الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي
لفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية.
24- قال الشيخ ابن محمود في ص69: "ونحن في كلامنا عن السنة إنما نتكلم عن الأحاديث الصحيحة الصريحة التي قام جهابذة النقاد العلماء على تمحيصها وتصحيحها حتى جعلوها عمدة في العقائد والأحكام وأمور الحلال والحرام، وإلا فإنه من المعلوم أن الوضاعين الكذابين قد أدخلوا كثيرا من الأحاديث المكذوبة في عقائد المسلمين وأحكامهم حتى صار لها الأثر السيء في العقائد والأعمال لكن المحققين من علماء المسلمين قد قاموا بتحقيقها وبينوا بطلانها وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها من ذلك أحاديث المهدي المنتظر وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ونحو ذلك مما يقولون".(20/244)
والجواب أن نقول: أفلح إن صدق في قوله: "ونحن في كلامنا عن السنة إنما نتكلم عن الأحاديث الصحيحة التي قام جهابذة النقاد العلماء على تمحيصها وتصحيحها حتى جعلوها عمدة في العقائد والأحكام وأمور الحلال والحرام"فإن الجهابذة النقاد من العلماء مثل العقيلي والبيهقي والخطابي والقرطبى والذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والسخاوي وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين قالوا بصحة كثير من الأحاديث الواردة في المهدي ومنهم من قال بأنها متواترة وهم أهل الخبرة في الحديث والاختصاص فيه وإليهم المرجع في معرفة صحيحه وضعيفه، أما ما ذكره الشيخ ابن محمود من أن الوضاعين الكذابين قاموا بوضع الأحاديث وأن المحققين من العلماء قاموا بتحقيقها وبينوا بطلانها وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها فهو كلام حق لكن تمثيله لهذه الأحاديث الموضوعة بأحاديث المهدي منكر من القول لأن الجهابذة النقاد الذين يعتمد على حكمهم لم يقل أحد منهم أنها ضعيفة كلها فضلا عن القول بأنها موضوعة والذي اشتهر عنه في القرون الماضية محاولة تضعيف أحاديث المهدي وهو ليس من أهل الاختصاص ابن خلدون ومع ذلك اعترف بسلامة بعضها من النقد كما سبق إيضاح ذلك.(20/245)
وبناء على هذا فما زعمه ابن محمود من أن أحاديث المهدي من قبيل الأحاديث الموضوعة التي قام المحققون من العلماء بتحقيقها وبينوا بطلانها وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها هو زعم باطل وكلام ساقط عن درجة الاعتبار ولا يستطيع أن يسمي واحدا من العلماء المحققين المعتد بهم قال بأن أحاديث المهدي موضوعة مبينا المصدر الذي استند إليه في ذلك أما مجرد الزعم الخاطئ العاري عن الصحة الخالي من الصدق فقد نسب إلى الإمامين الجليلين الدارقطني والذهبي أنهما يعتبران أحاديث المهدي مما لا يجوز النظر فيه وهما بريئان من هذه الفرية براءة الشمس من اللمس وبراءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام وسبق أن أوضحت هذا في رقم (19) .
25- وقال في ص70: "ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونه لا حقيقة لها فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين"ومثل بالشيخ محمد بن عبد العزيز المانع والشيخ محمد رشيد رضا.
وقال في ص 6: "إننا لسنا بأول من كذب بهذه الأحاديث - يعني الأحاديث الواردة في المهدي - فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج بعد ذكره لأحاديث المهدي، أن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء فطائفة أنكروها، مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان".
يجاب على ذلك بما يلي:(20/246)
أولا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال في منهاج السنة: "وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف، طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه"، هذا ما قاله شيخ الإسلام عن هذه الطائفة التي أنكرت هذه الأحاديث فإنها قد عولت على حديث ضعيف لا يعول عليه ولم يسم شيخ الإسلام سوى أبي محمد بن الوليد البغدادي وقد بحثت عن هذا الرجل فلم أقف له على ترجمة، أما الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع فلم يضعف الأحاديث الواردة في المهدي بل قال بتصحيح بعض هذه الأحاديث وقد بين ذلك في رسالة سماها: ((تحديق النظر بأخبار الإمام المنتظر)) وقد نقلت جملا من كلامه في ذلك في رقم (13) وأما الشيخ محمد رشيد رضا فقد أوضحت في رقم (15) أنه سقط وتردى في إنكار رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حيا ونزوله من السماء وأنه ليس بمستغرب عليه أن يسقط ويتردى في إنكار خروج المهدي في آخر الزمان ومن كانت هذه حاله يحصل من قلده في سقوطه وترديه الإضرار بنفسه.(20/247)
ثانيا: أنه قد عرف من قديم الزمان عن الشيخ ابن محمود أنه عندما يشذ في مسألة يشعر بالوحشة فيسلي نفسه بمثل هذه العبارات فيقول لست أنا أول من قال بكذا بل سبقني إليه فلان وفلان فقد ألف رسالة قبل ربع قرن من الزمان تخبط فيها في بعض مسائل الحج وقد رد عليه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل إبراهيم مفتي الديار السعودية في زمانه رحمه الله تعالى في رسالة سماها: ((تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك)) طبعت في عام 1376هـ قال رحمه الله في ص50: "وقد أحس هذا الرجل - يعني الشيخ ابن محمود - أنه وقع في أسوء ورطة فقال: "وبالتأمل لما قلناه يعلم أن كلامنا ليس بأول مطر أصاب أرض الفلاة ولا هو أول آذان أقيمت له الصلاة"فوجد وحشة الوحدة وظلمة فقد الحجة فسلى نفسه بذكر من تصور أن قولهم بمثل مقاله ينفي الوحدة، ولعمري ما له في هذا الطريق من رفيق وهؤلاء الذين اعتمدهم في مسلكه لم يشاركوه في سوء صنيعه ومهلكه فهم إن صح النقل عنهم إنما هو القول بالجواز لا الرد على العلماء ولا السعي في أن يجمعوا على خلاف السنة والخروج عن طريق أهل الجنة جميع الورى ولم يرموا واحدا من الأمة بالجمود والتقيد بدين الآباء والجدود فضلا عن أن يرموا بذلك كافة العلماء وحينئذ تكون مقالته أول مطر سوء أصاب أرض الفلاة وأول بوق أذان برفض السنة أصغى إليه الجفاة فوالله ما دعا قبله إلى هذه المقالة من إنسان ولا جلب بخيله وبرجله في زلزلة مناسك الحج ذو إيمان"، هذا ما قاله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ رحمه الله في الشيخ ابن محمود وفقه الله قبل خمسة وعشرين عاما..(20/248)
وإذا تأمل القارئ قوله رحمه الله: "وحينئذ تكون مقالته أول مطر سوء أصاب أرض الفلاة وأول بوق أذان برفض السنة أصغى إليه الجفاة"يتبين له بوضوح صدق فراسة هذا الرجل العظيم عليه من الله الرحمة والمغفرة فإن الشيخ ابن محمود قد ألف بعد ذلك رسائل حاد في بعضها عن الصواب من ذلك رسالته التي أسماها ((الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر)) ، ورسالته التي أسماها ((إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء)) فقد تخبط في هاتين الرسالتين وقد رد عليه في أخطائه فيهما فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري وفقه الله في رسالة سماها: ((فتح المعبود في الرد على ابن محمود)) تقع في مائة وسبع وثمانين صفحة وقد قامت بطباعتها لتوزيعها رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومن ذلك رسالة أسماها ((الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية)) وقد رد عليه في أخطائه في هذه الرسالة سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء في رسالة سماها ((غاية المقصود في التنبيه على أوهام ابن محمود)) تقع في مائة واثنتي عشرة صفحة كما رد عليه في أخطائه في هذه الرسالة الشيخ علي بن عبد الله الحواس في كتاب سماه ((كتاب الحجج القوية والأدلة القطعية في الرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية)) يقع قي مائتين وخمس وثمانين صفحة ومن ذلك رسالته التي أسماها: ((فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب)) ، له فيها أخطاء منها إباحته ذبائح المشركين ورسالة له تقع في أربع ورقات سماها ((جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية)) وقد رد عليه في هاتين الرسالتين سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في رسالة سماها ((حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم)) يليه تنبيهات على أن جدة ليست ميقاتا وهي تقع في مائة واثنتي عشرة صفحة، وهذه الأخطاء(20/249)
التي وقع فيها في رسائله المتعددة متفاوتة فإن بعضها من الأمور الفرعية التي يكون للاجتهاد فيها مجال لكن في حق من يكون أهلا للاجتهاد وبعضها من الأمور التي لا مجال فيها للاجتهاد مثل مسائل القضاء والقدر ومسألة خروج المهدي في آخر الزمان فإنه لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك.
وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" فإن نصيحتي لفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود أن يعمل على أن تكون رسالته في المهدي هذه آخر رسالة من هذا النوع من الرسائل التي شغل طلاب العلم في الرد عليها وأن يجتهد - وقد دخل في العقد الثامن من عمره - في عمارة ما بقى من حياته فيما يعود عليه وعلى المسلمين بالخير والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
26- قال الشيخ ابن محمود في ص (70) : "وأنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها وأكثرها من رواية أبى نعيم في حلية الأولياء وكلها متعارضة ومتخالفة ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة لا باللفظ ولا بالمعنى".
والجواب: أن هذا الكلام واضح في أن الشيخ ابن محمود يعتبر كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم أوسع مصدر اشتمل على أحاديث المهدي وليس الأمر كذلك فقد جمع الشيخ عبد العزيز بن محمد بن الصديق الغماري أطراف أحاديث الحلية كتاب مطبوع سماه ((البغية فى ترتيب أحاديث الحلية)) يشتمل على أكثر من أربعة آلاف حديث وليس فيها حديث طرفه المهدي إلا حديث "المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة" وهذا دليل واضح من كلام ابن محمود على قلة معرفته بأحاديث المهدي وأنه لا يعرف أين تقل وأين تكثر وبالتالي فحكمه عليها أنها من الضعاف التي لا يعتمد عليها وأنها كلها متعارضة متخالفة ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة باللفظ ولا بالمعنى حكم على غير بينة وهدى بل على ظن لا يغني من الحق شيئا ورحم الله من قال خيرا فغنم أو سكت فسلم.(20/250)
27- وقال في ص (29) : "والمهدي متى قلنا بتصديق الأحاديث الواردة فيه ليس بملك معصوم ولا نبي مرسل ما هو إلا رجل عادي كأحد أفراد الناس إلا أنه عادل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يحدث بها".
والجواب: أن أهل السنة والجماعة يقولون بتصديق الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لثبوتها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عندهم غير معصوم وما هو إلا رجل كأحد الناس إلا أنه عادل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ولو قال بذلك الشيخ ابن محمود لكان على منهج أهل السنة والجماعة المتبعين لما صحت به الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه قلد بعض كتاب القرن الرابع عشر الذين حكَّموا العقول في النقول فحادوا عن جادة الصواب أمثال أحمد أمين ومحمد فريد وجدي ومن على شاكلتهما أما قوله: "وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحدث بها" فليس له فيه سلف في الماضين حتى ابن خلدون فإنه لم يقل بتضعيفها كلها كما سبق إيضاح ذلك في رقم (10) ولكن مثل هذا الكلام من مجازفات وتخرصات بعض كتاب القرن الرابع عشر نعوذ بالله من الخذلان.
28 – وقال الشيخ بن محمود في ص (9) : لكن المتعصبين لخروجه - يعني المهدي - لما طال عليهم الأمد ومضى من الزمان أربعة عشر قرنا وما يشعرني أن يأتي من الزمان أكثر مما مضى بدون أن يروه حتى تقوم الساعة لهذا أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك استقامة قولهم عن السقوط، فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى بن مريم مع العلم أن الأحاديث التي بأيديهم والتي يزعمونها صحيحة ومتواترة والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وردت مطلقة لم تقيد بزمن عيسى إلا حديث صلاة عيسى خلف المهدي قال الذهبي وعلي القارئ: "إنه موضوع أي مكذوب فسقط الاحتجاج به"انتهى.(20/251)
أقول: أبرز الأخطاء التي اشتمل عليها كلام ابن محمود هذا خطآن أحدهما زعمه أن أهل السنة القائلين بصحة خروج المهدي لما مضى من الزمان أربعة عشر قرنا دون أن يخرج المهدي أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك سلامة قولهم من السقوط فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى ابن مريم وكأن القول بخروجه زمن عيسى بن مريم نشأ في القرن الرابع عشر، والثاني زعمه أن حديث صلاة عيسى خلف المهدي موضوع وعزوه ذلك إلى الذهبي وعلي القارئ، والجواب عن الخطأ الأول أن القول بتحديد وقت خروج المهدي في الزمن الذي يكون فيها عيسى عليه الصلاة والسلام هو قول أهل السنة والجماعة في القديم والحديث وقد بدأ ذلك من حين تكلم به الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حيث تلقى الأحاديث في ذلك عنه صحابته الكرام وتلقاه عنهم التابعون وسار على نهجهم في ذلك التابعون لهم بإحسان ولم يكن القول به بدأ في القرن الرابع عشر كما يقتضيه كلام ابن محمود وقد قال الإمام أبو الحسين محمد بن الحسين الأبري المتوفى سنة (363 هـ) في كتابه مناقب الشافعي: "وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى يخرج فيساعده على قتله الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه"وكلام أبي الحسين الأبري هذا نقله عنه الإمام ابن القيم في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف ونقله قبله عنه القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة وأبو الحجاج المزي في كتابه تهذيب الكمال ونقله بعدهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابيه تهذيب التهذيب وفتح الباري ونقله السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي ونقله غير هؤلاء من الأئمة.(20/252)
وكلام أبي الحسين الأبري هذا يوجد في كتاب ابن القيم المنار المنيف قبل الكلام الذي نقله ابن محمود في ص53 من رسالته عن ابن القيم في المنار المنيف يوجد قبله بورقة واحدة ومع ذلك يزعم ابن محمود في كلامه هذا أن القائلين بخروج المهدي لما مضى أربعة عشر قرنا دون أن يخرج أخذوا يمدون في الأجل لثيبتوا بذلك سلامة قولهم من السقوط فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى بن مريم وليس بمستغرب أن يعمى الشيخ ابن محمود أو يتعامى عن كلام أبي الحسين الأبري المتوفى سنة 363 هـ هذا فقد عمي أو تعامى عن كل ما أورده ابن القيم في المنار المنيف من تصحيح لأحاديث المهدي وعزا إلى ابن القيم أنه يضعف أحاديث المهدي وينتقدها وهو خلاف الواقع كما سبق أن أوضحته في رقم (11) وكما في قوله في ص55: "فهذا كلام ابن القيم قد انحى فيه بالملام وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي ولم يستثن فرقة عن فرقة لكونها دعوى باطلة من أصلها" انتهى، قال ابن محمود هذا الكلام وغيره عن ابن القيم مع أن كلام ابن القيم في المنار المنيف في إثبات خروج المهدي آخر الزمان وفي تصحيحه لكثير من الأحاديث الوادرة فيه واضح وضوح الشمس في رابعة النهار كما مر إيضاح كلامه رحمه الله في ذلك.(20/253)
والجواب عن خطئه الثاني وهو زعمه أن حديث صلاة عيسى خلف المهدي موضوع وعزوه ذلك إلى الذهبي وعلي القارئ أن يقال لم يذكر ابن محمود لفظ الحديث الذي زعم أنه موضوع وقد ذكره في ص51 حيث قال: "وهنا حديث كثيرا ما يحتج به المتعصبون للمهدي وهو أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال وأن عيسى عليه السلام ينزل من منارة مسجد الشام فيأتي فيقتل الدجال ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فيقول المهدي تقدم يا روح الله فيقول إنما هذه الصلاة أقيمت لك فيتقدم المهدي ويقتدي به عيسى عليه السلام إشعارا بأنه من جملة الأمة ثم يصلي عيسى عليه السلام في سائر الأيام قال علي بن محمد القارئ في كتابه الموضوعات الكبير بأنه حديث موضوع"انتهى، هكذا عزا الشيخ ابن محمود إلى الشيخ علي القارئ في كتابه الموضوعات الكبير أنه يقول عن هذا الحديث إنه موضوع مع أن الذي قاله الشيخ علي القارئ عنه أنه ثابت وذلك في ص164 من كتاب الموضوعات الكبير وقد أوضحت هذا في رقم (22) وبينت أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقتله الدجال بباب لد وصلاته خلف إمام المسلمين في ذلك الزمان ثابت في صحيح مسلم وغيره وكون ذلك الإمام الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه يقال له المهدي ثابت في مسند الحارث بن أبي أسامة وبهذا يتضح أن عزو ابن محمود إلى الشيخ علي القارئ القول بأن حديث صلاة عيسى خلف المهدي موضوع خلاف الواقع وقد أضاف هنا أن الذهبي قال إن حديث صلاة عيسى خلف المهدي موضوع وهذا أيضا بلا شك خلاف الواقع.
29 – وقال الشيخ ابن محمود في ص31: "لم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من شرعه أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب وهو من أهل الدنيا ومن بني آدم فيخبر عنه أنه يفعل كذا وكذا مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة".(20/254)
والجواب أن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه أنه يخبر أمته عما شاء الله أن يخبرهم به من أمور الغيب سواء كان ذلك عن الماضي أو المستقبل أو عما هو موجود غير مشاهد ولا معاين ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور مستقبلة منها ما هو قبل قيام الساعة ومنها ما هو بعدها ومنها ما في زمن قريب من زمن النبوة ومنها ما هو بعيد عن زمنها وسأمثل فيما يلي لأخباره صلى الله عليه وسلم عن أشخاص يأتون بعد زمنه وهم من أهل الدنيا ومن بني آدم منهم من أتى وفقا لما أخبر به صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يأت بعد زمانه وسيأتي في حينه طبقا لما أخبر به صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة لا يترددون في تصديق ما صح عنه من أخبار ويعتقدون أن ما صح إخباره به لا بد أن يقع على النحو الذي أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.(20/255)
فمن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بمجيء أويس القرني من اليمن وذكره صلى الله عليه وسلم له باسمه وبيان بعض صفاته وقد حصل مصداق خبره صلى الله عليه وسلم بذلك على النحو الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم بسنده عن أسير بن جابر قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه إمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى عليه أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن، قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم، قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفر لي، فاستغفر له، قال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم".
ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن اثنين من ثقيف بوصفهما أحدهما كذاب والثاني مبير وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فالكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي والمبير أي المهلك الحجاج بن يوسف الثقفي وقد قالت ذلك للحجاج أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: "أما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا إخالك إلا إياه". قال النووي في شرحه صحيح مسلم: "واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف والله أعلم"انتهى.(20/256)
هذان مثالان لما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن أشخاص في زمن قريب من زمن النبوة أحدهما في جانب المدح والثاني في جانب الذم وقد صدق خبره صلى الله عليه وسلم فيهما على النحو الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم، أما في الزمن البعيد عن زمن النبوة فقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترت عنه في خروج المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء وذلك في آخر الزمان ولا بد من وقوع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم طبقا لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عن أمور مغيبة هو من الإيمان بالغيب الذي امتدح الله أهله، وأما الدعاوى الكاذبة التي تحصل من متمهدين دجالين في بعض الأزمان وما ينتج عنها من فتن فإن ذلك لا يقدح بالحقيقة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أوضحت ذلك في رقم (4) .
30 – وقال الشيخ ابن محمود في ص25: "ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته بحال فقد أثبتت التاريخ الصحيحة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بداية مولده إلى حين وفاته كما أثبتها القرآن وليس فيها شيء من ذكر المهدي كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به والقرائن والشواهد تكذب به.(20/257)
والجواب: أن هذا الكلام من النوع الذي لا ينتهي عجب الواقف عليه لاسيما قوله فيه: "فقد أثبتت التاريخ الصحيحة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بداية مولده إلى حين وفاته كما أثبتها القرآن وليس فيها شيء من ذكر المهدي كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك". فإن كان الكاتب يقصد الحياة العملية فلا وجه للبحث عن خروج المهدي في آخر الزمان ضمن السيرة النبوية العملية، وإن كان يقصد بحياته صلى الله عليه وسلم ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات فلا وجه لقوله: "وليس فيها شيء من ذكر المهدي"ومعلوم أن حد الحديث النبوي الشريف عند أهل الحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي وكتب الحديث الشريف مليئة بالنصوص الواردة في المهدي وفيها كما قال أهل العلم بالحديث الصحيح والحسن والضعيف والموضوع.
وعلى هذا فقوله: "ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته بحال"من قبيل الكلام البارد الذي لم يفكر في معناه عند تسطيره وإلا فإن خروج المهدي في آخر الزمان لم يعرفه أهل السنة والجماعة المتبعين للنصوص الشرعية إلا بثبوته في السنة النبوية ولا يقل عن قوله ذلك قوله: "فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به والقرائن والشواهد تكذب به"فإن المسلم الناصح لنفسه لا يصدق ويكذب تبعا للهوى وإنما يكون تصديقه أو تكذيبه متمشيا مع النصوص الشرعية فيجعل النقل حكما على العقل لا أن يجعل العقول محكمة في النقول فيقع في فضول القول وردئ الكلام.(20/258)
31 - وقال الشيخ ابن محمود في ص17: "ولقد عاش الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون ثم عاش من بعدهم العلماء والسلف الصالحون ممن كانوا في القرون الثلاثة المفضلة ثم عاش من بعدهم جميع العلماء والحكام ومنهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الشهيد وصلاح الدين الأيوبي وجميع الناس بعدهم وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم فلم ينقص إيمانهم وتقواهم عدم وجود المهدي من بينهم لعلمهم واعتقادهم أن الدين كامل بدونه فلا حاجة لهم به خرج أو لم يخرج".
والجواب أن يقال أولا: هذا الكلام من النوع الذي يصلح أن يوصف بأنه ليس له معنى مستقيم.
وثانيا: أن الزمن الذي يخرج فيه المهدي أوضحته النصوص الصحيحة وهو آخر الزمان حيث يخرج الدجال في زمنه، وينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء ويصلي خلفه.
وثالثا: إن عدم وجوده بين الناس في أزمنة قبل زمانه لا ينقص الإيمان والتقوى وإنما الذي ينقص الإيمان والتقوى عدم تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به والقدح بالنصوص الشرعية استنادا إلى الشبه العقلية كما هو مسلك بعض الكتاب في القرن الرابع عشر.
32- ذكر الشيخ ابن محمود في مواضع متعددة من رسالته أن القول بخروج المهدي على فرض صحته ليس من عقائد المسلمين فقال في ص56: "وأنه على فرض صحة هذه الأحاديث أو بعضها أو تواترها بالمعنى حسب ما يدعون فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم". ثم مَثَّل بشيخ الإسلام ابن تيمية والطحاوي وشارح عقيدته وابن قدامة والأشعري في الإبانة ثم قال: "فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين".
والجواب عن ذلك من وجوه:(20/259)
الأول: أن مذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار سواء كانت عن أمور ماضية أو مستقبلة أو موجودة غائبة عنا ومن ذلك التصديق بخروج المهدي كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تقتضيه شهادة المسلم بأن محمدا رسوله الله صلى الله عليه وسلم وقد قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان معنى شهادة أن محمدا رسوله الله: "طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع"، وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي في كتابه لمعة الاعتقاد: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل". فكلام ابن قدامة هذا يدخل فيه التصديق بخروج المهدي في أوله وآخره، فأوله قوله: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه"، وآخره قوله بعد أن ذكر أمثلة من أشراط الساعة: "وأشباه ذلك مما صح به النقل".(20/260)
الثاني: أن من العلماء الذين كتبوا في عقائد أهل السنة والجماعة من نص على خروج المهدي في آخر الزمان ومنهم الحسن بن علي البربهاري والسفاريني وسبقت الإشارة إلى ذلك في رقم (14) ثم إن عدم ذكر بعض الأئمة لخروج المهدي في آخر الزمان في كتبهم لا يدل على عدم اعتبارهم ذلك من عقائد المسلمين لأنهم لم يلتزموا التنصيص على كل شيء يعتقد ولأن منهم من يأتي بعموم يدخل فيه وجوب التصديق بكل ما أخبره به الرسول صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه كما فعل ابن قدامة المقدسي..
الثالث: قول ابن محمود: "وأنه على فرض صحة هذه الأحاديث أو بعضها أو تواترها بالمعنى حسبما يدعون فإنها لا علاقة لها بالعقيدة الدينية". يجاب عنه بأنه كلام غير مستقيم وإلا فكيف يقال بصحة النقل ثم لا يصدق به ولا يعتقد مقتضاه وسبق في رقم (16) ما نقله السيوطي عن الشافعي رحمه الله أنه روى يوما حديثا، وقال إنه صحيح فقال له قائل: "أتقول به يا أبا عبد الله؟ "فاضطرب وقال: "يا هذا أرأيتني نصرانيا؟ أرأيتني خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زنارا؟ أروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به". وسبق أيضا في رقم 6 ما رواه البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدتني أبي قال لنا الشافعي: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني إذا كان الحديث الصحيح فأعلموني إن شاء يكون كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا". والحاصل أن صحة الحديث في خبر تقتضي التصديق به وأن كلام ابن محمود هذا متناقض وغير مستقيم المعنى.(20/261)
33- وصف الشيخ ابن محمود القول بصحة خروج المهدي بأنه اعتقاد سيء وأنه بدعة وأنه من محدثات الأمور فقال في ص12: "وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام حيث تأثرت بقوله - يعني في صحة خروج المهدي - حتى بلغت سن الأربعين من العمر وبعد أن توسعت في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيء والحمد الله وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد كتاب الله". وقال في ص19: "ومنهم - يعني الذين ردوا الأحاديث الواردة في المهدي - الإمام الشاطبي صاحب الاعتصام فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي"، وقال في ص30: "فبسبب مجاورتهم - يعني بعض أهل السنة والجماعة - للشيعة واختلاطهم بهم اقتبسوها منهم وإلا فإنها ليست من عقيدة أهل السنةط، وقال في ص31: "فهما - يعني الشيعة وأهل السنة الذين يصدقون بخروج المهدي - في فساد الاعتقاد به - يعني المهدي – سيان"، وقال في ص58: "ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيء القبيح"، وقال في ص 58 أيضا: "وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور"، والمهدي واعتقاده هو من محدثات الأمور".
ويجاب على ذلك بما يلي:(20/262)
أولا: ما ذكره من أنه في بداية نشأته كان يعتقد اعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية في صحة خروج المهدي وأنه بعد أن تجاوز الأربعين من العمر وبعد أن توسع في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتناقضها زال عنه الاعتقاد السيء جوابه أن اعتقاد خروج المهدي آخر الزمان هو مذهب أهل السنة والجماعة قبل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعده وسلوك ابن محمود بعد تجاوزه سن الأربعين من العمر مسلكا غير سبيلهم انتقال من اعتقاد مبني على التصديق بالنصوص الشرعية الصحيحة إلى اعتقاد سيء مبني على الشبه العقلية الواهية وليس للشيخ ابن محمود في معتقده الجديد سلف من أهل العلم المعتد بهم أما حمده الله على زوال الاعتقاد السيء عنه - على حد تعبيره - فإنه لا يحمد على مكروه سوى الله تعالى، وقد أحسن من قال:
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
ثانيا: ما نقله عن الشاطبي في الاعتصام من أنه ألحق المهدية بأهل البدع وأن المهدية في رأي الشاطبي هم الذين يعتقدون في صحة خروج المهدي جوابه: أن ما نسب إلى الشاطبي غير صحيح ومقصود الشاطبي بالمهدية اتباع المتمهدي المغربي وقد فسر مراده بالمهدية بأنهم الذين يجعلون أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت وسبق إيضاح ذلك في رقم 12.
ثالثا: ما ذكره من أن عقيدة أهل السنة في المهدي مقتبسة من عقيدة الشيعة وأن الشيعة وأهل السنة في فساد الاعتقاد بالمهدي سيان، جوابه أن عقيدة أهل السنة في المهدي مستقاة من الأحاديث الصحيحة في الأصول المعتمدة عندهم ولا علاقة لها بعقيدة الشيعة وسبق إيضاح ذلك في رقم 3 ورقم 15.
رابعا: قوله: "ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيء القبيح". جوابه أن عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي مبنية على نصوص صحيحة قال بصحتها أهل العلم المعتقد بهم وسبق إيضاح ذلك في رقم 18.(20/263)
خامسا: قوله: "والمهدي واعتقاده من محدثات الأمور".
جوابه: أن ذلك يقال لو كان القول بخروجه في آخر الزمان ليس فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما وقد صحت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن القول بأنه من محدثات الأمور يعتبر من الزعم الباطل والقول الخاطئ وإنما الذي يعتبر من محدثات الأمور أن يأتي بعض الكتاب في القرن الرابع عشر فيسلكوا مسلكا خطيرا حادثا هو رد النصوص الشرعية بناء على شبه عقلية فيرخون لعقولهم العنان ثم يتركونها بدون خطام أو زمام.
24- وقال ص 24: "والذي جعل أمر المهدي يستفحل بين أهل السنة من المسلمين وكان بعيدا عن عقيدتهم هو عجز العلماء المتقدمين وكذا العلماء الموجودين على قيد الحياة فلم نسمع بأحد منهم رفع قلمه ولا نطق ببنت شفة في التحذير من هذا الاعتقاد السيء وكونه لا صحة له اللهم قد بلغت بل إنهم ينكرون على من يقول بإنكاره فيزيدون الحديث علة والطين بلة".
والجواب على هذا أن نقول: هكذا ينحى ابن محمود باللائمة على علماء الأمة متقدميهم والموجودين على قيد الحياة منهم لعدم قيام أحد منهم بإنكار خروج المهدي وذلك دليل واضح من كلام ابن محمود على شذوذه في هذا الأمر وأنه وحده في واد وعلماء الأمة الإسلامية سابقهم ولاحقهم في واد آخر.
هذا وليس له رفيق في الطريق الموحش الذي سلكه إلا أمثال محمد فريد وجدي وأحمد أمين ممن حكّموا العقل في النقل وردوا النصوص الصحيحة لشبه عقلية واهية، وقد صان الله العلماء المحققين المعتد بهم من الإصابة بأمراض الشبهات العقدية ووفقهم لتعظيم السنة النبوية والتصديق بأخبارها الثابتة عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(20/264)
ولذلك لم يحصل ابن محمود على واحد منهم يرفع قلمه أو ينطق ببنت شفة في إنكار خروج المهدي سواء في ذلك سابقهم ولاحقهم، وكيف يطمع ابن محمود أن يجد عالما ناصحا لنفسه يتجرأ على رد النصوص الصحيحة ودعوة الناس إلى التكذيب بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بماذا بلغ ابن محمود في قوله: "اللهم قد بلغت؟ "
إن من الواضح للمتعلم فضلا عن العالم أنه بلغ عن عدم معرفته بالحديث النبوي الشريف وعدم تمييز صحيحه من سقيمه وبلغ عن تمكن شبه بعض كتاب القرن الرابع عشر العقلية من فكره بحيث قدمها على النقل وبلغ عن شذوذه وسلوكه مسلكا مخالفا لمسلك أهل السنة والجماعة، وسواء كان صدور ذلك منه عن جهل أو علم هو بلية ومصيبة.
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
35- قال الشيخ ابن محمود في ص 34: "إن العلماء كأبي داود في سننه وابن كثير في نهايته والسفاريني في لوامع أنواره وغيرهم قد أدخلوا أحاديث المهدي في جملة أشراط الساعة مع أحاديث الدجال والدابة ويأجوج ومأجوج وأحاديث الفتن، فكل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص لعلمهم أنها أحاديث مبنية على التساهل ويدخل فيها الكذب والزيادات والمدرجات والتحريفات وليست بالشيء الواقع في زمانهم ولا من أحاديث أحكامهم وأمور حلالهم وحرامهم".
ثم ذكر أنه: "في القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي وثارت الفتن بسببه اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها فنخلها ثم نثرها حديثا حديثا وبين عللها كلها وأن من رواتها الكذوب ومنهم المتهم بالتشيع والغلو ومنهم من يرفع الحديث إلى الرسول بدون أن يتكلم به الرسول ومنهم من لا يحتج به وخلاصته أنه حكم على أحاديث المهدي بالضعف".
وتعليقي على كلام ابن محمود هذا أقول:(20/265)
ما ذكره من أن أحاديث المهدي وغيرها من أحاديث أشراط الساعة لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، وأنه في القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها وأنه حكم عليها بالضعف أقول هذا الذي ذكره الشيخ ابن محمود مردود بأن العلماء في مختلف العصور قبل القرن التاسع تكلموا في أحاديث المهدي وبينوا أن فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع واحتجوا بالثابت منها، واعتقدوا موجبه وهم أهل الاختصاص الذين يعول على قولهم في هذا الشأن يعرف كلامهم في ذلك تصحيحا وتضعيفا من يطالع الكتب التي صنفوها ويقف على الجهود العظيمة التي بذلوها في خدمة السنة وتمييز صحيحها من ضعيفها ومن النقاد الذين تعرضوا لأحاديث المهدي الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة علي بن نفيل النهدي: "قلت ذكره العقيلي في كتابه وقال: لا يتابع على حديثه في المهدي ولا يعرف إلا به قال وفي المهدي أحاديث جياد من غير هذا الوجه"، ومنهم ابن حبان المتوفى سنة (354 هـ) فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"، قال: "واستدل ابن حبان في صحيحه -بأن حديث أنس ليس على عمومه - بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا"، وقال البيهقي المتوفى سنة 438 هـ بعد كلامه على تضعيف حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" قال: "والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح ألبتة إسنادا"، ومنهم الحافظ أبو الحسين محمد بن الحسين الأبري صاحب كتاب مناقب الشافعي المتوفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، قال رحمه الله في محمد بن خالد الجندي(20/266)
راوي حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم": "محمد ابن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه"نقل ذلك عنه ابن القيم في كتابه المنار المنيف وسكت عليه ونقله أيضا الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي وسكت عليه ونقله عنه أيضا وسكت عليه في كتابه فتح الباري في باب نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ونقله أيضا غير ابن حجر وابن القيم من أهل العلم، وممن صحح بعض الأحاديث الواردة في المهدي الإمام الترمذي في جامعه، ومنهم الحاكم في المستدرك ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه في تصحيح جملة منها، ومنهم الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة 671 هـ فقد قال في كتابه التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة بعد ذكر حديث "ولا مهدي إلا عيسى بن مريم" وبيان ضعفه قال: "والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التنصيص على خروج المهدى من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم بها دونه"، ومنهم الإمام ابن تيمية المتوفى سنة 738 هـ فقد صحح بعض الأحاديث الواردة في المهدي وذلك في كتابه منهاج السنة ومنهم الإمام ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ فقد صحح في كتابه المنار المنيف جملة من الأحاديث الواردة في المهدي وأشار إلى ضعف بعض ما ورد في ذلك، ومنهم الإمام ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ فقد تكلم في كتابه النهاية على كثير من الأحاديث الواردة في المهدي مبينا الصحيح والضعيف في ذلك، وهؤلاء العلماء النقاد كلهم قبل القرن التاسع، وقد تكلموا في أحاديث المهدي مبينين صحة بعض الأحاديث الواردة في ذلك وهم قليل من كثيرين تكلموا في ذلك ويتضح(20/267)
بهذا بطلان ما ذكره الشيخ ابن محمود من أن أحاديث المهدي وغيرها من أشراط الساعة لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، أما ما ذكره من أنه: "في القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها"فيجاب عنه بأن العلماء النقاد تكلموا في أحاديث المهدي لمعرفة صحيحها من ضعيفها قبل القرن التاسع ومنهم الذين أسلفت ذكرهم قريبا وبأن ابن خلدون ليس من المحققين في علم الحديث الذين يعول على كلامهم في التصحيح والتضعيف وسبق أن أوضحت وجه ذلك في رقم 10 وأيضا فإن ابن خلدون كانت وفاته سنة 808 هـ فلم يدرك من القرن التاسع إلا ثمان سنوات وكان كلامه على أحاديث المهدي في مقدمة تاريخه التي فرغ من وضعها وتأليفها، قبل التنقيح والتهذيب في منتصف عام 779 هـ كما ذكر ذلك في آخر المقدمة أي قبل عشرين سنة من انتهاء القرن الثامن وهذا يوضح عدم استقامة ما ذكره الشيخ ابن محمود من أنه في القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي وثارت الفتن بسببه اضطر بعض المحققين من العلماء بأن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها إلخ.(20/268)
36- وقال الشيخ ابن محمود في ص 23 تحت عنوان المقارنة بين أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين: "إننا متى قابلنا بين العلماء المتقدمين والمتأخرين نجد الفرق واسعا فلا مداناة فضلا عن المساواة إذ العلماء المتقدمون قد جمعوا بين العلم والعمل فهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى، ولكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة حتى بلغت خمسين حديثا في قول الشوكاني كما نقلها عنه السفاريني في لوائح الأنوار وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها وفي كتب الشيعة أنها بلغت ألفا ومائتي حديث، والسبب أن من عادة علماء السنة المتقدمين (عمل) ؟ التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة، كأحاديث المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وما كان من قبيل ذلك فلا يتكلمون في نقدها ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة بخلاف أحاديث الأحكام وأمور الحلال والحرام وما يحتاجه الناس في عبادتهم ربهم والتعامل فيما بينهم في أمور دنياهم فقد بالغوا في تحقيقها بمعرفة رواتها وما يجوز فيها فهم بعلم صحيح نطقوا وببصر ناقد كفوا".
وتعليقي على هذا الكلام ما يلي:
أولا: ما ذكره عن العلماء المتقدمين من أنهم جمعوا بين العلم والعمل وأنهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى وأن المتأخرين لا يدانونهم فضلا عن أن يساووهم هو كلام حق لكن الشيخ ابن محمود عقبه بما يكدر صفوه وهو لمزه للعلماء المتقدمين بالتغفيل إذ وصفهم بأنه "يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله وأنهم لذلك أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة". والواجب إحسان الظن بسلف هذه الأمة والثناء عليهم بما هم أهله دون تعرض لهم بلمز أو حط من شأنهم.(20/269)
ثانيا: علل الشيخ ابن محمود لإكثار العلماء المتقدمين من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة على حد قوله بتعليلين أحدهما ما وصفهم به من أنهم يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم وأنهم يستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله. والثاني أن من عادتهم التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة كأحاديث المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وأن ما كان من هذا القبيل لا يتكلفون في نقدها ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة، وقد أجبت عما تضمنه التعليل الأخير من أن العلماء لا يتكلفون في نقد الأخبار المتعلقة بأشراط الساعة ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص وذلك في رقم 35 إذ نقلت على سبيل التمثيل كلام جماعة من العلماء النقاد في تصحيح بعض الأحاديث الواردة في المهدي.
أما وصف الشيخ ابن محمود العلماء المتقدمين بأنه يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم وأنهم يستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله وأنهم لذلك أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة فهو وصف لامز لا يليق بسلف الأمة ونقلة السنة الذين حمى الله بهم دينه وأقام شريعته فإن الله قد منحهم من الذكاء والفطنة والتثبت واليقظة ما جعلهم به أهلا لحفظ هذا الدين وأوعية لسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل عن أحمد بن سنان قال: "سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن الحكم والحديث"يعني لا يستعمل حسن الظن في قبول الرواية عمن ليس بمرضي"انتهى، وروى أيضا عن أبيه عن أبي بكر المعيطي عبيد الله بن أبي وهب قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: "لا يجوز حديث الرجل حتى تجوز شهادته".(20/270)
وروى بسنده إلى عمرو بن قيس قال: "ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينتقد الدراهم فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذلك الحديث". وروى عن أبيه عن عبدة بن سليمان قال: "قيل لابن المبارك هذه الأحاديث الموضوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة". وروى عن أبيه عن نعيم ابن حماد قال: "قلت لعبد الرحمن بن مهدي: كيف يعرف الكذاب؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون". وروى بسنده إلى ابن سيرين قال: "كان يقال إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها". وروى بسنده إلى يعقوب بن محمد بن عيسى قال: "كان ابن شهاب إذا حدث أتى بالإسناد ويقول لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة". وروى عن محمد بن يحيى عن زنيج قال: "سمعت بهز بن أسد يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح: هذه شهادات العدول المرضيين بعضهم على بعض وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء قال: هذا فيه عهدة ويقول: لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم ثم جحده لم يستطع أخذها منه ألا بشاهدين عدلين فدين الله عز وجل أحق أن يؤخذ فيه بالعدول". هذه بعض نقول عن نقلة الآثار تبين مدى تيقظهم وتثبتهم وبعدهم عن التغفيل وإنها لإحدى الكبر أن يأتي آت في السنة المتممة للقرن الرابع عشر فيقول: "لكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله، ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمختلفة والمتضاربة حتى بلغت خمسين حديثا في قول الشوكاني كما نقلها عنه السفاريني في لوائح الأنوار وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها". ثم إن هذا الناقد للعلماء المتقدمين الذي جاء في نهاية القرن الرابع عشر قد جاء في كلامه هذا بالذات ما يوضح عدم تمييزه بين من هو متقدم ومن هو متأخر إذ نسب إلى السفاريني أنه نقل في كتابه لوائح الأنوار عن الشوكاني أحاديث المهدي وكانت ولادة السفاريني في عام 1114 هـ ووفاته في عام 1188هـ أما الشوكاني فكانت ولادته في(20/271)
عام 1173 هـ ووفاته في عام 1250 هـ وقد ذكر السفاريني في أول كتابه لوامع الأنوار البهية أنه في سنة ثلاث وسبعين بعد المائة والألف طلب منه بعض أصحابه نظم أمهات مسائل اعتقاد أهل الأثر فنظمها في مائتي بيت وبضعة عشر بيتا وسماها الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية ثم بعد ذلك طلب منه هؤلاء الأصحاب شرح هذا النظم فشرحه بكتابه لوامع الأنوار البهية وهو واضح أن السفاريني بدأ بنظم الدرة المضية في السنة التي ولد فيها الشوكاني ثم بعد فراغه من النظم شرحه بكتابه لوامع الأنوار البهية الذي يقول الشيخ ابن محمود أنه نقل فيه عن الشوكاني أحاديث المهدي أن الوقت الذي كان السفاريني يؤلف فيه كتابه لوامع الأنوار البهية كان الشوكاني قبل سن الخامسة عشرة، وأحدهما في أرض الشام والثاني في أرض اليمن، والحاصل أن من العجب أن يجعل الشيخ ابن محمود السفاريني في الزمن بعد الشوكاني وأعجب منه أن يزعم أن السفاريني نقل في كتاب الأنوار البهية عن الشوكاني أحاديث المهدي وأما ما أشار إليه من رواية العلماء المتقدمين الأحاديث الكثيرة في المهدي المتناقضة والمتضاربة فسبق أن أوضحت أن ما كان منها ضعيفا لا يلتفت إليه وما كان منها صحيحا فهو مؤتلف غير مختلف ومتفق غير مفترق وذلك في رقم 7.(20/272)
37- أثنى الشيخ ابن محمود في ص 26 على من وصفهم بعلماء الأمصار فقال: "إن علماء الأمصار - والحق يقال - متى طرقوا بحثا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال فإنهم يتبعون البحث تحقيقا وتدقيقا وتمحيصا وتصحيحا حتى يجعلوه جليا للعيان وصحيحا بالدلائل والبرهان وليس من شأن الباحث أن يفهم من لا يريد أن يفهم وقد قرروا قائلين: إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها الخ"، وقال في ص 28: "إن بعض علمائنا عندما يرى أحدهم شيئا من الرسائل والبحوث الصادرة من علماء الأمصار المتأخرين وهي تعالج شيئا من المشاكل الهامة التي يمتد الخلاف فيها ويهتم كل الناس بأمرها كمسألة المهدي ونحوها فلا يعطي هذه الرسالة شيئا من الاهتمام والنظر خصوصا عندما يعرف أنها تخالف رأيه واعتقاده الخ".
وأقول تعليقا على هذا القول: إن من يطلع على هذا الكلام وهو خال الذهن قد يظن أن علماء الأمصار هؤلاء الذين يشبعون البحث تحقيقا وتدقيقا وتمحيصا وتصحيحا حتى يجعلوه جليا للعيان وصحيحا بالدلائل والبرهان هم من الجهابذة المتضلعين في علمي الرواية والدراية ولم يدر أنه ليس لدى الشيخ ابن محمود من هؤلاء المدققين المحققين الممحصين المصححين إلا أمثال أحمد أمين ومحمد فريد وجدي، ثم إن رسالة الشيخ ابن محمود في المهدي هذه هي من بحوث علماء الأمصار المتأخرين ويتضح للقارئ من خلال وقوفه على أخطائه الكثيرة التي لا يعذر في مثل بعضها طلاب العلم المبتدئون وخاصة ما أشرت إليه في أرقام 8 و 11 و 12 و 19 و 22، يتضح للقارئ أن هذا البحث لم يتبع تدقيقا وتحقيقا وتمحيصا وتصحيحا بل لم يشم رائحة هذه الصفات.(20/273)
38- وقال الشيخ ابن محمود في ص 7: "وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم كما تحاشى عنها البخاري ومسلم والنسائي والدارقطني والدارمي فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي فلا ذكر لها فيه".
ويجاب عن ذلك بأن العلماء المحدثين الذين قاموا بتدوين الحديث الشريف في مصنفاتهم منهم من لا يلتزم بإخراج الصحيح ومنهم من يلتزم بإخراج الحديث الصحيح دون غيره كالبخاري ومسلم في صحيحيهما لكن لم يقل أحد من أهل العلم أن الأحاديث التي لا يخرجها الشيخان في الصحيحين غير صحيحة فإن الصحيح كما أنه موجود في الصحيحين فهو موجود في غيرهما وقد أوضحت ذلك في رقم 5.(20/274)
أما الذين لم يلتزموا بإخراج الحديث الصحيح في كتبهم فهم يخرجون فيها الصحيح وغيره ومنهم من يبين درجة الحديث صحة وضعفا أو يبين حال بعض رجال إسناده ومنهم من لا يبين شيئا من ذلك اكتفاء بإيراده الإسناد الذي يتمكن من له أهلية النظر فيه من معرفة درجة الحديث وذلك بدراسة إسناده وماله من متابعات أو شواهد وهذه المؤلفات المشار إليها للنسائي والدارقطني والدارمي ليس كل ما فيها صحيحا وليس كل ما لم تشمله يكون ضعيفا كما يعرف ذلك صغار طلاب العلم وبناء على ذلك كان خلاف الواقع حتما ما زعمه الشيخ ابن محمود من أن "البخاري ومسلما والنسائي والدارقطني، والدارمي لم يذكروا أحاديث المهدي في كتبهم المعتمدة وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها وأن الدارمي وهو شيخ أبي داود والترمذي قد نزه مسنده عنها"فإن تعليله عدم إخراجهم تلك الأحاديث في كتبهم بقوله: "وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها"افتيات عليهم ولا يكون ذلك مطابقا للواقع إلا لو وجد عنهم نصوصا تدل على أن سبب عدم ذكرهم إياها علمهم بضعفها، وأنى له ذلك، وكذا ما زعمه من أن الدارمي قد نزه مسنده عنها فإنه لا يقال لما لم يخرجه فيه أنه نزهه عنه إلا لو وجد عنه نص في شيء من ذلك كما لا يقال أن كل ما أخرجه فيه نزيه لأنه لم يلتزم إخراج الصحيح وقد قال الحافظ العراقي - كما نقله عنه السيوطي في تدريب الراوي: "اشتهر تسميته - يعني مسند الدارمي - بالمسند كما سمى البخاري كتابه بالمسند لكون أحاديثه مسندة" قال: "إلا أن فيه المرسل والمعضل والمنقطع والمقطوع كثيرا"انتهى.(20/275)
ومعلوم أن المرسل والمعضل والمنقطع من أنواع الضعيف أما كون الدارمي الذي لم يخرج أحاديث المهدي في مسنده شيخا لأبي داود والترمذي اللذين خرجا أحاديث المهدي في كتابيهما فإن ذلك لا يقدح في إخراجهما هذه الأحاديث لأنه لا يلزم أن يكون ما خرجه تلميذ في كتابه طبقا لما خرجه شيخ له في كتابه وهذا من البديهيات ولو أن الدارمي خرج أحاديث المهدي في مسنده لما سلم من الدخول تحت قول ابن محمود: "ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدا لمن سبقه" إلى آخر كلامه الذي سقته وأجبت عنه في رقم 6.
39- وقال الشيخ ابن محمود في ص 85: "فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا عن واقعهم ويتركوا واجبهم لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم ويبسط العدل بينهم فيركنوا إلى الخيال والمحالات ويستسلموا للأوهام والخرافات ثم يفرض عليه علماؤهم التحجر الفكري والجمود الاجتماعي على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم أو على رأي عالم أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه وعدم الخروج عنه وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب هو من سائر البشر يأتي في آخر الزمان فينقذ الناس من الظلم والطغيان".(20/276)
أقول: إن الله قد تكفل ببقاء هذا الدين وأن الموفقين لسعادة الدنيا والآخرة في مختلف العصور من جعلهم الله من أنصار دينه وفي صحيح البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، فلا يخلو عصر من العصور من إقامة شرع الله. والمهدي الذي أَخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا حلقة في أواخر سلسلة طويلة ينصر الله به في زمنه دينه ذلك الزمن الذي يستشري فيه الشر ويخرج الدجال الأعظم، وليس للمسلمين في أي زمن أن يتركوا ما أوجبه الله عليهم من نصرة الدين اتكالا على ما جاء في أحاديث المهدي أما وصف الشيخ ابن محمود، التصديق بخروج المهدي بأنه ركون إلى الخيال والمحالات واستسلام للأوهام والخرافات فسبق أن ذكرت أن هذه المسألة من الأمور الغيبية وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة عن خروجه في آخر الزمان والواجب التصديق بكل خبر يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما ما تضمنه بقية كلامه من العتب على العلماء في بيانهم ما تضمنته النصوص من التصديق بشخص يأتي في آخر الزمان فإن واجب العلماء أن يكون كلامهم وبيانهم مبنيا على الأدلة الشرعية الثابتة لا على شبه عقلية واهية وهذا هو ما قام به علماء هذه الأمة سواء في الأخبار أو الأحكام.(20/277)
40- وقال الشيخ ابن محمود في ص 4: "فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة والمسلسلة عن عدد من الصحابة بأنها مختلقة وهي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد والحاكم وغيرها من الكتب؟. فالجواب: أن هذه الأحاديث الكثيرة التي تبلغ خمسين حديثا في المهدي عند أهل السنة بعضها يزعمونها صحاحا وبعضها من الحسان وبعضها من الضعاف - إلى أن قال- فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على حد ما قيل: والقوة للكاثر، على أن الكمية لا تغني عن الكيفية شيئا وأكثر الناس مقلدة، يقلد بعضهم بعضا وقليل منهم المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص وللجرح والتعديل فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها - ثم ذكر بعض الشبه في ذلك ثم قال: - فهذه وما هو أكثر منها مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته وليست من كلامه فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها". وقال في ص 36: "وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار على تضعيف أحاديث المهدي وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل التعارض والتناقض والمخالفات والإشكالات مما يجعل الأمر جليا للعيان ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم".
وقال في ص 37: "وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار من آن لآخر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".
وتعليقي على هذا الكلام أقول:(20/278)
أورد الشيخ ابن محمود على نفسه سؤالا خطيرا قائلا: "فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة والمسلسلة عن عدد من الصحابة بأنها مختلقة وهي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد والحاكم وغيرها من الكتب؟ " وإن من يقرأ هذا السؤال ليشعر بالألم والأسى لهذه الجرأة والتطاول على السنة ودواوينها وحفاظها ثم بعد إيراد هذا السؤال ماذا كانت الإجابة عليه؟ لقد كانت الإجابة عليه مجموعة من الشبه العقلية مصحوبة بالزعم بدون خجل أن هذه هي التي جعلت المحققين من العلماء يوقنون أن هذه الأحاديث موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك تمويه وتدليس فإن المحققين من العلماء قديما وحديثا بريئون من هذا الزعم الباطل كما سأوضح ذلك بعد ذكر شبهه والإشارة إلى الإجابة عنها فشبهتان تتعلقان بما يقع نتيجة للتصديق بخروج المهدي من إثارة الفتن وقد أجبت عن ذلك في رقم 4 وشبهة تتضمن أنه من المحال أن يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل الخ ... وقد أجبت عن ذلك في رقم 29 وشبهة تتعلق بكون البخاري ومسلم لم يخرجا أحاديث المهدي في صحيحيهما وقد أجبت عن ذلك في رقم 5 وشبهة تتعلق بكون الأحاديث الواردة في المهدي متناقضة متعارضة وقد أجبت عن ذلك في رقم 7، وشبهة تتعلق بكونه ليس أول من كذب بأحاديث المهدي وأنه سبقه إلى ذلك بعض العلماء وقد أجبت عن ذلك في رقم 8 و 25.(20/279)
.. هذه هي الشبه التي عرف بها الشيخ ابن محمود كون أحاديث المهدي مختلقة مع كونها كثيرة مسندة مسلسلة عن عدد من الصحابة في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد والحاكم وغيرها من الكتب ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد بل يسبق هذه الشبه ويعقبها نسبة ذلك إلى المحققين من العلماء فيقول قبل إيراد شبهه: فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص وللجرح والتعديل فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها وقال بعد إيراد شبهه فهذه وما هو أكثر منها مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته وليست من كلامه فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها انتهى، ولا شك أن نسبة هذا الرأي إلى المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين نسبة غير صحيحة وهو من التمويه والتلبيس الذي لا يليق أن يصدر من مثل الشيخ ابن محمود وأوضح دليل على ذلك أن كل الذين سماهم الشيخ ابن محمود في رسالته من المتقدمين ثلاثة ومن المتأخرين خمسة وقد مر ذكرهم وما يتعلق بإضافة تضعيف الأحاديث المهدي إليهم وذلك في رقم 18 وأوضحت في رقم 11 أن ابن القيم قد صحح كثيرا من أحاديث المهدي في كتابه المنار المنيف وأن ما عزاه إليه الشيخ ابن محمود من أنه يضعف أحاديث المهدي في الكتاب المذكور عزو غير صحيح وأوضحت في رقم 12 أن الشاطبي لم يضعف أحاديث المهدي في كتابه الاعتصام ولم يصف القائلين بخروج المهدي في آخر الزمان بأنهم من أهل البدع وأن ما عزاه الشيخ ابن محمود إليه غير صحيح وثالث الثلاثة من المتقدمين الذين سماهم الشيخ ابن محمود في رسالته ابن خلدون وقد أوضحت في رقم 10 أنه لم يقل أن أحاديث المهدي ضعيفة كلها فضلا عن القول بأنها موضوعة وأوضحت أَنه ليس ممن يعتمد عليه في التصحيح والتضعيف أما بالنسبة للخمسة من المتأخرين(20/280)
الذين سماهم الشيخ ابن محمود في رسالته فإن الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع قد صحح بعض الأحاديث الواردة في المهدي كما أوضحت ذلك في رقم 13 وأما الشيخ أبو الأعلى المودودي فإنه في كتابه البيانات ذكر أن سند أي رواية من روايات أحاديث المهدي ليس من القوة حيث يثبت أمام مقياس البخاري ومسلم لنقد الروايات وبعد إشارته إلى بعض ضعف فيها في نظره قال: "غير أن من الصعب على كل حال القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلا فإننا إذا صرفنا النظر عما أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم فإنها تحمل حقيقة أساسية هي القدر المشترك فيها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم عامل بالسنة يملأ الأرض عدلا ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان ويعلي فيها حكم الإسلام ويعمم الرفاه في خلق الله".
وهذا واضح أن الشيخ أبا الأعلى المودودي لا يقول بأنها موضوعة بل الذي قاله أنها لم تصل إلى حد مقياس البخاري ومسلم لنقد الروايات وأن مجموع الروايات يثبت القدر المشترك بينها وهو أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بظهور زعيم عامل بالسنة في آخر الزمان ثم وقفت على رسالة للشيخ أبي الأعلى المودودي بعنوان: ((موجز تجديد الدين وإحيائه)) .(20/281)
ذكر فيها المهدي الذي يجدد الدين في المستقبل وقدمه في الذكر على المجددين الماضين إلا أن تاريخ تأليف هذه الرسالة سابق لتأليف رسالة البيانات ومن المعلوم أن الشيخ أبا الأعلى المودودي رحمه الله ليس من المشتغلين بالحديث النبوي الشريف وإنما هو من الكتاب الإسلاميين لكنه بحمد الله ليس من فئة العلماء المحققين في رأي الشيخ ابن محمود الذين جعلتهم الشبه العقلية يوقنون أن أحاديث المهدي موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته وأنها ليست من كلامه فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وأما الثلاثة الباقون وهم الشيخ محمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي والبلاغي فقد ذكرت في رقم 15 أن الشيخ محمد رشيد رضا أنكر ما هو أوضح من خروج المهدي وهو نزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء وذكرت في رقم 16 أن محمد فريد وجدي زعم أن أحاديث الدجال كلها موضوعة ملفقة وأكثرها في الصحيحين وذكرت في رقم 18 أنني لم أقف على كتاب البلاغي لأتمكن من إبداء شيء بشأنه.
.. والحاصل أن الثمانية الذين سماهم الشيخ ابن محمود في رسالته من المتقدمين والمتأخرين خرج منهم ابن القيم والشاطبي حتما فلم يقولا بضعف أحاديث المهدي كما زعم الشيخ ابن محمود وخرج ابن خلدون أيضا فإنه لم يقل بضعفها كلها فضلا عن القول بأنها موضوعة وخرج الشيخ ابن مانع والشيخ أبو الأعلى المودودي وبقي مع الشيخ ابن محمود من المتأخرين الذين سماهم الشيخ محمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي ومن المحتمل أن يكون البلاغي ثالثا لهم ومع الشيخ ابن محمود أيضا اثنان من كتاب القرن الرابع عشر قلدهما الشيخ ابن محمود ولم يسمهم في رسالته أحدهما الأستاذ أحمد أمين وقد مر ذكره في رقم 17 والثاني محمد فهيم أبو عبية وقد مر ذكره في رقم 33.(20/282)
وهؤلاء الذين بقوا مع الشيخ ابن محمود أو بقي معهم هم الذين كاد أن ينعقد إجماعهم على أن أحاديث المهدي مصنوعة موضوعة إذ قال الشيخ ابن محمود في ص 36: "وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل التعارض والتناقض والمخالفات والإشكالات مما جعل الأمر جليا للعيان ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم".
فإن هذا الإجماع المزعوم اعمدته الشيخ محمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي والبلاغي وأحمد أمين وأبو عبية والشيخ ابن محمود ونتيجته في كلام الشيخ ابن محمود أن أحاديث المهدي مصنوعة موضوعة بدليل تعارضها وتناقضها مما يجعل الأمر جليا للعيان ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام والوصف بضعف الفهم لم يسلم منه إلا أولئك الذين كاد أن ينعقد إجماعهم ومن لف لفهم والله المستعان، ثم إن هؤلاء الذين كادوا أن يجمعوا هم أهل العلم والدين في قول الشيخ ابن محمود في ص 57: "وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار بين آن وآخر". وهم أهل الكيفية في قول الشيخ ابن محمود: "فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على حد ما قيل: والقوة للكاثر على أن الكعبة (كذا) الكمية لا تغني عن الكيفية شيئا وأكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم وقليل منهم المحققون".(20/283)
وإيضاحا للحق ودفعا للباطل أقول: إن علماء أهل السنة المعتد بهم في القديم والحديث مصدقون بالأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان ولا ينكرها إلا شاذ عنهم وسبق أن أشرت في مواضع من هذا البحث إلى تسمية بعض علماء أهل السنة الذين احتجوا بأحاديث المهدي وقالوا بثبوت خروجه آخر الزمان وقد يكون من المناسب هنا تسمية عدد من هؤلاء العلماء ليتضح أن علماء أهل السنة المتبعين للنصوص الذين لا يعارضونها بالشبه العقلية كما أنهم أهل الكمية فهم أهل الكيفية وأن الذين شذوا عنهم ليسوا ذوي كمية ولا كيفية وليس ذلك للمقارنة والموازنة معاذ الله.
ألم تر أن السيف ينقص قدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
1- الإمام أبو داود صاحب السنن المتوفى سنة 275 هـ.
2- الإمام أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع المتوفى سنة 279 هـ.
3- الحافظ أبو جعفر العقيلي صاحب كتاب الضعفاء المتوفى سنة 223 هـ.
4- الإمام ابن حبان البستي صاحب الصحيح المتوفى سنة 354 هـ.
5- الحافظ أبو الحسين محمد بن الحسين الآبري السجزي صاحب كتاب مناقب الشافعي المتوفى سنة 363 هـ.
6- الإمام أبو سليمان الخطابي صاحب معالم السنن وغيره المتوفى سنة 388هـ، وإثباته لخروج المهدي في آخر الزمان ذكره صاحب تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي في شرح حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان وتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة.." الحديث.
7 - الإمام البيهقي صاحب السنن الكبرى وغيره المتوفى سنة 458 هـ. وقد مر حكاية كلامه وكلام غيره في تصحيح بعض أحاديث المهدي في رقم 35.
8- القاضي عياض صاحب كتاب الشفاء المتوفى سنة 544 هـ.
9- الإمام القرطبي المفسر المشهور وصاحب كتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة المتوفى سنة 671 هـ.(20/284)
10 - الإمام ابن تيمية صاحب الكتب الكثيرة الشهيرة المتوفى سنة 738هـ، وكتابه الذي صحح فيه بعض الأحاديث في المهدي منهاج السنة النبوية.
11- الإمام أبو الحجاج المزي صاحب كتاب تهذيب الكمال المتوفى سنة 742 هـ.
12- الإمام االذهبي صاحب الكتب الكثيرة المتوفى سنة 748 والكتاب الذي صحح فيه بعض الأحاديث في المهدي تلخيص المستدرك.
13- الإمام ابن القيم صاحب الكتب الكثيرة المتوفى سنة 751 هـ. والكتاب الذي صحح فيه بعض الأحاديث في المهدي المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
14- الإمام عماد الدين ابن كثير صاحب الكتب الكثيرة المتوفى سنة 774 هـ وقد صحح بعض الأحاديث في المهدي في كتابه النهاية.
15- الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري وتهذيب التهذيب وغيرهما المتوفى سنة 852هـ.
16- الحافظ السخاوي صاحب كتاب فتح المغيث في شرح ألفية الحديث المتوفى سنة 902هـ.
17- الحافظ السيوطي صاحب الكتب الكثيرة وكتابه في المهدي العرف الوردي في أخبار المهدي، وكانت وفاته سنة 911هـ.
18- الأمير محمد بن اسماعيل الصنعاني صاحب كتاب سبل السلام وغيره المتوفى سنة 1182 هـ، وكلامه في المهدي وخروجه في آخر الزمان ذكره صديق حسن في كتابه الإذاعة.
19- القاضي محمد بن علي الشوكاني صاحب التفسير وكتاب نيل الأوطار وغيرهما المتوفى سنة 1250هـ، وكلامه في المهدي في رسالة سماها: التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح، نقل الشيخ صديق في كتابه الإذاعة عن هذا الكتاب.
20- الشيخ محمد بشير السهسواني صاحب كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان المتوفى سنة 1326هـ.
21- الشيخ شمس الحق العظيم آبادي صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود المتوفى سنة 1329هـ.
22- الشيخ عبد الرحمن المباركفوري صاحب كتاب تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي المتوفى سنة 1353هـ.(20/285)
وهؤلاء الذين ذكرتهم قطرة من بحر من علماء أهل السنة القائلين بخروج المهدي في آخر الزمان استنادا إلى الأحاديث الصحيحة في ذلك وهم أهل الرواية والدراية وهم أهل الخبرة والاختصاص وهم العلماء المحققون الذين يعول على حكمهم وهم أهل الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف وهم أهل العلم والدين وهم أهل الكمية والكيفية..
.. وبهذا القدر أكتفي في كشف أخطاء الشيخ ابن محمود التي اشتملت عليها رسالته وذلك كاف في بيان قيمة هذه الرسالة التي لم تبن على أساس.
ولعل فضيلة الشيخ عبد الله المحمود يعيد النظر فيما كتب كما فعل من قبل شيخه الشيخ محمد ابن مانع رحمه الله فإن الحق ضالة المؤمن والحق أحق أن يتبع وأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه والفقه في دينه وأن يثبتنا على صراطه المستقيم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيهم يإحسان ...
عن ثوبان وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من قال حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله ربّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا، كان حقّا على الله أن يرضيه" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(20/286)
قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة
بشأن منع الحمل وتحديد النسل أو تنظيمه
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد سبق أن بحث مجلس هيئة كبار العلماء مسألة منع الحمل وتحديد النسل أو تنظيمه وأصدر قرار برقم 42 وتاريخ 13/ 4/ 1396هـ مضمونه ما يلي:(20/287)
"نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها، ونظرا إلى أن القول لتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجور تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الوليد أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمام أو تأخيره عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شراء الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة". انتهى وحيث كثرت الأسئلة والاستفسارات عن حكم منع الحمل وتحديد النسل أو تنظيمه ولما لمعرفة الحكم الشرعي من أهمية كبيرة في حياة المسلمين اليوم فقد رأيت نشر ما أصدره مجلس هيئة كبار العلماء في ذلك لتعم به الفائدة، وأسأل الله أن يوفق المسلمين(20/288)
للعمل بطاعته والعمل بأحكام شريعته في أمورهم الدينية والدنيوية إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد.(20/289)
خطورة سوء استعمال الأدوية
للدكتور حسين كامل طه
أخصائي الصدر بمستوصف الجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا أشرف المرسلين، وبعد:
فإنه يهمني كثيرا أن أكتب هذا المقال لمجلة الجامعة الإسلامية عن حدث شائع، وهو الإفراط في استعمال الدواء استعمالا سيئا، وخطورة ذلك أنني لاحظت أثناء عملي بمستوصف الجامعة أن كثيرا من المرضى يطلبون أدوية معينة بالذات دون أن يفهموا مدى خطورة سوء استعمالها.
ويجب علينا أن ننتبه إلى أن سوء استعمال الأدوية أو الإفراط في تناولها قد يؤدي إلى مضار شديدة، وأضرب أمثلة لذلك فيما يلي:
أولا: المضادات الحيوية:
ونقصد بالمضادات الحيوية الأدوية التي تقضي على الميكروبات وتعالج الالتهابات، وهذه الأدوية بالذات يجب أن تستعمل تحت إشراف طبي دقيق ولمدة يحددها الطبيب، كما أن طريقة استعمالها يجب أن يكون بواسطة الطبيب أيضا.
وأول المضادات الحيوية التي اكتشفت هي مركبات السلفا، ثم اكتشف البنسلين في الأربعينيات.
وكان ذلك حدثا كبيرا في تاريخ الطب، إذ كان تأثيره قاضيا على كثير من الميكروبات حتى إن رئيس وزراء بريطانيا لما أصيب بالتهاب رئوي حاد - وكان من الأمراض المميتة في ذلك الوقت - عولج بحقن البنسلين وتم شفاؤه.
ثم توالت اكتشافات المضادات الحيوية مثل الستربتوميسين والتتراسيكلين والكلورامفنكول.
هذه الأدوية إذا استعملت بكمية أقل من المطلوب تؤدي إلى حدوث مناعة الميكروبات المسببة للمرض وبالتالي لا يتم شفاء المريض، وبالعكس إذا استعملت بكمية أزيد من المطلوب في أنها تؤدي إلى إنبات أنواع جديدة من الميكروبات وبالتالي تؤدي إلى حدوث مضاعفات، وقد تكون سببا في وفاة المريض.(20/290)
كذلك من أهم المضاعفات التي قد تحدث من استعمال المضادات الحيوية الحساسية للدواء المستعمل، وكثير منا يعرف حساسية البنسلين التي قد تؤدي إلى الوفاة في الحال، ولذلك في حالات المرضى الذين يعانون من حساسية أو أمراض لها علاقة بالحساسية مثل الربو الشعبي ننصح دائما بعمل اختبار حساسية للمادة المستعملة.
كما أنه لوحظ أن كثيرا من هذه المضادات الحيوية قد تؤدي إلى تغيرات في الأمعاء الدقيقة ومحتوياتها، وتؤدي إلى حالات إسهال شديدة وفقدان كمية كبيرة من السوائل في الجسم، وهناك أنواع من المضادات الحيوية مثل الكلورامفنكول يؤدي إلى نقص في كريات الدم وآثار أخرى ضارة على مكونات الدم وقد تؤدي إلى الوفاة.
كلمة أخيرة عن المضادات الحيوية وهي أنه ينبغي على السيدة الحامل أن لا تقدم على تعاطي أي مضاد حيوي إلا تحت إشراف طبي دقيق، ولضرورة فقط، وإلا تعرضت هي والجنين لأخطار كثيرة، فضلا عما قد يحدث من تشوهات في الجنين، كما أن مادة التتراسيكليين تؤثر على عظام الجنين ونموه وقد تحول لون الطفل إلى لون غير طبيعي (الطفل الرمادي) .
ثانيا: الفيتامينات والأملاح.
يحتاج جسم الإنسان العادي إلى كمية بسيطة من الفيتامينات والأملاح والمعادن، وهذه يتحصل عليها الشخص بتناول الطعام العادي، وأي كمية تزيد على ذلك فالجسم يفرزها إلى الخارج مع البول، لذلك عندما يتناول الشخص السليم كمية زائدة من الفيتامينات، فإن الجسم لا يستفيد منها، بالإضافة إلى أن هناك أنواعا معينة من الفيتامينات تؤدي إلى أضرار جسيمة بالجسم فمثلا:
1- فتامين (أ) زيادته تؤدي إلى حدوث اضطرابات بالأمعاء وتغيير في الأغشية المخاطية بالجسم.
ويوجد فتامين (أ) في الخضراوات الطازجة، والجزر المحتوي على كمية كبيرة منه وخصوصا الأصفر كما يوجد بنسب متفاوتة في الألبان ومنتجاتها.(20/291)
2- فتامين (د) زيادته تؤدي إلى زيادة في ترسيب الكالسيوم في كافة أنحاء الجسم وخصوصا الكليتين وذلك قد يؤدي إلى فشل في الكليتين.
وهذا الفيتامين هام بالنسبة للأطفال صغار السن، ولازم لنمو العظام والأسنان، ولكن بجب استعماله بحرص وتحت إشراف طبي دقيق ويوجد هذا الفيتامين بكثرة في الألبان والزبد والزيوت.
وأما بالنسبة للأملاح والمعادن التي يحتاجها الجسم وهي توجد في الخضراوات الطازجة ومنتجات الألبان، ويحتاج الجسم منها كميات بسيطة.
وقد لوحظ أن زيادة أنواع معينة منها تؤدي إلى اختلال في الجهاز العصبي للإنسان.
لذلك يجب علينا أن نحذر استعمال هذه الأدوية إلا في حالات معينة. فمثلا عندما يعاني الإنسان من حركة حمية، أو عند استعمال مضادات حيوية، أو أثناء الحمل أو عدم انقطاعه عن تناول الطعام، يضطر الطبيب المعالج لصرف فيتامينات لتعويض الجسم ما يحتاجه.
ثالثا: الأسبرين والنوفالجين ومشتقاته:
كثير من الناس يتناولون هذه الأدوية باستمرار وبدون أي مبرر إلا من باب التعود ويجب أن نلاحظ أن استعمال هذه الأدوية لفترات طويلة وبكميات كبيرة، قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة فمثلا: ثبت أن مادة النوفالجين ومشتقاته قد تؤدي إلى حدوث نقص في كرات الدم البيضاء وهي التي تختص بمناعة الجسم ضد الأمراض، وكلنا نعلم أنه قد منع تداوله حقن النوفالجين بالوريد، أما بالنسبة للأقراص أو النقط، فنرجو استعمالها بحرص ولفترة قصيرة وتحت إشراف طبي.
كذلك الأسبرين إذا أكثر استعماله بدون داع، وخصوصا عندما تكون المعدة خالية من الطعام قد يؤدي إلى حدوث قرحة في المعدة، وقد يسبب نزيفا حادا، وخصوصا في المرضى كبار السن بالإضافة إلى أن هناك احتمال حدوث حساسية من استعمال هذه الأدوية بدون الإشراف الطبي.(20/292)
لعلي بهذه النبذة قد أفدت القارئ، وعليه أن يتجنب استعمال أي دواء مهما كان بسيطا بدون استشارة طبية وأن يراعي استعماله للمدة المقررة وبالكمية المحددة، تجنبا لأي مضاعفات - وإلى مقال آخر والله يوفقنا وإياكم- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...(20/293)
وقفة مع كرات الدم الحمراء
للدكتور فكري السيد عوض
طبيب العيون بالجامعة
يقول العالم ألبرت ماكوب ونشستر أستاذ الأحياء بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا:
"إن اشتغالي بالعلوم قد دعم إيماني بالله حتى صار أشد وأمتن أساسا مما كان عليه من قبل وليس من شك أن العلوم تزيد الإنسان تبصرا بقدرة الله وجلاله، وكلما اكتشف الإنسان جديدا في دائرة بحثه ودراسته إزداد إيمانا بالله ... ".
إن الجسم يتركب من عدة أجهزة مختلفة متخصصة (كالجهاز الهضمي ... والجهاز التنفسي ... والجهاز التناسلي ... إلى آخر ذلك) وكل جهاز يتركب من مجموعة أعضاء وكل عضو يتكون من مجموعة أنسجة وكل نسيج يتشكل من مجموعة خلايا تقوم بعمل معين وكل خلية من تلك الخلايا كأي شيء حيٍّ تحتاج إلى غذاء وبالتالي يخرج منها فضلات فهي تحتاج إلى من يغذيها ويزيل عنها مخلفاتها.
وسنسير سويا بإذن الله تعالى مع خلية خصصت لتوصيل نوع من الغذاء إلى جميع خلايا الجسم وأخذ الفضلات منها ... إنها كرات الدم الحمراء ... الغذاء الذي توصله للخلايا هو الأكسيجين ... والفضلات التي تحمله هي غاز الفحم ... وسنلقي نظرة سريعة على تلك الكريات الصغيرة العجيبة التي تسير في جسدنا ليلا ونهارا في اليقظة وفي المنام تؤدي عملها بدون توقف وبدون تدخل منا فهي تسير مع محتويات الدم في الأوعية الدموية في الجسم ما يزيد عن مائة ألف ميل ... لنرى من خلال تلك الرحلة الطويلة العجيبة بديع صنع الله في هذا الجسم البشري المتقن ونشعر أننا مع كل نفس نتنفسه وكل لحظة نعيشها نعيش تحت رحمة الله المنعم المقدر لجميع الأمور.(20/294)
في الجسم ما يقرب من 25 مليون مليون كرية حمراء ... تصنع في نخاع العظام ... وموادها الأولية ما بين سكريات ودهنيات وبروتينات وماء وفيتامينات وأحماض عادية وأحماض أمينية ومعادن أهمها الحديد ... فكيف جمعت وركبت وخرج منها تلك الأجنة الصغيرة حيث يبلغ قطر الكرية الحمراء 7 ميكرون (أي سبعة أجزاء من الألف من الميليمتر) ... وعندما عرف العلماء تركيبها جيدا عجزوا عن الإتيان بواحدة مثلها ... {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ... علما بأن هذا المصنع الرباني لا يتوقف عمله حتى الموت ... ويدفع هذا المصنع إلى الدم حوالي 2.5 مليون كرية حمراء في الثانية وتلك الطاقة المهولة ممكن أن تتضاعف أضعافا كثيرة أثناء الأزمات التي تحدث للجسم مثل حالات النزيف ... وذلك بالإضافة إلى المخازن الاحتياطية الموجودة بالجسم ... وتلك العملية تخضع لاتزان مدهش دقيق حيث يتواجد أجهزة مهمتها التعرف على حالة الجسم واحتياجه لكرات الدم فإذا كان هناك نقص ترسل الأوامر إلى نخاع العظام لإفراز المزيد ... وإن كان هناك زيادة ترسل الإشارات لخفض الإنتاج ... وكل هذا يتم بدون تدخل من الإنسان فتبارك الله أحسن الخالقين ...(20/295)
وعندما تخرج الكرية الحمراء من هذا المصنع تنطلق إلى الدم لتباشر عملها الذي فطرها الله عليه وهو حمل وتوصيل الأكسيجين (وهو ما يسمى بغاز الحياة لأن الحياة بدونه تصبح مستحيلة أي أنه بدون تلك الكرية الصغيرة التي حجمها أقل من جزء من ألف من المليمتر يفنى الإنسان، حقا ما أضعف هذا الإنسان) ويتم نقل هذا الغذاء إلى جميع خلايا الجسم من أخمص القدم إلى مفرق الشعر والخلية في الجسم البشري تغلف بغشاء له خاصية عجيبة في دخول وخروج المواد من خلاله وحاول العلماء جاهدين كشف أسرار ذلك الغشاء الخلوي لمعرفة هل يوجد به ثقوب للدخول والخروج وأخيرا وعن طريق المجهر الإلكتروني قالوا إن به ثقوبا غير ثابتة أي في حالة متحركة بمعنى أنها تتشكل من وقت لآخر حيث تكون موجودة في منطقة من الخلية ثم تقفل لتحدث ثقوبا جديدة في منطقة جديدة من نفس الخلية وكأنه عند كل ثقب يوجد حارس أمين عاقل حكيم يسمح بدخول مواد محددة معينة ويمنع الأخرى، ويسمح بخروج مواد بذاتها ولا يسمح بالأخرى ... صنع الله الذي أتقن كل شيء ...(20/296)
وعندما تصل الكرية الحمراء إلى الخلية تسلمها الأكسيجين وتأخذ منها الفضلات (غاز الفحم) وكأننا الآن مع مشهد يتمثل في كرية حمراء تدور في الدم مدركة لما تفعل ... والخلية عرفت سبب المجيء إليها فأخذت غذاءها وتخلصت من فضلاتها ... وفي كل لحظة تمر ممكن أن تحدث كارثة لولا تدخل لطف الله عز وجل الذي ينظم البدن بتقدير رباني متقن ... تلك الكارثة المتوقعة ممكن حدوثها نتيجة تحلل هذا العدد الضخم من الكريات الحمراء حيث يصل إلى 2.5 مليون في الثانية ونتيجة لذلك يخرج منها الحديد (الذي يذهب مرة ثانية إلى المستودعات للاستفادة منه في تكوين كريات جديدة) ... وكذلك الأحماض الأمينية ... لكن هناك مادة صفراء مضرة فتاكة بالجسم تسمى بيلروبين غير المتحد (أو بيلروبين غير المباشر) تنطلق نتيجة ذلك التحلل الناتج من موت الكريات ولا بد من وسيلة لتفادي تلك المادة المخربة التي تتكون بصفة دائمة ومستمرة فماذا يحدث؟! ... ... يوجد في الدم مركب خاص (يسمى أليومين) يقوم بالاتحاد مباشرة مع تلك المادة المخربة لتحويلها إلى مركب جديد يتم تسليمه إلى الكبد الذي يتولى التخلص منها عن طريق القنوات الصفراوية فيهبط بسلام إلى الأمعاء الدقيقة ... والأعجب من ذلك أن الأمعاء الدقيقة تستفيد منه حيث يساعد على هضم المواد الدهنية وتجزئة الشحوم واستحلابها وإعادتها إلى وحداتها الأولية لكي تدخل من غشاء الأمعاء فتمتص الأمعاء فيستفيد الجسم من الغذاء ...
