذ من شأنها تصدر بالقول فيلتزم الحاكم العدل في حكمه ولو حكم على نفسه أو أقرب الناس إليه.
ومن سورة (ص) ينادى تعالى عبده داود ويذكره بما مَنّ عليه به من نعمة الدولة والسلطان ويأمره بالعدل في الحكم فيقول: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
ومن سورة الحجرات يأمر الله تعالى المؤمنين بالعدل في الصلح إذا أصلحوا بين المختصمين ويأمرهم بالعدل في الحكم ويرغبهم فيه بذكر حبه لأهله فيقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
ومن أجلَّ ما ورد في السنة في شأن العدل وفضله وفضل أهله- جعلني الله وإياكم من أهله- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا". رواه مسلم وأحمد والنسائي.(23/95)
فأي ترغيب أعظم، وأي شرف أجل وأكبر كما هو في العدل وأهله. إن أهل الإقساط والعدل على منابر من نور، وأين؟ إنهم على يمين الرحمن، فأي كرامة أكبر من هذه الكرامة؟!
وهذا وحده كاف في الدلالة على أهمية العدل وشرفه وشرف أهله. ومن هنا قدمنا القول بأن جماع صلاح الدنيا والآخرة والسعادة فيهما، هو في أداء الأمانات، والعدل في الأحكام.
وأخيرا، من الأحكام العملية في هذا الباب أن من ائتمن على شيء ولم يفرط فيه بأيّ وجه من أوجه التفريط، ثم ضاع منه بدون رضاه. فلا يلزمُهُ أداؤه شرعاً ولا أدباً. كما أن من أجتهد في إصابة العدل والحق وكان من أهل الاجتهاد فعلا، ثم لم يصب الحق والعدل في قوله أو حكمه أو فعله بأن أخطأ فلا إثم عليه، إذ لا يؤاخذ الله العبد إلا بفعله أو قوله الإرادي الاختياري. وفي الحديث "من اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده" ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عثمان وشيبة أبناء عم، إذ عثمان هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري أسلم في الهدنة مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما شيبة فهو ابن عثمان بن أبي طلحة، مات عثمان بن أبي طلحة في غزوة أحد مشركا إذ كان حامل لواء المشركين فيها. وبقيت السدانة في أولاد شيبة إلى يومنا هذا
[2] رواه أحمد وأهل السنن وهو صالح للاحتجاج.(23/96)
بحث في صيغة أفعل وبين نحويين واللغويين واستعمالاتها في العربية
لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد النماس
المدرس بكلية اللغة العربية –جامعة الأزهر
(الحلقة الثالثة)
تعقيب على بعض المواد
هراق
قال ابن درستويه في كتابه تصحيح الفصيح [1] : وقد غلط ثعلب في وضعه قولهم: هرقت الماء في هذا الباب (باب فعلت بغير ألف) ؛ لأنه ترجمه بباب فعلت بغير ألف، وإنما هرقت من باب أفعلت بالألف عند جميع النحويين [2] ، وإنما هذه الهاء التي في هرقت بدل من الألف التي تكون في أفعلت، لأن أصل هرقت أرقت [3] ، فعل معتل العين من الواو، وأصله أروقت؛ لأنه من قولنا راق [4] الماء يروق، وأروقته أنا، ولكنه لما اعتلت الواو في (قولنا) راق يروق وجب أن يعتل في الرباعي أيضا، فصارت ألفا وانتقلت فتحتها إلى الراء فصارت أراق، فلما كانت هذه الكلمة مما يكثر استعماله في الكلام، استثقلت الهمزة في أولها فأبدلت منها الهاء؛ لأنها ألين كما قالوا: هياك في إياك ولهنك في (لأنك) [5] وهذه الهمزة التي في أراق تسقط في مضارعه لئلا تجتمع همزتان فيقول: أنا أريق وأصله أؤريق [6] ، فمن العرب من يزيد بين حرف المضارعة وبين الراء هاء ساكنة عوضا من الهمزة التي تسقط لأن الهاء ليست تستثقل مع الهمزة فيقولون أنا أهريق [7] . وزعم سيبوبه أن هذه الهاء عوضٌ من ذهاب حركة العين المعتلة، وإنما قال ذلك لأنهم زادوا الهاء في الماضي أيضا فقالوا: أهراق ولم تحذف من الماضي همزة فتكون عوضا منها فلما جرى ذلك في الماضي، والمستقبل جعل علتهما واحدة، وشبهها بالسين التي في اسطاع يستطيع [8] إنما هي من أطاع يطيع، فمن العرب من يقول في المستقبل: يهريق فيفتح الهاء على فتحة الهمزة التي حذفها؛ لأنها مفتوحة ومنهم من يقول: يهريق. فمن حركها فلا شك في أنه جعل لها الهاء عوضا من الهمزة، ومن أسكنها فعلى ما قاله سيبوبه.(23/97)
وأما الهاء التي في الفعل الماضي فلا يحركونها مع الهمزة في قولهم: أهراق، لأنها ليست ببدل من الهمزة، ومن جعل الهاء في هراق بدلا من الهمزة التي في أراق [9] ... أبدلها أيضا في الأمر منها فقال: هرق كما قال الراجز (رؤية) .
يأيها الكاسر عين الأغضن
والقائل الأقوال ما لم يلقِني
هرق على خمرك أو تبين
فتوهم ثعلب أن هاء هرقت وهاء هرق في الأمر من نفس الكلمة، فأدخل هرقت في باب فعلت بغير ألف، وهو خطأ.
وقف وأوقف
قال ابن درستويه [10] وكذلك قوله: وقفت الدابة، وقفت وقفا للمساكين، وقفت أنا، لا يجوز أن يكون الفعل اللازم من هذا النحو، والمجاوز على لفظ واحد في النظر والقياس؛ لما في ذلك من الإلباس وليس إدخال الإلباس في الكلام من الحكمة والصواب، وواضع اللغة عز وجل حكيم عليم، وإنما اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاوز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين، أو أحدهما ضد الآخر لما كان في ذلك إبانة، بل كان تعمية وتغطية، ولكن قد يجيء الشيء النادر من هذا لعلل، كما يجيء فعل وأفعل فيتوهم من لا يعرف العلل أنهما لمعنيين مختلفين، وإن اتفق اللفظان فالسماع في ذلك صحيح عن العرب والتأويل عليهم خطأ، وإنما يجيء ذلك في لغتين متباينتين، أو لحذف واختصار وقع في الكلام حتى اشتبه اللفظان وخفي سبب ذلك على السامع فتأوّل فيه الخطأ وذلك أن الفعل الذي لا يتعدى فاعله إذا أصبح إلى تعدية لم يجز تعديته على لفظه الذي هو عليه حتى يغير إلى لفظ آخر.
ومما يدل على أن الأصل في وقف ما ذكرنا أنهم يقولون:-(23/98)
ما أوقفك هاهنا؟ [11] بالألف، ويجدونه أحسن وأفصح عندهم من قولهم: ما وقفك هاهنا، وهو أكثر استعمالا منه فالأصل في وقفت أن يكون غير متعد بنفسه إلى مفعول مثل ثبت ولبثت، وألا يتعدى إلا بزيادة قبله أو بعده أو غير ذلك، فيقال أوقفته أو وقفت به أو وقفته بالتشديد، ثم يجوز حذف الجار بعد ذلك لما ذكرنا من وجوب التخفيف وكثرة الاستعمال، وطول معرفته واعتياده؛ كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِم} لأنه بمعنى حبسوا أو محبوسون.
ثم استطرد يفسر هذه المادة فقال: [12] وأما قوله: (أي ثعلب) وقفت الدابة أقفها فمعناه: حبست الدابة عن السير، وكذلك وقفت وقفا للمساكين أي حبسته عليهم، وكذلك وقفت أنا أي احتبست عن الشيء، أو المضي، وثبت مكاني قائما، واسم فاعله واقف، ومفعوله موقوف، ومصدرها لا يتعدى منه الوقوف. ومصدر المتعدى الوقف.
غلقت وأغلقت
قالت ثعلب في فصيحة تقول: أغلقت الباب فهو مغلق، وأقفلته فهو مقفل، فإن معناه: شددته بالغلق وأوثقته وارتجته، وأما أقفلت فمعناه أوثقته بالقفل.
والعامة تقولهما بغير ألف، وهو خطأ.... ففي كتاب الأفعال لا بن القطاع [13] " غلقت الباب غلقا، لغة، وصرح ابن دريد بأن البصريين لا يقولون إلا أغلقت، ونص على غلقت، قال ولم يجيزوا غلقته البتة...."
وقد أثبت الشاعر أبو الأسود الدؤلي غلق الثلاثي في قوله:
ولا أقول لقدر القوم قد غليت
ولا أقول لباب الدار مغلوق(23/99)
وإنَّما كان على أفعل؛ لأنه بمعنى أوثقت وأحكمت وأوصدت وارتجت، أي جعلت عليه الغلق أو القفل، ومعناها راجع إلى قولهم: غلق الشيء يغلق غلقا وأغلقه غيره إغلاقا يالي قولهم: قفل الشيء يقفل قفولا وأقفله غيره إن شئت من الرجوع إلى القافلة، إن شئت من اليبس الذي ينال المسافر في جلده يقالا قد قفل جلده أي يبس [14] .
عتق وأعتق [15]
هذان من باب فعل وأفعل بمعنى فعتق الشيء أي صار حرا أي كريما.
ويقال لكل كريم من الخيل وغيره عتيق، ولذلك سميت الجارية المخدرة عاتقا، والخمر عتيق، وسميَ الماء العتيق، والتمر العتيق، وثوب عتيق ووجه عتيق أي كريم أو جميل وكل شيء قديم يسمى عتيقا أيضا، وذلك قيل للبيت الحرام العتيق قال الله عز وجل:
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وقال أيضا: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وامرأة عتيقة أي جميلة أو كريمة أو نجيبة.
وقال عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد
إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
وأما أعتق فاسم فاعله معتقا ومفعوله معتق (بفتح التاء) ، ومصدره الإعتاق....
والعامة تقول: عتقت الغلام بغير ألف وهو خطأ.
منى وأمنى
أمنى الرجل فهو يمني من المني، فمعناه أنزل فهو ينزل: وذلك إذا خرج منه الماء الدافق قال الله عز وجل: {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} والمنيّ مشدد الياء اسم على فعيل، وقد أمنى الرجل يمني إمناء، وبعض أهل اللغة يجيز منى بغير ألف كأنه على لغتين، وانظر اللسان فمعنى منى سالَ ومعنى أمنى أسال، وقد روى أن منى التي بعرفات إنما سميت منى لأن الدماء تمنى بها أي تسال إذا ذبحت النسك.
أيديت ويديتَ(23/100)
قولك: أيديت عند الرجل، يدًا، فمعناه أسديت إليه معروفا [16] ، وأنعمت عليه وهو فعل مشتق من اليد، وهي جارحة من الجوارح، فهو اشتقاق من الأعيان، فليس اسمها بمصدر تتصرف منه الأفعال، ولكن صرف منه ذلك على الاستعارة والتشبيه بالمصادر؛ لأنه لما جعل اسما للإسداء والإنعام على الاستعارة؛ لأنهما لا يكونان إلا بهذه الجارحة، فمعنى أيديت أي اتخذت عنده يدا.
والنعمة تسمى يدا، وتجمع على الأيدي كما جمعت اليد نفسها، وربما جمعوا الجمع فقالوا: الأيادي ليفرقوا بين جمع الجارحة والنعمة.... وقد روى عن بعضهم: يديت إليه معروفا، بغير ألف، وحكى الخليل أنهم يقولون: "إن [17] فلانًا لذو مال ييدي به ويبوع".
وهو عند الزجاج كأفعلت، وهو عند جماعة لغة ... وهو كما قال الخليل فهو يبسط به يديه وباعه، فكان قولهم: يديت إنما هو من هذا لا من النعمة؛ لأن اليد هي التي تبسط بالخير والشر، وتصرف بها الأمور وكذا الباع.
غلى وأغلى
أغليت الماء فهو مغلى، فمعناه كمعنى سخنت وطبخت وأحميت وتقول: قد غلى الماء نفسه بغير ألف فهو يغلي غليانا وغليا كما قال الله عز وجل {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ، وقد أغلاه غيره وهو يغليه إغلاء فهو مغلي، كما تقول: حمي يحمي وأحماه غيره يحميه إحماء فهو محمى فتنقله بالألف، والعامة تقول: غليت الماء بغير ألف وهو مغلي على مفعول، وهو خطأ.... ويقولون: غليت القدر تغلي بكسر الثاني من الماضي والمستقبل، وهو أيضا خطأ وفيه قال الشاعر أبو الأسود:
ولا أقول لقدر القوم قد غليت
ولا أقول لباب الدار مغلوق
ولم يجيء فعل يفعل (بكسر العين في الماضي والمضارع) في الكلام إلا كلمات قليلة شاذة عن القياس، مثل حسب يحسب وورم يرم كأنهم حملوا أغليت على حميت لما كان في معناه وهو غلط منهم.
غفيت وأغفيت(23/101)
فإنَّ العامة تقول: غفيت بغير ألف وبالياء، وتقول في المستقبل أغفو غفوة، ومعناه: الدخول فيما قل من النوم، وهو اليسير الذي لا يكتفي به، ولا ينتفع وهو مأخوذ من الغفا، وهو رديء التمر،وهو داء يقع في البسر فيفسده، وكأن العامة لم تدخل فيه الألف؛ لأنها شبهته بقولهم: نعست ونمت، وجاءوا بالمستقبل بالواو، والماضي بالياء جهلا، وبالمصدر على فعلة واحدة والمصدر الإغفاء. والذي في اللسان: أن غفيت لغة، وقال الأزهري: وكلام العرب: أغفى وقلما يقال غفا وفي الحديث"فغفوت غفوة"انظر النهاية جـ 3 ص 386، وهو لغة رديئة عند ابن القطاع [18] ، فهو مما جاء فيه فعلت وأفعلت، واختير فيه أفعلت لأنه الفصيح وقل فعلت لأنه رديء.
أولعت بالشيء
قال ابن درستويه في تصحيح الفصيح [19] : قولهم: أولعت بالشيء؛ لأنه من باب أفعلت وليس من باب فعلت، وقد حكي عن بعض العرب ولعت بغير ألف مكسورة العين من الفعل على معنى الانفعال والمطاوعة كأنه قال أو لعني الله فولعت وليس فعل متعد إلا وله فعل مطاوعة، غير متعد إما على انفعل وإما على افتعل أو تفعلّ أو فعّل، وهو القياس وإن قل استعمال بعض ذلك أو لم يسمع، وليس كل مستعمل مسموعا مرويا، وإنما قال أهل العربية لا يقال: ولعت وإنما يقال: أولعت به من جهة الاستعمال، وقد استعمل كثيرا غير قليل مصدر ولعت وهو: الولع، كأنهم قد أولعوا بمخالفة الفصحاء، إما استثقالاً لكلامهم وإما عجزا عن النطق به وجهلا بتصريفه. وعامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا: إنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم، وهذا غلط منهم؛ لأن الأفعال كلها مفتوحة الأوائل فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمونه الأوائل ولم يخص بذلك بعضها دون بعض، وقد بينا ذلك بعلله وقياسه ليستغنى بمعرفة القياس عن تقليد ثعلب وغيره.
أدِير بي:(23/102)
قال ابن درستويه في المرجع السالف الذكر، وكذلك أدير بي وهو بمنزلة أولعت بالشيء، وهو من باب أفعلت رباعي وليس من الثلاثي، وإنما ذكره (أي ثعلب) لأنه مما لم يسم فاعله أيضا، فماضيه بكسر العين، من الفعل الثلاثي والرباعي. وأهل اللغة أو عاميتهم يزعمون أن فعل وأفعل بهمزة وبغير همزة قد يجيئان بمعنى واحد، وأن قولهم دير بي وأدير بي من ذلك، وهو قول فاسد في القياس والعقل، مخالف للحكمة والصواب، ولا يجوز أن يكون لفظان مختلفان لمعنى واحد، إلا أن يجيء أحدهما في لغة قوم والآخر في لغة غيرهم، كما يجيء في لغة العرب والعجم، أو في لغة رومية أو هندية.
وقد ذكر ثعلب أن أدير بي لغة، فأصاب بذلك، وخالف من يزعم أن فعلت وأفعلت بمعنى واحد. والأصل في هذا قد درت ودار رأسي، وهو الفعل اللازم، ثم ينقل إما بالياء وإما بالألف؛ فيقال: قد دير بي، وأدرت فهذا القياس.
ثم جيء بالباء مع الألف، فقيل: قد أدير بي كما قيل: قد أسري بي، على لغة من قال: أسري في معنى سرى، لأن إدخال الألف في أول الفعل والباء في آخره للنقل خطأ، إلا أن يكون قد نقل مرتين إحداهما بالألف والأخرى بالباء، انتهى. ومن الملحوظ أن أسري لغة أهل الحجاز وجاء بهما القرآن الكريم قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} .... فهذا من الرباعي وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} لما فهذا من الثلاثي سرى.
غاظ وأغاظ [20]
تقول غاظني بشيء يغيظني، وقد غظتني يا هذا، فهو من الغيظ الذي يجده الإنسان في قلبه من غضب أو موجدة أو نحو ذلك؛ كما قال الله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وفعله المستقبل يغيظ بفتح أوله، واسم فاعله غائظ، واسم مفعوله مُغيظ، قال الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، وقال تعالى: {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ} وقال طرفه بن العبد:(23/103)
يداك يدٌ خيرها مرتجى
وأخرى لأعدائها غائظة
والعامة تقوله: أغاظني بألف وهو خطأ، ولكني وجدت أغاظ في القاموس والمصباح.
صرف وأصرف [21]
تقول: صرفت الصبيان معناه سرحتهم من الكتاب، كذلك صرفت الرسول والشيخ: إذا رددته إلى موضعه الذي جاء منه، وكذلك قولك: صرف الله عنك الأذى. والعامة تقول: أصرفت الصبيان، وأصرف الله عنك الأذى بالألف وهو خطأ، ويدل على ذلك أن فاعله صارف، ومفعوله مصروف، ومصدره الصرف، ومستقبله يَصرف (بفتح الياء) ، وقال السيوطي في المزهر: "ليس في كلامهم أصرفت إلا حرف واحد: أصرفت القافية إذا أقويتها (وهو أن يخالف الشاعر بين القافيتين) وأنشد (لجرير) :
قصائد غير مصرفه القوافي
فلا عيا بهن ولا اجتلابا
فأما سائر الكلام فصرفت: صرف الله عنك الأذى، وصرفت القوم، صرف الله قلوبهم، وصرف ناب البعير"انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص 163، 164 تحقيق عبد الله الجبوري طبع بغداد.
[2] انظر كتاب ليس في كلام العرب ص 46 ص 189، واللسان هرق وشرح المفصل جـ1 ص5
[3] انظر شرح الشافية للجابردي ص152 وسر الصناعة الورقة ص122 ب وتفسير غريب القرآن.
[4] وراقني الشيء يروقني اللسان وورق وحكى الكسائي راق الماء يريق إذا نصب ص12.
[5] الهاء قوله، هياك على البدل مثل أراق وهراق. وعن الفراء إنما يقولون، هياك في موضع زجر، انظر إبدال أبي الطيب جـ2 ص569. والمقتضب جـ1 ص154. وليس ص189 والتصريف الملوكي ص44 وتفسير غريب القرآن ص12 والكتاب جـ2 ص474 وشرح الرضي على الكافية جـ2 ص569. والأشباه والنظائر جـ1 ص69.
[6] انظر ليس لابن خالوية ص 46.
[7] انظر اللسان، وإبدال ابن السكيت ص 25.
[8] انظر اللسان، وابن يعيش جـ10 ص5.(23/104)
[9] انظر الجمهرة جـ3 ص438، والممتع لابن عصفور جـ 1 ص399، وما اختلفت ألفاظه واتحدت معانيه ص32، والتصريف الملوكي ص44.
[10] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص 166 تحقيق عبد الله الحبوري طبعة بغداد.
[11] حكاية عن الكسائي انظر، إصلاح المنطق ص 226. وأفعال ابن القطاع 3 ص 289 واللسان وقف لغة رديئة.
[12] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص182 تحقيق عبد الله الجبوري.
[13] انظر جـ2 ص411، الجمهرة جـ3 ص439، وما تلحن فيه العامة ص40.
[14] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص318 لطبعة بغداد.
[15] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص318. وأفعال ابن القطاع جـ2 ص377 وتثقيف اللسان ص265.
[16] انظر ابن القوطية/169. وابن القطاع جـ3 ص374 والتصريف الملوكي ص66 وتصحيح الفصيح جـ1 ص325 طبعة بغداد
[17] انظر التهذيب. جـ14 ص 241 والمقتضب جـ1 ص150.
[18] انظر ابن القطاع جـ2 ص443.
[19] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص206.207.208 تحقيق عبد الله الجبوري طبعة بغداد الباب الرابع فعلت بضم الفاء.
[20] انظر الأفعال لابن القطاع جـ2 ص 442. وتثقيف اللسان ص152 وتصحيح الفصيح جـ1 ص هـ 19
[21] انظر تصحيح الفصيح جـ1 ص180 وأفعال ابن القطاع جـ2 ص238.(23/105)
حداثة الشعر العربي
الدكتور عبد الباسط بدر
الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالجامعة
(الحلقة الثانية)
لابد أن نجاوز القرون التي تفصل بين العصر العباسي والعصر الحديث؛ لنرتفع من جذور قضية الحداثة إلى ساقها. ذلك أننا لا نجد في تلك القرون جديداً في القضية، وكأن النقاد قنعوا بالأحكام النظرية العادلة التي وضعها ابن قتيبة، وأخذوا بها من بعده، واستراحوا من الجدل في القديم والحديث. ولا ننسى أن انشغالهم بالأبحاث البلاغية الصرفة، وعدم ظهور سمات تجديدية في الشعر تشدهم إليها، زاد من قناعتهم وصرفهم عن القضية.
فإذا عبرنا إلى شاطئ العصر الحديث، فإن أول ما يستوقفنا هو أن العصر بأكمله قد وسم بالحداثة، وأن النقاد ومؤرخي الأدب مجمعون على تسميته بالعصر الحديث في الأدب أيضا. وأنه يبدأ- في عرفهم- بمطلع القرن التاسع عشر الميلادي. ولا بد- والأمر كذلك- من وقفة مستأنية، ولتكن وقفة في أرض مصر.(23/106)
ففي بداية هذا العصر بدت بوادر التغير في الحياة الراكدة، ورحل جنود الحملة الفرنسية وعلماؤها من مصر، بعد أن هزوا المجتمع المصري من أعماقه. واستطاع محمد على باشا بعد سنوات قليلة أن يبدأ نهضة واسعة، ظهرت آثارها في توسعه العسكري، والحركة العمرانية، والبعثات الدراسية، وتشجيع الترجمة والطباعة، ثم تابع النهضة ابنه إسماعيل- الذي خلف عباساَ وسعيداً-. وكان هذا الحاكم مفتوناً بمظاهر الحياة الأوربية، فعمل على نقلها إلى مصر، وصرف في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وفي الوقت نفسه، أخرجت المطابع عدداً من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، وأصبح في مقدور المثقفين أن يقفوا على عيون الشعر العربي، كما نشرت أمهات كتب التراث ككتب الجاحظ وابن المقفع وابن العميد وابن خلدون غيرهم. وبدأ النثر يتخلص من قيود السجع والتكلف، في كتابات رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من كتاب العصر، فكان أسبق من الشعر إلى التحرر.