وربما تدخل تلك المادة القاتلة إلى الدم فتقوم الكلية بالتخلص منها وطردها عن طريق البول حيث تكسبه المادة الملونة له ...(20/297)
وبذلك يكون الجسم تخلص منها بعد أن استفاد منها وأمن شرها ... تلك المادة الخطرة وجد أن قسما منها مقداره 1% في استطاعته أن يخترق الحاجز الدماغي الدموي (حاجز بين الدم والمخ يحجز المواد التي لا يرغب فيها الجسم فلا تصل إلى المخ) فإذا دخلت إلى المخ وارتفعت نسبتها يحدث المرض البشع المسمى باليرقان النووي حيث تتشنج العضلات ويختل التوازن ويقل الفهم والإدراك ... كذلك فإن هذه المادة إذا ترسبت في البدن فإنها تحوله إلى ضعف ومرض وهو ما يرى في اليرقان من اصفرار للعينين دليلا على ارتفاع هذه المادة في الدم ... ولكي ندرك مدى الخطورة التي نعيشها في كل لحظة نوضح الحقيقة التالية:
انحلال جرام واحد هيموجلوبين (وهو من مكونات الكرية الحمراء) يعطى 24 ملجرام بيلروبين المادة الضارة.
وفي الأحوال الطبيعية ينحل 6.25 جرام هيموجلوبين يوميا أي 212.5 ملجم بيليوبين.
بينما المعدل الطبيعي لنسبة البيلروبين في الدم يتراوح ما بين 0.2 إلى0.1 ملجم في كل مليلتر.
وفي الأزمات يصل انحلال هيموجلوبين إلى 40 جرام أي 1360 ملجم بيلروبين.
ومع كل هذا ترتفع طاقة الدم على القنص ... والجسم على المقاومة، والكبد على الإفراز ... وهذا كله من بديع صنع الله وعظمة الخالق، فسبحان من خلق وقدر ووضع الميزان، وأي خلل في أي مرحلة من المراحل الوقائية السابقة سواء كان على مستوى الدم أو على مستوى الكبد أو في القنوات الصفراوية تظهر علامات اليرقان وتبعا لذلك يتم التعرف على مكان الخلل لمعالجته ...
نعود إلى الحديد الذي يعتبر مركبا أساسيا في تكوين الكرية الحمراء:(20/298)
جميع الحديد الموجود في الجسم كله سواء كان موجودا في كل الكريات… أو في كل الأنسجة ... أو في مصانع الدم ... أو في المخازن ... حوالى 4 إلى 5 جرام ... فهو مقدار ضئيل لكنه وضع باتزان شديد ولو حدث نقصان في هذا المقدار يؤدي إلى فقر الدم ينتج عنه الضعف والشحوب وعدم القدرة على ممارسة النشاط العادي ...
ولو حدثت زيادة في هذا المقدار يؤدي إلى تراكمه في الجسم فيسبب فسادا لمعظم أجزاء الجسم من القلب وكبد وبنكرياس وجلد وخصيتين ...
وما بين الزيادة والنقصان ... والتخريب والتجديد ... يتم توازن البدن على أدق ميزان فينعم الإنسان بالصحة الشاملة وسبحان من له الحمد على ما أنعم علينا وتفضل على عباده ...
أما الأكسيجين ... فإن كريات الدم تحمل 600 ليتر أكسيجين خلال 24 ساعة للفرد الواحد ... تدخل عن طريق الرئتين في عملية الشهيق ... ومع ذلك لم ينفد ذلك الغاز من الهواء حيث تتولى النباتات الخضراء مهمة إمداد الهواء بالكمية المناسبة بصفة مستمرة ... وكأن الكون كله وحدة واحدة كاملة متفاهمة…وفي حالة نقصان كمية الأكسيجين تحدث تغييرات كيميائية في الجسم فيقوم الجسد بمضاعفة كمية التنفس لعله يأخذ أكبر قدر ممكن منه ويتخلص من الفضلات ويشعر المريض بأشياء أهمها ضيق في الصدر ... واكتشف العلماء أخيرا أنه في الارتفاعات الشاهقة تنقص كمية هذا الغاز ووجد أن مقدار توتره عند سطح البحر 100 ملم وعند ارتفاع 8000 متر لا يزيد عن 25 ملم حيث يتعسر تبادله مع كريات الدم الحمراء فيصعب التنفس مما يجعل الشخص غير المتمرس يفقد وعيه في خلال دقيقتين ثم يموت ... وهنا نستشعر قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .(20/299)
ولو زادت كمية الأكسيجين (غاز الحياة) عن نسبته الثابتة لنتج عنه أضرار كثيرة نكتفي بذكر مثال واحد نشاهده في المستشفيات الخاصة برعاية الأطفال ... حيث وجد أن الطفل الذي يولد ووزنه أقل من واحد ونصف كيلو جرام فإنه يحتاج إلى رعاية خاصة أهمها إعطائه غاز الأكسيجين بنسبة معينة تتراوح ما بين 30- 35% حتى يكتمل نموه ... فإذا ما أعطي له كمية أكبر من ذلك فماذا يحدث؟ تحدث تفاعلات على مستوى الجسم كله أهمها على مستوى العينين ففي خلال أسابيع قليلة يصاب الطفل بفقد الإبصار في كلتا العينين وبفحص قاع العين بمنظار خاص تتضح تلك المأساة المروعة التي لا علاج لها ...
أيضا ما بين الزيادة والنقصان تتضح عظمة الله وتدبيره لشئون هذا الخلق ...
ما هو مصير الفضلات؟!
تقوم كرية الدم الحمراء بأخذ غاز الفحم الناتج من العمليات التي تتم في الخلية وتسير به في الأوعية الدموية وتصل إلى الرئتين حيث تتخلص منه هناك في عملية (الزفير) حيث يعود الدم نقيا من جديد وتأخذ بدلا منه الأكسيجين مرة أخرى أثناء (الشهيق) ... وجزء منه (غاز الفحم) يبقى داخل البدن لحفظ التفاعل الحمضي القلوي للجسم بقدر معلوم محدد ... لو زاد غاز الفحم بمقدار 0.2% يجعل حجم الهواء للتنفس مضاعفا وإلا دخل الإنسان في غيبوبة تؤدي إلى الموت إذا لم يتم إسعافه…كما أن نقص غاز الفحم عن 0.2% يوقف التنفس، وما بين الزيادة والنقص يتضح بديع صنع الله.(20/300)
وهذا الغاز الخارج بصفة مستمرة في عملية التنفس بهذه الكمية الكبيرة هل يؤدي إلى تلوث الهواء بحيث يصبح خانقا؟! ... قلنا إن الكون كله وحدة واحدة ... فكما أن الإنسان أخذ غاز الحياة من النباتات المحيطة به ... أيضا فإن تلك النباتات تأخذ غاز الفحم الخارج من الإنسان لتستعمله كمادة أساسيه في غذائها ... فغاز الحياة يأخذه الإنسان من النبات ... وغاز الفحم يأخذه النبات من الإنسان ... {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
وتستمر تلك الكرية الحمراء في أداء رسالتها ذهابا وإيابا دون أن تضل طريقها أو تخطئ في وظيفتها أو تتعدى حدودها ... ودون أن تعرف التعب والملل ... وبعد رحلة طويلة ومسيرة هائلة وفترة تقارب المائة والعشرين يوما تنتهي مهمتها حيث يقوم الجسم بدفنها ... ثم تتحلل ويستفيد البدن منها في عمليات أخرى قادمة فهي تأتي بالخير في حياتها وبعد مماتها للأجيال الأخرى من بعدها ...
أفلا يحق أن نصف كل من لم يتدبر تلك الآيات الإلهية بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده منذ أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدكَ على الذي يألم من جسَدِكَ وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبعَ مرِّاتٍ: أعوذ بعزّةِ الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" خرجّه مسلم.(20/301)
من أعماق الكتب
محمد أمان بن علي الجامي
يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية:
"ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكى إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق، فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ (النظر والاستدلال) ولفظ (الكلام) فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال.
وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام تسمي ما وضعه بعضهم (أصول الدين) وهذا اسم عظيم والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم، فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين، وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر والاعتبار والاستدلال.
وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: "كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة"، وقال مالك: "السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".(20/302)
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج؛ هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله، والرسول؛ هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط، كما قال تعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقال عبد الله بن مسعود: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ".
وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى".
(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 4 ص55- 77)
(تعليق)(20/303)
أيها القارئ الكريم اخترت لك هذه القطعة من كلام ذلك الإمام الهمام الذي خبر جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع تحديد نسبتها، ولقد تحدث عنها حديث خبير وناصح أمين، ثم حذر عن بنيات الطريق التي سلكوها والتي تبتعد بسالكها عن الصراط المستقيم، ولقد ضرب لها أمثلة عدة منها طريقة الخوارج ثم المعتزلة وغيرهما من أولئك الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والذين لم يقفوا عند هذا الحسبان بل أخذوا يرمون الذين يسيرون على الدرب ولا يخرجون عن نصوص الكتاب والسنة يمنة ولا يسرة، يرمونهم بكل داهية إذ يطلقون عليهم أنهم مشبهة أو مجسمة أو حشوية وأخيرا قالوا بهم سذاجة زاعمين أن إثبات صفات الله تعالى على ضوء الكتاب والسنة دون تحريف، والاستنارة بهما في كل شيء والاكتفاء بهما في جميع المجالات يؤدي إلى كل ذلك وبذلك صدوا عن سبيل الله وعن التمسك بنصوص الكتاب والسنة التي أنزلت لهداية الناس، وأوهموا السذج من الناس أن التمسك بظاهر الوحي كتابا أو سنة يؤدي إلى الهلاك بل هو عين الهلاك والضلال كما صرح بذلك الشيخ الصاوي في حاشيته على الجلالين، أحسب ذلك في سورة الكهف، وفي هذه القطعة التي نقدمها لك أيها القارئ الكريم تجد الإمام ابن تيمية يضع النقاط على الحروف - كما يقولون - ويوقفك أمام الطريق الواضح المستقيم والموصل إلى الله بإذنه إن سلكته ورزقت الاستقامة عليه، وفي الوقت ذاته يحذرك عن بنيات الطريق، وهي تلك السبل الضيقة الوعرة التي تجدها بجانب سبيل الله المستقيم، والتي تبتعد وتشتط بسالكها عن سبيل الله ويجلس على كل سبيل صاحب طريقة يزين للناس سلوكهم بأسلوب مزخرف، وهي في يومك هذا أكثر منها وأخطر من ذي قبل، حيث ازداد عددا وكثر الدعاة إليها بأساليب مختلفة ومتنوعة عن أولئك الجهال الضلال الذين يتشدقون بملء أفواههم، ويهرفون بما لا يعرفون ليضلوا الناس عن الحق وهم يعلمون مستغلين في ذلك كل ما لديهم من جاه ومنصب أو(20/304)
سلطة وقد استطاعوا أن يعلنوا بكل وقاحة ودون أدنى حياء أن السنة لا يمكن بقاؤها هذه الفترة الزمنية الطويلة جهلا منهم وتقليدا لإمامهم القذافي الذي هو أجهل منهم وأضل سبيلا، ولو سألوا أهل الذكر لأنبؤوهم بأن بقاء السنة المطهرة هذه الفترة الزمنية الطويلة 1400 سنة بسندها المتصل إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام محفوظة في صدور الرجال أو مدونة في كتبهم نوع من أنواع المعجزات الكثيرة للنبي الأمي محمد عليه الصلاة والسلام وأن ذلك من حفظ الله لدينه إذ يقول عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ولا يختلف اثنان في أن الذكر المنزل المحفوظ هو القرآن الكريم، ويستلزم في حفظ القرآن حفظ السنة المطهرة إذ هي تفسير القرآن وبيان لما أجمل فيه من كثير من الأحكام التي يتوقف معرفتها والعمل بها على فهم السنة، ولولا السنة لما فهمت تلك الأحكام ولا عمل بها مما يكون سببا لتعطيل الشريعة فإذا إن السنة داخلة - بهذا الاعتبار- في الذكر المنزل المحفوظ فهي منزلة بمعناها قطعا وأما ألفاظها فمن عند النبي الأمي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقصارى القول إن دين الله محفوظ في كتابه وسنة نبيه ولو جحد المنكرون، وعاند المعاندون، وكره الكافرون.
وهذا المعنى الذي توضحه القطعة المختارة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاقرأها مرة بعد مرة لما فيها من كلام نفيس له أهميته ولا سيما في هذا الوقت والله الموفق وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
محمد أمان بن علي الجامي
عضو أسرة التحرير(20/305)
مختارات من الصحف
الباطل الذي يراد به باطل
كان الإمام علي رضي الله عنه يصف مزاعم الخوارج بأنها (حق يراد به باطل) ولكنا أصبحنا في زمن لا يمكن أن نصف مزاعم أحفاد الخوارج إلا بأنها باطل يراد به باطل، ونحن نسقط من الحساب والمناقشة حملة الأقلام الحمر، لأنهم من واقع الإلحاد يتحركون، وحملة الأقلام العميلة للفكر الغربي العلماني، لأنهم من واقع العمالة ينشطون، وإنما نحاول مناقشة حملة الأقلام الذين لا يشهد لا لإسلامهم سوى شهادات ميلادهم، ولو أنهم من عامة الناس لضربنا عنهم صفحا، ولكنهم من ذوي الأماكن المرموقة، وهؤلاء - في الواقع - ينطلقون من منطلق اتجاه السياسة العليا في دولتهم التي تداور وتناور في قضية تطبيق الشريعة الإسلامية.. ومن منطلق التزلف إلى الاتجاه الأمريكي الصليبي الجديد، الذي تدين لهم دولتهم بالتبعية المهيمنة، والولاء الأعمى.
وأقرب الأمثلة إلى أذهاننا مثلان يبعثان على الأسى:
المثال الأول: وزير سابق للثقافة في دولة عربية مسلمة، كان مضرب المثل في الأمية والسطحية والجهل المطبق، هذا الوزير السابق صرح منذ زهاء عامين إبان شغله المنصب، لجريدة صليبية تصدر في إحدى الولايات الأمريكية، تعبر عن ألسنة النصارى في دولته، صرح بتصريح أبدى فيه معارضته الشديدة لتطبيق الشريعة في بلاده، وقال - ولا داعي لأن ندعو عليه أن يفض الله فاه وقد فض بطبيعته - قال: "أنا لا أنكر أن هناك نوعا من الاندفاع حتى داخل البرلمان، به عدد لا يقل عن خمسين عضوا، مندفعين اندفاعا شديدا، مطالبين بتطبيق الشريعة والحدود"، فالوزير يسمي المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية اندفاعا، ومسكين لأنه يعايش قوانين وضعية تستمد أصولها من قوانين الغرب.
ثم قال: "وأنا أكثر الوزراء معارضة لتطبيق الشريعة أو المبادئ الإسلامية".(20/306)
وكنا نود أن يعرف هذا المستوزر قدره حتى تدركه رحمة الله، إذ ليس هو لا في العير ولا في النفير، وأن معارضته ليست نابعة من ذاته، وإنما قصد بها - وقد صرح بذلك أثناء زيارته لأمريكا - أن يلفت نظر السياسة الأمريكية إليها لعلها تعمل على مد أجله في الوزارة، وقد خيب الله أمله، فخرج من الوزارة - غير مأسوف عليه - إلى الشارع في أول تعديل للوزارة، وبدلا من أن كان صفرا على الشمال وزيرا، أصبح مجموعة من الأصفار على الشمال وزيرا سابقا.
والمثال الآخر: وزير للتعليم العالي في دولة إفريقية مسلمة باعتبار شعبها 99% من السكان لا باعتبار نظامها الحاكم المتأرجح بين أمريكا وروسيا، والمتزلف أحيانا إلى العالمين العربي والإسلامي، هذا الوزير صرح في اجتماع للشباب، هاجم فيه الإسلام هجوما عنيفا، وحضر الاجتماع مع الوزير رئيس منظمة الشباب، ورئيس المخابرات، وجاء على ألسنتهم - التي سوف تقرض بمقاريض من حديد، لا تشفع فيه أمريكا ولا روسيا - الإسلام من مخلفات القرون الوسطى، وأنه لا يصلح لهذا الزمان الذي تقدمت فيه التكنولوجيا، وتساءلوا: كيف تستقيم الأحكام الإسلامية التي تقلع العيون، وتقطع الأيدي، وتقتل الأحياء بالحجارة مع هذا العصر المتمدن المتطور؟.
ومسكين مثل هذا الوزير التافه، ونقول إنه أتفه من أن يوصف بالتفاهة، لأننا حملة أقلام مسلمة، ولسنا أنظمة حاكمة تجامل على حساب الإسلام، هذه الأنظمة التي لا تقيم وزنا لكتاب الله تعالى:(20/307)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} .. ولا جدال في أن قضايا الإسلام والمسلمين تعاني الأمرين من هذه المجاملة على حساب الإسلام، وبالطبع هذا الوزير الأحمر الحقير من الذين يترددون في وجود الإسلام نفسه، فالدولة التي ينتمي إليها، سبقت لها أن ألغت اللغة العربية في مدارسها، وأن قتلت خيرة علماء الدين الذين تصدوا لقانون الأحوال الشخصية المناقض لشريعة الله.
(مجلة رابطة العالم الإسلامي)
الإسلام في تركية
في حديث صحفي يقول الأستاذ نجم الدين أربكان رئيس حزب السلامة:
إن حزب السلامة منذ أن اشترك في الحكم بدأ بحملة (الصناعات الثقيلة) ومنذ أن ترك الحكم في 1978 م، توقفت هذه الحملة من طرف شركائه السابقين لأن حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة طبقوا ما يريده الغرب من أن تبقى تركيا بلدا بعيدة عن الصناعات الثقيلة.
إن ما نهدف إليه لن يكون لصالح تركيا فحسب بل سيكون لفائدة الأقطار الإسلامية الشقيقة الأخرى فإن ذلك سييسر ما يحتاجون إليه من الصناعات الثقيلة.
سنبدأ من حيث انتهينا
إن حزب السلامة في حالة وصوله إلى الحكم سيبدأ من النقطة التي انتهى إليها سابقا وسيحاول أن ينهي حملته تماما في أقصر وقت ممكن وبهذا الشكل يكون العالم الإسلامي مؤمنا من ناحية الصناعات الثقيلة إلى جانب أنه سيصبح- إذا تم ذلك صاحب صناعة حربية كذلك.(20/308)
إن مبدأ حزب السلامة الأول هو الأخلاق أولا ولهذا فإن من أول ما يريد أن يصلحه هو غرس القيم المعنوية وتأسيس نهضة اجتماعية على هذا الأساس الأخلاقي وسيكون بعض نواته تأسيس المدارس التي تعنى بالعلوم الشرعية الإسلامية وسيحاول بإذن الله تعميم دروس التربية الإسلامية في كل المؤسسات التعليمية يلاحظ أن دراسة التربية الإسلامية ممنوعة في المدارس التركية بحكم القانون والتحية لأتاتورك فهذه بعض بقاياه وبهذا سنكفل ونضمن تعليم أجيالنا القادمة ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا.
(الدعوة بالرياض)
هذه حضارة الغرب يا مقلدي الغرب
نشرت مجلة نوفيل أوبسيرفاثير الفرنسية في عددها 16/22/ 80 م مقالا مطولا عن الدعارة والعهر المنتشر في فرنسا كصناعة متعددة الأشكال وكان مما ذكرته بأن الدعارة أصبحت توفر العمل لحوالي (30 ألف) فتاة وتدر أرباحا طائلة تحصل الدولة فيها على نصيب الأسد وبحديث الأرقام، تصل مكاسب الدعارة السنوية إلى ثلاثة بلايين فرنك فرنسي، مدينة (بوردو) وحدها، وتكسب الدعارة سنويا بليون ونصف فرنك في مدينة (جرينوبل) وفي مدينة مارسيليا تكسب ستة إلى سبعة بلايين فرنك وفي مدينة منطقة (أزير) تكسب ثمانية بلايين فرنك كما توجد شركة في مرسيليا شركة لصناعة الأحذية رأسمالها من الدعارة وأودعت في حسابها بالبنك أكثر من سبعة ملايين فرنك خلال أربع سنوات.
ونظرا لضعف القوانين الوضعية وتراخيها ضد الدعارة فقد ترك بعض المهربين للمخدرات مجالهم الخطير وتوجهوا للعمل في بيوت الدعارة لأن العهر أكثر ربحا وأخف عقوبة.
وذكرت المجلة في مكان آخر بأن هناك عاطلين عن العمل يقومون بالدعارة (اللواط) وبعضهم يعملون مع فتاة ما لجلب الزبائن.
ففي مدينة (نيس) الفرنسية تم إغلاق خمارة مؤخرا وصودرت ممتلكاتها لأن الفتيات كن يستقبلن فيها أكثر من (60) زبونا في اليوم بطريقة غير رسمية وغير صحيحة !! .(20/309)
كما أن بعض الشبان العاطلين عن العمل في مدينة مارسيليا يعملون كصبيان لدى العاهرين ويتعلمون المهنة في نفس الوقت كما أن بعض البنات العاهرات يتخذن من هؤلاء الشباب العاطلين حارسين شخصيين ضد الزبائن المجرمين.
وتقول في مكان آخر، إذا كان العاهرون في الستينات يزاولون مهنتهم في الخفاء وتحت شعارات غامضة فإنهم في عام 1980م أصبحت لهم أوكار ثابتة ومعروفة ومنذ عام 1975م أمرت السلطات منع الدعارة في الفنادق وتم إغلاق بعض الفنادق التي كان العاهرون يستعملونها لمهنتهم لكنهم لجأوا إلى فتح ستوديوهات خاصة للدعارة.
أما علاقة الدولة مع العاهرات فهي علاقة مصالح حيث تطالبهم الدولة بدفع ضرائب دورية منتظمة بعد أن يقوم كل منهم بإشعار الجهات الرسمية بمكانتها ومهنتها والشيء الذي يدعو للاشمئزاز أكثر هو أن الدولة تسعى أحيانا لمطالبة بعض الفتيات بدفع تلك الضرائب حتى بعد أن يتركن مهنة الدعارة ليقمن بعمل شريف ولو بأقل أجر ...
هذه هي حضارة القرن العشرين.. الدعارة والعهر والسقوط الأخلاقي الكبير!
(مجلة المجتمع)
تركستان تستنجد
دعا الدكتور بيمرزا هابيت أحد العلماء المسلمين بإقليم تركستان السوفيتي العالم الإسلامي إلى الاهتمام بأحوال المسلمين في تركستان التي تضم خمس جمهوريات إسلامية سوفيتية، وطالب منظمة المؤتمر الإسلامي بتقديم المساعدات للمسلمين هناك خاصة في هذه الفترة العصيبة.(20/310)
وأبدى الدكتور هابيت أسفه لأن الدول الإسلامية لم تتخذ حتى الآن أي موقف إيجابي تجاه هذه القضية، إلا أنه أوضح أن منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعها الأخير في إسلام آباد قد اتخذت قرارا إيجابيا لصالح تركستان، لكنه لم يوضح مضمون أو نوع هذا القرار، وأوضح أن مسلمي تركستان ليست لهم أية علاقات اجتماعية مع الجمهوريات السوفيتية الشيوعية الأخرى ... ومؤكدا أن قلوب مسلمي المنطقة السوفيتية ما زالت تنبض بالإسلام مع كل مسلمي العالم، وقال إنه كان يوجد في منطقة كردستان السوفيتية حتى عام 1918 حوالى 1700 مسجد لم يبق منها الآن سوى مائة مسجد! .
تركيا.. إلى أين؟
الانقلاب العسكري الذي وقع في تركيا لم يكن مفاجأة لأحد فقد أنذر جنرالات الجيش التركي من قبل زعماء الأحزاب السياسية منذ شهور وهددوهم بالاستيلاء على السلطة..
وإذا أردنا أن ننظر إلى ما وراء الأحداث لنعرف أسباب الانقلاب وتأثيره على الأوضاع في تركيا المسلمة الشقيقة فلا بد لنا من عودة إلى الوراء إلى الانقلاب الأول الذي قام به مصطفى كمال الخائن..
ففي سنة 1918 م انهارت الدولة العثمانية بعد حرب طاحنة حارب فيها الجيش المسلم في غير معركته في الحرب العالمية الأولى حتى أن جحافل اليونانيين قد توغلت داخل تركيا ثم قامت حركة الكماليين بقيادة مصطفى كمال الذي تقمص ثوب الشيوخ وقام باسم الدين يرفع لواء الجهاد واستعان ببعض المجاهدين حتى تم طرد اليونانيين في معركة فاصلة عند جان قلعة واستشهد فيها ربع مليون مسلم.
ثم بدأ مصطفى كمال مفاوضاته مع الإنجليز حتى أملى عليه المستر كرزن وزير خارجية بريطانيا هذه الشروط الرهيبة:
1- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيا من تركيا.
2- أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.(20/311)
4- أن يستبدلوا بالدستور العثماني القائم على الإسلام دستورا مدنيا بحتا.
فقبل مصطفى كمال هذه الشروط ونفذها بحذافيرها فألغى الخلافة الإسلامية في مارس 1924م.
ثم أخرج مصطفى كمال من الجيش كل العناصر الإسلامية فأصبح يدين له بالولاء ويدين بأفكاره العلمانية الكافرة ويعبده من دون الله، ثم نفذ الخطة اليهودية.
يقظة إسلامية:
كانت المشاعر الإسلامية مستترة في عهد مصطفى كمال وقاد حركة البعث الإسلامية في وجه الأعاصير عالم مجاهد هو بديع الزمان سعيد النورسي الذي كتب رسائل النور ثم جاء عدنان مندريس في عام 1950م وطرح برنامج الحزب الديمقراطي الذي اعتمد على إثارة المشاعر الدينية في نفوس الأتراك الذين يمثل المسلمون 99% منهم واكتسح خصمه عصمت إينونو خليفة أتاتورك والرجل الذي وقَّع المعاهدة مع مستر كرزن الذي صاح قائلا "لقد انتصر مندريس ونبيار الحكم بدعايته الدينية"ثم تسلم مندريس ونبيار الحكم وشرعوا في تنفيذ وعودهم التي تمثلت في:
1- إعادة حرية التدين للشعب التركي.
2- إعادة الآذان باللغة العربية حتى بكى الناس عند سماع الله أكبر الله أكبر.
3- رفع الحوافز عن رجال الدين.
4- السماح بتعليم اللغة العربية ودراسة القرآن الكريم.
5- إعادة فتح المساجد التي أغلقت وحولت إلى متاحف.
6- سحب سفير تركيا من إسرائيل وإعادة السفير اليهودي إلى حكومته.
فبدأ اليهود يخططون لإسقاط مندريس وانتصرت القوى السرية التي تخطط لحساب اليهود في إسقاط مندريس بانقلاب مايو 1960 الذي قام به قائد الجيش جمال جورسيل والذي أعدم مندريس واثنين معه في 1961 م بتهمة (خرق الدستور الذي وضعه أتاتورك) وأنجز الجيش مهمته فسلم السلطة إلى المدنيين وعاد إلى ثكناته ليبقى في حماية مبادئ أتاتورك بعد أن كان جيشا مجاهدا في سبيل الله يلقي الرعب في قلوب أعداء الله.
(الدعوة القاهرية)(20/312)
كيف دخلت الشيوعية في أفغانستان؟
نشرت مجلة المدينة مقالا للأستاذ جلال الدين أحمد النوري تحت عنوان:
كيف دخلت الشيوعية في أفغانستان؟
قال ما يأتي:
ظهرت آثار السياسة الشيوعية أولا في أفغانستان، إذ هزت الدعاية الشيوعية موقف الأمير حبيب الله في عام 1919 م عندما أشاعت بأنه آلة في يد الساسة البريطانيين، اشتروه بثمن بخس ثم أمدت روسيا عملاءها الشيوعيين بالمساعدات المادية فأسسوا حركة الاستقلال الوطني الأفغانية وظهر على رأسها أخو الأمير، ولم يمض وقت طويل حتى اغتيل الأمير فملك أصدقاء الروس زمام الأمور، وتدفقت الأسلحة إلى داخل البلاد، وبعد أن أعلن استقلال أفغانستان، وقيام المملكة الأفغانية، وتوقيع المعاهدة الأفغانية الإنجليزية في نوفمبر سنة 1920م تلك المعاهدة التي نصت على إنهاء الوصاية الإنجليزية على أفغانستان، سارعت روسيا بإصدار بيان تقول فيه:
"إن مجلس الوزراء السوفييتي يعلن: أن حكومة العمال والفلاحين بكل هيئاتها تعترف باستقلال أفغانستان، وأن على أفغانستان المستقلة ابتداء من الآن: واجب التحالف مع روسيا لمساعدة شعوب الشرق الإسلامي التي لا زالت ترزح تحت نير العبودية، لتنال حريتها الوطنية والاجتماعية" ... وتبدو في البيان نغمة الثورة الاشتراكية التي تحاول موسكو أن تلزم الحكومات الجديدة في المناطق المستقلة حديثا باتباع النموذج المطبق في موسكو. وأن تحذو حذو البلشفية في روسيا أي اتخاذ موسكو كعبة لها في الإصلاح السياسي والاجتماعي.(20/313)
نجحت هذه السياسة إلى حد ما في أفغانستان فتحقق هذا التحالف الذي نادت به موسكو وذلك بإبرام معاهدة الصداقة الروسية الأفغانية التي وقعت في فبراير سنة 1920م ومما يلفت النظر أنه نص في هذه المعاهدة على قيام خمس قنصليات لروسيا في أفغانستان بجانب سفارتها في كابول، ولا شك أن المقصود من وراء إنشاء هذا العدد من القنصليات هو تطوير وتركيز النفوذ السوفييتي الذي يسهل عملية نشر العقائد الماركسية ولكن لم تصل روسيا إلى هذا الهدف كما لم تحقق هدفها الحقيقي وهو قيام الثورة السوفييتية الاشتراكية وذلك بسبب معارضة الحكومة التي كانت عاملا هاما في سد الطريق أمام الدعاية الشيوعية حتى لا تنفذ إلى الأقاليم الأفغانية فانحصر نشاط البلشفيين في العاصمة كابول، حيث إنها استخدمت كمركز للدعاية الشيوعية خارج حدود أفغانستان، إذ وصل حملة العقائد الماركسية إلى الهند وكانوا يتلقون أوامرهم من كابول لا يتحركون إلا بتوجيههم وإرشاداتهما والحق أنهم كانوا في الهند (دمى) يحركهم البلشفيون من داخل أفغانستان، وهكذا تمكن الماركسيون من إقامة مركز لهم في هذا البلد تنطلق منه سموم الدعاية الإلحادية التي لن تهدأ إلا بتحويل هذا البلد الإسلامي المتاخم للإتحاد السوفييتي إلى بلد شيوعي وقد ظهرت معالم هذا التحويل بقيام ثورة في هذا البلد في الفترة الأخيرة، وإن لم يدرك العالم الإسلامي ذلك فيهب للحيلولة دون هذا التحويل الإلحادي فستظهر ندامة المسلمين فيما بعد حيث لا ينفع الندم ولا يفيد.
تعليق المجلة:(20/314)
إن القارئ الكريم عندما يقرأ هذا الخبر المنشور بجريدة (المدينة) - وينعم النظر فيه- وكان ملما بالأسلوب السياسي- يدرك كيف تخطط الشيوعية لمحاربة المسلمين في عقر دارهم على المدى البعيد بدأت الخطة بتظاهر السوفييت وجعجعتهم بالدعوة إلى الحرية، والانتصار لها، والدفاع عنها، تلك الحرية التي يزعمون أنهم حماتها لشعوب شرق آسيا ومسلمي الخليج، ثم بانفعالها، ذلك الانفعال المصطنع ضد الاستعمار والإمبريالية لتكون عقبة كؤودا أمام قافلة الحرية إلى آخر المحاضرة السوفييتية المضللة، وبهذه الجعجعة المضللة خدعت كثيرا من الشعوب الإسلامية التي طالما رزحت تحت نير الاستعمار الغربي فيما مضى من حياتها، وبهذا الأسلوب استولت السوفييت على عقولهم، بل استعمرت عقولهم قبل أن تستعمر أراضيهم، وتخرب ديارهم وتفسد عليهم دينهم، ثم التخطيط السوفييتي بالمطالبة البطيئة والملحة بالتخلي عن الدين لأنه يتعارض والتقدم في زعمهم- لأن التقدمية لا تساير إلا الانطلاق المطلق دون تقيد بأي قيد، ويكون ذلك لقاء المساعدة العسكرية السخية من الأسلحة الحديثة الدفاعية أو الهجومية حسب الظروف- هكذا يفعل الاستعمار الشرقي بالشعوب حتى يخربوا ديارهم بأيديهم وأيدي أعدائهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والله المستعان.(20/315)
وبهذا الأسلوب تمكن السوفييت من غزو أفغانستان، وقد رأى المجاهدون أن يعلنوا جهادا إسلاميا مقدسا ضد الغزاة الشيوعي، وخاضوا معارك دامية، فقاتلوا، وقتَّلوا، وقُتِّلوا في سبيل الله لإعلاء كلمته، والانتصار لدينه وقد حمي الوطيس، فماذا ينتظر المسلمون!! ليهم إلا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .(20/316)
ماذا تعرف عن شعب أورومو؟
(الحلقة الثانية)
لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف
لابد أن أروي:
أخذا عن أخبار الثقات التي تردنا أود أن أورد هنا تقريرا خاصا عن سير الإسلام في الحبشة، فأقول:
الحمد لله الذي له الحمد كله، وله الأمر كله، وصل اللهم وسلم وبارك على من أرسلته رحمة للعالمين وآله وصحبه وحزبه.
لقد وافانا بعض القادمين من أثيوبيا بحقائق تثلج الصدور، ما كنا نتوقعها، وملخصها فيما يلي:
عندما اشتدت وطأة الشيوعية على المسلمين في أمهات المدن وأخذ أعداء الإسلام يطلقون عبارة جهمية جريئة (لا بد من التخلي عن الأديان السماوية لوحدة إثيوبيا) ، أدرك المسلمون أن الدين المقصود بالتخلي عنه هو الإسلام وحده على الرغم من مراوغة الماركسيين والصليبيين معا.
ولقد أوجد هذا الموقف لدى الريفيين وسكان القرى والمدن الصغار النائية عن العاصمة أديس أبابا رد فعل يثلج صدر كل مسلم يعتز بإسلامه ويسعى للانتصار له بكل ما يملك، ولديه من الغيرة ما يجعله يتألم من انتشار الشيوعية بشكل مخيف في العالم الإسلامي بصفة عامة، وفي إثيوبيا بصفة خاصة.
التفصيل:
مما قام به المسلمون كرد فعل للدعوة الماركسية في إثيوبيا ما يأتي:
1- الإكثار من بناء المساجد في القرى والأرياف.
2- إقامة صلاة الجماعة والمحافظة عليها في كل مكان، ومما لفت نظر السلطة الماركسية وأدخل الرعب عليها وجعلها تتودد إلى الشعب أن الفلاحين في مزارعهم أخذوا يؤذنون للصلاة ويقيمون صلاة الجماعة بصورة غير معهودة من قبل وأنهم أعلنوا مقاطعة كل من لا يصلي، وإذا مات لا يصلى على جنازته.
3- كثرة المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة، وهو أمر لا عهد لهم به في الأرياف والقرى الصغيرة سابقا.(20/317)
4- اتفاق شعبي سري وفي صمت على عدم تطبيق التعاليم الماركسية في مجال الزراعة حيث حاولت السلطة أن يشترك سكان كل قرية في الزراعة، بأن يزرعوا معا ويحصدوا معا ويشتركوا في المحصول بصرف النظر عن تفاوت مساحات الأراضي وتفاوت الأسر في عددها، ولقد رفضت هذه الاشتراكية في كثير من الأقاليم وفي مقدمتها إقليم هرر الذي هو أكبر إقليم زراعي في إثيوبيا.
5- اتفاق شعبي سري على عدم تطبيق نظام التعليم الإجباري الذي تحاول الماركسية تطبيقه في الأرياف حيث تنشئ مدارس في القرى والأرياف بدعوى محو الأمية ليجتمع فيها الرجال والنساء معا، ولقد كان الهدف من هذه المدارس محو الأخلاق قبل محو الأمية بل محو العقيدة من قلوب المسلمين لو استطاعت الماركسية.
ولقد أدرك المسلمون الأوروميون هذا الهدف فأخذوا يفوتون سنة بعد سنة بأعذار يلهمون بها كطلب المهلة أحيانا، وعدم وجود المدرسين حينا، ونزول القحط والجفاف حينا…الخ.
هكذا يعيش المسلمون في إثيوبيا وبصفة خاصة في إقليم هرر.
ومما هو جدير بالتنويه به أن هذا العمل الإسلامي الجليل الذي يقوم شعب أرومو إنما يتم تحت إشراف جبهة تحرير أورومو وبتوجيه منها وتوعية دقيقة تتم سرا ودون جعجعة، تلك الجبهة التي تعمل في صمت ولا تحمل معها بوقا حين تعمل وحين توجه وحين تجاهد، وما النصر إلا من عند الله وحده.
وقصارى القول أن سير الإسلام أخذ في تحسن في الوقت الذي فيه الماركسية القضاء عليه لو استطاعت، ولكنها أدركت فشلها وأخذت تتودد إلى الشعب لذر الرماد في العيون لتتمكن من تغيير مجرى السياسة إدراكا منها أن سياسة العنف غير ناجحة بل هي فاشلة لتستخدم سياسة النفاق والمكر والخداع.
ونحن نقول لها مسبقا إن فشل هذا النوع من السياسة قد ظهر قبل تنفيذها فهل أنتم مدركون؟(20/318)
إن شعب أورومو الذي قد جرب أنواع الأساليب التي يستخدمها أعداء الإسلام من صليبية حاقدة وماركسة ماكرة سوف لا ينخدع بعد اليوم بأي أسلوب إذ "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، وهو شعب اكتسب دربة وخبرة من طول مدة الصراع بينه وبين الصليبية التي حاولت أن تقول أو قالت: لا وجود للإسلام في إثيوبيا، متجاهلة أن عدد المسلمين يمثل 75 % من سكان الحبشة، ومتجاهلة تاريخ دخول الإسلام للحبشة، وأنه سبق المسيحية إلى المنطقة، وأخيرا حلت الماركسية أو على الأصح تقمصت الصليبية بقميص الماركسية لتحاول ضرب الإسلام لو استطاعت بسلاح آخر يدعى الشيوعية الحمراء التي لا تؤمن بأي دين.
ولكن الشعب الأورومي - كما قلت - تجاوز مرحلة الانخداع وخبر الأعداء على اختلاف أساليبهم وتولنهم.
ألا إن نصر الله قريب إن شاء الله.(20/319)
إخوة فيليبنيون يهتدون إلى الإسلام
صحيفة المدينة المنورة
في منطقة المدينة المنورة أعداد غير قليلة من العمال والممرضين والموظفين في الحقل الصحي وفدوا من الفيليبين وكوريا، وكما حصل في جدة حيث أقبل الكثير من هؤلاء على الإسلام بعد أن أتيح لهم من يطلعهم على بعض حقائقه، هكذا حصل بين هؤلاء العمال في منطقة المدينة.. وها نحن نذكر فيما يلي بعضا من هؤلاء وعددهم أحد عشر فيليبينيا يعملون في قرية المليليح على بعد خمسين كم شمال المدينة، في مشاريع الشيخ عبد الوهاب الدخيل، وقد شرح الله قلوبهم لدينه وكان ذلك على أيدي بعض مواطنيهم من طلاب الجامعة الإسلامية نخص بالذكر منهم الطالب (عبد الحليم أمبولوتو) في الثانية بكلية الدعوة وأصول الدين والطالب (عبد الحميد إبراهيم) في الأولى بالكلية المذكورة.. ثم الطالب (واتر واتو إبراهيم) وهو متخرج في كلية الاقتصاد من جامعة الفيلبين الحكومية ويدرس حاليا في الجامعة الإسلامية.. ولا ننسى ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة الخيرة أن نسجل بمداد التقدير جهود مكتب الدعوة التابع لدار الإفتاء بالمدينة المنورة، وما يلقاه هؤلاء المؤمنون الجدد من رعاية المحسن الكريم الشيخ عبد الله الدخيل الذي لا يضن عليهم بكل ما من شأنه تشجيعهم وتحبيبهم لدين الله… جزى الله العاملين والمحسنين خير الجزاء.
أما الإخوة المهتدون فهم:
1- علي محمد أبو أمين وكان اسمه بالنصرانية روبير توما مانسالان.
2- عبد الله محمد وكان اسمه روميو غنستو.
3- محمد مسفير وكان اسمه ماسيموراسون.
4- محمد عبد العزيز وكان اسمه روى ماهيناي.
5- محمد عبد التواب وكان اسمه ريدولفو ديمنيس.
6- أحمد محمد وكان اسمه مارسينو ذيلفين.
7- محمد يوسف وكان اسمه ماريو - ل- ماليس.
8- جمال حميد وكان اسمه بيرنانوو - ف- هاماند.(20/320)
9- أبو بكر محمد وكان اسمه نارسيو - س- لاكاف.
10- عبد العزيز محمد وكان اسمه ماركوس أكينو.
11- محمد عبد الوهاب وكان اسمه رومار بكو تلوريس.
نسأل الله أن يتم نوره، وينصر دينه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير ...
والله من وراء القصد.
(صحيفة المدينة المنورة)(20/321)
هل تعلم أن الكهرباء ثمرة؟
أحمد حسن بركات / فني كهرباء بالجامعة
لو نظرنا بعين المتفكر في آيات الله لوجدنا ثمرة الكهرباء سرّا تحار فيه العقول فهي ثمرة مكونة من زوجين ليسا ككل الأزواج فهما زوجان لا يمكن الجمع بينهما وإخراج ثمرتهما إلا بثالث بينهما، ولك في اشتعال المصباح ودوران المحركات والتقاء السحاب المسخر بين السماء والأرض أمثلة…
فمثلا يلتقي السالب والموجب في طرفي المصباح فيحدث الاشتعال ولا يمكن لك أن ترى بالعين المجردة أيهما السالب وأيهما الموجب فكلا السلكين لا فرق بينهما في الحجم ولا في اللون ولكن مجرد اتصالهما بثالث وهو فتيل المصباح يُرى الثمرة الطيبة وهي النور، وكذلك المحركات بالتقاء طرفي الكهرباء في أسلاك المحركات تخرج خطوط مغناطسية تدفع ما يقابلها من أعمدة الحركة فتتحرك حسبما نريد…
واما السحاب فلنا فيه عظة وعبرة فكل سحابة تحمل صفة واحدة إما سالبة وإما موجبة وإذا التقت السحابتان تخرج منهما البرق فيبشر بثمرة وهي سقوط الماء الذي نستغله في حركة مولدات الكهرباء فتنتج الكهرباء التي تنير بإذن الله.
فني كهرباء بالجامعة
أحمد حسن بركات(20/322)
وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وكفر من أنكرها
لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المرسل رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين وعلى آله وأصحابه الذين حملوا كتاب ربهم سبحانه وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى من بعدهم بغاية الأمانة والإتقان والحفظ التام للمعاني والألفاظ رضي الله عنهم وأرضاهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
أما بعد: فقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن الأصول المعتبرة في إثبات الأحكام، وبيان الحلال والحرام في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ثم إجماع علماء الأمة، واختلف العلماء في أصول أخرى أهمها القياس وجمهور أهل العلم على أنه حجة إذا استوفى شروطه المعتبرة. والأدلة على هذه الأصول أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.(20/323)
أما الأصل الأول: فهو كتاب الله العزيز وقد دل كلام ربنا عز وجل في مواضع من كتابه على وجوب اتباع هذا الكتاب والتمسك به والوقوف عند حدوده قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمرة بالتسمك بالقرآن والاعتصام به دالة على أن من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على الضلال ومن ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته في حجة الوداع:"إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله" رواه مسلم في صحيحه، وفي صحيح مسلم أيضا عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" وفي لفظ قال في القرآن: "هو حبل الله من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على(20/324)
الضلال".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي إجماع أهل العلم والإيمان من الصحابة ومن بعدهم على وجوب التمسك بكتاب الله والحكم به والتحاكم إليه مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي ويشفي عن الإطالة في ذكر الأدلة الواردة في هذا الشأن.
أما الأصل الثاني: من الأصول الثلاثة المجمع عليها فهو ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره ولم يزل أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل الأصيل ويحتجون به ويعلمونه الأمة وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب أصول الفقه والمصطلح والأدلة على ذلك لا تحصى كثرة فمن ذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الأمر باتباعه وطاعته وذلك موجه إلى أهل عصره ومن بعدهم لأنه رسول الله إلى الجميع ولأنهم مأمورون باتباعه وطاعته حتى تقوم الساعة ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المفسر لكتاب الله والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله بها من حدود وعقوبات، ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(20/325)
وقال تعالى في سورة النساء أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} وكيف يمكن طاعته ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله إذا كانت سنته لا يحتج بها أو كانت غير محفوظة وعلى هذا القول يكون الله قد أحال عباده إلى شيء لا وجود له وهذا من أبطل الباطل ومن أعظم الكفر بالله وسوء الظن به، وقال عز وجل في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقال أيضا في آية أخرى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فكيف يكل الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تبيين المنزل إليهم وسنته لا وجود لها أو لا حجة فيها ومثل ذلك قوله تعالى في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى في السورة نفسها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .(20/326)
وقال في سورة الأعراف: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وفي هذه الآيات الدلالة الواضحة على أن الهداية والرحمة في اتباعه عليه الصلاة والسلام وكيف يمكن ذلك مع عدم العمل بسنته أو القول بأنه لا صحة لها أو لا يعتمد عليها، فقال عز وجل في سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب طاعته عليه الصلاة والسلام واتباع ما جاء به كما سبقت الأدلة على وجوب اتباع كتاب الله والتمسك به وطاعة أوامره ونواهيه وهما أصلان متلازمان من جحد واحدا منهما فقد جحد الآخر وكذب به وذلك كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام بإجماع أهل العلم والإيمان وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب طاعته واتباع ما جاء به وتحريم معصيته وذلك في حق من كان في عصره وفي حق من يأتي بعده إلى يوم القيامة ومن ذلك ما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أَطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله" وفي صحيح البخاري عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: "يا رسول الله ومن يأبى". قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى". وخرج أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني(20/327)
أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".
وخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح: عن ابن أبى رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه يقول: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال: "يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله". أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: "رب مبلغ أوعى من سامع"ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم: "فليبلغ الشاهد الغائب فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه"، فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه عليه الصلاة والسلام وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.(20/328)
وقد حفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية وبلغوها من بعدهم من التابعين ثم بلغها التابعون من بعدهم. وهكذا نقلها العلماء الثقات جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وجمعوها في كتبهم وأوضحوا صحيحها من سقيمها. ووضعوا لمعرفة ذلك قواعد وضوابط معلومة بينهم يعلم بها صحيح السنة من ضعيفها وقد تداول أهل العلم كتب السنة من الصحيحين وغيرهما وحفظوها حفظا تاما كما حفظ الله كتابه العزيز من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وتحريف المبطلين تحقيقا لما دل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي منزل فقد حفظها الله كما حفظ كتابه وقيض الله لها علماء نقادا نفوا عنها تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون لأن الله سبحانه جعلها تفسيرا لكتابه الكريم وبيانا لما أجمل فيه من الأحكام، وضمنها أحكاما أخرى لم ينص عليها الكتاب العزيز كتفصيل أحكام الرضاع وبعض أحكام المواريث وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها السنة الصحيحة ولم تذكر في كتاب الله العزيز.(20/329)
ونذكر بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها.. في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة". فقال له عمر رضي الله عنه: "كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فقال أبو بكر الصديق: "أليست الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها". فقال عمر رضي الله عنه: "فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق". وقد تابعه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فقاتلوا أهل الردة حتى ردوهم إلى الإسلام وقتلوا من أصر على ردته وفي هذه القصة أوضح دليل على تعظيم السنة ووجوب العمل بها وجاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها فقال لها: "ليس لك في كتاب الله شيء ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء وسأسأل الناس"ثم سأل رضي الله عنه الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك وكان عمر رضي الله عنه يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله فإن لم بجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أشكل عليه حكم إملاص المرأة وهو إسقاطها جنينا ميتا بسبب تعدي أحد عليها سأل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك فشهد عنده محمد بن سلمة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بغرة عبدا أو أمة فقضى بذلك رضي الله عنه. ولما أشكل على عثمان رضي الله عنه حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها وأخبرته فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد رضي الله(20/330)
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله قضى بذلك رضي الله عنه وهكذا قضى بالسنة في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة. ولما بلغ عليا رضي الله عنه أن عثمان رضي الله عنه ينهى عن متعة الحج أهلَّ علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعا وقال: "لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس", ولما احتج بعض الناس على ابن عباس رضي الله عنهما في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في تحبيذ إفراد الحج قال ابن عباس: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء, أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتقولون قال أبو بكر وعمر"، فإذا كان من خالف السنة لقول أبي بكر وعمر تخشى عليه العقوبة فكيف بحال من خالفها لقول من دونهما أو لمجرد رأيه واجتهاده، ولما نازع بعض الناس عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في بعض السنة قال له عبد الله: "هل نحن مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم أم باتباع عمر ولما قال رجل لعمران بن حصين رضي الله عنهما حدثنا عن كتاب الله وهو يحدثهم عن السنة غضب رضي الله عنه وقال: "إن السنة هي تفسير كتاب الله ولولا السنة لم نعرف أن الظهر أربع والمغرب ثلاث والفجر ركعتان ولم نعرف تفصيل أحكام الزكاة"إلى غير ذلك مما جاءت به السنة من تفصيل الأحكام، والقضايا عن الصحابة رضي الله عنهم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدا. ومن ذلك أيضا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما حدث بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" قال بعض أبنائه: "والله لنمنعهن". فغضب عليه عبد الله وسبه سبا شديدا وقال أقول: "قال رسول الله وتقول والله لنمنعهن"، ولما رأى عبد الله بن المغفل المزني رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أقاربه يخذف نهاه عن ذلك وقال له: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى(20/331)
عن الخذف وقال: "إنه لا يصيب صيدا وينكأ عدوا ولكنه يكسر السن ويفقأ العين"، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال: "والله لا كلمتك أبدا أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تعود"، وأخرج البيهقي عن أيوب السختياني التابعي الجليل أنه قال: "إذا حدث الرجل بسنة فقال دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال"، وقال الأوزاعي رحمه الله: "السنة قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضيا على السنة"، ومعنى ذلك: أن السنة جاءت لبيان ما أجمل في الكتاب أو تقييد ما أطلقه أو بأحكام لم تذكر في الكتاب كما في قول الله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وسبق قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب مثله معه"، وأخرج البيهقي عن عامر الشعبي رحمه الله أنه قال لبعض الناس: "إنما هلكتم في حين تركتم الآثار"يعني بذلك الأحاديث الصحيحة، وأخرج البيهقي أيضا عن الأوزاعي رحمه الله أنه قال لبعض أصحابه: "إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول بغيره فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغا عن الله تعالى"، وأخرج البيهقي عن الإمام الجليل سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله أنه قال: "إنما العلم كله العلم بالآثار"، وقال مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: "إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين"، وقال الشافعي رحمه الله: "متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب"، وقال أيضا رحمه الله: "إذا قلت قولا وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه فاضربوا بقولي الحائط"، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لبعض أصحابه: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي وخذ من حيث(20/332)
أخذنا"، وقال أيضا رحمه الله: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهبون إلى رأي سفيان والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "ثم قال: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله عليه الصلاة والسلام أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"، وأخرج البيهقي عن مجاهد بن جبر التابعي الجليل أنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، قال: "الرد إلى الله الرد إلى كتابه، وارد إلى الرسول الرد إلى السنة"، وأخرج اليبهقي عن الزهري رحمه الله أنه قال: "كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة"، وقال موفق الدين بن قدامة رحمه الله في كتابه روضة الناظر في بيان أصول الأحكام ما نصه: "والأصل الثاني من الأدلة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره"انتهى المقصود، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : "أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي فليخش وليحذر من خالف شريعة الرسول باطنا أوظاهرا: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، كما روى الإمام أحمد(20/333)
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هام عن النار فتغلبوني وتقحمون فيها" أخرجاه من حديث عبد الرزاق وقال السيوطي رحمه الله في رسالته المسماة مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ما نصه:
"اعلموا رحمكم الله أن من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة"انتهى المقصود، والآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العلم بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدا، وأرجو أن يكون في ما ذكرنا من الآيات والأحاديث والآثار كفاية ومقنع لطالب الحق، ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان…(20/334)
أخبار الجامعة
1- صورة الجامعة الإسلامية في المستقبل
الجامعة الإسلامية في نمو مستمر ومطرد وبالمقارنة بين بدء قيامها 1381 هـ حتى عام 1400 هـ ندرك مدى النمو الذي وصلت إليه فقد بدأت بـ 256 طالبا في كلية الشريعة وصارت اليوم إلى حوالي خمسة آلاف طالب.
ولكن ماذا ينتظر الجامعة الإسلامية من توسع في المستقبل القريب إن شاء الله…؟
إن نظرة متفحصة لأرقام الميزانية التي اعتمدت للجامعة في الخطة الخمسية الثالثة للتنمية تدرك أن مستقبلا زاهرا ينتظر الجامعة الإسلامية وتنتظره إذ اعتمد لها في الخطة الخمسية للدولة أكثر من بليوني ريال لتنفيذ المشروع العام للجامعة ذلك المشروع الذي على أساس من المخطط العلمي كان المجلس الأعلى للجامعة قد أقره بدروته السابقة التي انعقدت في شهر ربيع الآخر 1399هـ وقد روعي في هذا المشروع النمو الطلابي ومعدلاته مع مراعاة الوضع الراهن للمباني القائمة الآن والتي تعتبر مباني مؤقتة حتى يتم تنفيذ هذا المشروع الضخم الذي روعي فيه إنشاء مباني جديدة لكل كلية من كليات الجامعة على حدة ولكل من المعهدين الثانوي والمتوسط وأن يكون كل مبنى فيها كامل المرافق والخدمات، وقد تم تصميم المنشآت المطلوبة للجامعة بناء على دراسة تخطيطية أكاديمية شاملة تحددت فيها أهداف كل كلية بل وكل قسم علمي ومركز بحث وتحديد سياستها الرئيسية ومن ثم تحددت متطلباتها المساحية بأسلوب علمي إحصائي استخدم فيه الحاسب الآلي.
وستحتوي كل كلية من كليات الجامعة على مبنى لكل من: الإدارة والمكتبة وقاعة محاضرات تسع كل طلاب الكلية مع قاعات صغيرة بعضها 150 وبعضها 100 طالب وفصول دراسية وغرف للأساتذة ومسجد صغير ومكاتب أبحاث ومخازن كتب ومستودعات عامة وعيادة طبية صغيرة ومقصف وخدمة.(20/335)
وتضم المباني الجديدة منشآت للمراكز الآتية: مركز شئون الدعوة ومركز للتراث الإسلامي ومركز للحاسب الآلي ومركز لوسائل الاتصال ومركز للدراسات والمعلومات.
كما تضم مباني عامة للمكتبة المركزية والإدارة المركزية وقاعة كبيرة جدا للمحاضرات العامة والمسجد الجامع والمستشفى الذي يتسع لـ 180 سريرا مع التوسع المستمر ودار للنشر العلمي.
كما سيتم إقامة مدينة إسكان جامعية كاملة تضم وحدات لإسكان الطلاب وهيئات التدريس والجهاز الإداري وتضم وحدات إسكان الطلاب المساجد اللازمة لها بحيث يسع كل مسجد 1000 مصل وكذلك وحدات إسكان هيئات التدريس والموظفين.
وقد روعي في هذه المنشآت إقامة مراكز للخدمات الغذائية مثل المطبخ المركزي لمنسوبي الجامعة وضيوفها وللخدمات الرياضية ثم الخدمات المدنية مثل السوق المركزي ومكاتب البريد والبرق والتلكس والهاتف ومكاتب سفريات وطيران وفروع للمصارفة والصيدليات وأسواق فرعية لخدمة قاطني الحي السكني من غير الطلاب.
وقد روعي في المدينة الإسكانية توفير الخدمات التعليمية مثل إنشاء رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والمتوسطة بالحي السكني وكذا توفير خدمات النقل والمرور والخدمات الفنية (شبكة المجاري والمياه والكهرباء والصيانة المركزية) وخدمات الأمن مثل حراسة الأسوار والبوابات والحراسة والدفاع المدني والشرطة الجامعية.
2- الجامعة الإسلامية مع المسلمين في كل مكان
تلبي رئاسة الجامعة الإسلامية ما يمكنها من دعوات لزيارة الهيئات الإسلامية أو الجماعات أو الجامعات الإسلامية سواء في ذلك أقطار العالم الإسلامي أو الأقليات الإسلامية في أنحاء العالم وذلك حرصا من الجامعة على التعرف على أحوال المسلمين وتقديم العون المناسب لهم سواء في ذلك العون المادي أو العون الأدبي والمعنوي.(20/336)
وقد لبى سعادة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية دعوة جامعة ديوبند الإسلامية بالهند التي وجهتها لكبار الشخصيات الإسلامية في العالم لحضور الاحتفال بعيدها المئوي وقد سافر سيادته على رأس وفد يمثل الجامعة الإسلامية في هذه الاحتفالات وذلك في أوائل شهر جمادى الأولى 1400هـ، وقد ترأس فضيلة الدكتور الزايد الجلسة الثانية الصباحية لاحتفالات جامعة ديوبند بعيدها المئوي الذي حضرته السيدة أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند وألقى الدكتور الزايد كلمة الجامعة الإسلامية في هذه الاحتفالات.
وقد طاف وفد الجامعة الإسلامية في هذه الزيارة بكثير من الأقطار الإسلامية والأقليات الإسلامية حيث شملت الزيارة منطقة كشمير بشمال الهند وقدمت الجامعة أوجه الدعم المالي لعدد من المشروعات الإسلامية وتمت زيارة المؤسسات الإسلامية في عدد من المدن الهندية وتم الوقوف على نشاطات هذه المؤسسات خاصة في مجال التربية والتعليم على أسس إسلامية.
وقال الدكتور الزايد تعقيبا على مشاركة الجامعة في احتفالات جامعة ديوبند - مما نقلته عنه الصحف في حينه -: "إن هذه الزيارة والحمد لله قد تركت أثرها الطيب في نفوس العلماء والطلاب والمسئولين عن الجامعة ((ديوبند)) كما كان للتبرع السخي الذي قام به صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز أثره الطيب في نفوس المسلمين وذلك لما يمثله هذا التبرع من دعم لمشروعات جامعة ديوبند".(20/337)
وزار وفد الجامعة جنوب الهند والتقى بعلماء المسلمين هناك، وزار دار مؤسسات دار الأيتام في مليبار وغيرها من المؤسسات الاجتماعية والدينية وقدم المساعدات لبعض الهيئات الإسلامية، كما زار الوفد كلا من أندونيسيا وتايلاند وباكستان ونيجيريا، تم الاتفاق بين الجامعة الإسلامية وبين كل من جامعتي عبد الله بايرو في كانو وجامعة سكتو بخصوص دعم الجامعة الإسلامية بالمدينة قسمي الدراسات الإسلامية والعربية في هاتين الجامعتين.
كما دعي الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد لحضور المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في لندن في الشهر الماضي ونظرا لانشغال الدكتور الزايد بأعمال هامة أناب عنه الدكتور أكرم العمري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
كما ينتظر زيارة الدكتور الزايد للمسلمين في أستراليا تلبية للدعوة التي تلقاها من الاتحاد الأسترالي الإسلامي.
3- اجتماعات وزيارات في الجامعة الإسلامية
1- التقى صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية مع منسوبي الجامعة وذلك مساء يوم الأربعاء الموافق أول جمادى الآخرة في قاعة الاجتماعات، وفي هذا اللقاء أجاب سموه على جميع الأسئلة التي وجهت من الحاضرين.
وكان سموه قد ألقى كلمة في بداية هذا اللقاء أشاد فيها بدور الجامعة الإسلامية وخريجها وهيئات التدريس فيها وكذا ألقى سعادة الدكتور عبد الله الزايد كلمة في بداية هذا الاجتماع رحب فيها بصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز ووجه شكر الجامعة إلى صاحب الجلالة الملك المفدى وصاحب السمو الملكي الأمير فهد على الرعاية الملكية السامية التي يسبغانها على الجامعة الإسلامية.
2- وقد عقد في الجامعة الاجتماع الثاني لمجلس اتحاد الجامعات العربية في الدورة الثالثة عشرة وذلك في الفترة من 16/18 من شهر جمادى الآخرة 1400هـ وقد ضم ممثلين عن إحدى وأربعين جامعة عربية.(20/338)
وبدأت الجلسة الافتتاحية لأعمال اتحاد مجلس الجامعات العربية في قاعة المحاضرات بالجامعة.
وافتتح صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز الجلسة الأولى لأعمال المجلس وأعقب ذلك كلمة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية أشاد فيها سعادته بدور المملكة في رعاية الجامعة الإسلامية.
3- وزار الجامعة الإسلامية في شهر جمادى الأولى وفد يمثل عمداء الكليات الجامعية في المملكة المغربية وكان هذا الوفد في زيارة للمملكة بدعوة من وزارة التعليم العالي في إطار الزيارات المتبادلة بين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية، وضم الوفد سبعة عمداء من مختلف الجامعات من مملكة المغرب الشقيق وقد تعرف العمداء على أوجه النشاط العلمي والاجتماعي في الجامعة وقاموا بجولة طويلة في مكتبة الجامعة والمستوصف والمطبعة والمهاجع والكليات والمعاهد والدور، وأثنوا على ما رأوه من أوجه النهضة في الجامعة الإسلامية المبنية على أسس العقيدة والمبادئ الإسلامية وسجلوا إعجابهم برسالة الجامعة وما تقوم به من خدمة تعليمية وتربية لأبناء العالم الإسلامي في كل مكان كما رحبوا بالإفادة من تجارب الجامعة الإسلامية في المناهج والطرق والمقررات وخاصة العلوم الشرعية والعربية.
وقد أقامت لهم الجامعة حفلا تكريميا في فندق شيراتون المدينة.(20/339)
4- وزار الجامعة وفد جامعة عليكرة بالهند برئاسة مدير جامعة عليكرة وبرفقته عدد كبير من هيئات التدريس وذلك في إطار التعاون بين الجامعة الإسلامية وجامعات المسلمين في كل مكان وقد رحب بهم فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الدكتور عبد الله الزايد وتبادل مع هذا الوفد الكريم الحديث في شئون الجامعات والدعوة إلى الإسلام ووعد نائب رئيس الجامعة وفد جامعة عليكرة بتقديم الدعم في مجال المشورة الفنية وتبادل الزيارات على مختلف المستويات إلى جانب ما تستطيع الجامعة الإسلامية تقديمه من عون مالي وبشري لجامعة عليكرة يمكن أن يبرم اتفاق في المستقبل بين الجامعتين لتحديده.
4 - الرحلات والمعسكرات لطلاب الجامعة
نظمت عمادة شئون الطلاب في إطار النشاط الاجتماعي والثقافي لهذا العام الجاري (99-1400هـ) كثيرا من المعسكرات الكشفية والرحلات العلمية والإسلامية، ومن خلال هذه الأنشطة يدرب الطلاب على الحياة الإسلامية والعلمية والجامعية الصحية.
ومن هذه المعسكرات معسكر أقيم لطلاب السنوات النهائية خلال عطلة الربيع بمنطقة ينبع من 20/ 3/ 1400 هـ إلى 28/ 3/ 1400 هـ وبلغ عدد المشتركين في هذا المعسكر 500 خمسمائة طالب وزعوا على أربعة أفواج لمدة ثمانية أيام مارس فيها الطلاب كثيرا من ألوان النشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي كما تمت فيها برامج ثقافية نافعة وزاروا ميناء ينبع وإحدى البواخر الراسية في الميناء.(20/340)
ونظمت رحلة إلى مكة لخمسين طالبا لأداء العمرة من 15/2 إلى 19/2/1400 هـ كما أقيم معسكر كشفي على ساحل بدر لطلبة كلية اللغة العربية أفاد منه 108 طالباً من 17 إلى 20/ 4/ 1400 هـ وفي هذا المعسكر حل طلاب من جامعة الرياض ضيوفا على طلبة الجامعة الإسلامية وكان في قيادة هذا المعسكر فضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري عميد كلية اللغة العربية وقد زار هذا المعسكر فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية وشاهد بعض ألوان النشاط الثقافي لطلاب الجامعة.
كما أقيم معسكر كشفي لطلبة كلية الدعوة وأصول الدين وطلبة المعهد الثانوي لـ 176 طالبا في الفترة من 20/5/ 1400 إلى 26/ 5/ 1400 هـ.
كما أقيمت عدة معسكرات متوالية لثلاث كليات من كليات الجامعة الإسلامية في منطقة العلا وهي معسكر كلية اللغة العربية ومعسكر كلية الشريعة ومعسكر لكلية الدعوة حيث زار الطلاب آثار مدائن صالح.
كما قام طلاب الجامعة الإسلامية برحلة إلى مدينة الرياض بدعوة من جامعة الرياض قام بها 39 طالبا في الفترة من 13/ 6 إلى 17/ 6/ 1400 هـ.
هذا عدا رحلات داخلية لجميع الطلاب الجدد للتعرف في أول العام الدراسي على معالم المدينة المنورة.
5- الجامعة تستقبل وفود الجامعات
في إجازة الربيع
استقبلت الجامعة وفدا طلابيا من جامعة الرياض مكونا من مائة وخمسين طالبا برئاسة الدكتور عثمان الفريج، كما استقبلت في نفس الفترة وفدا من 27 جوالا من جوالة جامعة البترول حيث استضافتهم الجامعة لمدة أربعة أيام وأعدت لهم لهذه المناسبة برنامجا ثقافيا حافلا.(20/341)
وقد وصل الفوج الثاني من جامعة الرياض في 3/ 4/ 1400 هـ من ثمانين طالبا برئاسة الدكتور عبد العزيز السحيالي في ضيافة الجامعة وأعد لهم برنامجا حافلا والتقى بهم فضيلة عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة ورحب بهم وألقى فيهم كلمة حث فيها الطلاب من الجامعتين على التمسك بالأخلاق الكريمة والبعد عن الأخلاق البذيئة وحذرهم من الجنوح إلى التطرف والشاذ من الآراء، وفيما يلي نص كلمة فضيلته:
كلمة سعادة الدكتور: عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن نزعات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(20/342)
إنه ليسرني أن نجتمع تتويجا لنشاط عام 1399/1400 للهجرة في هذه الجامعة المباركة لنبدأ صفحة مشرقة أشد إشراقاً وأعظم عطاء بإذن الله.. إننا - أيها الإخوان في هذه الجامعة - ندرك - كما قلت لكم في أول لقاء - بأنه لا انفصام بين التربية والتعليم وأن أي خلل في ذلك ولو كان ضئيلا يؤدي إلى نوع من الخلل في تكوين شباب الجامعات والمعاهد ويشير في نفس الوقت إلى وجود خلل في إدارة هذه المؤسسة أو أجهزة الإشراف عليها بحسبه ولهذا فإن الجامعة من أول يوم من العام الماضي وقبله دأبت على حث المسئولين في الأجهزة المختلفة على إعطاء هذا النشاط حظه من العناية وذلك بتوفير الإمكانات المادية والمعنوية حتى يواكب هذا النشاط مراحل نمو الطالب في كليته أو معهده أو في داره أو حتى في غرفته التي يأكل وينام فيها، ذلكم بأن الجامعة بجميع أجهزتها يجب أن تتكامل في إتاحة المجال التربوي لنمو هذا الطالب، حتى إذا ما واجه الحياة داعية إلى الله وموجها ومعلما يواجهها بحزم وبصيرة، إن النشاط من أهم ما يجب أن تعنى به الجامعة، ولو تحقق بالقدر الكافي لاطمأننا على أن الجامعة تسير في الطريق الصحيح لتأدية رسالتها لكن هناك بعض الأمور اللازمة لتحقيق ذلك وأحدها بل أهمها هو الأستاذ الموجه المربي فإنه بدون توجيه هذا الأستاذ وبدون أن يكون ذا عناية ذاتية بأمر هذا الطالب لا نستطيع أن نقوم بتكوين هذا الطالب تكوينا متكاملا بأي حال من الأحوال مهما قدمنا له من المال ومن وسائل الراحة، ونكون كمن يبذر في أرض سبخة ولذا فإننا نذكر زملاءنا الأساتذة والمدرسين بهذه الرسالة، وإنها رسالة سامية إذا أحسن أداؤها والله تبارك وتعالى سائل كل موجه ومرب عما استرعاه وإن هذه المهمة - أيها الإخوان كما تعلمون - هي مهمة المرسلين، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيدهم وخاتمهم هي مهمته، بل إن الكفار فطنوا لهذا في النبي فقالوا: {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} وهذا زعم باطل(20/343)
منهم في حقيقة الأمر لكن من ناحية فطرية فإن كل عالم من البشر إنما يكتسب العلم عن طريق التعلم وهذه من المسلمات البدهية، فبدون التعلم لا يكون معلما ومعلم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ربه بالوحي والإلهام، وإنني لواثق عظيم الثقة بأن زملائي من أعضاء هيئة التدريس يدركون ذلك حق الإدراك، وقد لمسنا - والحمد لله - ثمارا مبشرة بالخير في هذه الطلائع الخيرة من الشباب الذين يتخرجون من الجامعة كل عام ليعودوا إلى قومهم منذرين ومبشرين.(20/344)
والأمر الثاني الذي يجب أن يقوم به الأساتذة والمربون هو غرس الفضيلة في نفوس الطلاب وغرس معنى العزة والكرامة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وقد تكلمت في هذا المعنى كثيرا مع بعض الإخوان الذين يفدون إلى هذه الجامعة من أقطار الدنيا، وتحدثت معهم عما تعانيه شعوبهم من الكيد والأذى لأنهم يعيشون أقليات، وقد شاهدت بعض هذه الشعوب تعيش واقعها المرير الممزق لأنها تشعر بالذلة والهوان، وقد حثثت هؤلاء الإخوان - وخاصة الذين هم يتولون مسئولية الجامعات والمدارس والمعاهد الإسلامية - حثثتهم على أن يعنوا عناية فائقة بإيقاظ هذه العزة النائمة في نفوس هؤلاء المساكين، فإنه لا تناقض بين أن يكون المسلم معلما وأن يكون عزيزا، فقد يكون فقيرا معدما من المال لكنه عزيز بعزة الله لأن هذه الآية محكمة أعني قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فالمؤمن عزيز حتى ولو طوى شهرا كاملا جوعا، لكن أعداء الإسلام من مستعمرين وغيرهم يحاولون أن يثبتوا هذه الذلة التي ضرب الله جنسها على اليهود يحاولون أن يثبتوها في هؤلاء المسلمين لأنهم حين يشعرون بعزتهم يكون لهم شأن آخر ووضع آخر، فلا يفتأ هؤلاء الأعداء يكرسون الذلة على المسلمين حتى يظلوا بعيدين عن عزتهم التي أرادها الله، على أن الأعداء لو أدركوا حقيقة الأمر لكان من الخير لهم أن يكفوا عن عدوانهم، وأن يتركوا أذاهم للمسلمين، ذلك أن المسلمين متى أفاقوا من غفوتهم، ومتى استعادوا عزهم ومجدهم كانوا خيرا لا لهم فحسب، بل للبشرية جمعاء ومنها المجتمع الذي يعيشون فيه ألم يقل الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فلا بد أن نرعى في تربيتا لهؤلاء الطلاب أن نغرس فيهم - بما يسمعونه وبما يتلقونه - معنى العزة التي أرادها الله للمسلم ولا بد أن نعلهم ما بين عزة الإيمان والعنجهية والكبر من تضاد، فإن الله سبحانه وتعالى وصف(20/345)
المؤمن بأعلى وصف، وذكر أنه - مع ذلك - دانٍ من إخوانه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فأعلى الإيمان هو محبة الله التي تتجلى في عبادته بإخلاص، وليست عزة المؤمنين على الكافرين تعني التجبر والإعراض، ولكن معناها الترفع وطلب الاستعلاء على الكفر بعزة الإسلام، والاستغناء بالله عن هؤلاء الكافرين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بمشرك" ولكن فرق بين هذا المعنى وبين الصلة والإحسان فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل جاره اليهودي ويحسن إليه، ويأمر الصحابة أن يبروا بآبائهم الكفار فالله عز وجل يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فلا بد أن نفرق بين المعنى وما يتوهم أنه نقيضه فنبين للطلاب هذا الأمر حتى لا ينحرفوا، حتى لا يذلوا لغير الله وحتى لا يتكبروا على عباد الله، وحتى يعرفوا الطريق الصحيح إلى العزة والكرامة.(20/346)
وهناك أمر مهم آخر في تربية الشباب - طالما ذكرت به بعض الإخوان وتكلمت فيه معهم - وقد يكون من المفيد أن أذكر به في هذه المناسبة، هذا الأمر هو توقير الأئمة وإجلالهم أئمة الفقه والعلم والدين الذين من طريقهم وصل إلينا الدين بفقههم وبرواياتهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يرقى الشك إلى هؤلاء الذين شهدت لهم الأمة بالإمامة في الدين وبالورع والتقى والعلم، فينبغي أن نعرف لهؤلاء الأئمة أقدارهم، ويجب ألا نتطاول عليهم في الحديث عندما يكون المجال مجال استعراض لأقوالهم وآرائهم الفقهية للمقارنة بينها تمهيدا لاختيار ما يرجحه الدليل مثلا فلا يصح الترجيح بينهم إلا فيمن توافرت فيه أهلية الاختيار بين أقوال أهل العلم ممن يملك عن اقتدار وسائل الاجتهاد على أن يكون ذلك الترجيح في حدود الأدب والتوقير والإجلال الملائم لمقام الأئمة.(20/347)
فمن باب الأدب الذي أمر الله عز وجل به المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ولا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض والعلماء هم ورثة الأنبياء، فمن الأدب معهم أن أعرف طريقة عرض الرأي الذي ملت إليه فأقول قال العلماء كذا وقال فلان كذا، كلاما يفهم منه العامة بأني أستهين بالعلماء، فالعوام لا يعرفون مقصدي حين أقول إن العلماء أخطأوا في كذا وكذا لكن قد يفهمون من هذا التعبير الاستخفاف بأهل العلم فيكثر من يقول على الله وعلى رسول الله بغير علم وتفشوا الأهواء ويتكاثر الجهل، فلا يكون للأمة سلف صالح تنتمي إليه أو تستهدي به إلى معرفة الحق والصواب نعوذ بالله من ذلك البلاء كله، وهذا الأمر - أمر إجلال الأئمة - يستتبع اختبار الطريقة في توجيهها الطلاب حتى نضمن بإذن الله جيلا يجيد السير على الصراط المستقيم في دعوته إلى الله في بيان ما نزل إليهم من ربهم حتى لا يكون شطط أو غلو، ومن الأمور المهمة في تربية الطلاب في معاهد العلم أن نمكنهم وهم في صفوف الدراسة من البحث، فيجب أن نعنى بالبحث غاية العناية، فإنه بالبحث يمكن أن تكون هناك روح تجاوبية بين الطالب وبين المدرس والمربي، وبتمكين الطلاب من البحث يكون التوجيه موضوعيا من المعلم لطلابه في أي مادة لأن كل المواد الشرعية وما في حكمها المقررة تتكامل في بناء الطالب بناء سليما.
هذا ما أردت أن أذكر به الإخوان تذكيرا، وإلا فعندهم وخاصة أعضاء هيئة التدريس أكثر من هذه الملاحظات يدركونها ويعونها، لكني أردت أن تكون هذه الملاحظات تذكيرا للجميع.(20/348)
هذا وبالنسبة للنشاط فإن الجامعة يهمها أن توليه الاهتمام الجدي به، لأنه بدون النشاط تكون الجامعة قد أخلت بجزء كبير مما يجب عليها، ولا أقول: إننا نهتم بالنشاط لملء الفراغ، فليس عندنا فراغ نملؤه، ولكن من أجل أن تتكامل جهود الجامعة في بناء الطلاب لأن الشباب يحتاجون إلى أنواع كثيرة من أوجه الرعاية، والنشاط - مما تعارفت عليه المؤسسات التعليمية - أنه جزء مهم في تربية الطالب، ولذلك فإننا متى رأينا لونا من النشاط لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وتوجيهاته فسوف لا نتأخر بأي حال من الأحوال في تشجيعه وفي اتخاذه حتى يكون لطلاب الجامعة الإسلامية النصيب الأوفر مما هو موجود في الجامعات الأخرى سواء في الداخل أو الخارج إن شاء الله، لأننا نريد أن نهيء الجو المناسب لطلاب هذه الجامعة.(20/349)
وفي ختام كلمته عقب فضيلته تعقيبا دينيا وتربويا مفيدا على كلمة أحد الطلاب المجيدين كان قد عرض في الحفل الختامي موجزا عن بحث له في السياسة المالية والاقتصادية في الإسلام، وقد ورد في حديث الطالب تعبير (الإنسان وكيل الله) وتعبير (تفتيت الثروة) فقال فضيلته إنه لا يصح القول بأن المسلم وكيل الله، فهذا التعبير لم يرد عن السلف فلا يصح أن يقال، فالله عز وجل اختار كلمة (الخلافة) فكلمة خليفة الله تؤدي معنى الوكيل وزيادة، وقد اختار الله عز وجل لفظ الخلافة، ولم يعبر عنها بالوكالة في موضع من القرآن وعلمنا عن السلف أنه ينبغي لنا في تعبيراتنا التي تتصل بالله عز وجل أن نتقيد بما ورد به النص لا نعدل عنه وقد وردت كلمة خليفة ولم ترد كلمة وكيل فالإنسان خليفة الله كما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} هذا مع ما يفوت من معان جليلة لو استعملنا كلمة وكالة بدلا من الخلافة مع وجود بعض المعاني المحظورة في حق الله عز وجل ينطوي عليها التعبير بكلمة وكالة مما تواضع عليها الناس في هذا الباب فالوكالة لا تقوم مقام الخلافة وعلى العكس الخلافة تقوم مقام الوكالة، مع ما في لفظة الخلافة من البعد عن المحترزات التي في لفظة الوكالة بالنسبة لله عز وجل وكذلك ورد في كلمة الطالب كلمة (تفتيت الثروة في الإسلام) ، ويجب التيقظ والعلم بأن الإسلام لا يفتت الثروة، لأن تفتيت الثروة معناه محقها، والإسلام إنما ينمي الثروة تنمية مشروعة وهذا التعبير المتداول الذي يردد كلمة (تفتيت الثروة) إنما هو تعبير يساري، تعبير اشتراكي، وبعض الإخوان يستعمله بحسن قصد لا شك، ولهذا فإن هذه الكلمة لا يصح أن تأتي على ألسنتنا ولا أن تجري به أقلامنا بحال من الأحوال لأنه مصطلح يأتي في نظام اقتصادي معروف وقد أغنانا الله بنظام معصوم من الإسلام(20/350)
له مدلولاته وتعبيراته.
حقا، إن الإسلام حرب على الاحتكار فإنه لا يجوز في الإسلام، والإخوان يعرفون ذلك، فالإسلام لا يجعل حق الملكية لشخص أو أشخاص إلا إذا رأت الدولة أن مصلحة المجتمع في جعل هذا المرفق كشركة من الشركات كالكهرباء مثلا، فإننا لو جعلنا للناس كلهم حق إنشاء شركات كهرباء، لأدى هذا إلى الفوضى ثم لا تكون هناك إضاءة، فهذه من المصالح التي جعل للدولة - من باب المصالح المرسلة - النظر فيها للمصلحة العامة ولذا فإن الدولة أحيانا تشارك بـ 51 % من رأس مال الشركة ثم تترك الأمر للشركة إذا قامت على أقدامها، المهم في هذا أن كلمة تفتيت الثروة غير واردة في التنظيم الاقتصادي الإسلامي ولكن الوارد هو تنمية الثروة وفق منهج محدد لا يلحق الضرر بالمجتمع، وترك الإسلام الحرية للناس يكسبون كيف شاؤوا في حدود التوجيهات الإسلامية دون احتكار أو ظلم.
ثم أخيرا لي ملاحظة بسيطة وهي ضرورة التفرقة بين السياسة المالية وبين السياسة الاقتصادية فهما مختلفان فالسياسة المالية في الغالب تطلق على طرق الجباية والإنفاق، أما السياسة الاقتصادية فإنها تعني أوجه تنمية المال وطرق كسبه والمحافظة عليه مثل الادخار أو تأسيس الشركات وأنواع المعاملات، وهذه الطرق تختلف في الإسلام عنها في النظم الاشتراكية والنظم الرأسمالية.
وفي ختام هذا اللقاء أشكر للإخوان من الأساتذة والطلاب والموظفين حسن استجابتهم لهذا الاجتماع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
6- المحاضرات في الموسم الثقافي للعام 1399/1400هـ(20/351)
1- حفل الموسم الثقافي بكثير من المحاضرات التي نظمتها وحدة النشاط الثقافي بعمادة شؤون الطلاب، ومن الجديد في ذلك أنها جعلت جانبا من هذه المحاضرات للطلاب يلقونها تحت إشراف فضيلة الشيخ جبران أحمد صالح رائد جماعة المحاضرات والندرات بالجامعة، وذلك عقب صلاة المغرب بمسجد الجامعة من كل يوم أحد ومن الطلاب الذين أسهموا في هذه المحاضرات:
- الطالب سامي حلابة: ومحاضرته بعنوان من عوامل بناء الفراد المسلم.
- الطالب وائل محمد قبيسي: ومحاضرته بعنوان حاجة البشرية إلى الإسلام.
- الطالب محمد راشد أيوب: ومحاضرته بعنوان المسلمون في الهند.
- الطالب مصطفى الرحموني: ومحاضرته بعنوان تاريخ المسلمين في الأندلس.
2- وقد تميز الموسم الثقافي للجامعة بهذا العام بمشاركة كثير من الدعاة وأصحاب الفكر من خارج الجامعة فقد ألقيت فيه ثلاث عشرة محاضرة لكبار المفكرين والدعاة وأقيمت فيه أمسيتان شعريتان ومن أعلام الدعاة الذين شاركوا في هذه المحاضرات.
- الشيخ عبد المجيد الزنداني ألقى في 24/12/99 محاضرة موضوعها الإيمان الحق.
- الشيخ محمد عبد الله الصديق ألقى في 28/12/99 محاضرة عنوانها الاعتصام بالكتاب والسنة.
- الدكتور يوسف العالم ألقى في 29/12/99 محاضرة عنوانها مخطط التنصير في العالم الإسلامي وخاصة في أفريقيا.
- الدكتور جاد محمد رمضان ألقى في 30/ 1/1400 محاضرة عنوانها كيف نجا المسلمون من عاصفة المغول والتتار المدمرة؟.
- الشيخ عبد الفتاح عشماوي ألقى في 14/ 3/1400 محاضرة عنوانها أي رزق تريد؟ أم أختار لك؟.
- الأستاذ محمد قطب ألقى في 21/2/1400 محاضرة عنوانها طريق الدعوة إلى الله.
- الشيخ محمد الغزالي ألقى في 28/2/ 1400 محاضرة عنوانها عبر لا تنسى في نهاية القرن الرابع عشر.(20/352)
- الدكتور محمد علي البار ألقى في 11/ 4/ 1400 محاضرة عنوانها خلق الإنسان بين الطب والقرآن.
- الأستاذ أبو الحسن الندوي ألقى في 17/ 4/ 1400 محاضرة موضوعها حكمة الدعوة وصفات الدعاة.
- الدكتور ف عبد الرحيم ألقى في 2/ 5/ 1400 محاضرة عن الدخيل في اللغة العربية الحديثة.
- الأستاذ عمر عودة الخطيب ألقى في 23/ 5/ 1400 محاضرة في المسلمون وأبعاد التحديات.
- الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ألقى في 8/ 6/ 1400 محاضرة في رسالة الإسلام ومسئوليات الشباب.
- الشيخ محمد الراوي ألقى في 22/ 6/ 1400 محاضرة في وحدة المسلمين في مواجهة الأخطار سبيلها وغايتها.
وقد أقيمت الأمسية الشعرية الأولى في 16/ 5/1400 أسهم فيها بعض أساتذة الجامعة وطلابها.
وأقيمت الأمسية الشعرية الثانية في 15/ 6/ 1400 وقد أسهم فيها كبار شعراء المملكة.
7- من أخبار التعليم في الجامعة الإسلامية
1- كان المجلس الأعلى للجامعة قد وافق على إنشاء عمادة لشئون الطلاب وفي هذا العام تم تعيين فضيلة الشيخ علي الحذيفى وكيلا لهذه العمادة وتتكون هذه العمادة من الأجهزة الآتية:
1- مكتب عميد شئون الطلاب
2- مكتب وكيل عمادة شئون الطلاب
3- مكتب التخطيط والتنسيق والمتابعة
4- مكتب التوجيه والتوعية الإسلامية
5- مكتب التربية الرياضية والنشاط الكشفي والجوالة والمعسكرات.
6- مكتب النشاط الاجتماعي والثقافي
7- الإسكان والتغذية والنقل الطلابي
8- الشئون المالية والمستودعات
9- إدارة الإشراف والتوجيه الاجتماعي
10- دار الطلبة وتوزيع الكتب بجدة
وصدرت اللائحة التنفيذية بموافقة مجلس الجامعة في 10/6/1400هـ.
2- قبلت الجامعة العام الدراسي 99/1400 هـ 1250طالبا من جنسيات تبلغ أكثر من مائة جنسية.(20/353)
3- قامت لجنة المعادلات في الجامعة بمعادلة أكثر من أربعين شهادة دراسية من المعاهد والجامعات الأجنبية وتحديد المستوى الدراسي الذي يقبل فيه أصحاب هذه الشهادات في الجامعة الإسلامية.
4- أعدت الجامعة كتبا باللغة الإنجليزية لطلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية بحيث تشتمل على الموضوعات الإسلامية التي يحتاج إليها في دراستهم الإسلامية وسيبدأ تدريس هذه الكتب في العام القادم 1400/ 1401هـ.
5- وافق المجلس الأعلى للجامعة على إنشاء عمادة للقبول والتسجيل وقد تم تعيين الشيخ عبد الله علي أبو سيف وكيلا لهذه العمادة.
6- يبدأ قبول طلبات الراغبين للالتحاق بالجامعة ومعاهدها من أول شهر رجب 1400هـ وينتهي في 15 من شعبان 1400هـ وقد أذاعت الجامعة شروط القبول والأوراق المطلوب تقديمها لكل مرحلة دراسية فيها من المعاهد والدور والكليات.
مطابع الجامعة الإسلامية
1- أسست بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مطابع مزودة بأحدث الآلات والأجهزة، وقد افتتحها رسميا في 14 ربيع الأول عام 1400هـ صاحب السمو الملكي / الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز نيابة عن صاحب السمو الملكي / الأمير فهد بن عبد العزيز النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.
2- عين الأستاذ عبد الهادي حسن كابلي مديرا إداريا لهذه المطابع.
3- كما عين الأستاذ ماهل شديد الردادي مساعدا للمدير الإداري.
4- وعين المهندس محمد أحمد بكر مشرفا فنيا.
5- الأقسام التابعة لهذه المطابع سبعة:
أ – قسم الجمع الالكتروني (الصف)
ب – قسم التصوير
ج – قسم الرتوش والمونتاج
د – قسما الزنك
هـ - قسم الأوفست
و– قسم التجليد الآلي واليدوي
ز – قسم طباعة التيبو وحفر الاكليشهات
والعاملون بالمطبعة يبلغ عددهم أربعين من الفنيين.(20/354)
وقد بدأت المطابع بعد افتتاحها بهمة عالية في طبع (مجلة الجامعة الإسلامية) العدد الثاني من السنة الثانية عشرة، فضلا عن عديد من الرسائل والكتب العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراة لمن حصلوا عليها من طلاب الجامعة.
وإذ تشكر أسرة تحرير المجلة لكل العاملين بالمطابع جهودها المشكورة تسأل الله جل وعلا أن يسدد لهم الخطى، وأن يوفقهم إلى خدمة الإسلام والمسلمين.
(أسرة تحرير مجلة الجامعة)(20/355)
إنما الأعمال بالنيات
بقلم: أحمد محمد جمال
أستاذ الثقافة
بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
تارة نجلس إلى مأدبة الله في الأرض- وهي القرآن الكريم - وتارة أخرى نتأمل الأحكام والأخلاق في مدرسة النبوة ... مدرسة محمد سيدنا، وإمامنا، ومعلّمنا الأول والأمثل، صلى الله عليه وسلم.
ونبدأ بأهم درس في الإيمان وما يجب أن يتبعه من عمل صالح، وأساس ذلك وقاعدته ... وهي النية: أي ما يضمره المؤمن من هدف أو غرض عندما يعزم على أمر أو ينفذه من فوره ...
يروي الإمام البخاري- رحمه الله - في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ... فهجرته إلى ما هاجر إليه" [1] .
جاء هذا الحديث تعقيبا على قصة رجل هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لا رغبة في فضيلة الهجرة. وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس كان قد خطبها فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر من أجل ذلك. فكانوا يسمونه مهاجر أم قيس.
وقد أورد الإمام ابن حجر شارح الصحيح أقوالا لبعض العلماء عن أهمية هذا الحديث منها قول الإمام البخاري نفسه: "ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث".
واتفق – كما يقول ابن حجر- الشافعي وابن حنبل والمديني وأبو داود والترمذي والدارقطني على أن هذا الحديث ثلث الإسلام. وقال ابن مهدي إنه يدخل في ثلاثين بابا من العلم، وقال الشافعي: في سبعين بابا.(20/356)
وقد وجه البيهقي كون الحديث ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه. فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها. ومن ثمَّ ورد: "نية المؤمن خير من عمله" كما ورد في صحيح مسلم: "يبعثون على نياتهم"وحديث "جهاد ونية" وحديث: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وحديث: "رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته"وحديث: "من غزا لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى" [2] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" هذا التركيب - كما يرى الكرماني - يفيد الحصر عند المحققين فمعناه. كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية.
والنية - كما هو معروف من اللغة - هي القصد، أي عزيمة القلب، أو انبعاث القلب نحو ما يريده العبد من جلب نفع أو دفع مضرة.
قلت: إن القرآن الكريم يؤكد أهمية النية في العمل مثل قول الله عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} [3] ، وفي قوله أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [4] . ومفهوم الحديث: أن أعمال الإنسان تتبع نيته، وتصدر عنها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها …فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ويرى بعض العلماء: أن الأقوال كالأعمال تصدر عن نية القائل، والحديث يتناولها بأحكامه بدليل الآية القرآنية من سورة الأنعام: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} .
ويقول القرطبي: "قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما لكل امرئ ما نوى" فيه تحقيق لاشتراط النية، والإخلاص في الأعمال".
ومما قاله السمعاني - في أماليه -: "إن الأكل إذا نوى به آكله القوة على الطاعة يثاب عليه".(20/357)
والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه من غيره، وقد وقعت في الإسلام على وجهين الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمان كما حدث ذلك في الهجرة إلى الحبشة وابتداء الهجرة إلى المدينة، الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليها من استطاع من المسلمين بعد ذلك، إلى أن أتم الله نعمته بفتح مكة المكرمة، فلم تعد الهجرة مختصة بالمدينة، ولكن بقي عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وقوله "إلى دنيا يصيبها" عام في كل أمر من أمور الدنيا ثم جاء قوله: "أو امرأة ينكحها" زيادة في التحذير، لأن الافتتان بالنساء أشد، كما أن سبب الحديث هو قصة مهاجر أم قيس.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" فالمعنى أنه ليس له ثواب الهجرة إلى الله ورسوله، وإنما له ما أراد من الحصول على ما أحب من منفعة أو الابتعاد عما خاف من ضرر.
واختار الإمام الغزالي أنه إذا كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجِرَ بقدره، وإن تساويا - أي تردد القصد بين الأمرين - فلا أجر له.
ويرى بعض السلف - كما نقل الإمام الطبري -: أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره.
ويقول صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" [5] .
يقول العلامة ابن حجر في التعبير باللسان دون القول ما يدخل في ذلك الاستهزاء بإخراج اللسان، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح ما يدخل في ذلك الاستيلاء على حق الغير بأي وسيلة أخرى.(20/358)
والهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة؛ فالباطنة ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء، وما يوسوس به الشيطان أويزينه للإنسان من معصية وفسوق، والهجرة الظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المخاطبين بذلك نبهوا إلى أن لا يتكلوا على مجرد الهجرة من ديارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع فيهجروا ما حرم الله وما حرم رسوله.
ولعل في الحديث تطييبا لقلوب من لم يستطع الهجرة إلى المدينة، بأن حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه.
وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله يقول: "المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده".
ونعود إلى تأكيد أثر النية وأهميتها حيث نجد أن ابن حجر يقول ما خلاصته تعليقا على قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه، والاعتقاد فعل القلب، فقوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان، فالاستدلال بها في الإيمان واضح للاشتراك في المعنى إذ مدار الحقيقة فيهما على القلب.
ثم يضيف: أن فيه دليلا على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على أن الإيمان ينقص ويزيد.
ويرى النووي: أن في الآية دليلا على المذهب الصحيح، وهو أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" فمحمول على إذا لم تستقر [6] .(20/359)
وأورد البخاري في باب ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة قوله عز وجل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} من سورة الإسراء وقال: "أي على نيته"ثم أضاف الحديث: "نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة"، والحديث: "ولكن جهاد ونية". وفي رواية أخرى: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة". وفي ثالثة: "إنك لم تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيِ امرأتك".
والمراد بالحسبة والاحتساب: طلب الأجر والتماس المثوبة من عند الله عز وجل دون رياء ولا سمعة.
يقول ابن حجر - نقلا عن ابن المنير -: "إن ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا معنويا، والنية فيه شرط عقلي، وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن:
- الأول: التقرب إلى الله فرارا من الرياء.
- والثاني: التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود.
- والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان".
أما قوله عز وجل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فالشاكلة في الآية هي النية كما صح ذلك عن الحسن البصري وغيره وصح عن مجاهد أنها الطريقة، وهو الأكثر، وقيل: إنها الدين، وهي معاني متقاربة.(20/360)
وقد يعجب الإنسان كيف ينفق على أهله ما يجب عليه ثم يكون له ثواب على ذلك، وهنا يقول النووي - كما نقل عنه ابن حجر -: "إن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه لأن وضع اللقمة في فم زوجته يقع غالبا في حالة المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجد القصد إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله"، وأضاف ابن حجر: أن هناك ما هو أصرح من وضع اللقمة في فم الزوجة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "في بضع أحدكم صدقة" قالوا: "يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ " قال: "نعم أرأيتم لو وضعها في حرام؟ أليس عليه وزر فكذلك إذا وضعها في حلال فله أجر" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالصدقة في الحديث: ثوابها ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية، والأهل هم الزوجة والأولاد والأقارب، ويقول الطبري: "لا منافاة بين كون نفقة واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من الصدقة".
وقال المهلب: "إن النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وفيه ترغيب للإنفاق على الأهل والأقارب قبل التصدق على الأباعد " [7] .
وبعد: فنسأل الله التوفيق إلى أن تحسن نياتنا وتخلص أعالنا لله وحده..بلا رياء ولا سمعة، وأن يتقبلها بقبول حسن.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري ج1ص9.
[2] المصدر نفسه ج1ص11.
[3] سورة الإسراء آية 25.
[4] سورة الأنفال آية 70.
[5] صحيح البخاري ج1ص53.
[6] ص135.
[7] ملخص من ص498 ج9 من فتح الباري.(20/361)
الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة
بقلم عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
ابتدأت حركة إحياء السنة في شكلها القوي في أواخر القرن الثالث عشر وتنورت بأشعتها بلاد دهلي وبهار وبنكال وجنوب الهند وشمالها وبلاد السند وكجرات ودكن وسرحد وفنجاب بل تجاوزت إلى البلاد الإسلامية، فكانت مثل تلك الحركة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وقاد هذه الحركة العلمية والإصلاحية مجددا عصرهما الإمام النواب صديق حسن البوفالي والامام السيد نذير حسين المحدث الدهلوي. فخدم الأول علوم السنة بالتأليف والنشر وبذل الأموال الطائلة واحتضان العلم والعلماء بكل جد ونشاط وبكل جود وحماس، وخدم الثاني علوم السنة وإحيائها بتدريس الحديث مدة طويلة تستغرق اثنين وستين عاما، وكانت هذه المدرسة السلفية متأثرة بفكر الإمام إسماعيل الشهيد الواضح النير ومنهجه السلفي القويم الذي كان يهدف إلى دعوة الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح. وكان شعار أصحاب هذه المدرسة العمل بالحديث وعدم التقيد بالتقليد والاجتناب عن التصوف الشكلي.
وبجهود هذين الإمامين المتضافرة نشطت حركة إحياء السنة نشاطا كبيرا فكثر المعتنون بعلوم الكتاب والسنة وكثر دعاتها وكثرت المؤلفات في علوم السنة ونشرت كتب السنة بكثرة كاثرة، في عصر انقراض دولة المسلمين الذي بلغت حركة السنة فيه منتهى الضعف.
وقد اعترف الإمام العلامة رشيد رضا في سنة 1353هـ. بخدمات علماء السنة في الهند فقال في مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة:(20/362)
"وهذا كتاب مفتاح كنوز السنة الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة الإسلام أحد نفائس هذه الكتب التى وضعها أحد هؤلاء الأعلام وإنما وضعه لهم بإحدى لغاتهم وإن عالمنا الإسلامي لهو أحوج إليها من العالم الأوربي، فعسى أن تنتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة، قلَّ من يريده حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وذكرها ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر" [1] .
وقد سبق هذا الاعتراف والثناء العاطر في سنة 1347هـ، من العلامة المحقق عبد العزيز الخولي فهو يقول في مفتاح السنة تحت عنوان حال السنة في عصرنا الحاضر:
"ولا يوجد في الشعوب الإسلامية على كثرتها واختلاف أجناسها من وفَّى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد بينهم حفاظ للسنة دارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث، حرية في الفهم ونظر في الأسانيد".
وهذا كان منهج تدريس الحديث وتنقيد الروايات لكل من المحدث السيد نذير حسين الدهلوي والمحدث حسين بن محسن الأنصاري والنواب صديق حسن البوفالي، الذي كان يتجلى فيه روح الاجتهاد وحرية في الفهم ونظر في الأسانيد على المنهج السلفي الذي نرى في مؤلفات الشاه ولي الله الدهلوي والإمام الشوكاني، وإلى ذلك المنهج أشار الأستاذ الخولي فقال:(20/363)
"وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف فنبه شأنهم وعلا أمرهم وذاع صيتهم وتكونت جمعيات سلكت سبيلهم وعملت على نشر مبادئهم، فكان لها ذلك الأثر الصالح والسبق الواضح ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف في اللغتين العربية والفارسية وأشهرها حجة الله البالغة والسيد صديق حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة أيضا".
ثم يقول: "ومن حسناته طبع فتح الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر ونيل الأوطار للإمام الشوكاني وتفسير الحافظ ابن كثير مع تفسيره فتح البيان، طبعت هذه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة".
واستطرد قائلا: "وفي الهند طائفة الآن كبيرة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحدا من الفقهاء ولا المتكلمين، وهي طائفة المحدثين" [2] .
وقد أثنى العلامة محمد منير الدمشقي على علماء أهل الحديث في الهند في كتابه نموذج من الأعمال الخيرية ثناء عاطرا فقال:
"وهي نهضة عظيمة أثَّرت على باقي البلاد الإسلامية فاقتدى بها غالب البلاد الإسلامية في طبع كتب الحديث والتفسير" [3] .
كما اعترف الأستاذ الخولي بفضلهم فقال: "طبعوا كثيرا من كتبها النفيسة التي كانت تذهب بها الإهمال وتقضي عليها غير الزمان" [4] .(20/364)
وهذه الكتب التي قام بنشرها أهل الحديث هي: فتح الباري من مصر ومن الهند، وتفسير ابن كثير والسنن للدارمي، والتلخيص الحبير لابن حجر، وبلوغ المرام لابن حجر، والدراية في تخريج الهداية لابن حجر، والأدب المفرد للبخاري، والتاريخ الصغير له، وسبل السلام ومنتقى الأخبار، وشرح خمسين حديثا لابن رجب، وسنن الدارقطني مع التعليق المغني لشمس الحق العظين آبادي، واللآلي المصنوعة للسيوطي، وقيام الليل للمروزي، وذيل اللآلي، والمعجم الصغير للطبراني، والمقاصد الحسنة للسخاوي، والفوائد المجموعة للشوكاني، وغير ذلك من نفائس كتب الحديث والتفسير.
وقد اعترف بفضل حركة أهل الحديث في اعتناء الحنفية بالكتاب والسنة أحد كبار علماء الحنفية وهو العلامة مناظر أحسن الكيلاني من تلامذة العلامة محمد أنور الكشميري، فقال:
"ويعترف أن اعتناء أحناف شبه القارة الهندية بالنبعين الأساسيين للدين الكتاب والسنة فيه دخل كبير لحركة أهل الحديث ورفض التقليد، وإن لم يترك عامة الناس التقليد إلا أنه قد تحطم سحر التقليد الجامد والاعتماد الأعمى" [5] .
النواب صديق حسن البوفالي وأصحابه:
إن حركة نشر السنة والدعوة السلفية التي قادها البوفالي كان لها أثر بعيد في تاريخ إحياء السنة في الهند، و "كم له أياد بيضاء في خدمة العلم والعلماء وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول المتصنعون" [6] . وقد مر ذكر بعض حسناته في مجال نشر كتب السنة، ومن حسناته أنه قرر لغير واحد من العلماء والدعاة العاكفين على التأليف والدعوة والإرشاد رواتب شهرية تشجيعا لهم وتنويها بأعمالهم، فنشطت حركة التأليف والنشر في مواضيع العقيدة والسنة والدفاع عنهما.
ومن حسناته أنه دعا أسرة سلفية كريمة من اليمن، وجهود المحدث حسين بن محسن الأنصاري في نشر السنة ليست مخفية على أحد.(20/365)
تلقى النواب علم الكتاب والسنة عن علماء عصره على تلاميذ أسرة الشاه ولي الله الدهلوي أمثال العلامة المفتي صدر الدين الدهلوي، وأسند عن الشيخ محمد يعقوب الدهلوي صنو المحدث إسحاق الدهلوي، والمحدث عبد الحق البنارسي تلميذ الشوكاني، وقد أنعم الله عليه بزواجه مع الأميرة شاه جهان بيكم والية دولة بوفال فتولى رئاسة الدولة، ونشط للدعوة السلفية ولنشر السنة وإحيائها فكتب وألف كثيرا ورتب نظام المدارس ونوه بإعلان الجوائز للمشتغلين بالحديث حفظا ودراسة.
آثاره العلمية:
يعد النواب البوفالي من عظماء الإسلام الذين اشتهروا بكثرة مؤلفاتهم المتنوعة في مختلف العلوم والفنون كالإمام السيوطي بلغ عدد مؤلفاته 222 كتابا في العربية والأردية والفارسية، منها: تفسير فتح البيان بالعربية. وتفسير ترجمان القرآن بالأردية، أما مؤلفاته في علوم السنة فهي كثيرة أيضا منها:
1 - عون الباري في حل أدلة البخاري وهو شرح التجريد الصريح لصحيح البخاري للشيخ حسين بن مبارك في مجلدين.
2 - والسراج الوهاج في كشف مطالب مختصر صحيح مسلم بن الحجاج في مجلدين، وشرح الأحاديث الواردة في الصحيح بتبويب جديد، وحذف أسانيدها وتبويب الإمام النووي.
3 - فتح العلام شرح بلوغ المرام في 4 أجزاء، اختصره من البدر التمام للمغربي، وحذف مذهب الزيدية وذكر فيه فوائد حديثية أخرى. نسبة إلى ولده الشيخ نور الحسن.
4 - الروض الباسم بالأردية.
5 - ومسك الختام بالفارسية في شرح بلوغ المرام.
6 - الحطة بذكر الصحاح الستة؛ كتاب قيم في بابه.
7 - توفيق الباري في ترجمة الأدب المفرد للبخاري إلى الأردية. وله اتحاف النبلاء بإحياء مآثر المحدثين الفقهاء بالفارسية. والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول بالعربية. وأبجد العلوم فيه فصول تتعلق بعلم الحديث بالعربية.(20/366)
أما أصحابه الذين ساهموا معه في نشر السنة والثقافة الإسلامية فهم كثيرون والأخص بالذكر منهم:
- الإمام المحدث حسين بن محسن الأنصاري 1245- 1337 هـ تلقى العلم عن علماء اليمن وأسند الحديث عن العلامة السيد حسن بن عبد الباري والعلامة السيد سليمان بن محمد بن عبد الرحمن الأهدل وعن الشيخ أحمد بن الإمام الشوكاني. درس وأفاد باليمن إلى مدة ثم جاء إلى الهند عند أخيه العلامة زين العابدين قاضي بوفال، وبقي هناك مدة من الزمن. ثم دعاه النواب البوفالي في عصره فجاء مع أسرته وتوطن ببوفال، وانتشر صيته في الأفاق فبادر إليه طلبة العلم وأهله واستغرفوا من بحار علمه وقل من علماء الحديث في عصره إلا وأسند عنه أو استجاز منه، أمثال النواب البوفالي، والمحدث شمس الحق العظيم آبادي والمحدث وحيد الزمان والمحدث بديع الزمان، والمحدث عبد الرحمن المباركفوري وأمثالهم.
ومن آثاره العلمية تعليقات شتى على سنن النسائي. والتحفة المرضية في حل بعض المشكلات الحديثية. والبيان المكمل في تحقيق الشاذ والمعلل. وله فتاوى في جزءين باسم فتاوى نور العين وله رسائل وبحوث قيمة في علم السنة [7] .
ومنهم العلامة القاضي محمد بشير السهسواني صاحب صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان، تلميذ السيد نذير حسين الدهلوي، تولى رئاسة القسم الديني ببلدة بوفال.
ومنهم العلامة سلامت الله الجيراجفوري تلميذ السيد نذير حسين الدهلوي. تولى القضاء في الدولة.
ومن علماء أسرة النواب البوفالي:
- صنوه الكبير العلامة المحدث أحمد بن حسن العرشى (1246- 1277 هـ) الذي قصر همته على نشر السنة والسلفية ومن آثاره: الشهاب الثاقب في مبحث الاجتهاد والتقليد.(20/367)
- وولده: العلامة نور الحسن بن صديق حسن (1278ـ 1330 هـ) تخرج على أبيه وعلى العلماء الموجودين في الدولة، كان له اشتغال بعلوم السنة والتفسير، نسب إليه النواب بعض مؤلفاته كفتح العلام وكتاب الغنة، ومن مؤلفاته: الجوائز والصلات من جمع الأسامي والصفات، ومنتخب عمل اليوم والليلة لابن السني. ومنتخب مشارق الأنوار.
مدرسة المحدث السيد نذير حسين الدهلوى (1220 هـ - 1320 هـ)
ازدهرت حركة السنة ازدهارا عجيبا بجهود المحدث السيد نذير حسين الدهلوي فانتشر تلاميذه في أقطار الهند وقصروا همتهم على نشر السنة وإحيائها بالتدريس والتأليف والدعوة والإرشاد.
ولد السيد نذير حسين ونشأ بقرية سورج كره من أعمال مونكير من ولاية بهار ورحل لطلب العلم إلى البلاد؛ قرأ على أساتذة عظيم آباد بتنه، والتقى هناك بزعماء حركة الجهاد الإمامين الشهيدين السيد أحمد بن عرفان والشاه إسماعيل الدهلوي. ثم رحل إلى دهلي وتتلمذ على أساتذتها، ولازم المحدث إسحاق الدهلوي ثلاثة عشر عاما وتشبع بعلومه واستغرف من بحار علمه وفاق أقرانه في العلم والفضل، فاستخلفه الشيخ محمد إسحاق مسنده عند هجرته إلى مكة المكرمة سنة 1258 هـ فعكف على هذا المسند الشريف للدرس والإفادة ولقب بميان صاحب، لقب علماء أسرة الشاه ولي الله الدهلوي ثم اشتهر بشيخ الكل في الكل. وأعطته الحكومة وسام "شمس العلماء" اعترافا بعلمه وفضله ونبوغه في العلوم والفنون.(20/368)
يقول فيه تلميذه الشيخ عبد الحي الحسني: "أجازه الشيخ المذكور أي الشيخ محمد إسحاق …فتصدر للتدريس والتذكير والإفتاء. ودرس الكتب الدراسية من كل علم وفن. لا سيما الفقه والأصول إلى سنة سبعين ومائتين وألف. وكان له ذوق سليم في الفقه الحنفي ثم غلب عليه حب القرآن والحديث فترك اشتغاله بما سواهما إلا الفقه… ونفع الله بعلومه خلقا كثيرا من أهل العرب والعجم وانتهت إليه رئاسة الحديث في بلاد الهند. أما تلامذته فعلى طبقات: فمنهم العالمون الناقدون المعروفون فلعلهم يبلغون إلى ألف نسمة. ومنهم المقاربون بالطبقة الأولى في بعض الأوصاف. ومنهم من يلي الطبقة الثانية وأهل هاتين الطبقتين يبلغون إلى الآلاف [8] .
وقال المحدث حسين بن محسن الأنصاري: "إنه فرد زمانه ومسند وقته وأوانه ومن أجل علماء العصر بل لا ثاني له في إقليم الهند في علمه وحلمه وتقواه وإنه من الهادين والمرشدين إلى العلم بالكتاب والسنة والمعلمين لهما. بل أجل علماء هذا العصر المحققين في أرض الهند أكثرهم من تلامذته، وعقيدته موافقة لعقيدة السلف الموافقة للكتاب والسنة" [9] .
وأذكر هنا بعض من اشتهر منهم في خدمة السنة والسلفية بالإيجاز؛ وقد برز منهم في صناعة الحديث المحدث شمس الحق العظيم آبادي والمحدث عبد الرحمن المباركفوري وطار صيتهما في الآفاق وسار بتصانيفهما الركبان ولذلك نفصل الكلام فيهما بعض التفصيل.
مؤلفاته:
وقبل أن نشير إلى بعض مؤلفاته، فإن الله خلقه لتدريس علوم السنة فلم يلتفت إلى الكتابة إلا قليلا، ورتب بعض تلاميذه فتاواه في جزءين كبيرين باسم "الفتاوى النذيرية"ولو رتبت أبحاثه وفتاواه كلها لكانت في مجلدات ضخام، وله كتاب جليل في مباحث الاجتهاد والتقليد "معيار الحق"وقد ذكر مؤلف "الحياة بعد الممات"سبعة وثلاثين بحثا أو كتابا له.
تلاميذه:(20/369)
الإمام المصلح المحدث العارف بالله عبد الله الغزنوي (1230- 1298هـ) من كبار دعاة السنة وعلمائها المولعين بالعمل بها ونشرها وإحيائها، أوذي في سبيل الله؛ فأخرج من موطنه غزنة، تخرج على السيد نذير حسين واشتغل بالدرس والإفادة ونشر السنة وإحيائها ودحض البدع والخرافات في ولاية فنجاب نفع الله به خلقا كثيرا لا يأتي عليه الإحصاء ورزقه الله أولادا صالحين اشتهروا بعلمهم وفضلهم ودعوتهم إلى الله، والأخص بالذكر منهم الإمام عبد الجبار الغزنوي تلميذ السيد نذير حسين الدهلوي الذي قضى حياته في نشر السنة والسلفية.
والأسرة الغزنوية والمدرسة الغزنوية قد اكتسبت شهرة عظيمة في الأوساط الدينية والعلمية لخدماتها العلمية والدينية [10] .
والشيخ المحدث بديع الزمان بن مسيح الزمان اللكنوي الحيدر آبادي (1250 ـ 1304هـ) اشتغل بالتأليف والتصنيف ونقل السنن إلى اللغة الأردية، فمن آثاره: ترجمة وشرح لجامع الترمذي في مجلدين ولم يتمه فأتمه صنوه المحدث وحيد الزمان، وترجمة ابن ماجه ولم يتمه [11] .
وصنوه المحدث وحيد الزمان اللكنوي (1267 ـ 1338هـ) من مشاهير الهند وكبار تلامذة السيد نذير حسين، قضى حياته في نشر السنة النبوية، وله منة عظيمة على أهل الهند حيث قام بترجمة وشرح كتب السنة إلى الأردية، وقد نشرت هذه الشروح والتراجم في عصره ثم تتابعت طبعاته إلى وقتنا الحاضر، ومن آثار العلمية: شروح وتراجم الكتب الستة؛ صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ومشكاة المصابيح وموطأ مالك، وله أحسن الفوائد في تخريج أحاديث شرح العقائد. وإشراق الأبصار في تخريج أحاديث الأنوار، ووحيد اللغات في غريب الحديث ومفرداته؛ وله تفسير القرآن المسمى بالتفسير الوحيدي بالأردية. وتبويب القرآن لضبط مضامين القرآن، وإصلاح الهداية في فقه الحديث وله غير ذلك [12] .(20/370)
الشيخ المحدث أمير حسن (1243- 1291) وابنه المحدث أمير أحمد (1260 - 1306هـ) من كبار علماء السنة أسندا عن السيد نذير حسين واشتغلا بنشر السنة والدفاع عن حركة المجاهدين.
والشيخ الداعية المحدث الحافظ محمد بن بارك الله اللكهوي (1221- 1311هـ) من أجل تلامذة السيد نذير حسين وأحد العلماء السلفيين المشهورين بالفضل والكمال؛ له مواقف محمودة في نشر الكتاب والسنة، في بلاد فنجاب وبمجهوده وجهود تلاميذه نشطت الحركة السلفية في هذه المنطقة، وله مؤلفات ممتعة ورسائل نافعة في السنة والتوحيد وله تفسير مشهور منظوم باللغة الفنجابية، وله تعليقات على بعض المواضع من سنن أبي داود [13] .
والشيخ عبد الوهاب الملتاني الدهلوي (1280- 1315هـ) أحد العلماء المشهورين تخرج على السيد نذير حسين والشيخ منصور الرحمن تلميذ الإمام الشوكاني: قضى حياته في الدرس والإفادة والتأليف نحو ستين سنة بدهلي. وله مؤلفات ورسائل كثيرة معظمها في الفروع والمسائل الخلافية، وقد اختار فيها موقفا غير ملائم ولشدته وتعنته في هذه المسائل وتركيزه عليها نشأت هناك طائفة كبيرة قد انتهجوا هذا المنهج في هذه الأمور وتسببوا في إساءة الدعوة السلفية. بحيث صارت هذه المسائل الخلافية موضع البحث والمناقشة ومقياس الدين والسلفية ولا تزال آثارها السيئة باقية إلى الآن، والسلفية براء من هذا التنطع والجدل والمناقشة الكلامية. وله تعليقات على مشكاة المصابيح، وعون المعبود [14] .
الشيخ المحدث أبو عبد الرحمن محمد الفنجابى (1315 هـ) كان من جماعة السيخ فهداه الله إلى قبول الإسلام على يد الإمام عبد المنان المحدث الوزير آبادي فلازمه وأخذ عنه ثم وصل إلى دهلي وأسند عن المحدث نذير حسين ثم اشتغل بتصحيح نسخة النسائي وعلق عليه حاشية جديدة، أسماها الحواشي الجديدة، وبلغ إلى كتاب عشرة النساء فوافته المنية سنة 1315 هـ، فأكملها الشيخ أبو يحيى الشاه جهانفوري.(20/371)
المحدث محمد بن هاشم السورتي السامرودي (1256- 1315هـ) أحد العلماء المفلقين في العلوم الأدبية وعلوم القرآن والحديث والفقه، أسند عن المحدث حسين بن محسن الأنصاري والشيخ منصور الرحمن تلميذ الشوكاني والسيد نذير حسين المحدث، قضى حياته في التدريس والتأليف، ومن مؤلفات: ترجمة صحيح البخاري إلى الأردية سبعة أجزاء.
الشيخ أبو النصر عبد الغفار نشتر المهدانوي (م 1315 هـ) أَسند عن المحدث السيد ندير حسين وتصدى للدرس والإفادة والتأليف. ومن مؤلفاته ترجمة الأدب المفرد للبخاري إلى الأردية أسماها "سليقه".
والعلامة المحدث الحافظ أبو محمد إبراهيم بن العلى الآروى (1264- 1319 هـ) من أخص تلامذة السيد ندير حسين وأحد أركان الدعوة السلفية، وهو أول من فكر من علماء الهند لإصلاح المنهج التعليمي السائد في مدارس الهند. وأسس على فكرته المدرسة الأحمدية بآره سنة 1398 هـ وصارت المدرسة أكبر مركز للدعوة السلفية، وكان يعقد المجالس العلمية تحت إشراف المدرسة كل سنة باسم مجلس المذاكرة العلمية، تدرس فيها موضوعات علمية خاصة. ولا تزال المدرسة الأحمدية تؤدي دورها القيادي في مجال التعليم ببلدة دربهكه من ولاية بهار؛ ومن آثاره العلمية: طريقة النجاة في ترجمة الأحاديث من الفصل الأول من المشكاة؛ في أربعة أجزاء. وله غير ذلك من المؤلفات. هاجر في آخر عمره إلى الحجاز فأخذ عنه علماؤها: وبطريقه انتشر سند السيد نذير حسين الدهلوي في الحجاز كما انتشر سنده بطريق بعض تلاميذه أمثال سعد بن عتيق في بلاد نجد والححاز [15] .(20/372)
المحدث محمد سعيد البنارسي (1374- 1322 هـ) من كبار تلامذة السيد نذير حسين الدهلوي وأحد دعاة السنة والتوحيد. ولد ونشأ في بيت هندوكي وثنِيّ، فهداه الله إلى الإسلام فأسلم ودرس بدار العلوم (ديوبند) ثم فصل منها لعدم تقيده بالمذهب الحنفي الذي هو مذهب الدار، ثم رحل إلى دهلي ولازم السيد نذير حسين وتشبع بعلومه ثم اشتغل بالدرس والإفادة في المدرسة الأحمدية بأره وأسس المدرسة السعيدية ببنارس. ودرس بها إلى وفاته مع اشتغاله بالتأليف والتصنيف، تخرج عليه خلق كثير من شمال الهند وبهار ونبكَال وله مؤلفات ورسائل كثيرة أكثرها ردود عنيفة على متعصبي المذهب والمقلدة الجامدين؛ وله فتاوى في جزءين؛ وقد رزقه الله أولادا صالحين منهم [16] :
المحدث محمد أبو القاسم البنارسي: الذي تخرج عليه وعلى السيد نذير الدهلوي وعلى المحدث عبد الرحمن المباركفوي، اشتغل بتدريس الحديث فدرس صحيح البخاري أربعين مرة، وألف مؤلفات قيمة في الرد على من خالف السنة والطريقة السلفية. وكان له اطلاع واسع في علم الحديث مع تساهله في الاستدلال بالأحاديث الواهية، ومن مؤلفاته: الكوثر الجاري في حل مشكلات البخاري؛ وسواء الطريق في تاريخ أهل الحديث؛ وحصول المرام في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ والأسف أن المسائل الخلافية جرته إلى ميدان الجدل والمناقشة والمناظرة فلم يستطع أن يقوم بعمل كبير في خدمة السنة كما كان يتوقع منه ويرجى من علمه [17] .(20/373)
والمحدث أبو الحسن السيالكوتي (م 1325 هـ) ، كان له نصيب وافر في خدمة السنة النبوية، اشتغل بالدرس والتأليف. ومن آثاره: فيض الباري في شرح وترجمة صحيح البخاري بالأردية وترجمة مشكاة المصابيح إلى الأردية، وترجمة الجزء الخامس والسادس من كتاب تيسير الوصول, والإكمال في ترجمة أسماء الرجال، والكلام المبين في رد تلبيسات المقلدين, رد فيه على الفتح المبين للعلامة عبد الحي اللكنوي, وفيض الستار في ترجمة كتاب الآثار للإمام محمد إلى الأردية, والظفر المبين في الرد على مغالطات المقلدين الجزء الثاني.
والشيخ المحقق أبو يحيى محمد بن كفايت الله (م 1342 هـ) من كبار أهل الحديث، اشتغل بالدرس والتأليف, ومن آثاره: الإرشاد إلى سبيل الرشاد بالأردية, كتاب جليل في الرد على التقليد, وفي الحث على اتباع الكتاب والسنة, وله تكملة الحواشي الجديدة للشيخ أبي عبد الرحمن محمد الفنجاني تلميذ السيد نذير حسين الدهلوي.
العلامة المحقق المحدث الشيخ محمد بشير بن بدر الدين الفاروقي السهسواني (1250- 1326هـ) من كبار تلاميذ السيد نذير حسين وأحد نوابغ عصره علم المعقول والمنقول. قرأ على بعض أفاضل فرنكى محل، وأخذ الحديث عن السيد نذير حسين في دهلي، واستجاز من المحدث اليماني، درس وأفاد في المدارس الهندية وتولى رئاسة المدارس في بوفال.
ومن مؤلفاته الشهيرة: صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان والكتاب رد على جميع القبوريين والمبتدعين خلفا وسلفا.
وله ردود عنيفة على الشيخ عبد الحي في مسئلة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وله البرهان العجاب في مسئلة فرضية أم الكتاب وله غير ذلك من الكتب القيمة المفيدة.(20/374)
والعلامة المحقق المحدث الكبير أبو الطيب محمد شمس الحق بن أمير علي العظيم آبادي (1273- 1219 هـ) من كبار محدثي الهند الذين قادوا حركة السنة والسلفية، وأحد نوابغ العصر ممن يشار إليه بالبنان. تلقى العلوم على أساتذة عصره في بلدته وفي لكناؤ ومراد آباد ودهلي. رحل إلى دهلي ولازم السيد نذير حسين المحدث الدهلوي، ثم رجع إلى موطنه سنة 1302 هـ. ثم قصد إليه مرة ثانية ولازمه ثلاث سنوات. قرأ عليه الكتب الستة والموطأ والدارمي والدارقطني وتفسير الجلالين بكل روية وتدبر، كما استفاد من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري وأسند عنه. ورجع إلى موطنه ديانوان، وعكف عن الدرس والإفادة والتأليف، وقد وهبه الله ملكة راسخة في علوم الكتاب والسنة، وكان مشغوفا بجمع الكتب النادرة القيمة في علوم السنة ونحوها بعد التعليق عليها. وأنفق فيها مالا كثيرا، وله منة عظيمة على أهل العلم وخاصة على طلبة الحديث.
آثاره:
كانت جهوده مرتكزة في خدمة السنة النبوية فمعظم مؤلفاته في السنة منها:
1- غاية المقصود في حل سنن أبي داود: وهذا شرح واسع على السنن لم يطبع منه إلا الجزء الأول فقط قبل سنة 1205هـ، وتوجد النسخة الخطية منه بمكتبة خدا بخش، بتنه (الهند) في ثلاثة مجلدات، تنتهي إلى أول كتاب الصلاة، وقد وصل المؤلف في شرحه هذا الكتاب إلى باب في الدعاء للميت إذا وضع في قبره، ولم يمهله الأجل المحتوم لإكماله، وأما ما قال البعض أن غاية المقصود قد أتمه المؤلف في اثنين وثلاثين جزءا فلا يصح. وإنما كان التقدير أن ينتهي الشرح في اثنين وثلاثين جزءا ولكن ما قدر الله اتمامه.
ويمتاز هذا الشرح العظيم بميزات وخصائص نذكر منها بعضها فيما يلي:
كتب المؤلف في أول الجزء المطبوع مقدمة نفيسة تستغرق ثماني عشرة صفحة على القطع الكبير ذكر فيها فوائد شتى تتعلق بالسنن ومؤلفه الإمام أبي داود.(20/375)
ثم بسط الكلام في شرح الأحاديث واعتنى بحل مشكلات الحديث وشرح غريبه اعتناء تاما وذكر المسائل الفقهية المستنبطة عنه مع بيان اختلاف المجتهدين وحججهم وتعيين القول الراجح عند المؤلف، وقد تجرد فيه تماما عن التعصب الطائفي فرجح من الأقوال والآراء ما استبان له صوابه واعتضده الدليل.
وكذا ترجم لكل راو في أول موضع جاء ذكره فيه، مع بيان اسمه وكنيته ونسبته ولقبه وقد يكون في إسناد الحديث أو متنه اضطراب فيوضحه ويشرح مراد الإمام أبي داود بقوله، واعتنى بتخريج كل حديث من السنن في آخر شرحه للحديث مع بيان الصحيح والضعيف منه وذكر وجوه التوفيق بين الروايات التي تبدو بادي الرأي مختلفة أو متباينة، وقد أخذ في كثير من المواضع على الأخطاء التي صدرت من شراح السنن وغيرهم وذكر ما هو الصواب. وأخيرا يسوق المؤلف في شرحه جملة من الروايات التي تتعلق بالباب مع ذكر من خرجها من الأئمة مع التمييز بين الصحيح منها والضعيف.
2- عون المعبود على سنن أبي داود: يقع هذا الشرح في أربعة مجلدات ضخمة طبعت بدهلي (الهند) بين 1318-1323هـ وتوجد نسخة خطية ناقصة منه في مجلدين ضخمين بمكتبة خدا بخش خان (بتنه) .
وقد اشتهر المحدث شمس الحق العظيم آبادي بتأليفه هذا الشرح، إلا أن المجلد الأول منه في الطبعة الأولى قد نشر باسم أخيه الشيخ شرف الحق محمد أشرف العظيم آبادي، والحقيقة أن هذا الشرح من تأليف المحدث شمس الحق وإنما استعان بأخيه وغيره من العلماء أثناء التأليف وهم المحدث عبد الرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي، والشيخ أبو عبد الله إدريس بن أبي الطيب الديانوي، وخال المؤلف الشيخ الحاج عبد الجبار بن الشيخ العالم نور أحمد الديانوي والشيخ القاضي يوسف حسين خان الهزاروي والشيخ محمد الشاه جهانفوري.(20/376)
وسبب تأليفه هذا الشرح أنه لما كان يؤلف شرحه الكبير على سنن أبي داود المسمى بغاية المقصود شعر أنه يطول إلى ما لا نهاية له وأن هذا العمل يمكن أن لا يتم في حياته، فشرع في تأليف مختصر ينفع العلماء والطلاب ويعينهم في فهم معاني الأحاديث، وها هو عون المعبود أكمله في سبع سنين.
وهذا الكتاب لا يوجد له مثيل في شروح السنن "وكل من جاء بعده من شيوخ الهند وغيره استمد من شرحه". كما قال الشيخ محمد منير الدمشقي [18] .
أما ميزات هذا الشرح فهي نفس خصائص شرحه الكبير غاية المقصود، إلا أن المؤلف سلك فيه مسلك الاختصار ولم يبسط القول في المسائل الخلافية مثل ما بسط في غاية المقصود إلا في بعض المسائل مثل بحث الجمعة في القرى وعدد تكبيرات العيدين ومسئلة التطليقات الثلاث، والصلاة على الميت الغائب، وتعليم الكتابة للنساء وحديث المجدد والتجديد وتحقيق معناه، وشرح حديث أمارات الساعة وتحقيق ما هو الحق في محمد بن اسحاق صاحب المغازي.
وأكبر ميزة لعون المعبود أن المصنف بالغ في تصحيح متن السنن ومقابلته بالنسخ الموجودة بحيث صار المتن المطبوع مع العون أصح متن للسنن.
3- والتعليق المغني على سنن الدارقطني في جزءين، طبعه المؤلف على نفقته لأول مرة في الهند.
4- غنية الألمعي بحث عن عدة مسائل في الحديث.
5- النجم الوهاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج.
6- المكتوب اللطيف إلى المحدث الشريف..كتبه إلى شيخه المحدث السيد نذير حسين الدهلوي في كون الإجازة العامة معتبرة. وسبب ذلك أنه اعترض بعض الحنفية على اعتبار هذه الإجازة.
7- هدية اللوذعي بنكات الترمذي.
8- تعليق على إسعاف المبطا برجال الموطأ للسيوطي.
9- نهاية الرسوخ في معجم الشيوخ.
10- فضل الباري في شرح ثلاثيات البخاري.
11- النور اللامع في أخبار الصلاة يوم الجمعة على النبي الشافع.(20/377)
12- تحفة المتهجدين الأبرار في أخبار صلاة الوتر وقيام رمضان عن النبي المختار.
13- إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر.
14- القول المحقق في تحقيق إخصاء البهائم.
15- التحقيقات العلى بإثبات فرضية الجمعة في القرى.
16- تنقيح المسائل (مجموع الفتاوى له)
وله غير ذلك من الرسائل والمؤلفات في اللغة الفارسية والأردية [19] .
والعلامة المحدث الحافظ عبد المنان بن شرف الدين الوزير آبادي (1207-1334هـ) من أجل تلامذة المحدث السيد نذير حسين، ومن كبار أساتذة الحديث في عصره، تصدر لتدريس علوم السنة في فنجاب فأقبل عليه طلاب العلم إقبالا عظيما من أطراف الهند وخارجها، وتخرج عليه علماء كبار وانتشر تلاميذه في الهند ونشروا السنة النبوية، درس الكتب الستة أكثر من خمس وثلاثين سنة، ولم يبلغ أحد في كثرة الدرس والإفادة ولم يقاربه من تلاميذ السيد نذير حسين. ومن أشهر تلاميذه العلامة أبو الوفاء ثناء الله الأمرتسري، والعلامة محمد إبراهيم مير السيالكوتي. والمحدث عنايت علي الوزير آبادي، والمحدث محمد إسماعيل السلفي [20] .
والعلامة المحدث عبد العزيز الرحيم آبادي (1270- 1236 هـ) من كبار علماء أهل الحديث أحد أركان حركة المجاهدين. اشتغل بالدرس والإفادة والوعظ والتذكير. تولى إدارة المدرسة الأحمدية بأره بعد االشيخ إبراهيم الآروى، وأنشئت جمعية أهل الحديث الهندية في سنة 1906 م على فكرته. وله مواقف محمودة في نشر السنة والسلفية؛ وله بعض المؤلفات القيمة، منها: سواء الطريق في أربعة أجزاء؛ جمع فيه أحاديث صحيحة ونقلها إلى الأردية مع التعليق عليها تعليقا موجزا، وله حسن البيان فيما في سيرة النعمان للعلامة شبلى النعماني، دافع فيه عن المحدثين وموقفهم من السنة، وهداية المعتدي في قراءة المقتدي، أَلفه بأمر شيخه السيد نذير حسين.(20/378)
وكانت همته متوجهة إلى قيادة التنظيم السري للمجاهدين في ولاية بهار؛ فكان يجمع التبرعات ويرسل المعنويات المادية إلى ولاية سرحد لتجهيز المجاهدين الذين كانوا بقية السيف لحركة الشهيدين الجهادية؛ قضى حياته في تنظيم الجهاد وتحرير الهند من برائن الاستعمار البريطاني [21] .
والعلامة المحقق الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم الغازيفوري: (1260- 1337 هـ) أحد أركان النهضة السلفية في الهند. ومن كبار الأساتذة. تصدر للدرسم والإفادة في مدارس الهند في غازيفور وآره ودهلي. وتولى رئاسة المدرسة الأحمدية بآره؛ وكانت حلقة درسه أكبر حلقة بعد شيخه الدهلوي. تخرج عليه خلق أمثال المحدث عبد السلام المباركفوري، والمحدث عبد الرحمن المباركفوري، والعلامة أبو المكارم محمد علي المئوي، والمحدث محمد سعيد البنارسي والعلامة محمد داود الغزنوي وآخرون.
وله شرح على مقدمة صحيح مسلم أسماه البحر المواج. وتوجد نسخة خطية منه بمكتبة خدا بخش حان في بتنه (الهند) ، وله فتاوى في مجلد ضخم. وله مسائل أخرى في المسائل الخلافية [22] .
والشيخ السيد أحمد حسن الدهلوي: (1258-1338هـ) أحد كبار علماء السنة المولعين بنشر علوم الكتاب والسنة اشتغل بالتأليف والتصنيف، ومن مؤلفاته: تفسير أحسن الفوائد، وتفسير أحسن التفاسير، وحاشية على بلوغ المرام، وتنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة في أربعة أجزاء، وتخريج مسند الإمام أحمد بن حنبل ولم يتمه [23] .(20/379)
العلامة الشيخ أبو سعيد محمد حسين البتالوي: (1256ـ 1338 هـ) من أجل تلامذة السيد نذير حسين الدهلوي وأحد نوابغ عصره، قضى حياته في الدفاع عن الإسلام وإحياء السنة والسلفية وهو أول من تنبه لفتنة القاديانية وعكف على ردها وإبطالها، وكانت لمجلته "إشاعة السنة"مواقف محمودة في إحياء حركة السنة والسلفية، وله مؤلفات كثيرة منها: تعليقات شتى على كتاب الصلاة والمغازي والتفسير من صحيح البخاري، وتعليقات شتى على النصف الأول من مشكاة المصابيح، وله منح الباري في ترجمة صحيح البخاري [24] .
العلامة السيد عبد العزيز الحسيني الصمدني: (م 1341هـ) من أخص تلامذة السيد نذير حسين، أسند عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري واشتغل بالتأليف والتصنيف، وله مؤلفات كثيرة، منها:
عزيز المحدثين في تخريج أحاديث، رسالة هدية الأئمة، ورسالة في الموضوعات وشرح أسماء الرجال.
الشيخ فقير الله بن فتح المدراسي: (م 1341هـ) من مشاهير علماء الحديث الذين لهم فضل عظيم في نشر الطريقة السلفية في أرجاء الهند، وله جهود طيبة في نشر السنة في مناطق مدراس، وله رسائل ومؤلفات، منها: الموعظة الحسنة في خطبة الجمعة بكل لسان من الألسنة.
العلامة المحدث عبد السلام المباركفوري: (م 1342 هـ) من كبار الدعاة إلى السنة والسلفية، أسند عن السيد نذير حسين وعن المحدث حسين بن محسن الأنصاري، تولى مسند التدريس في مدرسة صادقفور السلفية، ورحل إلى بلاد الهند وأنشأ هناك مدارس، وتصدر للتدريس في المدرسة الرحمانية بدهلي.
ومن أهم مؤلفاته: سيرة البخاري في الأردية وهو كتاب قيم نادر في بابه [25] .(20/380)
الشيخ المحدث عبد الحكيم النصير آبادي: أحد العلماء السلفيين المشتغلين بعلوم السنة، تخرج على السيد نذير حسين واشتغل بالتأليف، من آثاره القيمة: تبويب فقهي لمسند الإمام أحمد بن حنبل، بدأت جمعية أهل الحديث الهندية بطبع هذا الكتاب مع شرح وتعليق المحدث أبي سعيد شرف الدين وتخريج المحدث أحمد حسن، ولكن توقف نشره بعد طبع ست وخمسين صفحة.
والعلامة المحدث أبو تراب رشد الله شاه بن العلامة رشيد الدين شاه: (م 1340هـ) من كبار العلماء المحققين ومن أجل تلامذة الدهلوي، وله دور بارز في نشر السنة والعقيدة السلفية في بلاد السند، وهو أول من أسس مدرسة سلفية في بلدته وأدخل الكتب الستة في المنهج الدراسي وصنف كتبا عديدة في التوحيد والسنة ورد الشرك والبدعة، منها: كشف الأستار عن رجال معاني الآثار وهو تلخيص معاني الأخبار من رجال معاني الآثار للعيني في ثلاثة أجزاء [26] .
والشيخ المحدث الحافظ عبد الجبار بن الشيخ منشى بدر الدين العمر فوري ثم الدهلوي: (1277-1344) أحد كبار علماء السنة المولعين بنشرها وإحيائها، لازم السيد حسين نذير وأسند عنه ثم اشتغل بالدرس والتأليف والوعظ والتذكير في عدة أماكن، ولهمواقف محمودة في الرد على منكر السنة عبد الله الجكرالوي الذي جاء بهذه الفكرة الخبيثة، وكان شاعرا وأديبا في العربية، تولى إدارة التحرير لمجلة ضياء السنة ببلدة كلكتا، وله مؤلفات قيمة، منها: صمصام التوحيد في رد التقليد وتذكير الإخوان في خطبة الجمعة بكل لسان، وتخرج عليه علماء كبار منهم ولده المجاهد الحافظ عبد الستار حسن العمر فوري والمحقق الأديب عبد العزيز الميمني والشيخ عبد الجبار الكهند يلوي [27] .(20/381)
والشيخ المحدث العلامة أبو المكارم محمد علي بن العلامة فيض الله المئوي: (1276-1352هـ) أحد كبار علماء الهند والمتضلعين من علوم الكتاب والسنة تلمذ على أساتذة عصره وأسند عن المحدث السيد نذير وبذل جهوده لنشر السنة وإحيائها ونشر العقيدة السلفية والدفاع عنها، وألف رسائل ومؤلفات أكثرها ردود على مخالفي السنة.
والمحدث الكبير العلامة أبو العلى عبد الرحمن بن الحافظ عبد الرحيم المباركفوري: (م 1353هـ) من مشاهير عصره وأحد كبار محدثي الهند، طار صيته في الآفاق، كان له ملكة راسخة في علوم الشريعة قرأ العلوم على أساتذة عصره ثم لازم الحافظ الغاز يفوري وأخذ عنه العلوم المتداولة، ولازم السيد نذير حسين الدهلوي وتشبع بعلومه وأسند عنه كما أخذ عن المحدث حسين بن محسن الأنصاري اليماني واستفاد من المحدث شمس الحق العظيم آبادي حينما كان عنده في أثناء تأليف عون المعبود تصدر للدرس والإفادة بقريته مباركفور وأنشأ هناك مدرسة دار التعليم كما أنشأ مدارس سلفية في بعض مدن الهند وقراها، ودرس وأفاد بها إلى مدة ثم اختار الانقطاع للتأليف والتصنيف، وقد نشطت بجهوده حركة السنة نشاطا كبيرا.
تلامذته:
في هذه المدة التي تحتوي ثلث عمره في التعليم والتدريس والإفادة انتفع به خلق كثير أشهرهم: المحدث عبد السلام المباركفوري ونجله المحدث عبيد الله الرحماني حفظه الله وأطال الله بقاءه، الذي استعان به المؤلف في شرحه على الترمذي، والعلامة نذير أحمد الأملوي، والشيخ عبد الصمد المباركفوري، والشيخ محمد إسحاق الآروي، والعلامة الدكتور تقي الدين الهلالي المغربي حفظه الله.
مؤلفاته:
قضى قسطا كبيرا من حياته في التأليف والتصنيف وأعظم كتبه كتابه العظيم:
1- تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي في أربعة مجلدات. والشرح يمتاز من بين شروح الجامع بمميزات وخصائص منها:(20/382)
أن المؤلف ذكر ترجمة كل راو من رواة الجامع بقدر الحاجة والضرورة وأسهب ترجمة بعضهم في بعض المواضع حسب المقام.
وخرج الأحاديث الواردة في الكتاب وبذل غاية جهده في إيضاح مشكلات الأسانيد والمتون وحلها، وذكر الأقوال المعتبرة والمباحث المعتمدة عند الفقهاء المحدثين والسلف الصالح في شرح الأحاديث وتوضيحها، وخرج الأحاديث التي أشار إليها الترمذي في كل باب بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان، وذكر ألفاظها مهما أمكن وتكلم في بعضها وأظهر ما فيه من الكلام للأئمة النقاد من المحدثين.
ولم يشر الإمام الترمذي في كثير من الأبواب إلى أحاديث أخرى توافق أصل حديث الباب بقوله: "وفي الباب خلاف"فأشار المؤلف بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان وخرجها.
وأضاف أحاديث أخرى أطلع عليها المؤلف عند قول الترمذي: وفي الباب عن فلان وعن فلان توسع المؤلف في ذكر مذاهب الفقهاء وبيان اختلافهم فيذكر أقوال العلماء ممن لم يذكرهم الترمذي، والترمذي مشهور بالتساهل في تحسين الحديث وتصحيحه فذكر المؤلف عقب تحسينه أو تصحيحه تصحيح غير واحد من أهل الحديث غير الترمذي أو تحسينهم ليطمئن القلب وينشرح الصدر، مع التنبيه على المواضع التي وقع فيها التساهل والتسامح من الإمام الترمذي في تحسينه أو تصحيحه، ويذكر الترمذي في كثير من المواضع اختلاف أهل العلم ولا يذكر الراجح من المرجوح ففي هذه المواضع يظهر المؤلف ما هو الراجح، ويسرد دلائل أقوال الفقهاء التي ذكرها الترمذي بدون دليلها، ثم يبدي رأيه في المسألة فيرجح ما رجحه الدليل ويزيف دلائل الأقوال المرجوحة، ويوضح قول الترمذي في بيان المذاهب، "ذهب قوم من أهل العلم"فيعينهم ويبين مراد الترمذي بلفظ القوم، وإذا وقع التساهل من الترمذي في نقل المذاهب في بعض المواقع فينبه المؤلف على هذا التساهل في أكثر الأحيان، وقد سلك المؤلف في هذا الشرح مذهب المحققين يرجح ما رجحه الدليل بدون تعصب لمذهب فقهي خاص.(20/383)
2- مقدمة تحفة الأحوذي في مجلد ضخم، وفي بابين، ذكر في الباب الأول تدوين علوم الحديث وأنواع كتب السنة وأسماء كتب الحديث الموجودة وشروحها مع تعريف كل منها، وذكر في الباب الثاني ترجمة الإمام الترمذي وما يتعلق بالجامع وبمصطلحات الترمذي من فوائد ومحاسن، وذكر شروح الترمذي ورواة الجامع على ترتيب أبجدي.
3-أبكار المنن في تنقيد آثار السنن في جزء.
4-تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام بالأردية في جزءين.
5- خير الماعون في منع الفرار من الطاعون.
6- والمقالة الحسنى في سنية المصافحة باليد اليمنى.
7- كتاب الجنائز.
8- نور الأبصار (في إثبات الجمعة في القرى والرد على من أنكرها) .
9- تنوير الأبصار بتأييد نور الأبصار.
10 ضياء الأبصار.
11- والقول السديد فيما يتعلق بتكبيرات العيد (كلها بالأردية) ، وله غير ذلك من المؤلفات والرسائل ناقصة أو غير ناقصة أو غير مطبوعة [28] .
والشيخ المحدث أحمد الله بن أمير الله البرتابكدهي ثم الدهلوي (م 1362هـ) من مشاهير علماء الحديث المفلقين في علوم الكتاب والسنة، قصر همته على تدريس الحديث طول حياته، وقد نفع الله بدروسه خلقا كثيرا، وقد انتهت إليه رئاسة الحديث في عصره وأكثر علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية أخذوا عنه وتتلمذوا عليه وبواسطته يتصلون بالمحدث نذير حسين الدهلوي.
درس بمدرسة حاجي عليجان بدهلي ثم بدار الحديث الرحمانية بدهلي ثم المدرسة الزبيدية وقد تخرج عليه علماء كبار من أهل الحديث، اشتهر منهم: المحدث محمد يونس البرتاب كدهي، والعلامة نذير أحمد الأملوي، والمحدث عبد السلام البستوي رحمهم الله، والحافظ محمد الغوندلوي، والمحدث عبيد الله الرحماني، والشيخ عبد الغفار حسن الرحماني، وسيأتي ذكر بعض هؤلاء في ذكر تلاميذ تلامذة السيد حسين نذير [29] .(20/384)
والشيخ المحدث الحافظ أبو تراب عبد التواب بن العلامة قمر الدين الملتاني (م 1366 هـ) : من كبار علماء الحديث في عصره، تتلمذ على يد السيد نذير حسين واستجاز من العلامة محمد راغب الطباخ الشامي 1370هـ، اشتغل بتدريس السنة ونشر السلفية مع مساعدة حركة المجاهدين، وكان له عناية كبيرة بتصحيح كتب الحديث والتعليق عليها ونشرها، ومن آثاره العلمية: تراجم وشروح مشكاة المصابيح وبلوغ المرام وثمانية أجزاء من صحيح البخاري إلى الأردية، وتعليقات على حاشية صحيح مسلم للسندي، وتعليقات على تحفة المودود بأحكام المولود؛ وهو أول من ابتدأ بنشر مصنف ابن أبي شيبة مع تعليقاته عليه ولكن لم يتم طبعه لأجله المحتوم، تخرج عليه خلق من أمثال المحقق عطاء الله الفوجياني [30] .
والعلامة شيخ الإسلام أبو الوفاء ثناء الله الامر تسري (1287- 1367هـ) : عبقري من عباقرة الإسلام، داعية كبير وحامل لواء السنة، دافع عن الإسلام طول حياته، تلقى العلوم عن المحدث عبد المنان الوزير آبادي وعن أساتذة دار العلوم ديوبند وكانفور وأسند الحديث عن السيد نذير حسين المحدث، أسس دارا للطباعة والنشر وأصدر مجلته الشهيرة جريدة أهل الحديث الأسبوعية في سنة 1321هـ، التي استمر نشرها أربعا وأربعين سنة حتى وافته المنية، وأسس جمعية أهل الحديث الهندية مع أصحابه ونشط لها طول حياته، ناظر كل الطوائف الكافرة والمضللة ورد على أهل البدع والخرافات والجمود والتقليد وسعى لنشر السنة والسلفية، ألف كثيرا في الرد على الميرزا غلام أحمد القادياني ولكثرة ردوده عليه ما كان يحصيها المؤلف نفسه، وكتب في الرد على الفرقة الهندوكية "آريه سماج"وعلى المسيحية وعلى منكري السنة، وله تفاسير القرآن في العربية والأردية [31] .(20/385)
الشيخ المحدث محمد نعمان بن الحاج عبد الرحمن المئوي الأعظمي (1297- 1371هـ) من الأساتذة المشهورين الذين خدموا السنة بتدريسها، أسند عن السيد نذير حسين الدهلوي وتصدر لتدريس الحديث بجامعة دار السلام عمر آباد بمدراس، وتخرج عليه علماء كبار.
والشيخ العلامة محمد إبراهيم مير السيالكوتي: (م 1376هـ) من كبار علماء الهند وناصري السنة والعقيدة السلفية، تتلمذ على المحدث عبد المنان الوزير آبادي وأسند عن المحدث السيد نذير حسين واشتغل بالدرس والإفادة والتأليف والوعظ والتذكير وله ردود عنيفة على القاديانية، ومنكري السنة وآريه سماج، أصدر مجلة الهادي، وأسس مدارس، ومن مؤلفاته: تفسير لسور عديدة من القرآن، وسيرة المصطفى، والسيرة النبوية، وعون الباري لحل عويصات البخاري، وكشف الغمة على اختلاف الأمة، وغزوات النبي.
وقد تخرج عليه خلق كثير أمثال الشيخ عصمت الله الرحماني المئوي، والشيخ محمد اسماعيل السلفي، والشيخ أبو حفص العثماني، وآخرون
والجدير بالذكر أنه كان من مؤسسي جمعية أهل الحديث الهندية وكان الساعد الأيمن لشيخ الإسلام ثناء الله الامر تسري في أعماله الدينية والإصلاحية [32] .
تلاميذ تلامذة السيد نذير حسين المحدث الدهلوي
نذكر هنا بعض علماء الحديث الذين تخرجوا على تلامذة السيد نذير حسين المحدث الدهلوي وساهموا في نشر السنة وإحيائها:
تلامذة المحدث عبد الوهاب الملتاني الدهلوي(20/386)
1- الشيخ العلامة محمد إبراهيم الجوناكدهي (م سنة 1360هـ) : أحد مشاهير أهل الحديث المشهورين في الأوساط الدينية والعلمية، قضى حياته في التأليف والتصنيف ونشر السلفية وإحياء السنة بكل جرأة وحماس وشدة. كان كثير الرد على التقليد والبدع والخرافات، وعلى كل من يراه على الخطأ حتى رد على شيخه عبد الوهاب ردودا عنيفة في بعض المسائل: ومن آثاره: سلسة مؤلفاته المسماة بالمحمديات على الموضوعات الدينية والمسائل الخلافية. وله خطبات محمدي في مجلدات جمع فيها خطب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها إلى الأردية، وترجم تفسير ابن كثير وإعلام الموقعين لابن القيم وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي وجزء رفع اليدين للبخاري إلى الأردية ونشرها من مطبعته المحمدية. وله رسائل أخرى كثيرة. وكان له جريدة أسبوعية أسماها "أخبار محمدي"، وكانت لمناظراته وردوده أثر كبير في إزالة البدع والمنكرات وترك التقليد والجمود على المذهب إلا أن تشدده قد أضر بالدعوة السلفية كثيرا بحيث فهم الناس أن السلفية عبارة عن إثارة الخلافات والإصرار على بعض الفروع. ولذيوع رسائله ومؤلفاته بين عامة الناس وفي أوساط السلفيين بكثرة زاد هذا الضرر، عفا الله وعنه؛ فإن جهوده التي نؤاخذ عليها اليوم كانت في عصر المناظرات والجدل والمناقشة الكلامية، ولعل هذا كان مبررا له لهذا الصنيع [33] .
2- والشيخ أحمد بن محمد الدهلوي ثم المدني: تخرج على صنوه الشيخ عبد الوهاب واشتغل بنشر السنة والعقيدة السلفية في بلاد الهند، ثم هاجر إلى المدينة المنورة ودرس وأفاد بالحرم المدني، وأسس داري الحديث بالمدينة المنورة ومكة المكرمة بمساعدة الحافظ حميد الله الدهلوي السلفي من كبار أثرياء دهلي، ودرس بدار الحديث بالمدينة كتب الحديث، ومن مؤلفاته: تاريخ أهل الحديث، ومسائل اللحية، ومناسك الحج (بالأردية) وكيفية صلاة المرأة (بالأردية) .(20/387)
2- والشيخ المحدث عبد الستار بن المحدث عبد الوهاب الملتانى: تخرج على أبيه واشتغل بالدرس والتأليف في الهند والباكستان قرب نصف قرن، وله مؤلفات منها التفسير الستاري (ستة أجزاء) وتفسير الفاتحة، ونصرة الباري في شرح صحيح البخاري (عشرة أجزاء من البخاري) طبع في المكتبة السعودية بكراتشي 1956 م وله رسائل كثيرة في المسائل الخلافية. انتهج منهج أبيه في مؤلفاته، منهج الشدة والتنطع والتركيز على بعض الفروع [34] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مقدمة مفتاح كنوز السنة.
[2] مفتاح السنة: 165- 166.
[3] نموذج من الأعمال الخيرية: 468.
[4] مفتاح السنة: 165- 166.
[5] مجلة برهان ج41/ عدد 2، أغسطس سنة 1958 م.
[6] نموذج من الأعمال الخيرية: 388.
[7] مقدمة فتاوى نور العين، تذكرة علمائي حال 22- 23، نزهة الخواطر 8-111، غاية المقصود: 17، عون المعبود، أبجد العلوم: 886.
راجع لترجمة النواب البوفالي وأسرته إبقاء المنن بإلقاء المحن للمترجم نفسه بالأردية، مآثر صديقي (4 أجزاء) تذكرة علمائي هند: 250- 251، جريدة أهل الحديث أمر تسر 18- 1 سنة 1920 م. وأبجد العلوم وإتحاف النبلاء والتاج المكلل (كلها للنواب) .
[8] نزهة الخواطر 8- 500.
[9] نفس المصدر 8/499.
[10] نزهة الخواطر 7/301- 302 وسيرت السيد داود غزنوي.
[11] نزهة الخواطر 8/90، جريدة أهل الحديث أمر تسر 17/43، حيات وحيد الزمان: أهل حديث كي علمى خدمات: 164، تراجم علمائي حديث.
[12] نزهة الخواطر 8/515-516، جريد أهل الحديث أمر تسر 17/30، حياة وحيد الزمان للأستاذ عبد الحليم الجشتي.
[13] جريدة أهل الحديث أمر تسر 19/19 سنة 1921، تاريخ أهل الحديث للسبالكوتي: 439، أهل الحديث كي علمي خدمات 172- 173.(20/388)
[14] من مقدمة تفسير سناري.
[15] نزهة الخواطر 8/4-5، تذكرة علمائي حال: 8، الحياة بعد الممات 342.
[16] تذكرة السعيد, عدد خاص لمجلة نصرة السنة، نزهة الخواطر 8/431-432، تراجم علمائي حديث هند 1/28، جريدة أهل الحديث 16/3 سنة 1918م.
[17] عدد خاص لمجلة نور التوحيد حول وفاة المترجم له، عدد خاص لمجلة الهدى دربهكة ص56، حياة أبي القاسم امحدث من مجلة المنار 3/سنة 1970م، تراجم علماء حديث أهل هند 1/291.
[18] نموذج من الأعمال الخيرية: 627.
[19] مصادر ترجمته: نزهة الخواطر 8/179، مقدمة أعلام أهل العصر (الطبعة الثانية) : هندوستان كي قديم إسلامي درسكاهين ص47 المحدث شمس الحق العظيم آبادي حياته وآثاره.
[20] جريدة أهل الحديث أمرتسر 16/41 سنة 1919م؛ تاريخ أهل الحديث للسيالكوتي؛ مقدمة اتحاف النبيه:23، نزهة الخواطر 8/311-312، تذكرة علمائي حال 55-56.
[21] مقدمة حسن البيان الطبعة الثالثة، نزهة الخواطر 8/256، مجلة الهدى عدد خاص عن دار العلوم الأحمدية.
[22] نزهة الخواطر 8/278، تراجم علمائي هند 1/359، تذكرة علمائي أعظم كره 197-198، تذكرة علمائي هند 262، جريدة أهل حديث أمرتسر 17/ص167، سيرة داود غزنوي 240-244.
[23] نزهة الخواطر 8/44، مقدمة أحسن التفاسير (الطبعة الجديدة) ، تراجم علمائي حديث هند 1/162.
[24] نزهة الخواطر 8/428، جريدة أهل الحديث أمر تسر 18/41-42، سنة 1921م، تذكرة علمائي حال.
[25] نزهة الخواطر 8/161، تذكرة علمائي حديث هند 1/323، تذكرة علمائي حال 29، تراجم علمائي مباركفور 167، تذكرة علمائي أعظم كره 158، مقدمة إتحاف النبيه 22.
[26] مقدمة السمط الابريز على مسند عمر بن عبد العزيز؛ مقدمة هداية المستفيد في ترجمة فتح المجيد 1/90-93.(20/389)
[27] جريدة أهل حديث أمر تسر 16/5 سنة 1918م، تراجم علماء حديث هند 160، تذكرة علماء حال 39، نزهة الخواطر 8/217-218.
[28] نزهة الخواطر 8/242، تراجم علماء حديث هند، تذكرة علمائي هند، مقدمة تحفة الأحوذي.
[29] نزهة الخواطر 8/47، تراجم علماء حديث هند 1/16، العجالة النافعة مع التعليقات الساطعة 107.
[30] مقدمة اتحاف النبيه 22- 23، نموذج من الأعمال الخيرية 87.
[31] سيرت ثنائي لعبد المجيد خادم سوهدروي، ونقوش أبي الوفاء: ياد رفتكان 417، نزهة الخواطر 8/95-96، تاريخ أهل الحديث 433-434.