وأما الشعر فكان في حالة من السقم تقارب الموت. وكانت تمثله نماذج هزيلة، ليس فيها إحساس صادق، ولا تعبير فني ناضج، وتغطى ركاكتها،في كثير من الأحيان، بألوان من البديع المصطنع تبدو مثل زركشة على كفن، وتعبر بصدق عن الحياة الراكدة في أواخر العهد العثماني.
وقد حاول بعض الشعراء- أمثال: محمود صفوت الساعاتي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، وعائشة التيمورية، أن يتحرروا من الأسلوب المتخلف، ولكنهم لم يبتعدوا عنه كثيرا، وكان مقدورا للشعر أن ينتظر ظهور الشاعر العبقري، الذي يتمثل ما تنتجه المطابع من الموروث الشعري الأصيل، ويرتقي إلى درجة تقترب من فحوله. وكان الشاعر هو محمود سامي البارودي.
ويعدّ النقاد ومؤرخو الأدب شعر البارودي بداية الشعر الحديث ويخصونه باصطلاح: شعر الإحياء؛ لأنه باكورة الحداثة.
فما الحداثة في هذا الشعر؟ وما موقف النقاد من حداثته؟(23/107)
يذكر الذين كتبوا عن البارود أنه انكب على دراسة التراث الشرقي، وأن شاعريته تفتحت بعيداً عن الشعر السقيم الذي كان يعاصره، وأن قصائده الأولى كانت معارضات لقصائد أبي تمام والبحتري- والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي. فيكون بذلك أول شاعر في العصر الحديث يدخل ساحة الشعر بديباجة عربية أصيلة.
ولو نظرنا في ديوان البارودي، لوجدنا أنه لم يأت بجديد، لا في موضوعات الشعر، ولا في شكله. بل إنه لم يخرج عن موضوعات عصره التقليدية. وشعره موزع بين المديح والهجاء والفخر والغزل ورياضة القافية، إضافة إلى لون، وجداني ساقته أحداث حياته.
ولكنه جاء بجديد إذا قسنا شعره بشعر معاصريه، جديده في الديباجة والأسلوبن وترك التكلف والبهرجة، فهو بهذا المقياس- ((حديث)) بين، شعراء يعيشون على القيم الفنية التي سادت في عصور الضعف والانحدار، وشعراء يحاولون التخلص منها، ولكنهم لا يحلقون، وهو بذلك رائد الحداثة، ريادته في العودة إلى التراث الشعري الأصيل، ومخالفة الذوق الأدبي الشائع في عصره. وهي مخالفة تجاوز السقيم إلى السليم.
إن الحداثة في شعر البارودي لا تحمل أي جديد بالمعنى اللغوي للجديد (أي الذي لم يكن موجوداً من قبل) ، ولكنها تحمل جديداً بالنسبة للعصر الذي كان فيه، للبيئة الشعرية المحيطة به، وجديده أسلوب عربي كان مدفونا في الكتب، بعيداً عن الواقع الشعري، وليس فيه أي لقاء مع أية ثقافة غير عربية، ولا ردة فعل لثقافة أجنبية وافدة، فالثقافة الوافدة آنئذ قليلة الشأن. وقد كانت حداثته- أو عودته إلى التراث الشعري الناصع- أنقع للشعر العربي من أية صورة أخرى يمكن أن يأتي بها.(23/108)
ومن المفيد أن نذكر أن النقاد المعاصرين للبارودي لم يهتموا بجديده، ولم يستخدموا اصطلاح ((الحداثة)) في وصف شعره، ولكن بعضهم- وفي مقدمتهم الشيخ حسين المرصفي -[1] أعجبوا بقوة شعره، وقارنوه بالشعر العباسي، واستخدموا المقاييس البلاغية القديمة في إظهار حسنه. وكان أفضل نقد لشعره يقوم على الموازنة بين إحدى قصائده وإحدى قصائد أعلام الشعر العباسي. وطبيعي ألا نتوقع من هذا النقد أن يقدم أي مفهوم أو تطوير لمفهوم الحداثة.
تحديث خلفاء البارودي ((المحافظين))
لم يكن لاتجاه البارودي صدى واسع في عصره، غير أنه آتى أكله في الجيل التالي، عندما نهض به شوقي ومطران وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم. وقد عكف هؤلاء على قراءة شعره، إضافة إلى الشعر العباسي الذي أصبح في متناول أيديهم، وتأثروا بنماذجه المثلى، ويدل على ذلك معارضتهم الشعرية الكثيرة- وما زالوا يتزودون من عيون الشعر حتى استقامت لهم أساليبهم المتأثرة بها، فاستطاعوا أن يقيموا نهضة شعرية حقيقية، بعيدة كل البعد عن شعر التكلف والانحطاط، واستطاعت نهضتهم أن تؤثر في شعراء الوطن العربي، وأن تنهي آثار التخلف والانحطاط. وقد سماهم الجيل الذي خلفهم ((المحافظين)) ؛ لأنهم ترسموا خطا البارودي في المحافظة على جزالة الأسلوب العربي القديم ورصانته. وهم بلا شك محافظون في حدود هذا المعنى، ومحافظون أيضا؛ لأنهم لم يتخطوا حدود الثقافة العربية والقيم الشعرية الأصيلة إلا خطوات قليلة، وقد كانت الفترة التي عاشوها تتطلب ذلك.(23/109)
وقد ناقش الدكتور شوقي ضيف محافظتهم، وحررها من شبهة الجمود والتخلف فقال: ولكنهم ليسوا محافظين بالمعنى السيئ للمحافظة، حيث يكون الشاعر نسخة مكررة لمن سبقه، أو يكون طبق الأصول التي يطلع عليها دون حذف أو تغيير، فتلك مرتبة عقيمة زهد فيها هؤلاء الشعراء وانصرفوا بقدر ما وسعتهم جهودهم، وسعوا لتكوين شخصياتهم الشعرية المستقلة، وفرضوا ثقافتهم وقضايا عصرهم على شعرهم، ولاءموا ملائمة جيدة بين القديم والجديد، بين الأسلوب العربي في جزالته ورصانته وروح العصر، ووجهوا الأذواق الأدبية إلى الوضع الذي يمكن أن نتدرج إليه بعد البارودي [2] .
لقد كان شوقي وحافظ وصبري.. مجددين، بالمعنى الضيق للتجديد، وذلك في أول عهدهم، وبالتحديد في العقد الأول من القرن العشرين؛ إذ جاءوا بصوت جديد في الشعر العربي موضوعاً وأسلوباً، ولم تكن أصواتهم مجرد أصداء لصوت البارودي، فإن أي قارئ لشعرهم يحس أثر البارودي فيه، ويحس أيضاً أنهم أصوات متميزة تختلف عن البارودي في يسر الأسلوب، وتخلصه من الاستعمالات القاموسية البعيدة عن العصر، وتختلف في الموضوعات الحية التي تتصل بالحياة العامة في عصرهم، وقد كانت لديهم طاقات شعرية ضخمة، تملك ناصية اللغة وخصوبة البيان، وأسرار النغم الموسيقي، وعذوبة الأداء، فترددت أنغامهم في أرجاء الوطن العربي كله.
على أن شوطهم في التجديد كان قصيرا، إذ وقفوا عند الخطوات القليلة التي خطوها بعد البارودي، وأخذ شعرهم يكرر نفسه ولا يأت بجديد إلا في عناوين القصائد بينما الأفكار متقاربة، ولا أكاد أستثني بهذا الحكم أحدا من المحافظين، اللهم إلا نبضات التجديد في مسرحيات شوقي الشعرية، وبعض جوانب الحداثة في شعر مطران. وهذا الأخير يطبّل له بعض الدارسين، ويعده مظهرا للحداثة يهب القرن العشرين، وإمام الحركات المجددة التالية ولا بأس من التريث عنده للتحقق من هذه الدعوى.(23/110)
فالدكتور محمد مندور يرى أنه رائد الحداثة والتجديد في الشعر العربي، ويقول عنه: ((إن الإجماع يكاد ينعقد على أن خليل مطران، يعتبر رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر، حتى ليكاد يختط طريقاً يشبه الطريق الذي أخطته في العصر العباسي بمدرسة البديع- وعلى رأسها أبو تمام- في مواجهة مدرسة عمود الشعر- وعلى رأسها أبو عبادة البحتري-؛ وذلك عندما يقارن النقاد بين مدرسة البارودي وأحمد شوقي وحافظ وغيرهم ممن ساروا على عمود الشعر العربي والمدرسة الحديثة التي تنتسب إلى مطران، وتمتد في جماعة أبولو خلال أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي ومن ساروا على دربهما من الشعراء الناشئين في مصر وغيرها من البلاد العربية [3] .
ويذهب أبعد من ذلك فيشبهه بالشاعر الفرنسي أندريه شينيه، الذي قاد الحركة الكلاسيكية الجديدة قبل الثورة الفرنسية، وهي الحركة التي جمعت بين الصياغة اللغوية الفصيحة والأفكار الجديدة المعاصرة.
وفي ظني أن مطران كان واحدا من المجددين: وليس ((رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر)) وأنه دون مرتبة الريادة، سواء في شعره، أو في تأثيره فيمن بعده.(23/111)
وعندما نرجع إلى ديوانه نحسّ أنه أكثر شعراء جيله تأثرا بالثقافة الفرنسية، فقد ترجم قصائد كثيرة من شعرها، وناقشها، وعارضها وتأثر بها، وتنبه إلى بعض القيم الفنية في الشعر الفرنسي، ودعا الشعراء العرب إلى الأخذ بها، واهتم بوحدة القصيدة ودعا إليها، وإلى عدد من القيم الشعرية التي لم تكن سائدة بين معاصريه، فقال في مقدمة ديوانه: ((هذا شعر ناظمه لا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الصحيح، ولا ينظر قائله إلى جمالا البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، إلى جمال القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحرّ وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر)) [4] .
ويبدو في تقويمه هذا أن الشعر في مفهومه تعبير نفسي تتجلى فيه الوحدة الفنية الموضوعية، وأن قواعد الحزن والقافية إنما هي لخدمة معاني الشاعر. وإشارته هذه إلى وحدة القصيدة هي- فيما أعرف- أول إشارة إلى قضية وحدة القصيدة في العصر الحديث، وقد طبقها في بعض قصائده الشعرية، ولا سيما في القصائد القصصية.
على أنه لم يستطع أن يحقق- في معظم شعره- ما نادى به في مقدمة ديوانه فصياغته تكاد تداني الصياغة التقليدية- ولعل مقدمته النثرية للديوان كما يرى القارئ توحي بذلك أيضاً- وهي متأثرة بالأساليب العربية القديمة إلى حد بعيد، مع تفاوت ملحوظ في الجزالة، كما أن موضوعات شعره تترواح بين بعض الموضوعات الوجدانية- كالتأمل والغزل والشكوى ... وبين الموضوعات التقليدية العتيقة، كالمدائح والمراثي وشعر المناسبات.(23/112)
وأما تأثيره فيمن بعده، وخصوصاً شعراء أبولو الذين ذكرهم مندور- فهو ضئيل لا يرقى به إلى الريادة والإمامة، ذلك أنه لم ينجح في إشاعة ما دعا إليه بين الشعراء، ولم تتكون له مدرسة شعرية على نحو ما تكون للبارودي ولشوقي من بعده، وشعراء أبولو كانوا في معظمهم على قدر وافر من الثقافة الإنجليزية، وقد تأثروا بمدارسها الشعرية مباشرة، وتأثر بعضهم بالديوانيين الثلاثة- العقاد وشكري والمازني-. ولعل الديوانيين هم أقرب من قرأ شعر خليل مطران، والتقوا معه في عدد من مفهومات الشعر. والمعروف أن مصادر مطران الفرنسية تلتقي مع الرومانسية الإنجليزية التي تأثر بها الديوانييون- وتوجه الشاعر نحو ذاتية التعبير والاهتمام بالخيال والتخلص من القيم الفنية الكلاسيكية.
تحديث الديوانين:
يطلق الدارسون اصطلاح الديوانيين على الشعراء النقاد الثلاثة: عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وهؤلاء الثلاثة هم الذين تركوا بصمات عميقة في تطوير عدد من عناصر الشعر العربي الحديث، وجاءوا بخيوط كثيرة من الحداثة تنظيراً وتطبيقاً.
وكان أسبقهم إلى التحديث عبد الرحمن شكري، الذي نشر دواوينه الشعرية قبل زميليه، وضمنها عددا من آرائه الجديدة، ثم شاركها في إصدار بعض المقالات النقدية التي تدعو إلى التحديث وتنتقد معظم القيم الشعرية في شعر المحافظين، ثم انفصل عنهما، واقتصر على كتابة الشعر وعدد قليل من المقالات، على حين أصدر العقاد والمازني كتاب ((الديوان)) الذي ضم خلاصة القيم الحديثة التي يدعون إليها، وأحدث ضجة كبيرة. وبعد أقل من عقد من الزمن خفت قوة الاتجاه، إذ هدأت حدة المازني في النقد، وسكت صوته في الشعر، وغاب عبد الرحمن شكري عن الأنظار، لا يظهر من شعره إلا قصائد قليلة تنشر على فترات متباعدة، وظل العقاد وحده يصدر دواوينه ويتابع حملاته النقدية العنيفة.(23/113)
وقد كان الأعلام الثلاثة على قدر كبير من الثقافة الغربية، ولاسيما الإنكليزية تعمقوا في دراسة آدابها، وأخذوا من شعرها ونقدها شيئا كثيراً، فكانوا بحق مدرسة جديدة في الشعر العربي ونقده، وصفها العقاد نفسه بقوله:
مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنكليزية، ولم تقتصر قراءاتها على أطراف من الأدب الفرنسي- كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر- وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنكليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنكليزي الحديث فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت إن (هازلت) هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، ومواضع المقارنة والاستشهاد.
وقد استفاد الأعلام الثلاثة من ثقافاتهم الواسعة، وثاروا بتأثيرها- على عدد من القيم السائدة، في الشعر الذي يكتبه المحافظون، وحاولوا زحزحة الأصول التقليدية التي يتبعونها، ودعوا إلى مفهومات جديدة للشعر وعناصره، وجعلوا دعوتهم معلم الحدأة، والأخذ بها تحديثاً للشعر. ويمكن إجمال أهم معالم الحداثة التي دعوا إليها فيما يلي:(23/114)
أولاً تطوير مفهوم الشعر: كان الشعر في مفهوم المحافظين صناعة متقنة، تقوم على مجموعة من القواعد والقوانين، يحذقها أصحاب التراث الموضوعيون من نقاد ولغويين وبلاغيين، والشاعر هو القائل الفصيح أولاً. وقد رفض الديوانيون هذا المفهوم وقدموا مفهوماً جديداً، يكون الشعر فيه إبداعا يعبر عن ذات الشاعر، ويصور عالمه الداخلي بكافة مناحيه، وطاقاته النفسية وملكاته الإنسانية، ويصدر عن الشعور، ويضطرب بالعاطفة؛ يقول عبد الرحمن شكري عن الشعر: ((هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم، فأصوله ثلاثة متزوجة، فمن كان ضئيل الخيال أتى شعره قليل الشأن، ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتاً لا حياة فيه؛ فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف، وقوته مستخرجة من قوتها، وجلاله من جلالها، ومن كان سقيم الذوق أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة)) [5] .
وهناك تعريفات مشابهة لتعريف عبد الرحمن شكري أوردها العقاد والمازني في ثناب انقدهم، تؤكد التفاف الأعلام الثلاثة حوله المفهوم ذاته.
ثانياً: تطوير مضمون الشعر: اهتم الشعراء المحافظون بالقضايا العامة أكثر من اهتمامهم بالوجدان الفردي، فلما جاء الديوانيون عملوا- بتأثير قوي من الرومانسية الإنكليزية التي تأثروا بها- على توجيه الشعر نحو الذات، وطلبوا من الشاعر أن يهتم باستبطان وجدانه قبل كل شيء، وأن يعبر عن إحساساته بحرية تامة.(23/115)
وعلى الرغم من أن العقاد لم يمانع في أن يطرق الشاعر موضوعات الحياة اليومية في البيت أو الطريق أو الدكان، فإنه اهتم اهتمام عظيماً بالعالم الداخلي للشاعر، وجعل التعبير الصادق عن هذا العالم الخاص مقياس الجودة المثلى للشعر فقال: ((إن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجداناً تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية)) .
وقرر المازني أن الشعر مرآة لنفس الشاعر، فيه روحه وإحساسه وخواطره ومظاهر نفسه، سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة.
وذهب عبد الرحمن شكري المذهب نفسه، فجعل الشعر لغة العاطفة ومحركها، وهكذا وجّه الديوانيون الشعر وجهة وجدانية، تهتم بالعاطفة قبل كل شيء وكان توجيههم هذا جديدا على الشعر العربي ونقده.
ثالثاً: تطوير في الشكل:
أ- الدعوة إلى وحدة عضوية للقصيدة، بحيث تصبح- كما يقول العقاد- عملا فنياً تاماً يكمل فيه تصور خاطر أو خواطر متجانسة. بحيث إذا اختلف الوضع أو تخيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها، فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه)) .
غير أن النقاد أخذوا على العقاد أنه لم يجاوز- في دعوته للوحدة العضوية- وحدة الموضوع، وأنه لم يحقق في شعره أكثر من ذلك.(23/116)
ب- الدعوة إلى تطوير الصورة الشعرية: استفاد الديوانيون من التطوير الكبير الذي أحدثه الرومانسيون الغربيون، في مفهوم الصورة الشعرية واستعمالاتها؛ فاهتموا بها اهتماما كبيرا، وعدوها عنصرا أصيلا في البناء الشعري، تنقل الأحاسيس وتهتم باللباب والجوهر ... في العلاقة بين الأشياء، لا بالتشابه الخارجي، وهاجموا الصورة التقليدية التي يعتمد عليها الشعراء المحافظون واتهموها بالافتعال والمبالغة، والنمطية والتصميم، والحسية الحرفية الشكلية. يقول العقاد في هجومه العنيف على شوقي وأسلوبه في التصوير: إذا كان كذلك من التشبيه أن تذكر شيئاً أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الإحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء، بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس)) [6] .
جـ - الدعوة إلى التحرر من القافية: كان عبد الرحمن شكري من أوائل الشعراء الذين حاولوا التخلص من القافية الموحدة، وقد كتب عدة قصائد لم يراع فيها وحدة الروي، كما أن العقاد تبنى الدعوة لترك القافية، وعدها إحدى معوقات الشعر العربي عن التطور؛ قال: ليس بين الشعر العربي وبين التفرد والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نقرة الأذن من هذه القوافي، ولاسيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان)) [7] .(23/117)
ولكن العقاد تراجع عن رأيه هذا بعد ثلاثين سنة، وقرر أن انتظام القافية متعة موسيقية تخف لها الآذان، وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه. ودعا إلى حلٍّ وسط يسمح بتنويع القافية في القصيدة دون أن يلغيها [8] .
تلك هي أهم معالم الحداثة في حركة الديوانيين، وقد عزا النقاد هذه المعالم إلى القيم الرومانسية الغربية، والإنجليزية بالذات- التي أثرت في الديوانيين، فيرى الدكتور محمد مندور (أن المنهج الشعري الذي اختارته هذه المدرسة ودعت إليه هو نفس المنهج الذي صدر عنه جامع ((الكنز الذهبي)) في اختيار ما اختار من الشعر الغنائي الإنكليزي) [9] . ويذهب الدكتور محمود الربيعي إلى أنهم نقلوا المبادئ التي دعوا إليها بدقة عن النقد الإنكليزي، في حين قام دارس آخر بالبحث عن مصادر آراء العقاد في كتابات الشعراء والنقاد الرومانسيين في أوربا وأمريكا، وعقد مقارنات طريفة وقيمة تؤكد هذا النقل [10] .
ولم ينكر الديوانيون تأثرهم بالرومانسيين الغربيين شعراء ونقادا- بل أعلنوا على الأشهاد، أنهم تأثروا بهم واستفادوا منهم، وأخذوا أفضل ما عندهم، دون أن يحصروا أنفسهم في آثارهم. وقد مر بنا قبل قليل تصريح العقاد عن تأثره وزميليه بالشعر الإنجليزي وغيره، ولكنه دفع بقوة شبهة التقليد، وقرر أنهم كانوا في موقع الاختيار لا التبعية.(23/118)
ولا شك أن الديوانيين جاؤوا الشعر العربي بعدد من القيم الفنية الأصيلة، استمدوا معظمها من الشعر والنقد العربي بعامة، والإنكليزي بل والرومانسي الإنكليزي بخاصة، وأفادوه في عدة جوانب، منها: إعادته إلى التعبير عن الوجدان الفردي في إخلاص وصدق، وقد عاش الشعر العربي من قبل فترات على هذه الشاكلة، في شعر بعض الشعراء الجاهليين وفي قصائد الغزليين والصوفيين وعدد من الشعراء أصحاب الاتجاهات الفردية؛ كابن الرومي وأبي العلاء وأبي فراس والمتنبي في غير مدائحه، ولا يكاد عصر من العصور يخلو من هذا الشعر. لذلك فإن دعوة الديوانيين إلى هذا اللون من الشعر ليست جديدة على الشعر العربي في تاريخه الطويل، ولكنها ليست دعوة نابعة من صور الشعر الوجداني في تاريخ الشعر العربي ... ولا يمكن إلا أن تكون متأثرة إلى حد كبير بالاتجاه الرومانسي الغربي، كما أنها تحمل عناصر مغايرة لما كان سائدا ً بين شعر المحافظين....
ولعلنا بهذا التفسير نجد إجابة مقنعة للتساؤل الذي يثور في ذهن من يقرأ آثار الديوانيين: لماذا تفوقت دعوتهم النظرية على تطبيقهم العملي؟.
ولا يخفى على القارئ أن شعر الديوانيين- ولاسيما العقاد ثم المازني- لا يحقق أحياناً المبادئ التي دعوا إليها، ولا يخلو من المعاني والموضوعات والمشكلات التي هاجموها بشدة. والطريف أن العقاد نفسه وقع مرة في الفخ الذي أوقع فيه أمير الشعراء أحمد شوقي من قبل، وأن الدكتور محمد مندور كان له بالمكيال نفسه الذي استخدمه في نقد شوقي، فأخذه بجريرة تفكك القصيدة وضياع وحدتها العضوية.
ولعل عبد الرحمن شكري أكثر زملائه تطبيقا للمبادئ الجديدة.(23/119)
لقد سعى الديوانيون إلى تحديث الشعر العربي بالدعوة إلى التعبير عن الوجدان الفردي بقوة، وبالسعي إلى تأصيل مفهوم جديد للشعر العربي متأثرًا بالمفهوم الرومانسي الغربي، وبتطوير عدد من الأدوات الشعرية تطويراً محدودًا، وبإثارة مناقشات نقدية مثمرة في وقت لم يكن فيه الشعراء والنقاد الآخرون يهتمون بشيء من هذا القبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر حسين المرصفي الوسيلة الأدبية 2، 475 وما بعد. مطبعة المدارس الملكية القاهرة 1292هـ
[2] الدكتور شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر 46 دار المعارف بمصر 1966.
[3] الدكتور محمد مندور. محاضرات عن خليل مطران 11 مطبعة دار االهناء بمصر 1954.
[4] خليل مطران. ديوان الخليل 9 مطبعة الهلال بمصر 1949.
[5] ديوان عبد الرحمن شكري 4، 288.دار المعارف بالإسكندرية 1960 جمع وتحقيق نقولا يوسف.
[6] الديوان 1، 20.
[7] مطالعات في الكتب والحياة 280 القاهرة1924.
[8] انظر فصول من النقد عند العقاد 306.
[9] الشعر المصري بعد شوقي 1/54مكتبة الأنجلو بلا تاريخ.
[10] انظر محمد عبد الهادي محمود مقدمة لدراسة العقادْ القاهرة 1975. والكتاب بأكمله يبحث في مصادر آراء- العقاد في الكتابات الرومانسية الإنكليزية.(23/120)
برهان الحق في الخلق (1)
د/ عز الدين علي السيد
كلية اللغة العربية
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} قرآن
شهدْتُ أنك يا الله ديانُ
والعجزُ عن كنْهِ ما أبدعْتَ برهان
خليفةَ الله يا إنسان، هل نظَرَت
عيناك للْكَوْن لم يصْرفْك شيطانُ؟
انظر إلى الكون بالعينين ملْؤُهما
صُنْع الحكيم ولا يغررْك بهتان
في كل شيء تجلَّى صوْت مبْدِعِهِ
له على العقل بالإحكام سلطانُ
ما سدَّ عنه لسوء الجد مسْمعهم
إلا عكوف على الأهواء مُجَّانُ
فناج بالفكر في الأكوان مبدعَها
فإنها لأولى الألباب قرآنُ
تلك السموات سقْف فوق أرؤسنا
يحيط بالأرض لم تحمله أركان
فيه المجرَّات والأفلاك.. تذْرعها
فوق الرءوس لبذل الخير أعوان
فاسأل بها البدْرَ في وُسّطى منازله
بين الهلالين يسعى وهو سهرانُ
ما زاد في طرَفٍ خلاه في طرفٍ
كأنه في طباق العمر إنسان!
واسأل خُطَى الشمس في الأعوام واحدة
كأنها من رشيق الشعر أوزانُ
لمستقر لها تجري بلا ضجرٍ
وما تناءتْ بها في الغيب شطآن
كالفلك في البحر رَهْوًا.. لا تعوِّقها
ريحٌ. . ولا يترك السكان رُبَّانُ
أم رءوم.. بضوء الفجر توقظنا
ليقنص الرزق في الأرجاء يقظان
فإن أحسَّتْ بما نلناه من لغَبٍ
خلَّتْ عن الليل يأتي وهو جذلان
يُرْخى علينا سكونا في ستائره
للنفس من لذة الأحلام إحسان
من كان يأتي بليل غير خالقها
به لما انهدَّ بالإجهاد بنيان؟
مَن كان يُبْدِى نهار الكون يعمرُهُ
منا الكفاحُ ويصحو فيه وسنان؟
بين الجديدين والشمس ارتقى سبب
للحقِ والفهمُ للأسباب عرفان!(23/121)
واسأل بها الغرْسَ مِنْ زهر ومن ثمرٍ
تُزْهَى به في الروابي الغرّ أفنانُ
أكان لولا السَّنَى والدفءُ تحملهُ
يهتز من حسنه الخلاب وجدان؟
لله في الشمس آياتٌ مبينةٌ
لا يجتليها كليلُ الطرْف كسلان
لها البروجُ قصورٌ عبر رحلتها
بها الفصولُ لأهل الأرض وديان
لكل وادٍ رداءٌ مِنْ خصائصه
فلا يُرَى الكونُ يوما وهو عريان
بينا تراه عروساً ليلَ جلْوتها
لها من الحسْن هالات وندمان
وكل ما حولها في عطرها أرج
وكل ما مسَّها بالسحر هيمان
إذا به أيِّم قد لفها شجَن
عنها تولى الصباِ فالجسْم وهنان
إصْفَرَّ منها المحيا واختفى وهَج
للحسن عشاقه عن دربه بانوا
هذا ربيعٌ على الأرجاء منتشر
ضافي الذيول. . نشيط الخطو فينان
وذا خريفٌ.. فما في الزهر باسمة
ولا على الغصن غنَّى الأذْنَ حُسّانُ
الروضُ ذاو.. وأوراقُ المنى انتثرتْ
مبعثراتٍ ومؤْتىِ اللحن جرْذان
والصيفُ فيهَ لمن شاء الهدى نذُرٌ
من اللهيبِ رماها وهو غضبان!
وفي الشتاء على الآفاق تُفْزِعنا
فوق الرءوٍس بحيراتٌ وغدران
يزمجر الرعدُ. يحْدوها لمنزلها
والكون في برْده المثلوج لهْفانُ
لعل للشمس دفئا في أشعتها
يفيضُ منه على كشحيه أردانُ!(23/122)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
للشيخ يوسف الهمزاني الشافعي
المدرس بالمعهد الثانوي
نور على الأفق إيذانا بمَقْدَمِه
أهَلَّ يعلن عن نور وعرفان
نور تلألأ آفاق السماء له
ويغمر الأرض من قاص ومن دان
وَتَعْكِسُ النورَ أنى سرت كوكبةٌ
من القناديل زُهْرٌ ذاتُ ألوان
فالأرض تشرق والأكوان قاطبةً
فقد أهل عليها شهر فرقان
النور موعده والنور مولده
والنور اُنْزل فيه آي قرآن
هَشَّت إليه نفوس الناس صادقةً
ما لم تَهَشَّ لأهل أو لأوطان
كأنها غربة طالت وقد وجدت
بعد افتقاد حياة الفضل والشان
أيامُه الغُرُّ أعياد يُضِيءُ لها
مثل القناديل بشرا كل إنسان
هذى القلوب تلاقت بهجةً ورضى
كما تلاقت على جوع وحرمان
الصدقُ في السعي للرحمن جَمَّعَهم
هم رُفْقَةٌ في جهاد خير إخوان
كم بين صومهم والصبر من رحم
فما يبالون من ضيق ونقصان
زال التحاسد والشحناء بينهمو
فلم يبيتوا على غل وأضغان
وأصبحوا بقلوب الودِّ عامرةً
حل الصفاء وعاشوا أيَّ خلان
فكم تَنَافَرَ في الدنيا أحِبَّتُها
لكنْ من التقيا في الله إلفان
الحق في كل قلب واحدٌ ولنا
فيما لدى الله ما يغنى عن الفاني
قد ألَّفَ الله ما بين القلوب به
فلا ترى غير إيثار وإحسان
إذا انقضى في جهاد الصوم يومهمو
فالليل ليل تراويح وقرآن
وإن أهاب بهم داع وجدتهمو
إلى الجهاد سراعا خير فرسان
حتى ترى القوم قد صاروا ملائكة
فلا مكان لِلَغْوِ أو لبُطلان
هذى هي الغاية الكبرى نُعَدُ لها
وليس من دونها همّ لإنسان(23/123)
عبر وعبرات
للشيخ محمد مجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
ألا مَن لِقلبٍ واهنِ الخفقات
تلاشى سوى رَجْعٌ من النفثاتِ
عييت به حتى وددت فراقه
ومِن قبلُ قد أعيا ضناه اُساتي
وما فيه من سُقم.. بلى إن داءه
صروف ملأنَ الأرضَ بالنكبات
طلاسمُ لا أدري لها من حقيقة
سوى أنها من معضلاتِ حياتي
يَضِل أولو الألباب في حلكاتها
ويَحسبُها الجهالُ في الهفوات
فمن لي بمعوان على أحْجِياتها
فقد فُلَّ عزمي دونَها وأناتي
أرى الناس مخدوعاً وراء مدلِّسٍ
يَسير به عمداً إلى الهلكات
وتُجّارَ أقلام أباحوا وجوهَهم
لكل دعيٍّ في الرجال وعاني
تعبدَهم وهم المنافع فارتموا
سجوداَ على الأعتاب والحضرات
فكم خائنٍ باع البلاد سَمَوا به
إلى الأوج فهو الفارج الكُربُات!
وكم ملحدٍ مسْتهتر الِعرضِ قد غدا
بسحرهمِ يدعى أبا البركات!
وكم سارقِ قُوتَ المساكين صوَّروا
على الطرسِ منه مبدعَ الحسنات!
أراقوا على أقدامه المَدح خشَّعاً
كما عكف الغاوون حولَ ((مَناة))
وكم ((باقر)) صدر الحنيفةِ باسمها
أباح حمى الإسلام للشُبُهات
أخو عِمةٍ كالقبرِ أرخى سدولَها
على جِيَف من صدره نَتنات
تَعَرَّى من الإيمان والخُلق مؤثراً
زيوف ((معال)) في ظلالِ بغاة
يحوك الفتاوى للطواغيت مهدرا
بهن دمَ الإخوِان والأخوات..
أضاليل أَملاها النفاقُ وحطمتْ
بقية ما لِلدينِ من حُرمُات
وفي كل قُطرٍ من بلادي ((باقر))
شرى بكتابِ اللهِ بعض فُتات
فما ذنب ((إلياسٍ)) ومن لفَّ لفَّه
بما اختلفوا من كاذب ((النظرات))
وفي ((الأنور)) المرموِقِ، والشرقِ كلِّهِ
معاول شقت هذه الثغُرات
ومَنْ لا يَصُنْ في زحمةِ الغيىِّ عِرضَه
فويلٍّ له من أَذْؤُب الشهوات!(23/124)
فواهاً على الإسلام تَهوي صروحُه
بأيدي جناةٍ من بنيه عُماة
ويا لهفةَ الدنيا لدينِ محمدٍ
وقد بات مكشوفاً لكل أَذاة
تخطفت الأزراءُ أنصارَهُ الألى
أَضاء بهم مُحْلَولكَ الظلمات
مَضَوا في شعابِ الأرض ما بينَ مشرد
تَقاذفه الأقدارُ دونَ رَجاة
ومستشهَدٍ أودى به البغي شاكيا
إلى أعدلِ القاضين شَرَّ قضاة
ومحتجَزٍ في غيهبِ السجنِ شَوَّهتْ
معالمَه المثلى يدُ المَثُلات
تفنن جلادوه في العسف والأذى
ولم يَحنِ رأسا أَو يَفُهْ بِشَكاة
تراه على الأغلال شِلواً ممزَّعاً
يُخيَّلُ للرائينَ بعضَ رفُات
بنفسي وجوهُ أطفأ الجورُ بِشرَها
وإن هي لم تَبرحْ وجوهَ هُدأة
تنازعَها لفحُ العذابِ فأصبحت
وليس بها إلا ذَماءُ حياة
لئن سُلِبَتْ نورَ الحياة فلم تزل
تنير سواد الليل بالصلوات
فيا عِبَرَ الأيامِ جُرتِ على النُّهى
وفَجَّرتِ من آماقنا العبراتِ
((بناتُ زياذٍ في القصورِ مصونةٌ
وآلُ رسولِ اللهِ في الفلوات))
وفي زفرات القلبِ عذرٌ لِواجدٍ
إذا هو لم يملك سوى الزفراتِ
فواجعُ لولا حرمةُ الحق لم تَذَر
بنا أثرًا من عِزة وثبات
رضينا بها زادًا إلى الله يومَ لا
سبيلَ إلى رُحماه بعد فوات
ويوم يعض الظالمون أكفهم
وقد وجدوا أعمالهم حسرات
ويوم يَوَدُّ المجرمون لَوَنّهم
على دَرْبنا ضرْبٌ من الحشرات
ترى فترات الذلِ فوق وجوههم
وقد طبِعتْ من عارها بِسمات
كوالح من هولِ القوارع خُشّعاً
نواظرُها تستقبلُ اللعنات
على حينَ ترنو هانئاتٍ وجوهُنا
إلى ربها في مَشرِقِ النفحات
ترفّ من الفردوس في ظل نَضرة
وتسبح في فيضِ من الرحمات
وما انفكّ رضوان المهيمن غايةً
يخوض إليها المؤمنُ الغمرات
وهيهات يَثني عزمَنا الروعُ بعدما
جرت لذةُ التوحيدِ في اللَّهَوات(23/125)
ليَغْلُ طغاةُ الأرض في الكيد ما غَلَوا
فلابد دونَ الحقِ من عقبات
ولا ضير أن يُغروا بنا كلَّ فاجرٍ
فَيَمْطُرنا سيلا من الوَصَمات
تمرَّسَ في شتم الكرام فما يَني
يُسَوِّدُ في تجريحِنا الصفحات
ونَعْذُره أَنْ لم يجدْ غيرَ سبنا
سبيلا لما يرجو من الصفقات
وفي الإفك أسرارٌ، وفيها فضائح
تلوح مخازيها على الكلمات
صبرنا على لذع الحراب نفوسَنا
فليس بمؤذينا نباحُ غواة
وأهونُ ما يلقى الكريم من الأذى
سفاهةُ مأجور ولَغْوُ شَمات
وما نحنُ إِلا عصبةُ الرسلِ حُمّلتْ
كواهلُنا مستثقلَ التَّبِعات
تخيرنَا الباري لبثِّ هداية
وبعثِ إخاء، وافتاكِ عُناة
فَمَن لِبناِء الحقِ يرفع سَمْكَه
إذا لم نكن في أسِّهِ لَبِنات!
ومَن يَلفت الدنيا إلى نورِ ربها
إذا لم نكن في ليلِها جَمرات!
ومن يقفُ آثار النبيين لم يَسَلْ
على الشوكِ يمشي أم على الشفرات
ولن تستقرَّ الأرض يوماً بمؤمنِ
وفوق ثراها موطئ لطغاة
لنستسهلنَّ الصعبَ حتى نردها
إلى كَنَفِ الرحمنِ بعد شَتات
ونبعثُها في مَعْقلِ الظلم ثورةً
تسد عليه وجهَ كل نجاةِ
وقد يتأبى النصرُ حينا على المُنى
ولكنه رغم التأخر آتي
ومهما يطل ضغط الظلام فخلفَه
بوارقُ فجرٍ مشرقِ القسمات
ومَن يعتصمْ بالله لم يُغضِ جفنُه
على الذل أو يُلقِ القيادَ لعاتي
يا خليلي.. خليُّاني وأشجا
ني أناجي ِ أطيافَهُنَّ وحيداً
قد عصتني الدموعّ لكن قلبي
في جحيم الأسى يذوب وئيدا
وجراح الإسلام من كل صوب
قاتلاتي وإن بدوتُ جَليدا
«أبو بوغسان»(23/126)
المشارق والمغارب
فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
مقابة صحفية:
وكان في انتظارنا أحد الصحفيين الباكستانيين لإجراء مقابلة معنا حول رحلتنا في بريطانيا وأمريكا واليابان وهنغ كنغ، وذكر الأخ خليل الحامدي أن عددا من الصحفيين تسابقوا للقائنا ولكن صاحب هذه الصحيفة (وأظن أن اسمها: الحياة) هو الذي أعطي حق المقابلة من قبل الجماعة، والظاهر أن ذلك بسبب التزام الجريدة بالخط الإسلامي أكثر من غيرها.
كانت الأسئلة تدور حول أمرين: الأمر الأول- عن انطباعاتنا بالنسبة للمسلمين في الدول التي زرناها. والأمر الثاني- حول ما تقوم به كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في الأدب العربي وأدب الدعوة الإسلامية، وموقفها من الاتجاهات الأدبية المعاصرة.
ثم واصلنا الحديث مع الأخ خليل الحامدي فذكر أنه لابد من التعاون بين الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والجماعة الإسلامية في باكستان، وضرب لذلك مثالا: قال: لقد كان للجماعة الإسلامية مدارس منتشرة في كل أنحاء باكستان، ولكن الحكومات المعادية لحركة الجماعة أممت تلك المدارس، والآن يوجد للجماعة طلاب في كل المناطق وفي كل المراحل، والجماعة تود لو أن الجامعة الإسلامية تنشئ لها فرعا تحت اسم كلية العلوم الإسلامية أو الدراسات الإسلامية التي ربما تتطور إلى جامعة في المستقبل حتى تضم طلبة الجماعة المؤهلين.
وذكر مجالا آخر، هو تخصيص منح دراسية في الجامعة الإسلامية في كل كلية من كليات الجامعة حتى يكون عند الجماعة علماء- متخصصون في فروع الشريعة الإسلامية المختلفة.
كما أنه يمكن أن تبعث الجامعة عددا من طلبتها للقيام بالدعوة في الباكستان؛ ليتدربوا على الدعوة وأساليبها، ويمكن أن يستفيدوا من تجارب الجماعة في ذلك.(23/127)
وقد سبقت إلى ذلك جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ حيث بعثت أربعين طالبا من طلابها فقاموا في المدينة المنورة، ووضعت لهم برامج كان فيها فائدة لمدة أسبوعين كما أن جامعة الرياض قد حذت حذو جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
جولة في مدينة لاهور:
وبعد صلاة العصر من يوم الخميس، قمنا بجولة في مدينة لاهور، وفي طريقنا رأينا حالة البؤس، وعلامة الفقر المدقع، ورأينا حالة وسائل النقل السيئَة، إذ يتراكم الناس في عربة خشبية تجرها الخيل أو الحمير يختلط فيها الرجال والنساء.
كان يرافقنا في هذه الجولة الأخ فيض الرحمن الذي لم يفارقنا مدة بقائنا في لاهور، إلا في أوقات الراحة أو النوم، وهناك أرانا المكان الذي اعتدى فيه على المودودي، وهو يخطب في جماهير المسلمين في أول قيامه بالدعوة في باكستان، حيث أطلق عليه الرصاص، وقد طلبا منه أن يجلس خشية تكرر ذلك فرفض وبقي واقفا، وقال لهم: إذا لم أثبت أنا فكيف تثبتون أنتم؟
كما أن أعداء الدعوة قطعوا التيار الكهربائي، فكان يقول الأستاذ المودودي الجملة فينقلها القريب منه إلى من يليه، ثم يبلغها هذا إلى الآخرين حتى انتهى من خطابه.
شاهي مسجد الذي يرقد بجانبه محمد إقبال:(23/128)
ثم ذهبنا إلى قصور بعض الحكام السابقين، وهي أثرية، ذات بناء قوي، لازالت أسوارها قائمة، وكان وقت السماح بدخولها قد انتهى، فذهبنا لمسجد قريب منها يقع بقربه قبر الشاعر المسلم محمد إقبال، الذي يقف في كل ركن من أركان ساحته جندي مسلح، وعندما سألنا فيض الرحمن عن السبب، قال: لم يكن هذا موجودا من قبل، والظاهر أن الجنرال ضياء الحق أراد منع الناس من التبرك به، لأنهم كانوا يأتون إلى قبره، ويتبركون به. ويسمى الجامع الذي بجانبه: شاهي مسجد، ويقدر أساس المسجد بأربعة عشر قدما، وله منارة عالية تشرف على مدينة لاهور كلها، فقال الأخ فيض الرحمن، هل تريدون أن نصعد إلى أعلى هذه المنارة والناس يصعدون فعلافقلت له: نحن في هذه الليلة سوف لا نرتاح فإنا سنسافر إلى كراتشي، ثم نبقى في المطار إلى أن نسافر إلى المملكة في الصباح، فإذا صعدنا فإن ذلك سيزيدنا إرهاقا. فألح علينا، فوافقت، وأخذنا نصعد وكان فيض الرحمن أمامي وأردت أن أكافئه إلحاحه بإتعابه، فكنت أقول له أصعد، كلما أراد أن يقف وهكذا صعدنا إلى أعلى المنارة دون أن نقف، وعندما وصلنا هناك كان الأمر بالعكس، ففيض الرحمن تعب ولكنه لم يصب بما أصبت به أنا فقد أصبت بدوار شديد، وهبوط في الجسم، وتصبب العرق حتى كنت أظن أنني سأطلب الإسعاف في ذلك الوقت، قلت لقد أدبني ربي فأحسن تأدبي، أردت أن أوقع صاحبي في شيء وقعت فيه أنا، لذلك قعدت قليلا حتى عاد إلي نفسي وارتحت.(23/129)
أما زميلي الدكتور فقد نفعته هنا أناته السودانية، التي يحبها الله ورسوله الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان كلّما قطع مجموعة من الدراجات، وقف على شرفة المقابلة لها في المنارة يشم الهواء، ويستجم، ثم يصعد هكذا فوصل إلى قمة دون أن يتعب. وإذا ذاك تذكرت قول الرسول الله صلى الله عليه سلم، "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهر أبقى" ولكنها دروس لعلي أستفد منها، وعندما نزلنا عددنا الدرجات، فكان عددها مائتين وعشرة درجات.
تقليد الأعمى:
وفي طريق رأينا المرور يوقفون سائقي الدراجات النارية، ويلزمنهم بدفع غرامة، فظننت ذلك بسبب عدم حمل الرخصة أو الاستمارة، ولكن رأينا من يلبس المغفر على رأسه لا يوقف؛ فسألت الأخ فيض الرحمن، فقال: إنهم يلزمون السائقين بوضع المغفر على رأسهم، وهو في الغرب كذلك-قلت: مع حالة الباكستانيين هذه، وحاجتهم إلى المال، ينفقون على أنفسهم، يلزمونهم بشراء المغفر البريطاني؟ ثم قلت: الظاهر أن الشركة التي تصنع المغافر لها يد في هذا الإلزام، فقال زميلي بيلو: لعل بعض ضباط المرور زار بعض البلدان الأوروبية فرجع بالفكرة. ولكن أخانا فيض الرحمن أراد أن يسلينا بقصة، وقعت لبعض أعضاء الجماعة الإسلامية؛ فقد أوقفه جندي المرور وطلب منه دفع الغرامة، فقال له: أتريد أن تأخذ مني مالا وأنا من الجماعة الإسلامية؟ أن مال الذي تأخذه الجماعة أحق به فكيف تطيب نفسك بأخذه؟ فتركه الجندي فذهب دون أن يدفع شيئا.
عدنا بعد ذلك إلى المنصورة؛ لنأخذ حقائبنا اليدوية ونذهب إلى مطار لاهور، هناك وجدنا الأخ خليل الحامدي الذي دعنا، وهو وبعض أعضاء جماعة، ونحن ودعناهم وشكرناهم على كرم الضيافة، وشكوت فيض الرحمن الذي أتعبني بصعود درج منارة المسجد إلى الأخ خليل، فابتسم وقال لعلك تعود وقد ركب في المنارة مصعد كهربائي، فلا تتعب مرة أخرى إن شاء الله.