[32] تاريخ أهل الحديث للمترجم نفسه.
[33] مقدمة تفسير سورة الفاتحة للشيخ عبد الستار.
[34] تراجم علمائي حديث هند /174-176، مقدمة خطبات محمدي للمترجم نفسه.(20/390)
مفهوم الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ / سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية
(الحلقة الثانية)
أسلفت في الحلقة الأولى ما يتضمن أن معرفة الله جل وعلا هي المنطلق الذي تصح منه العبادة، إذ لو أنها قد انبعثت من غيره، لما انبسطت لها قاعدة ترتكز عليها، فلا يلبث صاحبها حتى يجدها تهوي به في مكان سحيق، وتستحيل هباءًَ منثورا، وكيف يعرض الإنسان عن معرفة خالقه وهو سبحانه يوالي عليه نعمه كل لحظة منذ ولادته حتى مماته؟ وكيف ينصرف عن التعرف على الحي القيوم الذي بيده مقاليد كل شيء، والذي لا يستغني عنه طرفة عين، ويسعى إلى التعرف على أفراد من البشر أمثاله، وهم لا يملكون له -فضلا عن أنفسهم- ضرّاً، ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً؟
إن أول ما يجب على العبد أن يتعرف على ربه سبحانه، ليستطيع أن يحقق الغاية التي من أجلها خلق، وهي التي ذكر الله عز وجل في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 56) ، إذ لا سبيل إلى تحقيق العبادة إلا عن طريق البدء بمعرفة الله تعالى، ولا يمكن للعبد أن يعبد من يجهله، وإلا كان تخبطا وضربا في تيه بيداء مهلكة.
ومن ثم بدأت أساهم - بقدر ما ييسر الله تعالى لي- في الكتابة في باب التعرف على الله تعالى باعتباره نقطة البدء في حياة المسلم، بادئا ببيان مفهوم الربوبية في أربع حلقات سابقة، ثم ثنيت ببيان مفهوم أسماء الله تعالى وصفاته في حلقة أولى مضت، وانتهيت فيها من بيان أسماء الله تعالى التي تضمنتها سورة الفاتحة.
وفي هذه الحلقة أعرض -بحول الله وقوته- بيان أسماء الله تعالى التي تضمنتها سور القرآن الكريم، مشيرا إلى ما تكرر من الأسماء في مختلف سور القرآن الكريم، بالصيغة ذاتها، أو بصيغ مختلفة.(20/391)
وسوف أحاول إن شاء الله تعالى -حوَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْسبما ييسر لي سبحانه- إلقاء بعض الضوء على هذه الأسماء الكريمة التي تضمنتها سور القرآن الكريم، ابتداء من سورة البقرة حتى سورة الناس، وذلك على الوجه التالي:
المحيط:
هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد في القرآن الكريم ثماني مرات منها ست مرات [1] بلفظ (محيطٌ) بالرفع فيما يأتي:
في قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} (البقرة آية 19) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران آية 120) ، وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال آية 47) ، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود آية 92) ، وقوله: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (فصلت آية 54) ، وقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (البروج آية 20) .
ومنها مرتان [2] بلفظ (محيطاً) بالنصب، فيما يأتي:
في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء آية 108) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} (النساء آية 126) .
وإحاطة الله تعالى بالشيء معناها: حصره إياه من جميع جوانبه، مع العلم المطلق بكل دقائقه، بحيث لا يتصور أن تفلت منه ذرة، أو ما فوقها، أو ما دونها، علما أو إيجادا، أو إعداما.(20/392)
ففي مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (البروج آية 20) ، تمثيل لعدم نجاة المكذبين الكافرين بعدم فوت المحاط به على المحيط [3] ، ذلك بأنه سبحانه هو الذي خلق كل شيء وملَكَه، واستأثر بالتصرف فيه عن قدرة تامة، وعلم مطلق، لذا يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق آية 12) .
القدير: (القادر، المقتدر)
القدير:
هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد في القرآن الكريم خمسا وأربعين مرة [4] ،منها تسع وثلاثون مرة ورد فيها بلفظ (قديرٌ) بالرفع في مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة آية 20) ، وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة آية 106) . وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة آية 148) ، وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران آية 26) ، وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة آية 17) .(20/393)
ومنها ست مرات [5] ورد فيها بلفظ (قديراً) بالنصب في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} (النساء آية 133) . وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} (النساء آية 149) ، وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان آية 54) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (الأحزاب آية 27) . وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر آية 44) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (الفتح آية 21) .
القادر:
هو اسم من أسماء الله تعالى؛ ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة [6] ج منها أربع مرات (3) (قادرٌ) : بالرفع، في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} (الأنعام آية 37) ، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} (الأنعام آية 65) ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (الإسراء آية 99) ، وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق آية 8) .
ومنها ثلاث مرات بالجر بلفظ (قادرٍ) في قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (يس آية 81) ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الأحقاف آية 33) ، وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (القيامة آية 40) .
ومنها أربع مرات بصيغة الجمع بلفظ (قادرون) بالرفع في قوله تعالى:(20/394)
{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون آية 18) ، وقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون آية 95) ، وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} (المعارج آية 40) ، وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات آية 23) .
ومنها مرة واحدة بصيغة الجمع بلفظ (قادرين) بالنصب في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}
المقتدر:
هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد [7] في القرآن الكريم أربع مرات، منها مرتان بلفظ (مقتدرٍ) بالجر، في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر آية 42) ، وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر آية 55) .
ومنها مرة واحدة بلفظ (مقتدراً) بالنصب في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} (الكهف آية 45) .
ومنها مرة واحدة بصيغة الجمع بلفظ (مقتدرون) بالرفع، في قوله تعالى: {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} (الزخرف آية 42) .
واسم (قادر) على وزن (فاعل) ، واسم (قدير) على وزن (فعيل) وهي صيغة مبالغة، واسم (مقتدر) على وزن (مفتعل) ، وفي اللغة العربية زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.(20/395)
وهذه الأسماء الثلاثة تتضمن جميعها أن الله سبحانه يستطيع أن يفعل كل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأمره -عندما يريد شيئا- إنما هي كلمة كن: فيكون ما يريد في الحال. وفي هذا يقول سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل آية 40) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (مريم آية 35) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس آية 82) ، وقوله: {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (غافر آية 68) ، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر آية 50) .
وليس أدل على كمال القدرة المطلقة للقادر، القدير، المقتدر، من أن يوجد سبحانه ما يريده بكلمة كن فيكون ما يريد كلمح البصر.
العليم: (العالم- العلام) :
هو اسم من أسماء الله تعالى بصيغة المبالغة على وزن فعيل، ورد في القرآن الكريم اثنتين وخمسين ومائة مرة [8] ، منها أربعون ومائة مرة بلفظ (عليمٌ) [9] بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة آية 29) ، وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة آية 95) ، وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 115) .(20/396)
ومنها اثنتان وعشرون مرة [10] بلفظ (عليماً) بالنصب، في مثل قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء آية 11) ، وقوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} (النساء آية 70) ، وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء آية 127) .
العالم:
هو اسم من أسماء الله تعالى.. على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن خمس عشرة مرة [11] منها سبع مرات بلفظ (عالمُ) بالرفع [12] ، في مثل قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام آية 73) ، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد آية 9) ، وقوله: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (السجدة آية 6) .
ومنها مرة واحدة بلفظ (عالمَ) بالنصب [13] ، في مثل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الزمر آية 46) .
ومنها خمس مرات بلفظ (عالمِ) بالجر [14] ، في مثل قوله تعالى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة آية 94، الجمعة آية 8) ، وقوله: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة آية 105) .
ومنها مرتان بصيغة الجمع بلفظ (عالمين) بالنصب [15] ، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (الأنبياء آية 51) ، وقوله: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (الأنبياء آية 81) .
العَلاَّم:(20/397)
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعّال) ، وهو صيغة مبالغة، يدل على سعة العلم وعظمته، وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات، في قوله تعالى: {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (المائدة آية 109) ، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (المائدة آية 116) ، وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (التوبة آية 78) ، وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (سبأ آية 48) .
وعلم الله تعالى أزلي، وهو صفة من صفاته الذاتية سبحانه، يقتضي علمه بالظواهر والسرائر، وإحاطته بكل شيء، فلا يغيب عنه ولا يعْزُب مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر [16] ، فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه [17] .
والله العليم سبحانه قد كمل في علمه، يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ويعلم ما في السموات والأرض، وهو تعالى بكل شيء عليم.
وأن العبد إذا استشعر عظمة علم الله، وسعته، وشموله لكل ما خلق الله جل وعلا، فإنه يعيش دائما يراقب الله الذي يعلم السر وأخفى، ويطلب منه دائما أن يزيده من بالعلم الذي ينفعه في دينه ودنياه تنفيذا لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه آية 114) .
الحكيم:(20/398)
هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فعيل) ، ورد في القرآن الكريم سبعا وتسعين مرة [18] ، منها إحدى وثمانون مرة بلفظ (حكيم) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 32) ، وفي قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 129) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران آية 6) ، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام آية 18)
ومنها ست عشرة مرة [19] ، بلفظ (حكيما) بالنصب في مثل قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء آية 11) ، وقوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (الفتح آية 4) ، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (الإنسان آية 30) .
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه اللائق به، فالله تعالى الحكيم الذي له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق، ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق سبحانه شيئا إلا لحكمة، ولا أمر بشيء إلا لحكمة فالله الحكيم سبحانه حكيم في خلقه، وأمره، وتعليمه ما يشاء، ومنعه ما يشاء.
وحكيم بمعنى مُحْكِم، والله تعالى مُحكِم للأشياء، متقن لها، كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النحل آية 88) [20] .
التوّاب:(20/399)
هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فعَّال) ، ورد في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة [21] ، منها ثماني مرات بلفظ (توّابٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 37) ، وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة آية 118) ، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات آية 12) .
ومنها ثلاث مرات [22] بلفظ (تواباً) بالنصب في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء آية 16) ، وقوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء آية 64) قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (النصر آية 3) .
والتواب: معناه الذي يتوب على عباده كلما رجعوا إليه، فيقبل توبتهم.
كما قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر آية 3) .
وكما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (الشورى آية 25) .
ومعرفة اسم التواب، يدعو العبد إلى الرجوع إلى ربه وتوبته من معاصيه باستمرار.
البارئ:
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، ورد في القرآن الكريم ثلاث مرات [23] ، في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} (البقرة آية 54) ، وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} (البقرة آية 54) ، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر آية 24) .(20/400)
والبارئ: هو المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها، وقيل: المميز لبعضها عن بعض [24] ، والبارئ من البَرء.
والبَرْء: هو تنفيذ وإبراز ما قدره وقرره الله تعالى إلى عالم الوجود [25] .
والبرء: كذلك هو خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء، من قولهم: برأت من المرض، وبرئت من الدين أبرأ منه، فبعض الخلق إذا فُصل من بعض سمي فاعله بارئا، وفي الأيمان: "لا والذي خلق الحبّة، وبرأ النسمة" [26] .
وقال أبو علي: هو المعنى الذي به انفصلت الصور بعضها عن بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرس، فتبارك الله خالقا بارئا [27] .
ومعرفة اسم الباري تجعل العبد يؤمن بأنه سبحانه هو الموجد لكل الأشياء من العدم فلا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما آتاه، وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد آية 22-23) .
البصير:
هو اسم من أسماء الله تعالى بصيغة مبالغة على وزن (فعيل) ، ورد في القرآن الكريم اثنتين وأربعين مرة [28] ، منها إحدى وثلاثون مرة [29] بلفظ (بصيرٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة آية 96) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة آية 110) ، وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران آية 15) ، وقوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة آية 1) ، وقوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (الملك آية 19) .(20/401)
ومنها تسع مرات [30] بلفظ (بصيرا) بالنصب، في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 58) ، وقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (الإسراء آية 17) ، وقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} (طه آية 35) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح آية 24) .
والبصير بمعنى مبصر، فهو سبحانه يرى كل شيء من خلقه دقَّ أو جلَّ، ظهر أو خفي، لا تحجب رؤيته الحواجب التي تحجب عن خلقه الرؤية، إذ يبصر سبحانه النملة السوداء تدب على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
وإذا استشعر العبد أن ربه البصير يراه ولا يحجب عنه أي شيء من خلقه، فإنه يراقب ربه، ولا يكون دائما إلا في الموضع الذي يجب أن يراه فيه.
الواسع، (الموسع) :
(الواسع) : اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، ورد في القرآن الكريم تسع مرات [31] منها ثماني مرات [32] بلفظ (واسعٌ) بالرفع في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 115) ، وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 261) ، وقوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 268) ، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران آية 73) ، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة آية 54) ، وقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور آية 32) ، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم آية 32) .(20/402)
ومنها مرة واحدة بلفظ (واسعاً) بالنصب في قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء آية 130) .
ويلاحظ أن اسم (الواسع) اقترن في سبع آيات -من التسع- التي ورد فيها باسم (العليم) ولعل هذا يشير إلى أن الله سبحانه يعطي من فضله الواسع من يشاء عن كمال العلم بمن يستحق هذا العطاء، سواء أكان هذا العطاء رحمة، أو مغفرة، أو ملكا، أو مالا، أو علما، أو أي نوع من أنواع العطاء، وعطاؤه سبحانه -فضلا عن كونه عن كمال العلم- فهو مع كمال الحكمة، وسعة المغفرة، وفي هذا نجد أن اسمه (الواسع) سبحانه جاء مضافا إلى المغفرة مرة واحدة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وجاء مقترنا باسمه (الحكيم) مرة واحدة كذلك {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} .
ومعنى (الواسع) الذي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [33] (طه آية 98) .
وقال الفراء الواسع: الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء [34] .
وقيل: الواسع: واسع الفضل يوسع على من يشاء من عباده [35] .
وقيل: الواسع: الذي يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال.
وقيل الواسع: واسع الفضل والصفات وعظيمهما، ومن سعته وعلمه وسع لكم الأمر، وقبل منكم المأمور [36] .
و (الموسع) : اسم من أسماء الله تعالى على وزن (مُفْعِل) ورد في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الجمع، بالرفع، في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات آية 47) .
ومعنى (الموسع) : ذو الوسع والسعة، وقيل الموسعون القادرون، فالموسع أي القادر [37] .(20/403)
وقيل الموسع: أي لأرجاء السماء وأنحائها، وأيضا الموسع على عباده بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي، إلا وأوصل إليه من الرزق ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها، فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات [38] .
وقيل: الواسع: المحيط بكل شيء، من قولهم: "وسع كل شيء علما"أي أحاط به [39] .
السميع (والمستمع) :
هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فَعِيل) بمعنى (فاعل) أي سامع [40] .
وقد ورد في القرآن الكريم خمسا وأربعين مرة [41] . منها اثنتان وأربعون [42] بصيغة (سميعُ) بالرفع في مثل قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة آية 127) .
وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة آية 137) . وقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام آية 115) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان آية 28) ، وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ آية 50) .
ومنها ثلاث مرات [43] بصيغة (سميعاً) بالضم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 58) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 134) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} (النساء آية 148) .
ويلاحظ أن اسم (السميع) سبحانه ورد مقترنا باسم (الحليم) اثنتين وثلاثين مرة [44] وتسع مرات [45] مقترنا باسم (البصير) . ومرة واحدة [46] باسم (القريب) . وورد مرتين [47] مضاف إلى (الدعاء) في قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران آية 38) .
وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم آية 39) .(20/404)
ويجلِّي لنا تمام سمعه -سبحانه- بكل شيء، ما رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية. والمجادلة هي: خولة بنت ثعلبة، وكان زوجها أوس بن الصامت، وكان امرءا به لمم، وكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته".
وكذلك في رواية أخرى لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: "تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تقول يا رسول الله: أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني. اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [48] ".
أما اقتران اسم (السميع) سبحانه باسم (العليم) واسم (البصير) فإن سمعه مع علمه محيط بهم وبصره نافذ فيهم. فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء [49] .(20/405)
وأما اقتران اسم (السميع) سبحانه باسم (القريب) ، وإضافته إلى الدعاء، فإنه سبحانه وهو فوق عرشه يسمع كل حركة وسكنة ولفظة من خلقه. وكل دعاء من عباده، فيجيب من يدعوه لشدة قربه منهم، فهو عليٌّ في قربه قريب في علوه. كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة آية 186) ، وكما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق آية 16) ، وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ".
المستمع:
وهو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (مفتعل) . وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة [50] بصيغة الجمع بلفظ (مستمعون) بالرفع، في قوله تعالى: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (الشعراء آية 15) .
ومعنى (مستمع) أي سامع لموسى وهارون عليهما السلام -وسامع لكل خلقه بلا ريب- وذلك كقوله لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه آية 46) أي أنه يسمعهما -وهو فوق عرشه- ماذا يقولان لفرعون ويراهما وهما تحت حفظه وتأييده [51] .
وقد قيل إن (سمع) تأتي بمعنى أجاب، وذلك في مثل ما يقول المصلي عند رفعه من الركوع: "سمع الله لمن حمده"أي استجاب [52] .
العزيز:(20/406)
هو اسم من اسماء الله تعالى على وزن (فعيل) ، وقد ورد في القرآن الكريم تسعا وثمانين مرة [53] منها اثنتان وثمانون [54] بلفظ (العزيز) أو (عزيز) بالرفع، في مثل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 129) ، وقوله: {لا إِلَهَ إِلا َّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران آية 18) . وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة آية 38) ، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (هود آية 66) . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (إبراهيم آية 47) . وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء آية 9) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر آية 28) .
ومنها ست مرات [55] بلفظ (عزيزا) بالنصب من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء آية 56) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء آية 158) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (الأحزاب آية 25) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح آية 19) .(20/407)
ومعنى (العزيز) الغالب كل شيء، والذي ذلّّّ لعزته كل عزيز، والممتنع فلا يغلبه شيء [56] وهو سبحانه (رب العزة) ، وبيده وحده العزة، يعز بها من يشاء، ومن يرد العزة فلا مصدر لها سوى (العزيز) سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر آية 10) . وقد أثبت الله تعالى لنفسه العزة جل وعلا. ومن عزته أعز رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعز كذلك المؤمنين، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون آية 8) ، وقد توعد الله تبارك وتعالى المنافقين الذين يلتمسون العزة عند الكافرين الذين اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين فقال سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء آية 138، 139) ، وقد اقترن اسم (العزيز) سبحانه بأسماء أخرى لله تعالى على الوجه الآتي:
1- اقترن باسم (الحكيم) تسعا وأربعين مرة: واقترانه به يفيد أنه الغالب الذي لا يعجزه شيء سبحانه، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله جميعا فيضع الأشياء في محالها التي تناسبها مناسبة كاملة.
2- واقترن باسم (ذو انتقام) ثلاث مرات [57] : واقترانه به يفيد أنه الغالب الذي يقدر على أن ينتقم ممن يستحق الانتقام منه بمنتهى العدل منه سبحانه.
3- واقترن باسم (القوي) سبع مرات [58] . واقترانه به يفيد أنه سبحانه ذو القوة التي لا تغلب فبقوته سبحانه وعزته يوقع بمن يشاء من عقوبته ولا معقب لما يريد سبحانه.
4- واقترن باسم (الحميد) ثلاث مرات [59] : واقترانه به يفيد أنه سبحانه العزيز الغالب الذي لا يضام من لاذ بجانبه المنيع، المحمود في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره [60] ، فهو المحمود في كل حال [61] .(20/408)
5- واقترن باسم (الرحيم) ثلاث عشرة مرة [62] : واقترانه به يفيد أنه مع عزته وقوته وغلبته سبحانه، رحيم بخلقه بمعنى أنه لا يعجل العقوبة على من عصاه بل يؤجله وينظره، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب [63] ، وقيل: العزيز الذي قد قهر كل مخلوق ودان له العالم العلوي والسفلي - الرحيم: الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى كل حي- العزيز: الذي أهلك الأشقياء بأنواع العقوبات، الرحيم: بالسعداء حيث أنجاهم من كل شر وبلاء [64] .
6- واقترن باسم (العليم) خمس مرات: واقترانه به يفيد أنه العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل، والنهار، والشمس، والقمر، يختم الكلام بالعزة والعلم كما في قوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [65] كذلك هو العزيز الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة. فجرت مذللة بأمره حيث لا تتعدى ما حده الله لها ولا تتقدم عنه ولا تتأخر، العليم الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والأوائل والأواخر [66] ، كما أنه العزيز الذي قهر الخلائق فأذعنوا له، والعليم بجميع الأشياء، العليم بأقوال المختلفين وعمَّاذا صدرت، وعن غاياتها ومقاصدها، وسيجازي كلا بما علمه فيه [67] .
7- واقترن باسم (الغفور) مرتين [68] وباسم (الغفار) ثلاث مرات [69] ، واقترانه بهما يفيد أنه مع عزته وغلبته لكل خلقه، فإنه سبحانه يغفر جميع الذنوب صغيرها وكبيرها لمن تاب إليه وأقلع عنها. ويلاحظ هنا أن اسم العزيز اقترن باسم (الغفور، والغفار) وكل منهما صيغة مبالغة على وزن (فَعُول، وفَعَّال) مما يدل على كثرة غفره سبحانه للتائبين المنيبين.(20/409)
8- واقترن باسم (المقتدر) مرة واحدة [70] في قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر آية 42) ، واقترانه به يفيد أنه العزيز الغالب الذي أخذ المكذبين أخذ عزيز غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى [71] .
9- واقترن باسم (الوهاب) مرة واحدة [72] . أي مع أنه سبحانه العزيز الغالب القاهر الذي لا يرام جنابه يعطي بغير حساب [73] ، ويعطي ما يريد لمن يريد [74] عطاء منه وتفضلا من خزائن رحمته التي لا تنفد.
10- واقترن باسم (الجبار) مرة واحدة [75] في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (الحشر آية 24) ، واقترانه به يفيد أنه سبحانه العزيز القاهر الغالب الذي لا يوجد له نظير، هو العظيم صاحب الجبروت وهي العظمة، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير. ويجوز أن يكون من أجبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد، فهو سبحانه هو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدي ومقاتل، واختاره الزجاج والفراء، قال: هو من أجبره على الأمر، أي: قهره، قال: ولم أسمع فعَّالا من أفعل إلا في جبار من أجبر. ودرَّاك من أدرك، وقيل: الجبّار: الذي لا تطاق سطوته [76] وقيل: الجبار الذي لا يليق الجبروت إلا لجلاله. والجبار المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم [77] وقيل: الجبار: الذي قهر جميع العباد وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير ويغني الفقير [78] ، أو الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه [79] .
وهكذا نرى اقتران اسم (العزيز) بعديد من أسماء الله تعالى، يدل على معان سامية، عرضنا بعضا منها فيما أسلفنا من بيان.
الرءوف:(20/410)
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) ، وهو صيغة مبالغة يدل على عظيم رأفته سبحانه بخلقه. وقد ورد في القرآن الكريم عشر مرات [80] في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 143) ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة آية 207) . وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة آية 117) ، وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحديد آية 9) .
ومعنى الرءوف كثير الرأفة، وهى أشد من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: "الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب" [81] فالرأفة هي المنزلة الثانية، فإذا اشتدت الرحمة كانت رأفة [82] .
وقد اقترن اسم (الرءوف) باسم (الرحيم) سبحانه في تسع آيات من العشر المشار إليها، وعدي بالباء إلى العباد في آيتين في قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة آية 207، وآل عمران آية 30) .
ورأفة الله تعالى ورحمته بعباده لا يعدلها رأفة أو رحمة. في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه" قالوا: "لا يا رسول الله". قال: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" [83] .
الشاكر، و (الشكور) :(20/411)
(الشاكر) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم مرتين [84] ؛ مرة بلفظ (شاكرٌ) بالرفع، في قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 158) ، ومرة بلفظ (شاكراً) بالنصب، في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء آية 147) .
(والشكور) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) بصيغة المبالغة، وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات [85] ، في قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 30) ، وفي قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 34) ، وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} (الشورى آية 23) ، وفي قوله: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن آية 17) .
ومعنى (الشاكر والشكور) : الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل. ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب. ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة تقرب الله منه أكثر [86] .
وقيل (الشكور) من أسماء الله عز وجل - وكذلك الشاكر- معناه: أنه يزكو عنده القليل من الأعمال، فيضاعف لهم به الجزاء وكأن الشكر من الله تعالى هو إثابته الشاكر على شكره، فجعل ثوابه للشكر وقبوله للطاعة شكرا على طريقة المقابلة كما قال عز اسمه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [87] (البقرة آية 194) .
ونلاحظ أن اسم (الشاكر) قد اقترن باسم (العليم) سبحانه واقترانه به يفيد أنه تعالى شاكر أي يثيب على القليل بالكثير، مع علمه التام المحيط بقدر الجزاء، فلا يبخس أحدا ثوابه [88] .(20/412)
كما نلاحظ أن اسم (الشكور) قد اقترن ثلاث مرات باسم (الغفور) واقترانه به يفيد أنه غفور لمن عصاه، وشكور لمن أطاعه [89] وقيل: إنه غفور لذنوبهم. شكور للقليل من أعمالهم وقال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية (أي آية فاطر) يقول: "هذه آية القراء" [90] أقول: وحُقَّ لمطرف رحمه الله أن يقول هذه القولة. إذ ختم بها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 29-30) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} : غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات [91] .
وقيل (غفور شكور) : أي يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات. فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر [92] .
واقترن اسم (الشكور) باسم (الحليم) مرة واحدة [93] في قوله تعالى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن آية 17) واقترانه به يفيد أنه (شكور) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، (حليم) لا يعاجل من عصاه بالعقوبة [94] ، بل يمهله ولا يهمله [95] .
وقيل (شكور) أي يجزي على القليل بالكثير، (حليم) أي يصفح ويتجاوز عن الذنوب والسيئات [96] .
الواحد و (الأَحد) :(20/413)
(الواحد) : هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم ست مرات [97] في قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف آية 39) ، وقوله: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الرعد آية 16) . وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم آية 48) ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (ص آية 65) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الزمر آية 4) ، وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر آية 16) .
وقد ورد موصوفا به الإله ثلاث عشرة مرة [98] ، في مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 163) ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة آية 73) ، وقوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الأنبياء آية 108) .
و (الأحد) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فَعَل) . وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة [99] ، في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص آية 1) .
وقيل: إن الفرق بين الواحد وأحد: أن الواحد يفيد وحدة الذات فقط، والأحد: يفيده بالذات والمعاني [100] .
قيل: وهمزة أحد بدل من الواو وأصله وحد، وقال أبو البقاء: همزة أحد أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن (أحد) يفيد العموم دون (واحد) .
ومما يفيد الفرق بين (أحد) و (واحد) ما قاله الأزهري: أنه لا يوصف بالأحدية غير الله. تعالى، فلا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد، بل يقال: رجل واحد، ودرهم واحد [101] .(20/414)
وقيل: الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير له، ولا نديد له، ولا شبيه، ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته. وأفعاله [102] .
وقيل (أحد) : أي انحصرت فيه تعالى الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال الذي به الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا. الذي لا نظير له، ولا مثيل.
وقيل الواحد الأحد: هو الذي توحد بجميع الكمالات بحيث لا يشاركه فيها مشارك، ويجب على العبيد توحيده عقدا، وقولا، وعملا بأن يعترفوا بكماله المطلق. ويفردوه بالوحدانية. ويفردوه بأنواع العبادة.
الغفور و (الغفّار- والغافر) :
الغفور:
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) بصيغة المبالغة، بما يدل على، كثرة الغفر لذنوب عباده التائبين- وقد ورد في القرآن الكريم إحدى وتسعين مرة [103] منها إحدى وسبعون مرة [104] بصيغة (غفورٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 173) ، وقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران آية 129) ، وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة آية 101) وقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ آية 15) ، وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 30) .(20/415)
ومنها عشرون مرة [105] بصيغة (غفوراً) بالنصب في مثل قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء آية 96) . وقوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء آية 25) ، وقوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب آية 73) . وقوله: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر آية 41) ، ومعنى الغفور: العظيم الغفر لعباده الذين يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم، ونلاحظ أن اسم (الغفور) سبحانه قد اقترن بأسماء أخرى له عز وجل:
فقد اقترن باسم (الرحيم) أربعا وسبعين مرة [106] ، واقترانه به يفيد أنه سبحانه يغفر للمستغفرين والتائبين لأنه واسع الرحمة. بمعنى أنه يغفر لمن تاب إليه وأناب رحمة منه لهذا العبد، لأنه لو لم يرحمه ويتداركه بمغفرته لهلك وخسر. ولهذا يشير قوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف آية 23) وقوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هود آية 47) .
ومن ثم لما سأل الصديق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته دله على صيغة تتضمن طلب المغفرة والرحمة من الله الغفور الرحيم ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي". فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".(20/416)
وروى البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة".
واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الحليم) ست مرات [107] ، واقترانه به يفيد أن الله سبحانه لا يعاجل بالعقوبة عبده الذي يعصيه، بل يمهله، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر. وقد جاء في الصحيحين: أن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود آية 102) . وأما إذا أقلع العبد عما هو فيه من كفر وعصيان، ورجع إلى الله وتاب، فإن الله تعالى يتوب عليه، لذا يقول تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء آية 110) .
واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الشكور) ثلاث مرات [108] واقترانه به يفيد - كما أسلفت في بيان اسم (الشكور) سبحانه أنه جل وعلا يغفر لعباده الكثير من السيئات، ويشكر لهم اليسير من الحسنات، وهذا من أعظم الفضل وأوسع الرحمة لعباده، إنه - عز وجل- بهم رءووف رحيم.(20/417)
واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (العفوّ) أربع مرات [109] واقترانه به يفيد أنه سبحانه يعفو كثيرا عما قصر فيه عباده من أوامره وما ارتكبوه من المعاصي إذا رجعوا إليه - سبحانه وأنابوا، وتابوا مما وقعوا فيه، ويغفر لهم ذنوبهم حسبما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر آية 53) .
واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (العزيز) مرة واحدة [110] هي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك آية 2) .
واقترانه به يفيد أنه سبحانه العزيز الذي بعزته يستطيع أن ينتقم من العاصي آن عصيانه، فهو العزيز المنيع الجناب عز وجل، ومع ذلك هو- سبحانه- غفور لمن تاب إليه وأناب بعد أن عصاه وخالف أمره.
واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الودود) مرة واحدة [111] هي قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (البروج آية 14) . واقترانه به يفيد أنه جل وعلا عظيم الغفر لمن تاب إليه وأناب. فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم بها، كما أنه سبحانه ودود أي يحب عباده المؤمنين أبلغ المحبة، لإنابتهم إليه دائما. ورد كل أمورهم إليه في كل حال، وكذلك هو سبحانه ودود بمعنى أنه محبوب يحبه عباده المؤمنون لدوام تفضله عز وجل وإنعامه عليهم في كل آن.
والغفار:(20/418)
اسم من أسماء، الله تعالى على وزن (فعَّال) بصيغة المبالغة، بما يدل على كثرة غفره لعباده التائبين، وقد ورد في القرآن الكريم خمس مرات [112] ، منها أربع مرات بالرفع [113] ، في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه آية 82) ، وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (ص آية 66) . وقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر آية 5) ، وقوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} (غافر آية 42) . وورد مرة واحدة [114] بالنصب في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح آية 10) .
وقد اقترن اسم (الغفار) سبحانه باسم (العزيز) ثلاث مرات [115] ، ويفيد اقترانه به أنه تعالى الغالب الذي يقوى بلا ممانع على معاقبة مخالف أمره، لكنه تعالى يمهله، فإذا تاب ستر ذنوبه وغفر سيئاته، وإن لم يتب واستمر في عصيانه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
والغا فر:
اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة [116] . مضافا إلى التوب، ومعطوفا عليها (قابل التوب) في قوله سبحانه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر آية 3) ومعنى هذا أنه يغفر ما سلف من الذنب. ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع له. ثم يأتي بعد قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} قوله سبحانه: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} أي لمن تمرد وطغى. كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر آية49،50) وكثيرا ما يقرن سبحانه هذين الوصفين في مواضع عديدة من القرآن الكريم وسبب ذلك أن يبقى العبد دائما بين الرجاء والخوف.(20/419)
وقد روى ابن أبي حاتم عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر، فقال: "ما فعل فلان بن فلان؟ "فقالوا: "يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب"، قال: فدعا عمر رضي الله عنه كاتبه، فقال: "اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان ... سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير"ثم قال لأصحابه: "ادع الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه"، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده، ويقول: "غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي".
وفي رواية أبي نعيم قال: فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره. قال: "هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلّة فسددوه ووثقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه. ولا تكونوا أعوان الشيطان عليه" [117] .
وهذا يدلنا على أن الإنسان حين يستشعر معنى اسمه تعالى (الغفور والغفار والغافر) وما يقترن به من أسماء فإن ذلك يجعله دائم الرقابة لربه فإذا أخطأ كان سريع الرجوع ودائم الاستغفار.
القريب:
هو اسم من أسماء الله تعالى ورد في القرآن ثلاث مرات [118] ، في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (البقرة آية 186) ، وقوله: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود آية 61) . وقوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ آية.5) .(20/420)
ومعنى القريب أنه سبحانه ليس قريبا من عبده قرب ذات وإنما قرب صفات، فهو قريب جدا من عبده قرب سمع وبصر وعلم وإحاطة وقهر ونصر وغير ذلك من صفات كماله تعالى، ويشير إلى هذا القرب قوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق آية 16) . وحبل الوريد هو حبل العاتق، وهو ممتد من ناحية الحلق إلى العاتق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان: أي نحن أقرب إليه من حبل وريده، والإضافة بيانية: أي حبل هو الوريد- وقيل الحبل هو نفس الوريد [119] كما يشير تعالى إلى قربه من عبده بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} (الواقعة آية 85) أي أقرب سبحانه من خلقه إلى عبده بعلمه وقدرته ورؤيته، ولكن عباده لا يدركون ذلك لجهلهم فإن الله تعالى أقرب إلى عبده من حبل الوريد [120] .
وقد اقترن اسمه (القريب) سبحانه باسمه "المجيب"مرة [121] ، كما اقترن باسمه (السميع) مرة واحدة [122] ، واقترانه بالمجيب مرة ثم بالسميع مرة أخرى يفيد أنه سبحانه وتعالى يسمع وهو فوق عرشه كل شيء من خلقه سواء أعلن أم أخفى، جهر به أم أسر، لأنه قريب جدا منهم قرب سمع ورؤية وعلم وإحاطة وقدرة وقهر ونصر، قريب بصفاته تعالى من خلقه، وهو سبحانه قريب الإجابة لمن دعاه.(20/421)
وقد قال ابن أبي حاتم بسنده عن معاوية بن حيدة القشيري أن أعرابيا قال: "يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه"، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية (البقرة آية 186) ، إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجيب، وروى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا، ولا نهبط واديا إلا رفعنا صوتنا بالتكبير"، قال: "فدنا منا"، فقال: "يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة.
وروى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي" أخرجاه في الصحيحين. من حديث مالك به.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل"قالوا: "وكيف يستعجل؟ "قال: "يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي" رواه الإمام أحمد.(20/422)
وروى ابن مردويه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمرت بالدعاء، وتوكلت بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، أشهد أنك فرد، أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" [123] .
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".
وثبت في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، "قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ " قال: "يقول: قد دعوت فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" رواه مسلم، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة بيان بعض الأشخاص الذين تستجاب دعوتهم، من ذلك ما يأتي:
1- دعوة المظلوم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار" حديث صحيح أخرجه الحاكم، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب" حديث حسن رواه أحمد.(20/423)
2- دعوة المسافر: إذا كان سفر طاعة وخير كالسفر في سبيل الله للدعوة أو للعبادة أو لطلب العلم الذي يتقرب به إلى الله، ولعل سرَّ استجابة دعوة المسافر كونه غريبا، وبعيدا عن أهله وأحبائه، فيشمله الله تعالى برحمته ورعايته، وتكون استجابة دعوته من آثار رحمة الله عز وجل به، وفضله عليه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده"حديث صحيح رواه الترمذي.
2- دعوه الوالد على ولده: وهذا يظهر من الحديث الآنف الذكر، فالوالد إذا دعا بالخير لولده أو بالشر على ولده، استجاب الله له.
4، 5، 6- دعوة الحاج والغازي والمعتمر: وسبب استجابة دعوة هؤلاء الثلاثة أنهم لبوا نداء الله تعالى، واستجابوا لدعوته، فكافأهم تعالى استجابة دعوتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم" حديث صحيح رواه ابن ماجة.
7- دعاء الأخ المسلم لأخيه بظهر الغيب: فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل" رواه مسلم.
وعن صفوان بن عبد الله قال: "قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء"فقالت: "أتريد الحج العام؟ "فقلت: "نعم"، قالت: "فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"رواه مسلم. ولا شك أن المجتمع الذي تكون صفته أن كل أخ يدعو لأخيه بظهر الغيب، يكون مجتمعا يشيع فيه الخير، وتعم فيه الأخوة الصادقة التي ترقى بأفراده وتسمو بهم في مدارج الإيمان.
(يتبع)(20/424)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المعجم المفهرس.
[2] المعجم المفهرس.
[3] فتح القدير الجزء الخامس ص414، بتصرف.
[4] المعجم المفهرس.
[5] المعجم المفهرس.
[6] المعجم المفهرس.
[7] المعجم المفهرس.
[8] المعجم المفهرس.
[9] المعجم المفهرس.
[10] المعجم المفهرس.
[11] المعجم المفهرس.
[12] المعجم المفهرس.
[13] المعجم المفهرس.
[14] المعجم المفهرس.
[15] المعجم المفهرس.
[16] تيسير الكريم الرحمن الجزء 1 ص33.
[17] المرجع السابق الجزء 3 ص32.
[18] المعجم المفهرس.
[19] المعجم المفهرس.
[20] المعجم المفهرس.
[21] مرجع الزجاج ص52.
[22] المعجم المفهرس.
[23] المعجم المفهرس.
[24] فتح القدير الجزء الخامس ص208.
[25] تيسير العلي القدير - المجلد الرابع ص59.
[26] من حديث البخاري 6/116، باب فكاك الأسير.
[27] مرجع الزجاج ص37.
[28] المعجم المفهرس.
[29] المعجم المفهرس.
[30] المعجم المفهرس.
[31] المعجم المفهرس.
[32] المعجم المفهرس.
[33] فتح القدير الجزء الأول ص131- 132.
[34] المرجع السابق ص265.
[35] تيسير العلي القدير الجزء الأول ص96.
[36] تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص62.
[37] فتح القدير الجزء الخامس ص91.
[38] تيسير الكريم المنان الجزء الثامن ص28.
[39] مرجع الزجاج ص51.
[40] مرجع الزجاج ص42.
[41] المعجم المفهرس.
[42] المعجم المفهرس.
[43] المعجم المفهرس.
[44] المعجم المفهرس.
[45] المعجم المفهرس.
[46] المعجم المفهرس.
[47] المعجم المفهرس.(20/425)
[48] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص191.
[49] المرجع السابق ص195.
[50] المعجم المفهرس.
[51] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص202.
[52] مرجع الزجاج ص42.
[53] المعجم المفهرس.
[54] المعجم المفهرس.
[55] المعجم المفهرس.
[56] مرجع الزجاج ص33-34.
[57] مرجع الزجاج ص33- 34.
[58] المعجم المفهرس.
[59] المعجم المفهرس.
[60] تيسير العلي القدير المجلد 4 ص 373.
[61] فتح القدير الجزء الخامس ص412.
[62] المعجم المفهرس.
[63] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص201.
[64] تيسير الكريم الرحمن الجزء الخامس ص248.
[65] تيسير العلي القدير المجلد 2 ص37.
[66] تيسير الكريم الرحمن الجزء الثاني ص205.
[67] المرجع السابق الجزء الخامس ص287.
[68] المعجم المفهرس.
[69] المعجم المفهرس.
[70] المعجم المفهرس.
[71] فتح القدير الجزء الخامس ص128.
[72] المعجم المفهرس.
[73] المرجع السابق الجزء الرابع ص421.
[74] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص480.
[75] المعجم المفهرس.
[76] فتح القدير الجزء الخامس ص208.
[77] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص215.
[78] تيسير الكريم الرحمن الجزء الثامن ص108.
[79] المرجع السابق الجزء الخامس ص301.
[80] المعجم المفهرس.
[81] فتح القدير الجزء الأول ص151.
[82] مرجع الزجاج ص62.
[83] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص119.
[84] المعجم المفهرس.
[85] المعجم المفهرس.
[86] تيسير الكريم الرحمن الجزء الخامس ص304.
[87] مرجع الزجاج ص 47.
[88] تيسر العلي القدير المجلد الأول ص127.
[89] فتح القدير الجزء الرابع ص351.
[90] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص428.(20/426)
[91] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص430.
[92] المرجع السابق المجلد الثالث ص572.
[93] المعجم المفهرس.
[94] فتح القدير الجزء الخامس ص239.
[95] تيسير الكريم الرحمن الجزء الثامن ص137.
[96] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص252.
[97] المعجم المفهرس.
[98] المعجم المفهرس.
[99] المعجم المفهرس.
[100] مرجع الزجاج ص58.
[101] فتح القدير الجزء الخامس ص515.
[102] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص442.
[103] المعجم المفهرس.
[104] المعجم المفهرس.
[105] المعجم المفهرس.
[106] المعجم المفهرس.
[107] المعجم المفهرس.
[108] المعجم المفهرس.
[109] المعجم المفهرس.
[110] المعجم المفهرس.
[111] المعجم المفهرس.
[112] المعجم المفهرس.
[113] المعجم المفهرس.
[114] المعجم المفهرس.
[115] المعجم المفهرس.
[116] المعجم المفهرس.
[117] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص522.
[118] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص522.
[119] فتح القدير الجزء الخامس ص75.
[120] المرجع السابق ص161.
[121] المعجم المفهرس.
[122] المعجم المفهرس.
[123] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص145-146.(20/427)
تصديق القرآن الكريم للكتب السماوية وهيمنته عليها
د. إبراهيم عبد الحميد سلامة
أستاذ التفسير المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
لقد اشتمل القرآن الكريم على كثير من الآيات التي تفيد أنه تصديق أو مصدق لما تقدمه من كتب الله.
ولقد تعلق بهذه الآيات أعداء الإسلام وخصومه من غلاة المستشرقين والمبشرين فراحوا يزعمون أنها تعني سلامة الكتب السابقة من التحريف والنسخ، وأن ذلك يستتبع وجوب العمل بهذه الكتب كالقرآن سواء بسواء، وقد وضعوا في هذا المعنى بعض الكتب والرسائل كرسالة "أبحاث المجتهدين في الخلاف بين النصارى والمسلمين" [1] .
ومن هنا يتحتم علينا أن نبين المعنى الصحيح لهذا التصديق حتى يتبين كل منصف أن هؤلاء قد حمّلوا آيات الله ما لا تحتمل، وزاغوا بها عن معناها الحق، ومرادها الصدق، وأرادوا بذلك تحريف كلام الله عن مواضعه كما فعلوا في كتبهم، ليتعللوا بذلك في عدم إيمانهم بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل الله عليه من كتاب.
من هذه الآيات، قوله تعالى: {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ..} [2] .
وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [3] .
وقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [4] .(20/428)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وصف فيها القرآن الكريم بأنه مصدق لما بين يديه من كتب الله [5] .
فقوله -جل وعلا- {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على رسل الله عليهم السلام.
وبيان القرآن الكريم لصدق ما سبقه من كتب الله، من جهات متعددة:
الأولى: أنه أثبت الوحي، وقرر إمكانه ووقوعه فعلا، حيث أخبر في كثير من آياته أن الله أرسل رسلا كثيرين قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأوحى إليهم، يشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ …} [6] .
فهذا تصديق لأصل الوحي وللرسالات السابقة، وبذلك يكون القرآن مصدقا لما بين يديه، ويكون محمد صلى الله عليه وسلم كذلك مصدقا لمن سبقه من رسل الله.
الثانية: أن القرآن الكريم جاء حسب وصفه الموجود في تلك الكتب، حيث اشتمل على وصف خاتم الرسل، وأنه يأتي بكتاب من عند الله، فنزول القرآن على وفق هذه النعوت تصديق لهذه الكتب.
قال الإمام ابن كثير في معنى قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله [7] .
الثالثة: أن القرآن الكريم قد وافق هذه الكتب في مقاصد الدين الإلهي وأصوله التي لا تختلف باختلاف الشرائع والرسالات، وفي هذا الصدد نلاحظ اتفاق القرآن مع غيره من كتب الله فيما يلي:
1- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يتصل بذلك من تنزيه الله تعالى عن النقائص، ووصفه بكل كمال يليق بذاته المقدسة.(20/429)
2- وتتفق الكتب المنزلة كذلك في أصول الشرائع كالصلاة والصيام والزكاة… حيث أخبر القرآن الكريم أن الله تعبّد بها من قبلنا فقال في الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [8] وقال في الصلاة والزكاة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ..} [9] .
فأصول الشرائع قدر مشترك بين كتب الله، أما تفاصيلها وهيئاتها، وما يتصل بذلك من تفاريع أخرى، فتختلف فيها الكتب اختلافا يتناسب مع أحوال الناس في كل الأزمنة ويتفق مع مصالحهم.
فأصول العقيدة والشريعة إذًا واحدة في جميع الكتب السماوية، لا يختلف في ذلك كتاب لاحق عن كتاب سابق، فلا يعقل أن يعرفنا الله على لسان نوح مثلا أن وجوده حقيقة من الحقائق التي يجب الإيمان بها [10] ، ثم يبلغنا على لسان غيره من الرسل أنها ليست كذلك؛ لأن الحقائق الثابتة لا تتغير، ولا يمكن أن يحصل فيها اختلاف، تبعا لاختلاف الزمان أو المكان أو المبلغ، وكذلك ما جاءت به كل كتب الله من بعث الناس بعد موتهم، فتلك حقيقة يقررها كل رسل الله فلا تختلف باختلاف الكتب أو الرسل.
يقول صاحب كتاب (الإسرائيليات في التفسير والحديث) : "تقوم جميع الكتب السماوية على أساس واحد هو الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والأخذ بما جاء عنه من تعاليم تقود الإنسانية إلى طريق الخير والرشاد.(20/430)
فأصول العقيدة والشريعة واحدة في جميع الأديان، كما يصرح بذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..} [11] .
أما تفصيلات الشرائع العملية فتختلف فيها الكتب السماوية اختلافا يتلاءم مع زمان كل منها، ويتفق مع مصالح أتباعها، فما يصلح لزمان قد لا يصلح لآخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين. مصداق ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [12] .
والقرآن باعتباره خاتم الكتب جاء يجدد دعوة الكتب السماوية السابقة إلى أصول العقيدة والشريعة، ويؤكد وحدتها في جوهر الدعوة إلى الله لتحقق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ثم هو بعد ذلك يخالف كل ما سواه من الكتب المنزلة بما ينفرد به من نظم التشريع وألوان العبادات وكيفيات المعاملات التي تلائم عصره وتتفق وصالح الإنسانية في مرحلتها الأخيرة؛ مرحلة النضج والكمال" [13] .
3- وتتفق الكتب المنزلة كذلك في الدعوة إلى الفضائل والترغيب فيها، والترهيب من الرذائل والتنفير منها، فكل كتب الله أمرت بالعدل والإحسان، والصدق والصبر والأمانة والوفاء والرحمة، وما إلى ذلك من الفضائل ومكارم الأخلاق التي تسعد بها البشرية في كل زمان ومكان، وكل كتب الله كذلك قد نهت عن الظلم والخيانة والكذب والغدر والقسوة وما إلى ذلك من الرذائل التي تورد البشرية موارد الهلاك، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [14] .(20/431)
قال الإمام ابن كثير في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي: كلموهم طيّبا، ولينوا لهم جانبا، ويدخل في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر…" [15] .
وقوله تعالى أيضا في حق إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [16] ، فالنص القرآني صريح في أن الله أوحى إلى هؤلاء الرسل الكرام فعل الخيرات، وفعل الخيرات يشمل كل الفضائل التي تسعد بها البشرية، وتأخذ بيدها إلى ما فيه عزها وصلاحها.
وقال كذلك في سياق قصة زكريا عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [17] .
الجهة الرابعة: من جهات تصديق القرآن الكريم لما سبقه من كتب الله، أن الله قد جمع فيه ما توزع في هذه الكتب من فضائل، وصاغها في قوالب جديدة، فأنقذ بذلك أصول من سبقه من كتب الله وحفظه وصدقه، ولولا القرآن الكريم ما بقي لهذا التراث وجود.
فالقرآن الكريم لذلك خلاصة كاملة للرسالات الأولى وللنصائح التي بذلت للإنسانية من فجر وجودها، وهو ملتقى رائع للحكم البالغة التي قرعت آذان الأمم في شتى العصور، واستعراض دقيق للأشفية السماوية التي احتاجت إليها البشرية جيلا بعد جيل.
إن القرآن الكريم -بهذه الاعتبارات- مجمع حقائق الثابتة، ومجلى عناية الله بعباده، وإظهارا لهذا المعنى، يقول الله عز وجل وصفا لبعض عظات القرآن: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [18] .(20/432)
ويقول بعد سرد لتاريخ الأمم والمرسلين، أحصى هذا السرد عددا كبيرا من تلك الأمم، وهؤلاء الرسل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [19] .
فالمراد بالزبر ها هنا الكتب المنزلة على الرسل المتقدمين.
فالنبي الخاتم مجدد لدين الله، ومقيم لما انهدم من أركانه ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي" [20] .
وكذلك يطرد الحكم مع سائر الأنبياء، فإن الرسول الخاتم جاء بالأصول التي جاؤوا بها وبانيا على قواعدها، وكتابه أدق تعبير وأصدقه في بيان ما هدى به كل نبي في الأولين أمته [21] .
ومما تقدم يتبين لنا معنى تصديق القرآن الكريم لما تقدمه من كتب الله، ومنه نرى أن هذا التصديق لا يفيد -من قريب أو من بعيد- أعداء الإسلام وخصومه فيما زعموه من بقاء كتبهم سليمة من التحريف والنسخ، وبطلان ما رتبوه على ذلك من وجوب عمل المسلمين بهذه الكتب كعملهم بالقرآن سواء بسواء لأن غاية ما يفيده هذا التصديق أن القرآن قرر إمكان الوحي ووقوعه وجاء حسب وصفه الموجود في تلك الكتب، ووافقها في مقاصد الدين وكلياته إلى آخر المعاني التي قررناها، وليس في ذلك ما يدل على عدم تحريفها، أو عدم نسخها، لا سيما وقد اشتمل القرآن الكريم نفسه على ما يفيد هذا التحريف وذلك النسخ.(20/433)
فدعوى ما يخالف ذلك باطلة من أساسها، لأنها معارضة لصريح القرآن الكريم الذي أخبر أن هذه الكتب قد حرفت، وتناولتها أيدي أصحابها بالتفسير والتبديل، مصداقا لقوله في حق اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ …} [22] ، وفي حق النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ …} [23] .
يقول صاحب (الفارق بين المخلوق والخالق) في الرد على صاحب رسالة (أبحاث مجتهدين) الذي حاول أن يستدل بالآيات القرآنية التي تصفه بأنه مصدق لما بين يديه على سلامة هذه الكتب من التحريف والنسخ يقول: "ثم إني لا أتردد في أن هذا المصنف إما أن يكون جاهلا أو متجاهلا؛ إذ لا يلزم من تصديق القرآن للكتب المنزلة قبله براءة هذه التوراة والأناجيل الأربعة والرسائل الموجودة الآن بأيديهم من التحريف والتبديل والنسخ، ولا يلزم أيضا وجوب اتباعها، فقوله هذا مغالطة على ضعفة العقول، وهو خلاف الظاهر، والحق أن المفهوم من سياق هذه الآيات أن التصديق كان لثبوت صحة نزولها من الله فقط لا لبراءة هذه الكتب، ولو لزم من التصديق وجود مصدق به للزم من تصديق الرسل وجودهم حين التصديق، وهذا فاسد" [24] .
وكما جاء القرآن الكريم مصدقا لما سبقه من كتب الله، فقد جاء كذلك مهيمنا عليها، كما صرح بذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ …} [25] .
فما المقصود بهذه الهيمنة، وما الفرق بين تصديق القرآن الكريم لكتب الله وهيمنته عليها؟ وما الذي يترتب على كون القرآن مصدقا ومهيمنا على ما سبقه من كتب الله؟
ذلك ما سنعرض لبيانه فيما يلي:
هيمنة القرآن على الكتب السماوية:(20/434)
تبين لنا مما سبق أن القرآن مصدق لما بين يديه من كتب الله، كما كان شأن غيره من هذه الكتب، يصدق اللاحق منها ما سابقه ويؤيده، فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة، والقرآن الكريم مصدق ومؤيد للتوراة والإنجيل، ولكل ما بين يديه من كتب الله بالمعنى الذي قررناه آنفا، فليس المراد إذا بهذا التصديق الشهادة بحقية كل ما انتهى إليه من هذه الكتب، كما زعم ذلك خصوم الإسلام وأعداؤه، لأن هذه الكتب قد تناولتها الأيدي الآثمة بالتحريف والتبديل، والحذف والإضافة، فزالت الثقة بها، وانقطعت أو كادت تنقطع صلتها بالوحي السماوي، والتبس الحق النازل من عند الله بباطل أهل الكتاب وزيفهم مصداقا لقوله تعالى:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [26] .
ومن أجل ذلك جاء هذا الكتاب العزيز مهيمنا على تلك الكتب، فيقر منها ما هو حق وينفي ما عداه، وفي ذلك يقول ربنا -جل في علاه-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ..} [27] .
أي أن القرآن أمين وشهيد ورقيب على تلك الكتب، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل.
قال صاحب المنار: "وأما قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} فمعناه أنه رقيب عليها وشهيد بما بينه من حقيقة حالها في أصل إنزالها، وما كان من شأن من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي منها وتأويله والإعراض عن الحكم والعمل بها، فهو يحكم عليها؛ لأنه جاء بعدها [28] .(20/435)
ويقول ابن كثير: "…وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فالقرآن أمين وحاكم وشاهد على كل كتاب قبله، وجعل الله هذا الكتاب العظيم آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات كمالا ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها وتكفل بحفظه بنفسه" [29] .
علاقة الهيمنة بالتصديق:
لعلنا - في ضوء ما تقدم - نستطيع أن نقرر أن مفهوم الهيمنة أتم وأشمل من مفهوم التصديق، لأن الهيمنة لا تقتصر على مجرد الشهادة لهذه الكتب بصحة إنزال أصولها، وتقرير أصول شرائعها، بل ِتتعدى ذلك فتبين ما اعتراها من نسخ أو تحريف وما عرض لها من زيف وفساد، فالقرآن بذلك مهيمن على المعاني الصحيحة التي كانت في تلك الكتب وشاهد بكونها من عند الله، وبذلك تتلاقى الهيمنة مع التصديق، ولكنه كذلك يشهد على هذه الكتب بما أصابها من تحريف، وتسرب إليها من باطل، وبه تنفرد الهيمنة عن التصديق، فمفهومها إذا أتم وأشمل من مفهوم التصديق.
ولقد نقل القرطبي في تفسيره: أن بعض العلماء قد فسروا الهيمنة بالتصديق، ونقل الآلوسيّ مثله، واستدل هؤلاء على ما ذكروه من تفسير الهيمنة بالتصديق، بقول الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألباب
ثم قال الآلوسي: والعطف حينئذ للتأكيد أي عطف (مهيمنا) على (مصدقا) [30] .
ولكني أرجح ما ذكرته أولا: لأن تفسير الهيمنة بالتصديق وإن كان مسلما لغة إلا أن قصر الهيمنة على مجرد التصديق تحكم محض إذ هي -على ما بينا- ليست تصديقا فقط، ولا شهادة لهذه الكتب فحسب، بل هي تصديق لما بقي من أصلها، وتكذيب لما عداه، وشهادة لها بصحة إنزال أصولها، وعليها بالتحريف والتبديل وبذلك يكون العطف للتأسيس لا للتأكيد.(20/436)
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- بعد أن فسر الهيمنة بالحراسة الأمينة: "ومن قضية الحراسة الأمينة على تلك الكتب أن لا يكتفي الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه -فوق ذلك- أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها، وهكذا كان من مهمة القرآن أن ينفى عنها الزوائد، وأن يتحدى من يدعي وجودها في تلك الكتب..
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كما كان من مهمته أن يبين ما ينبغي تبيينه مما كتموه منها" [31] .
مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السماوية:
لهيمنة القرآن على كتب الله المنزلة قبله -فوق ما تقدم من تصديقه لها- مظاهر متعددة منها ما يلي:
1- أن القرآن الكريم أخبر بتحريف هذه الكتب وتبديلها، وأنها لم تبق على ما كان مفروضا فيها من الثقة بها وحقية كل ما فيها، بل تناولتها أيدي أهل الكتاب الآثمة بالتحريف والتبديل، وتناولوا ما بقي منها بالتأويل الفاسد، طبقا للأهواء والشهوات، أو متابعة لذوي السلطان، أو محاولة لكسب الجدل على أعدائهم وخصومهم، بل أخبر القرآن كذلك أنهم كتبوا الكتب بأيديهم ونسبوها إلى الله زورا وبهتانا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [32] .
2- بين القرآن الكريم من المسائل الكبرى التي خالفوا فيها الحق واختلفوا فيها.(20/437)
ففي جانب العقائد -على سبيل المثال– نفى ما صرّحت به الأناجيل من قتل عيسى عليه السلام وصلبه فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [33] وحكم على النصارى بالكفر لقولهم بالتثليث وألوهية المسيح فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [34] .
أما التوراة فإنها تنسِب إلى الله -تعالى- كثيرا من النقائص التي جاء القرآن بدحضها وإبطالها، وتصوره المراجع الإسرائيلية الحالية كالتوراة والتلمود بصورة بشرية محضة، فهو: "يحب ريح الشواء، ويتمشى في ظلال الحديقة ليتبرد بهوائها، ويصارع عباده ويصارعونه، ويندم على خلق الإنسان، ويمشي على رجليه حتى يصيبه التعب والكلال، فيجلس للراحة في ظل شجرة"، يحدث سفر التكوين: "أن إبراهيم رأى الرب ومعه ملكان فاستضافهم وأطعمهم وسقاهم وغسل أرجلهم ثم رحلوا من عنده" [35] .
وتقول التوراة الحالية: "فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله" [36] .
إلى غير ذلك من المثل الكثيرة الموجودة في التوراة الحالية، تعالى الله عن كل ما قالوا علوا كبيرا، ولقد تكفل القرآن بدحض هذه الأباطيل حيث وصف الحق -جل وعلا- بكل كمال يليق بذاته ونزهه عن كل نقص.(20/438)
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [37] فكيف تصفه كتبهم بالتعب والكلال؟ !! .
ولقد أخبر القرآن أنهم نسبوا إلى الله الولد، كما وصفه اليهود المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم بالفقر والبخل وغل اليد ثم كرّ على ذلك بالإبطال والدحض، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [38] .
وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [39] .
وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ... } [40] .
3- كما بين القرآن كثيرا من المسائل التي أخفوها، أو حاولوا إخفاءها، فمن ذلك أن الدارس لأسفار العهد القديم يرى أنها (قد خلت من ذكر اليوم الآخر ونعيمه وجحيمه -وإذا كانت اليهودية في أصلها تقرر البعث والنشور والحساب والجنة والنار، كما ينبئ بذلك القرآن- فإن ذلك يدل على أن اليوم الآخر وما فيه وما يتصل به من المسائل التي أخفاها أهل الكتاب) [41] .(20/439)
ومن ذلك أيضا إخفاؤهم ما يتصل بخاتم الرسل من بشائر ونعوت وتحريفهم لها بالحذف أو بالتأويل الفاسد، فجاء القرآن بالحق في ذلك كله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [42] .
4- ومن مظاهر هيمنة القرآن على ما سبقه من كتب، أنه أنهى العمل بها فلا اعتبار لها بجانبه، لأنه شغل الفراغ كله بتشريعه الجديد وليس لأحد أن يركن إلى ما جاء بها بعد أن تسرب الباطل إليها، ولعبت الأيدي الأثيمة بها.
ولا ينافي ما تقدم من أن القرآن الكريم قد أنهى العمل بما سبقه من كتب الله، أنه أقر كثير من أحكامها ولم يتناوله بنسخ، لأنه أمر بهذه الأحكام وأقرها من جديد، فعملنا بها ليس متابعة لهذه الكتب بل لإقرار القرآن لها وأمره بها (لأن هيمنة القرآن على غيره واستئنافه للتشريع، لا يكون بالتقليد لغيره، بل بالإقرار الجديد وإن كان موافقا أحيانا لما سبقه، وهذا معنى قوله تعالى لرسوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [43] ، بمعنى بما أنزل عليك، وقد أنزل عليه كل ما في شريعة الإسلام ونسخ به كل ما سبقه {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [44] .
وطريق الجمع بين الآيات أن يقال: "إن كل آية دلت على اتحاد الشرائع فهي محمولة على مقاصد الدين وأصول العبادات، وأما الآيات الدالة على اختلافها فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما شاء" [45] .
وبذلك يزول ما قد يبدو من تعارض بين آيات القرآن الكريم الذي لا يختلف ولا يتعارض ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .(20/440)
خاتمة: ويترتب على ما تقدم من هيمنة القرآن على ما بين يديه من كتب الله، أننا لا نقبل من هذه الكتب التي وصلت إلينا إلا ما جاء القرآن مصدقا له، فكل رواية صدّقها القرآن فهي مقبولة ويجب علينا تصديقها يقينا، وكل رواية كذبها القرآن فهي مردودة يقيناً ويجب علينا تكذيبها كذلك، وما سكت القرآن عن تصديقه أو تكذيبه، لا نصدقه ولا نكذبه، بل نسكت عنه، لأن القرآن الكريم -كما أسلفنا- هو الحكم والمهيمن على كل الكتب السابقة، وكفى به شاهداً ودليلا وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} النساء الآية 126.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مؤلف هذه الرسالة هو (نيقولا يعقوب غبريل) وطبعت بمصر سنة 1901م.
[2] آل عمران 1-4.
[3] الأنعام 92.
[4] يونس 37.
[5] تكرر هذا الوصف في ست عشرة آية، انظر المعجم المفهرس 6/406.
[6] سورة النساء 163.
[7] ابن كثير المجلد الثالث /119، وانظر الوحي المحمدي لرشيد رضا ص106.
[8] البقرة 183.
[9] البقرة 83.(20/441)
[10] ذكر القرآن نوحا عليه السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله تعالى وحده، وذلك في مثل قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف آية 59) ، ولم يذكره وهو يدعو إلى أن الله موجود، إذ أن وجوده تقر به الفطر السليمة كما في مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان آية 25) ، والإقرار بوجود الله تعالى لا يغني عن تجريد العبادة له سبحانه. (المجلة) .
[11] الشورى 13.
[12] المائدة 48.
[13] الإسرائيليات في التفسير والحديث للأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي 12-13.
[14] البقرة 83.
[15] تفسير الإمام ابن كثير 1/120.
[16] الأنبياء 73.
[17] الأنبياء 90.
[18] الأعلى 18-19.
[19] الشعراء 190- 196.
[20] مسند أحمد 3 (387) .
[21] انظر كتاب: (نظرات في القرآن) لفضيلة الشيخ محمد الغزالي (11- 12) .
[22] المائدة 13.
[23] المائدة 14.
[24] ذيل كتاب الفارق ص42، لعبد الرحمن باجهجي زاده.
[25] المائدة 48.
[26] آل عمران 71.
[27] المائدة 48.
[28] تفسير المنار 6/410-411.
[29] تفسير ابن كثير المجلد الثالث /119.
[30] انظر تفسير القرطبي 4/2207، والآلوسي 6/152.
[31] الدين د. محمد عبد الله دراز /189.
[32] البقرة /79.
[33] النساء آية 157.
[34] المائدة آية 72-73.
[35] انظر سفر التكوين إصحاح 18: 1- 28.
[36] سفر التكوين إصحاح 2: 1- 3.
[37] قاف آية 38.
[38] التوبة آية 30.
[39] آل عمران آية 181.
[40] المائدة آية 64.
[41] انظر الأسفار المقدسة، علي عبد الواحد وافي /29.
[42] المائدة آية 15.(20/442)
[43] المائدة آية 48.
[44] انظر (في رياض القرآن) للشيخ عبد اللطيف السبكي /90.
[45] انظر الفتوحات الإلهية 1/498.(20/443)
أَضواء على القرآن الكريم
(بلاغته وإعجازه)
دكتور عبد الفتاح محمد سلامة
الأستاذ المساعد في كلية الشريعة
القرآن ومعناه
القرآن علم على ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو: "كلام الله المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للتعبد بتلاوته"… فمعانيه وصياغته من عند الله… وهو المدوّن في المصحف والمبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس… {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [1] .
وللقرآن أسماء متعددة منها: الكتاب، والفرقان، والذكر…
وكلمة قرآن معناها: الجمع والتأليف فقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [2] أي تأليفه، وسمى ما بين دفتي المصحف: قرأنا؛ لأنه جمع السور وضم بعضها إلى بعض، أومعناها: القراءة، فتقول: قرأت قراءة حسنة، وقرآنا حسنا، فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [3] ... أي قراءة الفجر، يعني صلاة الفجر وسمي قرآنا: لأن القراءة عنه، والتلاوة منه [4] وقد تكرر لفظ القرآن ومشتقاته في المصحف الشريف سبعين مرة، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} [5] .
وأسماء القرآن عديدة تدل على شرفه وفضيلته، كما أن أسماء الله تدل على جلاله وعظمته.
وقد ذكر الفخر الرازي للقرآن اثنين وثلاثين اسما [6] .
وجعل الفيروز آبادي للقرآن مائة اسم [7] .
وأشهر أسماء القرآن أربعة:
الذكر: لأن الله ذكر به عباده، وعرفهم فيه فرائضه وحدوده ... قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [8] .(20/444)
الفرقان: لأنه فرق بين الحق والباطل ... {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [9] .
الكتاب: لأن الله كتب أحكامه وتكاليفه على عباده، أي أوجبها عليهم، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك} [10] .
والقرآن: أي البيان ومنه ... {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [11] أي بيناه، لأن فيه بيانا للناس، فيما يحتاجون إليه في أمور دينهم.
والسورة معناها: الإبانة بأن الكلام مفصول عما قبله، وسميت في القرآن سورة، لشرفها وارتفاع قدرها، تماما كما يقال لما ارتفع من الأرض سور، أو لأنه يبنى قطعة قطعة، ويقال أيضا للدرجة الرفيعة من المجد والملك سورة، كقول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أْعطاك سورة ترى
كل ملك دونها يتذبذب.
والآية: جماعة الحروف وهو من قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم… أو بمعنى العلامة؛ لأن الآية علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُم} [12] .
والحكمة في تقطيع القرآن سورا، والسور آيات معدودات، أن تكون كل سورة وكل آية وحدة مستقلة، وكيانا أصيلا، وقرآنا معتبرا، وفي تحديد السورة تأكيد لكونه معجزة وآية من آيات الله جل ثناؤه.
ومن السور ما يطول حتى يبلغ 286 آية كسورة البقرة.
ومنها ما يقصر حتى لا يزيد على ثلاث آيات كسورة الكوثر، ليدل على أن الطول ليس شرط الإعجاز، كما أن القصر لا يخرج السورة عن الإعجاز، بل إن سورة الكوثر رغم قصرها معجزة إعجاز سورة البقرة على طولها ...(20/445)
يقول الزمخشري: "إن الفائدة في تقطيع القرآن سورا وآيات أن القارئ إذا ختم السورة وانتهى من آياتها كان ذلك أنشط له وأبعث على الجد والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، كما أن الحافظ إذا حذف السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حذفه" [13] .
والذي انعقد عليه إجماع الأمة، واتفق عليه المسلمون كافة أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وهي التي جمعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكتب بها المصاحف، وبعث بكل مصحف إلى مدينة من مدن الإسلام.
ولا التفات إلى الرأي القائل بأن الأنفال وبراءة سورة واحدة، أو من جعل المعوذتين سورة واحدة.
وعدد السور التي نزلت بمكة خمس وثمانون سورة، وأول السور المكية: (العلق والقلم والمزمل والمدثر) .
أما السور التي نزلت بالمدينة فعددها ثمان وعشرون سورة، وأول ما نزل بالمدينة: البقرة والأنفال وآل عمران والأحزاب والممتحنة) .
أما الفاتحة فاختلفوا فيها: فقيل مكية وقيل مدنية.
وبذلك يكون مجموع عدد سور القرآن 114 سورة.
وعدد آيات القرآن 6236 آية.
وعدد كلمات القرآن 77439 كلمة.
وعدد حروف القرآن 323015 حرفا [14] .
القرآن المعجزة
القرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة، التي نصبها رب العزة تبارك وجل في علاه، شاهدا حيا ناطقا، بصدق الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، ولق تحدى الله العالم كله إنسا وجنا، فما ثبتوا لهذا التحدي، بل أظهروا عجزا صارخا، وعيا بليدا، وفهاهة فاضحة… وقد سجل الله عليهم نكوصهم عن مجاراة القرآن ومسايرته في آفاقه العالية… حيث قال تعالى:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [15] .(20/446)
ومعاني القرآن على الرغم أنه نزل منجما إلا أنها تلاقت مقدماتها بنتائجها ومهدت أولاها لأخراها، ولن تجد في معاني القرآن ما تجده في غيره من كلام البشر من المعاني الساقطة أو التافهة، بل كل معانيه سامية قوية، آيات وسورا اشتملت على أمور الدين والدنيا، وانتظمت سعادة الأولى والآخرة، ونزلت هدى ونورا للبشرية كلها، فضت على الأوهام الباطلة، والأساطير الكاذبة، والعبادات الضالة والأديان المنحرفة، ونقلت الإنسانية الحائرة من عصر تسوده الفوضى وتذيع فيه مبادئ الطغيان والعبودية، إلى حياة فيها رضى وأمن وسلام.
إن هذا القرآن قبس من الهدى والنور نزل به جبريل من السماء إلى الأرض على سيد الخلق وأشرف الرسل محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، فبلغه الناس، وأذاع أخلاقياته ومثالياته في كل مكان وبذلك نشرت صفحات جديدة مشرقة ناضرة في تاريخ الإنسانية، وكان لها من وراء ذلك ميلاد حضارة جديدة.
إنه ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وضرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب.
ومعانٍ بَيْنا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، بينا هي تمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان، إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب انهارت قواعده والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة: وإنما هي زجرة واحدة، فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض مائدة… [16] .(20/447)
ولقد كانت للرسول العظيم عليه الصلاة والسلام معجزات كثيرة تدل على صدقه، وأنه مرسل من قبل الله تعالى، فالمعجزة مختصة بالنبي دائما، وتقترن بالتحدي، ومن ثم لا يمكن تحصيلها بالجهد أو الاكتساب.
وكذلك للأنبياء معجزات ظهرت على أيدي كثير منهم، بيد أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تفوق معجزات غيره سواء من حيث العدد أو من حيث الأهمية.
فإذا كان الله أظهر معجزة لموسى هي أن يضرب البحر فانفلق في الأرض.
فكذلك أظهر لمحمد عليه الصلاة والسلام فانشق له القمر في السماء.
وكما فجر لموسى عليه السلام الماء من الحجر، فقد فجر لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصابعه عيونا.
وكما ظلل على موسى عليه السلام بالغمام، فقد ظلل محمدا صلى الله عليه وسلم كذلك بالغمام.
وكما جعل من معجزات موسى عليه السلام اليد بيضاء، فقد جعل من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم القرآن.
وكما سبحت الجبال مع داود عليه السلام فقد سبحت االأحجار في يد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما سخر الله لداود الطير المحشورة، سخر لمحمد البراق يطير في السماء.
وكما جعل من معجزات عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص..فقد جعل شبيها بذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد سقطت حدقة رجل في غزوة أحد فرفعها وردها إلى مكانها.
وانقادت الجن لسليمان، وانقادت كذلك للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ويمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه، حنين الجذع وانقياد الأغصان، وجعل قليل الطعام كثيرا، كل ذلك على مشهد من الناس وأسماعهم، فلم ينكر أحد شيئا مما رآه أو سمعه رغم أن ذلك ليس في طاقة البشر أو مقدرتهم [17] .(20/448)
وأفضل معجزات الرسول وأجلها شأنا هي معجزة القرآن الذي نزل بأفصح اللغات وأبلغها، فقد سحر القرآن العرب منذ استمعوا إليه في اللحظة الأولى، سواء من شرح الله صدره للإسلام وأنار بصيرته، أو من طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فالوليد بن المغيرة قال يصف القرآن:
"والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه".
والقساوسة والرهبان يحكي عنهم القرآن: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [18] .
فالقرآن من شأنه إذا استمع إليه إنسان أن تتحرك مشاعره، ويهتز قلبه، ويقشعر بدنه خوفا.. ويعتصر فؤاده رجاء، لما فيه من جمال الأسلوب، وقوة في التعبير.
ولقد وصف الله كتابه عز من قائل:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [19] .
فروعة القرآن يحسها القلب الخاشع، ولكن العرب كما وصفهم القرآن: {قَوْمٌ خَصِمُونَ} [20] ، وأعداء ألداء: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [21] ، فأخذوا يتناولون القرآن بالتشكيك، ويشنون عليه حملات شعواء، بغية التهوين من شأنه، والغض من قدره.
ولكن الله رد كيد الكافرين إلى نحورهم، فتحدى الرسول بلغاء العرب وفصحاءهم أن يأتوا بسورة من مثله، ولكنهم عجزوا وأعرضوا عن معارضته، فكان ذلك داعيا إلى الاعتراف بإعجاز القرآن، وقصورهم أمام بلاغته.
والقرآن ليس معجزا للعرب وحدهم، وإنما هو معجز للعربي وغير العربي، لأن دعوة الإسلام دعوة عالمية ليست مرتبطة بلغة معينة، ولا بوطن خاص، وإنما هي دعوة تحتوي العالم بأسره، ومن أجل ذلك كان القرآن معجزا لكل الأمم.(20/449)
وحجة القرآن على العرب الفصحاء كحجته على غير العرب من الأعاجم، كما أن حجة موسى عليه السلام في قلب العصا حيّة كانت حجة لأمهر السحرة، وحجة عيسى عليه السلام في إحياء الموتى لم تكن لأعظم الأطباء وحدهم، وإنما كانت للطبيب الماهر والخامل، وغير الطبيب على السواء.. وإذا عجز أمهر السحرة وأعظم الأطباء عن الإتيان بمثل ما أتى به موسى وعيسى عليهما السلام كان ذلك أدعى إلى عجز غيرهم…كذلك الشأن في معجزة القرآن، أتى به محمد صلى الله عليه وسلم لأفصح الناس وأقدرهم على نظم الكلام العربي، ورغم حرصهم على تكذيب الرسول، وإفساد دعوته، لم يفلحوا في مجاراته، ولم يستطيعوا تكذيبه.
وإذا كان العرب الفصحاء عاجزين عن مجاراة أسلوب القرآن في فصاحته وبلاغته، فغيرهم من الأعاجم أعجز.
وقد يقول قائل: إن الأعجمي الذي لا يفهم العربية لا يدرك ما في أسلوب القرآن من نظم معجز، وبلاغة عجيبة، ولا يدري من أين يكون إعجازه، وكيف تكون بلاغته، وعندئذ تسقط الحجة في الإعجاز.
والإجابة على هذا التساؤل سهلة ميسورة، فإن الإعجاز لغير العربي قد بدا واضحا في أشياء أخرى، وجوانب مثيرة متعددة غير البلاغة والفصاحة التي لا يدرك مراميها… فكل يوم تطلع فيه علينا أشياء جديدة، ومكتشفات حديثة، وتبرز إلى الوجود قضايا تحدث عنها القرآن قديما ولم تبد سافرة إلا الآن.
ومع ذلك كله لا نلقى أي تناقض أو تصادم بين هذه الجوانب وتلك النواحي وما في القرآن من نهج اتبعه في التعبير عنها تناسق تام لا نفرة فيه، بحيث يدرك الأعجمي من هذا التناسق في التعبير، والدقة في الأداء القرآني الذي يتفق وما يكتشفه العلم حديثا، سرا من أسرار الإعجاز في الأسلوب البياني للقرآن المجيد.
ترى مثلا القرآن في تعبيره يسلك هذا المسلك ويلتزم بهذا الترتيب البديع حين يقول:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [22] .(20/450)
فيقدم السمع أولا، ويثني بالأبصار، وينتهي بالفؤاد، والحقائق العلمية تثبت أن حاسة السمع تؤدي مهمتها أولا منذ اللحظة الأولى من ولادة الإنسان.
وحاسة الإبصار تؤدي وظيفتها خلال عشرة أيام، فالبصر يؤدي مهمته ثانيا، ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بالفؤاد من المعلومات العقلية والقلبية [23] .
فالترتيب الذي ورد في الآية القرآنية تلمح من خلاله أن اللفظ المقدم أهم من الألفاظ التي ترد بعد ذلك، وهذا هو التعبير القرآني الدقيق، فإذا جاء هذا التعبير على وفق ما قرره العلم، كان التزاوج بين أسلوب القرآن في بلاغته وفصاحته، وأسلوب العلم في اكتشافه وتقريره… فالأعجمي حين يرى هذا التماثل والانسجام بين التعبير القرآني والاكتشاف العلمي، يتحقق من إعجاز القرآن في بلاغته.