نبذة عن الجماعة الإسلامية:(23/130)
وفي ختام الكلام عن الجماعة الإسلامية أحب أن أعطي القارئ بعض المعلومات عن الجماعة من الرسالة المنشورة باسم: الجماعة الإسلامية.
- تأسست الجماعة عام 1941 م ومرت بالمراحل الآتية:-
1- مرحلة النقد والتبليغ.
2- مرحلة التربية والإعداد.
3- مرحلة الكفاح والنضال.
ولكل مرحلة وسائلها ومنهاجها وكتبها التي ألفها الأستاذ المودودي.
* غاية الجماعة:
إن الغاية الوحيدة التي لأجلها قامت الجماعة الإسلامية، إنما هي: إقامة النظام الإسلامي؛ ابتغاء وجه الله تعالى وحده.
*الوسيلة:
ولتحقيق هذه الغاية اتخذت الجماعة برنامجا شاملا يتضمن أربعة أجزاء
الجزء الأول: هو تطهير الأفكار وتعهدها بالغرس والتنمية.
الجزء الثاني: هو استخلاص الأفراد الصالحين وجمعهم في نظام واحد وتربيتهم.
الجزء الثالث: هو السعي في الإصلاح الاجتماعي، وهو يشمل إصلاح كل طبقة في المجتمع حسب أحوالها.
الجزء الرابع: هو إصلاح الحكم والإدارة.
ويكفي أن أنقل تفصيلا لهذا الجزء الأخير، قال:(23/131)
"ذلك بأنه من عقيدتنا، أنه لا يمكن أن ينجح تدبير من التدابير، في إصلاح مفاسد الحياة الحاضرة، مادامت لا تبذل المساعي لإصلاح نظام الحكم والإدارة، مع المساعي الإصلاحية الأخرى على قوة الثقافة والقانون والإدارة وتوزيع الرزق، لا يمكن أن تجدي شيئا في درئه تلك المساعي التي تبذل للإصلاح والبناء بوسائل الوعظ والتلقين والدعوة والإرشاد فقط، فان كنا نريد اليوم أن نصرف نظام الحياة في بلادنا عن طريق الضلال والفساد والفسق والعصيان إلى طريق الإسلام المستقيم، فلا مندوحة لنا من أن نبذل سعينا بطريق مباشر في إزاحة الفساد عن منصة القيادة والسلطة وإحلال الصلاح مكانه. والظاهر أنه إذا كان زمام الأمر والسلطة بأيدي الصالحين المؤمنين، فإنهم يحدثون في أعوام قلائل من التغييرات الهامة في نظم التعليم، والقانون والإدارة، مالا يمكن أن تأتي به الجهود غير السياسية في مدة قرن كامل فإن الله ليزع بالسلطان مالا يخص بالقرآن.
أما كيف يتأتى هذا التغيير فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي، إلا السعي في الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد وننشر الوعي السياسي الصحيح فيها، ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم في المجالس النيابية، ونصلح طرق الانتخاب، ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين يحبون ويقدرون أن ينهضوا بصرح نظام البلاد على أسس الإسلام وهدي الكتاب والسنة ... "1 هـ.
شعب الجماعة التي يقومون بنشاطهم من خلالها:
- شعبة التنظيم والإدارة، للإشراف على فروع الجماعة وتنظيمها في باكستان كلها.
- شعبة بيت المال، لتنظيم ميزانية الجماعة، والإشراف على بيوت المال الفرعية في أنحاء البلاد ومحاسبتها.
- شعبة الخدمات الاجتماعية، لجمع أموال الصدقات والتبرعات من الأغنياء ومساعدة الفقراء.(23/132)
- شعبة النشر والإعلام، لنشر أخبار الجماعة وإعلاناتها في مختلف الصحف والمجلات في داخل البلاد وخارجها، والإشراف على مجلات الجماعة وجرائدها.
- شعبة الشئون العمالية، لتنظيم العمال والفلاحين والموظفين القليلي الدخل في مصالح الحكومة.... ومساعدتهم في مشاكلهم
- شعبة التربية، لتربية أعضاء الجماعة وأنصارها تربية علمية وعملية. وإعداد رجال صالحين للقيام بمهمة الدعوة الإسلامية حسب مقتضى العصر الحاضر.
- شعبة المدارس والمعاهد ومكافحة الأمية.
- دار الترجمة الإنجليزية لنقل كتب الجماعة، والمؤلفات الإسلامية الأخرى إلى الإنجليزية.
- دار الترجمة البنغالية لنقل كتب الجماعة إلى اللغة البنغالية….
- المجتمع الإسلامي، الذي أنشئ تحت إشراف الأستاذ المودودي- لمجابهة تحدي الحضارة الغربية المادية....
- شعبة الشئون البرلمانية، الاتصال بنواب المجالس البرلمانية- والبرلمانات عامة، ونواب الجماعة في هذه المجالس خاصة لإشعارهم بوجهة نظر الشريعة الإسلامية في كل تشريع يناقش في المجالس.
- شعبة الانتخابات (وللجماعة نظام خاص ومنها يختلف عن منهاج الأخرى) .
- قسم الأخوات المسلمات لنشر الدعوة في المحيط النسائي.
هذا وقد سمعت نقدا شديدا يوجهه بعض علماء الباكستان إلى الأستاذ المودودي، وسمعت نقدا منهم ومن غيرهم يوجه إلى الجماعة نفسها، والنقد لا يسلم منه أحد، لاسيما إذا كان من يوجه إليه النقد عاملا متحركا؛ فان الإنسان ليس بمعصوم، قد يحصل منه الخطأ كما يحصل منه الصواب الذي يكون خطؤه أكثر من صوابه يعتبر ناجحا في عمله، وإذا كان مجتهدا فله أجران فيما أصحاب أجر فيما أخطأ.(23/133)
وقد يسلم من النقد الشخص الخامل الذي لا يعمل ولا يدرى عنه الناس أين يقع؟ وهذا ذكرني ببعض طلبة الجامعة الإسلامية عندما كنت مسئولا عن شئون الطلاب، وكنا نقوم برحلات يخدم فيها الطلب أنفسهم، بل ويتحملون هم نفقاتها. فكان، بعضهم نشيطًا في العمل، فانتقد النشطون. وفي مرحلة أخرى تواطأ هؤلاء النشطون ألا يعملوا، فلم يوجه إليهم نقد، وإنما وجه إلى غيرهم ممن قام بالعمل. والمثل يقول: وويل للشجي من الخلي.
* من لاهور إلى كراتشي:
أقلعت بنا الطائرة من مطار لاهور الحادية عشرة وخمسة عشرة دقيقة، من مساء يوم الخميس الموافق 29/8/1398هـ.
هبطت في مطار كراتشي في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخمسين، وفور نزولنا وجدنا الأخ خليق أحمد ومعه صديق له ينتظراننا، ومعهما حقائبنا التي كنا تركنها عند الأخ خليق عندما سافرنا إلى لاهور. فشكرنهما على ذلك، وكنا نفكر فيما نفعل، أنذهب إلى أحد الفنادق لننام إلى وقت المقرر في حضوره في آخر الليل أم نبقى في المطار إلى الصباح؟
وكان الأخ خليق يفضل الأولى، أما زميلي الدكتور فإنه فضل الثانية، وعلل ذلك بأن الوقت ضيقة وأعصابنا مشدودة للسفر فإما أن نبقى في الفندق بدون نوم، أو ننام ويخشى أن تفوتنا الرحلة ونحن متعبون، فوافقت الزميل حتى لا نختلف، وللقناعة بتعليله وطلبنا من الأخ خليق أن يعود إلى بيته لينام، لأنه مقيم، ونحن مسافرون، ففعل بعد تردد؛ لأنه يريد أن يبقى معنا إلى أن نغادر المطار.
ويسر الله لنا مقعدين فارغين في لحظة من اللحظات، وهذه اللحظة أنذر من الكبريت الأحمر، لقلة المقاعد وكثرة من يريد القعود وجاء الزميل بعربة نقل الأثاث، فرصصنا حقائبنا عليها، وقربناها منا وقعدنا متلذذين بالقعود؛ لأن الناس واقفون، ومنهم القاعد في الأرض، بل ومنهم النائم.(23/134)
وكان بعض النائمين على المقاعد المجاورة لنا ينام فيشخر حتى يكاد يقفز، فيقع رأسه علي، ثم يقوم قليل ثم يعود، وكان زميلي يقوم ليستفسر عن وقت وزن العفش والإجراءات اللازمة ثم يعود.
* الكرتون أم الحقائب:
ورأيت أربعة من الشباب يقف كل منهم وراء الآخر، والخامس جلس بجانبي وأخذ يكلمني بلغته، وكنت قد سمعت من الهنود والباكستانيين كلمة نفعتني مع هذا الشباب، قلت له معلوم ني، أي لا أفهم ما تقول، ولكنه كان مصمما على مخاطبتي، وكأنه عين للجلوس معي لكونه يتكلف النطق ببعض الكلمات العربية يلهيني بها، وجماعته يفعلون ما يريدون فقال: أنا شويه كلام عربي: قلت له كيف تعلمت ذلك؟ وأنا أنظر إلى زملائه وهم يقتربون الواحد تلو الآخر، فإذا رأوني التفت نحوهم وقفوا.
قال: أنا في الرياض كنت هناك.
قلت: ماذا تعمل؟ قال: كنت بقالة هناك، أحمل كرتون، ثم سكت عنه، ولم أتكلم معه، ولم التفت إليه، لأني خشيت أن يحمل زملاؤه حقائب بدل الكرتون، وعندما يئسوا مني قام هو إليهم، وأخذوا يتهامسون وهم منصرفون عني، وجاء الزميل وأخبرته بالأمر، وكان هناك أيضا غير هؤلاء يحاول الاقتراب بحجة أنه يريد العربة ولكني صرفته بقوة.
وهكذا بتنا في مطار كراتشي إلى الساعة الخامسة والنصف صباحا وبدأ الناس يتحركون لإجراء اللازم، وزن العفش، وختم الجواز. فدخلنا إلى القاعة التي فيها إجراء تلك المعاملات، ووزن العفش ولأول مرة في رحلتنا يوزن العفش، لأن الشركات الأخرى تقرر للراكب ثلاث حقائب، فإذا زادت عن الثلاث بعد ذلك تزن عفشه. وقال الموظف لزميلي زاد عن الوزن المقرر خمسة كيلو فقال الزميل مشيها فمشاها، وكانت مخالفة للنظام ولكنها مشت.
موظف ثقيل:(23/135)
وبدأ طابور المسافرين يتزاحم، كل واحد يريد أن يسبق من قبله، والعدد كبير، والإجراءات يقوم بها اثنان فقط، وكان أحدهما ثقيلا في إجراءاته فوضويا في تنظيمه، فكان من مدّ له جوازه أخذه ويتأمل الجواز ثم البطاقة المرفقة سطرا سطرا، وإذا ختم الجواز، سمعت صوت الختم كأنه مطرقة نجار يدق بها وتدا، فتزاحم الناس عندها، وكان زميلي في الصف المتجه إليه، فنصحته أن يخرج من هذا الصف القصير الذي سيكون أقصر منه الصف الطويل الآخر، فخرج الزميل ودخل في الصف الآخر، وكان فعلا هذا الصف أسرع من ذاك على رغم طوله.
يوم الجمعة 30/ 8 وبعد انتهاء الإجراءات دخلنا إلى قاعة الانتظار وهناك صلينا الفجر، وفي الساعة السابعة والدقيقة الثلاثين أقلعت بنا الطائرة من مطار كراتشي إلى مطار الظهران فوق المحيط الهندي ثم الخليج العربي وكانت مدة الطيران ساعتين.
* في مطار الظهران:
ونزلنا في مطار الظهران، ودخلنا إلى قاعة الإجراءات، وكنت متعبا أكاد أسقط من شدة التعب والإعياء، وتزاحم الناس فلم نزاحمهم فكنا في آخر الناس، وعند الدخول كان مندوب الصحة واقفا يفتش البطاقات الصحية، وكانت بطاقتي معي وبطاقة زميلي نسيها في الحقيبة التي في الطائرة. وكان قبلي، قال له المندوب: أين البطاقة؟ فأجابه: نسيتها في الحقيبة التي في الطائرة، فقال له أدخل فدخل، أما أنا فكانت بطاقتي واضحة مع الجواز، ولكنه نظر إلي فوجدني أنفخ من شدة التعب فقال: كأنك مريض، قلت: متعب ولست مريضا خشيت أن يؤخرنا للكشف على اشتباها في حالتي.
واختلط الناس وصار المتأخر يتقدم والمتقدم يتأخر والموظف واحد فقط، فجلست أنا وزميلي ننتظر انتهاء الناس، ولكن بعد فترة جاء ركاب رحلة أخرى واختلطوا بركابنا حتى لم يجد الواقف مكانا لرجليه في الأرض إلا أن يدوس على أقدام غيره ويدوس غيره على أقدامه.(23/136)
وهنا وثب زميلي وأخذ جوازي وجوازه وأراد أن يفعل ما يفعل الناس وإلا فسوف تقلع الطائرة قبل أن ننتهي، وفعلا كان بعض أمواج الناس تقدمه وبعضها تؤخره، حتى يسر الله له الأمر فانطلقنا إلى الطائرة التي لم تقلع إلا بعد ساعتين من هبوطها.
إن النظام في الغرب يجبر صاحب الفوضى أن يحترمه، والفوضى في بلاد الشرق تجبر المتمسك بالنظام أن يتلبس بالفوضى اضطرارا؛ كأكل الميتة، ومن أولى بالنظام المسلم الذي نظم له الإسلام كل حياته أم الكافر الذي كفره كله فوضى.
وفي تمام الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة، نزلنا في مطار جدة ودخلنا في قاعة الجمرك فانتظرنا أثاثنا الذي تأخر ما يقارب ساعتين أو أكثر واتصلنا بالخطوط السعودية، إن كان قد تم الحجز لنا عن طريق مكتب السعودية في كراتشي، الذي وعدنا موظفوه بالحجز على الرحلة 913 التي غير موعدها في جدة إلى 914 فلم نجد أسماءنا عندهم. واتصلنا ببعض إخواننا في جدة فجاء إلينا ونقلنا إلي بيته لنستريح قليلا، ثم ذهبنا إلى المطار ويسر الله لنا السفر وقد كدنا نيأس.
وكان موعد إقلاع الطائرة الساعة الثالثة والنصف مساء، ولكنه غير كما غير رقمها أقلعت في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والأربعين.
وكان هبوطها في الساعة السادسة والدقيقة العشرين، وكانت آخر محطة لسفرنا، كما كانت أول محطة لسفرنا قبل أربعين يوما والحمد لله رب العالمين.
* نتائج الرحلة:
لقد استغرقت رحلتنا أربعين يوما زرنا خلالها، لندن ونيويورك، وأندينا، وديترويت وشيكاغو، وطوكيو، وهنغ كنغ، وكراتشي، ولاهور وخرجنا بالنتائج الآتية:-
أ- عامة العالم الغربي لا يعرف عن الإسلام شيئا، اللهم إلا تشويهه من قبل أعدائه من اليهود وأتباعهم من أهل المذاهب الهدامة، وسوء سلوك المنتسبين إليه الذين يرى فيهم أهل الغرب أحط الأخلاق، ويفسرون الإسلام بسلوكهم؛ وذلك دون شك ينفر الناس منه.(23/137)
3- المسلمون في الغرب أصناف: صنف يفهم الإسلام فهما جيدا، ويحاول تطبيقه في نفسه، والدعوة إليه، ولكنهم قليلو الإمكانات. وهؤلاء يجب دعمهم بكل ما هو متاح من مال ومرشدين وأساتذة ومدارس ومساجد وفي وغير ذلك.
صنف متحمس للإسلام، ويود تطبيقه بكل ما أوتى من قوة، ولكنه يجهل الإسلام جهلا فاحشا،ويطبقه تطبيقا مبنيا على هذا الجهل، وهذا الصنف يجب أن يمد بالدعاة العلماء الحكماء والكتاب السليم والمنح الدراسية.
صنف يظهر تحمسا للإسلام والدعوة إليه في نطاق خاص من البشر، ويظهر قبول تصحيح مفاهيمه ولكنه لازالت أفكاره الخاطئة تنشر في كتب ومجلات، ولهم اتصال ببعض أعداء الإسلام، كاليهود والقاديانية. وهذا الصنف كسابقه ينبغي أن يمد بالدعاة والمنح الدراسية والكتاب.
صنف واضح الخطورة، وهم الذين ينضمون إلى الماسونية، أو غيرها من الأحزاب الهدامة. وهذا الصنف الأخير يجب التحذير منه، وعدم مدّ يد العون له مطلقا.
3- جامعات الغرب مفتوحة للنشاط الإسلامي، وكثير منها بها أقسام عربية، وأديان مقارنة، بما فيها الدين الإسلامي وفيها من الحرية ما يسمى بالنقاش والمناظرة، حتى من قبل الطلبة المسلمين. فلو كان طلبتها على مستوى جيد من الثقافة الإسلامية لكان لهم تأثير عظيم في شباب الجامعات الغربية، بل وأساتذتها الذين يعطون الطالب الحرية الكاملة في النقاش والأخذ والرد. ولكن المؤسف أن أغلب الطلبة على العكس من ذلك يقبلون ما يقال عن دينهم من تشويه؛ لعدم ثبات عقيدتهم وقلة ثقافتهم الإسلامية إن لم يكن انعدامها وبعض الجامعات يودّ لو كان بها أساتذة مسلمون حقا في الشريعة الإسلامية يبثون حقائق الدين الإسلامي، بأساليب علمية وإن كان في نفس تلك الجامعات من لا يرضى بذلك ولا يطيقه.(23/138)
وقد أخبرنا بعض أعضاء المركز الإسلامي في طوكيو أنه قد تمت الموافقة في جامعة تشوا على إنشاء كرسي للدراسات الإسلامية، وأنهم طلبوا-لعله من الرابطة ومن بعض الجامعات العربية- أساتذة مسلمين ينتدبون لتدريس أساتذة الجامعة المذكورة الشريعة الإسلامية في السنة الأولى، وفي السنة الثانية يشترك الأساتذة المسلمون واليابانيون في تدريس الطلبة، وفي السنة الثالثة يفتح قسم لتدريس الشريعة الإسلامية. والجامعة المذكورة مختصة لتدريس القانون المقارن وأهلها راغبون في دراسة الشريعة الإسلامية فأين المؤسسات الإسلامية التي تغزو هذه الجامعة وأمثالها؟
4- أحسن عمل نافع للدعوة الإسلامية: هي المنح الدراسية، وفتح المدارس والكليات في العالم على أن تكون مدارس عملية، يلحق بها مسجد وقاعة محاضرات، وقسم داخلي ومستوصف صغير، وهذا تفعله الكنائس في العالم ولا نجاح لها إلا بذلك. أما الكنائس التي تخصص للعبادة فقط بدون خدمات فإنها أخفقت. والناس يريدون عملا قبل الكلام، والمدارس أثبت وأنجح من مرشدين يمرون كسحابة صيف تنقشع بسرعة، وإن كان هذا أمرا لابد منه لإقامة الحجة.
وفتح المدارس في العالم ليس متعذرا، فبعض الدول فيها من الحرية ما يسمح بذلك مثل أمريكا، ومنها ما يمكن فيه مساعدة الأهالي المسلمين، وهم الذين يفتحون المدارس ويعانون بالمال والمدرس والكتاب.
5- نرى أن من أنفع الأمور للدعوة ونشرها أن يكون للجامعة إدارة مختصة بترجمة الكتب القديمة والحديثة باللغات المختلفة لنشرها في البلدان الأجنبية.(23/139)
وفي إمكان الجامعة أن تختار من طلبتها المتخرجين من يجيدون تلك اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والسواحلية والأردية واليابانية والتركية والصينية. وإذا لم يوجد بعض الطلبة في بعض اللغات فيمكن التماس من يجيدون ذلك من خارج الجامعة. فكتاب صحيح البخاري المترجم نفع نفعا عظيما في الغرب، والناس يطلبونه بإلحاح، ويشترونه بأموالهم. وبالمناسبة فإن أحد الباكستانيين طبع الكتاب المذكور بإذن من مترجمه، وحقوق الطبع أصبحت له، والناس مما يشكون منه بأنه استغله استغلالا فاحشا؛ فيجب تنبيه المترجم. كما أن الناس في الغرب يعتمدون على أي كتاب تقع عليه أيديهم يترجم معاني القرآن الكريم وأكثر الترجمات غير سليمة؛ لذلك نوصي بطبع كميات ضخمة من ترجمة الدكتور محمد محسن خان لتوزيعها في العالم.
6- لقد لمسنا نفع المتخرجين من الجامعة الإسلامية أينما حللنا لما يتمتعون به من فهم مباشر لكتاب الله وسنة رسوله عن طريق اللغة الأصلية لهما، ولكونهم أحسن سلوكا من غيرهم في الغالب. ولكن وجدنا أنهم في حاجة ماسة إلى التدريب العملي على أساليب الدعوة وعلى الانفتاح على الثقافات العالمية، والشبهات التي تثار سواء كانت في العقيدة أم في العبادة أم في الشريعة. وقد سبق أن قدمت بعض الاقتراحات لمجلس شئون الدعوة، وصورة لفضيلة نائب رئيس الجامعة تتضمن ما قد يساعد في هذا الباب.
فإن طلبة الجامعة يبقون عندنا على الأقل أربع سنوات، وتنفق على تعليمهم الأموال الطائلة؛ فيجب أن نكمل المشوار بتدريبهم عمليا على الدعوة. وإن حرص الجامعة على السلوك الحسن لطالب الجامعة من أعظم ما يميز طالب الجامعة عن غيرها. ولكن يجب أن يكون ذلك عن طريق الإقناع، والتربية العملية أولا ومن لم ينفع معه الإقناع والتربية، فليجبر على السلوك الحسن تنفيذا لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولقد رأينا فرقا واضحا بين النوعين في بلاد المغريات.(23/140)
المتخرجون الذين يعملون مع الرابطة أو إدارة الدعوة لا تكفيهم رواتبهم في الغرب؛ لأن الراتب ثمانمائة دولار تقريبا والأسعار، هناك مرتفعة جدا وأجور المنازل كذلك وما من أحد منهم وجدناه إلا وهو يشكو من الدين، وقلة ذات اليد. والمفروض أن الداعية يزود بما يكفيه؛ فإنفاق المال على الدعاة إلى الله وكفايتهم أمر لابد منه، ولا يليق بالمسلمين أن يسبقهم إلى البذل أعداء الإسلام- كالمسيحيين وأشباههم؛ لذلك نرى ضرورة تنبيه الجهات المختصة إلى ذلك.
7- العالم الغربي لا يعرف عن العالم الإسلامي -ومنه العالم العربي ومشاكله- إلا ما ينشره أعداء الإسلام في الغرب، لأن أجهزة الإعلام كلها في أيدي شركات وأغلب الشركات يسيطر عليها اليهود. ومن السهل على المسلمين أن تكون لهم هناك أجهزة إعلام: محطات إذاعية قنوات تليفزيونية جرائد ومجلات تبين فيها للغربيين محاسن الإسلام، وترد على خصومه، وتشرح كذلك للناس مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية. فان شركات صغيرة لها ذلك في الغرب، بل أفراد، فكيف بمؤسسات إسلامية ودول، ألا ليت قومي يعلمون فيعملون.
ويمكن أن تساعد الجمعيات والاتحادات الإسلامية الصالحة لتقوم بالمهمة هناك. وإذا كان الإسلام دين البشرية كلها ولها حق على المسلمين أن يبلغوها ذلك الدين وطرق التبليغ ميسرة والإمكانات المادية موجودة والمتعاونون من المسلمين في تلك البلاد موجودون ويمكن أن يتعاقد مع الصالحين من المسلمين من جميع البلدان الإسلامية باللغات المختلفة للقيام بنشر الدعوة عن طريق أجهزة الإعلام والمدارس فهل بقي عذر للمسلمين القادرين؟.(23/141)
ولقد تجسمت لي عاطفة الأستاذ الندوي وكل في عنوان كتابه المشهور (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) في هذه الرحلة أكثر من أي وقت مضى -على الرغم من أنّي قرأت الكتاب مرات- ولكني تخيلت الأستاذ الندوي تدمع عيناه مع قلمه وهو يكتب العنوان. وحقا لقد كانت خسارة العالم فادحة: فإن الغرب قطع أشواطا بعيدة في الصناعة والتجارة والإدارة وغيرها من النظام التي تحقق له الرفاهية المادية في ظاهر الأمر، ولكنه يلهث لما يحقق له الراحة الحقيقية راحة القلب وطمأنينته. وهذه لا توجد إلا عند المسلمين: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} والمسلمون يأكلون ويشربون وينامون متناسين أن لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة والله تعالى قد قال لنبيه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، ومتناسين أنهم خير أمة أخرجت للناس. يجب عليهم أن يقودا البشرية الضائعة إلى الله مع وجود الإمكانات الهائلة في جميع المجالات. وعلى الجامعة الإسلامية بالذات أن تحمل عبئها وأن تنفذ كل ما تقدر عليه من توصيات مؤتمر الدعوة، وتوجيه الدعاة الذي دعت إليه وعلى مجلس شئون الدعوة أن يصل ليله بنهاره لدراسة شئون الدعوة فعلا والتخطيط لمستقبلها في الدنيا دون نظر لشيء غير الواجب الملقى على عاتقه ولا يكون كبقية المجالس التي تجتمع وتنفض بالتألم والتأوه دون نتائج تذكر. ولقد بدا لي أن كثيرا من المراكز الإسلامية الرسمية في العالم ماهي إلا فقاقيع تحب أن تحمد بما لا تفعل. فلا يجوز الركون إليها ولا الثقة بتقاريرها.(23/142)
وأين نحن من مراكز الصليبية التي غزت كل العالم بكل ما عندها من قوة مادية ومعنوية. والله لو كان دين الصليبية المحرف فيه شيء يوافق الفطرة ويقربه إلى العقل لكان الناس قد دخلوا في الدين المذكور. ولكنه يخالف الفطرة والعقل؛ ولذلك تذهب جهودهم سدى إذا استثنينا إخراج المسلمين الجهال بدينهم من إسلامهم.
ولقد رأيت بأم عيني في لندن مجموعة من البشر، أرخت شعورها وأطلقت لحاها وشواربها ومعها أدوات الموسيقى ومعهم بعض النساء وهم يضربون الدفوف ويرقصون ويغنون فسألت ماذا يقول هؤلاء: فقالوا يقولون أين الطريق أو كيف السبيل إلى البيت من جديد وذكروا أن هؤلاء من أغنياء الناس خرجوا من منازلهم المترفة وتركوا أموال آبائهم الطائلة وسياراتهم الفخمة يبحثون عن راحة القلب وطمأنينته فلم يجدوها، ويريدون أن يعودوا إلى البيت فعلا ولكنهم لا يطيقون أيضا؛ لأنهم قد جربوه فقلت لزميلي يطلب منهم أن يتفاهموا معي فإن عندي ما يريحهم وحقا كنت في غاية الحسرة عليهم ولقد دمعت عيناي وإن كان الحاضرون يضحكون منهم فقال أحد المرافقين لنا إنهم لا يثقون في أحد يدلهم على سبيل الراحة ولا يتفاهمون بل ربما يضربون الذي يقول لهم إن عنده سبيلا إلى راحة قلوبهم؛ لأنهم قد يئسوا من المجتمع. وقد كنت أظن أن ما يسمونه بالهيبز أمثال هؤلاء فقراء لم يحصلوا على من يعنهم أو على أعمال تدر عليهم الرزق ففعلوا ما فعلوا. ولكن الأمر انعكس فأين المسلمون الذين يدلون، هؤلاء على راحة قلب واستقرار الضمير و (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ....(23/143)
8- هذا. وقد حاولت جهدي أن يكون وصفي لأخلاق الغربيين وعاداتهم عادلاً غير جائز، وقد يغضب غاضبون ما لذكري بعض أوصافهم المحمودة، كالتقيد ببعض الأنظمة المفيدة، والنظافة والجدّ في الأعمال المادية النافعة، غير أني أنطق في تحليلي لتلك الأخلاق الإيجابية، وغيرها من أخلاقهم الذميمة السلبية من منطلقي العقدي الذي أدين الله تعالى به، وهو الإسلام فأزنها كلها بميزانه، وأشير إلى أن أخلاقهم المحمودة مبنية على غير أساس، ولذلك شبهت حضارتهم المادية ببالون الأطفال الذي يعجبهم منظره ولكنه سرعان ما ينفجر فيصبح مزقا ترمى في القمامة، وقد يغضب أيضا لهذا غاضبون، وليس غضب هؤلاء ولا أولئك بضائر؛ لأن الله قد أمرنا بالعدل في كتابه ولو كان الذي يستحقه مبغوضا عندنا شرعا، كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
إذا وجدت في الإنسان صفتان: إحداهما محمودة، والأخرى مذمومة، فالحق أن يحمد على ما يحسن ويذم على ما يقبح ولا يجوز الثناء عليه مطلقا، ولا ذمه مطلقا ولقد أحسن، الشاعر إذ قال:
الشيب كره وكره أن أفارقه
فاعجب لشيء على البغضاء محمود
وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا ونبينا ورسولنا محمد وعلى آله وأصحابه(23/144)
ردود ومناقشات يوم عاشوراء
بقلم: الدكتور نايف الدعيس
نشر في جريدة ((عكاظ)) مقال بعنوان: (اليهودية وصوم عاشوراء) للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، يشكك في تحديد يوم عاشوراء. فتصدى للرد عليه الدكتور نايف الدعيس بما يجلي الحق بأدلته. وفيما يلي نص المقال المذكور والرد عليه.
نص المقال:
كانت ديانة موسى عليه السلام تحوي أركانها الصوم؛ لأنه ركن في ديانات التوحيد، وديانة موسى توحيد خالص. فلما حرفها اليهود وقلبوها ديانة وثنية غيروا صيام التوحيد. وإن كانت أسفار اليهود المقدسة خالية من نص على الصوم في وقت معين إلا صيام الكفارة الذي لم ينص عليه بلفظ الصوم أو الصيام وإنما فسره الشراح به.
والنص الذي ورد هو ما جاء في سفر اللاويين- وهو أحد خمسة الأسفار التي، تعرف بالتوراة- 6/ 19: (ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع عاشر الشهر تذللون نفوسكم.. لأن في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم. الخ) .
وتكرر هذا المعنى في سفر العدد- دهر من أسفار التوراة- 29/7:
((وفي عاشر هذا الشهر السابع يكون لكم محفل مقدس وتذللون أنفسكم)) .
ولا يصرح السفران المقدسان لدى اليهود بلفظ الصوم، وإنما فسر الشراح تذليل النفوس بالصوم، فصام اليهود هذا اليوم الذي هو اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة الهجرية.
ويعرف هذا اليوم الذي يصومه اليهود بيوم الكفارة وهو- حسب تعريفهم- يوم صوم وتكفير عن خطايا شعب إسرائيل ويقوم رئيس الكهنة في هذا اليوم بتقديم ذبائح التكفير. ويمتنع اليهود في هذا اليوم عن العمل، ويجتمعون في احتفال مقدس يصومون في أثنائه تكفيراً من الشعب كله عن خطاياه.
وهذا هو الصوم الوحيد المطلوب منهم حسب الناموس [1](23/145)
ويصف ((قاموس الكتاب المقدس)) ذلك الاحتفال بقوله: ((كان رئيس الكهنة ينزع في ذلك اليوم زينته الرسمية، وبعد أن يستحم ويرتدى ثيابا بسيطة مقدسة مصنوعة من كتان أبيض.. الخ)) .
ثم يصف تقدمة الذبائح، ومراسيم الاحتفال الذي ينتهي بخلع رئيس الكهنة ثيابه الكتان ويعود إلى زينته الرسمية.
ويبدأ الصوم من غروب الشمس إلى غروبها من اليوم التالي، وكانوا خلال هذه الفترة يمتنعون عن الطعام فإذا انتهت أفطروا.
ويعرف هذا اليوم عند المسلمين بيوم عاشوراء؛ وفي صحيح البخاري [2] ، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال ((ما هذا)) ؟ قالوا:
هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه"
وفي صحيح الإمام مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون؛ فنحن نصومه تعظيما له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصومه".
وفي مسلم أيضا: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى ولله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه".
وفي ((النهاية)) لابن الأثير مادة عشرة (عاشوراء) ، هو اليوم العاشر من المحرم وهو اسم إسلامي وليس في كلامهم فاعولاء بالمد [3] .(23/146)
ومعروف على التحقيق أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول وفي ((فتع الباري)) : ((ولاشك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أوّل السنة الثانية، وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان؛ فعلى هذا لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلاّ سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع)) .
ويظن كثير من الناس أن صيام اليهود يوافق يوم العاشر من المحرم وهو وَهْم. فما كان اليهود يصومون عاشوراء: العاشر من المحرم، بل هو يوم عاشوراء آخر. ولا يسمونه عاشوراء. ولكنه يقع في اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة العبرية، ولذلك التبس الأمر على شراح الحديث؛ فظنوا أن صيام اليهود وقع يوم العاشوراء ولم يقع ذلك.
ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصل المدينة ودخلها يوم الاثنين المصادف يوم صيام اليهود، وهذا اليوم العاشر من شهر تشرين الذي قابل- في تلك السنة- يوم العشرين من سبتمبر سنة 622 م وهو اليوم العاشر من شهر تشرين سنة 4383 عبرية [4]
وقد جاء في مؤلفنا ((حجة النبي صلى الله عليه وسلم)) [5] صفحة 452 أن العلامة الكبير محمود حمدي باشا الفلكي، قد حقق يوم مغادرة الرسول صلى الله عليه وسلم مكة مهاجرا إلى المدينة، وبصحبته أبو بكر الصديق؛ وقال: إنه يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق 13 سبتمبر سنة 623 م. ودخل قباء يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول الموافق 30 سبتمبر سنة 633 ميلادية.
وإذا كان شراح الحديث وقعوا في وهم، حملهم على اضطراب أقوالهم في تحديد يوم عاشوراء، يوم صيام اليهود؛ فإن محمود باشا الفلكي قد انتهى إلا وضع حد لما كان قد نجم من الوهم والاضطراب، وقد أزالهما بتحقيقه الذي ذكرناه، وكان قوله فيصل الأقوال فيما شجر من خلاف في هذا السبيل.(23/147)
وإذا كان موسى قد صام يوم عاشوراء حسب تقويمهم؛ شكرا لله سبحانه وتعالى لإنجائه، فقد جاء في الآثار أن نوحاً عليه السلام قد سَبَقَ إلى صيامه؛ لأنه كان يوم رسو سفينته على الجودي، فصامه محمد صلى الله عليه وسلم شكرا؛ لأنه أحق وأولا بنوح وموسى.
الرد على المقال المذكور:
كان بعنوان (عاشوراء صحيحة صريحة وصيام اليوم العاشر مشروع) وكان نص هذا الرد ما يأتي:
تحدث الأستاذ (أحمد عبد الغفور عطار) في أحد أعداد عكاظ عن صيام يوم عاشوراء، وكان له رأي في تحديد ذلك اليوم، ولم يوفق للصواب فيما ذهب إليه، وانتظرت طويلا لأرى من ينبهه على مسلكه من العلماء أو المفتين في هذه البلاد أو غيرها، فلم أر، فأردت أن أدلي بما أراه الحق والصواب، لاسيما وأن ما ذهب إليه الأستاذ فيه مخالفة واضحة وجرأة عظيمة على ما كان عليه السلف والخلف أجمع في معتقدهم حول صيام هذا اليوم الذي لم يختلف اثنان في تحديده وأنه العاشر من شهر المحرم.
وإنما وقع الخلاف في صيامه أو صيام اليوم التاسع من الشهر المذكور. والذي عليه جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء هو صيام اليوم العاشر، وهو اليوم الذي صامه النبي صلى الله عليه وسلم، وعزم إن عاش إلى عامه المقبل أن يصوم اليوم التاسع قبل صيام اليوم العاشر إمعانا في مخالفة اليهود، عليهم لعنة الله.
وعاشوراء عربية فصحى على وزن فاعولاء نطق بها النبي العربي عليه الصلاة والسلام فقال: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه) .
وكانوا في الجاهلية يصومون هذا اليوم دون منازع، بل صامه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في الجاهلية قبل البعثة.
وكلمة عاشوراء اشتقاقها يدل على فصاحتها كما يدل على معناها، وتحديد اليوم الذي رغب في صيامه.
ومثالها في الوزن. خابوراء، ساوراء، ضاروراء، دالولاء.(23/148)
وليعلم الأستاذ (العطار) أن أحدا من السلف، أو الخلف من العلماء، أو العامة لم يقل بمشروعية صيام اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أصلا، حتى يقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد صامه وأمر بصيامه.
ولا أعرف كيف راق له أن يخالف جماعة المسلمين بإبداء رأيه حول تحديد ذلك اليوم، زاعما أن المحدثين اختلفوا في تحديده، وليس كذلك، بل يجزم خلافهم على النحو الذي ذكره، وإنما الخلاف وقع بينهم في صيامه أو صيام اليوم التاسع من شهر محرم.
واللغة لا تساعد على ما ذهب إليه الأستاذ الباحث، ولا العقل؛ لمخالفة ذلك ما عليه المسلمون جميعا دون استثناء.
وأحسب أن ما وقع فيه كان بسبب الفاء في حديث "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء.. فصامه وأمر بصيامه" وأمثاله من الأحاديث. وباعتماده على ما حققه الفلكي المصري، بتحديد اليوم الذي نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام.
فالأمر في ذلك واضح، فإما أن يكون الصحابي راوي الحديث حكى حال اليهود وفعلهم في ذلك اليوم، عند مقدمه عليه الصلاة والسلام، وإمّا أن يحمل التعقيب الذي أفادته الفاء على التعقيب النسبي؛ كقولهم بعث الله موسى فعيسى فمحمد عليهم السلام، وشتان ما بينهم من الزمن.
ولعل صيام اليهود تلك السنة وافق يوم عاشوراء من أوّل السنة التي تلت مقدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة، وهو ما يؤيد الاحتمال الأول، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (فحينئذ كان الأمر بذلك- يعنى صيام عاشوراء- في أوّل السنة الثانية) يعني من الهجرة، ولا يخفى على الأستاذ أن الله تعالى قد تعبدنا- معشر المسلمين- بالأشهر القمرية، وليس لحساب الأيام أي اعتبار عندنا، اللهم إلا إذا خفي الهلال فعدة الشهر ثلاثون يوما.(23/149)
وعلى هذا فإننا نصوم ونفطر ونقوم بمناسك الحج في الأيام التي كتب الله علينا فعل تلك المناسك فيها، وكذلك الأمر في صيام يوم عاشوراء الذي هو العاشر من شهر الله المحرم، فإن من أراد صيامه فليصمه في هذا اليوم الذي أطبق المسلمون على تحديده جملة وليتبعه بصيام يوم أو يسبقه به.
وليعلم الأستاذ العطار وغيره أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصم هذا اليوم مجاراة لليهود بل إنه قال: "أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه" متابعة لصيامه له في الجاهلية، وصيامه له قبل فرض صوم رمضان.
ومعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في آخر حياته يتعمد مخالفة اليهود والنصارى، ويأمر المسلمين بذلك وشواهده كثيرة. والله الهادي إلى سواء الصراط..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قاموس الكتاب المقدس.
[2] طبعة بولاق الجزء الثالث صفحة 44.
[3] يقصد أنه ليس في كلام العرب كلمة على هذا الوزن عاشوراء وعن ابن دريد أنه اسم لا يعرف إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية ورد ذلك عليه ابن ماجة بأن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، ويقول ابن حجر وهذا الأخير لا دلالة قيه على رد ما قال ابن دريد وذكر الجوالقي، ضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال (فتح الباري 4/245 المطبعة السلفية)
[4] هذا حساب العلامة المصري الكبير محمود باشا الفلكي (راجع من الإسلام دعوة علمية للأستاذ العقاد في البحث لذي عنوانه ((ألوان الصيام))
[5] الطبعة الثانية سنة 1396هـ (1976 م) .(23/150)
من فتاوى الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
أولاً: حكم الإسهام في الشركات التجارية
الحمد لله وبعد:
قد اطلعت لجنة البحوث العلمية والإفتاء على ما ورد من المستفتى (هيف بن مبارك) وقد سأل مسألتين نذكرهما ونذكر جواب كل واحدة بعدها:
الأولى: أنا من سكان الكويت، وعندنا شركات مساهمة خاصة بالأعمال التجارية والزراعية والبنوك وشركات التأمين والبترول، ويحق للمواطن المساهمة هو وأفراد عائلته فيها، فنرجو إفادتنا عن حكم الشرع في مثل هذه الشركات..
الجواب: يجوز للإنسان أن يساهم في هذه الشركات إذا كانت لا تتعامل بالربا، فإن كان تعاملها بالربا فلا يجوز، وذلك لثبوت تحريم التعامل بالربا في الكتاب والسنة والإجماع، وكذلك لا يجوز للإنسان أن يساهم في شركات التأمين التجاري، لأن عقود التأمين مشتملة على الغرر والجهالة والربا، والعقود المشتملة على الغرر والجهالة والربا: محرمة في الشريعة الإسلامية.
الثانية: بالنسبة للشركات المذكورة أعلاه عندنا بالكويت، إذا أحببت أن تساهم بالشركات المذكورة تبيع شهادات الميلاد الخاصة بأفراد عائلتك بالإضافة إلى شهادة الجنسية بمبالغ كبيرة، فما حكم الشرع في حللها وحرمها.(23/151)
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يبيع شهادات الميلاد الخاصة بعائلته على شخص آخر من أجل أن يساهم في هذه الشركات بأسماء أصحاب هذه الشهادات، بناء على أنهم أولاده وهم في الواقع ليسوا بأولاده، وكذلك شهادة الجنسية فإن منح الجنسية من الدولة للشخص، وصفة تمتع الشخص بهذه الجنسية له أنظمة، وقد تختلف هذه الأنظمة باختلاف الدول، فعلى من يتعامل بما ذكر أن يتقيد بأنظمة الدولة بالنسبة لشهادات الميلاد وبالنسبة للجنسية إذا كانت هذه الأنظمة لا تتعارض مع الشرع الإسلامي، فإن هذا من التعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله به في قوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، والخروج من أنظمتها، بما يعود على أفرد والمجتمع والدولة بالفساد، من التعاون على الإثم والعدوان، وقد حرمه الله لقوله {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، ولأن هذا كذب حرام، ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل من الجانبين، لأن كل واحد منهما أخذ المال بطريق محرم، وهو الكذب والغش والخيانة للدولة، وبالله التوفيق،،،
ثانيا: ما حكم اللحم المذبوح في الخارج؟(23/152)
إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي (ككفار روسيا وبلغاريا وما شابههما) في الإلحاد ونبذ الديانات، فلا تؤكل ذبيحته سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط (استثنيت ذبائح أهل الكتاب بالنص) ، وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود والنصارى، فإن كانت تذكيته إياها بذبح رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُم} وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف وان ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل، وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وإن ضربها في رأسها بمسدس، أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة، ولو قطع رقبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها قبلا، وذكيت فتؤكل لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكر منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/153)
القلب
سعد ندا
انفد من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب تجد ملكاً عظيماً، جالس على سرير مملكته، يأمر، وينهى، ويولى، ويعزل، وقد حف به الأمراء والوزراء والجند، كلهم في خدمته، إن استقام استقاموا، يكن زاغ زاغوا، وإن صح صرحوا، وإن فسد فسدوا. فعليه المعول، وهو محل نظر الرب تعالى: ومحل معرفته، ومحبته، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، والعبودية عليه أولا، وعلى رعايته وجنده تبعاً.
فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله، الساعي إليه، المحبّ له، وهو محل الإيمان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل. وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية، والذي يسرى إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي أثاره، فإن أظلم أظلمت الجوارح، إن استنار استنارت، ومع هذا فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجل.
فسبحان مقلب القلوب ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته ودينه، مصرف القلوب كيف أراد وحيث أراد. أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إليّ فبادرت، وقامت بين يدي رب العالمين، وكره عز وجل انبعاث آخرين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
كانت أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ومقلب القلوب"، وكان من دعائه: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك". قال بعض السلف: (القلب أشد تقلبا من القِدْر إذا استجمعت غليانها) . وقال آخر: (القلب أشد تقلبا من الريشة بأرض فلاة يوم ريح عاصف) . ويطلق القلب على معنيين: أحدهما: أمر حسيّ، وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع يهب الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف، وفي التجويف دم أسود، وهو منبع الروح.(23/154)
والثاني: أمر معنوي: وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان.
وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان، رأيت أعجب العجائب، فهذا يلمّ به مرة، وهذا يلم به مرة، فإذا ألمّ به الملك، حدثت من لمّته الانفساح، والانشراح، والنور، والرحمة، والإخلاص، والإنابة، ومحبة الله، وإيثار محبته على ما سواه، وقصر الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه، ولكن تأتيه لمة الشيطان، فتحدث له من الضيق، والظلمة، والهم، والغم، والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله، ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله، فمنهم من تكون لَمَّة الملك أغلب من لمَّة الشيطان وأقوى، فإذا ألمَّ به الشيطان وجد من الألم، والضيق. والحصر، وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيبادر إلى طرد تلك اللمَّة ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها، فهو دائما في حرب بين اللَّمتين، يُدَالُ له مرةً، ويدالُ عليه مرة أخرى، والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لمَّة الشيطان أغلب عليه وأقوى، فلا تزال تغلب لمَّة الملك حتى تستحكم ويصير الحكم لها، فيموت القلب، ولا يحس ما ناله الشيطان به، مع أنه في غاية العذاب، والضيق، والحصر، ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم. فإن كشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه، وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان، حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا، فتظهر حينئذ تلك الآلام، والهموم، والغموم، والأحزان، وهي لم تتجدد له، وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل، فلما زالت الشواغل ظهر ما كان كامنًا وتجدد له أضعافه.(23/155)
هذا بعض ما كتبه الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر (المعروف بابن قيم الجوزية) غفر الله له، عن قلب الإنسان في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) وهو إن دل على شيء فإنما يدل على علم، وفقه خلفه، ودقة تحليل، وغوص إلى معانٍ دقيقة لا يبلغ التعرف عليها كل أحد، إلا من أتاه الله عز وجل البصيرة، والحكمة، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا.