على أن علماء النحو قد يكون لهم توجيه خاص في نظم الآية وأمثالها، فيقولون مثلا: إن واو العطف تأتي لمطلق الجمع، بمعنى أنه يجوز في الآية أن تقدم السمع على البصر وتؤخره دون أن يختل المعنى… غير أنه أصبح من الواضح هنا أن الترتيب فيه نوع من الالتزام، نظرا لأهمية المتقدم عما جاء بعده… ونلمح مثل هذا التوافق العجيب بين التعبير القرآني والتقرير العلمي حين يذكر القرآن السمع مفردا، والبصر جمعا في آياته مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [24] ، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [25] .(20/451)
لأن الصوت لا مفر لك من سماعه ما دمت لا تسعين بشيء خارجي يمنعك من السماع كوضع شيء في الأذن، بخلاف الصورة فيمكنك أن تراها فتدع عينك مفتوحة، ويمكنك ألا تراها فتغلق عينيك دون أن تستعين على عدم الرؤية بشيء من الخارج كما في حالة الامتناع عن السمع، فالإبصار متعدد حيث يراه بعض الناس، ويغمض الآخرون عيونهم عنه فلا يرونه، وحيث إنك ترى حين تريد، أو حين لا تريد، أما السمع فواحد لا يمكنك إلا أن تسمع أنت ويسمع الآخرون جميعا إذا انفجر صوت، فالسمع واحد والأبصار متعددة [26] .
وإذا كان هذا هو الشيء المسلم به والمقبول…كان تعبير القرآن بالإفراد عن السمع، وبالجمع عن البصر موافقا لما نعرفه ونسلم به… وبهذا يتحقق الإعجاز القرآني للعربي وغير العربي على السواء.
ولكن المفسرين لا يرون في مجيء السمع مفردا والأبصار جمعا إعجازا علميا، ولكن يجيء لأسباب لغوية ترتبط بقواعد اللغة، ففي قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [27] .
جاء السمع مفردا بين القلوب والأبصار وكلاهما جمع، والزمخشري يعلل هذه الظاهرة الأسلوبية فيقول: "ووحد السمع كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطونكم تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس… فإذا لم يؤمن كقولك: فرسهم وثوبهم رفضوه، إذا أردت الجمع؛ ولك أن تقول: السمع في أصله مصدر، والمصادر لا تجمع فتقدر محذوفا، أي وعلى حواس أسماعهم… وقرأ ابن عبله: {وعلى أسماعهم} [28] …فذكر الزمخشري لمجيء السمع مفردا عللا ثلاثا: أمن اللبس حيث لا نرتاب في أن المقصود بالسمع هنا الجمع وليس المفرد، ثانيا: أن السمع مصدر والمصادر لا تجمع، ثالثا: ورد في إحدى القراءات {وعلى أسماعهم} بالجمع…(20/452)
ومن خصائص الأسلوب القرآني الفذ: أنه يجمع بين الجزالة والسلاسة، والقوة والعذوبة، وحرارة الإيمان، وتدفق البلاغة، فهو السحر والنور الباهر والحق الساطع والصدق المبين… ولما سمعه فصحاؤهم وبلغاؤهم وأرباب البيان فيهم سجدوا لله خاشعين… وما إيمان "عمر"حين سمع "طه"وما فزع "عتبة"حين سمع "فصلت"… وما تردد بلغاء العرب على الأماكن التي يتعبد فيها النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ليلا، إلا ليسمعوا هذه البلاغة خفية، وما عجزهم بعد التحدي إلا دليل الإعجاز، وعظمة البيان وجلال الأسلوب…
ومن هذا المنطلق العجيب، كان القرآن الكريم وحده، هو كتاب الهداية، ولغة الحياة وقصة الكون الصادقة من بدايته إلى نهايته، بل هو تجديد لميلاد الإنسان على اختلاف الحقب وتوالي الأجيال، ومرور الدهور والعصور، نزل لمخاطبة النفس البشرية والأخذ بيدها، فهو معها آمرا وناهيا، مرشدا وواعظا، مبشرا ومنذرا، حارسا ومدافعا، مصبرا ومسليا، معلما وموجها، سميرا وجليسا، صديقا وأنيسا، فهو الحياة في سموها، والسعادة في أوجها، والكمال في أسمى معانيه، فلقد بلغ الغاية التي لا تدانيها غاية، في الرفعة والعلو، والخلود والسمو، فما أبدع تراكيبه وأروع أساليبه، وأسمى من معانيه.
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أهدى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده
طلع الصباح فأطفئ القنديلا
ولو ذهبنا نستقصي وجوه الإعجاز للقرآن الخالد، ونستعرض صفحات جلاله، لأعيانا الأمر، وانقطعت نفوسنا من شدة البهر، لأنه الكتاب الذي لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.
وإن ما نذكره الآن من وجوه خلوده وإعجازه، لهو قل من كثر، ووشل من فيض، وقبس من روح، وقطرة من بحر، فمن هذه الوجوه:
1- قوة أسلوبه في كل ما تناول، فهو قوي في التعبير عن الأحكام، والأخبار والربوبيات، كقوته في القصص وغيره، فليس هناك تفاوت في الأسلوب لاختلاف الموضوعات.(20/453)
2- اشتماله على قصص وأخبار الأمم الماضية، وموقف كل أمة من نبيها، كل هذا يسوقه القرآن في دقة بالغة، حتى كأننا نعيش في نفس الحوادث التي يعرضها، والذي بلغنا كل هذا إنما هو رجل أمي لا يعرف القراءة أو الكتابة.
3- اشتماله على نظام في الأخذ به سعادة الأمم وفي البعد عنه تعاستها وشقاؤها {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
4- بلاغة القرآن النادرة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يستطيع أن يكشف عن خصائصها باحث، ولقد وضعت علوم البلاغة والنقد والإعجاز للكشف عن مظاهر هذه البلاغة وأسرارها، ثم هي للآن وبعد مضي ما يربو على ثلاثة عشر قرنا من الزمان، لا تزال على أول الدرب، وفي بداية الشوط، وسوف تظل هكذا كليلة قاصرة، لأنها أمام بحر خضم لا ساحل له.
5- سمو الروح، ونبل الهدف في القرآن: فهو ليس كتاب قصص أو تسلية، أو أدب أو حكمة أو فلسفة أو تاريخ أو اجتماع وإنما هو منهج متكامل للحياة الصحيحة في كل جوانبها.
6- جلال أثره الأدبي في لغة العرب، وحياتهم وأدبهم، وفي حياة المسلمين والعالم كله.
7- خلوده على مر الأيام، والعصور والأمكنة، مع عجز الناس عن معارضته، رغم أنه تحدى ولا يزال… وتاريخ العالم مشتمل على الأفذاذ من الأدباء والبلغاء.
8- بساطة القرآن في أسلوبه، ووضوحه وجماله وجزالته.
9-وأخيرا وليس آخرا: ما جاء به القرآن من إعجاز علمي مبدع، جعل العلماء يخشعون لجلال هذا الكتاب وسبقه في هذه الميادين… ومن هذا اللون العلمي قول الله:
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [29] … {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [30] … {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [31] … {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [32] .(20/454)
هذا هو القرآن في سموه وجلاله، وسحره وجماله وخلوده وكماله، ولقد وقفت الإنسانية صاغرة أمامه، على الرغم مما يزخر به تاريخها من عباقرة وأساطين في الفكر والأدب والاجتماع، وما يحفل به من نوابغ لسن وخطباء مصاقع… وصدق الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [33] .
موطن الإعجاز في القرآن
إن أهم معجزة للرسول العظيم: هو القرآن الكريم، وقد حمل دعوة التحدي به إلى الناس عامة، وإلى العرب خاصة، في أكثر من موضوع منه، ومع ثبوت هذا، فإن الوقوف على الجهة التي كان منها الإعجاز القرآني، أمر لم تلتق عنده الآراء، ولم يكن محل اتفاق بين الباحثين والناظرين في وجوه الإعجاز، في كل زمان ومكان.
فهناك أكثر من رأي، وأكثر من مذهب في الجهة أو الجهات التي كان بها القرآن مفحما، على ما سنرى في موضعه، وليس كذلك الشأن في معجزات الأنبياء… إذ كل معجزة كانت تنادي معلنة في وضوح عن صفتها التي أعجزت بها، وتشير في صراحة إلى الجهة التي جاء منها الإعجاز، فيعلم الناي لوقتهم ماذا في المعجزة من دلائل الإعجاز، وماذا فيها من القوة القاهرة المعجزة التي لا يستطيعون القيام لها، والجري معها.
وماذا يبحث الناس في عصا موسى عليه السلام مثلا؟ إنها مجرد عصا… لا تختلف في مرأى العين عن أي عصا أخرى… ليس فيها أجهزة، ولا عدد، ولا أي خروج عن صفات العصي التي في أدي الناس… ولكنها في يد موسى تنقلب إلى ثعبان مبين يلقف ما يأفكون.
وليس في يد موسى غير ما في أيدي الناس… لحم ودم وعظم وعصب وعروق، لا تختلف في شيء أبدا عن الأيدي التي تحيا في أجساد الناس وتعمل لهم.
إذن فهناك قدرة لا ترى… هي قوة الله… التي تمد موسى بهذه المعجزات، وليست يده أو عصاه إلا أداة تحمل هذه المعجزة أو تلك.(20/455)
كذلك معجزة عيسى عليه السلام ... يدعو الميت فيحيا، ويمس الأكمه والأبرص فيبرأ… وليس في صوته الذي يدعو به شيء يخالف مألوف الأصوات المعروفة للناس… إنه مجرد كلمة تنطلق من فم، فإذا هي حياة، وإذا روح تسري في موات فتبعثه من مرقده.
إذن فليس الشأن في هذا الصوت، أو في تلك الدعوة، وإنما هي قوة قادرة… لا ترى… قد جعلت لهذه الكلمة ولتلك الدعوة هذا الأمر المعجز! هي قوة الله تعالى.
أما القرآن فشأنه غير هذا الشأن وأمره على خلاف هذا الأمر!
فهو كلمات، وألفاظ، وعبارات، لا تختلف عما ألف الناس، مما يجري على ألسنتهم من كلام ... إنه كلمات مألوفة معروفة… تعامل بها الناس، فأخذوا بها وأعطوا… وقلبوها على جميع وجوهها ... في مختلف الأساليب، وشتى التراكيب.
إن كل ما في القرآن من كلام هو مما كان يدور على ألسنة العرب، ومما يصاغ منه نثرهم، ونظمهم.. من خطب، وحكم ومساجلات، ومن قصيد ورجز… وفي هذا يقول الله:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [34] .
ثم إن هذه الكلمات التي عرفت -بعد- باسم القرآن، والتي تحدى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العرب جميعا، ثم الإنس والجن قاطبة، هذه الكلمات لها ما كان لكلمة عيسى حين كان ينطق بها فتتجسد معجزة قاهرة يشهدها الناس، ويرونها رأي العين.
إن هذا الكلام المألوف المعروف حين ضمه القرآن إليه، ونظم منه آياته، وصور منه أحكامه وقصصه، وجدله، ومواعظه، وزواجره، هذا الكلام قد أصبح منذ ذلك اليوم معجزة قاهرة، تتحدى الناس جيلا بعد جيل… وأمة بعد أمة… فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ولكن ... أين هي المعجزة في هذا الكلام؟ وماذا يبدوا للناس منها؟ وماذا يشهدون من إعجازها؟ وكيف يضع الناس أيديهم على المعجزة، ويرفعون أبصارهم إليها؟.
إنها معجزة لا ترى بالعين، ولا تلمس باليد!(20/456)
وعلى الناس أن يسمعوا لهذا الكلام، وأن يتدبروا آياته… وعندئذ يرون ببصائرهم -لا بأبصارهم- في كل آية معجزة قاهرة… تعنو لها الجباه، وتخضع لها الرقاب.
إن على الناس أنفسهم… أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لهذه الكلمات، فإنهم إن فعلوا تكشف لهم منها ما كان يتكشف من عصا موسى عليه السلام ويده، ومن كلمة عيسى عليه السلام… وهذا مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وإنما كان هذا الذي أوتيته وحيا أوحي إلي" [35] .
إنها آيات… معجزات… وما يعقلها، ويعرف وجه الإعجاز فيها إلا العالمون الذين يلقون أسماعهم لها، ويفتحون قلوبهم وعقولهم للحق الذي فيها، وللنور الذي معها.
ومن ثم كانت أنظار المسلمين دائما معلقة بهذا الكتاب، يدرسونه، ويتدارسونه، ويلقونه بكل ما تسعفهم به الحياة من علوم ومعارف، فيجدون كل شيء دون ما في كتاب الله من علوم ومعارف، فيزداد لذلك تعلقهم بكتاب الله، وتتوثق صلتهم به، ويشتد إقبالهم عليه، ومدارستهم له.
وفي كل يوم من أيام المسلمين تظهر دراسات وبحوث في القرآن وعلوم القرآن، حتى لقد اجتمع من ذلك ما لا يحصى عدا.
ولقد كان نصيب "الإعجاز"في مباحث القرآن نصيبا موفورا، وقد أفرده بعضهم بدراسة خاصة، كما فعل عبد القاهر الجرجاني والرماني والخطابي والباقلاني ... إلا أن أكثر مباحث الإعجاز هي التي كانت تجيء ضمن مباحث التفسير أو القراءات… فمعظم الذين فسروا القرآن حاولوا أن يجعلوا في صدور تفاسيرهم إشارات تتضمن آراءهم في فضل القرآن وفي إعجازه.
ولعل! "الزمخشري"أشهر هؤلاء المفسرين وأولاهم بالذكر في هذا المقام، إذ كان تفسيره "الكشاف"يبحث عن مناط الإعجاز في كتاب الله… في آياته، آية آية، وفي كلماته، كلمة، كلمة.
وقد آن لنا أن نلتقي بعد هذا مع بعض هؤلاء العلماء والمفسرين، الذين يتسع المجال للقائهم والتحدث إليهم.
1- الجاحظ ورأيه في الإعجاز(20/457)
في رسالة للجاحظ بعنوان "حجج النبوة" [36] يتحدث الجاحظ عن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها قائمة في القرآن الكريم، الذي هو معجزته الكبرى… الخالدة، ويقيم الدليل على هذا بما عرف من تحدي القرآن للعرب، وعدولهم عن لقاء هذا التحدي، والنزول في ميدان القول ... فهربوا من هذا الميدان… وأوقدوا نار الحرب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم… فقتلوا وقتلوا…ولو كان في مستطاعهم أن يصمدوا لهذا التحدي لما فروا هذا الفرار المشين، ولما رضوا أن يعرضوا أنفسهم للموت، وخاصة بعد أن ظهر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الميدان أيضا، وقتل كثير من فرسانهم ومشيختهم.
يقول الجاحظ:
"إن محمدا عليه الصلاة والسلام مخصوص بعلامة، لها في العقل موقع كموقع فلق البحر من العين ... وذلك قوله لقريش خاصة، وللعرب عامة -مع ما فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء- والدهاة، والحلماء، وأصحاب الرأي والمكيدة، والتجارب، والنظر في العاقبة: "إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي، وصدقتم في تكذيبي" [37] .
ثم يتحدث عن معجزة النبي "محمد صلى الله عليه وسلم"فيقول:
"وكذلك دهر "محمد"صلى الله عليه وسلم، كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به، فحين استحكمت لغتهم، وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يقرعهم بعجزهم، وينقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات [38] .(20/458)
ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجة على وقوع الإعجاز بالقرآن… وهو رأي -كما ترى- تقوم بين يديه أدلة قاطعة… وإن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذه الوجه، إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا، واعتمدوا عليه، وداروا حوله ... ومنهم "الباقلاني" في كتابه "إعجاز القرآن"… والزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"… وغيرهما ممن كان لهم رأي في إعجاز القرآن!! .
الجاحظ ووجوه الإعجاز:
أما عن رأيه في وجوه الإعجاز التي كان بها القرآن معجزا، فهو الرأي الذي ذهب إليه "الباقلاني"من بعده، و"الجرجاني"كذلك… وهو "النظم"، الذي انفرد به القرآن، في صياغة أساليبه، صياغة تنتظم بها المعاني انتظام الروح في الجسد.
والجاحظ كما نعرف، إمام من أئمة البلاغة، وعلم مفرد في أساليب البيان، وذواقة لم تعرف العربية مثيلا له في التعرف على طعوم الكلام، واختلاف مذاقاته! وما تعرف اللغة العربية أديبا طاوعه قلمه فتحرك في كل اتجاه، وجال في كل حلبة، ونازل في كل ميدان، مثل هذا القلم الذي اشتملت عليه يد الجاحظ.
وإذا كان رأي الجاحظ، في وجه الإعجاز في القرآن، هو ذلك النظم الذي انفرد به القرآن في تصوير معانيه وإخراجها على تلك الصورة العجيبة من النظم، فإن ذلك لم يكن رأيا صريحا للجاحظ، وإنما كان عن طريق الاستدلال، والاستنتاج، لمقولاته التي حملناها هذه المحاميل، وفهمناها على هذا الوجه من الفهم، وإلا فإن الجاحظ لم يقل قولا صريحا مواجها، في الجهة أو الجهات التي جاء منها الإعجاز في القرآن!!
كان الجاحظ ممن يحفلون بالصياغة اللفظة، وممن يجعلون لصفاء العبارة ونضارتها شأنا في البلاغة، وتمكين المعنى من أن يعرض أروع عرض، وأبرعه، وأكمله.(20/459)
وكانت الظاهرة الغالبة في تلك الفترة المعاصرة للجاحظ، هي الاحتفال بالمعنى، وكدّ الذهن له، والجري وراءه… إذ كانت آثار العقل اليوناني في الفلسفة، والعقل الهندي والفارسي في الحكمة، وضرب الأمثال، قد أخذت تنتقل إلى اللغة العربية، وتؤثر في النفس هذا التأثير الذي أقام المذاهب الكلامية والفلسفية عند كثير من الجماعات والأفراد… وكان من ذلك أن جرى الناس وراء المعاني يلتقطونها في أي محمل من محامل اللفظ، وعلى أية صورة من صوره… حتى لقد كاد ذلك يذهب بكثير منهم إلى الخروج على الأساليب العربية والذوق العربي [39] .
لهذا وقف الجاحظ في بوجه هذا التيار، وتصدى له، ودفع به إلى الوراء بعيدا… فانحسر شيئا فشيئا، وجعل أولئك الذين كانوا قد ركبوا هذا المركب لاصطياد المعاني، يعودون رويدا إلى الساحل، حيث يأخذون من المعاني ما تنال أيديهم، وما تبلغ أفكارهم.
رأي الجاحظ
والرأي الذي دعا إليه الجاحظ، هو أن البلاغة نظم وصياغة… فمن أخطأه حسن النظم، وحبكة الصياغة، فقد أخطأت كلامه عناصر الحياة، وجمدت فيه عروق البلاغة والبيان… وذلك أن المعنى الذي يخرج في صورة من النظم المضطرب ومن الصياغة المختلطة، هو معنى شأنه ذميم.
ويشهد عبد القاهر الجرجاني آثار هذه المعركة التي كانت دائرة بين اللفظ والمعنى، ويراها في مخلفات الجاحظ الذي كان ينتصر للفظ، من جهة، وفي مخلفات من كانوا يقفون ضده… في الجهة الأخرى.
ويقف "عبد القاهر"إلى جانب رأي الجاحظ، ويقفو أثره، ويتخذ من هذا الرأي حجته على وجه الإعجاز في القرآن.
ولا تحسبن أن "الجاحظ"يهون من شأن المعنى، أو يغمض من قدره… وكيف وهو رجل راجح العقل ... وفير العلم والحكمة والأدب؟(20/460)
فالجاحظ لم ينتصر للفظ، ولم يقف إلى جانب الأسلوب، إلا لمواجهة هذا الخطر الداهم على اللغة، والذي أشرنا إليه آنفا، وإلا فإنه حفي بالمعنى مؤثر له، حريص عليه ما دام لم يجر على الأسلوب، ولم يفسد كيانه، ولم يشوه بنيانه.
وللجاحظ في هذا المقام عبارة مشهورة يقول فيها:
"والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك"
"وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير" [40] .
وأنت ترى أن "الجاحظ"ليس له هنا حديث عن الإعجاز في القرآن، وإنما هو يتحدث عن صفة الكلام البليغ، وعن مأتى البلاغة فيه، ومجال التفاضل بين الكلام والكلام.
وإنه بهذا الميزان الذي يوزن به الكلام، وتعرف به منازله، يمكن أن يعرف فضل القرآن على غيره من الكلام، ويمكن أن يستدل على وجه الإعجاز فيه.
وهذا ما كان من "عبد القاهر"في كتابيه: "دلائل الإعجاز"و"أسرار البلاغة" ... حيث أقام مذهبه في الإعجاز على هذا الميزان، وهو "النظم" ... كما سنرى ذلك في موضعه من هذا البحث.
هذا "والجاحظ"إذ يرى الإعجاز في "النظم"لا يرى النظم نظما إلا إذا كان على شيء من السعة والامتداد، بحيث يحمل معنى مؤلفا من حقائق مترابطة، يسند بعضها بعضا، فتتشكل منها صورة سوية.
أما النظم الذي يقوم على جملة أو جملتين، أو كلمة أو كلمتين، فلا يدخل في هذا الباب، ولا يعد نظما ينكشف به معدن الكلام وتبين روعته.
يقول الجاحظ في هذا:
"ولأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل منهم أي من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها".
ثم يقول:(20/461)
"وليس ذلك -أي الإعجاز- في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين، ألا ترى أن الناس قد يتهيأ في طباعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: "الحمد لله "و"على الله توكلنا"… وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع".
"ولو أراد أَنطَقُ الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه، ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع "قحطان"و "معد بن عدنان" [41] .
فالنظم على صورة مخصوصة، وفي امتداد رحب هو المعرض الذي تتجلى فيه روعة القرآن وتخايل ملامح إعجازه.
وعلى هذا فالجاحظ هو إمام هذا المذهب في إعجاز القرآن، وعمدة الرأي فيه… ما أن كشف عنه في حديثه عن الأدب، وبيان معادنه حتى كان مذهبا غالبا من مذاهب الرأي في الإعجاز، وحتى دفع إليه العلماء دفعا، إذ جعلوا قوله هذا في الفصاحة والبيان، هو مجال النظر في الإعجاز، لا يكادون يتجاوزونه، ولا ينظرون إلى شيء وراءه.
الجاحظ…والقول بالصرفة:
لاتعجب إذا رأيت الجاحظ يقول بالصرفة في وجه الإعجاز في القرآن.. فالجاحظ كما نعلم "معتزلي"… وجه من وجوه المعتزلة ورأس من رءوسهم، والنظام وهو من شيوخ المعتزلة كان أول من جاهر بهذا الرأي وفتح للناس باب الكلام فيه.
ولا يذهبن بك الرأي إلى أن تحسب الجاحظ متابعا أو مقلدا لإمام مذهبه "النظام"في هذا الرأي… فالجاحظ وإن أخذ بقول "النظام" ... فليس ذلك عن تقليد ومتابعة، وإنما عن نظر وموازنة ومراجعة ... ثم اقتناع.(20/462)
ومن ثم كان رأي الجاحظ في القول بالصرفة هو الذي جعل لرأي "النظام"بعد هذا مكانا بين الآراء التي دارت حول إعجاز القرآن، ولولا هذا لما التفت الناس إلى رأي النظام هذا الالتفات، ولما عاش هذا الرأي في الناس، ينقضونه حينا، ويقبلونه أحيانا… وأمر آخر، وهو أن الجاحظ إنما قال بالصرفة بعد أن أعياه الوقوع على الضوابط الدقيقة التي يضبط بها وجه الإعجاز في القرآن، ويكشف عن أسرار هذا الإعجاز ... فذلك أمر إن أعجز الجاحظ فقد أعجز الإنس والجن جميعا! فلو أن الإعجاز قد انكشف –وهيهات- لعرفه الناس، ومن ثم لم يعد بعيدا عن متناول أيديهم… وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن… والله سبحانه يقول:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [42] .
إن سر الإعجاز مضمر في كلمات القرآن، كلمة كلمة، وآية آية، إنه أمر من أمر الله…كالروح ترى آثارها، وتشاهد أفعالها، دون أن ينكشف للناس شيء منها.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [43] .
والقرآن "روح"تتجلى آثاره في هذه الكلمات المنظومة في آياته…
ولعل في قوله تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [44] .
لعل في هذا ما يعين على الفهم الذي فهمناه من أن القرآن "روح"من روح الحق جل وعلا ... ونقول: لا تعجب إذا عجز الجاحظ عن الكشف عن هذا السر المضمر، أو هذا الروح الساري في القرآن فلم يعرف وجه الإعجاز فألجأه هذا العجز إلى القول بالصرفة ... فالجاحظ أستاذ في نقد الكلام، فلا عجب أن عرف قدر القرآن، ولزم حده معه.
(يتبع)(20/463)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النجم /4.
[2] القيامة /17.
[3] الإسراء /78.
[4] انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص33.
[5] الإنسان /23.
[6] تفسير الفخر الرازي 1/161-163.
[7] البصائر 1/88.
[8] الأنبياء /50.
[9] الفرقان /1.
[10] الأنعام /92.
[11] القيامة /18.
[12] البقرة /248.
[13] البرهان للزركشي 1/265 ط. الحلبي.
[14] القرطبي 1/56-67.
[15] الإسراء /88.
[16] إعجاز القرآن ص26 للرافعي.
[17] مفاتيح الغيب 30/125- 126 - الرازي.
[18] المائدة /83.
[19] الزمر /23.
[20] الزخرف /58.
[21] مريم /97.
[22] الإسراء /36.
[23] القضاء والقدر ص127- 130 متولي الشعراوي.
[24] النحل /78.
[25] فصلت /22.
[26] القضاء والقدر ص131.
[27] البقرة /7.
[28] الكشاف 1/41.
[29] الحجر /22.
[30] الأنعام /125.
[31] النازعات /30.
[32] الزمر /6.
[33] الإسراء /85.
[34] يوسف /2.
[35] البخاري.
[36] ضمن مجموعة رسائل الجاحظ ... نشرها السندوبي.
[37] لم يحفظ التاريخ للجاحظ رسالة في إعجاز القرآن، وهذا يعد أمر غريبا، ولكن يبدو أن البلى والإهمال عصفا بهذه الرسالة وأمثالها.
[38] من رسالة "حجج النبوة"ص144 وما بعدها.
[39] إن نقل الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية كانت له آثاره المعروفة في ظهور النزعات الكلامية والاعتزالية وكذلك ظهور الفرق التي أدخلت حشدا من البدع إلى الإسلام، أما العلماء الذين استمسكوا بهدي الكتاب والسنة فقد حماهم الله تعالى وكانوا بمنجاة من تلك الآثار السيئة، بل أظهروا عوارها وحذروا الناس منها (المجلة) .
[40] دلائل الإعجاز ص197.(20/464)
[41] حجج النبوة ص120.
[42] الإسراء /88.
[43] الإسراء /85.
[44] الشورى /52.(20/465)
العدد 47-48
فهرس المحتويات
1-كلمة التحرير - مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين: د. عباس محجوب
2- من وحي رمضان - أكبر مسابقة وأعظم جائزة: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
3- دراسة حول قول أبي زرعة في سنن ابن ماجه: للدكتور سعدي الهاشمي
4- مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثالثة) : د. سعد ندا
5- وحدة المسلمين في مواجهة الأخطار سبيلها وغايتها: فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن الراوي
6- التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده: فضيلة الدكتور عباس محجوب
7- الرشوة: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
8- أكذوبة شعب الله المختار: بقلم الأستاذ معالي عبد الحميد حمودة
9 - المعجزات والغيبيات بين بصائر التنزيل ودياجير الإنكار والتأويل: لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامه
10- مدرسة الدعوة: فضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل
11- حبيب الروم: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
12- من أعلام الدعوة الإسلامية في الهند - صديق حسن خان (1248- 1307هـ) القرن التاسع عشر الميلادي: بقلم الدكتور محي الدين الألوائي
13- في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
14- البديع عند الحريري: فضيلة الدكتور بيلو أحمد أبو بكر
15- رسائل لم يحملها البريد: فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
16- المرأة المسلمة: فضيلة الشيخ يوسف الهَمَذاني
17- ما أضاع الحق إلا من بكاه: للدكتور إبراهيم حسن إبراهيم
18- حوار مع الدكتور مصطفى محمود: بقلم الشيخ محمد المجذوب
19- من عقائد السلف - الرد على الجهمية للإمام الحافظ ابن منده (310- 395هـ) (الحلقة الأولى) : تحقيق وتعليق الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
20- التعريف بكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل: للدكتور محمد نغش
21- الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه وتحديد الأعياد: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
22- طب الأسنان في الإسلام: للدكتور أحمد كرات / طبيب الأسنان بمستوصف الجامعة
23- مع الخلية العصبية وبديع صنع الله: للدكتور فكري السيد عوض
24- من أعماق الكتب: سعد ندا
25- مختارات من الصحف
26- أحداث العالم الإسلامي
27- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(20/466)
كلمة التحرير
مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين
د. عباس محجوب: أستاذ مساعد بكلية الدعوة
نأمل أن يكون مؤتمر القمة الإسلامي المقام في مكة من أهم أحداث هذا القرن الجديد وبداية الخطوات الجادة في سبيل عودة المسلمين إلا ربهم وإلى منهج الله وكتابه وشريعته، بعد أن جربوا طوال السنوات الماضية شرائع البشر ومناهجهم، وأهمية هذا المؤتمر الذي يرفع شعار التضامن الإسلامي أنه يعقد في مكة المكرمة مهبط الوحي ومنبع النور وقبلة المسلمين في الأرض، مكة التي اختارها الله مكانا لبيته الذي يتجه إليه المسلمون كل يوم خمس مرات؛ سائلين الله وحده عابدين له دون سواه.
ولقاءات القمة هي أحدث أساليب الاتصال والتفاهم والترابط بين أمم الأرض، فضلا عن أمة الإسلام التي يربط بعضها ببعض أقوى الروابط وأمتن الصلات، وهي رابطة العقيدة ثم اللغة والنسب، والهموم المشتركة، والأهداف الإلهية الواحدة، والرسالة الخالدة، والتاريخ المشرق النابض في الماضي الخالد، والحاضر الحي والمستقبل المليء والموعود بجد العمل وإخلاص العبادة، وجمال العودة إلى منهج السماء وشريعة الله الخالدة وكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إن عقيدة التوحيد هي التي حققت أول وحدة في تاريخ البشرية؛ قامت على أسس سليمة، وهي الوحدة القائمة على إفراد الله بالربوبية والألوهية والحاكمية والولاء والقبلة.(20/467)
ويأتي هذا المؤتمر والعالم يعيش في ظلام دامس، وتخبّط وضلال وكفر وابتعاد عن الله، وافتقاد للقيادة الرشيدة التي تخلى المسلمون عن القيام بأعباءها وتحمل مسؤولياتها، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، ولأن الأمم الإسلامية لم تستخدم مقدراتها ولم تستفد من مقومات القيادة في دينها وعلمها وتاريخها، تخلت عن مكانها في قيادة البشرية وأصبحوا أتباعا يسيرون في ذيل التاريخ ويأكلون من فتات المعرفة، وانتقلت القيادة إلى الغرب تقود البشرية كما تريد، وأصبح العالم يعاني فقرا في القيادة وإفلاسا في التوجيه، وانقسمت نفسها إلى شرقية في الدول الشيوعية وغربية في دول الغرب.
أما المجتمع الاشتراكي فهو يعاني من عدم سلامة المنهج وثبات المبدأ؛ إذ تهدمت مبادئ الشيوعية كلها تحت معاول الهدم والتطبيق والتغيير، وواجه الفكر الشيوعي زعزعة في المبادئ فلم يعد العالم الاشتراكي يؤمن بدكتاتورية الطبقة العاملة؛ أساس النظام الماركسي، وتعددت المدارس الاشتراكية في العالم متمردة على تعاليم ماركس وانجلز ولينين، وأصبحت المقولات الشيوعية المحفوظة مثار سخرية وتندر، وأصبح الاستعمار الشيوعي أكثر شراسة مما عرف البشر من أنواع الاستعمار، وانتشرت جيوش الشيوعية المفلسة تحتل البلدان عنوة في المجر وبلغاريا والحبشة وأفغانستان.
أما الاستعمار الأمريكي فهو ناعم الملمس خبيث المقصد؛ يحتل البلدان حسب أنظمة الحكم فيها، ويستعمل أنواعا من التهديدات والعقوبات الاقتصادية، والضغوط السياسية، مع أنه يعاني من ضعف قيادته للمجتمع الأمريكي الذي يعاني من مشكلات الجنس والمخدرات وهوس الشباب وتمرده.(20/468)
إن العالم الغربي يستغل معطيات الحضارة في نشر البغي والاعتداء واستنزاف مقدرات الشعوب، ولا مخرج للعالم من غياب القيادة المؤمنة الرشيدة إلا بالرجوع إلى الله، واتخاذ الشريعة منهجا للحياة وعبادة الله وحده، ولا يتم ذلك إلا بالدعوة الصادقة لزعماء المسلمين وقادتهم؛ وأغلبهم لا يطبقون شريعة الله ولا يتبعون منهجه، ولا يأخذون بالإسلام كنظام صالح لقيادة البشرية وتوحيدها وتحكيم شريعتها؛ حتى يمكن أن تقدم نماذج للحكم الإسلامي والاستقرار النفسي والمادي والأمن والطمأنينة ونحوها من ألوان السعادة التي تتم باتخاذ القرآن والسنة دستورا للحياة.
إن المسلمين يواجهون مشكلات عصيبة وتحديات خطيرة نتيجة عدم تحكيمهم لكتاب الله، وعلى رأس هذه المشكلات التي أخذت السنوات من عمر المسلمين معركتنا الدائمة مع اليهود، والتي أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنها معركة دائمة ومستمرة، واليهود لم يحققوا أهدافهم إلا في ظروف غياب الخلافة الإسلامية ووحدة المسلمين وتجريد أهم قضاياهم من الصبغة الإسلامية، وأقرب مثال لذلك قضية فلسطين التي استطاع أعداء الله في الشرق والغرب جعلها قضية عربية؛ حتى وصل الأمر إلى اقتناع (منظمة التحرير الفلسطينية) بذلك؛ فاعتنقت الدعوة إلى قيام دولة علمانية في أرض فلسطين، وشردت القضية في ذلك في متاهات القومية والمذهبية والعنصرية، وأبعد عنها دول إسلامية لها ثقلها المادي والمعنوي، والمعركة في الحقيقة معركة بين العقيدة الإسلامية والدعاوى اليهودية، وما لم يجدد قادة المسلمين هوية هذه القضية الدينية ويعودوا إلى الله يطلبون العون ويأخذون بأسباب النصر؛ فسوف تتحقق مطامع اليهود في إسرائيل الكبرى، وسيرنو اليهود إلى مقدسات الإسلام الأخرى بعد أن التهموا المسجد الأقصى وعاثوا فيه فسادا وأحرقوه بالنيران عام 1969م.(20/469)
إن على قادة المسلمين أن يوجهوا الشعوب الإسلامية إلى تنفيذ أمر الله الدائم {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، وإلا فسوف يتحقق فيهم قول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، أو {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .
إن الاتجاه إلى الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود 1967م وتدويل مدينة القدس اتجاه خطير، على قادة الشعوب الإسلامية ألا يقبلوه، والبديل لذلك رفع راية الجهاد وفتح باب التطوع للشباب المسلم، وإطلاق الحريات العامة للشعوب المسلمة، وإيقاف المجازر والتقتيل للمسلمين، وإغلاق السجون المفتوحة للدعاة إلى الله.
أما قضية أفغانستان فيجب ألا تكون المواقف المتصلبة للغرب هي الدافعة لمواقفنا، بل علينا اتخاذ المواقف التي يمليها علينا ديننا وحق إخواننا المسلمين في مؤازرتهم وإعدادهم وتزويدهم بالمال والسلاح والرجال؛ إعلاء لكلمة الله وتلبية لداعي الجهاد للكفر والإلحاد.
إن الحرب الإيرانية العراقية حرب بين المسلمين تستنزف دماءهم، وتدمر قوتهم، وتثير الضغائن وتلهب العصبية؛ وكل ذلك ليس في سبيل الله ولا نصرة لدينه، والخاسرة هي الشعوب الإسلامية التي تقاد إلى طرق لا تريد أن تسلكها، وعلى قادة المسلمين أن يؤازروا المساعي التي بدأتها المملكة في سبيل اجتماع قطبي البلدين لوضع حد للحرب الدائرة بينهما ضمن إطار إسلامي.(20/470)
إن علينا أن نضع الحلول للمشكلة اللبنانية، ومشكلات المسلمين الذين يبادون في الفلبين وتشاد والحبشة وسوريا ونيجيريا وغيرها من البلاد؛ حتى تشعر الأمم الإسلامية أن قادتها يجتمعون على مصالحها ويرعون الله في أماناتها.
إن قوة المسلمين في قيام منظمة وحدة إسلامية على أسس إسلامية ونوايا صادقة وإخلاص لله، وعلى تحقيق صور التعاون الاقتصادية والتكامل واستثمار أموال المسلمين في الدول الإسلامية، وعلى الاعتصام بحبل الله المتين ونوره المبين والتمسك بكتاب الله تنفيذا له وعملا بما جاء به والعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقيد بها؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
د. عباس محجوب(20/471)
مدرسة الدعوة
فضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل
وكيل كلية الحديث الشريف
نشأت الدعوة في مكة المكرمة، وكانت أول مدرسة لها هي دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بالرعيل الأول هناك، فيعلمهم العقيدة الصحيحة، وينتزع ما بقي في قلوبهم من آثار الوثنية، ويقتلع من نفوسهم قدسية الأصنام ومنزلتها، ويغرس فيها الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من البعث والحساب والجنة والنار إلى غير ذلك من أصول العقيدة.
وقد تميزت مدرسة الدعوة بخصائص لم تتوفر لغيرها، كان لها أكبر الأثر على الدعاة، فخرّجت جيلا ضحى في سبيل الدعوة بما يملك من النفس والمال والولد، ولم يضن عليها بشيء تحتاج إليه، كما كان للجهد العظيم الذي بذله الدعاة نتائج هائلة وثمرات جيدة، وبذلك أصبحت مدرسة الدعوة في تلك الآونة مدرسة فريدة في موضوعها، فريدة في منهاجها، فريدة في نتائجها.
خصائص مدرسة الدعوة:
أول هذه الخصائص ربانية المنهج:
لقد كان منهج هذه المدرسة من صنع الله - تبارك وتعالى - جاء به جبريل من عنده سبحانه وحيا يوحى؛ لهذا كان منهجا متكاملا، لم يترك مما يصلح به البشرية في دينها ودنياها إلا حث عليه وأمر به.
وكان أول ما اهتم به المنهج هو تصحيح العقيدة من الانحراف الذي طرأ عليها، لأن الغاية من خلق آدم وذريته هو تحقيق معنى العبودية لله - عز وجل - في الأرض، باتباع المنهج القويم الذي جاء به الأنبياء والمرسلون، وذلك بعبادة الله - تعالى - وإخلاص الطاعة له - سبحانه -.
وكان الناس في تلك الآونة من الزمان قد نسوا البعث، بل أنكروه، كما هو حالهم في فترات الزمان المتباعدة، فكانت الدعوة الإسلامية عاملا مهما من عوامل إيقاظ هذا المعنى في النفوس، وركزت عليه تركيزا بحيث لم يعد هناك مجال للشك فيه.(20/472)
وقد ثبَّت المنهج هذه العقيدة بأساليب مختلفة، فضرب الأمثلة، وانتقل من المعقول إلى المحسوس، ولفت أنظار الناس إلى قدرة الله فيما حولهم وفيما يجري بينهم؛ حتى تكون الوقائع الماثلة شاهدة على ما يخبرهم به الله في كتابه على لسان نبيه.
وحيث كان المنهج ربانيا فإنه جاء مناسبا لكل زمان ومكان، لا يعتريه نقص، ولا يطرأ عليه تغيير، لأن صفة الربانية لهذا المنهج تكسبه معنى الصلاحية والثبات، وكونه منهجا لآخر رسالة في هذه الحياة يكسبه معنى الخلود إلى آخر هذه الحياة، فلسنا إذا في حاجة إلى تغيير من فترة إلى فترة، ولا في حاجة إلى التعديل فيه من حين إلى حين.
وأما ثانية الخصائص فهي جمعها بين مصالح الدنيا والآخرة:
قد يخطر بالبال أن ربانية المنهج في تلك المدرسة يدل على أنها تتناول أمور الدين فقط، ولا تلتفت إلى الدنيا في قليل أو كثير، والواقع خلاف ذلك؛ فإن تلك المدرسة قد جمعت بين مصالح الدنيا والآخرة، في تناسق تام وتوازن عجيب، فلم تترك أحد الجانبين يطغى عل الآخر، ولم تهمل شيئا منهما على حساب الآخر، ذلك لأن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها هي المزرعة التي يحصد منها الإنسان زاده للآخرة، بل هي الجسر الذي يعبر عليه ليصل إلى مقره الذي يسعى جاهدا لبلوغه.
ومن جانب آخر فإن الأعمال الدنيوية كلها تتحول إلى أعمال دينية إذا حسنت فيها النية، فأنت تأكل لتعيش فقط هذا عمل دنيوي صرف، وأنت تأكل لتستعين على طاعة الله، وتقوم بواجبك، بهذه النية ينقلب العمل الدنيوي إلى عمل ديني لك أجره ومثوبته، وأنت تتزوج لتكون رب أسرة وتنجب البنين والبنات، وأنت نفسك تتزوج لتعف نفسك وتغض بصرك وتحفظ فرجك، أما الزواج الأول فدنيوي صرف، وأما الثاني فديني صرف، وكلاهما زواج ستكون فيه رب أسرة، وأبا للبنين والبنات.(20/473)
وهكذا كل الأعمال تستطيع أن تحولها إلى أعمال دينية مهما كانت درجتها الدنيوية، ويكون لك عليها من الأجر والثواب مثل بقية الأعمال العبادية أو الدينية الصرفة.
وبذلك تكون مدرسة الدعوة الإسلامية قد مزجت مزجا تاما بين أعمال الدنيا والدين، ونهجت في سبيل توحيد الأعمال نهجا قويما عبر عنه القرآن فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [1] .
ألم تر أن الآية الكريمة جمعت بين ابتغاء الآخرة، وتذكير الإنسان بنصيبه من الدنيا حتى لا يكون في شغله بطلب الآخرة ما ينسيه نصيبه من الدنيا؟
ونحن نلاحظ في الآية أيضا أنها أمرت بالإحسان، وهو من أعمال الآخرة، وحذرت من الفساد في الأرض وهو من أعمال الدنيا.
إن الآية الكريمة قد مزجت بين العمل الدائب للآخرة بكل أنواعه، وبين العمل الدنيوي الذي يعود على الناس بالنفع والخير، وإنك مهما حاولت التأمل في الآية لن تشعر بفاصل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، ومهما أرهفت حسك الأدبي فلن تدرك - مهما بالغت - ثقلا أو صعوبة في الانتقال من أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا، لأن الآية الكريمة قد ساقتهما في نسق واحد، وتأليف فريد.(20/474)
إنك بحسك الأدبي وذوقك الفني تدرك أن موسيقى الألفاظ واحدة في الآية من أولها إلى آخرها، وتقسيم الفواصل لا يختلف فيها، ونلاحظ أن أعمال الآخرة وردت في الآية بصيغة الأمر وأعمال الدنيا جاءت بصيغة النهي، ولعل ذلك لكثرة ما يقع الناس في المحظورات؛ فجاءت صيغة النهي للتحذير من الوقوع في مخالب الدنيا ومفاتنها التي تشغل الناس عن أعمال الآخرة؛ فناسب أن تأتي بصيغة الأمر لأعمال الآخرة {وَابْتَغِ} .. {وَأَحْسِنْ} ، وناسب أن تأتي أعمال الدنيا بصيغة النهي {وَلا تَنْسَ} .. {وَلا تَبْغِ} .
وإنك لتلاحظ هذا المزج في كثير من آيات القرآن الكريم، وتلمسه واضحا في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [2] .
فإن الآية الكريمة جمعت بين العبادة ورمزت لها بالصلاة، وبين الأعمال العادية وأشارت إليها بالنسك وهو الذبيحة، ثم أجلات فجعلت حياة المؤمن ومماته لله، وذكرت التوحيد بنفي الشرك.
وهكذا تتناول الآية أعمال الدين الخالصة، والأعمال التي هي في الأصل عمل دنيوي حولها الإسلام إلى عبادة، ثم ذكر التوحيد صراحة وهو العقيدة التي لا يقبل من الإنسان سواها.
وآية أخرى يقول تبارك وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [3] ، والآية كما ترى تجمع بين الصلاة التي هي أهم أركان الإيمان بعد الشهادتين، وبين الذبح الذي هو أمر لا حرج على من لم يفعله ولا إثم، والصلاة في الآية وإن كان المقصود بها صلاة العيد إلا أنها من جنس الفريضة التي فرضها الله على المؤمنين، وهي في الأصل عمل ديني لا يشوبه شائبة من شوائب الدنيا.
والخصية الثالثة هي تساوي الناس جميعا أمام نظمها: فليس هناك عبيد وأحرار، ولا سادة وعوام، ولا نبلاء ودهماء، بل الكل في ذات الله سواء، يجمعهم الإيمان بالله، ويفاضل بينهم العمل الصالح، ويتنافسون في ميدان التقوى الرحب الفسيح.(20/475)
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب؛ لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان" [4] .
والله - عز وجل - يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [5] .
وما دام الناس كلهم أولاد آدم - عليه السلام - فكيف يفرق بينهم في النسب؟ وكيف يفخر بعضهم على بعض؟
وما دام الناس جميعا من أب واحد وأم واحدة فكيف يسوغ التخاصم والنزاع؟
إن الأولى للناس جميعا أن يتعارفوا وأن يأتلفوا، وأن يكونوا جميعا في منزلة واحدة أمام قوانين النظام الذي ردهم على أصلهم، ونهاهم أن يفتخروا بآبائهم.
قال الشاعر:
الناس من جهة التمثيل أكفاء
أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف
يفاخرون به فالطين والماء
ومن أجل تحقيق تلك المساواة كانت التكليف عامة لم يكلف بها جنس دون جنس، وكانت الواجبات عل الجميع سواء بسواء لم يعف منها أحد مهما كان.
كذلك كانت المحظورات محظورات على كل المسلمين لم يستثن منها أحد مهما كان شريفا، والمنهيات محرمة على الجميع لم يعف مها مسلم قط.
وهكذا كانت المساواة في الحقوق والواجبات من خصائص تلك المدرسة ومميزاتها.
وباجتماع تلك الخصائص في مدرسة الدعوة تفوقت الدعوة على كل ما عداها، وأصبحت مدرستها فريدة في نهجها، فذة في تربيتها، وحيدة في تفوق نتائجها.
ولقد أصبحت هذه الخصائص شعارات لتلك المدرسة عرفت بها، وغرستها في قلوب طلابها، فآمنوا بها إيمانا أصبح واقعا عمليا في حياتهم، وكانوا النماذج الحية التي يراها الناس لتلك الدعوة بسلوكهم قبل كلامهم، وبواقعهم قبل دعايتهم.(20/476)
وانتظم الصحابة - رضوان الله عليهم – في تلك المدرسة، وحرصوا على أن يتلقوا فيها علومهم، حتى كان الرجلان المشتركان في تجارة أو نحوها يتناوبان مجالس العلم، ويخبر الحاضر منهم الغائب بما سمعه من العلوم في نوبته فيتعلمه منه [6] .
واستطاع هؤلاء الأصحاب أن يتحملوا الأمانة، وأن يبلغوها كما حملوها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحثهم عل التبليغ ويرغبهم فيه ويعلمهم أن المبلغ قد يكون أوعى من السامع، وأن حامل الفقه قد يكون غير فقيه، ويخلص من هذا إلى وجوب التبليغ على المسلمين فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني ولو آية" [7] .
كما كان - صلى الله عليه وسلم - يبين للمسلمين الأسباب الداعية إلى التبليغ الموجبة للقيام به فيقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" [8] .
وهكذا يوضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلة تبليغ الدعوة ونقلها إلى من لم يسمعها، لأن الدعوة قد تصل عن طريق البلاغ إلى من يقدرها قدرها ويدرك منها ما لم يدركه غيره ولو كان سمعها من فم الداعي إليها، وقد يكون حماس المبلغ للدعوة ودأبه على نشرها وحرصه على القيام بحقها أعظم ممن سمعها، وذلك لأن فقهه لأهدافها، وإدراكه لمراميها يشعره بعظم حقها عليه، فيبذل من وقته ليبلغها ومن ماله لنشرها، ومن فقهه ليرغب فيه.
وليس أدعى للتضحية في سبيل المبدأ من فقهه والإيمان به، وليس أقوى للنفس وأجرأ للقلب في سبيل نشر الفكرة من عقيدة تسيطر على صاحبها فتحوله إلى حركة لا تهدأ، وعمل لا يفتر حتى يصل إلى غايته.
ولن يتأتى ذلك إلا لرجل فهم دعوته وأدرك عظمتها؛ فدفعه ذلك إلى العمل الدائب من أجل تبليغها وإيجاد القلوب التي تحملها وتضحي في سبيلها.(20/477)
ولهذا كان حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم – على تبليغ الدعوة إلى من لم تبلغه، وحملها إلى كل مكان لعلها تصادف من يعيها، ويفهم حقيقتها، ويدرك عظمتها، فيهب لحملها ويتولى الدفاع عنها حتى ينصرها الله - عز وجل -.
الصحابة في ميدان الدعوة:
شحن الصحابة - رضي الله عنهم - تلك الشحنة الإيمانية العميقة، وخالطت بشاشة الإيمان سويداء قلوبهم، وعلموا أن من حقها عليهم تبليغها لكل من يلقونه، وحملها إلى كل مكان يذهبون إليه.
لم يغب عن الصحابة أن الطريق لن يخلو من عقبات، وأن تبليغ الدعوة سيحملهم الكثير من المشقات، وأنهم سيواجهون أصحاب عقائد فاسدة يذعنون لها ويدافعون عنها، ولم يثنهم ذلك عن حمل العبء الثقيل مضحين بأنفسهم وأموالهم، وجهدهم وأوقاتهم.
خرج أبو بكر - رضي الله عنه - بعد أن التقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلقى عنه أصول الدعوة، فبشر بها ودعا إليها كل من يثق فيه، وعرضها على أصدقائه في أسلوب أخاذ، فاستجاب له جماعة من وجهاء مكة، وآمن على يديه كبار الصحابة: عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
ولم يكد هؤلاء الأفاضل يعلنون إسلامهم، ويذعنون للحق الذي دعاهم إليه أبو بكر حتى ذهب بهم إلى رسول الله فأسلموا [9] .
ويجلس أصحاب رسول الله يوما فيتذاكرون قريشا وموقفها من الإسلام، ويتمنون لو أن أحدا يسمعهم القرآن ما قد يكون سببا في هدايتهم أو يغيظهم ويقلقهم، فيقولون: من رجل يسمعهم القرآن؟ ويتطوع عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه – ويخاف عليه أن يؤذيه القوم، وليس له عشيرة تمنعه إن أرادوه بسوء.
قال ابن مسعود: دعوني! فإن الله سيمنعني.
وغدا الداعية إلى حيث يجتمع القوم في أنديتهم حول الكعبة وقام عند المقام، وأخذ يتلو سورة الرحمن.(20/478)
وأنصت أعداء الله إلى ما يردد ابن مسعود، وتساءلوا في دهشة ماذا قال ابن أم عبد؟
وأجاب بعضهم: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، فانهالوا عليها ضربا في وجهه، وهو يتلو غير مبال بما يفعلون به، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
وانصرف الداعية الجريء إلى أصحابه، وقد أثر الضرب في وجهه، فرق له المسلمون، وقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك قد أسمعتم ما يكرهون [10] .
ويتوالى الدعاة، وتختلف أساليب التبليغ، فتارة تكون بنشر الدعوة بالكلمة والتفصيل، وتارة تكون بالتمسك بها والإصرار عليها، وتارة تكون بالصبر على الأذى في سبيلها، وتحمل المشقات من أجلها.
والأسلوب الأخير وإن كلف الدعاة كثيرا من الدماء، وكثيرا من الجهد، وكثيرا من العناء إلا أنه أثبت أن للدعوة رجالا قد آمنوا بها إيمانا ملك عليهم حواسهم ومشاعرهم، وتغلغل في قلوبهم تغلغلا أنساهم آلامهم، وما يلقون في سبيلها من المتاعب والصعاب.
وكثيرا ما يكون الصبر والثبات أبلغ في التأثير من الكلمة مهما كانت بليغة مقنعة، وكثيرا ما يذل الصبر والثبات كبرياء الجبارين؛ فيستسلمون أمام هذا الصمود صاغرين.
لقد أذل بلال العبد الضعيف كبرياء أمية بن خلف، وأرغمه بصبره وثباته على الحق على أن يطلب من أبي بكر شراءه ليخلصه منه.
يقول ابن هشام: إن أبا بكر مرّ بأمية بن خلف وهو يعذب بلالا؛ فقال له: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ [11] .(20/479)
وكأن ابن خلف كان ينتظر أن يقول أبو بكر ذلك، وكأنه قد نفد صبره، ووهنت عزيمته، ولم يعد له قدرة على التعذيب، لقد صبر بلال صبرا أتعب ابن خلف وافقده لأمل في أن يستجيب بلال لما يعرضه عليه من العودة إلى الكفر، فاستسلم، وقد صادفت كلمة الصديق هوى في نفسه لم يكن ليفصح عنه مخافة أن يرمى بالضعف - وهو السيد المطاع - أمام صبر هذا العبد الضعيف، ولهذا لم يكد الصديق يلقي عليه كلمته حتى قال: أنت الذي أفسدته، فأنقذه مما ترى [12] .
وإننا لنفهم من كلمة أمية بن خلف أمرين هامين جديرين بالتأمل:
أما الأول: فهو أن الصديق- رضي الله عنه - كان لا يكف عن تبليغ الدعوة ونشرها في كل الأوساط، السادة والعبيد، والأغنياء والفقراء؛ ولهذا يرميه ابن خلف بأنه هو الذي أفسد بلالا.
وأما الثاني: فهو إفلاس ابن خلف أمام صبر بلال، وعجزه عن الاستمرار في التعذيب، ورغبته في التخلص من هذا المأزق الذي انحدر إليه، ولم يعد قادرا على التخلص منه، نلمس ذلك في قوله لأبي بكر: فأنقذه مما ترى.
إن ابن خلف لو بقي لديه شيء من الأمل في عودة بلال إلى الكفر لما ضحى به، ولظل يعذبه حتى يحقق ذلك الأمل، لأنه يعلم تمام العلم أن انتقال بلال إلى بيت أبي بكر يضمن له الحياة الهادئة في ظل العقيدة التي يحاربها، ويعذبه من أجل تركها والعدول عنها.
وهكذا يكون بلال - رضي الله عنه - قد أذل كبرياء ابن خلف بصبره، وأرغمه على الاستسلام لما يريد بثباته.
ولندع هذا المشهد المثير لنقف أمام مشهد أكثر إثارة وأعجب منه دهشة، إنه مشهد امرأة ضعيفة تقهر كبرياء رجل قاس عنيد، أما المرأة فهي جارية بني مؤمل، وأما الرجل فهو عمر بن الخطاب.
لقد ظل عمر يعذب تلك الجارية المسكينة ليصرفها عن دينها ويردها إلى الشرك والوثنية، ولكن الجارية أبت العودة إلى الكفر وأصرت على الإيمان بالله وحده، ويستمر عمر في تعذيب المرأة وتزداد ثباتا وتمسكا.(20/480)
وها نحن نرى عمر يكل ويتعب، ولكن صبر امرأة وثباتها لم يضعفا ولم يهنا.
والمشهد يصور لنا ابن الخطاب وهو لا يزال على الشرك جالسا ليستريح مما أصابه من التعب والإرهاق، يلتقط أنفاسه التقاطا كأنه عائد من معركة مع خصم ذي بأس شديد.
وفي الجانب الآخر نشاهد الجارية وقد لاذت بإيمانها، واعتصمت بعقيدتها واقفة كالطود لم ينل منها الأذى إلا كما ينال من الصخرة حين يقرعها الوعل بقرنه.
ويعتذر عمر بن الخطاب لجارية آسفا لعدم قدرته على التعذيب أكثر من ذلك؛ فيقول: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة [13] .
وترد عليه الجارية في استعلاء المؤمن بإيمانه: واعتزازه بعقيدته فتقول: كذلك فعل الله بك [14] .
لا شك أنه مشهد يثير العجب، ويبعث على الدهشة؛ عمر بن الخطاب يضعف أمام امرأة!، المعذب يصيبه الملل والتعب، والمعذبة لا تسترحمه ولا تستعطفه!، المعذب يعتذر لعدم قدرته على التعذيب أكثر من ذلك، والمعذبة مستعدة لتحمل أكثر من ذلك في سبيل عقيدتها ومن أجل إيمانها!.
ويستسلم عمر ابن لخطاب القوي الجبار أمام صمود الجارية الضعيفة.
والحق أن المسألة ليست مسألة عمر والجارية، ولا هي مسألة قوة وضعف، ولكنها في حقيقتها مسألة الإيمان والكفر، وقصة الإيمان والكفر بعيدة الأغوار في أعماق التاريخ، لا يخلو منها جيل من الأجيال منذ خلق الله الإنسان.(20/481)
نرى صور تلك القصة، تتكرر متماثلة مع اختلاف الزمان والأجيال يبدؤها ولدا آدم - عليه السلام - وتتكرر مع نوح وقومه، ثم مع إبراهيم والنمرود، وتتضح معالمها في قصة موسى مع فرعون؛ حيث يتحدّى السحرة العزل فرعون، ويصرون على إيمانهم بعد أن هداهم الله إليه، وذاقوا لذته، يهددهم فرعون بعذاب تقشعر منه الأبدان؛ {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [15] .
ويظن فرعون أنهم سينزعجون من هذا التهديد، وأنهم سيخرون بين يديه ساجدين خوفا من العذاب، ونسي أن الإيمان قد استقر في قلوبهم فأصبحوا بفضله قادرين على الصمود في وجه الكفر، وأصبحت عقيدتهم أعز عليهم من حياتهم، فأجابوا على التهديد بالصمود، وعلى الوعيد بالتحدي {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [16] .
ويفاجأ فرعون المتغطرس بهذا التحدي ممن كانوا بالأمس عبيدا له؛ فينخلع قلبه، ويطيش صوابه، ولكنه لم يستطع أن يمضي وعيده، ولا أن ينفذ تهديده، وكان كعادته يتوعد ويقف عند هذا الحد ولا يتعداه.
وسياق الآيات الكريمات لا يعطي مدلولا واضحا لنتيجة هذا التهديد، هل نفذ فرعون وعيده، أم تراجع أمام هذا التحدي، وبلع ريقه أمام هذا الصمود، وزعم أن أتباعه هم حالوا بينه وبين التنفيذ، كما حكى عنه القرآن حين قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [17] .(20/482)
إن فرعون يزعم أن أتباعه هم الذين يحولون بينه وبين قتل موسى، ولولاهم لقتله، فهو يقول لهم: {ذَرُونِي} أي اتركوني؛ والحق أن أحدا لم يمنعه، ولم يكن في رعيته من يستطيع أن يمنعه أو أن يحول بينه وبين تنفيذ ما يريد، ولكن بهت أمام تحدي الإيمان وصمود المؤمنين.
والذي يبدو من سياق الآيات أن فرعون هدد ولم ينفذ، وتوعد وتوقف، حيث لم تشر الآيات إلى مصير السحرة الذين آمنوا برب هارون موسى.
والذي يظهر كذلك أن فرعون انهزم نفسيا أمام تحدي السحرة واستهانتهم بما توعدهم به، فلم يقدر على أكثر من القول.
وهكذا تتكرر الصورة، ولا تزال تتكرر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهكذا يقف الدعاة في وجه الظلم والطغيان، ويعلنون في ميدان الدعوة إيمانهم الحق، وتحديهم للباطل، وصبرهم على الأذى في سبيل الله حتى يتحقق لهم النصر.
الدعوة تواجه التيارات المضادة:
دأبت مدرسة الدعوة على تخريج دعاة مسلحين بسلاحين مهمين في حياة الدعاة وهما: الإيمان والعلم.
والإيمان سلاح لا يغني عنه سلاح مهما كان، إذ هو الدرع الواقي من هجمات الأعداء، وكنز لا ينفد في إمداد الدعاة بالصبر على الأذى، والثقة في الله، والصمود في وجه الطغاة.
أما العلم فهو الفقه الدقيق في أهداف الدعوة ووسائلها، وكيفية تبليغها والحرص على نشرها، والفقه في الدعوة بهذا المفهوم أمر واجب على الدعاة.
فالدعاة مهما كانت جرأتهم في الحق، وقدرتهم على المواجهة، وصبرهم على الأذى، وصمودهم في ميدان الدعوة؛ فإن ذلك لا يسد مسد الفقه في الدعوة والعلم بدقائقها وطرق تبليغها، ولئن كانت هذه الأمور ضرورية للدعاة فإن الفقه في الدعوة من أهم الضروريات.(20/483)
إن فهم الداعية لحقيقة دعوته هو الذي يمكنه من تبليغها، ويجعله قادرا على رد الشبهات عنها، وتفنيد افتراءات المبطلين الذين لا يكفون عن إثارة الشبهات، وإشعال الفتن، وإلصاق التهم، وتجريح الأبرياء.
وليكن معلوما لدى الدعاة إلى الله أن الحماس للحق لا يغني غناء الفقه، وأن الجرأة في التبليغ لا تسد مسد الفهم، وأن الصبر على الأذى لا يقوم مقام العلم، ولهذا وجدنا الدعاة في ميدان الدعوة يواجهون أعداءهم بالحجج التي تدحض باطلهم، والأدلة التي تدعم دعوتهم، في مواجهة خصومهم، والبراهين التي تمكنهم من كشف زيف الباطل الذي يقف في طريق دعوتهم.
ولقد كان هذا الفقه للدعاة أمضى من الأسلحة في أيدي المحاربين؛ اقتحموا به العقول فأذعنت للحق، وطرقوا به القلوب فلانت لذكر الله.
إن أي دعوة لا تمد دعاتها بالفقه في مبادئها، والفهم لغايتها ووسائلها لهي دعوة محكوم عليها بالفشل، لأن مشكلات الدعاة لا تحل عن طريق السيف بقدر ما تحل عن طريق الإقناع والفهم، ولأن الدعوة إذا استقرت في القلب يعجز السيف عن إخراجها منه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [18] .
إن الفقه الدقيق لأسرار الدعوة وأهدافها، والذي يستطيع الداعية عن طريق إقناع خصمه، وإزالة الأباطيل من رأسه؛ لهو السلاح الحقيقي الذي يجب أن يتسلح به الدعاة؛ لأن الدعوة لابد أن تواجهها تيارات مضادة وأفكار معادية، ومن المعلوم أن الفكرة لا تحارب بالسيف مهما كانت باطلة، وأن العقيدة لا تقاوم بالقهر ولو كانت فاسدة؛ ومن أجل هذا كان الفقه ومعرفة كيفية إقناع الخصم أجدى على الدعوة من السيف والمدفع.(20/484)
ومع أن الدعوة لا تستغني مطلقا عن السيف والمدفع - إذ هما الوسيلة الفعالة لإقناع المعاندين والجاحدين، وإخضاع الطغاة والمتجبرين - إلا أن الفقه والإقناع نتائجهما أعظم وفوائدهما أكثر.
ولكي ندرك تلك الحقيقة سنسوق هنا نماذج من حياة الدعاة في العصور المختلفة؛ لنرى كيف كانت الحجة والبرهان والفقه والإقناع هي الوسائل التي كان يستعملها الدعاة، حتى إذا ما استعصى الأمر ونفد الصبر لم يكن بعد ذلك إلا السيف
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا
فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
1- في عصر موسى: أرسل الله - عز وجل - موسى إلى فرعون، وأمره أن يطلب من فرعون أن يترك بني إسرائيل ليذهبوا معه، ويحررهم من عبوديتهم له، ولكن فرعون لج في العناد، وهدد موسى بالسجن والعقاب {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [19] .
وإن المتدبر لتلك الآية الكريمة ليلمح فيها تهديدا رهيبا، كما يلمس من التعبير {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} أن سجون فرعون كانت مملوءة بالمظلومين من أمثال موسى - عليه السلام - حيث يفيد التعبير أن موسى سيكون واحدا من المسجونين الكثيرين، ولن يضير فرعون أن يضاف سجين جديد إلى الأعداد الهائلة التي تغص بها سجونه.(20/485)
وموسى - عليه السلام – لا يعبأ كثيرا بهذا التهديد المخيف، مع أنه لا يخفى عليه ما يكون عادة في سجون الظالمين من النكال والتعذيب، وبخاصة وقد سبقه يوسف - عليه السلام – فسجن في أحد سجون الفراعنة ظلما بعد ما تبينت براءته، ولبث في السجن بضع سنين، ولكنه خرج منه موفور الكرامة، محمود السيرة، مرفوع الرأس، حيث نصبه فرعون الذي سجنه وزيرا على خزائن الأرض، فماذا يضير موسى - عليه السلام - لو أدخل سجن فرعون؟ وهل نال السجن من عزيمة يوسف شيئا حتى ينال من عزيمة موسى؟ وماذا لو سجن واتخذ من السجن ميدانا لنشر الدعوة؟ ألم يفعل ذلك يوسف من قبل حين قال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [20] .
لم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى هذا التهديد الأجوف، وتذرع بالحلم، وقال لفرعون في هدوء: أتسجنني ولو جئتك بآية بينة تثبت لك صدق دعواي؟ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [21] ؟
ويتظاهر فرعون بأنه لا يرفض البرهان، وأنه مستعد للإذعان للحق متى ما أثبته ببينة مقبولة؛ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [22] .
وهنا يظهر موسى عليه السلام من المعجزات ما لا يماري فيه إلا جاحد عنيد؛ فيحول العصا حية تسعى، ويخرج يده بيضاء مشعة يراها كل من نظر إليها بعكس ما كانت عليه في الأصل من الأدمة - أي السمرة -.
ويتنكر فرعون لما وعد به، ويوحي إلى الملأ حوله أن الذي رأوه إنما هو سحر، وأن موسى ساحر بارع.
ونحن نلاحظ في الآيات التي قصها القرآن الكريم علينا أن موسى لم يواجه فرعون بالسلاح، ولم يذهب إليه بجيش ليجبره على الدخول في دينه، مع علمه تمام العلم أن فرعون ظالم جبار، وأنه لن يسلم للحجة والبرهان، ومع هذا لم يكن معه سلاح إلا الحجة والبرهان.(20/486)
ويخلف موسى رجلا من آل فرعون، يقوم فيهم داعيا إلى الله حين همّ فرعون أو هدد بقتل موسى، ونرى في دعوته حججا عقلية يذعن لها العقلاء، ويستجيب لها أولو الأبصار، والقرآن الكريم يحكي لنا ما حاج به قومه، فلا نرى في تهديدا بالقوة، أو إرهابا بالسلاح قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [23] .
لقد كانت تلك الحجج كافية لإقناع فرعون، وإظهار الحق له بعد أن تجاهله، ولكن العناد والجحود حالا بينه وبين الحق، فلج في طغيانه، ولم يستطع أن يرد على الحجة بالحجة، فقال قولة العاجز المفحوم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [24] .
ويترك الداعية فرعون سادرا مع غيه، لاجا في عناده، ويلتفت إلى قومه مشفقا عليهم، حريصا على هدايتهم، فيذكرهم بما حدث للأمم السالفة، وما ينتظرهم يوم القيامة إذا هم لم يطيعوا رسول الله موسى- عليه السلام -.
لقد تفنن الداعية في عرض حججه؛ فساقها مرة في صورة استفهام، ومرة في صورة الدليل العقلي؛ فأمر موسى لا يخلو من أن يكون صاحبه كاذبا أو صادقا: فإن كان كاذبا فسيعود عليه ضرر كذبه، وإن كان صادقا ينزل بكم بعض ما تهددكم به.
ومرة ثالثة يخوفهم من بأس الله، ومما حل بالأمم قبلهم، ثم يلتفت إلى قومه وكأنه يقول لهم: لا تسمعوا لفرعون فإنما يريد لكم الدمار والهلاك، {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [25] .(20/487)
ثم يتعجب من إصرارهم على الباطل، وإلحاحهم عليه في قبوله، فيقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [26] ، ويثبت لهم بالأدلة المنطقية أن الذي يدعونه لعبادته ليس له دعوة ولا يستطيع الإجابة لمن دعاه، ثم يعذر إليهم بقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [27] .
2- في عصر عيسى: ويمضي الزمن سريعا، ورسل الله تترى لا يخلو منها جيل، والدعاة يتابعون عرض دعوتهم، ويعملون على نشر فكرتهم، فيرسل عيسى- عليه السلام - الدعاة إلى القرى النائية يدعون أهلها إلى الدين الصحيح، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُون، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [28] .
وفي هذه القرية يتعرض الدعاة للتكذيب، فيحاولون دفع هذا الاتهام، والمدعوون يصرون على تكذيبهم، وكأنهم كانوا ينتظرون أن يكون الدعاة من الملائكة أو من جنس آخر غير الجنس الآدمي فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، وجهلوا أن الدعاة لابد أن يكونوا من جنس المدعوين، وإلا لما استجابوا لهم، ولا فهموا عنهم، ولا استطاعوا التلقي عنهم، ولهذا قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [29] .(20/488)
ولما كان ذلك غير ممكن - لأن الناس لا يستطيعون مواجهة الملائكة، ولا يطيقون الاستماع إليهم - أخبر سبحانه بأنه ولو أرسل ملكا لابد أن يكون على هيئة الآدميين؛ ليتمكن من التبليغ دون أن ينفر منه الناس، وليتلقى منه الناس دون صعوبة أو عناء.
ومن أجل هذا أخبر الله - عز وجل - بأنه لو أرسل ملكا لجعله على صورة البشر حتى يتمكنوا من رؤيته؛ إذ لا قبل للبشر برؤية الملائكة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [30] .
ونلاحظ أن الدعاة لم يكن لديهم إلا محاولة إقناعهم، فلما أعرضوا ولجوا في طغيانهم قال لهم رسل عيسى - عليه السلام - {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، نحن لا نملك قهركم على الحق، ولا نستطيع إرغامكم على الإيمان به، وإنما نحاول إقناعكم، ونعمل مخلصين على إرشادكم، ولكم بعد ذلك الخيار فيما تختارون.
ويطول الحوار، والدعاة يواجهون المضادة بالصبر والحلم محاولين إظهار الحق في صور من المناقشة المتبادلة بين الفريقين.
يقول أصحاب التيارات المضادة: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [31] .
ويجيبهم الدعاة قائلين: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [32] .
وترى واضحا في كلام المدعوين أنهم يتعللون بأوهام وأباطيل، ويحاولون لصق التهم بالدعاة، زاعمين أن ما يحل بهم من البلاء إنما هو بسبب وجود الدعاة بينهم، وينسون أنهم بابتعادهم عن الحق، وعداوتهم لأهله، وإسرافهم في الغي يستحقون ما هم فيه من البلاء، بل وأكثر منه.(20/489)
ثم نرى منهم لجوءا إلى حيل المفلسين من البراهين، والمصرين على الضلال من غير أن يكون لديهم عليه حجة، فيهددون الدعاة باتخاذ أبشع أنواع التعذيب.
ولكن الدعاة لا يلتفتون إلى مثل ذلك التهديد، فهم يسمعونه في كل يوم، وهم مؤمنون بأنهم لن يصيبهم إلا ما قدر لهم، ويعتقدون أن أقصى ما ينزل بهم هو العذاب حتى الموت، وتلك هي الشهادة التي يتمناها الدعاة المخلصون، لأنها تقربهم من غايتهم، حيث لا يروي شجرة النصر إلا الدماء، ولا يكتب للدعوة النجاح إلا إذا قدمت الشهداء، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولهذا يحاول الدعاة رد الأمور إلى أصولها، ويبينون أن ما ينزل بالناس إنما هو بسبب انصرافهم عن الحق، ولجاجهم في الباطل؛ فيقولون في هدوء الواثق من الحق، وطمأنينة المؤمن بالقضاء والقدر: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، لسنا نحن سبب ما نزل بكم من القحط وقلة المطر ولكنكم أسرفتم في الضلال، وتماديتم في الباطل؛ فاستوجبتم ما حل بكم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .
وتقف الآيات عند هذا الحد، فلا تتكلم عن مصير الدعاة، ولا تبين ماذا تم على أيديهم، والذي يظهر من السياق أنهم انصرفوا راجعين من حيث أتوا وقد بلّغوا، وليس عليهم إلا ذلك {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [33] .
ويخلف رسل عيسى رجل من أهل القرية فهِم الدعوة وآمن بها، وأيقن أن من حقها عليه أن يحملها إلى الناس، وأن يدعو بها من لا يؤمن بها، فلما بلغه أن أهل القرية عصوا الدعاة، ولم يدخلوا في دعوتهم أقبل مسرعا، ودعا قومه إلى الطاعة والإيمان، وواجه عنادهم بالحجة والبرهان، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [34] .(20/490)
ونلمح من خلال الآيات أن قوم الرجل أنكروا عليه كلامه واتهموه بالمروق، وكأنهم سألوه: هل أنت على دينهم؟ فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [35] .
إن الداعية - حسب سياق الآيات - قد فهم دعوته فهما دقيقا مكنه من شرحها لهؤلاء المنكرين، أما تراه يقرر الوحدانية بأسلوب منطقي فريد؟، ويثبت بطلان الشرك ببراهين محسوسة لا ينكرها إلا معاند متغطرس؟، ثم يبين أن من يفعل ذلك فهو في ضلال مبين ولو كان هو الداعية نفسه.
وهكذا يقيم عليهم الحجة، ويلزمهم بالبرهان، فلا يكادون ينطقون.
3- وفي عصر خاتم النبيين: تمضي المسيرة المباركة إلى غايتها، غير عابئة بما يواجهها من مؤامرات الحاقدين، ولا مكترثة بافتراءات المفترين، يقودها خاتم النبيين، وترعاها عناية رب العالمين.
وتظل الدعوة في طورها السري ثلاث سنين، وهو طور التربية والتعليم، يخرج بعده الدعاة وقد فقهوا دعوتهم، واستنارت بصيرتهم، وعقدوا العزم على نصرة الحق مهما طالت محنتهم.
وتواجه الدعوة الفتية التيارات المضادة {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [36] ، ويتذرع الدعاة بالحلم والصبر، ويقابلون الفكرة بالفكرة، ويقرعون الحجة بالحجة.
ونحن قد رأينا نماذج رائعة من ثبات الدعاة وتحملهم، وسنعرض هنا نماذج حية لأساليب نشر الدعوة في مواجهة الأفكار المعادية، وفقه الدعاة وطرق إقناع الخصم.
أ- الطفيل بن عمرو: أسلم الطفيل لما القرآن الكريم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم تحذير قريش إياه من سماعه، حتى وضع في أذنيه القطن.(20/491)
ولم يكد يستقر الإيمان في قلبه حتى استأذن من رسول الله في الذهاب إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فأذن له، وبدأ الطفيل بأبيه فأسلم، وثنى بزوجه فلم تخالفه، ثم توجه إلى قومه فأبطأوا عليه، ولكنه لم ييأس.
يقول ابن هشام: (قال - الطفيل -: فلم أزل في أرض دوس أدعوهم إلى الإسلام.. حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر؛ فأسهم لنا مع المسلمين) [37] .
والذي يلفت النظر في قصة الطفيل موقفان لابد من تجليتهما؛ حتى يتعلم الدعاة كيف يدعون إلى الله:
الأول: لما أبطأ قوم الطفيل في الدخول في الإسلام ذهب إلى رسول الله، وطلب منه أن يدعو عليهم، فدعا لهم الرسول قائلا: اللهم اهد دوسا، وأمر الطفيل أن يرجع إلى قومه، وأن يدعوهم ويرفق بهم، فرجع حتى كان إسلامهم على يديه [38] .
ومن هنا يجب أن يتعلم الدعاة أن الناس لا يستجيبون لأول وهلة، لأن لهم عقيدة يتعلقون بها؛ فلابد من الصبر عليهم والرفق بهم، حتى يتبين لهم الحق، وحينئذ يسارعون إليه.
الثاني: أن الإيمان لما استقر في قلب الطفيل خرج منه الخوف من تلك الآلهة التي كان يعبدها، فلم يعد يحفل بها ولم يعد لها مكانتها في نفسه، ونحن نلمس ذلك عندما أمر زوجه أن تذهب إلى حمى الصنم الذي كانوا يعبدونه فتغتسل هناك حتى يعرض عليها الإسلام.
قالت زوجه: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصبية من ذي الشرى - الصنم - شيئا؟ قال: لا، أنا ضامن لذلك [39] .
لقد أصبح ذو الشرى - ذلك الصنم الذي كان يعظمه الطفيل ويرهبه - حجرا لا يضر ولا ينفع، وأصبح الطفيل يزدريه ويحتقره، بل ويحتقر أولئك الذين لا يزالون يعظمونه، ويدعون له مكانة تعدل مكانة الإله، وهو لا يعدو أن يكون حجرا قطعوه من الجبل، وصنعوه بأيديهم، ثم دانوا له من دون الله بالإجلال والتضرع والابتهال.(20/492)
ولم يكتف الطفيل - رضي الله عنه - بهذا الموقف من الآلهة، ولكنه أبى إلا أن يكون له معها شأن آخر، فألح على الرسول- صلى الله عليه وسلم - أن يبعثه إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممه - ليحرقه فأذن له الرسول، وخرج إليه، وجعل يوقد عليه النار ويقول:
ميلادنا أقدم من ميلادكا
يا ذا الكفين لست من عبادكا
إني حشوت النار في فؤادكا [40]
إن إحراق الطفيل للصنم الذي كان قومه يخضعون له، ويعطونه ولاءهم، لدعوة عملية للكفر بتلك الآلهة، ونداء صريح بالوحدانية التي جاء بها الإسلام، إذ كيف يحرق الإله دون أن يدفع عن نفسه؟ أتراه ذلّ وهان إلى ذلك الحد، أم قدم نفسه هو الآخر فداء للإنسانية، وتحملا لخطايا بني آدم المغفلين؟؟
إن العقل الإنساني يرفض هذه وتلك، ويأبى إلا أن يكون للإله قدرة يدفع بها عن نفسه من أراده بسوء، بل إن العقل ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه يرفض أن يتمكن الإنسان مهما كانت قدرته أن يدخل مع الله في صراع وهو العاجز المفتقر إليه في كل أحواله.
أفلا يكون ذلك وحده كافيا لرد هذه العقول إلى صوابها، وتحويلها إلى ما يجب أن تكون عليه بعد ضلالها.