والإمام ابن القيم إمام جليل له من الكتب النفيسة- غير كتاب التبيان الآنف ذكره- كتب كثيرة، لا ينبغي أن تخلو مكتبة المسلم منها جميعا إن لم يكن أغلبها.
ومن هذه الكتب: أعلام الموقعين، والطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، ومدرج السالكين، وعدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، زاد المعاد، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.... وغير ذلك من الكتب الرائعة.
رحمه الله رحمة واسعة، وأفسح له الدرجات العالية في جنات النعيم،،،،،(23/156)
حاسة السمع
للدكتور فكري السيد عوض
طبيب العيون بالجامعة
خلق الله سبحانه وتعالى العباد ومنحهم من رعايته وفضله وأفاض عليهم من رحمته، واستخلفهم في الأرض يزودهم بكل أدوات الخلافة من تركيب خاص وتكوين لائق بذلك وتسخير للطاقات الكونية- ولذلك كان على البشرية جميعها أن تتفكر في آيات الله وبدائع خلقه، آثار صنعه، وتدركه بآثار قدرته وتستشعر عظمته برؤية حقيقة إبداعه، ومن ثم يخشاه الناس حقا ويعبدونه حقا بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر؛ حتى لا يركبهم الغرور، ويعرفوا أنهم هم الفقراء إلى الله وأن الله هو الغنى الحميد....
ومن بين هذه النعم التي تفضل الله بها على عباده نعمة السمع.... وسنحاول أن نبين بعض أسرارها، ونقف على جزء بسيط من هذه النعمة الغالية لنصل في النهاية إلى أن العلم الحديث ما زال يجهل الكثير عنها، ولم يعرف بعد من أسررها إلا القليل وصدق الله العليم إذ يقول {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ...
ظاهرة انتقال الصوت:
ينتقل الصوت نتيجة اهتزازات جزيئات المادة… وكلما تكاثفت جزيئات المادة كلما كان الصوت أكثر سرعة، فمثلا نجد أن سرعة انتقالا الصوت في الهواء (340 متر في الثانية) ، وهي أقل سرعة عنها في الماء (حيث يصل إلى 1435 متر في الثانية) بينما تزداد السرعة أكثر من ذلك في المعادن بحيث يصبح في الإمكان أن تضع الأذن على شريط القطار وتسمع صوت مجيئه من بعد عدة كيلومترات ... !!.
هل في مقدار الإنسان أن يسمع كل الأصوات التي من حوله؟
إن قوة سمع الإنسان لها طاقة محدودة، فهو يسمع الأصوات التي تتراوح ذبذباتها بين 16 إلى 20 ألف هزة في الثانية الواحدة ... وإذا زاد الصوت عن هذا المقدار فإنه لا يسمع شيئا، ولكن يحدث له شعور مزعج غير واضح قد يصل إلى درجة إيذاء الأذن....(23/157)
وهناك حيوانات تكون قوة سمعها أكثر حدة من الإنسان، فمثلا القطط تسمع الأصوات التي تصل ذبذباتها إلى 50 ألف هزة في الثانية..... بينما نجد أن أعجب الحيوانات في هذا المجال هو الخفاش، وهو حيوان ليلي يعيش في الكهوف، وينشط أثناء الظلام؛ ولذلك فإن الرؤيا عنده لا قيمة لها، فحاسة السمع عنده عالية جدا، حيث يسمع التوترات العالية التي تصل إلى 130 ألف هزة في الثانية، فيقوم الخفاش بإرسال صرخات ما فوق الصوت، ثم تنعكس إليه ثانية فيسمعها بأذنيه الكبيرتين، ويقرر بكل دقة بُعد الأشياء والفريسة تماما. وكذلك يحدد بشكل رائع اتجاهها..... وقد قلده البشر.... وقلده العلماء ودرسوا هذه الظاهرة، وكانت هي القاعدة الأساسية التي قاما عليها فكرة الرادار في اكتشاف الطائرات..... فسبحان ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى......
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ….} الأنعام 38.
مصير الأصوات التي نسمعها:
في بساطة شديدة يصل الصوت إلى الأذن الخارجية التي تجمعه، لكي يصل إلى غشاء الطبلة، حيث يحدث اهتزازات على عظيمات السمع الموجودة في الأذن الوسطى التي تقوم بنقله إلى الأذن الداخلية، التي تتولى تفسيره ونقله بشكل سيالة عصبية إلى العصب السمعي ثم إلى المركز السمعي العام في الدماغ أي في الفص الصدغي.
تكوين الأذن:
يقول العلم الحديث: إن الجهاز السمعي يبدأ تخلقه منذ بداية الأسبوع الثاني للجنين، وهو في رحم أمه، ويكون ذلك على هيئة حفرة على جانبي الرأس، ثم تصبح حويصلة ثم تستطيل، ثم تتكون الأذن الداخلية، وبعد ذلك يتكون الدهليز السمعي، ثم تتصل بالعصب السمعي.... وبتقدم وسائل العلم ثبت أنه في إمكان الجنين أن يسمع الأصوات منذ الشهر الرابع، إنه عالم آخر تكفل به العليم الخبير.
وتتركب الأذن من ثلاثة أجزاء:(23/158)
أولا: الأذن الخارجية: هي صيوان الأذن الذي يؤدي إلى قناة سمعية خارجية، تنتهي بطبلة الأذن، وتقوم الأذن الخارجية بعملية تجميع الأصوات.
- والقناة السمعية الخارجية يبلغ طولها 2.5 سم تقريبا، وتحتوى على الشعر في القسم الأمامي، وتحتوى أيضا على غدد صملاخية تفرز مادة الصملاخ لاصطياد (الغبار) وهي منحنية للأسفل حتى تخفف من وقوع الإصابة الخارجية بعكس ما لو كانت مستقيمة حتى لا يكون الأذى مباشرة على طبلة الأذن.
ثانيا: الأذن الوسطى: وهي قناة عظمية غضروفية بها غشاء الطبل، وتحتوى على ثلاث عظيمات: واحدة تتصل بغشاء الطبلة (تسمى المطرقة) ، وأخرى تتصل بالأذن الداخلية (تسمى الركابة) ، وثالثة بينهما (تسمى السندان) . وكل واحدة متعلقة بالأخرى ومتمفصلة معها.
وعندما تصل ذبذبات الصوت من الخارج، يهتز غشاء الطبل، وبالتالي تهتز هذه العظيمات فتقوم بتسريح وتوصيل الصوت إلى الأذن الداخلية.... وهنا تحس بأن يدًا خفية تتحكم في كل هذه الأعمال، وتخضع لسنن معينة محكمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة. فلو كان الصوت القادم شديدا، فإنه يحدث تكييف غريب، ذلك أن هذه العظيمات تغير اتجاه تمفصلها بحيث يبقى الأذن الداخلية من الأذى إلى حد ما بمساعدة تقلص العضلتين الموجودتين في الأذن الداخلية.... فمن الذي ألهم هذه العظيمات الصماء- التي لا يزيد وزنها عن 55 ملجم أن تقوم بذلك؟ …. إنه الخبير العليم.
- وهناك نوع آخر تتجلى فيه عظمة الله وهو الجزء الصغير من الأذن الذي يربط مابين الأذن الوسطى وما بين البلعوم وذلك عن طريق قناة تسمى قناة ((أوستاش)) فلماذا وجدت هذه القناة؟(23/159)
تحدث ظروف طارئة، ولولا وجود تلك القناة لتمزق غشاء الطبلة…. وهذا ما نلاحظه في حالات الرشح والتعرض للنزلات البردية، أو قيادة السيارة لفترة طويلة أو ركوب الطائرة، حيث نشعر بأن السمع يتناقص تدريجيا مع شيء من الألم الخفيف ولكن عندما نقوم بعملية البلع أو التثاؤب نشعر في الحال كأن الأذن قد فتحت وبدأنا نسمع بشكل طبيعي.... فما الذي حدث؟
إن عملية البلع هذه تؤدى إلى تقلص عضلة خاصة، تفتح فوهة هذه القناة فيدخل منها الهواء فيتعادل الضغط داخل الأذن وخارجها؛ وبذلك يرجع كل شيء إلى حالته الأصلية، ولعل هذا هو السر في أن الذين يرمون بالمدافع يبقون أفواههم مفتوحة أثناء انطلاق القذيفة وحدوث الصوت المرتفع حيث يتم تأمين اتزان الضغط إلى حد ما بين خارج الأذن وداخلها.
- كذلك تقوم تلك القناة بفوائد أخرى، منها تصريف المخاط والسوائل التي قد تتجمع في الأذن الوسطى إلى البلعوم، فضلا عن أنها تمثل فتحة جيدة لإتقان السمع فيجود الصوت ويصفى بواسطتها ...
فقناة أوستاش تقوم بوقاية وحماية غشاء الطبلة، وتنظيف الأذن الوسطى، وتحسين وتجميل وإتقان جهاز السمع.....
ثالثا: الأذن الداخلية:
- وهي التي يوجد بها الجهاز الخاص باستقبال الأصوات.
- وتركيبها معقد فهي تحتوى على دهاليز وممرات معقدة حتى أن العلماء لم يجدوا لها اسم يطلق عليها إلا كلمة ((التيه))
- كذلك يوجد بها ما يثير دهشة الإنسان وتعجبه، ذلك أن بها جهازا خاصا ذا تركيب معين، فائدته القيام بدور هام جدا في حفظ توازن الإنسان ...(23/160)
- أما الجهاز الخاص باستقبال كافة أنواع الأصوات فهو يسمى ((عضو كورتي)) ، حيث يحتوى على أكثر من ثلاثين ألف خلية سمعية وتعتبر كل خلية سمعية محطة كاملة لاستقبال جميع أنواع الاهتزازات الصوتية.... ومن هذا العضو تتصل الخلايا وتتكون الألياف العصبية في منتهى الدقة وتجتمع تشكل العصب السمعي، الذي يصعد إلى المخ لينتقل كل ما حدث في سيولة عصبية إلى المركز السمعي العام في الدماغ....
ولنا أن نتسائل؟
- أين تقع مراكز وخزائن الذاكرة للمسموعات؟
- كيف تدرك الخلية العصبية الأمر وتفهمه؟
- كيف يحدث تمييز الأصوات العديدة جدا عن بعضها البعض حيث تبلغ حساسية الأذن لسمع الأصوات درجة كبيرة فيمكن للأذن أن تميز ما بين 34 ألف لحن مختلف في. الشدة والتواتر.....
- كيف ... ؟ وكيف ... ؟. لا نجد جواباً
كل الذي توصلوا إليه هو كيفية انتقال الصوت إلى مركزه في الدماغ.
وصدق الله العليم إذ يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} .
أيهما أفضل السمع أم اأبصر؟(23/161)
- قال الأكثرون: إن السمع أشرف من البصر وكانت حجتهم: أن الله تعالى ذكر السمع في القرآن قبل البصر.. وأن السعادة كلها تكون باتباع الرسل والإيمان بما جاءوا به وهذا لا يدرك إلا بالسمع. وأن العلوم الحاصلة بالسمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة من البصر كذلك فإن فقد السمع يوجب، ثلم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خلقة لا ينطق في الغالب ... وأما فقد البصر فربما كان مفيدا من ناحية قوة إدراك البصيرة، وشدة ذكائها، لهذا نجد كثيرا من العميان عندهم من الذكاء والفطنة مالا تجده عند البصير حيث أن تقلب البصر في الجهات ومباشرته للمبصرات على اختلافها يؤدي إلى تفريق القلب وتشتيته ولذلك كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة ... ولهذا كان كثير من العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام مكفوف البصر لكن لا أعرف أن فيهم الأطرش....
- واحتج عليهم فريقا آخر بأن أفضل نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة وهذا لا يدرك إلا بالبصر، ولا توجد حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها ... ثم قالوا إن كل ما ينال بواسطة السمع إنما هو وسيلة لهذا المطلوب الأعظم فتفضل السمع على البصر كفضيلة الغايات على وسائلها..
وهنا يحسم المشكلة شيخ الإسلام ابن القيم بقوله (إن إدراك السمع أعم وأشمل وإدراك البصر أتم وأكمل فهذا له التمام والكمال وذاك له العموم والشمول فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به) ... ثم استطرد قائلا (إن تقديم السمع على البصر له سببان:
أولا: أن يكون السياق يقتضيه بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمنا للتهديد والوعيد أي أني أسمع ما يردون له عليك وما يقابلون به رسالتي وأبصر ما يفعلون.(23/162)
ثانيا: أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام مع غاية البعد بين السامع والمسموع أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده ... وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ثقفيا وقرشي أو قرشيان وثقفي فقالت أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفين، فقال الثالث إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. ولم يقولوا أتروننا الله يرانا. فكان تقديم السمع أهم والحاجة إلى العلم به أمسّ. كذلك فإن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثير في الخير والشر والصلاح والفساد بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان، فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى. وبهذا يعلم تقديم السميع على العليم فقال تعالى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وإن الأذن خير شاهد على عمل الإنسان:
يقول تعالى في سورة فصلت 19- 34: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِين فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}(23/163)
نسأل الله العليم المنان أن يعيننا على أداء ما وهبنا من نعم {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً..} وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا وأجعله الوارث منا. آمين وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى:
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات آية 21.20)(23/164)
من مظاهر البلاغة القرآنية قوة الحجة ووضوحها
الدكتور علي محمد حسن العمّاري
الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
عرض القرآن الكريم لكثير من قضايا الدين والدنيا، وسلك في عرضها أساليب مختلفة متنوعة، وما عرض لقضية في صورة من الصور إلا أتى فيها بما يثلج الصدور، ويروى الظماء، وبما يقنع من يريد أن يقتنع، ويهدى من يبحث عن جادة الطريق.
ولم يجنح بالضالين منذ عهد البعثة إلى يومنا هذا عن سواء السبيل إلا الجهل أو العناد، أو هما معا.
وأخطر أدواء الجهل هو الجمود على دين الآباء والأجداد، وأخطر أدواء العناد هو الحقد على الدعوة، وصاحبها، ثم على الإسلام والمسلمين.
وقد عالج القرآن الكريم هذين الداءين بما يحسمهما، لو اعتصم المارقون بالعقل، وخلدوا إلى الإنصاف، وصنعوا لأنفسهم، وبغوا لها الخير والصلاح في الدين والدنيا، وربأوا بها عن الارتكاس في ظلمات الجهل، والتردي في نيران الحقد.
عالج الجهل بالدعوة إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وإلى الاستماع لآيات الله وإمعان النظر فيها، وبالأمر بسؤال أهل الذكر حين تستبهم المعالم وتضل الطريق، وتطبق الظلمات، ثم بالزراية على التقليد الأعمى، وبالتهوين من شأن من يقولون: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف/22) .
وعالج العناد بالحجة الحاسمة، والبرهان الدامغ، الذي لا يجد المعاند معه -إن أحسن إلى نفسه وعقله- طريقا إلى التنكر للحق، والإصرار على الباطل.(23/165)
ولكن كفار قريش، ومعهم مشركو العرب، والمنافقون من أهل المدينة، والضالون من أهل الكتاب رضوا بالجهل حيناً، وبالعناد في أحيان كثيرة، حتى وصل العناد، والتمادي في الباطل بمشركي مكة أن يقولوا -كما حكى عنهم القرآن الكريم- {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم} (الأنفال/32) .
وصاروا- كما أخبر عنهم القرآن: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (الأنعام/7) وكما قال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [1] (الحجز/14، 15) .
وكما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام/111) .
بل اشترطوا لإيمانهم وخضوعهم شروطاً: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (الأنعام/124) .
وقد سبقهم بنو إسرائيل بمثل هذا العناد، فخالفوا على نبيهم موسى، وردوا دعوته: وقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة} (البقرة/55) . {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (الأعراف/132) .(23/166)
وكان فعل اليهود هذا تسلية للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد قصّ عليه القرآن نبأهم حين ضاق النبي بتعنت قومه، وطلبهم الآيات: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (النساء/153) .
وقد كان أهل الكتاب يعرفون محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون- كما يعرف كفار مكة- أن القرآن حق، وأنه من عند الله، ولكنها الكبرياء والعناد والجهل، عوائق تصدهم عن ذوق حلاوته، وفيهم يصدق قول أبى الطيب المتنبي:-
ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرًّ مَريض
يجد مُرًّا به الماء الزُّلالا.
وقد عرض القرآن الكريم مختلف الأدلة والبراهين في كل قضية عرض لها، وكان يسلك أسلوب البسط أحيانا، وأسلوب الإيجاز أحيانا أخرى، وفي كلتا الحالتين كان يصل إلى نهاية المدى في إبلاغ الحجة، وإقامة الدليل، مع القوة والوضوح.
كان يتناول القضية فيَلمّ بجميع أطرافها حتى لا يترك فيها مقالا لقائل، أو يتناولها فيكتفي بموضع الحجة، ولكنها الحجة الحاسمة الدامغة.
ومن أروع ما في المحاجات القرآنية أنها لم تقتصر على خطاب العقل وحده كما هو الشأن في البراهين المنطقية، ولا على مخاطبة الوجدان وحده، كما هو الشأن في الخطابات، والأخيلة الشعرية. إنما كان يشرك مع العقل الوجدان فيخاطبهما معاً، وبذلك تبلغ الحجة من العقول والقلوب ما تريد، من تثبيت الحق، وإزهاق الباطل، وإقناع ذوى الفطر السليمة.(23/167)
ولم تكن حجج القرآن وبراهينه مغرقة في الفلسفة، ولا موغلة في المنطق، ولا بعيدة عن الفطرة، بل اعتمد أكثرها على لفت النظر إلى المشاهد الحسية، والبديهيات التي لا خلاف عليها، وربما نظر بعضها إلى الإقناع المنطقي، ولكنه لا يستدعي التفكير الطويل، ولا يشوبه شيء من الغموض الذي يشوك طريق السالك إلى الحق: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء من الآية 22) {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم من الآية 27) {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} (يس الآيتان 78- 79) .
وقد وجه القرآن الأنظار إلى كثير من آيات الله في خلق السموات والأرض، وفي خلق الأنفس، وسائر الكائنات، وضَرَبَ الأمثالَ وصرفها على وجوه كثيرة، وألزم المعرضين في كل ذلك الحجة على صحة ما وجههم أليه.
وربما استغرقت القضية -كما أشرت- العدد الكثير من الآيات، بل ربما جاءت السورة بأكملها -مع طولها- لتشرح قضية من القضايا، وتحتج لها، وربما اكتُفي بالآية الواحدة، بل بالجملة من الآية، بل بالكلمة فتقام بذلك الحجة، ويقنع به البرهان.
وسأكتفي في هذا البحث الموجز بالحجج القصيرة التي أغنت- مع إيجازها- عن كلام كثير.
- لقد سيطر الجهل على عقول المشركين فزعموا- فيما زعموا من ترهاتهم وأباطيلهم- أن لله ولدا، وقد حكى القرآن الكريم عنهم هذا الزعم في أكثر من آية: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} (مريم الآية 88) زعموا أن هذا الولد ليس من الذكور بل هو من الإناث: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (النحل من الآية 62) . {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً} (الإسراء الآية.4) . وهذه هي الفرية الثالثة أنهم جعلوا الملائكة بنات الله.(23/168)
ثلاثة أباطيل أذاعوها، وآمنوا بها: أن لله ولدا، وأن هؤلاء الولد هم الملائكة، وأن هؤلاء الملائكة إناث.
فماذا كان رد القرآن عليهم؟
لقد جاء في بعض الآيات ردود قصيرة على مجرد اتخاذ الولد، فهم يزعمون أن لله ولدا ولكنهم لا يقولون أن له زوجا ولدت الولد، فحجهم القرآن: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام 101) .
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} . {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} . حجتان مقنعتان لمن يريد أن يقتنع فدعواهم صادرة عن جهل لا عن علم، فكيف تكون موضع يقين عندهم؟ بل كيف تكون موضع شك، أو وهم؟ وهى دعوى لا تستند على أساس صحيح، فكل من ولد كانت له زوج، وأنتم مؤمنون بأنه لا زوج له، فأين تذهب بكم أوهامكم؟!.
ثم بين سبحانه في آية أخرى مصدر العلم الصحيح، ونفاه عنهم في أوجز عبارة. وأقوى حجة: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} (الزخرف من الآية 19) .
هكذا في إيجاز وحسم: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} مع هذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي الذي أدى ما يعجز الخبر التقريري عن أدائه.
وقد جاء هذا الرد الحاسم في آية أخرى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} (الصافات الآيتان 149- 150) .(23/169)
فالملائكة خلق من خلق الله، لم يطلع أحد من البشر على حقيقة خلقهم، فلا سبيل للحكم بنوع هؤلاء العباد: لأن الحكم على شيء ما لابد أن يكون عن طريق مشاهدته، أو عن طريق خبر صادق عنه، وهم- قطعا- لم يشهدوا خلقهم، ولا ينكرون أنهم لم يشهدوا، ولم يأت به خبر صادق، لا من القرآن الكريم، ولا من خبر الصادق الرسول الأمين، فكما أنهم لم يشهدوا خلق الملائكة كما صرحت الآية الكريمة، وكما هو أمر لا جدال فيه، كذلك ليس عندهم علم عن طريق الأخبار الصادقة، وبذلك تحداهم القرآن: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أفلا تذكرون أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الصافات الآيات 151- 157) . وأين هو الكتاب؟ فقد انتفت عنهم المشاهدة، وانتفى عنهم الخبر الصادق. فمن أين جاء لهؤلاء المفترين أن الملائكة إناث، وأنهم بناتُ الله؟ وكيف سمحت لهم عقولهم أن يدَّعوا دعوى لا يمكنهم إقامة الدليل عليها من مشاهدة عيان، أو من خبر صادق؟.(23/170)
- ومشركو مكة اتّهموا رسول الله محمدا- عليه أفضل الصلاة والسلام- بالجنون، ويبدو أن هذه كانت أول تهمة اتهموه بها، فقد جاء ذكرها في سورة القلم، وهى من السور الخمس الأوائل نزولا. ثم جاء ذكرها في آيات أخرى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (القلم الآيتان 1- 2) . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} (سبأ الآيتان 7- 8) . {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (المؤمنون الآية 70) . {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} . (الدخان 13- 14) إلى غير ذلك من الآيات.
فماذا كان ردُّ القرآن عليهم في نفي هذه التهمة عن رسوله المبين؟
بأوجز كلمة وأقواها دلالة ردَّ عليهم القرآن الكريم في ثاني آية نزلت بعد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وهي آية القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "نفى الجنون عنه، ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، وذلك لأن قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} ، يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة عن كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبَّه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم إنه مجنون.(23/171)
ونلاحظ أن الكلمة جاءت في سياق الكلام، ولم توضع موضع الرَّد، ولا سيقت مساق الحجة على نفي التهمة، وإنما قرنت بالآية ليتنبه لها الفطين، ويدرك- كما أنهم ولا شك أدركوا أنها من أقوى الأدلة، وقد جاءت الكلمة نفسها في آية أخرى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} . (الطور- 29) [2] .
ومثل ذلك يقال في كلمة: ((مبين)) التي وردت في آية (الدخان) فهم لا يجهلون أنه مبين بل لا يجهلون أنه من أبين أبينائهم، فلا شك أن الكلمة لفتتهم لفتًا قويًا إلى مدىً ما يرتكسون فيه من باطل حين يتهمون هذا الرسول المبين بما هو أبعد شيء عن الإبانة، ذلك أن من أول، بل من أقوى آلاتها العقل، بل العقل الحصيف الواعي.
وكذلك حجَّهم القرآن بكلمة واحدة في نفى ما بهتوا به الرسول من الجنون: وفي أول الدعوة- أيضا-، فقد جاء في سورة (التكوير) ، وهى خامس سورة نزلت قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} (التكوير الآية 22) . والمراد بصاحبهم في الآية رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم-، وقد كرَّر القرآنُ هذا الوصف فجاء في سورة (الأعراف) : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الأعراف الآية 184) ، وجاء في سورة (سبأ) : {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ الآية 46) .
والذي يَلْفِتْ النظر في هذه الآيات هو تكرار كلمة (صاحب) ، وإضافتها إلى كفار مكة، وربطها بالفِرية العظمى التي افتروها على الرسول، وهى اتهامه بالجنون.
فكيف وهو (صاحبهم) مرة بضمير الغيبة، ومرة بضمير الخطاب، وهو (صاحبكم) أيها المتهمون له بالجنون،؟!!.(23/172)
نشأ بينكم، وقضى طفولته وشبابه وكهولته بين ظهْرانيكم، وأنتم تعرفونه حق المعرفة، فهو صاحبكم، تعرفونه، ويؤكد بعضكم أنه لم يكذب قط، بل تعرفون أنه لم ينحرف لحظة واحدة عما يقتضيه العقل والحكمة، وحسن الروية، وبعد النظر.
أبعد أربعين سنة عاشها بينكم، وهو من أوسطكم دارا، وأشرفكم نسبا، وأكرمكم أباً وأما، يصدق في القول، ويحفظ الأمانة، ويحكم- حين تحكمونه- بأعدل حكم، وأنتم في كل ذلك تصحبونه في غدوه ورواحه، ومَنْشطه ومكرهه. وتلقبونه بالصادق الأمين دون أن يطلب منكم أن تثنوا عليه، أو ترفعوه قدره، وإنما أنطقكم بذلك واقعه.
أبعد كل هذا تتهمونه بما تعتقدون أنه منه براء، وأنه إذا كانت هناك صفة أبعد ما تكون عن إنسان فهي صفة الجنون يوصف بها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟!!.
وليس بعجيب أن يتخبط الكافرون المعاندون، فقد جاء في القرآن الكريم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: آية 52) .
فهي سنة الله تعالى مع أنبيائه، ومع أقوامهم.
ولكن كان على كفار مكة أن يتفكروا، وأن يطيلوا التفكير قبل أن يلقوا هذه التهمة على أعقل العقلاء، وأحكم الحكماء: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} . (المؤمنون: آية 68، 69) .
بلى: هم يعرفون رسولهم، وإنما أنكروا وجحدوا وادَّعوا عِنادا وطغيانا، وتكبروا، وتجبروا، كما أخبر سبحانه بآية كريمة واضحة بعد آيات (الذاريات) السابقة: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ليس التواصي هو سبب هذه الادعاءات الباطلة، وإنما هو الطغيان بدليل (بل) الإضرابية.(23/173)
قال العلامة أبو السعود في تفسير هذه الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 1. قال: "إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشرِّ تواصيهم بذلك، وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصي، وأشنع منه، من الطغيان الشامل للكل الدال على صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلّته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم".
فلولا هذه النفوس الخبيثة، وهذه الطباع السيئة لكان أدنى تفكير في هذه الكلمة القرآنية الحاسمة: (صاحبكم) كفيلا بأن يردهم إلى الصواب، وينطقهم بما هو أجدر بعقولهم، ومكانتهم في قولهم وفي العرب فيرجعوا عن بهتانٍ هم أول من يعلم أنه بهتان.
لو أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- كان من شعب آخر غير الشعب العربي، أو لو أنه رُبِّى في بيئة أخرى غير بيئة مكة، أو بين ظهراني قومٍ غير قريش، لو كان شيء من ذلك لكان لقولهم وجه ما.
وقد زعم مشركو مكة أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- تعلم القرآن من بشر. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} (النحل آية 103) .
واختلفت نقول المفسرين في تعيين هذا البشر، ولكن اتفقت كلمتهم- كما أكد القرآن الكريم- على أنه رجل ليس بعربي.(23/174)
ومما قيل إنه كان غلاما روميا يصنع السيوف بمكة، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان ربما مرَّ به فجلس عنده، وسمع منه كلاما، فوجد المشركون في هذا اللقاء بين النبي والرومي متنفّسا لأحقادهم، فادَّعوا أن النبي أخذ القرآن من هذا الرومي، وهم على يقين من أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ، ولا يمكن أن يكون مثل هذا الغلام مصدراً للقرآن الذي أعجز العرب بفصاحته وبلاغته، ولذلك كان الرد عليهم في غاية الوضوح والحسم، وكان مخجلا لمن لا تزال عنده بقية من حياء، ومن اعتصام بالتعقل، والتعالي عن سفاسف الأقوال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
هل يحتاج هذا البرهان الحاسم إلى أكثر من التذكير به، بل الإشارة إليه؟ وهل يسع عاقلا أن يقف في وجه هذا البرهان إلا إذا فقد الحياء من الناس، ومن نفسه، أو إلا إذا فقد عقله أو تجاهله؟.
الرجل معروف عندهم، يرتضخ لكنة أعجمية، ولا يكاد يبين عما في نفسه، وهم يفدون عليه يروحون، ولا شك أن كثيرا منه عامله وخاطبه، وأستمع إليه، وعرف مدى علمه بالعربية، ودرجة نطقه السليم بها، والقرآن بين أيديهم، يسمعونه، ويعجبون بفصاحته وبلاغته، فلا حاجة- إذاً- إلى إطالة الحجج، وتنويع البراهين، فمجرد الإشارة- كما قلت- إلى هذا التفاوت العظيم، والبون البعيد بين لغة الرجل ولغة القرآن كافية في إقناع من يريد أن يقتنع، بل أكاد أقول أنها كافية في التوبيخ والتقريع والتجهيل، وبيان مدى مجافاتهم للحق، وتنكرهم للواقع، وتمسكهم بالأوهام والأباطيل.
ولا يخطئ الملاحظ هنا أمرين:(23/175)
الأول: التعبير باللسان، وكان يمكن أن يقال: {الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، ولكن التعبير باللسان هو لب هذا البرهان، فلو عدل عنه إلى التعبير بالذي مثلا لكان للمشركين أن يقولوا: وما العجب في أن يأخذ محمد هذه المعاني من هذا الأعجمي؟ إن المعاني شركة بين العجم والعرب، أو يقولوا: إنه أعجمي ولكنه عالم بالعربية، فأخذ عليهم القرآن الطريق، وسدّ أمامهم منافذ الجدل، لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن صاحب اللسان الأعجمي يملى على العربي مثل هذا الكتاب، وزاد هذا الإفحام قوة وصف اللسان بأنه (مبين) بعد وصفه بأنه (عربي) وهم لا يمارون في أن هاتين الصفتين من أخص خصائص القرآن.
على أنه حتى لو ادَّعوا أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أخذ معان القرآن من هذا الغلام لكانوا مبطلين حتما عند أنفسهم، فإنهم أعقل من أن يتوهموا إن هذه التشريعات والحكم والمواعظ، وسائر المعاني الأخرى الرائعة تصدر عن غلام أو غلمان يقومون بالصناعة في بلد لم يعرف- آنذاك- بأنه بيئة علمية.
ويا للعجب. لو كان القرآن من وحي هذا الأعجمي فكيف عجزوا هم عن أن يعارضوه بأقصر سورة من مثله، وهم فرسان الكلام، وأبطال اللّسن والفصاحة؟.
الثاني: التعبير- هنا- بالفعل (يُلحدون) ، ومعناه يميلون عن القصد، يشيرون إشارة المائل إلى الباطل، الحائد عن الحق.
وفيه لطيفتان:
(إحداهما) : أنه مجرد ميْل وإشارة، كأنهم حين قالوا: إنما يعلمه بشر لم يكونوا يقصدون في واقع الأمر ما يقتضيه التعلم والتعليم من تردد المتعلم على المعلم، ومن طول مكثه عنده، ولم يكن في أذهانهم- حقيقة- ما يكون بين الطالب والأستاذ من وضع كل منهما في موضعه المعروف المتقرر، وإنما هي إشارة ولا غير، وإشارة بعيدة عن الصواب مغرقة في الباطل.
(ثانيتهما) : أن مادة هذا الفعل توقع في النفس معناها الأول، وهو الإلحاد وإيحاؤه معروف.(23/176)
ومن العجب أنه لم يرد هذا الفعل بهذا المعنى المراد في هذه الآية في القرآن الكريم إلا هذه المرة، وقد ورد بمعنى التجني على أسماء الله، وتحريفها عن حقائقها في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، (الأعراف: الآية 180) ، وبمعنى الميل عن الحق في آيات الله، وتكذيبها، والطعن على ما فيها من أدلة وبراهين، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (فصلت: الآية 32) .
قد ورد مصدر هذا الفعل مقترنا بالظلم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: الآية 25) .
فلا غرو أن يكون في هذا الفعل الذي جاء في سورة (النحل) ما يوحي- مع أن المراد به الإشارة- بأشنع أنواع الظلم، وأخطر ألوان الميل عن الحق.
- ويزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله ينزلهم منه منازل الأبناء من آبائهم، فلا يزيد القرآن الكريم في الرد عليهم عن عبارة واحدة فيها التكذيب المدعم بالدليل القاطع، وفيها الإنكار والتوبيخ في أوجز عبارة، وأقوى مواجهة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (المائدة: الآية 18) فالدعوى باطلة، والزعم لا أساس له، لأن من يكون بهذه المنزلة من الله تعالى يكون بمنأى عن أمرين عظيمين:
أولهما: لا يعصى الله ما أمره، وهذا ما كان- ولا يزال- من الملائكة المقربين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: الآية 6) .(23/177)
وأنتم أيها الزاعمون ببنوة الله، وحبه لكم تذنبون، وتقعون في الخطايا التي تستوجب العذاب، وكأن هذه الإضافة تشير إلى شدة التصاق الذنوب بهم، وإلى أنها ذنوب عليها طابعهم: ((ذنوبكم)) .
ثانيهما: لقد زعمتم أيها اليهود أن النار تمسكم أياما معدودات، وزعمتم فيما يروى الرواة أنها الأربعون التي عبدتم فيها العجل، فإذا كنتم أبناء الله وأحباءه فلم يعذبكم؟ إن الأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يؤاخذ حبيبه على ما يقع فيه من أخطاء، حتى في هذه الدعوى التي أشرت إليها يردّ عليهم القرآن ردا موجز مفحما: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: الآية 80) .
لم يتخذوا عند الله عهدا، وهم يعلمون ذلك، ولو أنهم اتخذوا هذا العهد لفازوا، فإن الله لا يخلف عهده، هم متأكدون بأنه لا عهد بينهم وبين الله، ومتأكدون كذلك أنهم يقولون ما لا يعلمون، فأيّ حجة ملزمة أقوى وأحسم من هذه الحجة؟.
ومزاعم اليهود والنصارى كثيرة ومتشعبة، وردود القرآن على مزاعمهم دامغة.
- ومما يضاف للمزاعم السابقة زعمهم بأن أحدا غيرهم لن يدخل الجنة: {هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: الآية 111) .(23/178)
اليهود قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، والنصارى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، ولا يمكن أن يفهم من الآية إلا هذا. لما هو معروف من العداوة بين الفريقين. ومن هنا أوجز القرآن غاية الإيجاز في الرد عليهم: {قل هاتوا برهانكم} ، فليس هناك أبلغ في التكذيب والتبكيت، وإبطال زعم الزاعمين، وتخرص الكاذبين من أن تطلب إليهم أن يجيئوا بالبرهان، وأنت على يقين من أنه لا برهان عندهم، فتطالبهم ببرهان لن يجيئوا به، وتشكك في صدقهم، فلما عجزوا عن إقامة البرهان على ما يزعمون تأكد كذبهم، وبطل زعمهم.
وقد سلك البوصيري- رحمه الله- هذا النهج القرآني فجاء بما تقره العقول الراجحة المنصفة، وبما يقف الخصم أمامه حائرا مبهوتا:
خبِّرونا أهلَ الكتابَيْن من أيـ
ـن أتاكم تَثْليثكم والبَداء؟
ما أتى بالعقيدتين كتابٌ
واعتقاد لا نصَّ فيه ادّعاء
والدَّعَاوى إن لم تقيموا عليها
بيناتٍ أبناؤُها أدْعياء
- وقضية البعث لعلها ظفرت من القرآن الكريم -بعد قضية الوحدانية- بأوفى نصيب. فقد: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} (التغابن الآية 7) . {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (النحل: الآية 38) وقالوا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْر} (الجاثية: الآية 24) {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام: الآية 29) .(23/179)
واستبعدوا أن يعودوا للحياة بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا وترابا: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (الصافات: الآية 16) {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} (الإسراء: الآية 49) ..
وسخروا سخرية بالغة من الرسول الذي أكد لهم أمر البعث، والعودة إلى حياة أخرى بعد الموت: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (سبأ: الآية 7) .
وإذا كانوا- كما أخبرت عنهم هذه الآية- اتهموا الرسول بالافتراء على الله، أو بأن به مسًا من الجنون، فإنهم في موقف آخر زعموا أن إخبارهم بالبعث سحر وأي سحر: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (هود: الآية 7) .
إلى أقوال ومزاعم أخرى أخبرنا بها القرآن الكريم عنهم. فهم- إذًا- رفضوا قضية البعث رفضا باتاً، وعبروا عن رفضهم هذا بأساليب مختلفة، وركبوا في إنكارهم متن عشواء، فكان لابد أن يأتي القرآن بما يكشف الأغطية عن عيونهم، ويرفع الأكنَّة عن قلوبهم، ويزيل الحجب التي حالت بينهم وبين تصديق الرسول، ويذيب الوقر الذي سدَّ آذانهم، وكان هذا كله يقتضي من غير القرآن جدلا طويلا، وحججا مسهبة، وبراهين ما تكاد تنتهي حتى تبدأ، ولكن القرآن- وهو المعجزة الخالدة- لم يزد في بعض الآيات عن كلمة واحدة، وإن كان في بعضها الآخر يذكر أكثر مِنْ حجة، ولكنه لا يخرج عن حد الإيجاز المعجز.(23/180)
وبهذا البيان الرائع، والبراهين الدامغة الموجزة اهتدى من أرد الله هدايته، وبقى على عماه وصممه وإعراضه من أراد الله خذلانه، وحق عليهم ما قالوه عن أنفسهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: الآية هـ) وما أخبر به سبحانه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: الآية 7)
وقد سلك القرآن في الرد عليهم مسلكين:
أحدهما: تأكيد أن البعث واقع، وقوة هذا التوكيد ترجع إلى أن القرآن أعجزهم، فثبت بذلك صدقه، وأنه من عند الله، فطبعي أن يكون صادقا في كل ما أخبر به، وكان يخبر دون قسم تارة، وبالقسم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أو آباؤنا الأولون قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} (الصافات: الآيتان 15، 16) ، ومن الثاني قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنّ} .
ثانيهما: إيراد الحجج التي بلغ من قوتها ووضوحها أن تفضح من ينكرها، وتدعه أحد رجلين إما إنسان مصاب في عقله، وإما إنسان مكابر.
وقد كثرت هذه الحجج في القرآن، بل فاقت ما أورد من حجج في قضايا أخرى لعلها أهم من قضية البعث.
قال الفخر الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . قال الفخر: "إن الله أقسم كثيرا على وقوع البعث، وقليلا على الوحدانية والنبوة، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة، وشواهد النبوة كثيرة أيضا، وأما الحشر فيمكن ثبوته بالفعل، ولكن لا يمكن وقوعه إلا بالسمع، فلذلك أكثر من القسم عليه ... "(23/181)
ثم إن القرآن ربما أطال قليلا في ذكر بعض البراهين، ولكن السمة الغالبة عليه أن براهينه في هذه القضية تتسم بالإيجاز المعجز.
ونحن في هذا البحث نخص البراهين القصيرة.
ونرجع إلى آيتينِ أوردتهما في مطلع هذا البحث، ففي كل منهما برهان دامغ يقذف بالحق على الباطل: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} . {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه}
فليس هناك أدلّ على إمكان البعث من ظاهرة خلق الإنسان: أوجده من عدم، أوجده من تراب، أوجده من نطفة، تطورت النطفة فكان خلقا آخر: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق: الآيتان 5- 8) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: الآيتان 5، 6) {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: الآية 78)(23/182)
وقد كانوا مقرِّين بأن الله هو الذي خلقهم، فحين يحجهم بأنه خلقهم إنما يحجهم بشيء لا ينكرونه، ولا يجادلون فيه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . (الزخرف: الآية 87) .
(نسي خلقه) كلمتان فيهما القول الفصل، والبرهان القاطع، وقد وضح القرآن بعض التوضيح هذه الحجة في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (مريم: الآيتان 66، 67) .
فهناك نسي (نسي خلقه) ، وهنا استفهام توبيخ وتقريع: (أو لا يذكر) .
ثم في هذه الآية الأخيرة إضافة جديدة، وهي معلومة لهم، ولا يحتاجون إلا لمجرد التذكر: {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} ، فهو من عدم، والذي ينشئ من العدم يقدر على الإعادة والمادة قائمة: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: الآية 29)
قال السيد رشيد رضا تعليقا على هذه الجملة القصيرة التي تضمنت برهانا قاطعا: "وهذه الجملة من أبلغ الكلام المعجز، فإنها دعوى متضمنة للدليل بتشبيه الإعادة بالبدء، فهو يقول: كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة".
وقد ذكر المفسرون في قصة الآية الكريمة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أن أبَى ابن خلف أو غيره من مشركي قريش قال. (ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات، واللات والعزّى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفتّه، ويقول: يا محمد. أترى الله يحي هذا بعد مارمَّ؟ ! فقال -صلى الله عليه وسلم-: نعمْ يبعثك، ويدخلك جهنم، فنزلت) .(23/183)
ومع هذه الحجة الحاسمة لفت القرآن أنظارهم بقوة إلى براهين أخرى، يكفى النظر العابر للاقتناع بها، وفى إيجاز ووضوح أيضا: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (يس: الآيتان 79، 80) حجتان واضحتان: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذه توضيح لما أجمل قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} . فالذي ينشئ- وهم معترفون بذلك- قادر على الإعادة.
وهو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} ومن المعلوم أن الماء يضاد النار وأن الخضرة- بالبديهة- لا تجتمع مع اليبوسة، قال العلامة النسفي: (فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر، واجراء أحد الضدين على الآخر بالتعقيب أسهل في العقل من الجمع بلا ترتيب) . وقال العلامة أبو السعود: (فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا تطرأ عليه اليبوسة والبلى)
تم أعقب القرآن الكريم هاتين الحجتين بحجة جامعة مانعة: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} .
هم مقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض: كما أخبر القرآن عنهم بذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: الآية 9) .(23/184)
ومن تمام الحجة، بل قومها أن يكون من تحجّه معترفا بالمقدمة التي تبنى عليها النتيجة. ثم من البدهي أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس في الحقيقة، وفي مرأى العين عند التأمل كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر: الآية 57) .
ومن الرائع في هذه الحجة الثالثة صياغتها في أسلوب سؤال وجواب.
أما ما جاء في الآية الأخرى: ((وهو أهون عليه)) فهو منتهى الإلزام للمعاند، ذلك أن مجرد القدرة على الإعادة بعد النشأة الأولى حجة في ذاتها، فإذا أضيف إليها أن العقول السليمة تدرك بالنظرة العابرة أن الإعادة أهون وأيسر من البدء ولله المثل الأعلى.
وقد ذكرت هذه الحجة في مواطن أخرى من القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (العنكبوت الآية 19) .
قال جار الله الزمخشري: " (ذلك) يعود إلى ما رجع إليه (هو) في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من معنى (يعيد) ".
ومن ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (ق الآية 44) .
ومما لفت القرآن الكريم الأنظار إليه في شأن البعث حال الأرض تكون يابسة جرداء فينزل عليها المطر فإذا هي يانعة خضراء، وقد تكرر في القرآن ضرب هذا المثل، وجاء واضحا في آية (الحج) التي احتجت للبعث بخلق الإنسان، ومروره بأطوار مختلفة: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .(23/185)
والتشبيه صريح في آية الأعراف {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: الآية 57)
وكذلك جاء صريحا ومباشرا في آية فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر: الآية 9) .
وكذلك جاء في سورة (ق) ، فبعد أن ذكر الله سبحانه أنه نزل من السماء ماء فأنبت به جنات، وحبّ الحصيد، والنخل باسقات، وأنه أحيا به بلدة ميتا، قال: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: الآية 11) .
وبكل هذه البراهين الساطعة الدامغة مع إيجازها ووضوحها لم يعد هناك عذر لمنكري البعث، فإذا كان معها براهين أخرى ذكرها القرآن مطولة بعض الشيء كان إنكار البعث عنادا، بل من أشنع ألوان العناد.
ولا يخفى على ذي بصيرة موضع الإعجاز في إيراد هذه البراهين، فإن كلّ برهان منها مع ما عرض فيه من وجازة ووضوح يغنى عن الكثير من الجدل والحجاج: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: الآية 20) .
وكل البراهين التي أوردتها في القضايا المختلفة، وغيرها مما لم أورده، مما جاء ذكره في القرآن الكريم يغني ويكفي، بل هو فوق الاغناء والكفاية في البلاغ والإقناع والإعجاز.(23/186)
ولكن الأمر كما قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف الآية 103) قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [3] (الأنعام الآية 116) .
و {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات: الآية 180- 182) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ومعنى الآية -كما قال ابن عباس-: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج. وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه. وإلى عباده الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية. وبقوا مصرين على كفرهم وعنادهم.