وهكذا يكون الطفيل داعية بعمله أكثر مما دعا قومه بكلامه، وكيف لا؟ وقد رآه قومه يسخر من ذي الشرى ويضمن عجزه عن أن يصيب صبيا بسوء، ثم هاهو ذا يحرق ذا الكفين دون أن يصيبه أدنى مكروه، إنه بعمله هذا أثبت لقومه عجز ما يعبدون، فعليهم أن يتوجهوا بعبادتهم وطاعتهم لمن يدعوهم إليه.
2- ضمام بن ثعلبة: وهذا الرجل صنف آخر من أصناف الدعاة وفد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - نائبا عن بني سعد بن بكر، وأناخ بعيره على باب المسجد وعقله، وأقبل على الجالسين في المسجد فسألهم: أين ابن عبد المطلب؟ فأجابه الرسول: "أنا ابن عبد المطلب"، وكأن الرجل قد خاف أن يكون المجيب شخصا آخر غير الذي يريد؛ فقال: محمد؟ قال: "نعم".(20/493)
فقال ضمام: يا ابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ لك في المسألة؛ فلا تجدن في نفسك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا أجد في نفسي؛ فسل عما بدا لك". فسأل ضمام الرسول:
هل هو رسول الله حقا؟ وهل الذي أرسله أمره بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا؟ وأخذ يسأله عن فرائض الإسلام كلها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يجيبه في كل مرة: "اللهم نعم"، فلما فرغ قال ضمام: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقصن ثم انصرف.
فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة" [41] .
وأتى ضمام بعيره، فأطلق عقاله، وانطلق به حتى دخل على قومه؛ فاجتمعوا عليه ينظرون ما وراءه، وبماذا جاءهم من عند رسول الله.
وكان ضمام كما رأينا رجلا صريحا واضحا لا يعرف اللف، ولا يؤمن بالمناورات، وبالسرعة التي صدق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، هاجم اللات والعزى، لم يجامل في الله أحدا بعد أن آمن به، ولم يهادن في دينه أحدا ولو كان الإله الذي كان يعبده من قبل، ويخضع له، لقد استبان له الحق، واتضح له الطريق فما له لا يبينه للناس؟ وما له لا يفضح هذا التزييف الخطير في عقيدة قومه، وهو رسولهم الذي ائتمنوه ليوضح لهم ما خفي عنهم.
لقد كان ضمام أمينا على ما ائتمن عليه، ناصحا لقومه بقدر ثقتهم فيه، فلم يرد أن يظل قومه على الشرك لحظة واحدة بعد ما عرف الحق، واتخذه دينا له، لهذا كان أول ما تكلم به ضمام بعد أن اجتمع عليه قومه قوله: بئست اللات والعزى، واندهش القوم لما سمعوا من ضمام، وخافوا عليه أن يصيبه الجنون أو البرص أو الجذام، ولكن ضمام سخر من قولهم، فأجابهم: ويلكم! إنهما ما يضران ولا ينفعان [42] .(20/494)
وانتهز ضمام فرصة إصغاء القوم، وقد رأى على وجوههم وجوما لم يعهده فيهم، ولاحظ عليهم اضطرابا شديدا، ولعل القوم قد تربصوا بضمام أن يحل عليه سخط آلهتهم، أو تنزل به لعنة الأصنام.
لقد تأكد الناس - حسبما كان في رؤوسهم من الأوهام - أن ضماما هالك لا محالة، وأن الآلهة لن تدعه سالما وقد اعتدى على قدسيتها، وانتهك كرامتها، فنظروا إليه آسفين عليه، متوقعين له الدمار.
وكان وجوم القوم واضطرابهم، وإشفاقهم على ضمام فرصة اهتبلها ضمام وقال لهم: إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه [43] .
وأعلن ضمام إسلامه أمام قومه، وشهد شهادة الحق فقال: وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه [44] .
وأقبل المساء وضمام يتمتع بكامل صحته، لم يصبه جنون ولا جذام، ولا برص ولا هلاك، ونظر الناس إليه سليما معافى، لم تستطع الآلهة أن تصب عليه لعنتها؛ فهي إذن عاجزة، ولم تنزل به غضبها ونقمتها فهي لا محالة غير قادرة، ولو كانت آلهة تستحق التقدير والاحترام لما سكتت على هذا الهوان.
وعرف الناس الحق في كلام ضمام ودعوته، فآمنوا بما آمن به ودخلوا جميعا في دين الله، قال الراوي: فوالله ما أمسى في اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما [45] .
قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة [46] .(20/495)
3- جعفر بن أبي طالب: وكان جعفر - رضي الله عنه - نسيج وحده، تفرد بخصائص لم يشاركه فيها أحد، فقد كان مقدم أصحاب رسول الله بين يدي النجاشي، والمتصدي لأعداء الله حين حاولوا إغراء النجاشي بطردهم من بلاده، واستطاع جعفر بعقله الراجح، وأسلوبه الفريد، وحجته البالغة أن يستحوذ على قلب النجاشي، ويستميله إلى صفوف المسلمين كما تمكن من أن يأخذ منه أمانا له ولأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقاموا في الحبشة على خير ما يحبون.
علمت قريش بطيب مقام المهاجرين، وغاظها ما صاروا إليه من الأمن والاطمئنان، فدبروا أمرهم ليكيدوا المهاجرين الفارين بدينهم إلى حيث يطمئنون على عقيدتهم، ويتمكنون من عبادة ربهم.
أرسل أهل مكة رجلين من أشرافهم هما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، والرجلان مخزوميان، وجهزوهما بالهدايا الثمينة للنجاشي وبطارقته، وأمروهما أن يقدما هدايا البطارقة قبل أن يدخلا على النجاشي حتى يساعدوهما عند النجاشي فيما قدما من أجله.
ولا يخفى على الإنسان سبب اختيار عمرو بن العاص لتلك المهمة؛ فهو مع كونه شريفا من أشراف قريش، داهية من دهاة العرب المعدودين؛ يستطيع بذكائه إقناع من أمامه بما يريد، ويتمكن بحيلته إن لم تسعفه الحجة من بلوغ مأربه.
ولكن جعفر الداعية المؤمن، قد أفسد عليه رأيه، وعطل فيه دهاءه، فلم تعد لديه القدرة على الإقناع، ولم تسعفه الحيلة ليدبر المكيدة التي جاء من أجلها.(20/496)
دخل عمرو وعبد الله على النجاشي، وحاولا إيغار صدره على من عنده من المسلمين، وقف إلى جانبهما جماعة البطارقة؛ فقد جعلتهم الرشوة يميلون إلى الباطل، ويقفون إلى جوار الظالمين، ولكن النجاشي رفض أن يسمع في المهاجرين رأيا أو يتخذ منهم موقفا حتى يرى رأيهم، ويسمع قولهم، وقال: فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني [47] .
وجيء بجعفر وأصحابه، فلما وقفوا على باب النجاشي صاح جعفر: يستأذن عليك حزب الله، فأذن لهم النجاشي أن يدخلوا بأمان الله وذمته [48] .
كانت تلك الصيحة براعة استهلال من جعفر، فقد أعلن قبل دخوله أنه وجماعته من طراز آخر غير ما عرف النجاشي، فلو حصل ما يخالف نظام الدخول على الملوك كان العذر متقدما، ثم إن النجاشي رجل على دين المسيح؛ فهو يعرف الله ويوحده؛ ولذلك لم يكد يسمع قول جعفر: يستأذن عليك حزب الله، حتى قال: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته.
كان جعفر - رضي الله عنه - لبقا أريبا مسددا، فلما أذن له النجاشي بالدخول لم يسجد له كما كان يفعل الداخلون عليه، فقال لهم: ما منعكم أن تسجدوا لي؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها، وهي السلام؛ تحية أهل الجنة [49] .
وأكد جعفر - رضي الله عنه - هو وأصحابه بهذا الكلام الصيحة التي صاحها بباب النجاشي، فهم ليسوا عبيدا إلا لله وحده، له يسجدون، وبه يعتزون، وعليه يتوكلون.(20/497)
إن اعتزاز الإنسان بعقيدته في مثل تلك المواقف التي ترتجف فيها قلوب المنافقين أكبر دليل على صدقه في دعواه، إذ لو كان كاذبا لنافق حتى لا يؤذى، وداهن حتى يصل إلى مأربه، والمسلم قد يجامل غيره ليستميله، وقد يلاطفه ليدله على الحق، كل ذلك لا بأس به ما دام لا يمس العقيدة ولا يكون على حسابها، أما أن يصل الأمر إلى حد التهاون في العقيدة، وصرفها إلى غير الله - عز وجل - فذلك ما يرفضه المؤمن ولو علقت له المشانق، وذلك ما فعله جعفر وأصحابه.
إن السجود لغير الله انحراف في العقيدة يؤدي إلى الكفر، ومظهر من مظاهر الضعف النفسي لا يفعله إلا جبان خوار، ولهذا رفض المهاجرون أن يسجدوا للنجاشي، ولو أدى ذلك إلى طردهم من مأمنهم وإخراجهم يسيحون في الأرض على غير هدى.
ولقد كان ذلك الموقف الجريء من جماعة المهاجرين الذين يعيشون في غير بلادهم مهددين في كل لحظة بالطرد والإبعاد عن أرض وجدوا فيها طمأنينة قلوبهم والأمان على دينهم؛ من أهم الأسباب التي جعلت النجاشي يقف على حقيقة صدقهم، ويعتز بوجودهم في بلاده، ويمنحهم الأمان ما داموا في جواره.
وأدرك جعفر الداعية الأريب أنه في موقف حرج، وأن الأمر يتطلب إعطاء الملك حقه من الاحترام والتقدير، وإن الحاجة إلى إقناع الملك بسلامة موقفهم أهم من الدخول في مناقشة مع الخصم اللدود؛ فقال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي [50] .
وطلب النجاشي أن يسمع من كلا الطرفين حتى يقف على حقيقة الأمر، وهنا قال عمرو بن العاص لجعفر: تكلم.
فالتفت جعفر إلى النجاشي وقال: سله أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا فقد أبقنا من موالينا فارددنا عليهم.
فقال عمرو: بل أحرار كرام.
قال جعفر: هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟
قال عمرو: ولا قطرة.
قال جعفر: فهل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟
قال عمرو: ولا قيراط.(20/498)
وهنا تبين الأمر للنجاشي، وآمن بسلامة موقف المهاجرين، إن هذه الأمور التي ثبتت براءتهم منها هي التي من أجلها يطلب المرء؛ فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فعلام يلح هؤلاء في طلبهم؟
وهنا قال النجاشي لابن العاص: فما تطلبون منهم؟
وسقط في يد عمرو، فلم يستطع إدانتهم بشيء من ذلك حتى يسلمهم الملك إليه، ولكنه قال: كنا وهم على دين واحد، فتركوا ذلك واتبعوا غيره.
وتطلعت نفس النجاشي لمعرفة الدين الجديد، فقال لجعفر: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟
وحانت الفرصة للداعية اللبق فانتهزها، ونحن قد لاحظنا أن جعفر - رضي الله عنه - حتى هذه اللحظات لم يتكلم كلمة واحدة عن الإسلام، ولعله ترك الكلام عن الدعوة حتى تحين الفرصة وتتهيأ النفوس للتلقي، فيكون شوقها إلى الاستماع أعظم، وتقبلها لما يلقى عليها أكثر.
ولعل النجاشي نفسه - وقد طال بين يديه الأخذ والرد والقيل والقال دون أن يسمع شيئا عن الدين الجديد - قد شغف بأمر هذا الدين، وتاقت نفسه ليعرف شيئا عنه، فسال جعفر هذا السؤال، ولم يتردد جعفر في الإجابة، وكأنه أدرك لهفة النجاشي وتعلقه بمعرفة الدين، فأسهب في الإجابة والنجاشي منصت يستمع إليه، وذكر جعفر كل ما كانوا يفعلون في الجاهلية من أعمال سيئة، وقفّى عليها بتعاليم الدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن الله أنقذهم مما كانوا فيه ببعثة المصطفى الذي دلهم على الخير وحذرهم من الشر، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وحثهم على مكارم الأخلاق ومحامد العادات.(20/499)
وركز جعفر على إبراز التوحيد؛ لأنه أساس العقيدة التي جاء الإسلام لينشرها في العالمين، ولأن أي دين لا يقوم على أساسها فهو باطل لا يغني عن صاحبه شيئا، ثم التفت جعفر إلى النجاشي وكأنه يريد أن يستعديه على هؤلاء الذين يلاحقونهم؛ فقال: فلما صدقنا النبي وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، عدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان؛ فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! [51] .
واشتاق النجاشي بعد هذا الحديث الطلي عن الدين الجديد لأن يسمع شيئا من الوحي الذي أنزل على نبي هذا الدين، فقال لجعفر:
هل معك مما جاء به عن الله شيء؟.
فقال جعفر: نعم.
فقال النجاشي: فاقرأه علي!
فقرأ جعفر {كهيعص} صدرا من سورة مريم.
فلما سمعه النجاشي بكى وبكت أساقفته، ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
ونظر النجاشي إلى عمرو وصاحبه، وطردهما من مجلسه، وأمر برد ما حملا إليه من الهدايا، وقال: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
وحز في نفس عمرو أن يطرد من مجلس الملك هذه الطردة، وكبر عليه أن يعود بهذه النتيجة المؤسفة، وكيف يرجع إلى قومه دون أن يحقق لهم ما أرادوا وهم لم يختاروه إلا لإيمانهم بأنه الشخصية العبقرية القادرة على تحقيق تلك المكيدة، إن عودة عمرو دون أن يكون معه المهاجرون من المسلمين خيبة أمل في دهائه، وحكم بالفشل على عبقريته، وقضاء على منزلته بين قومه.
وفكر عمرو كثيرا في الأمر، وهداه تفكيره إلى مكيدة لم يجربها بعد، فعزم على تنفيذها، وقال: والله لآتينهم غدا بما استأصل به خضراءهم [52] .(20/500)
ودخل على النجاشي من الغد، وقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسلْ إليهم فسلْهم عما يقولون فيه.
وأرسل النجاشي إلى المسلمين، وسألهم عما يقولون في عيسى بن مريم عليه السلام، ورد عليه جعفر - رضي الله عنه - فقال: نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فأخذ النجاشي عودا من الأرض، وقال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود.
والتفت إلى جعفر وأصحابه وقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - أي آمنون - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب - أي جبلا - وأني آذيت أحدا منكم.
والتفت مرة أخرى إلى عمرو وصاحبه، وقال لحاشيته: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا من عنده مقبوحين [53] .
ونجح جعفر الداعية فقد بلغ الدعوة إلى النجاشي نفسه، وأقنعه بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم ومات مسلما [54] .
وباء رسولا قريش بخيبة أمل لم يتوقعها أحد، ولم تنفع عبقرية عمرو ولا دهاؤه في بلوغ الأمل الذي علقته قريش عليهما، وسعد المسلمون بجوار النجاشي، وبقوا عنده حتى عادوا يوم فتح خيبر يتزعمهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سر الرسول – صلى الله عليه وسلم - بقدومه، وقبله بين عينيه، والتزمه وقال: ما أدري بأيهما أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ [55] .
باستعراض هذه النماذج من حياة الدعاة وطرائقهم في تبليغ الدعوة نفهم الأمور الآتية:
1- إن على الدعاة أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا الأمور التي سيبلغونها لغيرهم، لأن الجهل يترتب عليه أضرار تعرض الدعوة لهجوم أعدائها عليها، وتمكنهم من النيل منها وتشويهها.(21/1)
والإنسان عادة لا يستطيع أن يمنح شيئا ليس عنده، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، والناس أعداء لما جهلوا، فإذا لم يكن الداعية على جانب من العلم والفقه يمكنه من شرحها، ودفع الشبهات والافتراءات عنها؛ كان ضرره عليها أكثر من نفعه.
ولهذا فإن الطفيل بن عمرو لما دخل الإسلام في قلبه تبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل بيته ثم دخل عليه، وأخبره بأنه أسلم، وقال: اعرض علي أمرك، فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن، ثم استأذن رسول الله في أن يدعو قومه إلى ما آمن به، فأذن له الرسول، ولما دعا الطفيل والده واستجاب قال له: اذهب فاغتسل، وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت [56] .
هكذا يقول الطفيل: (حتى أعلمك ما علمت) ، وهو بهذا يدعو إلى شيء تعلمه وفهمه، إذ ليست الدعوة حماسا وخطبا ولكنها علم وعمل.
وأما ضمام بن ثعلبة فإنه لما وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لم يغادر مجلسه حتى تعلم أركان الإسلام، وعرف الحلال والحرام، وعاد إلى قومه فأعلن إسلامه، وقال لقومه: إن الله بعث رسولا، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، ثم نطق بالشهادتين وقال: وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه [57] .
وهكذا يكون ضمام قد تعلم وفقه ما يجب أن يدعو إليه قبل أن يقدم على تبليغ الدعوة، ويتحمل أمانتها، يجب أن يكون الدعاة في كل زمان ومكان.
2- نشر الدعوة واجب على الدعاة مهما كانت الظروف التي يوجدون فيها، فالإمساك عن التبليغ جريمة في حق الدعوة لا يغفرها إلا العمل الدائم من أجل لنشرها.(21/2)
وليس معنى هذا التهور في التبليغ وعدم مراعاة الظروف التي يوجد فيها الداعية، ولكن المقصود انتهاز الفرصة المواتية وعدم تضييعها، واستعمال الأسلوب المناسب لكل وضع يعيش فيه الدعاة، وهذا هو تفسير الآية الكريمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [58] .
والقرآن الكريم يحكي لنا قصة داعية أدخل السجن ظلما ولبث في السجن بضع سنين، ولم تحل الظروف القاسية التي يعيش فيها بينه وبين تبليغ الدعوة، ولم تكن أسوار السجن الرهيب لتصرفه عن بيان الحق وإعلانه، لقد وجد في السجن من ينصت إليه، فليكن السجن ميدان دعوته، وأحس من المساجين ميلا إليه وشغفا به فليكن هؤلاء هم البذور التي يستنبتها فيحصد منها الخير الوفير.
وجهر يوسف - عليه السلام - بالتوحيد وهو في أعماق السجن، ودعا إليه من حوله حين واتته الفرصة ولم يضيعها؛ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [59] .
3- ليس للدعوة أسلوب معين يجب اتباعه عند التبليغ بل لكل بيئة ما يناسبها، ولكل عقلية خطاب، ولكل مقام مقال، ولأجل هذا قال علي - كرم الله وجهه -: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ [60] .
وأسلوب القرآن الكريم في الدعوة لم يلتزم خطا واحدا، ولم يأت على وتيرة واحدة، بل خاطب المؤمنين بأسلوب، وخاطب أهل الكتاب بأسلوب آخر، وخاطب الملحدين المشركين بأسلوب غير الأسلوبين السابقين [61] .
وكان اختلاف الأسلوب مع كل جماعة لا لمجرد التنويع والتظرف في الحديث، ولكن كان لاختلاف الوسائل المقنعة لكل جماعة من الجماعات السابقة؛ فما يناسب المؤمنين لا يناسب المعاندين، وما يقنع أهل الكتاب قد لا يقنع الملحدين.(21/3)
فعلى الداعية إذا أن يدرس البيئة التي يعيش فيها، والظروف المحيطة به، وأحوال الناس الذين يقيم بينهم، وعليه أن يقيم بينهم، وعليه أن يتعرف على كل ما يتصل بحياتهم من الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهل هناك مؤثرات خارجية، وضغوط طارئة تضعهم تحت ظروف غير طبيعية فتصبغهم بصبغة مؤقتة يمكن أن يتخلصوا منها بزوال هذه المؤثرات وتلك الضغوط، أم أن هذه الصبغة نتيجة جهل بالحقائق، وعدم معرفة بما يجب أن يكونوا عليه؟
يجب أن يدرس الداعية ذلك كله، ثم يضع خطة عمله على أساس تلك الدراسة الوافية التي تمكنه من ممارسة مهمته بنجاح.
3- وعلى الداعية أن يختار الموضوعات الملائمة التي تعالج مشكلات الناس، وتقدم لهم الحلول المناسبة التي تجعلهم يؤمنون بأن الدعوة الإسلامية هي التي تحقق لهم أكبر قدر ممكن من السعادة والخير في تلك الحياة، وحينئذ لا يتطلعون إلى غيرها، ولا يؤملون الخير في سواها.
أما أن يكون الداعية في واد والمدعوون في واد آخر، أو أن يعيش الداعية بعقلية غيره، ويجبر المدعوين على التلون بذلك اللون الذي لا يتناسب وأسلوب حياتهم، أو أن يرجع الداعية بالمدعوين إلى عصر غابر ودهر سالف، ثم يتعرض لمشكلات ذلك العصر، فيكون كمن يصيح في واد أو ينفخ في رماد، فذلك في الحق ضياع للجهد، وتفتيت للقوى.
نعم لو كانت مشاكل ذلك العصر متشابهة بمشكلات العصر الذي نعيش فيه فلا بأس بالتعرض لها مع ربطها بمشاكلنا، واقتراح الحلول المناسبة لها، وعلى الداعية في هذه الحال أن يتناول الموضوع بما يتناسب مع عصره الذي يعيش فيه، وأن ينظر إليه وعقلية العبقري الذي يضع الأمور في نصابها، ويبتكر الحلول التي تقضي على المشكلة من أساسها.(21/4)
وعلى هذا يكون اختيار الموضوعات غير المناسبة - كتزهيد الفقراء في الدنيا، وحثهم على تركها والبعد عنها - ضربا من الحمق والسفه لا يناسب مقام الدعاة إلى الله عز وجل، وهل وجدوا منها شيئا حتى يزهدوا فيها ويرغبوا عنها؟ وهل وجد الفقير ما يقيم به صلبه ويسد به جوعه تدعوه إلى الإقلال من متاع الدنيا والبعد عن زخارفها؟؟
ومثل هذا تماما الذين يتكلمون عن المزدكية والمانوية [62] ، وينسون الشيوعية والقاديانية والبهائية، فهؤلاء يريدون إحياء الموتى بعد أن مضت تلك المعجزة، ومضى صاحبها عليه السلام؛ إن المزدكية والمانوية وأمثالهما مذاهب درست وكذلك الجبرية والمعتزلة والمرجئة وغيرها مما هو على شاكلتها فلسفات نفقت، ولم يعد لها في عالم الناس إلا هذه الآثار التي ضمتها الكتب القديمة بين صفحاتها كما يضم التابوت رفاتا قد جيف وأنتن، والناس لا يجنون من وراء نبشه إلا أن يزكموا بتلك الرائحة الكريهة.
إن الأولى للدعاة ألا ينبشوا تلك القبور، ولا يفتشوا عن هذه الجيف فقد آل أمرها إلى الله عز وجل، وهو - سبحانه - سيتولى حسابها عما قدمت من خير أو شر.
وليس معنى هذا أن نسكت عنها لو حاولت الظهور في أي شكل من الأشكال، كما حاولت المزدكية الظهور في صورة الشيوعية، وكما حاولت المعتزلة أن تأخذ شكل العقلانية؛ فعلى الدعاة حينئذ أن يتصدوا لها قبل أن تنفض التراب عن وجهها، وأن يعمقوا لها قبرها قبل أن تنهض على قدميها، ولا يكون ذلك بالسب والإقذاع واللوم والتعنيف، فتلك طريقة المفلسين، وشأن السفهاء والعاجزين، وإنما يكون بالتحقيق العلمي الرصين الذي يكشف بطلانها، ويرد شبهاتها، ويفضح زيفها.(21/5)
إن الشيوعية والقاديانية والبهائية مذاهب تعيش في رؤوس فريق من الناس مولعين بها يعملون على نشرها، ويجهدون في التبشير بها، حتى دخلت كل بيت، وغزت أكثر القلوب، وهذه المذاهب وإن لم يؤمن الناس كعقيدة إلا أن أفكارها وفلسفتها أصبحت تهيمن على عقول كثيرة.
فالشيوعية تنبذ كل الديانات، وترى أنها وسيلة يستغلها الأغنياء لبسط نفوذهم على الفقراء [63] .
والقاديانية كرست جهدها في وقف حركة الجهاد التي أقضت مضاجع المستعمرين، والتي هي فريضة على المسلمين [64] .
وأما البهائية فقد ألغت الصلوات الخمس، وأباحت لأتباعها ارتكاب الشهوات كيفما شاءوا في خمسة أيام قبل زمن الصيام، وحرمت على المرأة الحجاب، إلى غير ذلك مما أشاعته بين الناس [65] .
ونحن نرى من هذا العرض أن هذه المذاهب حرب على الإسلام صراحة، ومع ذلك لا نرى فيها إلا نزرا يسيرا من البحوث والمؤلفات، وأغلب الظن أن الدعاة لم يطلعوا عليها، بل لم يسمعوا عنها.
إن ترك هذه المذاهب الفاسدة تنفث سمومها بين الناس، وتبيض وتفرخ في عقولهم جريمة لن يغفرها الله للدعاة إلا إذا بذلوا أقصى الجهد في فضحها وإيقاف المسلمين على حقيقتها وأسرارها حتى يتجنبوها ويكتفوا شرها.
وإن الأفضل للدعاة إلى الله أن يدرسوا هذه المذاهب، ويقفوا على خباياها ومكنوناتها، وأن يضعوا العلمية المرتكزة على الحقائق لدحضها وبيان فسادها، وينظموا المحاضرات والندوات لتعريف المسلمين بها وتحذيرهم من شرها، وذلك خير لهم من أن يهاجم بعضهم بعضا، أو يعلنوا الحرب على الدارسين الهلكى.
5- البناء قبل الهدم من واجب الدعاة؛ لأنهم يريدون أن ينقلوا الناس من وضع سيئ إلى وضع حسن، ويخرجوهم من الضلال إلى الهدى.(21/6)
ومن المعلوم أن الإنسان بفطرته يحب ما نشأ فيه وشب عليه، وليس من السهل على نفسه أن يتركه إلا إذا حصل على ما هو خير منه؛ إنه يتشبث به لأنه ماضيه الذي يرجع إليه، وحاضره الذي يعتز به.
وكلنا ندرك أن صاحب الكوخ المتداعى لا يسمح مطلقا بهدمه، وهو مستعد للدفاع عنه بنفسه؛ لأن الكوخ الحقير عنده أفضل من سكنى العراء.
وكلنا يوقن أننا لو بنينا لصاحب هذا الكوخ قصرا منيفا، أو بيتا نظيفا وراودناه على ترك هذا الكوخ ليسكن هذا البيت لاستجاب للدعوة، وقد يتردد في بادئ الأمر لصعوبة فراق ما ألفه، ووحشة النفس من الجديد، ولكن تردده لا يلبث أن يتبدد حينما يذكر حاله في هذا الكوخ، وما كان يدهمه فيه من الحشرات والهوام، وحين يمني نفسه بما ينظره من السعادة والهناء في القصر الجديد، بل إنه ليتأكد من سعادة نفسه وطمأنينة قلبه وهناء باله يقارن بين المنزلين: كوخه المتداعى وقصره المشيد.
إن الدعاة الذين يهدمون قبل أن يبنوا كهؤلاء الذين يهدمون الكوخ ويتركون صاحبه في العراء ولو لفترة قصيرة حتى يشيدوا له البناء، فهم حينئذ ينفرون ولا يبشرون، ويضيقون ولا ييسرون، أما الذين يقيمون البنايات مع وجود الأكواخ، ويشيدون القصور إلى جانب القبور، فهؤلاء يعطون فرصة المقارنة والاختيار، ويتيحون للعقول حرية التأمل والانتقاء، ولن تكون النتيجة إلا الرضا بالأحسن، والإقبال على ما هو أفضل، وسيقوم ساكنو الأكواخ بعد ذلك يهدمونها بأيديهم.
ويجب على الدعاة بعد تشييد البناء ودعوة الناس إلى الانتقال إليه، هدم الأكواخ، وعدم التساهل في تحطيمها، فكثيرا ما تحن النفوس إلى ماضيها ولو كان ضلالا، وكثيرا ما تعود إلى سالفها ولو كان فسادا.
وإن وجود هذه الأكواخ مما يذكر النفوس بماضيها، ويعود بها إلى سالفها؛ فتحن له وتتمنى العودة إليه.(21/7)
وهذه هي طريقة الدعاة إلى الله - عز وجل - في كل زمان ومكان، منذ أرسل الله الرسل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولو أننا استعرضنا تاريخ الدعوة لوجدنا أن جميع الرسل يدعون أقوامهم إلى توحيد الله - عز وجل- أولا، ثم يكرون على ما يعبدون من دون الله فيظهرون عجزها، ويفضحون زيفها، ويثبتون أنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.
ونحن نرى في هذا أن دعوة الناس إلى التوحيد هي البناء الشامخ الذي يبذل الدعاة جهودهم في تشييده وإقامته، وإظهار محاسنه وإبراز روعته، وأن إظهار عجز الآلهة الأدعياء وفضح بطلانها هو هدم هذه الأكواخ المتداعية التي لم تعد تصلح للتشبث بها بعد أن ارتفع صرح الحق وعلا.
هكذا كانت خطة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه؛ دعاهم أولاً إلى الإيمان بالله ورسله قبل أن يدعوهم إلى الكفر بآلهتهم، وطلب منهم التوجه بالعبادة لله وحده قبل أن يطلب منهم نبذ أصنامهم وأوثانهم.
إن أول كلمة جهر بها - صلى الله عليه وسلم - لدعوة قومه بعد أن جمعهم على الصفا هي قوله: "إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة"، وفي البخاري: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، وكلتا العبارتين تدعوانهم إلى الإيمان به مرسلا من قبل الله الواحد الأحد.
وفي الدلائل للبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما – أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة ذهب إليه قومه، وطلبوا إلى أن يبعث إلى ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فينهاه عن سب آلهتهم وتسفيه عقولهم، فبعث أبو طالب إلى رسول الله، وسأله: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول.
وأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أي عم! إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية".
فقال القوم: كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا فما هي؟
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا إله إلا الله".(21/8)
عندئذ قام القوم فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
ويقول ابن إسحاق: فلما بادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته.
ومن هذا نعلم أن الرسول بنى قبل أن يهدم، ودعا إلى الإسلام قبل أن ينادي بنبذ الأصنام، وتلك هي الخطة المثلى للدعاة والحيدة عنها إغراق في متاهة لا يعلم عاقبتها إلا الله وحده.
وعلى الدعاة وهم يبنون أن يوطنوا أنفسهم على الصمود للعقبات والثبات أمام الصعوبات، حتى يجتازوا المحن، ويتغلبوا على الفتن، وتكون العاقبة بمشيئة الله - عز وجل - لهم، وسأذكر هنا أهم العقبات ليعمل الدعاة جاهدين على تذليلها.
أ- العادات الموروثة:
وقد عبر عنها القرآن الكريم حاكيا ما تشبث به المشركون حيث يقول: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} .
وتلك عقبة لا تزيلها القوة، ولا يتغلب عليها بالعنف والشدة ولكنها تحتاج إلى إقناع عقلي، وصبر من الدعاة وحلم حتى يثبتوا لهم أن ما جاءوهم به من الخير أحسن مما ورثوه عن آبائهم.
ب – الخداع العقلي: وهذه عقبة لم تعرف في طريق الدعاة إلا في العصر الحديث - أي بعد الثورة الصناعية، وتمرد العلماء على الكنيسة - حيث زعم الناس أن الأديان عقبة في طريق التقدم العقلي؛ وحسبوا أن الإسلام كالمسيحية في ذلك، وراج زعمهم وشاع كلامهم حتى اقتنع به كثير من المسلمين أنفسهم؛ لجهلهم بحقيقة الإسلام.(21/9)
وتلك العقبة لا تذلل إلا بالوقوف على حقيقة الإسلام، وضرب الأمثلة العلمية لما قام به علماء الإسلام من جهود جبارة في خدمة العلم، وإظهار أن الإسلام دين يحث على العلم، ويدعو إليه، ويفضل العلماء على غيرهم، وتوضيح أن علماء الإسلام خدموا العلم في فنونه المختلفة من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء وبصريات ورياضيات وغيرها [66] من أنواع العلوم؛ كل ذلك في ظل الإسلام وتحت راية القرآن.
ومن المعلوم أن الخلفاء قد تبنوا تلك الحركة العلمية الواسعة، وشجعوا العلماء على المضي فيها وأجزلوا الجوائز للمتفوقين منهم، وكان أقرب الناس إلى الخلفاء هم العلماء كما يشهد بذلك التاريخ، فكيف يكون الإسلام عقبة في طريق التقدم العلمي؟ اللهم إنها فرية لا يراد من ورائها إلا تعويق المد الإسلامي السريع الذي أذهل أعداء الإسلام.
ج- واقع المسلمين المتخلف: لاشك أن المسلمين متخلفون عن الركب الحضاري المتطور الذي يبدع كل يوم جديدا، ويستغل هذا التخلف أعداء الإسلام مدعين أنه لو كان الإسلام قادرا بالنهوض بالأمم والشعوب لما صار المسلمون إلى هذا الحد من التخلف المقيت.
والحق أن واقع المسلمين يعطي هذا الانطباع السيئ في نفوس الناس، ولكن على الدعاة أن يتعرفوا على حقيقة الأمر، ويقفوا على الأسباب الحقيقية المؤدية إلى هذا التخلف البغيض، وحينئذ يمكنهم أن يردوا تلك الشبهة، ويحطموا هذه العقبة.
إن تخلف المسلمين عن ركب الحضارة المتطور المبدع يرجع إلى سببين، وكلاهما بعيدان كل البعد عن حقيقة الإسلام وماهيته.
أما أولاهما: فالاستعمار الغربي الذي استولى على البلاد الإسلامية في غفلة من أهلها، وقد خرج هذا الغزو الصليبي مكشرا عن أنيابه السود، مملوءا بالحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، وعمل جاهدا على إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وتقدمهم.(21/10)
لقد علم هؤلاء المستعمرون أن الإسلام هو سر قوة المسلمين، وهو العامل الحقيقي للتقدم الذي أحرزوه يوم كانوا متمسكين به؛ فعملوا على إبعاد المسلمين عن دينهم، وعلموا أن البلاد الإسلامية العربية منها وغير العربية فيها من الخيرات والثروات ما يجعلها أغنى وأرقى بلاد العالم، فاستغلوا هذه الخيرات لأنفسهم وحرموا سكان البلاد الأصليين من خيرات بلادهم، وأقاموا صناعات بلادهم على تلك الخامات التي استخرجوها من بلاد المسلمين.
إن أبسط قواعد الذوق الإنساني أن يحترم النزيل صاحب البيت الذي ينزل فيه، وأن يقدم له العون فيما يعجز عن القيام به، وأن يقف إلى جواره فيما يحتاج إلى معونة، ولكن الاستعمار الغربي كان قد حرم من أبسط قاعد هذا التذوق؛ فسرق خيرات البلاد التي نزل فيها، وأذل صاحب البيت الذي آوى إليه، لقد كان من واجب الاستعمار ذوقيا وإنسانيا أن يطور هذه البلاد التي احتلها، وأن يدرب أهلها على ما يحتاجون إليه من أنواع الصناعات التي حذقها، ولكن هيهات! وهو في الحقيقة لم يستعمرها إلا لإضعافها وإذلالها.
وأما ثانيهما: فهو ابتعاد المسلمين عن دينهم - الإسلام – وهذا السبب كما رأينا يرجع إلى السبب الأول، وإن تصريحات زعماء الاستعمار لتعطي هذا التصور بوضوح، ولم يحاول الاستعمار أن يخفي وجهه الكالح في محاربة الإسلام ومحاولة إبعاد المسلمين عن دينهم، يقول القسيس زويمر في مؤتمر القدس الذي دعا إليه المبشرين في العالم: ليست مهمتكم إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها [67] .
لقد كان إبعاد المسلمين عن دينهم هدفا أساسيا من أهداف الكنيسة بالتعاون مع الجيوش الصليبية الغازية، وقد نجحت فعلا في ذلك نجاحا يفوق كل نجاح.(21/11)
وهكذا يكون الاستعمار هو السبب الحقيقي في هذا التخلف الخطير في الدول الإسلامية، وليس الإسلام، وهكذا يتحمل الاستعمار وزر هذا التخلف وحده دون أن يشاركه فيه أحد، ولهذا استحق الاستعمار لعنة الله - تعالى - كما استحق لعنة هذه الشعوب التي رزئت به.
هذه هي أهم العقبات في طريق الدعاة في العصر الحديث، ولا أنكر أن هناك عقبات أخرى، ولكنها لا تبلغ مبلغ هذه من الأهمية.
ولن يستطيع الدعاة التغلب على هذه العقبات وغيرها إلا بالعلم والدراسة الموضوعية المدعمة بالبراهين والأدلة، ولعل هذا من الأسباب التي نلتمسها لنزول أول آيات من القرآن الكريم تحث على القراءة وتدعو إلى العلم.
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [68] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القصص الآية77.
[2] الأنعام الآية162،163.
[3] الكوثر الآية2.
[4] رواه البزار.
[5] الحجرات الآية13.
[6] البخاري (1/185)
[7] رواه البخاري.
[8] رواه الترمذي.
[9] ابن هشام (1/232) .
[10] ابن هشام (1/275) .
[11] نفسه (1/278) .
[12] ابن هشام (1/178) .
[13] ابن هشام (1/278) .
[14] نفسه.
[15] سورة طه الآية71.
[16] طه الآيتان72،73.
[17] غافر الآية26.
[18] سورة النحل الآية125.
[19] الشعراء الآية29.
[20] سورة يوسف الآية39.
[21] الشعراء الآية30
[22] الشعراء الآية31.
[23] سورة غافر الآيتان28،29.
[24] غافر الآية29.
[25] غافر الآية38.
[26] غافر الآية41.
[27] غافر الآية44.
[28] سورة يس الآيات13-17.(21/12)
[29] الإسراء الآية95.
[30] الأنعام الآيتان8،9.
[31] سورة يس الآيتان18،19.
[32] سورة يس الآيتان18،19.
[33] الشورى الآية48.
[34] يس الآيتان20،21.
[35] يس الآيات22،24.
[36] الأحزاب الىية62.
[37] ابن هشام (2/24) .
[38] نفسه.
[39] ابن هشام (2/24) .
[40] ابن هشام نفسه.
[41] ابن القيم (3/96) .
[42] ابن القيم (3/96) .
[43] ابن القيم (3/93) .
[44] نفسه.
[45] ابن هشام (4/162) .
[46] نفسه.
[47] ابن هشام (1/290) .
[48] مختصر السيرة ص96.
[49] نفسه.
[50] مختصر السيرة ص96.
[51] ابن هشام (1/290) .بتصرف.
[52] ابن هشام (1/290) .
[53] ابن هشام (1/291) .
[54] ابن لجوزي (1/60) .
[55] ابن هشام (3/232) .
[56] ابن هشام (2/23) .
[57] ابن القيم (3/96)
[58] النحل الآية125.
[59] يوسف الآية39
[60] البخاري (1/225) .
[61] يراجع كتابنا أسس الدعوة.
[62] هما مذهبان فارسيان قديما، يقولان بأن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وجعلت المزدكية الناس شركاء في المال والنساء كشركتهم في الماء والنار والكلأ.
[63] المستجد في الأدب مادة شيع.
[64] القاديانية لأبي الحسن الندوي ص25.
[65] هذه هي البهائية ص8.
[66] يراجع تاريخ العلم عند العرب للكاتب الإيطالي أليدو مييلي.
[67] المخططات الاستعمارية ص78.
[68] سورة العلق الآيات1-5.(21/13)
حبيب الروم
لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
المدرس بكلية الدعوة
هو حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر الفهري القرشي، أبو عبد الرحمن، يعتبر من أقران خالد ابن الوليد وأبي عبيدة في الشجاعة والإقدام والأثر الجميل في الفتوح الإسلامية؛ لأنه شب على الحرب، وألف منذ صغره الطعن والضرب، فقضى معظم حياته في الحروب [1] ، وكان يقال له حبيب الروم لكثرة دخوله بلاد الروم، وما ينال من الفتوح فيها، وقد روى الخطيب عن مصعب بن عبد الله أنه قال: "كان حبيب شريفا قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر الواقدي سماعه" [2] .
وقال مكحول: "سألت الفقهاء، هل كان لحبيب صحبة؟ فلم يعرفوا ذلك، فسألت قومه فأخبروني أنه قد كانت له صحبة"، وقال العباس الدوري: "أهل المدينة ينفون عنه الصحبة، وأهل الشام يثبتونها"، وكذا قال أبو يوسف أيضا [3] ، واضطربت الرواية عن الواقدي، فمرة يروى عنه قوله: "ونحن نقول إنه ولد قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسنتين"ومرة يروى عنه قوله: "وحبيب يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم ابن اثنتي عشرة سنة".
والظاهر صحة الرواية الأولى؛ أن حبيبا ولد قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فقد جاء في تهذيب تاريخ دمشق: قال محمد بن عمرو: الذي عند أصحاب روايتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وحبيب ابن اثنتي عشرة سنة، وأنه لم يغز معه شيئا، وفي رواية غيرنا أنه غزا معه، وحفظ عنه أحاديث [4] .
وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج الحافظ ابن عساكر بسنده أن حبيبا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم غازيا، وأن أباه أدركه بالمدينة فقال: يا نبي الله، إنه ليس لي ولد غيره يقوم في مالي وضيعتي وعلى أهل بيتي، فرده معه، وقال: "لعلك أن يخلو لك وجهك بي في عامك، فارجع يا حبيب مع أبيك"؛ فرجع، فمات مسلمة في ذلك العام، وغزا حبيب فيه.(21/14)
ويؤكد الحافظ ابن عساكر أن حبيبا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وأخرج الإمام أحمد عن حبيب أنه قال: (شهدت رسول الله نفل الربع والثلث في الرجعة) ، ورواه الحافظ بأسانيد متعددة عن حبيب أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الثلث) ، وقال الفضل: قال أبي: أنكر بعض العلماء أن يكون حبيبا غزا مع رسول الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: إنه كان معه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى اله عليه وسلم، وهو ابن إحدى عشرة سنة.
شهوده معركة اليرموك:
يروي ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة خرج إلى الشام مجاهدا في حياة أبي بكر، وشهد اليرموك أميرا على بعض كراديسه [5] .
ويذكر البلاذري أن أبا عبيدة عقد لحبيب بن مسلمة على خيل الطلب - جعله قائدا لفصيلة راكبي الخيل المطاردة - فكان يقتل من أدرك من جنود الروم الفارين [6] .
ويبدو أن حبيبا ظل في جيش أبي عبيدة، وشارك في مواقعه في بلاد الشام، يقول البلاذري: (وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية، وقد تحصن بها خلق من جند قنسرين، فلما صار بمهروبة - وهي على قريب من فرسخين من مدينة أنطاكية - لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة، وحاصر أهلها من جميع أبوابها، وكان معظم الجيش على باب فارس والباب الذي يدعى باب البحر، ثم إنهم صالحوه على الجزية والجلاء؛ فجلا بعضهم وأقام بعضهم، فأمنهم ووضع على كل حالم منهم دينارا وجريبا، ثم نقضوا العهد فوجه إليهم أبو عبيدة عياض بن غنم، وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول) [7] .
ولاية أنطاكية:(21/15)
وبعد توطيد الفتح ولى أبو عبيدة حبيبا أنطاكية ونواحيها، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح، على أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وعيونا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية، وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا حربا في مغازيهم، ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح؛ فسموا الرواديف، لأنهم تلوهم وليسوا منهم [8] .
فتوحه:
وكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى؛ فيكاتبون الروم ويمالئونهم [9] .
ويذكر البلاذري أن حبيبا فتح قرقيسيا صلحا، وأنه لما ولي معاوية بن أبي سفيان الشام والجزيرة وجّه حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة، ورتب رابطة من المسلمين مع عاملها، وشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرها، فكانت طريق الصوائف [10] .
وكان حصن الحدث فتحه حبيب بن مسلمة أيام عمر بن الخطاب [11] ، وفتح حصن زبطرة، وهما حصنان قديمان للروم [12] ، وإلى حبيب ينسب موضع (بطنان حبيب) ؛ لأن أبا عبيدة أو عياض بن غنم وجهه من حلب ففتح الحصن فنسب إليه [13] .
وفوده على عمر بن الخطاب في خلافته:
روى ابن عساكر من طرق أن حبيب بن مسلمة كان يلي الطائف على عهد عمر، ويبلغ عنه عمر ما يحب، ولم يثبته (أي الجيش) حتى قدم عليه في حجة، وكان تام القامة، فسلم على عمر، فقال له: إنك لفي قناة رجل، قال: إني والله وفي سنانها، وفي رواية أنه قال: إنك لجيد القناة، قال: وجيد سنانها، قال عمر: افتحوا له الخزائن فليأخذ ما شاء، ففتحوها له، فعدا عن الأموال وأخذ السلاح.
وفي رواية أخرى لابن عساكر أن عمر لما عزل عياض بن غنم عن الجزيرة ولى حبيب بن مسلمة وضم إليه أرمينية وأذربيجان، ثم عزله وولى عمير بن سعد الأنصاري وسعيد بن عامر بن خديم [14] .(21/16)
وكان حبيب الروم كثير الغزو للروم شديد النكاية فيهم، دخل مرة أرض الروم على جيش؛ فاهتم عمر بأمرهم، فلما بلغه خروج حبيب ومن معه خر ساجدا لله، وكان لكثرة خوضه الحروب محبوبا من الناس، ومشهورا بالشجاعة، منوها باسمه على ألسن الشعراء، مدحه حسان بن ثابت بقوله:
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم
لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا
بغارة عصب من فوقها عصب
فيهم حبيب الموت يقدمهم
مستلئما قد بدا في وجهه الغضب
ولايته أرمينية:
ولما استخلف عثمان بن عفان كتب إلى معاوية - وهو عامله على الشام والجزيرة وثغورها - يأمره أن يوجه حبيب بن مسلمة إلى أرمينية، تقديرا منه لبلائه وأثره الجميل في فتوح الشام وغزو الروم.
ويذكر ابن كثير في حوادث سنة 28 - نقلا عن الواقدي - أن حبيب بن مسلمة غزا أرض الروم، ولما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص أخاه سلمان بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة.
شهوده حروب صفين وغيرها مع معاوية:
ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة، فقال: نزل حبيب بالشام، ولم يزل مع معاوية في حروبه في صفين وغيرها، ووجهه إلى أرمينية واليا عليها، فمات بها سنة 42 ولم يبلغ خمسين سنة.(21/17)
بعثه معاوية مع شرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس في سفارة إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فدخلوا عليه، فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا عمل بكتاب الله وثبت لأمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلته إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس ليكون أمرهم شورى بينهم؛ فيولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم، فقال له علي: وما أنت لا أم لك، وهذا الأمر وهذا العزل؛ فاسكت فإنك لست هناك، ولا بأهل لذاك، فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره، فقال له علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؛ لا أبقى الله عليك إن أبقيت! اذهب!؛ فصعّد وصوّب ما بدا لك، وكان فيما قال لهم علي: لا أقول إن عثمان قتل مظلوما ولا ظالما، فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوما، وخرجوا من عنده؛ فتلا قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} ، ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم.
ويعقب الحافظ ابن كثير على ذلك بقوله: وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه [15] .
وكان حبيب على ميسرة جيش معاوية يوم صفين، وفي رواية أخرى أنه كان على الميمنة [16] ، وقد بارز حبيب الأشتر فاقتتلا قتالا شديدا ولم يغلب أحد أحدا [17] ، وشهد حبيب التحكيم ثاني عشرة من أهل الشام [18] ، قال أبو عمر بن عبد البر: كان أهل الشام يثنون على حبيب بن مسلمة، قال سعيد بن عبد العزيز: كان حبيب بن مسلمة فاضلا، مجاب الدعوة، ويقال إن معاوية كان قد وجه حبيبا بجيش إلى نصر عثمان بن عفان، فلما بلغ وادي القرى، بلغه أن عثمان قد قتل، فرجع ولم يزل مع معاوية في حروبه [19] .(21/18)
وكان حبيب يلح على معاوية بالعمل بسيرة أبي بكر وعمر، روى ابن عساكر عن ابن عجلان قال: لما أتى معاوية موت حبيب بن مسلمة سجد، ولما أتاه موت عمرو بن العاص سجد، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين سجدت لوفدين وهما مختلفان، فقال: أما حبيب فكان يأخذني بسنة أبي بكر وعمر، وأما عمرو فيأخذني بالإمرة الإمرة؛ فلا أدري ما أصنع [20] .
كان مجاب الدعوة:
أخرج البيهقي والطبراني عن أبي هريرة أن حبيبا كان مستجاب الدعوة، وكان قد أمر على جيش، فدرب الدروب، فلما لقي العدو قال للناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم - أو قال: سائرهم - إلا أجابهم الله"، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم احقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء [21] .
وفاته:
اختلف في محل وفاته:
فقال البلاذري: إنه لما أمره عثمان بالانصراف إلى الشام نزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق، فتوفي فيها سنة 42، وقال ابن عبد البر: إن معاوية وجهه إلى أرمينيا واليا عليها، فتوفي فيها سنة 42، وذكر ذلك ابن سعد وابن عساكر، وأنه مات ولم يبلغ الخمسين كما تقدم [22] ، وفي رواية ابن عساكر أن حبيبا دخل الحمام فأطال المكث فيه فمرض مرضه الذي مات فيه.
وقال أبو زرعة الدمشقي: إن لحبيب ولدا كثيرا عندنا بحوران، ومنزلة بطرف من أطراف حوران، وكان بعضهم يصهر إلي، ورثاه شريح بن الحارث بقوله:
ألا كل من يدعى حبيبا وإن بدت
مروءته يفدي حبيب بني فهر
همام يقود الخيل حتى كأنما
يطأن برضراض الحصا جاحم الجمر
رضي الله عنه وأرضاه وعفا عنه في المجاهدين والقادة الفاتحين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم ص828 وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر4/35.(21/19)
[2] تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر4/35، وأسد الغابة1/449، والإصابة2/25.
[3] تهذيب تاريخ دمشق4/35.
[4] تهذيب تاريخ دمشق4/35، والاستيعاب لابن عبد البر1/321.
[5] تهذيب تاريخ دمشق4/35.
[6] فتوح البلدان للبلاذري141.
[7] فتوح البلدان152.
[8] فتوح البلدان164.
[9] فتوح البلدان180.
[10] فتوح البلدان189..
[11] فتوح البلدان193.
[12] فتوح البلدان 195.
[13] فتوح البلدان154.
[14] الاستيعاب1/326 وأشهر مشاهير الإسلام828.
[15] البداية والنهاية7/259.
[16] البداية والنهاية7/261 وتهذيب تاريخ دمشق7/35.
[17] البداية والنهاية7/262.
[18] البداية والنهاية7/278 والاستيعاب1/321.
[19] الاستيعاب لابن عبد البر326.
[20] تهذيب تاريخ ابن عساكر7/36.
[21] الاستيعاب1/321 والإصابة2/25.
[22] فتوح البلدان195 والطبقات الكبرى7/410 وتهذيب تاريخ دمشق7/36.(21/20)
من أعلام الدعوة الإسلامية في الهند
صديق حسن خان
1248- 1307هـ- القرن التاسع عشر الميلادي
بقلم الدكتور محي الدين الألوائي
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
كانت الهند من أسبق البلاد في مناصرة الدعوة الإسلامية إلى التوحيد والاعتصام بالسنة النبوية؛ بدليل مسارعة علمائها في تأليف ونشر كتب عديدة بمختلف اللغات في هاتين الدعامتين اللتين يقوم عليهما صرح الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء العلماء العلامة المحقق المجتهد صديق حسن خان، وكان عالما جليلا، وداعية مجتهدا وقد بلغ عدد مؤلفاته في العلوم الإسلامية حوالي 222 كتابا، ومنها 56 في اللغة العربية.
وقبل أن أقوم بتطواف سريع حول بعض هذه المؤلفات التي ساهمت مساهمة فعالة في نشر الدعوة الإسلامية الخالصة في أرجاء شبه القارة الهندية؛ أرى من المناسب أن ألقي ضوءا على تاريخ حياته بصفة عامة.
أسرته ومولده:
ولد صديق حسن خان في مدينة (بريلي) في شمالي الهند، وكانت ولادته يوم الأحد وقت الضحى في التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 1248هـ، واشتهرت مدينة (بريلي) التي هي موطن جده من جهة الأم، بدور العلم والعلماء منذ قرون، وقد توفي والده (حسن خان) وهو في السادسة من عمره، وبقي الطفل يتيما في كنف أمه، ثم جاءت به من (بريلي) إلى مدينة (قنوج) التي كانت موطن آبائه.
نشأته العلمية:
وأكمل تعليمه الابتدائي على النظام القديم المتبع في ذلك الزمان في ربوع الهند، فقرأ من الفارسية بعض الكتب الابتدائية، ثم المبادئ من الصرف والنحو في اللغة العربية ونبذة من المسائل الفقهية.(21/21)
وبعد ذلك ذهب صديق حسن خان إلى مدينة (كانبور) في الهند الوسطى، وتعلم هناك بعض الكتب في البلاغة العربية مثل (مختصر المعاني) و (الفوائد الضيائية) ، ثم ارتحل إلى (دلهي) لتحصيل العلوم لدى عالمها ومفتيها الشيخ (محمد صدر الدين خان) ، وأثناء إقامته في دلهي أكمل دراسته في مختلف العلوم والفنون، وأتم مقاصده منها بذهنه الثاقب ورغبته الملحة في تحصيل الكفاءة العلمية والمقدرة الأدبية في لغات ثلاث: العربية والفارسية والأوردية.
رحلته في الخارج:
وقد سافر صديق حسن خان إلى الحجاز وبعض البلدان العربية الأخرى، ومن أساتذته المعروفين الشيخ محمد يعقوب الدهلوي المهاجر المتوفى بمكة المكرمة في سنة 1281هـ، واستحصل منه الشيخ سند القرآن الكريم، كما درس علم الحديث على القاضي زين العابدين محمد الأنصاري اليماني، وأخذ الإجازة في الحديث النبوي من الشيخ عبد الحق الهندي تلميذ الإمام الرباني القاضي محمد ابن علي اليماني الشوكاني.
تزوجه بأميرة بهوبال:
وبعد عودته من الحجاز إلى الهند انتقل العلامة صديق حسن خان من (قنوج) إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند، وقد ذاع صيته في تلك الأيام كإمام في العلوم الإسلامية، ومؤلف بارع في العلوم العقلية والنقلية، وكاتب قدير في اللغات العربية والفارسية والأوردية، ومجتهد متواصل في الدرس والتأليف والتدوين، ولم يلبث أن تزوج بأميرة بهوبال (شاهجان بيجوم) التي كانت تحكمها حينذاك.
نقطة تحول في حياته العلمية:(21/22)
وكان تزوج العلامة صديق حسن خان بالأميرة (شاهجان بيجوم) ، وتلقبه بأمير بهوبال نقطة تحول لا في حياته العلمية فقط بل في النشاط العلمي والعهد التأليفي في الهند كلها؛ فكان له موهبة إلهية في الكتابة وفي التأليف؛ حتى قيل إنه كان يكتب عشرات الصفحات في يوم واحد، ويكمل كتابا ضخما في أيام قليلة، ومنها كتب نادرة على منهج جديد، وعندما ساعدته الظروف المنصبية والاقتصادية على بذل المال الكثير في طبعها وتوزيعها، قد تكللت مساعيه العلمية بنجاح منقطع النظير.
من مؤلفاته العربية:
وقلنا إن مؤلفاته في اللغة العربية وحدها يبلغ ستة وخمسين كتابا، وهي تشمل علوم التفسير والحديث والفقه الإسلامي والصرف والنحو والبلاغة والشعر والمنطق وعلوم الحكمة والطب والفلسفة.
وأما تفسيره المشهور (فتح البيان في مقاصد القرآن) فيقع في عشرة مجلدات ضخمة بالحجم الكبير، وقد طبع من جديد سنة 1965م بالقاهرة، وهو أول تفسير من نوعه؛ إذ يخلو من الإسرائيليات والجدليات المذهبية والمناقشة الكلامية، وأن تفسير القرآن ينقسم إلى قسمين: تفسير بالرواية، وتفسير بالدراية، وقد جمع صديق حسن خان في مؤلفه المذكور هذين النوعين من التفسير حتى خرج نادرا ونافعا في العالم العلمي.(21/23)
ويقول المؤلف مبينا الغرض الأساسي من التفسير وفائدته: "إن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا، وأعلاها على الإطلاق، وأولاها تفضيلا بالاستحقاق، وأساس قواعد الشرائع والعلوم، ومقياس ضوابط المنطوق والمفهوم، ورأس الملة الإسلامية وأساسها، وأصل المذاهب الفقهية ومنبعها الأول، وأعز ما يرغب فيه ويعرج عليه وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه؛ هو علم التفسير لكلام العزيز القدير، لكونه أوثق العلوم بنيانا، وأصدقها قيلا وأحسنها تبيانا، وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا، وأصحها حجة ودليلا، وأوضحها محجة وسبيلا، وقد حاموا جميعا حول طلابه، وراموا طريقا إلى جنابه، والتمسوا مصباحا على قيامه ومفتاحا إلى فتح بابه".
وهاهو ذا تعريف المؤلف لعلم التفسير فيقول: "هو علم باحث عن نظم نصوص القرآن، وآيات سور الفرقان، بحسب الطاقة البشرية، ووفق ما تقتضيه القواعد العربية، قال: الفناري: الأولى أن يقال: علم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله تعالى بقدر الطاقة الإنسانية، وهذا يتناول أقسام البيان بأسرها، ولا يرد عليه ما يرد على سائر الحدود، ومبادئ العلوم اللغوية وأصول التوحيد وأصول الفقه وغير ذلك من العلوم الجمة".
وأضاف: "والغرض منه معرفة معاني النظم ومعرفة الأحكام الشرعية العملية، وفائدته حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة، وموضوعه كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة، وغايته التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفوز بالسعادة الدنيوية والأخروية وشرف العلم وجلاله باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها".
الدين الخالص:(21/24)
ومن أجلّ مؤلفاته بالعربية كتاب سماه (الدين الخالص) ، وقد جعل المؤلف الكتاب قسمين: وعبر عنهما (بالنصيب الأول) و (النصيب الثاني) ، وطبع بالقاهرة في أربعة أجزاء.
وخصص النصيب الأول بمباحث التوحيد، والنصيب الثاني بمباحث الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدع، وجاء الكتاب حافلا بمباحث التوحيد والسنة، وسماه المؤلف (الدين الخالص) مقتبسا اسمه من قوله سبحانه وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} ، ولم يدع المؤلف آية من آيات التوحيد الواردة في القرآن إلا أتى عليها بالبيان الوافي لإثبات التوحيد الخالص، ونفي الشرك بجميع أنواعه وأصنافه، وكان غاية في الترغيب في اتباع السنة ورد البدعة بأقسامها وأطرافها، مع الرد على تحريف الغلاة وتأويل الجاهلين وإفراط المعصبين وتفريط المبطلين، فيقول في مقدمة الكتاب: ".. هذا كتاب ناطق ببيان ما دلت عليه كلمة الإخلاص والتوحيد وأفهمته من رد أنواع الضلال من الشرك والبدعة والتقليد، وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه موصلة أصحابها إلى دار السلام، طالما كان يخطر لي بالبال أن أحرر في تلك الدلائل صحيفة كاملة وأحبر لهذه المسائل رقيمة حافلة، ولكن يعوقني الزمان الحاضر الحائز للفتن عن البلوغ إلى هذا المرام، ولا يساعدني في الدهر الماشي على خلاف المراد على سلوك هذه السبل، سبل السلام".(21/25)
"وكنت دائما بالمرصاد لانتهاز الفرص تحصيلا لهذه البغية على ما يراد، إلى أن وجت - بحمد الله وحسن توفيقه - فرصة نزرة اختطفتها من أيدي آناء الليل وأطراف النهار، وزمانا يسيرا سرقته من حركات الفلك المحدد الدوار مع هجوم الأشغال وتشتت البال من كثرة الإسقام والاعتلال واختلاف الرجال، فجعلتها لزبر هذا المرقوم على سبيل الارتجال وجناح الاستعجال بالتفصيل والإجمال، فجمعت - حسبما تمكنت وقدر ما حصلت - آيات بينات وأحاديث شريفة وردت في إثبات التوحيد ونفي الإشراك، واتباع السنة ورد البدع، مع تفسيرها الذي حرره العلماء الفحول وشرحها الذي أذعن له السلف الصالح للأمة وأئمتها بالتلقي والقبول، ضاماً إليها من مقالات أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين، ما وقفت عليها جامعا لأشتات هذه الأبواب المتفرقة في الدواوين المؤلفة إليها، فجاء بحمد الله أجمع ما يجمع في هذا العلم..".
ويجد القارئ ما اشتمل عليه هذا الكتاب من المباحث الهامة من عناوين أبوابها العامة المقسمة إلى موضوعات يحتوي عليها كل باب، فدونك نماذج من ذلك:
1- باب في الآيات القرآنية الدالة على توحيد الله تعالى:
أ - أعظم آية في القرآن وأفضلها حيث قال: عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية من كتاب الله أعظم"؟ قال: آية الكرسي، قال: "ليهنك العلم أبا المنذر". أخرجه أحمد ومسلم، وقد ورد في فضلها غير هذا، لاشتمالها على أصول التوحيد.. الخ.
ب - دليل وجود الصانع:
سئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع الواحد؟ قال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة؛ أما يدلان على وجود الصانع الخبير؟(21/26)
وفي القرآن من دلائل التوحيد كثير، وتكرير قوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} للتأكيد، وفائدة تكريرها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، وفيه حث العباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها اشتغل بأفضل العبادات، وبالاشتغال بها ترسخ قدم التوحيد في قلوب العباد.. الخ.
ج- رد التثليث والتقليد:
وقال الله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} فيه رد على من قال بالتثليث من النصارى، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ، وذلك أن النصارى عبدوا غير الله - هو المسيح - وأشركوا به، وهو قولهم: أب وابن وروح القدس؛ فجعلوا الواحد ثلاثة، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وتبكيت لمن اعتقد بربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده ربا، ومنه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ..الخ.
د- أرجى آية لأهل التوحيد:
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وهي أرجى آية لأهل التوحيد، فإنه سبحانه لم يوئسهم عن المغفرة، عن علي قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار". أخرجه مسلم..الخ.
درس من حياته:(21/27)
وجدير بالذكر والاعتبار أن زواجه بأميرة بهوبال الغنية، واشتغاله بالشؤون السياسية والإدارية لم يثنه عن نشاطه العلمي، ولم تصرفه بحبوحة العيش وفخفخة الدولة عن خدمة العلم والدين، بل استفاد - بثاقب فكره - من هذه النعم لتحقيق هدفه الأسمى وغايته الرفيعة.(21/28)
في المشارق والمغارب
فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
من لوس أنجلوس إلى طوكيو:
وفي يوم الأحد الموافق 18/ 8/ 1398هـ، جاء إلينا الأخ تاج الدين شعيب مبكرا، وبعد أن أدينا لمدير الفندق ما بقي له عندنا من الحساب توجهنا إلى مطار لوس أنجلوس الدولي، أخذ الموظف المختص حقائبنا الكبيرة كالعادة في باب مبنى المطار وسلمنا البطاقات ذات الأرقام، ودخلنا إلى الموظف المختص لأخذ بطاقات دخول الطائرة، وكنت أظن أن هناك موظفين آخرين مختصين بالجوازات للتأشيرة الخاصة بالخروج، ولكن الموظف الذي أجرى معاملة التذاكر هو الذي أنهى معاملة الجوازات.
كان الموظف المختص في الطائرة التي حملتنا من لندن إلى نيويورك قد كتب المعلومات اللازمة في بطاقات، وألصق بجواز كل منا البطاقة الخاصة به، وأخذ صورة لكل منها.
وفي مطار لوس أنجلوس لم يزد الموظف على المقارنة بين البطاقة الملصقة بالجواز والبطاقة الموجودة عنده وهي صورة لها، ثم أخذ البطاقة الملصقة بالجواز ولم يختم على الجوازات.
وكنا ننزل في الفنادق في جميع المدن الخمس الأمريكية، دون أن يطلبوا منا الجوازات أو مجرد ذكر الهوية؛ اكتفاء بالمعلومات التي أخذت منا عندما دخلنا البلاد، ثم إن كل فندق يعطي الجهات المختصة الاسم، وهي تسجله، وكل ذلك يتم عن طريق الكمبيوتر.
إنهم على علم بتنقل المسافر ومعرفة مكان نزوله في المدينة، ولكن بدون أن يكثروا عليه بالأسئلة وملء البطاقات بالمعلومات والتوقيعات.
ودعنا الأخ تاج الدين شعيب ودخلنا في الطائرة وأخذنا مقادعنا المخصصة لنا، وفي الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين أقلعت بنا الطائرة.
الكون يحرك الشاعر:(21/29)
وكنت بجوار النافذة، وبدأت أطل منها لأرى المحيط الهادي من الجو بعد أن وقفت على جانبه الشرقي في غرب لوس أنجلوس في الأرض، ولكن السحب الكثيرة المتراكمة كانت تغطيه تماما، وهنا تحركت المشاعر فكتبت ما يلي:
حوار مع المحيط الهادي في يوم الأحد الموافق 18 شعبان من عام 1398هـ
أقلعت بنا الطائرة الأمريكية الضخمة ذات الطابقين التي تحمل أكثر من ثلاثمائة راكب من مطار لوس أنجلوس إلى طوكيو، في الساعة العاشرة إلا ربعا صباحا، ومعروف أن المسافة التي تقطعها الطائرة بين لوس أنجلوس واليابان كلها فوق المحيط الهادي، وكنت في اشتياق للتأمل في هذا المحيط الضخم الذي رأيته في الخريطة يأخذ مسافة واسعة من الكرة الأرضية؛ لذلك صممنا أن يكون سفرنا بالنهار، واشترطنا على شركة الخطوط أن نكون بجانب إحدى النوافذ؛ إنها فرصة لزيادة الإيمان بخالق الكون، كانت الطائرة تنهب الجو نهبا فتسابق الزمن؛ لأننا نسير إلى الغرب والشمس لا زالت في أول نهارها، وكلما تقدمنا إلى الغرب كلما كنا مبكرين، وأخذت أنظر إلى المحيط لأرى أمواجه الهادرة وهي تتقلب كصفحات كتاب، وإذا السحاب يغطيه كله؛ فلم أر شيئا منه؛ فقلت في نفسي: نحن قمنا من نومنا في لوس أنجلوس مبكرين، لأننا مسافرون والوقت هاهنا لا زال مبكرا؛ فلعل المحيط لا يزال يغط في نومه، ولذلك بقي مغطى بهذا السحاب المتراكم.
أنا زائر وزيارتي نادرة، ولو علم بزيارتي ومن أين جئت لما تردد في طرد النوم عنه وإبعاد الغطاء عن وجهه، ولعل في الشعر ما يوقظه بطرب وليس بإزعاج فأخذت في مخاطبة السحاب حتى انقشع وكان لي ما أردت:
وغدا السحاب مسجيا لمحيطه
وكأنه في نومه يتقلب
طاب المنام له لطيب إقامة
والقادري مسافر متأهب
لكنه متمتع بجمال ما
يرنو إليه لربه متأوب
يزداد في الكون الفسيح تأملا
ليزيد إيمانا فأنى يتعب؟
يا سحب ما لك تحجبين مزمجرا(21/30)
وهو الشجاع أمثله يتحجب؟
وغناه يمنع بخله، بل إنه
يعطي النفيس لكل من يتطلب؟
وأنا الغني بخالقي لا أبتغي
من غيره شيئا يباع ويوهب
بل زائر ملكوته متزود
منه اليقين إذا أؤوب وأذهب
والله رب العالمين إلهنا
فأمط لثامك، أين منه المهرب؟
قام المحيط مهللا ومكبرا
ويقول من هذا الذي يترقب؟
فأجبته أني لصنو قادم
من طيبة حيث الحبيب الأطيب
أصغى وأطرق ساكنا وكأنما
دخل الصلاة مكبرا يتعجب
أو من مدينة خير من وطئ الثرى
حقا أتيت إلى مرابع تندب [1]
فأجبته بهدى النبي أتيتكم
وإلى إله محمد أتقرب
أو ما سمعت ابن المبارك قائلا
لمجاور البيت الفضيل يؤنب:
(يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك بالعبادة تلعب)
ولسوف تشرق شمسنا بسمائكم
يوما، وليت بعد ذلك تغرب
حتى تسجر [2] مثل غيرك فانتظر
سفن الجهاد تدك من يتحزّب
فتعانقت أمواجه لقدومنا
وغدت تسبح ربها وترحب
وبعد الانتهاء من كتابة هذه الأبيات التفت إلي زميلي الدكتور فأسمعته إياها؛ فدعا الله أن يستجيب لتلك الآمال.(21/31)
ولقد كنت حقا أفكر في وجود في أعلام الفكر مدججة بالسلاح في هذا البحر العظيم، وفقد علم الإسلام العالمي الذي يجب أن يرتفع على كل صقع من أصقاع الدنيا، وإني لأرجو الله العلي القدير أن يأتي اليوم الذي يكون فيه جميع المحيطات والبحار، وكل أرض الله خاضعة لراية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإنه لآت بإذن الله، وإذا لم يكن على أيدي جيلنا هذا الذي ألف التبعية والتأخر عن حمل الراية؛ فلا بد أن يأتي الجيل الذي يتحقق ذلك على يديه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} .
في هنولولو [3] :
وبعد خمس ساعات هبطت بنا الطائرة في مطار هنولولو؛ إذ كان ذلك في الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين، بتوقيت لوس أنجلوس.
وفي قاعة مبنى هنولولو قعد بجوارنا رجل عمره بين خمسين وخمس أربعين سنة؛ فجرى حديث بينه وبين الدكتور محمد بيلو؛ فقلت لزميلي سله عن دينه فسأله فقال: إنه لا يدين بدين، قلت له: قل هل تحب أن تعرف شيئا عن دين الإسلامي؟ فسأله فقال: لا أريد أن أدخل في حديث الأديان وكل همي هو جمع المال.(21/32)
قلت: قل له إن كان عنده شك في وجود الله فنحب أن نناقشه ونزيل عنه الشك بالأدلة، فقال له ذلك فقال: هو لا يشك في وجود خالق للكون، ولا يحب البحث في هذا الموضوع، قلت: سله إذا يحتمل أن يكون الدين حقا واحدا في المائة، وأن هناك احتمال حياة أخرى فيها جنة ونار ويجزى فيها المطيع بالجنة والعاصي بالنار ولو واحدا في المائة أيضا؛ ألا يحفزك هذا أن تبحث عن الحقيقة حتى ينتفي عنك احتمال الواحد في المائة؛ فترتاح إلى ما تفعله نفسك حرا لا يقيدك شيء، أو يزيد هذا الاحتمال حتى يصبح مائة في المائة؛ فترتاح نفسك إلى التدين والتعبد وتسير في طريق الحياة وأنت على علم به؟ فأجاب: أنا قد سمعت أن بعد الحياة الدنيا حياة أخرى، ولكن لا أعترف بذلك ولا أريد البحث في هذه الأمور مطلقا، وأنا رجل تاجر يهمني أن أربح في تجارتي فقط، وقد أدخلت أولادي مدرسة مسيحية وهم يدرسون الدين المسيحي، وسبب إدخالي إياهم فيها ليس من أجل الدين وإنما من أجل أن الدراسة فيها ناجحة أكثر من المدارس الأخرى، وعندما وصل إلى هذا الحد كان موعد إقلاع الطائرة من مطار هنولولو قد اقترب؛ فتركناه وشأنه.
والملحوظ أن هذا الصنف من الناس يصعب التفاهم معه؛ لأنه يأبى النقاش مطلقا.
وبعد ساعتين تقريبا أقلعت الطائرة مواصلة رحلتها إلى طوكيو عاصمة اليابان، والفرق الزمني بين هنولولو والمملكة إحدى عشرة ساعة، فالساعة الواحدة بعد الظهر يوم الأحد في هنولولو والساعة الثانية بعد منتصف الليل في المملكة العربية السعودية من صباح الاثنين.
سبقنا الليل في أمريكا وسبقنا في اليابان:(21/33)
وفي هذه المرحلة الطويلة لم تدركنا ليلة الاثنين في لوس أنجلوس؛ لأننا سافرنا منها في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين صباح الأحد، ولم ندرك الليلة نفسها في اليابان؛ إذ كان شمس الاثنين قد طلعت في اليابان ونحن لا نزال في الطريق بعيدين عنها، وكان وصولنا مطار طوكيو في الساعة الرابعة والدقيقة الثلاثين بتوقيت اليابان من مساء يوم الاثنين.
فاتتنا خمس صلوات دون أن نشعر:
لذلك فقد فاتت علينا خمس صلوات ونحن لا نشعر بها، وهي مغرب ليلة الاثنين وعشاؤها وفجر يوم الاثنين وظهر يوم الأحد وعصره؛ لأننا صلينا فجر يوم الأحد في مدينة لوس أنجلوس وعندما وصلنا طوكيو صلينا الظهر والعصر جمعا، واتضح أن ذلك كان ظهر وعصر الاثنين.
من المضايقة إلى النوم:
وفي أثناء الرحلة كنت - كما ذكرت من قبل - أطل باستمرار لأرى عجائب مخلوقات الله، ولكن المضيفة بدأت تغلق النوافذ لأجل عرض فيلم للركاب كعادتهم، وأغلقت أنا نصف النافذة الأعلى وأبقيت نصفها الأسفل لأنظر منه، ولكن المضيفة طلبت إغلاقها كاملة؛ لأن الضوء يؤثر على رؤية الناس الفيلم فطلبت من زميلي أن يقنعها أن راحتي أنا في النظر إلى البحر وسحبه، ولا حاجة لي في النظر إلى الفيلم؛ فحاول أن يدافع عني ولكن المضيفة استنجدت بزميل لها فجاء يرجو غلق النافذة؛ لأن المشاهدين يتضايقون من الضوء فاستسلمت بغلق النافذة، ولجأت إلى النوم العميق لمدة ساعة وثلاثين دقيقة، وذلك بعد تناول طعام الغداء في مطعم ركاب الدرجة الأولى في الطابق الأعلى من الطائرة، وهو يقع في مقدمة الطائرة، أيقظني زميلي بعد مضي المدة المذكورة وقال: إن شئت أن تحظى ببغيتك فإن مقاعد الطابق الأعلى فارغة ويمكننا أن نصعد لنشاهد البحر من هناك، وقد أذن لنا المضيفون بذلك.
في الطابق العلوي من الطائرة:(21/34)
صعدنا وقعدنا ننظر إلى ذلك الكون العجيب؛ فكنا نرى خضرة البحر المختلطة بزرقة السماء تتناثر بينهما قوافل منقطعة من السحاب؛ فكانت مناظر تأخذ بالألباب إلى خالقها سبحانه، لذلك لم نشعر بطول المدة ولم نمل على الرغم من طولها فعلا، وبقينا في الطابق الأعلى إلى أن أضاءت الإشارة بطلب عودة كل راكب إلى مقعده فعدنا وقد رفع ذلك الفيلم الثقيل على النفس الذي حرمنا من لذة التمتع بآيات الله الكونية، ولكن رب ضارة نافعة؛ فقد استفدت من تلك الوجبة الطبية من النوم.
طلب غريب وتلبية أغرب:
مرّ بنا مساعد قائد الطائرة فحيانا، واغتنم زميلي الفرصة فأبدى له رغبته في رؤية غرفة القيادة وآلات القيادة، فأجابه بكل هدوء: ستراها، وذهب، والظاهر أنه استراب من هذا الطلب الغريب، ولكنه قد وعد بتلبيته، وعندما بدأت الطائرة تهبط شيئا فشيئا جاء الرجل إلى الزميل وقال له: إذا هبطت الطائرة فانتظر قليلا وهبطت الطائرة وخرج الركاب، وانتظرنا وجاء الرجل واصطحبنا إلى غرفة القيادة وبها القائد وبعض مساعديه، والغرفة ضيقة، فأشار القائد للزميل إلى الآلات التي توجه بها الطائرة يمنة ويسرة وعلوا وسفلا واستواء؛ فشكرهم على ذلك، وأخذنا حقائبنا اليدوية ونزلنا إلى المطار.
علقت على ذلك في نفسي، فقلت: هل يجرأ الزميل أو غيره أن يطلب من طيارينا في الشرق هذا الطلب في الجو؟ وإذا طلب ذلك هل تثبت أعصاب القائد وطاقم الطائرة كلهم؟ وإذا ثبتت فهل يسكتون عن هذا الطلب أو سينزل من الطائرة فيجد البوليس في انتظاره للتحقيق معه؟ دارت بذهني هذه المعاني كلها وتمنيت من قلبي أن توجد هذه المعاملة الحسنة لدى موظفينا، ومنهم من هو في قمة الأخلاق الحسنة الذين نتمنى من بعضهم الكلمة الطيبة وقت معاملته التي هي فرض عليه؛ لأنه يستلم أجرا عليها.(21/35)
وليعذرني القارئ في هذه التعليقات فليست هي من آثار العاطفة المجردة، بل إنها واقعة بعد تفكير، وقد عزمت وأنا أكتب هذه المذكرات أن أكون منصفا، فأذكر لأهل الغرب ما لهم وما عليهم، وأقارن بين سلوكهم سلبا كان أو إيجابا وبين سلوكنا، ونحن أمة مسلمة، يجب أن نكون قدوة لغيرنا من الناس؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
دخلنا في قاعة مطار طوكيو الكبير الجديد الذي هو محاط بحراسة أمنية شديدة؛ لحمايته من هجمات الجيش الأحمر الذي سبق أن قام بحملة عنيفة عليه؛ فحطم برج المراقبة فيه وقطع خطوط المواصلات السلكية، ولا زال يهدده، ولذلك كثر فيه رجال الأمن المسلحون وكان التفتيش دقيقا، على خلاف ما جرى في دول الغرب، ولكن المفتشين عاملونا معاملة لم يعاملوها أحدا غيرنا ممن رأينا؛ فسألونا: أسعوديون؟ فأجاب الزميل: نعم هذا سعودي، وأنا سوداني، فأشروا على حقائبنا ولم يفتشوها.