ومعنى (سكرت أبصارنا) : لا تدرك الأمور على حقائقها. فكأنها منعت من النظر. فحارت وسكنت عن النظر
[2] وتلاحظ في آية (الطور) أن القرآن نفى عن الرسول الكهانة أيضا، وهي مما اتهم به، ومن اليقين أن الكهانة لا تجتمع مع نعمة الله في قلب الإنسان.
[3] ومعنى يخرصون، يكذبون، وأصل الخرص والتخمين ويسمى الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكاذبة(23/187)
مختارات من الصحف
مائة مليون ريال لتسويق الكتاب الإسلامي
تنفيذا لتوصيات (المؤتمر العالمي الأول للإعلام الإسلامي) الذي انعقد في جاكرتا عاصمة إندونيسيا: تقرر رصد (مائة مليون ريال سعودي) لإنشاء مؤسسة إسلامية لتوزيع الكتاب الإسلامي في كل أنحاء العالم الإسلامي، وفي اجتماع تم انعقاده برابطة العالم الإسلامي تحت رئاسة معالي الشيخ (محمد علي الحركان) الأمين العام للرابطة: تم بحث الأسس التي سيقوم عليها المشروع، ووافق المجتمعون على أن يكون رأسمال المؤسسة الإسلامية للتوزيع مطروحا في الأسواق على شكل أسهم، لكي تتعاون رؤوس الأموال الإسلامية في إبراز هذا المشروع إلى حيز الوجود، كما استقر الرأي على الأسس التالية لتنفيذ فكرة المؤسسة:
(1) أن تشترك الكفاءات الإسلامية في وضع التصور النهائي لمشروع الشركة.
(2) أن يكون النظام المعمول به في الشركة متفقا مع نظام الشركات السعودية.
(3) أن يكون المقر الدائم للشركة هو العاصمة المقدسة (مكة المكرمة) .
(المدينة)
المستقبل للإسلام في الاتحاد السوفيتي
قالت الصحف السوفيتية الناطقة باسم الحزب الشيوعي في جمهورية أوزبكستان المجاورة لإيران أنه لا يزال من الأمور المألوفة رؤية الأهالي المتوجهين إلى "الأراضي المقدسة" لأداء فريضة الحج، ويقيمون علاقات مع رجال الدين والمبشرين "المتعصبين" وقالت أن هؤلاء يلتزمون بدقة بتقاليد "لا علاقة لها بأسلوب الحياة السوفيتية ".
وقالت وكالة الصحافة الفرنسية: إن الالتزام ببعض الممارسات الدينية الأساسية ينتشر في كثير من المناطق إلى حد أن المسافر العابر يمكن أن يلاحظها بسهولة.(23/188)
ويوصي الزعيم الديني للمسلمين رجال الدين والوعاظ الذين لا تعترف بهم الدولة -وإن كان المؤمنون ينتخبونهم مباشرة لسد العجز في عدد رجال الدين في الريف- المؤمنين بأداء فريضة الحج بصفة أساسية.
وتعد حصيلة ستين عاما من محاولات تصفية الإسلام كبيرة إلى حد ما، فقد أغلقت غالبية المساجد، وتحول بعضها إلى متاحف مناهضة للدين في حين أصبحت المدن الرئيسية للإسلام مثل سمرقند، وبخاري من مدن المتاحف ولم يبق في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي إلا مدرستان لتعليم القرآن في بخارى وطشقند.
وعلى الرغم من ذلك فإن نتيجة الحملة المناهضة للدين خلال السنوات المقبلة مشكوك فيها. وقد اعترف السكرتير الأول للحزب الشيوعي في تركمانيا بأن الدين الإسلامي يعتمد على جذور متينة في الاتحاد السوفيتي حتى بين الشباب.
وهكذا، وفي عام ألفين سوف يصل تعداد المسلمين إلى 70 مليونا، أي بما معدله ربع السكان. وقد ينمو ثقل جمهوريات أسيا الوسطى، وفي مناطق إستراتيجية مثل حدود إيران وأفغانستان والصين.
(الوطن الكويتية)
كيف يحارب الإسلام
- الموضة في لندن الآن ... هي جماعات التبشير الديني.. أسماء مختلفة.. مألوفة وغريبة.. لجمعيات ظاهرها يعمل في العلن.. وحقيقتها جمعيات سرية.. تدعو لأديان نعرفها. كالمسيحية والبوذية والهندوكية. أو لا نعرفها كأبناء القمر وملكوت يهوه.. والحب للجميع.. والله الواحد. وعشرات من الأسماء الأخرى..
- كل جمعية لها ناد وأعضاء واجتماعات وكتيبات ورحلات وحفلات يلعب الجنس الناعم فيها دورا لا بأس به في إغراء وضم صغار السن.
- الخطورة أن هذه الجماعات تعمل بدأب بين صفوف المسلمين.. خاصة الشباب.
- بل إنها نجحت بالفعل في اجتذاب عدد غير قليل منه.. انضموا إلى صفوفها وبدءوا في تجنيد زملاءهم..(23/189)
- جماعة الأب ديفيد مثلا.. والذي يسمى نفسه رسول الحب الجديد.. والتي ينتشر أفرادها انتشار كبيرا في أحياء العرب في لندن.. تدعو للجنس الجماعي.. فتيات على درجة كبيرة من الجمال والذكاء.. تقوم بتوزيع دعوات ومنشورات مزينة بالرسوم التوضيحية.. تدعو فيها الشباب الذي يعاني الوحدة إلى توديع وحدته ومشاكله.. ومشاركة الجماعة في نشاطها.. وتؤكد بوضوح أنه عند التحاق الشاب بالجماعة سيجد متعة كاملة.. ولا مانع بالطبع من ذكر بعض العبارات عن المسيح الذي أمرهم بالحب!!
- فهل يدرك المسلمون هذا الخطر الداهم؛ فيحضوا شبابهم الذين يبعثون بهم إلى الغرب قبل أن يَضِيعُوا منهم إلى الأبد؟!
(الأخبار)(23/190)
إندونيسية: الإسلام في خطر كبير..
في اجتماع المجلس العالمي للكنائس الذي عقد في صيف عام 1978 م لرسم سياسة منظمة لنشر المسيحية في إندونيسية، وقف أحد الجنرالات وهو ((سيماتيو بانغ)) يقول:
(1) يجب الانتفاع من وجود ضباط نصارى في الجيش والحكومة لتعيين ((قادة نصارى)) في القوات المسلحة لكي يمكن توجيهها في الدفاع عن النصرانية.
(2) يجب تسخير وسائل الإعلام لإشعار العالم بقوة النفوذ النصراني في إندونيسية.
(3) كل المؤسسات التجارية والصناعية والاجتماعية المتعصبة للإسلام يجب محاربتها وإضعافها.
(4) يجب كسب تأييد الحزب الشيوعي الإندونيسي كي ينحاز إلى الجانب، النصراني.
(5) يجب زيادة المساعدة التي يقدمها مجلس الكنائس العالمي للمستشفيات والمدارس الإندونيسية.
(6) يجب أن تمارس العبادة المسيحية بمصاحبة الأنغام الموسيقية وباللهجات المحلية.
(7) يجب إظهار الإسلام والعبادات الإسلامية بمظهر التخلف والعبث، والحاق الأذى والضرر، فيقال مثلا: أن الصوم يضعف الأبدان. وأن مياه الوضوء في الصباح تسبب مرض الروماتزم.. وهكذا.
الشركة الإسلامية للاستثمار(23/191)
أعلن متحدث باسم الشركة الإسلامية للاستثمار أن الشركة قامت خلال السنوات الثلاث الماضية بإصدار صكوك مضاربات للمسلمين على أسس الشريعة الإسلامية، وقد نجحت هذه المضاربات في اجتذاب وتجميع ملايين الدولارات من آلاف المشاركين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد أصدرت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء التابعة لرئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة السعودية فتوى، تؤيد وتشيد بهذه المضاربات، وتوصي بتشجيعها. وقد قامت هذه الشركة بتأسيس شركة قابضة تسمى (دار المال الإسلامي) وسوف يتم طرح أسهم رأس مالها الذي تبلغ قيمته ألف مليون دولار على مراحل وستطرح الشركة في المرحلة الأول اكتتاباً بمقدار (250) مليون دولار وسوف تزاول (دار المال الإسلامي) أعمالها من خلال فروع لها في تسعة وأربعين بلدًا إسلاميا، بالإضافة إلى الشركات الفرعية في أوربا والولايات المتحدة والشرق الأقصى.
الأمة القطرية
مأساة الإسلام في مدغشقر
اتصل بنا بعض المسلمين الذين نثق بأخبارهم، وحدثونا عن الحوادث المؤلمة التي وقعت في ماجنقا قبل عام، وكيف استغل المالاغاشيون الحاقدون حادثة فردية في قتل الآلاف من المسلمين القمريين بحيث انقلب الأمر إلى مذبحة حقيقية مارسها المالاغاشيون الكفار، وبعضهم من الرعاع والسوقة. وأيدهم في ذلك من جاء من رجال الجيش لحل الأشكال وفض النزاع وحفظ الأمن. فكانوا الخوف للمسلمين القمريين والأمن للكفار المالاغاشيين.(23/192)
وقد قيل: إنه اشترك في ذلك بعض المسؤولين وأنهم حرضوا الجنود بعد أن بدأت المذابح وقالوا: إلى النهاية حتى يكون ذلك درسا للقمريين. وحدثنا أحد المسلمين المالاغاشيين أنه اضطر إلى أن يسافر إلى ماجنقا في وقت الحادثة. وهو مسلم وزوجته مسلمة، فغير كل واحد منهما اسمه، وكان للرجل صديق من المالاغاشيين نصحه بأن يحمل غصنا من الأشجار ويسير به في الشارع، فلا يؤذيه أحد لأن هذا هو علامة المالاغاشيين من غير المسلمين.
وقالت زوجته: إن الكفار كانوا يفتخرون أمامها بأنهم قتلوا القمريين وأنه لم يضرهم أحد ظنا منهم أنها غير مسلمة.
وهناك حوادث فردية فظيعة منها: أنهم دخلوا بيتا لأحد المسلمين فوجدوا شيخاً يصلى فقتلوه، ثم عمدوا إلى فراش هناك فوضعوه داخله وأحرقوه.
ومنها أن أعدادا من المسلمين القمريين كانوا يتجمعون في بيت يظنونه محصنا أو صاحبه ذا قدر من المسلمين فيدخل عليهم أولئك ويقتلونهم.
وعلى أية حالة فإن الحقد الذي يكنه الكفار للمسلمين القمريين في ماجنقا الذين هم كانوا عماد الحركة الإسلامية في مدغشقر، وكان لهم نفوذ تجاري ومالي وثقافي، قد انفجر وأيده بعض المسئولين بصفة شخصية، ووصلت نار الحقد إلى حد أن أصيب بعض المساجد بالضرر ونهبت متاجر وهتكت أعراض. وعاد الآلاف من المسلمين القمريين إلى بلادهم (جزر القمر) فراراً من القتل أو الاضطهاد.
عن كتاب مدغشقر بلاد المسلمين الضائعين(23/193)
أخبار الجامعة
انعقد المجلس لأعلى للجامعة الإسلامية في دورته الثانية عشرة
عقد المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة دورته الثانية عشرة تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائبه رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وقد أناب سموه صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة في افتتاح هذه الدورة. وذلك في تمام الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة 1401 هـ.
وقد بدأت الجلسة الافتتاحية بتلاوة آيات من القرآن الكريم، أعقبها كلمة الأمين العام للجامعة فضيلة الشيخ عمر محمد فلاته جاء فيها:
(إن من توفيق الله تعالى لهذه الحكومة السنية إنشاء هذه الجامعة لتكون منارا علمياً في مركز الإشراق الأولى وفي د ار الهجرة والإيمان واستهدفت من تأسيسها إيقاظ أبناء العالم إسلامي الوافدين إليها، وإرشادهم إلى طريق ربهم، وسبل نشأتهم وسعادتهم ودعوة أَممهم إلى دين الله الحق الذي ارتضاه لهم) وأبرز فضيلته صور من رعاية المملكة العربية السعودية لهذه الجامعة، وذلك بتولي جلالة الملك المعظم رئاستها الفخرية وسمو ولي العهد الأمين ونائب رئيس مجلس الوزراء رئاسة مجلسها الأعلى كما ذكر فضيلته ثمارها الطيبة بقوله ((فما من قطر من أقطار العالم الإسلامي إلا وفي الجامعة الإسلامية طالب دارس، ومتخرج عامل في حقل إسلامي)) ثم اختتم فضيلته كلمته بالدعاء لهذه البلاد وأن يحفظ الله لها حماتها ورعاتها وينفع بهم دينه، ويعلي بهم كلمته ودعا لأعضاء المجلس بالتوفيق في أداء الأمانة التي حملوها.
ثم وجه صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة الكلمة الآتية:(23/194)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: أيها الأخوة: فإنه من دواعي سروري واغتباطي أن شرفني صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب، رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة أن أتعرف بالنيابة عنه في افتتاح دورتكم الثانية عشرة، وإنني إذ أحضر معكم هذه الجلسة فإنه لمن دواعي سروري أن اجتمع بكم بعد أن اجتمعت بكم عدة مرات. وإنني لواثق أن قراراكم التي ستتخذونها ستكون إيجابية بحيث تكون الحاجز القوي المنيع أمام التيارات الملحدة الكافرة التي تريد القضاء على الإسلام والمسلمين في شتى أنحاء الأرض.
إخواني: أوصيكم وأوصى نفسي بأن يتخذ كتاب الله وسنة رسول الله نبراسا لجميع العالم. وإن عليكم مسئولية كبرى هي أن ترشدوا أبناء الإسلام وغيرهم إلى أنه لا خلاص للبشرية مما هي فيه من شرور كثيرة إلا بالإسلام وبإتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإني لأرجو الله أن يوفقنا وإياكم إلى مافية الخير والسداد وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يرضيه إنه على كل شئ قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،
ثم ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة كلمة الجامعة وهي:
إن الحمد لله نحمده ونستعين ونستغْفره ونتوب إليه ونعوذ الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين.... من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له وأشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد:(23/195)
فإن من نعم الله على عباده أن يهديهم أولا إلى الإسلام ثم يوفقهم ثانياً إلى صدق الدعوة إليه ويثبتهم ثالثا على تينك الهدايتين حتى يلقوه على ذلك وتعظم نعمة الله على العباد بذلك كلما كان للانحراف عن الصراط المستقيم سوق رائجة ودعاة نشطون ناهيكم عن الضغوط المتلاحقة المتباينة التي تمارس ضد المخلصين إذا سلموا أن يكونوا فريسة اختيارية أو جبرية لدعاة الانحراف ودهاقنته من الشياطين المتلونين.
ونحن في الجامعة الإسلامية مع أولئك المسلمين المتعطشين للعلم والمعرفة ندرك الدور الذي تقوم به قيادة هذا البلد الأمين تجاه العالم الإسلامي بسخاء في ميادين كثيرة أهمها ما يتصل بنشر العلم وتصحيح العقيدة حتى تكون على المنهج الإلهي المنزل في القرآن العظيم والموروث من صحيح السنة النبوية المطهرة متمثلا ذلك في تأسيس الجامعة الإسلامية التي خصصت لأبناء الأمة الإسلامية.(23/196)
هذه الجامعة التي جاء تأسيسها استجابة لسد حاجة المسلمين في مجال العلم الشرعي والعقدي الصحيح بعد أن كادت الأمة تصاب ببأس وهي تتلفت يمنة ويسرة ومن كل جهة لتسمع صوتا مغيثا لها على أيدي من يختارهم الله لذلك. وإذا كانت الجامعة الإسلامية استجابة حقيقية لحاجة الأمة الإسلامية، فإنهما كذلك تأتي تصحيحا للممارسات السلوكية في شتى النشاطات والحاجات البشرية والنفسية وهى بذلك تكون أيضا إسهاما صحيحا لتعديل مسار البشرية إلى الحياة الحرة الكريمة التي تتعاون مع التصور الفطري السليم في أعماق النفس السليمة من التلوث في بناء حضارة إنسانية تخدم الإنسان ولا تستخدمه وتحقق له مستوى من العدل والطمأنينة في كلِ حياته ونشاطاته سواء منها ما كان يتصل به أو يتصل بغيره من الأفراد والجماعات {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بدلا من يكون مطية للشر والأطماع ونهبا للقلق والفتن يثيرها أو تثار ضده وهي بذلك التصوير الحق ليست تحقيقا لأطماع أو مكاسب شخصية كما أنها ليست مؤسسة ضد أحد ولكنه لِخير الجميع وأنها كذلك تختلف كلية عن المؤسسات الإلحادية أو التنصرية أو ماشاكلها فإن مقاصد دعاتها صراحة أو مضمونا صرف الناس عن منهج الله الحق، وتحقيق مكاسب شخصية ومادية مع ما فيها من مكابرة العقل والفطرة.
وقد عانت البشرية في القرون التي تلت انحسار الإسلام عن أكثر البقاع التي كانت معمورة به حين ضعف سلطان الإسلام على تلك المجتمعات وانتشر الجهل والظلم، فيها دعاة الشر والفساد.(23/197)
واليوم ونحنُ نشاهد فيه كل جهة في العالم آثار الصحوة الإسلامية وخيوط فجر الأمل المرتقب في عودة هذا الدين إلى تلك الربوع نشعر بثقل المسئولية الواجب أداؤها علينا في هذه البلاد التي أفاء الله عليها من فضله نعما لا تحصى أعظمها نعمة الإسلام والدعوة إليه وتحمل مسئولية إبلاغه إلى جانب النعم الكثيرة ونسأل الله من فضله أن يرزقنا شكرها على الوجه الذي يرضيه.
وإن هذه الجامعة المباركة التي أثمرت خيرا كثيرا للمسلمين في أماكن كثيرة لسوف تعطي ثمرات لا تقف عند حد بإذن الله وسنشاهدها عما قريب إن شاء الله.
إن هذه الجامعة بفضل الله ثم بفضل قادة هذه الدولة المسلمة وفي طليعتهم جلالة الملك خالد وولي عهده حفظهما الله قد تحسست آلام الأمة الإسلامية التي تعيش بين الشعوب الأخرى فجسدت شعورها بهذا الإحساس بالألم إلى أمل يؤاسى الجرح ويستجيب لنداء الملهوف والمظلوم بتخريج أفواج مؤمنة بالله حاملة مشعل الهداية إلى جانب إتقان المعارف التطبيقية والتقنية التي تخدم العلم الشرعي بل التي يصحح العلم الشرعي مسارها لتكون لصالح الإنسان؛ لأنه إنسان لا لأنه مشتر منفعة أو طالب خدمة عليه أن يقدرها ويتحقق بذلك أيضا منهج سلفنا الصالح الذي كان به العالم المفتى في قضايا الدين مرجعا للناس في قضايا الفلك والطب والرياضيات، وإنما كان الفصل بين العلوم الكونية والتطبيقية والعلوم الشرعية حين كان السلطان لغير الدين وفي عهود الاستعمار التي أعادت استعباد الإنسان لغير الله كما في العهود الجاهلية الأولى أو أشد.
أسأل الله أن يبارك للمسلمين في جامعتهم وأن يجزى قادة هذه البلاد على ما بذلوه ويبذلونه لصالح الأمة الإسلامية خير الجزاء.(23/198)
كما أسأله أن تكون جامعتكم عند حسن ظنكم وظن المسلمين جميعا. واسمحوا لي في ختام هذه الكلمة أن نرفع باسم مجلسكم الموقر برقية شكر وعرفان بالجميل لمقام حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم الرئيس الفخري لهذه الجامعة ولصاحب السمو الملكي الأمير فهد ابن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة، كما نشكر لصاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة على رعايته حفل افتتاح مجلسكم الموقر نيابة عن حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد الرئيس الأعلى للجامعة وعلى كل ما يبديه من تعاون بناء وتوجيه كريم لصالح هذه الجامعة.
وأشكر لكم ما أبديتموه من تعاون مبرور في سائر الدورات وعلى ما ستبدونه من تعاون مقبل.
والسلام عليكم ورحمة الله ولبركاته،،،
***
ثم ألقى سماحة الشيخ يوسف الحجي كلمة الأعضاء حيا فيها قادة المملكة العربية وأشاد بالدعم المستمر منهم لهذه الجامعة لكي تؤدي الأعمال الجليلة الصالحة وأشاد بالنتائج الملموسة لهذه الجامعة والتي يشاهدها من يمر البلدان الإسلامية وغير الإسلامية فيرى أثار خريجيها في نشر الدعوة الإسلامية.
وقد استمرت أعمال هذه الدورة في جلسات مغلقة بعد الجلسة الافتتاحية يوم مساء الثلاثاء ومساء الأربعاء وصباح يوم الخميس ومساءه برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وناقشن المجلس جدول أعماله وفي الجلسة الختامية مساء يوم الخميس ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كلمة توجيهية جامعة شكر فيها الله على ما وفق إليه من إنهاء الأعمال وشكر فيها الأعضاء على ما قاموا به من جهود مشكورة وشكر فيها قادة المملكة على ما يولونه هذه الجامعة من رعاية ودعم خدمة لقضايا الإسلام والمسلمين. وحث فيها عامة المسلمين وخاصتهم على التمسك بحبل الله المتين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(23/199)
ثم ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد كلمة الجامعة تناول فيها أهم ما انتهى إليه المجلس من قرارات في هذه الدورة وهى:-
1- الموافقة من حيث المبدأ على اقتراح بإنشاء كليات تطبيقية ككلية الطب والهندسة والزراعة خدمة لا بناء العالم الإسلامي الذين تشتد حاجتهم إلى مثل هذه الكليات على أن تقدم رئاسة الجامعة الدراسات اللازمة لإنشاء مثل هذه الكليات العملية في الدورة القادمة.
3- الموافقة على اقتراح مقدم من رئاسة الجامعة بإنشاء كلية للغات الأجنبية والدراسات الإسلامية.
3- الموافقة على إنشاء دراسة تكميلية لطلاب الجامعة الوافدين الذين يقل مستواهم العلمي في الدراسات الإسلامية واللغة العربية عن مستوى ثانوية الجامعة.
4- الموافقة على الحساب الختامي للجامعة للعام 1400/ 1401 هـ
- ثم ألقى كلمة الأعضاء سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي أشاد فيها بالدور العظيم الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في دعم هذه الجامعة الإسلامية التي تتميز عن غيرها من الجامعات الإسلامية في مختلف القارات بتخصصها في الدعوة الإسلامية ودعا إلى أن تكرس جميع المواهب والطاقات البشرية إلى خدمة الدعوة إلى الله.
وقد أقامت الجامعة حفل غداء في فندق شيراتون المدينة ظهر يوم الخميس12/11/1401هتكريما لأعضاء المجلس الأعلى على شرف صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن ابن عبد العزيز أمير منطقة المدينة. حضره وكيل منطقة المدينة سعادة الشيخ سعد ناصر السديري وجمع غفير من أعيان المدينة وعلمائها وعمداء كليات الجامعة وعدد كبير من الأساتذة والموظفين في الجامعة.
نشاطات الجامعة في الصيف الجامعة الإسلامية مع المسلمين في أنحاء العالم(23/200)