لا تفزع فنحن من ذوي الملايين!:
وذهب الزميل يسأل عن المواصلات ويصرف بعض الشيكات السياحية إلى الين الياباني، فقيل له: المسافة بين المطار وطوكيو تزيد عن سبعين ميلا، والأجرة عشرون ألف ين ياباني؛ فرجع إلي فزعا من هذا الرقم الهائل الذي لا قدرة لنا في تحمله، فقلت له: إن الدرهم المغربي قيمته ضئيلة جدا وأرقامه مخيفة، فلعل الين مثله؛ فسل عن القيمة، فرجع ووجد أن الأمر سهل فالدولار الأمريكي على الرغم من هبوطه الشديد يقابله مائة وثمانية وتسعون ينا يابانيا؛ فقلت له: لقد أصبحنا يا أستاذ من ذوي الملايين، والحمد لله.(21/36)
وكنا نتوقع أن يستقبلنا بعض أعضاء المركز الإسلامي في طوكيو حيث سبق أن اتصلنا بهم من لوس أنجلوس قبل سفرنا بيوم أو يومين هاتفيا، ولكنهم لم يتمكنوا؛ لأن هذا المطار لا يسمح لأحد أن يأتي إليه إلا إذا كان مسافرا، وللاستقبال محطة أخرى يذهب المسافر إليها تنقله الحافلات المخصصة وهناك يجد من يستقبله، والمحطة المذكورة تقع بين المطار والمدينة، وكان أعضاء المركز قد أوفدوا شخصا لاستقبالنا فيها، ولكن لعدم علمنا بهذه الترتيبات لم نذهب إلى المحطة المذكورة.
في الفندق القريب:
وكنا مرهقين إرهاقا شديدا لطول السفر، ولم نشعر بالإرهاق إلا بعد نزولنا في المطار؛ ففضلنا أن ننزل في فندق قريب من المطار لننام فيه إلى الصباح، ثم نذهب إلى طوكيو، وهذا ما فعلناه.
مرافسة بالأرجل بدل الملاكمة بالأيدي:
ذهبنا إلى الفندق المذكور، وهو يقع على تل من التلال الصغيرة، وتحيط به الغابات من كل جهة، واستأجرنا غرفة، وصلينا المغرب والعشاء، ثم أخذنا مضاجعنا لنرتاح بعد ذلك السفر الطويل، ولكن الزميل حرك مفتاح التلفزيون، فإذا شابان يابانيان يترافسان بأرجلهما في حلبة مغالبة عنيفة في جمع حاشد من الناس، وهذه أول مرة نرى فيها الملاكمة أو بالأحرى المرافسة بالأرجل؛ فأخر ذلك علينا النوم قليلا، ولكنا بعد ذلك نمنا نوما عميقا إلى الصباح، وبعد أن صلينا الفجر قرأنا حزبنا المعتاد في سفرنا؛ حيث كنا نتدارس كل يوم لا سفر فيه جزءا من القرآن الكريم.
حاولنا بعد ذلك الاتصال بالمركز الإسلامي هاتفيا، ولكن حصل خطأ لم نتمكن بسببه من الاتصال؛ إذ كنا نتصل برقم المكتب وهو رقم منزل أحد أعضاء المكتب، ولا يوجد في المنزل أحد كان هذا يوم الثلاثاء 20/ 8/ 1398هـ.
من الفندق إلى طوكيو:(21/37)
اضطررنا أن نستأجر سيارة خاصة، وأعطينا السائق عنوان المركز؛ فأخذ يقرأه فلم يعرفه؛ فرجع إلى الفندق يسأل عنه؛ فدله عليه بعض الموظفين، وسار بنا بعد ذلك في طريق تتلوى في بعض الأماكن مثل الثعبان، وفي بعضها تكون مستقيمة، إلا أن الشوارع هناك ضيقة في الغالب، نظرا لكثافة السكان وضيق الأرض بالنسبة لحاجتهم إليها للسكنى والزراعة، وكانت تحيط بنا الأشجار الكثيرة من الجانبين، وكذلك المنازل السكنية الصغيرة التي كنت أقول في نفسي إن مساحة الحجرة في هذه المنازل ربما لا تتسع إلا للياباني الواحد، أو لقصار الناس من غيرهم، وكانت العمارات متصلة في الغالب حتى كأنها جزء من مدينة طوكيو، بعد ذلك كانت تحيط بنا المصانع من الجانبين، وكانت الشوارع مزدحمة بالسيارات لكثرتها، ولكن على الرغم من الزحمة الشديدة لم نسمع صوتا لبوق سيارة من تلك السيارات، حيث كل سائق آخذ مكانه لا يحاول الاعتداء على مكان أحد، ويشعر بأن وقوف من أمامه وقوف عادي لوجود الزحمة فليس في حاجة أن يزعج الناس ببوق سيارته بدون مناسبة أو فائدة، كما نفعل نحن في بلدان ما يسمى بالشرق الأوسط؛ إذ تجد بعض السائقين يسير وحده في الشارع وهو مستمر في الضغط على بوق سيارته، كما تجد الأصوات ترتفع عندما تتغير الإشارة الكهربائية من اللون الأحمر إلى اللون الأخضر، مع أن كل سائق لا يرغب أن يقف فور انفتاح الطريق أمامه؛ فلا يحتاج على من يحثه على السير، ولكنها طبيعة غالبة سيئة ألفها الناس فاستمرأوها.
أما في بلاد الغرب - ومثلها اليابان - فإن صوت بوق السيارة يعتبر ضرورة؛ فلا يسمع إلا ظن أن أمرا ما كاد يحدث أو قد حدث.
وبعد مسافة اختار سائقنا طريقا سريعا يمر تحت الأرض حيث دفع مبلغا من المال في أحد مراكز المرور، وذهب مسرعا السرعة المحدودة ولا يوجد في هذا الشارع إلا القليل من السيارات وفي اتجاه واحد، ولكن المبلغ الذي دفعه السائق حسبه علينا ضمن الأجرة.(21/38)
هذا مشرق وذاك مغرب وأنا في الوسط:
وكان السائق يدخن ولكن تدخين الياباني المقتصد، وكان زميلي يحاول أن يسلي السائق ببعض الكلمات الإنجليزية؛ لأننا نحن نتكلم بلغتنا وهو لا يدري ما نقول، ولكن السائق لا يتكلم الإنجليزية، وربما كان عنده كلمات قليلة في حدود اختصاصه، ولذلك يرد على الزميل بلغته اليابانية، أما أنا فكنت لا أدري ماذا يقول هذا ولا هذا، إلا أنني كنت أعرف أن أحدهما يسير مشرقا والآخر يسير مغربا؛ فالزميل قد يأتي بالمبتدأ باللغة الإنجليزية بمعنى، والسائق يأتي بخبر المبتدأ بمعنى في واد آخر باللغة اليابانية، وأنا علي أن أتمتع بتلك الأصوات، وأسكت ولو كانت عندي لغة ثالثة لا يفهمها زميلي ولا السائق لكانت تشكيلة جيدة تحقق بيت الشعر الذي افتتحنا به سفرنا:
أقول له زيدا فيسمع خالدا
ويكتب عمرا ويقرأه بكرا
تهنا ولكنها أسعفتنا:
وعندما ظن سائقنا أنه في المنطقة التي فيها المركز أخذ يحاول العثور على المكان، يلتفت للأرقام المكتوبة على الجدران؛ فنزل للتأكد فوجد أنه غيره، وأخذ يمر بالشوارع الفرعية الأشد ضيقا ثم يعود إلى الشارع الرئيسي، وهكذا كاد ييئس، وفي آخر الأمر مرّ بشارع ضيق فالتقى بصاحب دراجة نارية يبدو من أنه من أهل الحارة فسأله فلم يهتد إلى ذلك، وبينما نحن واقفون تحت أحد المنازل والسائق يسأل وصاحبنا الزميل محمد بيلو يحاول مساعدته في السؤال باللغة الإنجليزية؛ إذ سمعت الحوار امرأة من الدور الثاني فعرفت أن هاهنا غرباء في حاجة إلى المساعدة فنزلت تسأل: ما بكم؟ باللغة الإنجليزية ففرح الزميل الذي تساوى رأسي معه قبل ذلك على الرغم من محاولته التفاهم مع السائق وغيره باللغة الإنجليزية دون جدوى؛ فكلمها وأعطاها العنوان، فأشارت للسائق على مكان قريب جدا فيه المركز فأنقذتنا مما نحن فيه.
في المركز الإسلامي:(21/39)
وكان في المركز الأخ الدكتور عبد الباسط السباعي المصري؛ فخرج وأخذ الحقائب من السيارة وطلب منا الدخول إلى المركز ريثما يتم تأمين الحجز في الفندق، فدخلنا وأخذ الأخ عبد الباسط يعتذر لعدم استقبالنا في المطار، وذكر السبب في ذلك وهو أنه لا يسمح لغير المسافر أن يذهب إلى المطار الجديد، كما ذكر أنه كان غائبا مع بعض الزائرين المسلمين في بعض المناطق خارج مدينة طوكيو، وأنهم بعثوا من يستقبلنا في المحطة التي سبق الكلام عليها، ولكنه لم يحدنا لعدم مجيئنا إليه، ورحب بنا ترحيبا حارا.
اتصل بعد ذلك بفندق يسمى (كيوبلازا) في مدخل البلدة، وهو لا يبعد كثيرا عن المركز؛ فحجز لنا غرفة واستأجرنا سيارة وذهب هو معنا إلى أن تم النزول والاستقرار في الفندق، ثم تركنا لنأخذ راحتنا على أن يعود إلينا في المساء لوضع الترتيبات اللازمة لزيارة الجمعيات الإسلامية في طوكيو وخارجها حيث أمكن ذلك.
وقبل أن يتركنا نزل معنا إلى أحد مطاعم الفندق الذي هو مختص بالوجبات السمكية؛ لنجمع أنا وزميلي بين طعام الإفطار وطعام الغداء جمع تأخير، لأن الساعة كانت حينئذ الثانية ظهرا، ويشاركنا الأخ عبد الباسط.
الشوكة والملعقة:
وعندما قدم لنا الطعام أخذت ألتمس الشوكة والملعقة فلم أر شيئا، وإذا الأخ عبد الباسط يخرج من القرطاس خشبتين صغيرتين ملتصقتين من جهة مفترقتين من الجهة الأخرى؛ فيفصلهما هو ويرينا كيف يأكل بهما بدلا عن الملعقة والشوكة، وقال: إن هذه هي التي يأكل بها اليابانيون، وهما عودان مملسان أطول من المرسام (قلم الرصاص) قليلا، أصلهما واحد ولهما فرعان، ولا يفصلهما إلا الآكل عندما يخرجهما من القرطاس دليلا على أنهما جديدان لم يأكل بهما أحد.(21/40)
وأخذ الأخ عبد الباسط يأكل بهما بسهولة وهو يمسكهما بصفة خاصة، أما أنا فلم يكن عندي استعداد لأتمرن في ذلك الوقت؛ فطلبت شوكة وملعقة وأكلت كعادتي، وأما زميلي الدكتور فحاول أن يحوز قصب السبق فيصبح يابانيا في تلك اللحظة، ولكنه سرعان ما انهزم ولحق بي فطلب الشوكة والملعقة.
لطف المعاملة:
وفي هذا المطعم سمعنا تلك الكلمة العاطفية التي يعبر بها اليابانيون لمن يخاطبهم أو يطلب منهم شيئا، ويهزون معها رؤوسهم تعبيرا عن استعدادهم لخدمتك أو سماع كلامك أو غير ذلك، والكلمة هكذا: (هَيْ) بفتح الهاء وسكون الياء، وأنها تعني طيب، أو مرحبا، أو أبشر عندنا، فكنا إذا طلبنا شيئا قال القريب منا: هَيْ، وطلب من زميله القيام به فأجابه: هَيْ، وهكذا فإنك تسمع هذه الكلمة باستمرار: هَي، هَيْ، هَي، في كل مكان.
وبعد الغداء ودعنا الأخ عبد الباسط وصعدنا إلى الغرفة لنرتاح.
نحن أولى بالدعوة إلى الله:
كنا في فنادق الغرب نجد كتاب الإنجيل في كل فندق أما في فنادق اليابان فيوجد كتاب الإنجيل ومعه كتاب بوذا المقدس عندهم.
وقد علقت على ذلك فقلت: لم ننزل في فندق في البلدان التي زرناها إلا وجدنا فيه الإنجيل، وفي اليابان والبلاد المجاورة في شرق آسيا أضيف إليه كتاب بوذا، ونحن عندنا لا يوجد المصحف في الفنادق في بلاد المسلمين، وقد يقال: إن وجود المصحف في الفنادق قد يعرضه للمس الكفار له وإهانته، ولكن هذا لا يرد في فنادق مكة والمدينة التي لا يدخلها إلا المسلمون، واعترافا بالفضل فإني وجدت في فترة من الفترات المصاحف في فندق شبرا بمكة؛ لأن به موظفين صالحين، ولا أدري إن كان ذلك مستمرا أم لا؟(21/41)
وفي الفنادق الأخرى التي في غير مكة والمدينة يمكن أن يعطى المسلم مصحفا ويترك غير المسلم، بل يمكن أن يوضع فيها ترجمة معاني القرآن الكريم ليقرأها غير المسلم؛ فتكون حجة عليه ودعوة إلى الإسلام، بل يمكن أن توضع بعض الكتب الإسلامية المفيدة.
ولكن مع الأسف الشديد نرى الأمم الأخرى التي دينها باطل وهي لا تقيم له وزنا، ولكنها تحول إظهار الاعتزاز به.
والأمة الإسلامية التي دينها وحده هو الحق تتهرب من الدعوة إليه وإظهاره بمظهر المنقذ للبشرية، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، فكثير من الذين يتولون شؤون الفنادق بعيدون عن هذه المعاني وإن كان يوجد من فيه خير كثير، ولعله كان غافلا فيوقظه هذا التنبيه.
بل إنني أقترح على الخطوط الجوية العربية كلها - وأخص منها (السعودية) - أن يكون في طائراتها بعض الكتب الإسلامية المفيدة، مثل ترجمة معاني القرآن الكريم والمصحف نفسه، ويعطى للمسلم، وغيرها؛ لتكون دعوة لغير المسلم وتذكيرا للمسلم.
ولقد سرني وجود تسجيلات في بعض الطائرات السعودية للقرآن الكريم [4] ، وأرى أنه ينبغي تسجيل ترجمة معاني القرآن وبعض الكتب المترجمة إلى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الأردية؛ ليستفيد منها غير العرب، ولعل هذه الاقتراحات تجد أذنا صاغية، وأجهزة منفذة؛ لأنها من وسائل الدعوة إلى هذا الدين.
وفي المساء جاء الأخ عبد الباسط السباعي في غرفتنا وشرح لنا نشاط الجمعيات الإسلامية في اليابان، وخيرنا في برنامج الزيارة أنقتصر على زيارة الجماعات الموجودة في طوكيو أم نزور بعض الجمعيات في خارجها، وكنا نرغب أن نزور بعض الجمعيات خارج العاصمة مع الجمعيات الموجودة فيها، ولكن بعد تشاور بيني وبين زميلي فضلنا الاقتصار على الجمعيات الموجودة في طوكيو فقط؛ لضيق الوقت.
ليس هذا هو المنهج في الدعوة:(21/42)
وفي يوم الأربعاء الموافق 21/8/1398هبعث لنا الدكتور السباعي أحد العاملين في المركز اصطحبنا إلى المركز حيث تم الاجتماع ببعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية التي يرأسها محمد سوادة الياباني، وكان موجودا في الاجتماع، وبعد أن تم التعارف بيننا بدأ رئيس الجمعية يشرح لنا ما تريد أن تقوم به في المستقبل من النشاط الإسلامي، كبناء جامع كبير وإنشاء كلية إسلامية وغير ذلك، ولكن طلبت أن يجيب على بعض الأسئلة والاستفسارات فوافق.
فسألته: كم عدد أعضاء جمعيتكم؟ فقال: عشرة آلاف شخص.
قلت: في مدة كم تم إسلام هؤلاء؟ قال: في مدة ثلاث سنوات.
قلت: متى أسلمت أنت؟ قال: منذ أربع سنوات.
قلت: إن دخول الناس أفواجا في دين الإسلام أمر عادي، ولكن هذه الأعداد الضخمة في خلال ثلاث سنوات وأنت لم يمض على إسلامك إلا سنة واحدة من وقت دعوتك لهؤلاء فهل فهمت أنت الإسلام فهما صحيحا وأفهمت هؤلاء كذلك؟
فقال: أما أنا فقد قرأت عن الإسلام قبل أن أدخل فيه، واتصلت ببعض أعضاء جمعية مسلمي اليابان، وقابلت عمر ميتا مترجم معاني القرآن الكريم، كما تعرفت على الأستاذ صالح السامرائي، وأعطاني شريطا مسجلا عن الصلاة وأبديت بعد ذلك رغبتي في الإسلام؛ فشجعني الأخ صالح على الدخول فيه، وأما جماعتي فكنت أدعوهم إلى الإسلام وأطلب منهم أن ينطقوا بالشهادتين فقط، ولا ألزمهم بشيء غيرها.
قلت له: وهل لازلت تتابعهم جميعا إلى الآن، ولازالوا جميعا مسلمين؟
قال: لم أستطع أن أتابعهم وكثير منهم ترك الإسلام.(21/43)
ثم علقت على الموضوع، فقلت: الواجب في الدعوة إلى الإسلام اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن يكون الداعي نفسه عالما بالإسلام مطبقا لما علم، وأن يدعو الناس إلى الشهادتين ويفهمهم معناهما، ثم يشرح لهم مبادئ الإسلام ويطلب منهم الالتزام بها، ووجود قليل من الناس يفهمون الإسلام فهما جيدا ويطبقونه خير من العداد الكبيرة بدون ذلك، كما يجب أن يكون الهدف رضا الله تعالى، لا رئاسة ولا مغنما دنيويا، والمشروعات الإسلامية بعد ذلك سهلة إذا وجد الرجال، فإنهم سيقومون بها هم.
فاعترف الرجل أن أسلوبه في إسلام هؤلاء الناس كان خطأ ولذلك لم يبقوا على الإسلام كلهم، كما وعد بأنه سيسلك السبيل الذي أشرت إليه.
رافقنا بعد ذلك الأخ علي الزعبي السوري، أحد العاملين في المركز؛ فركبنا في المطار ونزلنا في المحطة الرئيسية لشركة ذلك القطار، وهي على قرب من الفندق الذي نزلنا به، وهذه المحطة تتكون من خمسة طوابق تحت الأرض، وذكر الأخ علي أن ثلاثة ملايين نسمة تنطلق من هذه المحطة يوميا إلى أعمالها، بخلاف المحطات الأخرى، ولا غرابة في ذلك فسكان مدينة طوكيو يبلغ عددهم ثلاثة عشر مليون نسمة.
أمم تحت الأرض:(21/44)
وهنا رأينا الناس مثل النمل كثرة ونظاما، على الرغم من أنهم يمشون في كل اتجاه، وهم يتعاملون في التعرف على اتجاهاتهم مع اللافتات الإرشادية التي كتبت على الجدران، فترى الفرد أم الجماعة يقفون لحظة لينظروا إلى الكتابة ثم ينطلقون بسرعة إلى الجهة التي يريدون دون أن يسأل أحد أحدا، ودون أن تسمع منهم أصواتا وضجيجا، بل إذا كلم أحد صاحبه كلمه بصوت خافت لا يسمعه إلا صاحبه، ويتعاملون في الإجراءات اللازمة لركوب القطار مع الآلات المركبة في الجدران، فالذي عنده قروش معدنية يقف أمام الماكينة ويدخل المبلغ اللازم في الماكينة ويضغط على الزر؛ فتناوله الماكينة البطاقة ذات القيمة، وإذا كان المبلغ النقدي أكثر من قيمة البطاقة دفعت له الباقي.
الآلة تبيعك ما تحتاج إليه:
وإذا كانت أوراق نقدية ذهب إلى آلة أخرى ليدخل المبلغ الورقي؛ فتصرف له الآلة ذلك وتدفع له قيمته نقدا معدنيا يدا بيد! وهكذا أصبحت الآلة تتعامل مع الناس بسرعة ودقة متناهية يسرت الأمور، وحالت بينهم وبين التعقيدات الناتجة عن معاملة بعضهم مع بعض، وإن كانت عطلت أيدي البشر عن العمل؛ فكانت بذلك الشكوى العالمية من البطالة.
ونزلنا إلى الأسواق الأرضية فوجدنا اليابانيين فيها، كأنهم قطع من يأجوج ومأجوج، وهكذا كلما نزلت إلى طابق من الطوابق الأرضية وجدته أكثر من الطوابق الأعلى منه، وهكذا تمتد الأسواق في مدينة طوكيو في طوابق متعددة في الأرض إلى مسافات لو أراد الإنسان أن يمشي حتى يقطعها لاحتاج إلى الزاد والراحلة، لولا الآلات التي يمكنه أن يناولها نقوده فتناوله طعامه وشرابه في أي مكان، وإنك لتظن في كل طابق أنه يضم كل سكان طوكيو.(21/45)
وتجولنا في فروع بعض الشركات الذي يتكون من سبعة طوابق فوق الأرض وعدد من الطوابق الأرضية، وفيه من البضائع ما يحتاجه الإنسان الكبير والصغير، الرجل والمرأة؛ من لباس وأثاث وآلات مختلفة، في كل طابق تجد صنفا من الأصناف، وفي كل صنف أنواع وأشكال.
وفي صباح يوم الخميس الموافق 22/8/1398هتجولنا أيضا في بعض الأسواق يرافقنا الأخ علي الزعبي، والأخ عباس نبيل السوري الذي تخرج في الجامعة الإسلامية، وهو مبعوث دار الإفتاء هناك، يقوم بالدعوة والتدريس في بعض الجمعيات الإسلامية والمركز الإسلامي.
مع بعض أعضاء المؤتمر الإسلامي:
وبعد الساعة السادسة مساء كنا على موعد مع بعض أعضاء المؤتمر الإسلامي التي يرأسها الدكتور شوقي فتاكي، وهو طبيب له عيادات متخصصة والعاملون معه أغلبهم أطباء، وكانوا مجتمعين في قاعة كبيرة يتلقون درسا من أحد خريجي الأزهر في اللغة العربية، وعندما وصلنا طلب منا إلقاء كلمة في الحاضرين، وكانوا رجالا ونساء.(21/46)
فألقيت كلمة تضمنت بيان القاعدة الأساسية للإسلام، وهي شهادة إن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاصة لما تضمنتاه من عبودية مطلقة لله تعالى واتباع كامل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن الحاضرين السكرتير الخاص لرئيس الجمعية، وكان الحاضرون كلهم يظهر عليهم التفاعل مع الكلمة، على الرغم من أنها تترجم مرتين؛ مرة باللغة الإنجليزية وأخرى باليابانية، إلا أن السكرتير المذكور لم يكن كغيره منسجما مع الدرس، ولذلك ناول الأخ عباس نبيل ورقة صغيرة يشعره فيها بقرب انتهاء الوقت، وكان الأخ عباس هو المترجم باللغة الإنجليزية، وعندما شعرت بذلك اختصرت الكلام وختمته بنصيحة وجهتها للنساء اللاتي كن مسلمات عدا واحدة فهي بوذية، وكن غير محتشمات في لباسهن؛ فطلبت منهن أن يقتدين بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه، ولا يقلدن نساء الغرب اللاتي خرجن عن الفطرة فذقن عذاب الدنيا قبل الآخرة.
وهناك شكوك في بعض الجمعيات الإسلامية الحديثة في اليابان بسبب ظهورها بعد أزمة البترول، ومحاولة تلك الجمعيات الحصول على مساعدات مادية، وعدم الاهتمام الحقيقي بتطبيق الأوامر الإسلامية.
وقد سبق الحديث عن الجمعية الخيرية التي ذكر رئيسها أن عشرة آلاف شخص دخلوا خلال ثلاث سنوات، وأنهم لا يحصل منهم إلا مجرد النطق بالشهادتين، وكنت أود أن أحصل على وقت ألتقي فيه بالدكتور شوقي لأسأله مباشرة عن بعض الأمور المتعلقة بجمعيته، ولكن لما لم يرتب لقاء معه لم أطلب أنا ذلك، ونسأل الله أن يكونوا مسلمين حقا، ولكن المبالغات كثيرة في أعداد المسلمين وفي النشاط الإسلامي ينبغي التريث في تصديق ما يقال.(21/47)
هذا مع العلم أن فطرة اليابانيين وأخلاقهم أقل انحرافا من أهل أوربا وأمريكا فيما يبدو، وذكر لي الأخوة الذين التقيت بهم في المركز الإسلامي أن تعاليم كتاب بوذا الذي يدين به أغلب اليابانيين فيه من الدعوة من المبادئ الخلقية ما يجعل الياباني أقرب من المسيحي والوثني - الذي لا توجد تلك المبادئ في تعاليمه - إلى الإسلام، بل قال الأخ علي الزعبي: إن الياباني لا تنقصه إلا شهادة إن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكنت قلت له حينئذ: هذه مبالغة، ولكن مع ذلك فأنا مقتنع بأن لو وجد الدعاة المخلصون والمدارس الإسلامية لأبناء المسلمين، وإمدادهم بالمدرسين الصالحين والكتاب الإسلامي المترجم بلغة اليابان لكانوا أقرب الناس إلى لدخول في الإسلام.
وللمركز جهود طيبة في ترجمة بعض الكتب الإسلامية وطبعها ونشرها، ولكن الإمكانات تحد من نشاط المسؤولين عنه، وقد طلبوا مني أن أبلغ المؤسسات الإسلامية في المملكة العربية عن حاجتهم لطبع بعض الكتب الإسلامية التي ترجمت إلى لغة اليابان ونشرها لتعم الفائدة، كما زودوني ببعض تلك الكتب الصغيرة التي تم تسليمها للجامعة الإسلامية؛ لينظر المسؤولون في إمكان طبعها.
وطبيعة اليابانيين الهادئة، ومعاملتهم الحسنة وتواضعهم وإنصاتهم للحديث، وكونهم أقل من الغربيين انحلالا؛ كل ذلك من عوامل قبولهم للإسلام، بالإضافة إلى أصالة تدينهم العاطفي في الجملة.
ولعلي أعود لهذا الموضوع مرة أخرى في مناسبة تالية بإذن الله.
فروسية الإنسان وغرائب الحيوان:
وفي مساء هذا اليوم شاهدنا على شاشة التلفزيون الياباني عجائب من التدريبات، فروسية ركوب الخيل التي كانت حركات الركاب - رجالا ونساء - عجيبة جدا، وحيث كان الراكب يقف على جواده ويتجه إلى الأمام والخلف بسرعة فائقة، وينزل فيلتصق ببطن الجواد، أو يقف في الأرض ثم يقفز على ظهره بسرعة كذلك.(21/48)
كما رأينا حيوانا يشبه الدب، وهو يسوق الدراجة مرة، والسيارة مرة أخرى، ويصعد على السلالم ماشيا على رجليه فقط رافعا يديه، وينزل كذلك، ويرفع يده تحية للحاضرين، ويباري سائسه فيقفز كل منهما على ظهر الآخر بسرعة وبحركات عجيبة.
في مسجد طوكيو:
ودّعنا أعضاء جمعية المؤتمر الإسلامي وذهبنا إلى مسجد طوكيو؛ إذ كنا على موعد مع الأخ عبد الباسط السباعي؛ لنصلي في المسجد صلاة العشاء ثم نعود إلى الفندق، وعندما وصلنا إلى المسجد قال الأخ عبد الباسط للأخ عباس نبيل الذي رافقنا إلى مقر جمعية المؤتمر الإسلامي: أما كنا على موعد مع جمعية مسلمي اليابان في الساعة السادسة مساء؟ قال الأخ عباس: الذي أعلم أن هذا الوقت كنا فيه على موعد مع جمعية المؤتمر الإسلامي، وكنا عندهم فعلا، والظاهر أن سوء فهم حصل في الموعدين بين الأخ السباعي والأخ عباس، ونحن لا نعلم عن ذلك شيئا، فقال الأخ السباعي: إنهم لازالوا في انتظاركم.
مع جمعية مسلمي اليابان:
صلينا العشاء جماعة في المسجد المذكور وذهبنا إلى مقر جمعية مسلمي اليابان، وجدناهم ينتظروننا في غرفة مستطيلة في منزل أحد الأعضاء فيما يبدو فيها وثائق الجمعية، وبها تتم بها اجتماعاتهم.
وبعد التعارف وتقديم بعض الفواكه وشرب الشاي بدأ النقاش فيما يتعلق بجمعيتهم وأهدافها ووسائلها المتاحة؛ فعرفنا بأنها من أقدم الجمعيات الإسلامية في اليابان؛ إذ أسست منذ ست وعشرين سنة، ومن أهم أهدافها: الحفاظ على بقاء الأعضاء أقوياء في إيمانهم، وتعليم أبنائهم مبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية.
وتمتاز الجمعية بالتريث في الأمور وعدم الطمع في كثرة عدد المسلمين بدون فقه في الدين والتزام مبادئه، فلا يدخل في الإسلام إلا من اقتنع بأنه حق، ورغب رغبة قوية في الدخول فيه.(21/49)
كما أن لدى أعضائها كفاءات إسلامية لا توجد عند غيرهم من الجمعيات التي عرفناها؛ فعدد من الأعضاء تخرجوا في جامعات عربية ومعلوماتهم قوية، فمنهم من تخرج من الأزهر، ومنهم من تخرج من جامعة القاهرة، وبعضهم تخرج من جامعة دمشق، وبعضهم درس مدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولم يواصل دراسته ولكنه يعتبر نافعا نسبيا.
وهم ذوو أعمال في الشركات، ولكنهم يخصصون بعض الأوقات لتدريس أعضاء الجمعية وأبنائهم، ويساعدهم الآن في تدريس اللغة العربية الأخ عباس نبيل، ولرغبتهم في المزيد من المتعلمين في المعاهد الإسلامية فقد تقدموا بطلب منح من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذكروا أن الجامعة وافقت على منحتين وهم يطلبون المزيد، وكان المرشحون للمنح المذكورة حاضرين في الاجتماع، وكلهم ذوو تخصصات مهمة في العلوم، ومنهم من هو في جامعة علمية، ولكنهم لشدة رغبتهم في دراسة الإسلام يفضلون ترك أعمالهم والسفر إلى المدينة المنورة، مع علمهم أنهم سيقضون مدة ليست بالقصيرة في تعلم اللغة العربية.
ولدى الجمعية استعداد لتوسيع نشاطها لو توافرت لها الإمكانات اللازمة، فهم في حاجة إلى بناء مقر لهم يحتوي على بعض المكاتب الإدارية وقاعة اجتماعات، وفصول دراسية ومسجد، كما أنهم في حاجة إلى وسائل نقل للدعاة، ومكتبة للمطالعة، وهذا تقريرهم الذي قدموه للسفير السعودي في اليابان الذي كنا نود زيارته لنؤكد رغبتهم، ونطلب محاولة تحقيقها لما لمسناه فيهم من الصدق والإخلاص، ولكن السفير كان غائبا.
ولذلك فإني أناشد الجامعات السعودية وفي طليعتها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وكذلك المؤسسات المسؤولة عن الدعوة والمساعدات الإسلامية؛ أن تمد يد العون لهذه الجمعية وأمثالها.
ومن أهم ما يجب أن تعان به العالم الذي يساعدهم في الدعوة والتدريس [5] .(21/50)
ويجدر بي أن أنقل للقارئ نبذة عن الإسلام والمسلمين في اليابان من كتيب أصدره المركز الإسلامي في طوكيو، وفيها تعريف بالمركز نفسه.
الإسلام والمسلمون في اليابان:
نبذة تاريخية:
ما نعمت اليابان بنور الإسلام إلا بعد ثلاثة عشر قرن من بدء البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، في الوقت الذي وصل فيه الإسلام إلى الصين بعد عشرات السنين من الهجرة؛ ففي أواخر القرن الماضي أسلم أول ياباني وهو المرحوم أحمد أريجا، وكان مسيحيا كما أدى أول ياباني فريضة الحج عام 1909م، وهو الحاج عمر ياماوكا.
ومنذ أوائل هذا القرن جرت محاولات عديدة لإدخال الإسلام إلى اليابان، (الداعية المصري علي أحمد الجرجاوي وآخرون عام 1907م، عبد الرشيد إبراهيم مفتي مسلمي روسيا 1909 م، وجماعة التبليغ منذ عام 1956م) ، إلا أن المحاولات الحقيقية بدأت منذ عام 1960م.
ففي عام 1952م أسس عدد من المسلمين اليابانيين الذين اهتدوا إلى الإسلام قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية - أثناء وجودهم في الصين وملايو وأندونيسيا - أول جمعية لهم وأسموها: جمعية مسلمي اليابان.(21/51)
وفي عام 1961م تشكلت أول جمعية للطلبة المسلمين، وضمت الطلاب القادمين من مختلف البلدان الإسلامية للدراسة في اليابان، وقد كونت جمعية الطلبة المسلمين وجمعية مسلمي اليابان أول مجلس مشترك للدعوة في اليابان: هو المجلس الإسلامي المشترك الذي ضمّ ممثلين من جمعية مسلمي اليابان وجمعية الطلبة المسلمين، وظل جهاز الدعوة يخطط لنشر الإسلام في اليابان حتى عام 1966م؛ فنشر رسائل عديدة عن الإسلام، وأصدر جريدة إسلامية وقام بالدعوة، ونظم دروسا تربوية عملية للشباب المسلم الياباني وغير الياباني، وابتعث العديد من الشباب الياباني للدراسة في البلاد الإسلامية، وفي أوائل 1966م طور المجلس نفسه وضم ممثلين عن الجمعيات الإسلامية الأخرى، مثل الجمعية التركية وجمعية الطلبة الأندونيسيين، وأطلق على نفسه المركز الإسلامي الدولي، ونشط هذا المركز لمدة قصيرة اعتراه الضعف بعدها؛ نظرا لعودة أكثر الطلبة النشطين إلى بلادهم بعد انتهاء الدراسة؛ فأصاب العمل الإسلامي في اليابان انحسار شديد.
وفي أوائل السبعينات جرت محاولات لإحياء المركز الإسلامي مرة أخرى؛ فتعاون الداعية الباكستاني سيد محمد جميل مع جمعية الطلبة المسلمين وأسس مركزا للدعوة سرعان ما تقلص؛ نظرا للظروف السياسية التي سادت باكستان في ذلك الوقت، ولنقص الدعم المادي.
وفي أواخر عام 1973م عاد بعض الخريجين ممن كان يعمل في جمعية الطلبة المسلمين مرة ثانية لليابان؛ بناء على الطلب الذي تقدمت به الجمعية لجلالة المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز إبان زيارته لليابان للعمل على تنشيط الدعوة الإسلامية في اليابان؛ فقام هؤلاء بالتعاون مع المهتمين بالدعوة من المسلمين اليابانيين وغير اليابانيين بإنشاء المركز الإسلامي في اليابان كصيغة جديدة للمركز الإسلامي الدولي.(21/52)
وفي أوائل عام 1975م بدأ النشاط الفعلي للمركز الإسلامي بافتتاح أول مقر صغير له بالقرب من مسجد طوكيو؛ لينطلق من هناك بفضل الله تعالى العمل للدعوة الإسلامية مرة أخرى بقوة متجددة.
تعريف بالمركز الإسلامي في اليابان:
المركز الإسلامي عبارة عن هيئة مستقلة للدعوة الإسلامية تهدف إلى نشر دعوة الإسلام في اليابان عن طريق نشر الكتاب الإسلامي باللغة اليابانية في مختلف الموضوعات؛ لتعميم كلمة الإسلام المقروءة في كافة أنحاء اليابان، وإرساء قواعد الدعوة عن طريق اللقاء المباشر مع اليابانيين إما بإدارة مناقشات، أو إقامة محاضرات ومؤتمرات، وتعليم اللغة العربية، وتدريب المسلمين الجدد، وجمع كلمة المسلمين.
أهداف المركز:
يهدف المركز إلى نشر الدعوة الإسلامية في مختلف أنحاء اليابان، وتعريف اليابانيين بالإسلام من مصادره الأصلية، وخاصة أن ما كتب عن الإسلام حتى الآن في اليابان من مصادر غربية مشوهة، ولندرة المعلمين باللغة العربية من اليابانيين، ولذلك وضع المركز نصب عينيه هدفين رئيسيين: هما الدعوة المباشرة باللقاء والكلمة والمناقشة والحكمة والموعظة الحسنة، وبنشر الكتاب الإسلامي المترجم من المصادر الإسلامية الأصلية باللغة اليابانية؛ ليكون في متناول الجميع وتوزيعه بالمجان.
تمويل المركز:
يتم تمويل المركز عن طريق التبرعات والهبات من الحكومات الإسلامية والهيئات والمؤسسات والأفراد من مختلف البلاد الإسلامية.(21/53)
وتجدر الإشارة هنا بأن رابطة العلم الإسلامي تقوم بدعم المركز بخمسين ألف دولار سنويا، كما تلقى المركز تبرعات وهبات دفعة واحدة من حكومة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقد استطاع المركز بعد أن تلقى هذه المساعدات أن يشتري مقرا صغيرا له في مدينة طوكيو حتى يتسنى له تسجيل المركز كإحدى الهيئات الدينية في اليابان، والعمل جار في هذا الصدد منذ عامين، وهو على وشك الانتهاء بإذن الله.
مشروعات المركز:
1- إنشاء مقار ثابتة ومساجد صغيرة في مختلف المناطق خارج طوكيو حيث توجد تجمعات إسلامية؛ بحيث تكون أماكن تجمع المسلمين، ومراكز العمل والدعوة، وهناك الآن إحدى عشرة منطقة وضعت في الاعتبار، ولقد بدأ العمل بإنشاء ثلاثة مراكز في مدينة سنداي في شمال اليابان، ومدينة توكشيما في جزيرة شيكوكو، وأخرى في مدينة كيوتو عاصمة اليابان القديمة.
2- إنشاء معهد للدراسات الإسلامية يشتمل على مدرسة ابتدائية وإعدادية وثانوية ومعهد عال للدراسات الإسلامية وإعداد الدعاة.
3- زيادة عدد الدعاة والمتفرغين للعمل الإسلامي من اليابانيين والأجانب في مختلف أنحاء العالم.
4- توسيع دائرة توزيع الكتاب الإسلامي في اليابان.
5- تنفيذ مخطط سنوي لنشر الكتاب الإسلامي بمختلف تخصصاته.
6- إنشاء مسجد ومركز طوكيو الإسلامي الجديد؛ ليفي بحاجة المسلمين والنشاط الإسلامي المتزايد في اليابان.
7- إنشاء دار نشر الكتاب الإسلامي بما فيها مطبعتها؛ نظرا للحاجة الملحة لوجود دار نشر متخصصة في هذا المجال.(21/54)
هذا المركز، وأشباهه من المراكز الإسلامية النشطة المهتمة بالدعوة إلى الله بسبل ناجحة واضحة، كنشر الكتاب المترجم بلغة القوم المدعوين والمدرسة، والمسجد، والدعاة المتفرغين، يجب أن يدعم من قبل المؤسسات الإسلامية من جامعات وإدارات دعوة، وكذلك الحكومات الإسلامية، وهذا العمل من أفضل الأعمال التي يريد المسلم أن يقدمها لربه، وعلى من لم يغز أن يجهز الغزاة؛ ليدلل على إسلامه وقصده رفع كلمة الله تعالى وراية الإسلام.
والإخوة العاملون في هذا المركز جادون في عملهم حسب استطاعتهم، والأخ عبد الباسط السباعي يجيد اللغة اليابانيين كاليابانيين؛ لأنه مكث في اليابان مدة طويلة، وحصل على المؤهلات العلمية من هناك وثقافته الإسلامية جيدة، وكذلك زملاؤه الآخرون، كالأخ علي الزعبي، وينبغي أن يستفاد منهم بترجمة الكتب النافعة المفيدة لتطبع وتنشر في اليابان، وإنما نقلت ما سبق وعلقت عليه هذه التعليقات اليسيرة لإقامة الحجة على من يريد أن يسهم في الدعوة إلى الله في اليابان.
معقل مفتوح:
وهناك مجال آخر لنشر الإسلام والدعوة إلى الله، وفرصة يعتبر تفويتها من الخسائر التي يتحمل المسلمون إثمها؛ فقد تمت الموافقة على إنشاء كرسي للدراسات الإسلامية في جامعة تشو أو معهد القانون المقارن، والمسؤولون في المعهد المذكور يطلبون مندوبين من الأساتذة المسلمين المتخصصين؛ ليقوموا في السنة الأولى بتدريس أساتذة الجامعة، وفي السنة الثانية يدرس الأساتذة المسلمون والأساتذة اليابانيون الذين تلقوا الدراسة في السنة الأولى الطلبة، وفي السنة الثالثة يفتح قسم لتدريس الشريعة الإسلامية في الجامعة.
وإني لعلى ثقة - والله أعلم بالغيب - أنه إذا وجد الأساتذة المختصون الدعاة إلى الله الذين سلوكهم يدعو الناس قبل كلامهم أنّ كثيرا من أساتذة هذه الكلية سيصبحون مسلمين، وسيكون من الطلبة كذلك مسلمون.(21/55)
وهل ترى معقلا يجب الاهتمام به كهذا المعقل؟
وأرى من الواجب أن تسبق المؤسسات المستقيمة إلى هذا المجال قبل أن يندب من مؤسسات أخرى من يسيء إلى الإسلام والمسلمين، وينفر اليابانيين من الإسلام إما بسلوكه وإما بفكره، اللهم فاشهد!.
ولا يفوتني أن أنبه هنا - مرة أخرى - على أن رواتب المنتدبين للدعوة من المملكة إلى الدول الغربية واليابان لا تكفيهم لغلاء المعيشة هناك، وخاصة في اليابان، فقد شكا الأخ عباس نبيل كما شكا زملاؤه في أمريكا، ولعل هذا التنبيه يجد من ينتبه ويعيد النظر في الموضوع؛ فإنه جدير بذلك.
عمل بدون جعجعة:
هذا ويمتاز اليابانيون بحسن المعاملة واللطف وإتقان العمل الجاد الصامت الهادئ، وقد أخبرني الأخ علي الزعبي أن كثيرا من العاملين في الشركات يؤدون للشركات أوقات أطول من الوقت المطلوب منهم، فقد يبقى العامل اثني عشرة ساعة في عمله، والمطلوب منه ثماني ساعات فقط وبدون مقابل، من أجل إتقان عمله أو محاولة تطوير آلة واكتشاف جديد.
ولقد دهشت عندما سمعت هذا الكلام، وتذكرت حالنا نحن المسلمين الذين يعتبر العمل عندنا عبادة إذا قصد به وجه الله ولو كان مباحا.
إنك لتجد الموظف منا يفوت في أول النهار زمنا قد يطول وقد يقصر، كما يفوت فرصا في العمل وهو قاعد على مكتبه أو في مصنعه - لا سيما إذا لم يكن عليه رقيب من البشر؛ لعدم خوفه من رقابة الله - يشرب الشاي أو البارد، ويمزح مع زملائه أو غيرهم، كما يفوت وقتا كذلك في آخر الدوام باختلاق الأعذار أو الاندساس والاختفاء عن عين المسؤول البشري.
وإذا ما أحكمت الرقابة رأيت الكثير منا يتذمر من هذا التشديد، ويشكو ويحاول أن يترك مؤسسة العمل المتشددة إلى مؤسسة أخرى متراخية دون حياء من الله ولا أداء لواجب الأجر المادي؛ فهل تستحق أمة يعمل كثير من أفرادها هذا العمل أن تتقدم في دنياها أو تفوز في أخراها؟(21/56)
ولعل هذه الصفة التي ذكرها الأخ علي خاصة باليابانيين، أما في الغرب فالذي سمعته هو الحرص الشديد من الجانبين العامل وصاحب العمل ألا يحصل أحدهما على شيء من الآخر دون مقابل.
ومن الأمور التي تلفت النظر أن ابتذال المرأة في اليابان أقل منه في الغرب؛ فلباس المرأة اليابانية أحسن من لباس المرأة الغربية، كما أن قلة الحياء في الغرب أكثر من ذلك في اليابان، وإن كان الشر موجودا فيهما جميعا.
ومن العادات الطيبة التي ذكر أنها موجودة هو أن المرأة اليابانية تخرج للعمل تقليدا للمرأة الغربية، ولكنها إذا تزوجت لزمت بيتها وقامت بواجب زوجها وأسرتها، وليتها تبقى على هذه العادة ولا تستمر في سلوك سبيل المرأة الغربية المعذبة.
وتمتاز شوارع طوكيو بكثرتها في اتجاه واحد؛ إذ تجد الشارع العادي على الأرض وتجد تحته شوارع في باطن الأرض، وهكذا تجد فوقه عدة شوارع من الجسور التي تكاد تقترب من سطوح بعض العمارات لكثرتها.
كما أن شوارعهم تمتاز بالجمال في تخطيطها الهندسي والمروري، وسبب كثرة الشوارع في داخل الأرض وفي أعلاها ضيق الأرض وكثرة السكان والسيارات، وشوارع اليابان فوق ذلك تظهر أكثر نظافة من شوارع بعض المدن الأمريكية.
والحقيقة أن التناسق والجمال يبدوان على أعمال اليابانيين، ولو كان في الوقت سعة للبقاء هناك لرأينا كثيرا مما يمكن أن يذكر على سبيل المثال، ولكن هذا الانطباع هو الذي خرجت به.
وبعد أن انتهينا من الاجتماع الذي تم مع جمعية مسلمي اليابان عدنا إلى الفندق، وكان الوقت متأخرا ونحن على أهبة السفر صباحا، وكان معنا الأخ عباس نبيل الذي وعدنا بأن يحضر بعد صلاة الفجر؛ ليصحبنا إلى المحطة التي يسمح للمودعين بالوصول إليها، ولكن الرجل نام فلم نره إلى الآن.
إلى مطار طوكيو:(21/57)
استأجرنا سيارة لإيصالنا إلى المحطة المذكورة، وكان خروجنا من الفندق الساعة الخامسة صباحا يوم الجمعة الموافق 23/8/1398هـ، وكنا في سيرنا نرى الشمس أمامنا تارة ووراءنا تارة أخرى، وعن اليمين مرة وعن اليسار مرة أخرى لكثرة التواء الشوارع.
وفي طريقنا حصل خطأ من بعض السائقين كاد سائق السيارة التي أمامنا أن يصطدم بسيارة المخطئ الذي كان أمامه، وكاد سائقنا أيضا أن يصطدم بالسيارة التي أمامه، ولشدة الضغط على المكابح (الفرملة) حصلت أصوات مزعجة من السيارة التي أمامنا ومن سيارتنا، ولكن أيا من السائقين لم يغط البوق، بل كأنه لم يحصل شيء، ولم يزد سائقنا أن التفت لنا وقال: عفوا عن الإزعاج الذي حصل.
ولو حصل مثل هذا عندنا لنزل السائقون الثلاثة بعد أن أزعجوا الناس بالأبواق وعطلوا سير الناس بترك سياراتهم في الطريق وقضاء مدة طويلة في الخصام، وربما في الخناق حتى يأتي جنود المرور لفك الارتباط بالوسيلة المناسبة.
وحصل أمر آخر يدل على ثبات جأش اليابانيين وعدم تأثرهم السريع، فقد كان سائقنا يقود سيارته، وكابحها اليدوي مربوط وهو لا يشعر، وعندما وصلنا إلى المحطة كان الدخان مرتفعا تكاد السيارة تحترق، وكنا نظن ذلك بسبب ربط كابح الرجل عندما حصل الخطأ في الطريق، ولم يزد السائق على أن قال لنا عندما رآنا نشفق على سيارته: لا تهتموا فالأمر سهل، وأخبرنا بسببه، ولو كان هذا السائق في بلادنا الشرقية لأخذ يصيح ويسب، وربما طلب زيادة في الأجرة لأننا السبب فيما حصل.
وبهذه المناسبة قص لي الزميل ما جرى بينه وبين سائق مصري أوصله إلى بيته في مصر يدل على مضمون هذا التعليق.
دخلنا إلى قاعة المحطة فلم نجد أحدا من الموظفين لأن وقتهم لم يحن بعد؛ فانتظرنا، وقبل أن يحين الوقت بخمس دقائق أخذ كل موظف مكانه.(21/58)
وكان أهم ما في الأمر هو التفتيش الدقيق على الأثاث كله، سواء ما يؤخذ باليد أو ما ينقل إلى الطائرة؛ لشدة خوف الأجهزة المسؤولة من أعمال التخريب التي أحدثها اليابانيون الساخطون على جعل المطار في تلك المنطقة، والذين يغذي فيهم روح التخريب الجيش الأحمر.
وبين فترة وأخرى تأتي الحافلات التي تنقل المسافرين مع أثاثهم بعد تفتيشه ونقله إليها؛ تنقلهم إلى المطار، انتظرنا إلى أن جاءت الحافلة التي عينت لنقلنا فذهبنا إلى المطار.
وبعد إنهاء الإجراءات اللازمة انتظرنا في القاعة إلى أن حان موعد إقلاع الطائرة، وهي يابانية، فدخلنا وكان إقلاعها في الساعة العاشرة صباحا إلى هنغ كنغ، وكان السحاب كعادته معي يغطي المحيط الهادي في طرفه الغربي، ولكنه كان يعطينا بين وقت وآخر فرصة لنتمتع فيها بغيره.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي أن هذه البلاد التي أتيتها تندب حظها التعس؛ لفقدها رفع راية الإسلام على أرجائها، بخلاف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من المجيء في هذه البلاد.
[2] هذا في إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} .
[3] وتعرف الآن بـ (هاوي) .
[4] ولكنه عمل صالح خلط بعمل سيئ، وهو الأغاني المسجلة والموسيقى التي تجد إقبالا من الركاب أكثر من إقبالهم على القرآن الكريم.
[5] انظر الملحق الثالث.(21/59)
البديع عند الحريري
فضيلة الدكتور بيلو أحمد أبو بكر
قسم البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم، وبعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وزوجاته أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحريري:
هو أبو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري، ولد [1] ونشأ ببلد قريب من البصرة، وتتلمذ على كثير من علماء البصرة، وعرف بالذكاء والفطنة والفصاحة وحسن العبارة، ورزق الشهرة وذيوع السيرة في التأليف، وله مؤلفات كثيرة منها كتاب المقامات الذي سنتناول الحديث عن البديع من خلاله إن شاء الله.
ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاء شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله؛ ففهم ذلك الحريري ذلك منه، فأسره في نفسه، فلما التمس الرجل أن يملي عليه قال له الحريري:
ما أنت أول سار غره قمر
ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل
مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل منه وانصرف.
والحريري نسبة إلى صنعه وبيعه الحرير.
وجولتنا في (البديع) عند الحريري تدور حول مقاماته المشهورة، ومن هنا نجد أمامنا سؤالا هو: ما المقامة في اللغة العربية؟، ثم ماذا يعنيه الحريري بالمقامة؟
إذا استشرنا كتب اللغة العربية فستقول لنا: المقامات هي المجالس، وواحدتها مقامة، والحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلسا؛ لأن المستمعين للمتحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المتحدث يقوم ببعضه تارة ويجلس تارة أخرى، كما أن المقامة هي المجلس يقوم فيه الخطيب يحض على فعل الخير.(21/60)
وهذه المقامات الحريرية عبارة عن قصص خيالية من بنات أفكاره ابتدعها وملأها بالحكايات التي نوعها وفرعها ووشاها بالملح، وزينها بدرر الفقر الجميلة، وأتى فيها بالمعنى الدقيق للفظ الرقيق، حتى أصبحت هامة على تاج الفن الأدبي في اللغة العربية في عصره، وظهرت روضة غناء تحوم في سماءها نفوس عشاق ذلك الأدب، إلا أن أيدي المطامع لا تصل إلى حماها، وكانت في البراعة في قمة الشهرة في ذلك العصر، وسارت مسير النيرين في الآفاق الأدبية، مما جعل علماء عصره يهتمون بروايتها عن الشيوخ الثقاة، ويقيدون فرائد ألفاظها عن تحقيق وتدقيق، ودارت كتابات حولها لبيان غوامضها وشرح أغراضها، أو للتحدث عنها بالإنصاف بين انفصالها واعتراضها، من ذلك تلك الرسالة التي كتبها الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب في الاعتراض على الحريري، ثم قام ابن بري بالانتصار له.
كما اهتم العلماء إلى جانب ذلك بشرح الأمثال الواردة فيها ونسبتها إلى القائلين وغير ذلك؛ لأنها اشتملت على كثير من بلاغات العرب ولغاتها وأمثالها وأسرار كلامها، ومن عرفها معرفة تامة، وقف على فضل الرجل في اللغة العربية وسعة اطلاعه، وغزارة مادته.
هذا ولم يكن الحريري أول من طرق هذا الباب؛ فقد سبقه إليه بديع الزمان الهمداني [2] ، الذي ألف أربعمائة مقامة، وكانت لطيفة الأغراض والمقاصد، إلا أن بين هذه المقامات ما لا تبلغ عشرة أسطر [3] .(21/61)
فجاءت مقامات الحريري أحفل وأغزر، فلتقدمه فضله الحريري على نفسه [4] ، وأشاد في عمله في أدب جم وتواضع بالغ، مع علمه بفضل مقاماته على مقامات البديع، لكنه تقدير اللاحق للسابق، ومما يدل على فضل مقامات الحريري أنها مذ ظهرت لم تستعمل مقامات البديع، لهذا إذا دققت النظر تجد أن الحريري لم يتجاهل فضل الله عليه، فقد حصر فضل مقامات البديع على التقدم في الزمن حتى لا يبعد عن الحقيقة، وهذا مذهب مستحسن حيث لم ير لنفسه فضلا على غيره، بل جعل عمله مثل جري الفرس الأعرج الذي لا يستطيع إذا اجتهد أن يلحق مشي الصحيح.
والجانب الذي سندرسه للحريري هو الجانب البديعي بالمعنى الاصطلاحي المتأخر تقريبا، لا بالمعنى الواسع المتعارف لدى المتقدمين الأوائل، لهذا يبدو أنه من المناسب أن نتناول معنى كلمة البديع وإن كان معناها معلوما عند أكثر قراء العربية.
البديع:
إذا رجعنا إلى الجانب اللغوي لهذه الكلمة فإننا سنجد أنها تدور حول الجديد والمخترع الحديث، فبدع الشيء يبدعه بدعا: أنشأه وبدأه، وبدع الرَّكية: استنبطها وأحدثها، والبديع: المحدث العجيب، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال سابق، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما، فهو سبحانه وتعالى الخالق المبدع لا على مثال سابق.
أما معناه في مصطلح علماء البديع أو البلاغة، فقد عرفه الخطيب القزويني بقوله: "هو علم يعرف به تحسين وجوه الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة".
ومن هنا نتبين أن المناسبة ظاهرة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ لأن من شأن الجديد والمخترع الحديث أن يكون فيه حسن وطرافة وروعة وإمتاع، وهذا مما سوغ التسمية وقرب الصلة بين المعنيين، إلا أنه قد تفرع من القول بأن هذه الألوان محسنات، تفرع من ذلك القول أنها ليست من مقومات البلاغة ولا الفصاحة، فالحسن الذي تحدثه في الكلام عرضي لا ذاتي.(21/62)
هذا هو قول المتأخرين الذين فصلوا البديع عن علمي البلاغة: المعاني والبيان، إلا أن من رجال العصر الحاضر من له رأي غير هذا حول هذه الأصباغ البديعية، إذا جاءت فطرية كما وجدت في الأدب العربي القديم، واتفقت اتفاقا واطردت كما هي في كلامهم حيث تأتي عفو الخاطر وفيض الفطرة السليقة، من غير تكلف وإعمال فكر، فإن كانت بهذه الصورة فهو لا يرى أنها عرضية تابعة للبلاغة، أو أنها لا تأثير لها في فن القول: لأن الذين أخرجوا البديع من البلاغة اعتمدوا على التقسيمات البحتة، ونظروا إلى ما جاء منها مخالفا للفطرة والسليقة، بل جاء بعد تفكر وتدبر وإعمال فكر وروية، فهو يرجع بفن القول إلى أصله وميدانه، وينظر إليه من زاوية التذوق والتأثير النفسي في المخاطب وبناء المعنى وعمقه، فهي من هذا الجانب من مقومات البلاغة.
فمن أراد الوقوف على هذا يمكنه أن يرجع إلى كتاب الصبغ الأدبي في اللغة العربية للدكتور أحمد إبراهيم موسى؛ حيث قدم فيه دراسة متكاملة للبديع، وخاصة في القسم الأخير من هذا الكتاب.
هذا وتناولنا لهذه الألوان البديعية لا يعني أننا سنأخذ بتلك الصورة التقليدية المنهجية أو المدرسية، فنعود بها إلى الترتيب المنطقي، بل سنتناول حسب ما نجدها واردة في الكتاب الذي نتناوله بالدراسة بعيدا عن تعقيد الأمور أو التكلف:
المقابلة:
إذا أخذنا في تصفح الكتاب (المقامات) نجد الحريري يورد هذا اللون البديعي في مقدمة خطبة المقامات مثل قوله: "ونعوذ بك من شرة اللَّسَن، وفضول الهذَر، كما نعوذ بك من معرة اللَّكَن وفضوح الحصر" [5] ، فقد استعاذ منهما لأن الاقتدار على الكلام قد يؤدي إلى المطاولة في الجدل، وتصوير الحق بصورة الباطل، أو العكس، وفي ذلك إثم على فاعله؛ لهذا استعاذ منهما.(21/63)
ثم قابل الاستعاذة الأولى بضدها، وهي معرة اللكن وفضوح الحصر؛ لأن صاحبها لا يحسن التعبير؛ فيشين بذلك نفسه ويقصر عن المراد من أداء البيان، وأورد الحصر إذ إن من تعتريه سيتوالى عليه الوهن والخجل فيفتضح ويشتهر عيبه بين الناس.
فالمقابلة ظاهرة بين شرة اللسن وفضول الهدر، وبين معرة اللكن وفضوح الحصر.
ويحسن هنا أن نلاحظ صنيعه في كون الكلمتين الأوليين انتهت كل واحدة منهما بالتاء، في الوقت الذي انتهت التاليتين بالنون والأخيرتان بالراء، كما دمج مع المقابلة الجناس الناقص بين اللسن واللكن وبين الفضول والفضوح.
وبنفس هذه البراعة البديعية نجد الحريري يستمر ليقدم لنا في وقت واحد وخلال نسج مسجوع متوازن لونين أو أكثر، انظر إلى قوله في نفس المقدمة: "ونستكفي بك الافتتان بإطراء المادح وإغضاء المسامح، كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح وهتك الفاضح، ونستغفرك من سَوق الشهوات إلى سُوق الشبهات"، ففي هذه الجمل أتى بالمحسنات في أرقى العبارات:
منها السجع حيث نلاحظ انتهاء الكلمات التي قبل الفاصلة بالهمزة وهي: إطراء وإغضاء، وإزراء، ثم أتى بالفواصل الأخيرة بالحاء في توازن بديع رائع.
وفي نفس الوقت قدم المقابلة بين إطراء المادح وإغضاء المسامح، وإزراء القادح وهتك الفاضح.
وأدرج خلال ذلك لونا ثالثا، وهو الطباق مما لا يحتاج إلى تنبيه أو إشارة.
بل أردف ذلك بلون رابع، وهو الاقتباس؛ لأن في قوله: الافتتان بإطراء المادح إشارة إلى الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله..".(21/64)
وفي الجملة الأخيرة ألبس كلامه ثوب الكناية، وذلك في قوله: "من سوق الشهوات إلى سوق الشبهات"؛ لأنه جعل ما ساقه من هذه المقامات كأنه شهوة اشتهى عملها ثم اشتبه عليه الأمر هل في ذلك رضى الله أم فيه سخطه؛ فكأنه ساق شهوة إلى سوق يجهل التبايع فيها، فلا يدري ما سيكون، فلعله خاسر الصفقة فيها، وهذا لا يخفى عليك ذلك التشبيه الضمني الذي يفهم من تمثيل سوق المقامات إلى سوق الشبهات.
فهكذا تمر هذه الألوان في مقدمة هذا الكتاب؛ فتجد اقتباسا آخر عند قوله: "حتى نأمن حصائد الألسنة ونكفى غوائل الزخرفة.. وأنلنا هذه البغية ولا تضحنا عن ظلك السابغ، ولا تجعلنا مضغة للماضغ.."، فهو يشير بقوله: "حصائد الألسنة"إلى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.. قال: قلت: يا رسول الله: إنا لنؤاخذ بما نتكلم؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على رؤوسهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ".
كما أشار بقوله: "ولا تجعلنا مضغة للماضغ"إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" [6] .
ومنها وصفه لسفينة: "فاتفق أن ندبوا في بعض الأوقات لاستقراء مزارع الرزداقات؛ فاختاروا من الجواري المنشآت جارية حالكة الشيات تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" [7] ، يشير هنا إلى الآية الكريمة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} [8] .
هذا وقد يأتي بالاقتباس خفيا وبصورة لطيفة، مثل قوله في غلامه في المقامة السادسة والأربعين: "بورك فيك يا طلا، كما بورك في لا ولا"؛ كناية عن شجرة الزيتون المذكورة في قوله تعالى: {..وقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [9] .(21/65)
ومن هذه الإشارات الخفية ما تلمحه في قوله: "آنست من قلبي القساوة حين حللت ساوة، فأخذت بالخبر المأثور في مداواتها بزيارة القبور، فلما صرت إلى محلة الأموات وكفات الرفات، رأيت جمعا على قبر يحفر ومجنوز يقبر"، يشير بقوله: "وكفات الرفات"إلى قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [10] .
أما ذكره لقساوة القلب وزيارة القبور فهو إشارة إلى الحديث الشريف: "عودوا المرضى واحضروا المقابر؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة"، وإلى حديث أنس رضي الله عنه: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي؛ فزوروها؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة" [11] .
وكما نجده يشير إلى الآية أو يأتي منها بجزء منها نجده أحيانا يأتي خلال حديثه بآيات كاملة مثل قوله في خطبة ألقاها في نفس المقامة الحادية عشرة، قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [12] ، فاذكروا أيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون ...
وقال في آخر هذه الخطبة: "كلا ساء ما تتوهمون، {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .." [13] .
ومثل قوله: "كالباحث عن حتفه بظلفه والجادع مارن أنفه بكفه، فألحق بالأخسرين أعمالا، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .." [14] ، حيث أورد آية كاملة وجزءا من الآية التي قبلها.
أما قوله: "كالباحث عن حتفه بظلفه"، فهو إشارة إلى المثل العربي المعروف: وذلك أن ماعز كانت لقوم فأرادوا ذبحها فلم يجدوا شفرة فنبشت بظلفها في الأرض؛ فاستخرجت منها شفرة فذبحوها بها.
وكذلك قوله: "والجادع مارن أنفه بكفه"إشارة إلى قصير ابن سعيد بن عمرو مولى جذيمة الأبرش، والمثل: "لو يطاع لقصير رأي"، معروف كما أن قصته مشهورة [15] .(21/66)
هذا لو تتبعنا هذا اللون في كلام الحريري لطال بنا الحديث، فقد جمع الكثير من ذلك في هذا الكتاب؛ لهذا نكتفي بما أشرنا إليه لننتقل إلى لون آخر.
التورية:
يبدو أنه من الأفضل أن ننتقل بسرعة إلى لون آخر من هذه الألوان البديعية التي لها لمعان واسع، أو التي كان لونها متميزا بصفة معينة.
فعلى سبيل المثال التورية التي عرفها البلاغيون بأنها: إطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد منهما عند الإطلاق، مع مصاحبة ذلك بقرينة خفية تدل على المعنى؛ فإننا نجد الحريري يتناول هذا اللون بصورة طريفة جديدة على خلاف ما تعارف عليه البلاغيون؛ إذ جاء بها بصورة أسئلة دينية، إلا أنه استطاع أن يلتزم إخفاء المعنى البعيد ستارة سميكة لدرجة أنه يصعب أحيانا الوصول إليها إلا لطبقة خاصة من أهل العبارة مما دعاه إلى شرح المقصود منها.
فإلى المقامة الثانية والثلاثين الطيبية أو الحربية، حيث ذكر مائة مسالة فقهية بصورة معينة، نختار بعضها للتمثيل: "وينبغي أن يلاحظ أن الحريري شافعي المذهب.."؛ فما أورده من الأسئلة والأجوبة جار على مذهبه، والدليل على ذلك قوله فيما بعد: "اشكر لمن نقلك عن مذهب إبليس إلى مذهب ابن إدريس".
هذه المسائل الواردة جارية على السؤال والجواب بين أبي زيد السروجي وفتى آخر:
1- سأل الفتى: أيجوز الوضوء مما يقذفه الثعبان؟ فأجاب: نعم! وهل أنظف منه للعربان؟
فالمعنى القريب للثعبان هو الحية، والبعيد الذي أراده الحريري هو الثعبان من الثعب وهو مسيل الوادي، (والعربان واحده العرب بضم العين ويجمع على العربان كالسود والسودان) .
2- قال: أيستباح ماء الضرير؟ قال: نعم! ويجتنب ماء البصير.
فالتورية هنا في الضرير والبصير، فالمعنى القريب المتبادر إلى الذهن هو الأعمى، والبعيد هو: حرف الوادي، والمعنى القريب للبصير هو ضد الأعمى، والبعيد المقصود هو: الكلب.(21/67)
3- قال: فهل يجب على الجنب غسل فروته؟ قال: أجل! وغسل إبرته.
وهنا أيضا التورية جاءت في كلمتين الفروة والإبرة، فالمعنى القريب المتبادر للفروة هو واحد الفراء وهو مما يستعمل من جلود الضأن وغيره للجلوس والفرش وغير ذلك، والبعيد المراد هو جلدة الرأس، وكذلك الإبرة؛ فإن المتبادر هو إبرة الخياطة المعلومة وبالطبع لا معنى لغسلها، أما البعيد فهو عظم المرفق.
4- قال: أيجوز الغسل في الجِراب؟ قال هو كالغسل في الجِباب.
فالجراب المتبادر هو الوعاء المصنوع من الجلد، ولا معنى لجواز الغسل فيه حتى يستفتى عنه، والمعنى المقصود هو: جوف البئر، أما الجباب فهو جمع لجب ومنه: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُب} ..
5- قال: فهل يجوز السجود على الكراع؟ قال: نعم! دون الذراع.
والكراع هو ما في البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وهو مستدق الساق وهو المورى به، أما الكراع المقصود فهو ما استطال من الحرة، وهي أرض ذات حجارة سود.
6- قال: أيجوز للدارس حمل المصاحف؟ قال: لا! ولا حملها في الملاحف.
فالدارس المتبادر في الذهن هو الذي يدرس العلم، والمعنى البعيد منه هو الحائض.
7- قال: أتصح صلاة حامل القَرْوة؟ قال: لا! ولو صلى فوق المروة..
والقروة هي جلدة الخصيتين إذا عظمت وهي الإدرة، وحملها لمن هي به لا يضر بالصلاة، لكن معناها البعيد هي ميلغة الكلب، وميلغة الكلب هي ما يشرب فيه الكلب الماء، فهو من ولغ.
8- قال: فإن أمهم - أي المصلين - مَن فخذه بادية؟ قال: صلاته وصلاتهم ماضية.
فالمتبادر من الفخذ هو العضو المعروف، والبعيد: العشيرة، و (بادية) أي يسكنون البدو.
9- قال: ما تقول فيمن أفقر أخاه؟ قال: حبذا ما توخاه.
فالمعنى القريب أنه فعل به ما يصيره فقيرا، والبعيد: أفقره بمعنى أعاره ناقته يركب فقارها.(21/68)
10- قال: أينعقد نكاح لم يشهده القواري؟ قال: لا، والخالق الباري.
لمعنى القريب للقاري هو نوع من الطير مفرده قارية، يتيمن به الأعراب، والبعيد هو: الشهود؛ لأنهم يقرون الأشياء أي يتتبعونها [16] .
يبدو أن الأمثلة قد كثرت فأرجو أن لا تكون قد وصلت إلى درجة الإملال.
ذا ويلاحظ أن الحريري في الغالب يجعل القرينة: الحال أو السياق، أو يضمن الجواب تلك القرينة؛ فالأمر واضح فيما أظن، بهذا لا يحتاج إلى شرح أو بيان.
والحريري لم يكتف بهذه الأسئلة والأجوبة المائة في التورية، ولكن رجع إلى هذه الألوان مرة أخرى في ميدان آخر وهو ميدان الشعر، فأدعوك يا أخي لتقف معي على شيء من ذلك، وهذه الأبيات لا تقل عن الأسئلة التي مرت بنا في الخفاء.
فإلى المقامة الرابعة والأربعين حيث نجده يقول:
1- عندي أعاجيب أرويها بلا كذب
عن العيان فكنوني أبا العجب
رأيت يا قوم أقواما غذاؤهم
بول العجوز وما أعني ابنة العنب
فالمعنى القريب لبول العجوز غير مراد؛ لذلك بادر بنفي معنى آخر قريب منه وهو الخمر؛ فهو أيضا يسمى بول العجوز - وما أجدر به أن يسمى بذلك الاسم -؛ لذلك قال: وما أعني ابنة العنب. فالمعنى البعيد هو ابن البقرة.
2- وقادرين متى ما ساء صنعهم
أو قصروا فيه قالوا الذنب للخطب
فالمعنى المتبادر للقادر هو ضد العاجز، ولكنه غير مقصود هنا؛ فالمقصود هو: القادر بمعنى الطابخ في القدر، والقدير المطبوخ فيها.
3- والتابعين عقابا في مسيرهم
على تكميهم في البيض واليلب [17]
فالمعنى القريب للعقاب - بضم العين - نوع من الطير، إلا أن البعيد المراد هنا هو: العقاب بمعنى: الراية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب.
4- ومُنْدَين ذوي نُبْلٍ بدت لهم
نبيلة فانثَنوا منها إلى الهرب [18](21/69)
المعنى القريب للنبيلة هو امرأة ذات فضيلة، والبعيد المراد هو الجيفة، ومنه تنبل البعير إذا مات وأروح، يعني نتن.
5- ونسوة بعدما أدلجن من حلب
صبحن كاظمة من غير ما تعب
المعنى القريب لكاظمة: هو موضع على مرحلتين من البصرة على ما هو المتبادر، والمعنى البعيد لكاظمة: هو كظم الغيظ، وأدلجن: سَرَيْنَ في جوف الليل.
6- وشائبا غير مخف للشيب بدا
في البدو وهو فتي السن لم يشب
الشائب المتبادر هو الرجل الذي شاب شعره، والبعيد المراد هنا هو مازح اللبن، والمشيب اللبن الممزوج، ويقال فيه: مشيب ومشوب.
7- وحائكا أجذم الكفين ذا خرس
فإن عجبتم فكم في الخلق من عجب
فالحائك هو الناسج، من حاك الثوب نسجه، إلا أنه لم يرد هذا المعنى إنما أراد الحائك الذي إذا مشى حرك منكبيه وفجج بين ركبتيه.
8- وساعيا في مسرات الأنام يرى
إفراحهم مأثما كالظلم والكذب
والإفراح من الأضداد وهو بكسر الهمزة من أفرحته إذا سررته، وأفرحته إذا غممته، فالأول: هو المتبادر ولكن لم يرد الحريري واحدا منهما، وإن كان الثاني ملازما للأول، فهو يقصد: إفراحهم بمعنى إثقالهم بالدين، ومنه حديثه صلى الله عليه وسلم: "لا يترك في الإسلام مفرح" أي مثقل من الدين.
9- ومغرما بمناجاة الرجال وله
وماله في حديث الخلق من أرب
فالمعنى القريب للخلق هو المخلوقات، والمقصود: الكذب.
10- وطالما مر بي كلب وفي فمه
ثور ولكنه ثور بلا ذنب
والمعنى القريب للثور هو ذكر البقر، والثور المقصود هنا هو قطعة من الأقط (نوع من الجبن) .
11- وكم رأيت بأقطار الفلا طبقا
يطير في الجو مُنصَبا إلى صَبَبِ
والطبق معروف وهو إتاء مفرطح، إلا أن المقصود هنا القطعة من الجراد [19] .(21/70)
يبدو أنني قد أطلت في ذكر ألوان التورية النثرية والشعرية، وحان أن ننتقل إلى لون آخر، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى القول بأن هذه التورية هي أقرب منها إلى ألغاز منها إلى التورية الاصطلاحية؛ فقد علق عليها أبو العباس الشريشي بقوله: "لقد أحسن أبو محمد في هذه الفتاوى، وأجاد وبلغ مبلغا من الاقتدار والاتساع فوق المراد، وإن كان لا يوصف فيها بالابتداع فلقد أحسن في الاتباع، فالسابق إليها هو أبو بكر بن دريد في كتاب سماه بالملاحن، وهو أن توري بلفظ عن لفظ، ثم تمم تلك الأغراض وحسنها أحمد بن عبيد الله في كتاب سماه بالمنقذ، وفائدتها التخلص من الظلم أو تسلط غاشم، لا أن يقتطع بها حق مسلم" [20] .
هذا ولنقرب هذا اللون إلى الأحجية أشير هنا إلى أن الحريري لم يبخل بها؛ فقد أوردها منظومة في المقامة السادسة والثلاثين؛ فلتراجع هناك، أما نحن فسنمضي إلى لون آخر.
الجناس:
يبدو أن الحريري يعتبر من أقدر الكتاب في إيراد الجناس والسجع في الكلام، أما السجع فهو من الأمور التي لا تفارق كلامه؛ لهذا لا نتحدث عنه حديثا مستقلا بل ندعوك لملاحظته في كلامه كله وخاصة في النثر، فانظر مثلا إلى هذه القطعة الآتية التي نأتي بها مثالا لمقدرته في الجناس وتفننه فيه، كما شرطنا سنشير إلى كل حكم بصور عامة لا نفصل القول، ولا نتناول الأجزاء والتقسيمات الفرعية.(21/71)
يقول الحريري على لسان أبي زيد الذي كان سأل غلامه والغلام يجيب: ".. وعم تسأل وفقك الله؟ قال: أيباع هاهنا الرطب بالخطب، قال: لا والله، قال ولا البلح بالملح؟ قال: كلا والله، قال: ولا الثمر بالسمر؟ قال: هيهات والله، قال: ولا العصائد بالقصائد؟ قال: اسكت عافاك الله، قال: ولا الثرائد بالفرائد؟ قال: أين أذهب بك أرشدك الله! قال: ولا الدقيق بالمعنى الدقيق؟.. إلى أن قال الغلام: أما بهذا المكان فلا يَشتري الشعر الشعيرة، والنثر بنثارة، ولا القصص بقصاصة، ولا الرسالة بغسالة، ولا حكمة لقمان بلقمة.. أما هذا الزمان فما منهم من يميح إذا صيغ له المديح، ولا من يجيز إذا أنشد له الأراجيز، ولا من يغيث إذا أطربه الحديث، وعندهم أن مثل الأديب كالربع الجديب إن لم تجد الربع ديمة لم تكن له قيمة ولا دانته بهيمة، وكذا الأدب إن لم يعضده نشب فدرسه نصب" [21] .
أعتقد أن كلامه هذا لا يحتاج إلى تعليق، إلا أن القارئ قد يتساءل هل هو في النثر فقط أم له منه في الشعر أيضا، فأقول تعال لنطالع بعض أبياته له في الشعر حيث لا حاجة لنا في زيادة الشواهد في النثر، فلنبدأ بالبيتين الآتين:
وقلت للائمي أقصر فإني
سأختار المَقام على المُقام
وأنفق ما جمعت بأرض جمع
وأسلو بالحَطيم عن الحُطام [22]
فقد رأيت جمعه بين المَقام والمُقام والحَطيم والحُطام، فإليك بيتين آخرين يقول الحريري:
لم يبق صاف ولا مصاف
ولا مَعين ولا مُعين
وفي المساوي بدا التساوي
فلا أمين ولا ثمين [23]
ففي هذين البيتين جاء بأربع كلمات في كل بيت، وكان كلامه سلسا سهلا أكثر منه في النثر
وأرى من المناسب أن نقرأ له هذه الأبيات الواردة في المقامة السابعة التي زينها بالجناس، ويشرح فيها أبو زيد حاله فيقول:
لقد أصبحت موقوذا
بأوجاع وأوجال
وممنوا بمختال
ومحتال ومغتال
وخوان من الإخوا
ن قال لي لإقلال(21/72)
وإعمال من العما
ل في تضليع أعمالي
فكم أصلى بأذحال
وأمحال وترحال
وكم أخطر في بال
ولا أخطر في بال
فليت الدهر لما جا
ر أطفا لي أطفالي
فلولا أن أشبالي
أغلالي وأعلالي
لما جهزت أمالي
إلى آل ولا والي
ولا جررت أذيالي
على مسحب إذ لالي
فمحرابي أحرى
بي وأسمالي أسمى لي
فهل حرٌّ يرى تخفيـ
ف أثقالي بمثقال
ويطفي حر بلبالي
بسربال وسروال [24]
فكلامه لا يحتاج إلى بيان؛ فأنت ترى كيف جمع الكلمات المتجانسة فجاء لك بـ (أوجاع بجوار أوجال) ، وفي البيت الثاني: بمختال ومحتال ومغتال، وفي الثالث: خوان وإخوان، وفي الرابع: إعمال وأعمال، وبينهما كلمة عمال، والخامس: أذخال وأمحال وترحال، ثم أخطِر مع أخطُر، وبال مع بال: أخطر الأول بكسر الطاء بمعنى أمشي، وبال الأول بمعنى خلق قديم، وأخطر الثاني بضم الطاء أجول، والبال بمعنى الفكر، وأطفا لي أطفالي: الأول بمعنى إطفاء النار من أطفأ، والثاني جمع طفل، وجمع بين أغلالي بالغين: وهو الغل الذي يوضع في العنق، وأعلال: جمع علة، ثم جمع بين أذيالي وإذلالي، وبين محرابي وأحرابي، وبين أسمالي وهو الثوب الخلق وبين أسمى لي: بمعنى أرفع لي، ثم أثقالي مع مثقال، وأخيرا سربال أي القميص مع سروال.
الجناس المزدوج:
له أيضا في باب الجناس كثير من الجناس المزدوج، نورد الأبيات الآتية على سبيل المثال وقد سمى هذه الأبيات بالمتائيم وهي:
جندها جيدها وظرف وطرف
ناعس تاعس بحد يَحُدّ
زُيّنت زينب بِقدّ يُقد
وتلاه ويلاه نهد يَهُدّ
قدرها قد زها وتاهت وباهت
واعتدت واغتدت بخد يخد
فارقتَني فأرّقتني وشطّت
وسطت ثم نَمّ وجد وُجِد
فدنت فُدّيت وحنّت وحيّت
مغضبا مغضِيا يَود يُود
يبدون أن كلمات هذه الأبيات في حاجة إلى الشرح؛ فانظر الهامش [25] .(21/73)
هذا والظاهر أن الرجل قد تكلف وألزم نفسه ما ليس بلازم؛ لكي يأتي بهذا اللون المزدوج.
وعلى كل حال فقد أظهر القدرة الفنية وإن كانت بصورة معقدة التي تغضب شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني، ولعل مثل هذا التكلف هو الذي دعاه إلى القول بأن المعاني ينبغي أن تترك على سجيتها، لأنها إذا تركت ستكتسي بالألفاظ الملائمة لها وعند ذلك تحسن.
وللحريري مثل هذا الازدواج في النثر أيضا، ونورد هنا مثالا يسيرا منه.
قال في المقامة الثالثة الدينارية: "يا أخائر الذخائر، وبشائر العشائر، عموا صباحا وانعموا اصطباحا، وانظروا إلى من كان ذا ندي وندى، وجِدة وجدا، وعَقار وقُرى، ومقار وقِرى؛ فما زال به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شر الحسود، وانتياب النوب السود، حتى صفرت الراحة وقرعت الساحة ... " [26] ومثل هذا كثير في كلام صاحبنا.
وللحريري لون آخر من التجنيس، وهو أن يفصل بين الكلمة وأختها بكلمة واحدة.
يقول في ذلك: "أرعى الجار ولو جار، وأبذل الوصال لمن صال، وأحتمل الخليط ولو أبدى التخليط، وأود الحميم ولو جرعني الحميم، وأفضل الشفيق على الشقيق، وأفي للعشير وإن لم يكافئ بالعشير، وأستقل الجزيل للنَّزيل، وأغمر الزميل بالجميل، وأنزِّل سميري منزلة أميري، وأحلّ أنيسي محل رئيسي.."وهكذا، إلى أن قال: "ولا أبالي بمن صرم حبالي، ولا أداري من جهل مقداري، ولا أعطي زمامي من يخفر ذمامي.." [27]
وهذا الأسلوب كثير ومتنوع في نثره يطول الكلام في تتبعه والجري وراءه.
ينبغي هنا أن نشير إلى ذلك الجناس المركب الذي جاء به الحريري في البيتين المطرفين المشتبهي الطرفين الذين وصفهما بأنهما أُمِنا أن يعززا بثالث، فأورد الجناس في أول كل بيت مع آخره، وهما في المقامة السادسة والأربعين قال:
سم سمة تحسن آثارها
واشكر لمن أعطى ولو سمسمة
والمكر مهما استطعتَ لا تأته
لتقتني السؤدد والمكرمة(21/74)
فجانس بين: سم سمة وسمسمة، وبين المكر والمكرمة.
أما من حيث الادعاء بأن البيتين لا يعززان ببيت ثالث فلم يكن الحريري الوحيد الذي قال بذلك فقد سبقه في ذلك أبو دلف في بيتيه:
أنا أبو دلف المهدي بقافية
جوابها يهلك الزاهي من الغيظ
من زاد فيها له رحلي وراحلتي
وخاتمي والمدى فيها إلى القيظ
إلا أننا إذا قرنا قول الحريري بقول أبي دلف، ظهرت لنا سلاسة النظم وسهولته عند الحريري، حتى أن التكلف يكاد يختفي وراء هذه البراعة، والمعنى عنده سهل واضح سام على خلاف ما يبدو في لي البيتين الأخيرين.
القلب:
الحديث حول الجناس قد يجرنا إلى الحديث عن القلب؛ وذلك للصلة التي نلمسها بين الجناس وجناس القلب، الذي هو إيراد كلمتين في جملة أو بيت واحد أحدهما معكوس الآخر، مثل قوله: "حسامه فتح لأوليائه، حتف لأعدائه"؛ فالجناس بين: فتح وحتف، لأنك إذا قلبت حروف أحد الكلمتين جاءتك الكلمة الأخرى.
فهذه الصلة نراها كافية من أن تنقلنا من الجناس إلى القلب: الذي هو أن الكلام لو عكس كان الحاصل من عكسه هو عين ذلك الكلام السابق، هو كما يكون في قلب الحروف يكون في قلب الكلمات، ولا يضر عندهم: مد المقصور ولا قصر الممدود، أو تخفيف المشدد أو تشديد المخفف، كذلك جعل الهمزة ألفا أو العكس، أو تبديل بعض الحركات والسكنات.
وللحريري في هذا الميدان براعة لا يشق له غبار، فقد دخل الرجل في الميدان بالتدريج من المفردات إلى الجمل والأبيات الشعرية حتى المقالة أو الرسالة الكاملة، وتكلف في ذلك تكلفا بالغا، ولم يترك لونا من ألوان الكلام إلا قلبه.(21/75)
دخل الحريري باب القلب وسماه: ما لا يستحيل بالانعكاس، وأخذ بالترتيب التصاعدي؛ فبدأ بما يتركب من كلمتين مثل (ساكب كاس) ، و (لم أخا مَلّ) [28] ، و (كبّر رجاء أجر ربّك) [29] ، و (من يربّ إذا برّ ينم) [30] ، و (سكّت كل من نمّ لك تكِس) [31] ، أخيرا جاء بجملة من سبع كلمات فقال: "لُذْ بكل مؤمّل إذا لَمّ وملك بذل" [32] .
وبعد هذه الجمل جاء الحريري بأبيات شعرية يمكن أن يقلب كل بيت منها ويقرأ من الشمال إلى اليمين والمعنى لا يتغير، وكذلك الوزن والقافية.
اقرأ معي هذه الأبيات الواردة في المقامة السادسة عشر المغربية:
أس أرملا إذا عر
وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهه
أبِن إخاء دنسا
أسل جناب غاشم
مشاغب إن جلسا
أسر إذا هبّ مِرا
وارم به إذا رسا
اسكن تقو فعسى
يسعف وقت نكسا [33]
فهذه الأبيات تقرأ من اليمين إلى الشمال وبالعكس، أي أنك تقلب الحروف من آخر البيت إلى أوله، وهذا غير عكس الألفاظ الذي سنراه فيما بعد.
عكس الكلمات:(21/76)
مر بنا عكس الحروف لدى الحريري، ونلتقي معه الآن لنلقي نظرة سريعة على عمله في قلب الألفاظ، فقد قام بذلك في رسالة طويلة سماها: الرسالة القهقرية، ويرى أبو العباس الشريشي أنه بلغ الغاية في كلا النوعين، ويبدو أن أبا العباس يقول ذلك بقطع النظر عن التكلف وإعمال الفكر والتأمل الصادر من جانب الحريري، وهذا حق لا شك فيه، فإليك بها من خلال المقامة السابعة عشرة: "الإنسان صنيعة الإحسان، ورب الجميل فعل الندب، وشيمة الحر ذخيرة الحمد، وكسب الشكر استثمار السعادة، وعنوان الكرم تباشير البشر، واستعمال المداراة يوجب المصافاة، وعقد المحبة يقتضي النصح، وصدق الحديث حلية اللسان، وفصاحة المنطق سحر الألباب، وشرك الهوى آفة النفوس.. إلى أن قال:..وامتحان العقلاء بمقارنة الجهلاء، وتبصر العواقب يؤمن المعاطب، واتقاء الشنعة [34] ينشر السمعة، وقبح الجفاء ينافي الوفاء، وجوهر الأحرار عند الأسرار".
والرسالة طويلة كما أشرنا فهي من مائتي لفظة، وهي كما رأيت تشتمل على أمثال وحكم ومواعظ وعبارات أدبية جمة، وما فيها من السجع والطباق والجناس والكناية والمجاز يطول الحديث حوله.
وقد وصفها صاحبها بقوله: إن أعلاها أسفلها، وأولها آخرها، وقال: "أرضها سماؤها وصبحها مساؤها، نسجت على منوالين وتجلت في لونين"؛ لأنك مختار أن تقرأها إن شئت من أولها وإن شئت من آخرها، إن سقتها على ترتيبها جاءت منقادة، وإن أردت أن تردها على أعقابها وتعكسها قلت: الأسرار عند الأحرار، وجوهر الوفاء ينافي الجفاء، وقبح السمعة ينشر الشنعة، واتقاء المعاطب يؤمن العواقب.. وهكذا إلى أولها، ويكون آخرها: ورب الإحسان صنيعة الإنسان.
والرسالة كلها مكونة من مبتدأ وخبر، ولا شك أن هذا العمل قد كلفه جهدا عظيما بالغا، إلا أنه يكشف عن قدرة فنية عجيبة بقطع النظر عما يقوله العاجزون بعده.(21/77)
يبدو من المناسب هنا أن نذكر شيئا من بديعيات صفي الدين الحلي؛ فنورد هنا أربعة أبيات فقط، وهي من لون آخر عمودي أي أنها تقرأ من اليمين إلى الشمال ومن أعلاها إلى أسفلها، فإليك بها:
ليت شعري
لك علم
من سقامي
يا شفائي
لك علم
من زفيري
ونحولي
وضنائي
من سقامي
ونحولي
داوني إذ
أنت دائي
يا شفائي
وضنائي
أنت دائي
ودوائي
فهذه الأبيات الأربعة تكون تشكيلا هندسيا رائعا، فهي من أربعة أجزاء أي كل بيت له أربعة أجزاء، فإذا أخذت الجزء الأول من كل بيت لديك البيت الأول وإذا قرأت من كل بيت (عموديا طبعا) الجزء الثاني تكون عندك البيت الثاني.. إلى آخر هذه الأبيات الأربعة.
وهذا يكاد يكون يشبه تلك الأشكال الرياضية التي يستعمل فيها العقل المجرد بعيدا عن العاطفة وإثارة الإحساس، من خلال تجارب الحياة للشاعر، مثلا الرياضيون يأتون بهذا الشكل الذي تراه أمامك لمجرد الرياضة الذهنية، فأنت إذا جمعت الأعداد من اليمين إلى الشمال أو الشمال إلى اليمين كان الحاصل 15، وكذلك لو جمعتها من أعلى إلى أسفل أو العكس؛ فالحاصل واحد.(21/78)
يبدو أن هذا هو الداعي إلى القول بأن مثل هذا العمل مهما كلف من جهد، واستنفذ من وقت، مجانب لرواء الأدب وجماله، ويرى النقاد أنه لا يبعث عليه إلا الغرام بالصنعة والغلو في التكلف والولوع بحب الإغراب والشغف بالإتيان بما يستدعي الإعجاب، ولكن لا يبعد أن يكون الاستنكار على هذه الأنواع كلها جملة واحدة هو من باب محاولة توسيع دائرة الأدب والفن ليدخل فيه كل من أراد وبأي شيء جمعه، إلا أن التوسط في كل شيء محمود، فالعمل الذي جاء طريفا وممتعا ينبغي أن يقدر حق قدره، فلا ينبغي أن يرفض، لأن صاحبه قد بذل جهدا كبيرا فاق ما نستطيع نحن بذله، فعلينا أن نعترف بحلاوة العسل مهما تعب الذي اشتاره، لا نقول إنه مرّ لأن الذي وصل إليه اقتحم ما لا يستطيع أمثالنا اقتحامه!.
والآن نعود إلى الحديث عن البديع عند الحريري، يبدو أن الحريري إذا تناول أي لون من الألوان يفرع منه لونا آخر جديدا؛ فقد فرع فيما يظهر من الجناس الخطي هذا العمل الذي نشير إليه الآن، وهو التزام حروف معينة ذات صفة متفقة واحدة في الكلام، وأبرز ذلك: إخراجه الكلام بحروف منقوطة فقط أو بغير نقط، أو مختلطة، فنقدم لك الآن من تلك الفنون البديعية التي اهتم بها وأبرز شانها اللون الذي أورده في أبيات سماها بالعواطل أي الخالية من النقط، اقرأ معي هذه الأبيات:
اعدد لحسادك حد السلاح
وأورد الآمل ورد السماح
وصارم اللهو ووصل المها
وأعمل الكوم وسمر الرماح
واسع لإدراك محل سما
عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حسو الطلا
ولا مراد الحمد رود رداح
واها لحر واسع صدره
وهمه ما سر أهل الصلاح
معني المفردات تحت الخط [35] .(21/79)
علق الحريري على هذه الأبيات التي أوردها على لسان صبي من صبيانه، بقوله: أحسنت يا بُدَير يا رأس الدير؛ وصفه بالإحسان وجعله بدرا بل صغر اسمه هذا للتلميح، وزاد على ذلك بوصفه بأنه رأس الدير (ويعني بالدير مجلسه) ، ولكن هل يوافق الأدباء والنقاد على ذلك، فلننظر إلى تعليق أبي العباس الشريشي على ذلك.
أورد أبو العباس بعضا من أبيات قصيدة لأحمد بن الورد، وهي من هذا اللون، وأشار إلى أن تلك القصيدة تصل إلى ثمانين بيتا، ثم علق بقوله: "وما زال المحدثون يظهرون اقتدارهم في هذا اللون إلا أنه قلما يقع في ذلك بيت مستحسن، فلذلك تركنا أن نمشي مع أشعار هذه المقامة فيما يماثلها، وقد أكثر الناس القول في ذلك، وفائدته أن يقال: قدر على لزوم ما لا يلزم، لا أن يقال قد أحسن فيما قال" [36] .
هذا مع أن العباس أشار إلى عدم الجري وراء مثل هذا اللون، إلا أنه أنشد ما يماثله عندما أورد لأبي القاسم أبياتا لا تنطبق عليها الشفاه منها:
أتيناك يا جزل العطية إننا
رأيناك أهلا للعطايا الجزائل
عقيل الندى يا حار عدناعقيلة
نعدك انتجاعا للحسان العقائل
فإنك تقرأ البيتين وشفتاك لا تنطبقان، ويبدو أن هذا اللون البديعي مع ما فيه من التكلف الواضح، إلا أنه لا يخلو من الطرافة والإمتاع والتسلية بالإغراب.(21/80)
ولا شك أن هذا اللون يصل إلى درجة كبيرة من التكلف المؤدي إلى الثقل، وصعوبة المأخذ، ويظهر ذلك واضحا جليا في الأبيات التي وصفها الحريري نفسه بقوله لصبيه الذي قالها على لسانه قال إنها: "الأبيات العرائس وإن لم تكن نفائس"، فسماها بالعرائس لتزيينها بالنقط تشبيها لها بالزينة العربية التي كانت تتم بالنقط على خدي العروس نقطا صغارا بالزعفران، ويلاحظ أن الحريري يلتزم المقابلة حتى في التسمية، لأن التي أوردها قبلها سماها العواطل لعدم تزينها بالنقط، المهم أنه استدرك على تسميتها بالعرائس بوصفها بأنها لم تكن نفائس، فهي لا تتمتع بالقدر الرفيع في هذا الفن لما فيها من الضعف، كما أن فيها التزام ما لا يلزم؛ لأنها جاءت لغرض بيان الاقتدار على هذا العمل الذي قام به، ومع ما سبق من كلام أبي العباس إلا أنه قال في هذه الأبيات: "مع أنها غير نفائس إلا أنها أحسن مما قيل في بابها"، وهذه شهادة للحريري بالمقدرة الفنية في الأصباغ البديعية.
أراك أيها القارئ تتطلع إلى هذه الأبيات فإليك بها:
فتنتني فجنَّنتْني تجني
بتجن يَفْتَنّ غِبّ تجني
شغفتني بجفن ظبي غضيض
غنج يقتضي تفيض جفني
غَشيتني بِزِينَتَيْن فشَقَّتـ
ني بري يَشِف بين تثنّي
فتظنَّيتُ تَجتَبِيني فتجزيـ
ـني بنفثٍ يشفي فَخُيّب ظني
ثبَّتَتْ في غِمش جيب بتزييـ
ـن خبيث يبغي تشفي ضِغن
فنَزَتْ في تجنبي فثنَّتْنِي
بنشيج يُشجي بِفَن فَفَن
المفردات تحت الخط [37] .
غالب ظني أن الحريري يشير بمحبوبته التي سماها (تجني) إلى تلك المرأة الجميلة الخبيثة الخداعة، التي تهرب منها فتتبعك، وتجري خلفها وتطير منك، ألا وهي الدنيا؛ لأنه كثيرا ما ذم الدنيا وتقلباتها لولا ضيق المقام لأوردنا كثيرا مما قاله في ذلك.(21/81)
فلنعد الآن إلى فن الحريري؛ لنرى ما جاء به متوسطا بين الجانبي؛ ن لنتحقق مصداق (خير الأمور أوساطها) ؛ فهو أفضل حتى في باب التكلف؛ فانظر إلى ما قاله عندما خلط بين ما صنعه في الأبيات الأولى والتالية لها، أي بين ترك النقط كلية والتزام التنقيط، فقد أتى هنا بعد كل كلمة غير منقوطة بأخرى منقوطة فسماها الأبيات الأخياف، أي المختلفة، فقال:
اسمح فبَثُّ السماح زين
ولا تُخِبْ آملا تضيَّف
ولا تُجِزْ ردّ ذي سؤال
فَنَّن أم في السؤال خَفَّف
ولا تظن الدهور تُبقي
مال ضَنين ولو تَقشَّف
واحلم فجَفْنُ الكرام يُغضي
وصدرهم في العطاء نَفنَف
ولا تَخُن عهد ذي وِداد
ثبتٍ ولا تبغ ما تزيّف [38]
فأنت ترى كيف جاء هذا الشعر المتكلف سلسا سهلا واضح المعنى قريبا إلى طرق أبواب القلوب بالنسبة لما سبقه، إذن التوسط خير في كل شيء.
ويلاحظ هنا أيضا أن الحريري مال إلى ذم الدنيا والتنفير منها بقوله: "ولا تبغ ما تزيف"، حيث عبر عنها بما يلازمها وهو الدرهم.
وفي النثر أيضا:
مرت بنا هذه الألوان في الشعر؛ إذن لماذا لا يصنع مثل ذلك في النثر أيضا؟ وهذا هو الذي حدث؛ فلم تفته الفرصة لبيان أو إثبات هذه المقدرة في النثر، وربما زاد عليها كما سنرى من الأمثلة الرمزية التي نسوقها الآن، إذ له رسالتان غير منقوطتين في المقامة الثامنة والعشرين والمقامة التاسعة والعشرين، وأرجو أن تلاحظ معي التزامه السجع والجناس وأحيانا الطباق في الأمثلة التي نوردها لك؛ فإليك بجزء مما ورد في المقامة الأخيرة: (من المنثور غير المنقوط) .(21/82)
الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم الأدواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم، ومهلك عاد وإرم، أدرك كل سر علمه، ووسع كل مصر حلمه، وعم كل عالم طوله، وهدَّ كل مارد حوله، أحمده حمد موحد مسلم، وأدعوه دعاء مؤمل مسلم، وهو الله لا إله إلا هو الواحد الأحد العادل الصمد،.. إلى أن قال: "وادكروا الحمام وسكرة مصرعه، والرمس وهول مطلعه، واللحد ووحدة مودَعه، والملك وروعة سؤاله، ومطلعه..".
والخطبة طويلة يكفي ما وقفنا عليه الآن، وقد رأيت خلالها تلك الألوان البديعية التي أشرنا إليها، فهي بكاملها لون آخر من الألوان الصورية أو الخطية.
فإلى صورة آخرى للحريري، وهي رسالة أخرى جاء بها بصورة تبادلية: كلمة منقوطة وأخرى خالية من النقط، وهكذا إلى آخرها، وردت في المقامة السادسة.
قال: "الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين، والأروع يثيب، والمعور يخيب، والحلاحل يضيف، والماحل يخيف، والسمح يغذى، والمحك يقذى، والعطاء ينجي، والمطل يثجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي، والإلطاط يخزي، وانطراح ذي الحرمة غي، ومحرمة بني الآمال بغي ... " هكذا إلى أن فرغ منها بهذه الصورة المعقدة المتكلفة، فهي كما ترى أشد تعقيدا من القصيدة المماثلة لها في اللون، يبدو أن المهم هو إبداء المقدرة على التشكيل ... والله أعلم.
الرسالة الرقطاء:
أما الآن فإلى لون آخر ورد في رسالة له سماها الرقطاء، التزم فيها بصورة أخرى من هذه الصور الخارجية التي لا صلة لها بالمعنى ولا بالتحسين اللفظي، ومع ذلك عاد أبو العباس ومدح هذا العمل وقال: "إنه أبدع فيها بما أراد وأغرب بها وأجاد"، ودعاه هذا الاستحسان إلى إيراد كثير من القطع الشعرية الواردة في مدح الرسائل، حتى قال: "إن منها ما يجري لها كالوصف".(21/83)
أما تسميتها بالرقطاء فقد جاءت تشبيها لها بالدجاجة المرقشة المنقطة بسواد وبياض، لأنها جاءت بحرف منقوط وآخر غير منقوط من أولها إلى آخرها.
ونظرا لكونه لم ينظم أبياتا مستقلة بهذه الصورة فقد قام بإدماج بعض الأبيات بهذه الصفة داخل هذه الرسالة، فإلى شيء منها من خلال المقامة السادسة والعشرين:
(أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب، وقربه تحف، ونأيه تلف، وخلته نسب، وقطيعنه نصب، وغربه ذلق، وشهبه تأتلق، وقويم نهجه بان، وذهنه قلب وجرب، ونعته شرق وغرب:
سيد قُلَّب سبوق مُبِر
فطن مغرب عزوف عَيوف
مُخلِف مُتلف أغرّ فريد
نابِهٌ فاضل ذكي أَنوف
مُغلِق إن أبان طَبّ إذا نا
ب هياج وجل خطب مخوف
واستمر هكذا نثر، ثم شعر، ثم نثر، ثم شعر إلى آخر الرسالة التي يصعب تمييزها عن السابقة لها في الثقل والتعقيد.
الملحق بالبديع:
قبل أن نخرج من الحديث عن البديع عند الحريري نتساءل هل ترك ذلك الملحق الذي اعتاد البلاغيون أن يذكروه عقب الحديث عن المحسنات ويجعلوه ملحقا به؟
لم يبخل الحريري ولم يترك ذلك اللون المسمى بالسرقات الشعرية، إلا أنه اخترع لنا لونا جديدا من نظم الشعر وقال إن فيه سرقة لا كالسرقات المألوفة، لأنها تمت بأن وضع هو نفسه يده اليسرى في (جيبه) الأيمن، لهذا يبدو لي أنه لا يستحق أن تقطع يده بسبب هذه السرقة، وهذا اللون البديعي للحريري، صنعه بطريقة خاصة معينة، وهي أن يأتي بأبيات من الشعر على قافية الراء مثلا؛ فإذا حذفت الجزء الأخير من البيت تغير بحر القصيدة وتلون بلون آخر، وخرجت القصيدة في ثوب آخر جديد، وانتهت بقافية أخرى جديدة؛ فالمثال أحسن موضح لجواب السؤال، وإليك بما نقول من المقامة الثالثة والعشرين:
يا خاطِب الدنيا الدَّنيّة إنها
شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
أبكت غدا بعدا لها من دار(21/84)
وإذا أظل سحابُها لم ينتقع
منه صدى لِجَهامه الغرّار
غاراتها ما تنقضي وأسيرها
لا يفتدى بجلائل الأخطار
كم مُزدهي بغرورها حتى بدا
متمردا متجاوز المقدار
قلبَتْ له ظهر المجن وأولغت
فيه المُدى ونَزَت لأخذ الثار
فاربأ بعمرك أن يمر مضيَّعا
فيها سُدى من غير ما استظهار
واقطع علائق حُبّها وطلابها
تلق الهدى ورفاهة الأسرار
وارقُب إذا ما سالمتْ من كيدها
حرب العِدى وتوثب الغدّار
واعلم بأن خُطوبها تفجا ولو
طال المدى وزنت سرى الأقدار
فهذه القصيدة إذا اقتطعت منها الجزء الأخير صارت مثل ما أشرنا في أول الحديث هكذا:
يا خاطب الدنيا الدنيـ
ـة إنها شرك الورى
دار متى ما أضحكت
في يوما أبكت غدا
وإذا أظل سحابها
لم ينتقع منه صدى
غاراتها ما تنقضي
وأسيرها لا يفتدى
وهكذا إلى آخر الأبيات التي مرت بك.
وهذه القصيدة يمكن أن تكون شاهدا لما أشرنا إليه من ذم الحريري للدنيا وتقلباتها.
والآن لست أدري بم نسمي هذه السرقة، هل هي سرقة شرعية أو أنها سرقة شعرية غير شرعية؟ المهم أنها ليست من السرقات الشعرية الاصطلاحية الملحقة بفن البديع، وإن كانت بديعة؛ أعني طريفة في نفسها؛ لأنهم يشترطون الانتقال من جيب شاعر إلى جيب شاعر آخر، لكن هذا ربما جاز أن يسمى بالبديع الصوري؛ فهو كما رأيت يهتم بالصورة والإتيان بالطرائف فيها، وله قدرة في التشكيل وإخراج أفانين القول وتقليب الأساليب.
وبعد:(21/85)
فما رأي شيخ البلاغة العربية في هذا وأمثاله، يقول الشيخ بعد مناقشات طويلة: وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق [39] نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا ولا تجد عنه حولا، ومن هاهنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته - وإن كان مطلوبا - بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك كما يمثلون به أبدا من قول الشافعي رحمه الله تعالى وقد سئل عن النبيذ: "أجمع أهل الحرمين على تحريمه" [40] .
أعتقد أن لكل قارئ الآن الحق أن يحكم بنفسه على ما وقفنا عليه.
والله الموفق وصلى الله على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وكانت ولادته سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي خمس أو ست عشرة وخمسمائة. راجع مقدمة الشريشي في شرح المقامات.
[2] هو أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني، يقال إنه كان ظريف النثر مليح غرر النظم؛ فقد كانت له عجائب وغرائب، وإنه لم يلف نظيره في عصره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وصفاء الذهن، وافاه الأجل بعد أربعين سنة من عمره عام 393هـ.
[3] راجع الشريشي ج 1 ص 14- 15.
[4] فراجع في ذلك مقاماته.
[5] الشرة: القلق والانتشار، ومنه أخذ معنى الشر، ومنه شرر النار. اللسن: حدة اللسان. فضول: زوائد. الهذر: إكثار الكلام بغير فائدة. المعرة: العيب والعار. اللكن: احتباس اللسان عند الكلام. الحصر: العي وضيق الصدر.
[6] راجع مسند أبي داود الآداب 35 وأحمد بن حنبل 3/224
[7] الرزداق: الموضع الخارج عن القرية أو المدينة، ويسمى الرستاق ومخلاف وكورة. والرزداق: فارسي.(21/86)
[8] سورة النمل الآية 88 – جاء ذكر الأحاديث مختلطا بالآيات حسب ما أشرنا في أول كلامنا.
[9] سورة النور الآية 35.
[10] سورة المرسلات الآية 25، 26.
[11] صحيح مسلم وأبي داود والترمذي (في الجنائز) .
[12] سورة الصافات آية 61.
[13] سورة التكاثر آية 4.
[14] سورة الكهف آية 104، وراجع الشريشي ج 1 ص 23.
[15] من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتب الأمثال، وإلى الشريشي ج 3 ص 4- 8.
[16] يمكن الرجوع إلى الباقي من هذه الأسئلة في المقامات من ص 337- 353. طبعة صبيح.
[17] التكمي التغطي، والكمي الشجاع التام السلاح. البيضة: المغفرة. واليلب: دروع من الجلود ثم أطلق الحديد.
[18] منتدبين مجتمعين في ناد وهو المجلس. ونبل: بضم النون بمعنى أصحاب فضل، وبالفتح بمعنى السهام.
[19] من أراد الوقوف على باقي الأبيات التي اختيرت هذه من بينها فليرجع إلى المقامات ص 499.
[20] راجع إن أردت الزيادة للشريشي ج 3 ص 150.
[21] راجع المقامة الثالثة والأربعين.
[22] المقام مقام إبراهيم. والمقام الثاني الإقامة في الوطن، جمع: اسم مزدلفة لاجتماع الناس فيها، الحطيم: اسم حجر بمكة المكرمة. راجع الشريشي ج 4 ص 142.
[23] مصاف: صادق في رده، معين: بفتح الميم ماء كثير قصد به صاحب كرم فهو استعارة، معين: بضم الميم الذي يعين بماله. الثمين: النفيس الغالي الثمن يريد أن الناس قد استووا في الأفعال السيئة. يشير بذلك إلى الحديث الشريف: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا استووا هلكوا، ومعنى ذلك أن الناس في الغالب إنما يتساوون في الشر ولا تجدهم كلهم فضلاء، لأن الخير قليل، وعلى هذا بنى الشيوعيون نظرياتهم ولذلك يميلون إلى إثارة الأحقاد والفتن وزرع الشر بين الناس لمحو الخير بينهم.(21/87)
[24] في القاموس المحيط: السراويل: فارسية معربة (وقد تذكر، الجمع: سراويلات أو جمع سروال وسروالة أو سرويل بكسرهن وليس في الكلام فعويل غيرها والسراوين بالنون لغة والشروال بالشين لغة أيضا.
[25] بقد يقد: قد: قوام يقد: ينقطع لرقة خصره، فقد جاء بلفظ (يقد) مكان ينقطع لضرورة الازدواج. تلاه: تبعه. ويلاه: دعا لنفسه بالويل والخسران؛ لأنه رأى نهدا لا يستطيع أن يصبر عنه. الظرف: الرشاقة. والطرف: العين. الناعس: الفاتر النظر. والناعش: الذي ينعش من ينظر إليه ويروى تاعس. كما في هذا البيت بمعنى مهلك. ويقال إن معنى ناعش: بالشين حامل للناظر على النعش، وعلى كل معناه يدور حول القتل ماعدا المعنى الأول الذي ذكره الشريشي. يحد: بضم الحاء: يمنع أي يمنع من رآه من التسلي عنه. زها: تكبر. تاهت: زهت وهو ضرب من الكبر. باهت فاخرت وعظمت. اعتدت: ظلمت. يخد: بضم الخاء يقطع في القلوب. شطت: بعدت. سطت: بطشت. نم: بالنون: أفشى ما به من الحب. وجد: حزن من الحب. جد: اجتهاد. مغضيا: متغافلا. يود: يتمنى. يود: يحب. الأول بالبناء على الفاعل والثاني على المفعول. المعنى: لما أفشى لها وجدي ما أكنه لها من حب وأبصرت ما فعله من هجرانها بي، دنت مني عند ذلك شفقة وحيتني وأنا الغضبان المتغافل المتناسي لما سلف منها من الهجران.
[26] ندي: مجلس. ندى: كرم. جدى: عطية. عقار وقرى: العقار: المال الذي لا ينقل كالمباني والنخيل، والقرى: جمع قرية. المقار: الجفان لإطعام الضيف. قطوب: عبوس. الخطوب: الشدائد. الكروب: الهموم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مما أعلم أنه لا يقوله مكروب إلا فرج الله عنه كلمة أخي يونس": {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت..} الآية. انتياب: نزول. النوب: النوازل. صفرت: خلت. قرعت: خلت من المال.(21/88)
[27] أرعى: أحفظ. جار: تعدى ومال عن الحق. أبذل: أعطي. صال: صاح مخوفا. الخليط: الصاحب ويقع للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. الحميم: الأول الصديق والثاني: الماء الحار. أفي للعشير: أعامل الصاحب بالوفاء. يكافئ بالعشير: يجازى بالعشر من فعلي. أميري: الحاكم علي. الأنيس الذي يؤنسك بحديثه. ورئيس القوم أفضلهم وأعزهم. صرم حبالي: قطع أسباب وصالي. أداري: أسوس وأحسن صحبته. يخفر ذمامي: ينقض عهدي.
[28] لم: من اللوم - مل: من الملل.
[29] كبر: أي عظم الكبير وقدمه على نفسك.
[30] يرب: يصلح. بر: أكرم. ينم: يزيد.
[31] تكس: تكن كيسا وهو العاقل.
[32] لذ: الجأ إليه. مؤمل: مرجو لفعل الخير.
[33] أس: أعط. الأوس: العطية. أرملا: فقيرا أفنى زاده. عرا: قصد. ارع: احفظ الصحبة. أسا: أتى بسوء. وأصله أساء. نباهة: رفعة. إبن: باعد. دنس: عيب. أي: صاحب من يشرفك بذكره الجميل وباعد من يدنس عرضك وتعاب به. أسل جناب غاشم: أي جانب منزل ظالم لا تقربه. وسلوت يتعدى بعن وبنفسه تقول: سلوت عنه وسلوته وسليته. مشاغب: مسارع للشر. هب: تحرك. مرا: جدال. رسا: ثبت. أسر: بالضم كن سريا: أي
[34] الشنعة: ما يقبح فعله.
[35] صارم: قاطع. المها: جمع مهاة وهي ولد البقر الوحشية، وأراد به هنا النساء مجازا. الكوم: جمع كوماء وهي الناقة العظيمة السنام. العماد: قائمة الخباء. ادراع: لبس الدرع. المراح: الطرب والنشاط، يعني بذلك كله: ينبغي عليك عدم الاشتغال باللهو، بل عليك أن تشتغل بكسب الشرف. حسو الطلا: شرب الخمر. مراد: بفتح الميم: الطريق والمذهب وأصله المرعى. رود جارية ناعمة شابة. الرداح: العظيمة العجز. و (ما) في قوله (ما سر أهل) بمعنى الذي. واها: عجبا.
[36] راجع الشريشي ج 4 ص 187 المكتبة الشعبية.(21/89)
[37] تجنى: اسم امرأة. بتجن: بدلال وتيه. الغنج: هو تكسير الكلام وتخنيثه. يقتضي: يتضمن. تفيض الجفن: سيلان الدموع. غشيتني: أتتني على غفلة. شفتني: انحلت جسمي. بنفث: بلفظ وكلام. الجيب: القلب. نزت: وثبت. النشيج: صوت البكاء.
[38] مفردات الأبيات: اسمح: جد. بث: نشر. تضيف: طلب منك أن تضيفه. فنن: أتى بالفنون من السؤال. ضنين: بخيل. يفضي: يتغافل. نفنف: واسع. فالنفنف متسع الأرض. ثبت: صادق الود. تزيف: تنقص وصار زائفا. وهو هنا الدرهم الريء المعبر به عن الدنيا.
[39] يقول المعلق بحواشيه: يظهر أن الأصل: وساقك نحوه.
[40] راجع أسرار البلاغة ص 15 مطبعة الاستقامة بالقاهرة.(21/90)
رسائل لم يحملها البريد
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أختي العزيزة (هل) :
في الرسالتين السابقتين حدثتك عن الصيغة الأولى من الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة لمضارع رأى وهي: (ألم تر إلى) ، وأنت ترين أنها تتكون من همزة استفهام يليها لم النافية الجازمة لمضارع رأى مسندا إلى ضمير المخاطب متعديا بـ (إلى) الجارة.
وفي هذه الرسالة الثالثة أريد أن أحدثك عن الصيغة الثانية من الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة لمضارع رأى، وهي: (ألم تر أن) وقد وردت هذه الصيغة في ثلاث عشرة آية من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية 19 من سورة النساء.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية 7 من سورة المجادلة.
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الآية 18 من سورة الحج.(21/91)
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} الآية 41 من سورة النور.
الآية الخامسة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} الآية 63 من سورة الحج.
الآية السادسة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} الآية 43 من سورة النور.
الآية السابعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} الآية 27 من سورة فاطر.
الآية الثامنة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} الآية 21 من سورة الزمر.
الآية التاسعة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} الآية 65 من سورة الحج.(21/92)
الآية العاشرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الآية 31 من سورة لقمان.
الآية الحادية عشرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية 29 من سورة لقمان.
الآية الثانية عشرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} الآية 83 من سورة مريم.
الآية الثالثة عشرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الآية 225 من سورة الشعراء.
هذه هي الآيات الثلاث عشرة التي وردت فيها صيغة الاستفهام: (ألم تر أن) .
واستفهام هذه الصيغة في هذه الآيات كلها استفهام تقريري بمعنى الخبر؛ فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} معناه - والله أعلم - قد رأيت أن الله خلق السموات والأرض بالحق، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} معناه - والله أعلم - قد رأيت أنهم في كل واد يهيمون.
وقد تسألين وتقولين: إذا كان الكلام مع الاستفهام التقريري بمعنى الخبر، فلم لا يجيء هذا الكلام ابتداء على صورة من صور الخبر دون أن يتقدمه هذا الاستفهام؟
أقول: هذا الاستفهام ينبه المخاطب لما سيأتي بعده، كأنما يقول له: انتبه، أتسمع؟ وشتان ما بين الكلامين يأتي أحدهما بعد تنبيه ويأتي الآخر ابتداء لم يتقدمه ما ينبه السامع لما بعده.
أختي العزيزة هل:(21/93)
من حقك علي أن أخبرك أن الزمخشري في كشافه [1] قد قال في الاستفهام الوارد في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قال ما يلي: "والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار) .
وتابعه على هذا الرأي أبو السعود في تفسيره [2] فقال: " {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} تعجيب لرسول الله صلى عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة السالفة".
وأقول: يحكم على الاستفهام ويبين معناه بالنظر إلى جملته، وأي عجب في إرسال الله سبحانه وتعالى الشياطين على الكافرين تهيجهم إلى المعاصي وتغريهم بها إغراء، إن أحدا لا يستطيع أن يقول حقا إن في هذا عجبا.
وادعاء أن التعجيب قد كان بما جاء قبل همزة الاستفهام ادعاء غير سليم؛ لأن همزة الاستفهام لها الصدارة في جملتها، يستفهم بها عما بعدها ولا يستفهم بها عما قبلها.
وقد تقدم أن قلت إن الاستفهام في هذه الصيغة استفهام تقريري بمعنى الخبر.
أختي العزيزة هل:
أريد الآن أن أعود بك الآن إلى هذه الصيغة الاستفهامية: (ألم تر أن) لأحدثك بما جاء فيها من كلمات وما يتصل بتلك الكلمات:
(تر) في هذه الصيغة مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه حذف الألف، والفاعل ضمير المخاطب المستتر، والمخاطب في هذه الصيغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يصلح للخطاب.
و (تر) في هذه الصيغة بمعنى تعلم، فهو يتعدى إلى مفعولين، و (أن) التي تلت (تر) حرف توكيد ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، وهي في الوقت نفسه حرف مصدري تؤول مع خبرها بمصدر في محل نصب يسد مسد مفعولي (تر) .(21/94)
ومتعلق الرؤية في هذه الآيات - ماعدا الآية الأخيرة - إخبار عن الله سبحانه وتعالى تبين فيما تبين أنه - جلت قدرته - خلق السموات والأرض بالحق، يعلم ما فيهن لا يخفى عليه شيء، له يسجد ما فيهن ويسبح، ينزل الماء من السماء فينشأ عن ذلك نعم ومنافع كثيرة مختلفة لا تحصى، ومن نعمه تعالى: تسخيره الفلك تجري في البحر بأمره وإحسانه، وإمساكه السماء أن تقع على الأرض، وأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وأنه تعالى يرسل الشياطين على الكافرين تهيجهم على المعاصي تهييجا؛ فلا يرجى منهم خير ولا يتوقع بر.
هذا ما تعلقت به الرؤية الواردة في هذه الصيغة قد سقته إليك على وجه الإجمال دون تفصيل.
وقد جاءت هذه الأخبار جميعا بـ (أن) اهتماما بما تضمنه ومزيد عناية به.
أما الآية الأخيرة آية الشعراء فمتعلق الرؤية فيها هؤلاء الشعراء الذين لم يؤمنوا بربهم ولم يعملوا الصالحات، وقد جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، وقد يشك في صحة هذا بعض الناس، وقد ينكره آخرون، فجاء الاستفهام التقريري مبينا أنه حق وصدق على وجه التوكيد والاستدلال، والمعنى - والله أعلم - هؤلاء الشعراء يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون في كل واد على غير هدى يتبعون الشهوات ويقولون بألسنتهم الكذب.
أختي العزيزة هل:
دعيني انتقل بك إلى الصيغة الثالثة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على (لم) النافية الجازمة لمضارع (رأى) ، هذه الصيغة هي (ألم تر كيف) وقد جاءت هذه الصيغة في ثلاث آيات من آيات القرآن الكريم:(21/95)
الآية الأولى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الآيتان 24، 25 من سورة إبراهيم.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الآية 6 من سورة الفجر.
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الآية 1 من سورة الفيل.
همزة الاستفهام في هذه الآيات الثلاث معناها التنبيه بمعنى طلب التأمل والتفكر، وهذا المعنى ظاهر في الآية الأولى؛ لقوله تعالى بعد أن ضرب مثل الكلمة الطيبة: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، والتذكر هنا معناه التأمل والتفكير والاعتبار.
أما في الآية الثانية والثالثة فقد ذكر الزركشي في كتابه البرهان [3] أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} استفهام تنبيه بمعنى طلب التأمل والتفكير والتبصر.
وما قاله الزركشي في استفهام سورة الفيل المتقدم يقال في استفهام سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ؛ لأن صيغة الاستفهام في الآيتين واحدة، ولأن متعلق الرؤية في الآيتين واحد، فأصحاب الفيل وعاد وثمود وفرعون أمة واحدة أمة كفر وضلال وتكذيب بالرسل.
وقد رأى الجلال المحلي في تفسير الجلالين [4] أن استفهام سورة الفيل المتقدم استفهام تعجيب، ورأى القرطبي في تفسيره [5] وأبو السعود في تفسيره [6] رأيا أنه للتقرير بمعنى قد علمت فعل ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه.(21/96)
ورأيي أن ما ذهب إليه الزركشي أقرب إلى الصواب؛ لأن قصص القرآن الكريم وأخباره عمن أهلكهم الله بذنوبهم تدعو إلى الأمل والتبصر والاعتبار قبل أن تدعو إلى محض التعجيب والإخبار.
قد تسألين وتقولين: إذا كان الاستفهام في هذه الآيات داعيا إلى التنبيه قائلا للمخاطب: انظر بفكرك وتبصر؛ ففي أي شيء يكون هذا التأمل والتفكير؟.
أما الآية الأولى فتعالي وانظري إلى هذه الصورة الجميلة وتأملي ما اشتملت عليه:
الإيمان شجرة لها جذور عميقة في جوف الأرض تمتص الغذاء وتجد أسباب النماء، ثم هي ذاهبة إلى السماء بأغصانها اللدنة وأوراقها الخضر لتمتص دفء الشمس وتعب نقي الهواء؛ فلا عجب أن تثمر ثمرا شهيا في كل حين بفضل من الله وإحسان.
وهذا هو شأن المؤمن الذي استقرت في قلبه كلمة الإيمان: لا إله إلا الله، يحيا في قلبه ونفسه حياة آمنة مطمئنة، يفعل الحسنات بفضل الله ما امتد به العمر، ويعمل الصالحات بهدى منه تعالى في كل حين.
وأما في الآية الثانية فموضع التأمل والتبصر مصارع الذين ظلموا، مصارع عاد وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، فصب عليهم ربك العذاب صبا يتذوقون طعمه تذوق المجلود طعم السياط.
أما موضع التأمل في الآية الثالثة فهذه النهاية التي انتهى إليها أصحاب الفيل وقائدهم الذي امتطى الفيل، وكان من هوان هذا المغرور الأحمق وأصحابه على الله أن سلط عليهم خلقا ضعيفا من خلقه لا يساوي شيئا يذكر إذا قيس في نظر العين بحجم الفيل، فأرسلها عليهم جماعات من الطير تحمل في أرجلها حصيات صغيرة من سجيل ترميهم بها فتجعلهم كعصف مأكول، وهل يصير العصف المأكول إلا رمادا تذروه الرياح؟!
والآن تعالي - أختي العزيزة - أحدثك بما في هذه الصيغة من كلمات بعد أن حدثتك عن معنى همزة الاستفهام فيها:(21/97)
(تر) فعل مضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه حذف الألف، والفاعل ضمير المخاطب المستتر.
والخطاب هنا عام شامل للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره ممن يصلح للخطاب.
و (تر) بمعنى تعلم؛ فهو ينصب مفعولين.
و (كيف) اسم استفهام قد علق (تر) عن العمل في مفعوليه، وتعرب (كيف) في الآية الأولى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً..} مبنية على الفتح في محل نصب على الحال من (مثلا) ، أما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ، وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} فقد اختار ابن هشام في المغني [7] أن تعرب مفعولا مطلقا؛ إذ المعنى أيّ فِعل فَعل ربك، ولا يتجه فيه أن يكون حالا من الفاعل لأنه يقتضي أن الفاعل - وهو الرب متصف - بالكيفيات والأحوال [8] .
و (كيف) وما دخلت عليه - في الآيات الثلاث - في محل نصب سدت مسد مفعولي (تر) .
أختي العزيزة هل:
لم يبق في هذه الرسالة إلا أن أحدثك عن الصيغة الرابعة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على (لم) النافية الجازمة لمضارع (رأى) ، وهذه الصيغة هي: (ألم يروا إلى) ؛ فاسأل الله تعالى أن يكون فيك بقية من نشاط تعين على قراءة هذه البقية من هذه الرسالة.
لقد وردت هذه الصيغة في خمس آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} الآية 48 من سورة النحل.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية 79 من سورة النحل.(21/98)
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} الآيتان 7، 8 من سورة الشعراء.
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} الآية 9 من سورة سبأ.
الآية الخامسة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} الآية 19 من سورة الملك.
هذه هي الآيات الخمس التي وردت فيها هذه الصيغة الاستفهامية (ألم يروا إلى) .
ومتعلق الرؤية في الآية الأولى ما خلقه الله من شيء تنتقل ظلاله شيئا فشيئا من جانب إلى جانب صباح مساء، ويسجد لله في ذلة وخضوع لا يستكبر.
ومتعلق الرؤية في الآية الثانية والخامسة هذه الطير المسخرات في جو السماء باسطات أجنحتهن حينا قابضاتهن حينا؛ لا يمسكهن عن السقوط على الأرض إلا الله سبحانه وتعالى.
ومتعلق الرؤية في الآية الثالثة هذه الأرض وما أنبت الله فيها من أشجار كثيرة لا تعد، وثمار طيبة شتى لا تحصى، ومن حدائق ذات بهجة مبثوثة في كل مكان.
ومتعلق الرؤية في الآية الرابعة هذه السماء والأرض تحيطان بالناس من كل جهة، إن يشأ الله يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعا من السماء.(21/99)
وهمزة الاستفهام التي جاءت في هذه الصيغة أول كل آية من هذه الآيات الخمس معناها الإنكار والتوبيخ، ينكر الله تعالى على هؤلاء الناس غير المؤمنين المدلول عليهم بواو الجماعة في قوله تعالى: (يروا) ؛ ينكر عليهم ويوبخهم ألا يروا هذه الآيات رؤية تأمل وتفكر واعتبار، رؤية تقودهم إلى أن الله الذي خلق هذه الأشياء العظيمة الدالة على كمال قدرته وبديع صنعه إله واحد لا شريك له، وأنه وحده المستحق للعبادة.
والإنكار هنا معناه لا ينبغي، وقد يجيء بمعنى النفي المحض، وسوف أنبهك على ذلك في موضعه.
أعود بك الآن إلى هذه الصيغة لأحدثك بما جاء فيها من مفردات:
(يروا) فعل مضارع مجزوم بـ (لم) ، وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة فاعل مبني على السكون في محل رفع، والمراد به غير المؤمنين.
والرؤية هنا بصرية؛ ولذلك عديت بـ (إلى) ، ولكنها ليست البصرية المحضة بل البصرية التي يقع بها الاعتبار ويصحبها التأمل والتفكر في أحوال الشيء المرئي.
لعلك قد رأيت هذه الواو التي جاءت بين همزة الاستفهام ولم في (أولم يروا) في الآية الأولى والآية الثالثة والآية الخامسة.
ولعلك قد رأيت أيضا هذه الفاء التي جاءت بين همزة الاستفهام ولم في (أفلم يروا إلى) في الآية الرابعة.
كثيرا ما تأتي هذه الواو وهذه الفاء العاطفتان بعد همزة الاستفهام، وتشاركهما (ثم) على قلة.
ويرى سيبويه وجمهور النحاة [9] أن الهمزة إذا كانت في جملة معطوفة بالواو أو الفاء أو بثم قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير وبقي العطف على ما قبل الهمزة، والأصل في (أولم يروا) : وألم يروا والأصل في (أفلم يروا) فألم يروا، بتقديم الواو والفاء على همزة الاستفهام، ثم قدمت همزة الاستفهام لما لها من الصدارة وأخر العاطف؛ فصارت الصيغة (أولم يروا) ، (أفلم يروا) ، وبقي العطف بعد تقديم الهمزة وتأخير العاطف بقي العطف على ما قبل الهمزة.(21/100)
هذا مذهب سيبويه والجمهور، وخالفهم جماعة أولهم الزمخشري، فزعم أن همزة الاستفهام مع هذا العاطف في موضعها ولم تقدم عن تأخير، وأن العطف على جملة مقدرة بين الهمزة والعاطف، ويقدر المعطوف عليه هنا: أعموا ولم يروا، أعموا فلم يروا.
وقد ضعف ابن هشام الأنصاري في كتابه المغني [10] رأي الزمخشري هذا بأن فيه تكلفا لا داعي إليه، وبأنه غير مطرد، لأن الزمخشري نفسه جزم في مواضع في القرآن الكريم بما يقوله سيبويه وجمهور النحاة، وسيأتي ذكر بعض هذه المواضع في موضعها.
أما بعد فقد آن لهذه الرسالة الثالثة أن تنتهي، وآن لك يا أخت أن تستريحي.
أسأل الله تعالى أن نلتقي عما قريب في الرسالة الرابعة.
وسلام الله عليك ورحمته وبركاته
أختك
همزة الاستفهام
مراجع ذكرت معنى همزة الاستفهام في بعض الآيات الوارد ذكرها في هذه الرسالة الثالثة:
1- الآية 19 من سورة إبراهيم:
تفسير الجلالين بهامش الفتوحات الإلهية ج 1 ص 520 طبعة الحلبي بمصر.
2- الآية 83 من سورة مريم:
أ- تفسير أبي السعود ج 5 ص 281 الناشر مطبعة ومكتبة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
ب- تفسير الكشاف للزمخشري ج 2 ص 524 طبعة الحلبي بمصر.
3- الآية 63 من سورة الحج:
أ - الفتوحات الإلهية ج 3 ص 178 طبعة الحلبي بمصر.
ب- تفسير أبي السعود ج 3 ص 233 الطبعة السالفة الذكر.
ج- تفسير القرطبي ج 12 ص 91 الطبعة الثانية المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
د - تفسير البحر المحيط أبي حيان الأندلسي ج 6 ص 386 الطبعة المصورة عن طبعة السلطان عبد الحفيظ سلطان المغرب. الناشر دار الفكر.
4- الآية 41 من سورة النور:
أ - الفتوحات الإلهية ج 3 ص 230 الطبعة السالفة الذكر.
ب - تفسير أبي السعود ج 6 ص 182 الطبعة السالفة الذكر.
5- الآية 27 من سورة فاطر:(21/101)
أ - تفسير أبي السعود ج 7 ص 150/ 151 الطبعة السالفة الذكر.
ب - تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج 7 ص 311 الطبعة السالفة الذكر.
6- الآية 12 من سورة الفيل:
أ- البرهان للزركشي ج 2 ص 340 طبعة الحلبي بمصر (طبعة ثانية) .
ب- تفسير أبي السعود ج 9 ص 200 الطبعة السالفة الذكر.
ج- تفسير القرطبي ج 20 ص 187 الطبعة السالفة الذكر.
7- الآية 48 من سورة النحل:
أ- الفتوحات الإلهية ج 2 ص 573 الطبعة السالفة الذكر.
ب- تفسير أبي السعود ج 5 ص 118 الطبعة السالفة الذكر.
ج- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج 5 ص 495 الطبعة السالفة الذكر.
8- الآية 7 من سورة الشعراء:
تفسير أبي السعود ج 6 ص 234/ 235 الطبعة السالفة الذكر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير الكشاف للزمخشري ج 2 ص 524 طبعة الحلبي بمصر.
[2] تفسير أبي السعود ج 5 ص 281 الناشر مطبعة ومكتبة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
[3] البرهان للزركشي ج 2 ص 340 طبعة ثانية للحلبي بمصر.
[4] تفسير الجلالين هامش الفتوحات الإلهية ج 4 ص 586 طبعة الحلبي بمصر.
[5] تفسير القرطبي ج 20 ص 187 الطبعة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
[6] تفسير أبي السعود ج 9 ص 200 الطبعة السالفة الذكر.
[7] حاشية الدسوقي على مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 217 الناشر مطبعة ومكتبة المشهد الحسيني بالقاهرة.
[8] حاشية الدسوقي على مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 217 الناشر مطبعة ومكتبة المشهد الحسيني بالقاهرة.(21/102)
[9] مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 8/9 تحقيق الدكتور مازن المبارك وزميله، الناشر دار الفكر.
[10] مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 9/10 تحقيق الدكتور مازن المبارك وزميله. الناشر: دار الفكر(21/103)
المرأة المسلمة
فضيلة الشيخ يوسف الهَمَذاني
مدرس بالمعهد الثانوي
ذرة في صدف مكنونة
حرة تعلو على كل الدرر
قد تناهت في سناء وسنى
وزها رونقها حين استتر
نورها الوضاء صاف مشرق
شف عن قلب مضيء كالقمر
كسفت كل بريق زائف
لامع السطح تسدى بالكدر
كاد أن يظهرها لألاؤها
باهرا لولا ستور وخفر
فمضت كالنجم لم يسم لها
كل ممدود الذراع والبصر
صانها الله لموعود بها
أمل الخير وأبلى وصبر
شكر الله على آلائه
وحبا الله بفضل من شكر
فهداه لَحَصان بَرّة
وإلى الخيرات يهدي كل بر
قدم الله بها بشرى له
بنعيم في الجنان مدخر
زاده نعمى وإيناسا بها
فهي عيش وسلام وظفر
ورعى الله الذي بينهما
من صحيح الود دنيا وأخر(21/104)
ما أضاع الحق إلا من بكاه
للدكتور إبراهيم حسن إبراهيم
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
لهفي عليك أخي الشهيـ ـد. .شهيد معركة الطغاة
صبوا عليك قنابل الـ
أحقاد أعداء الحياة
قد مزقوا جسد النحيـ
ل فطار في كل اتجاه
في كل شبر منك جز
ء عاش يشكو للإله
فبعينه وبسمعه
كل الذي فعل الجناة
لكنه يملي لهم
أمرا بحكمته قضاه
فإذا تمكن عرشهم
وتربعوا فوق الجباه
وتردت الدنيا لهم
ثوب الصفاء حلا سناه
وعلا علوهمو وقد
خالوا الزمان دنا جناه
حُمّ القضاء فجردوا
من كل سلطان وجاه
ورمتهم الدنيا عرا
ة مثلما ترمي النواه
وتبرمت بهمو رمو
س طالما وسعت أباه
والترب يصرخ.. يستقي
ء تقززا مما يراه
والدود من نتن الروا
ئح يشتكي عما براه
وجهنم تعوي تصيـ
ح: لبئس ما جوفي حواه
ماذا جنت أرضي؟ وأي
الذنب شعبي قد جناه
عشنا دهورا في سلا
م. . كلنا يرعى أخاه
في ظل شرعة ربنا
سمت الرعية والرعاة
حكامنا للدين كا
نوا قوة تحمي حماه
والفتح يتلو الفتح والـ
إسلام مسرعة خطاه
والخير في كل البقا
ع يضوع من عظم شذاه
سعد الجميع بعدل ديـ
ـن الله..ما عدل سواه
والكفر باء بحسرة
يطوي على كمد أساه
لكن إبليس اللعيـ
ن يصيح: صبرا يا أباه
لا يوئسنك أن تر ال
أقوام في خير سعاه
فلربما خلف يجي
ء.. يهدّ ما رفع البناه
تمضي القرون على الخبيـ
ث وما تلين له قناه
بل كلما فترت جذا
ء الكفر.. سعرها لظاه [1]
مترقبا كل المرا
صد. . بالعشي وبالغداه
ويظل يغوي بالضلا
ل قلوب جهال عماه [2]
وإذا رأى خور العقيـ
دة عند ذي ضعف سباه
وبذا تبدل حالنا
ويلاه! ما فعل السفاه؟!(21/105)
قد هدموا صرح القدا
سة.. مزقوا طهر الصلاه
هم فرقوا منا الليو
ث، وأكثروا فينا الشياه
هم أهدروا منا الدما
ء.. وويل من هدرت دماه
هم أسلمونا للطغا
ة.. وإنهم شر الطغاه
جفِّف دموعك يا شقيـ
ق: فلن نفيد من البكاه
سيظلّ صوت شهيدنا
يعلو كما يعلو صداه
قم يا شقيقي لا تنم
عن أخذ ثأري في صباه
ما بالدموع يكون ثأ
ر..لا.. ولا تسمو الجباه
ما بالدموع نعيد حقـ
ـا ضائعا سلب الغزاه
ما بالدموع نزيح عن
قدس الطهارة ما شجاه
ما بالدموع يعود بشـ
ر للقلوب.. أو الشفاه
كفكف دموعك: ما أضا
ع الحق إلا من بكاه
ما للضعيف كرامة
إن الكرامة للكماه
حول دموعك يا أخي
مدافعا تردي البغاه
واجعل أساك لظى يحر
ق كل أعداء الحياة
واصبب عليهم من لهيـ
ـب الحق ما يعي الرماه
واسحق عدو الله ... ذا
ك جزاء ما اقترفت يداه
وتذكرن أخاك قد
لبى الندا لما دعاه
فعلى دروب الحق سر
قدما كما سار الهداه
ذكريات من المدينة
شعر الشيخ عبد الحميد عباس
ألا كم نعمنا بظل النخيل
فسقيا لأيامنا الخاليه!
وكم قد شربنا المعين الزلال
بكأس على حبنا صافيه!
ويا ليت شعري أين الجرين
وأين المحارث والسانية!
ومن لي بنفح النسيم العلي
مع الصحب في (برزة) العاليه!
فهل لي إلى ما مضى رجعة
إلى الأهل في أرضنا الغاليه!
تمر الليلي وأيامها
علينا كأحدوثة باليه
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جذاء: جمع جذوة
[2] عماه: عُمي.(21/106)
حوار مع الدكتور مصطفى محمود
بقلم الشيخ محمد المجذوب
في ترجمتي التحليلية لأفكار الدكتور مصطفى محمود قلت - ص 394 -:
(ومع أن الأخ الدكتور قد شارف مطالع الطريق إلى الحقيقة، وتكشف له الكثير من الحجب التي كانت تحول دونها؛ فاستعاد إيمانه بالكتاب والنبيين، وأدرك مسافة الخلف ما بين المخرفين والمؤمنين، فهو لا يزال في مسيس الحاجة إلى الاستزادة من قراءة الحديث الصحيح، والاتصال بمؤلفات الصفوة من خدمة هذا العلم النبوي؛ ليزداد قلبه إشراقا بنور الوحي، الذي لا يغني فيه القرآن عن الحديث، ولا الحديث عن القرآن) .
وهاهي ذي ثلاث سنوات تعبر على تلك الكلمة، وكأنما كتبت اليوم، فهو لا يزال ضاربا في ملاحقة الأشعة التي تبرق لعينيه من أفق الحقيقة، فإذا أضاءت له مشى على هدى، وإذا زاغ عنها بصره جمد في موقعه لا يدري كيف يتجه..
ومن هنا جاء ذلك الاضطراب في مسيرته، فبينما هو محلق في جواء النور يترنم بألحان السعادة فيشوق ويطرب، إذا هو من الجانب الآخر ناشز الصوت، مشوش النغم، يخبط في ظلمات لا ضوء فيها ولا دليل.
لقد أعانه حبه الحق على التحرر من أخطائه السابقة، ولكن بقية من أشراك الفلسفة والتصوف ومؤثرات الاعتزال، إلى قصوره المعهود في مجال الحديث تحقيقا وفقها، قد قعدت به عن الانطلاق المنشود، فهي تشده بين الحين والآخر إلى القول بما لا يطمئن إليه عقله ولا قلبه، فيبعث من لا يعرف خلفياته النفسية والفكرية على سوء الظن بمراجعه وبواعثه، وسأقف من هذه المفارقات على بعض ما لمست في كتابه الذي جعل عنوانه (الله) .
- إن هذا الكتاب معرض غير منظم لمفهوماته في أخطر البحوث المتصلة بموضوع التوحيد.. فهو يتحدث عن ذات الله وصفاته وعمله سبحانه في الكون.. وما إلى ذلك مما لا سبيل معه إلى العصمة من الشطط، إلا أن يلتزم الكاتب فيه طريق الوحي من كتاب الله والصحيح في السنة.(21/107)
ولقد قصرت طاقة الدكتور مصطفى في نطاق الوحيين؛ فجاء عمله في هذا الكتاب كما قيل في شعر أبي تمام (كساحة الملوك فيه الذهب وفيه الخزف) .
فبينا هو يواجه القارئ بمثل هذا التقرير الجريء عن الله تبارك اسمه (لا يمكن أن يقال إنه فوق أو تحت أو عن يمين أو عن شمال، أو داخل أو خارج) . - ص 8 - وأنه جلت صفاته (يتخلل كل شيء في حضور كامل.. - ص 9 -) إذا هو - في ص 35 - يقول: (وكما لا يصح أن نتصور علاقة الله بنا اتحادا فإنه لا يصح أن نتصورها حلولا..) إلى أن يقول في الصفحة نفسها: (ويبقى الله دائما في علاء مطلق وفي تنزيه وتجريد، فهو العلي المتعال، له الفردانية الكاملة المبرأة عن الحلول والاحتواء في الزمان والمكان..) .
وغير خاف أنه في الفقرتين الأوليين إنما يستمد من رواسبه الصوفية التي تنفي عن الخالق جهة العلو وتقول بأنه الموجود في كل الوجود، على حين يتنصل في الفقرتين الأخريين من ذلك المفهوم فيرفض كل مقررات الصوفيين، ويقر لربه بالعلو المطلق اللائق بجلاله سبحانه.
وإنه لتناقض لا مفهوم له سوى أن الرجل في صراع مستمر بين مواريث التصوف وموحيات الشرع والعقل.
- واستمع إليه ينظر إلى صفات خالقه من زاوية التمحل الإغريقي، فيفسر معنى (الصمد) بأنه (ساكن سكونا مطلقا – ص 9 و11 -) و (لا يتحرك ولا يتنقل ص9) .
وإنما يقرر ذلك لما رسب في ذاكرته من تعريفات فلسفية تنفي عن الحق سبحانه كل ما يضاد السكون، لأنه بنظرهم خاص بالمحدثات التي يحتويها المكان، فانتقالها دليل حدوثها.(21/108)
ولا ندري كيف يوفق بين هذه الظنون وبين الحقائق التي يحملها القرآن الخالد إلى قلوب المؤمنين، حيث يصف مُنْزِله نفسه عز اسمه بالمجيء {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 89/ 22، وبالإتيان {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 2/ 210، والتي يفصلها الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.." [1] .
ومن هذا المنطلق يأتي نفي الدكتور صفة الكلام عن ربه تبارك وتعالى فيقول: (وهو المتكلم بدون حروف وبدون كلمات..- ص 12 -) ، يحدوه إلى ذلك الحكم الخاطئ ما ألفه في العادة من أن التكلم لا يكون إلا بلسان وشفتين، ناسيا أن سبحانه ليس كمثله شيء، وأنه في زمان أصبح يسمع فيه الكلام من شريط لا شفة له ولا لسان..
ولو هو قد عاد إلى قلبه لأنكر إنكاره؛ إذ يعلم أن في نفي الحرف والكلمة عن كلام الله نفيا للقرآن نفسه، الذي يتألف من الحروف والكلمات، والذي يقرأ فيه قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} – 9/ 7، و {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} – 18/ 109.
ولقد تأخذه الشطحات حتى يدخل في متاهات أصحاب وحدة الوجود الذين ينكرون عمل الإنسان وأعيان الموجودات، (فليس في الدنيا سوى الله، الوجود هو الله وأفعاله ولا غير - ص 42-) و (الزاهد الموحد) – بنظره - هو الذي تتلاشى من مداركه صور الأشياء حتى (لا يرى في أي شيء سوى الله وفعل الله – 56/ 57) .(21/109)
وهكذا يمضي الدكتور في معميات الطرقيين يردد مزاعمهم حتى ليسوقه ذلك إلى الوقوع في أوهام صوفية النصارى الذين يصفون ربهم بأنه (محبة) ؛ فيصفه تعالى بأنه قوة - ص 64 - وقد غفل عن كون القوة كالمحبة اسم معنى لا وجود له إلا في الذات الموصوفة به، كعطف الأم على ولدها نسميه حبا، وهو أثر من المحب لا قيام له إلا به.. وغير بعيد عن ذلك اعتباره نحل النصرانية على اختلافها (متفقة على توحيد الله، رغم قولهم بثالوث الأب والابن وروح القدس - 79 -) .
فلقد تلاشت في منظور الدكتور حدود الأشياء حتى لا يفرق بين التوحيد والشرك، وما أحسبه إلا قرأ قصة فولتير يوم أن تلقى أول درس في عقيدة التثليث على يد القس الجزويتي، الذي حاول إقناع تلاميذه الصغار أن الثلاثة واحد، فلما ترك الفصل لمدرس الحساب، جعل هذا يدربهم على جمع الأعداد، ثم جعل يختبر فهمهم للدرس فسأل فولتير: واحد زائد واحد؟. فأجاب فولتير: إنهما اثنان، فقال الأستاذ فإذا أضفنا إليهما ثالثا، أجاب الصغير: يصبح الثلاثة واحدا.. ويكرر الأستاذ السؤال مستعينا بوسائل الإيضاح، فلا يغير فولتير من جوابه.. وحينئذ لم يجد المدرس بدا من توبيخه؛ فصرخ: يا حمار!، ولكن الصغير رد بقوة: الحمار يا أستاذ هو القس الذي أرادنا على الإيمان بأن الثلاثة واحد..
أما أنا فألمح في مسلك الدكتور آثار الرواسب الصوفية التي تصرفها الشطحات عن تبين الحدود، فلا ترى أي فرق بين الكلام كما أنزله الله، والديانات التي شوهها المحرفون، فإذا العقائد جميعها في مفهوم القوم، كما ينادي بذلك كبيرهم ابن عربي في قوله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فأصبح قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن(21/110)
ومن الرواسب الأخرى التي يعاني الدكتور مصطفى من عقابيلها ما استقر في تفكيره من نظريات النشوء والارتقاء.. فقد بدا لي أنه مأخوذ بكل ما تنطوي عليه من حق وباطل، فهي بالنسبة إليه (قالب تفكير) لا يسعه مفارقته قيد أنملة.. وبدافع من ذلك نراه يجهد عقله لتحويل مدلولات الآيات القرآنية المتصلة بقضية الخلق، إلى توكيد كل ما يتعلق بمقولات الداروينيين في هذا الصدد، ولو اضطر من أجل ذلك إلى رفض كل مفهومات السلف من مفسري الكتاب الحكيم، وإلى تجاهل كل البحوث التي ألفها أساطين العلماء شرقيين وغربيين، في نقض تلك النظرية..
ولعلي لا أجانب الواقع إذا قلت إن وقوفه عند ترديد هذه الأقاويل، التي استنفدت أغراضها في الأوساط العلمية يمت بصلة وثيقة إلى المؤثرات الماركسية السابقة، فهو على الرغم من كفره بتلك الصلة، والحرب الشعواء التي يشنها على دعاتها، لم يستطع التخلص من سلطانها على أفكاره، وبخاصة في معارضته للدعوة التي تملأ مصر هذه الأيام إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ثم في مفهوم التطور الذي تقوله الماركسية بشموله المطلق لكل شيء دون استثناء..
وقد سبق أن ناقشنا الدكتور مصطفى في الجانب الأول أثناء تلاقينا في مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وفي ترجمتنا له ونقدنا لأفكاره في كتاب (علماء ومفكرون عرفتهم) ، وعلى الرغم مما ألفنا لديه من حسن تفهم لخصائص الحكم الإسلامي، لا يبرح جاثما على موقفه المتنكر أو المتردد.. وهو موقف ناشئ عن ارتباطه المنهجي بتلك المؤثرات الخلفية، التي تفرض عليه الظن بأن التطور الشامل لكل تحرك حضاري منظور، لا يمكن أن يفقد سلطانه بإزاء الوحي الذي تعهد الله سبحانه بحفظه كما أنزل وإلى الأبد.
وقد أدى ارتباط الدكتور مصطفى بهذا المنهج إلى ألوان من الشطط برزت في الكثير مما يكتب ويحاضر.(21/111)
ففي الجانب السياسي لا يستطيع أن يصدق أن نظام الإسلام يمكن أن يحقق مهمته في إصلاح الأوضاع البشرية، بعد ذلك الانحراف الكبير الذي أحدثه التطور المستمر في هذه الأوضاع.. وقد فاته - وهو الطبيب - أن العمل الواجب نحو المريض هو تداركه بالعلاج الصحيح بالغا ما بلغ ثمنه وزمنه.. وأن حرمانه من هذا العلاج توقعا لشفائه عن طريق التطور، لن يزيده إلا إمعانا في البلاء واقترابا من النهاية.. فخير لمصر إذن أن تبدأ بالعلاج الصحيح فورا دون تأخير، رحمة بنفسها وبالعالم الإسلامي، ومن ثم بالمجموعات البشرية التي فقدت صمام الأمان في كل مكان.
وإيمانه بعدم محدودية التطور على مذهب الماديين هو الذي ساقه إلى تبني نظرياتهم المتهافتة في موضوع نشوء الشعور الديني، فراح يؤكد مزاعمهم بمثل قوله: (.. أدرك الإنسان البدائي بوجدانه أن روحه في حاجة إلى عقيدة يأوي إليها..) لكنه (لم يستطع أن يعرف حقيقة الإله المعبود من أول وهلة..) (فظن أباه الميت هو الله فعبده وذبح له..) ، ثم تطورت عبادة الأسلاف لتصبح عبادة لله - 61 و 62-) ، وينتهي من ذلك إلى القطع بأن (أول خطوة نحو توحيد حقيقي.. هي التي حققها إخناتون نبي الفراعنة بحق - 63-) ، ويبقى عليه أن يحدثنا عن موقف الإسلام من ذلك فيقول: من هنا تأتي فكرة الإسلام عن الله الواحد الأحد المتعال الذي ليس كمثله شيء؛ لتكون الذروة والخاتمة لذلك التجريد الخالص - 81 -) .
فهو إذن يقرر جازما أن الدين حاجة وجدانية خضعت لسلسة من التجارب والتطورات صارت بها إلى دائرة التوحيد في مرحلة متأخرة، وكان أول المحققين لها إخناتون – ملك مصر العليا والسفلى - تماما على النحو الذي يسلكه من يسمونهم علماء الاجتماع في الغرب، والدائرين في فلكهم من أبناء المسلمين..(21/112)
ولا تفسير لذلك سوى الغرور الذي صرف هؤلاء وأولئك عن نور الوحي إلى زخرف القول، فأعرضوا عن نبأ السماء الذي لا يأتيه الباطل، إلى محض الظن وما تهوى الأنفس.. وإلا كيف يسمح مسلم لنفسه بالجري وراء هذه الأوهام وهو يقرأ في كتاب ربه أن أول إنسان هو أول نبي، وأن معرفة الله وتوحيده هما الأمانة التي حملها كل نبي إلى قومه تحقيقا للوعد الإلهي الذي تلقاه آدم في قول الحكيم العليم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 20/ 123، 124، وإنه لوعد صريح الدلالة بأنه تعالى مزود ذرية آدم على الدهر بالرسالات التي لا يضل المستضيء بها طريق الحق أبدا، وإنما يتسرب الزيغ إلى الإنسان من مفارقته حقائق الوحي إلى مغريات الشيطان الذي أقسم من يومه الأول ألا يدخر وسعا لإفساد عقيدة الإنسان الذي كرمه الله عليه.
ولا جرم أن مجرد التسليم لأوهام القائلين بسبق الوثنيات لأصول التوحيد إنما هو إنكار لمحكمات القرآن الذي يقرر - كما أسلفنا - أن أول إنسان هو أول داع لحقائق الإسلام.
وإنا لنربأ بالدكتور مصطفى محمود - وقد أخرجه الله من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان - أن يستمر على الثقة بأولئك الخراصين الذين يقول ربنا في أمثالهم {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} – 18/ 51.(21/113)
ومرة أخرى نذكر بعلاقة هذه الأوهام بمزاعم داروين وماركس؛ إذ ان مجرد الإيمان بتنقل الحي خلال مراحل التطور من محض المادة إلى الخلية الحية، إلى التركيب الأعلى الذي صار إليه الإنسان، كاف لقبول كل طرح فكري ينطلق من منافذ الظن، الذي هو أكذب الحديث.. وفي هذه الحال لا يبقى مجال للقول بأب واحد للبشر كما يعلن البلاغ الإلهي، بل لابد من القول بأصول متعددة لأجناس بشرية متعددة، فلا آدم، ولا حواء، وبالتالي لا أخوة إنسانية ولا رسالة إلهية، فلا وحي ولا دين، وإنما الدين - كزعم فرويد - (نوع من التسامي بغريزة جنسية، كانت كراهية للأب فاستحالت مع التطور شكلا ظاهريا من التكفير عن الذنب بحب لا يلبث أن يتحول إلى عبادة - ص 109 -) .
وطبيعي أن تصورا كهذا لا يتسع للإيمان بوجود الخالق الحكيم، ولا يسوغ القول بالميراث السماوي الذي يحدد المسيرة العليا للنوع البشري عن طريق النبوة، وأنا لا أسمح لقلمي باتهام الدكتور مصطفى بالانصياع لهذا الاتجاه المظلم عن سابق تصميم، معاذ الله! فأنا لا أزال على حسن الظن به على الرغم من إصراره على السير وراء أولئك الأفاقين، إلا أنني أصور المسلك الذي تورط فيه كما هو الواقع، ومن قبل صور لنا الله - تقدست كلماته - واقع أناس قالوا كلمة الكفر، فلم يشفع بهم مجرد انتسابهم إلى مجتمع الإسلام.
على أن ثمة زلة لا تقل وزنا عن هذه الطامات في كتاب الدكتور.. وذلك في زعمه نبوة إخناتون.. وهو قول عجيب يذكرنا بمفهوم النبوة في (العهد القديم) ، حيث نراها ضربا من السمو الفكري المكتسب، فلا وحي ولا عصمة، بل إن النبي في ذلك (العهد) لا يترفع عن اقتراف أدنى الدنايا.. وأعجب من ذلك وصفه إياه بأنه (نبي الفراعنة بحق - 63 -) على حين لا يلبث أن ينسب إليه الضلال في أخص خصائص العقيدة فيقول: (إخناتون يخطئ في تصوره لله) ؛ إذ يزعم أنه (ابن الله الذي ولد من صلبه – 83 -) .. تعالى الله عما يقول الظالمون..(21/114)
وبعد فهذه تفصيلات لمآخذ كنت قد كتبت خطوطها الأولى في أعقاب قراءتي لكتاب الدكتور عن (الله) جل جلاله.. ولما أعدت النظر فيها وجدتها لا تزال صالحة للبسط؛ لأنه لا يزال مصرا عليها في أحاديثه المقروءة والمسموعة.. وسأكون جد مغتبط إذا أدت المرجو منها في تعديل أفكار ذلك الرجل الذي أحببت فيه الوداعة، ولمست من خلال أحاديثه الخاصة صفاء الروح وحب الحق.. وأعجبت بالكثير من تأملاته المتوجهة..
- وأخيرا أرى من الإنصاف لذلك الكتاب أن لا أغفل الإشارة إلى بعض حسناته التي تستحق كل تقدير، وقد نثرت كالأزاهر الرائعة في أثنائه، وحسبي أن أوجه نظر قارئه إلى رده على المتصوفة المضللين- 35 و 55 - ومقارنته بين حلي الكافر والمؤمن - 44و 45 - ونقوله البارعة عن عقلاء عرفوا طريقهم إلى الحقيقة في ضوء المخابر والتفكير الحر – 96و 97 -.(21/115)
وما أكثر تعابيره المضيئة هنا وهناك، وبينها مثل قوله في العقل والبصيرة: (وإنما شأن العقل كمصباح يلقي بنوره إلى مدى معين ثم تبدأ منطقة من الظلام، لا دليل فيها إلا نور البصيرة، وهدى القلب – 54 -) ، وقوله الآخر في تعريف الزهد الحق بأنه (هو الضن بالحياة أن تضاع في اجتلاب الترف الفارغ - 55 -) ، وما أحكم رده على القائلين بقدم المادة وتطورها طبقا لما يسمونه بالقوانين الجدلية حيث يقول: (من الذي وضع تلك القوانين في المادة؟ وكيف يوجد نظام بلا منظم؟.. ونسوا أن إسقاطهم لقانون السببية وتصورهم لخلق بلا خالق هو إسقاط للعلم كله، وخروج على الفكر العلمي في بداهته الأولى - 107 -) ، ومن هذا القبيل تسفيهه مدعيات القائلين (إن الدين هو حسن السير والسلوك ومكارم الأخلاق.. وهي مما يهتدي إليه الإنسان بعقله وبالوازع الاجتماعي بدون حاجة إلى دين..) ؛ فلهؤلاء الخراصين يقول: (الدين ليس هو الأخلاق، وإنما هو مرتبة أعلى من الأخلاق.. فإذا كانت الأخلاق وظيفتها تحقيق الانتماء إلى الجماعة الإنسانية على أحسن صورة.. فالدين وظيفته أشمل، وهي تحقيق الانتماء إلى الكون والوجود والله على أفضل وجه - 108 -) .
ومن البديهيات التي لا تعزب عن مثل الدكتور مصطفى محمود أن لا سبيل إلى توافر هذا الانتماء على وجهه الصحيح إلا بالالتزام التام لمقررات الكتاب المحفوظ وسنة مبلغه المعصوم، وهو مطلب مستحيل التحقيق إذا لم نضرب بكل رأي أو ظن يخالفهما عرض الحائط.. ولو اقتضانا ذلك أن نخسر تطبيل الدجالين وتزمير المهرجين.
والله نسأل لنا وله العصمة من الزلل الوبيل، والهداية إلى أقوم سبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من حديث متفق عليه.(21/116)
من عقائد السلف
الرد على الجهمية
للإمام الحافظ ابن منده - 310- 395هـ
(الحلقة الأولى)
تحقيق وتعليق الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:
فإن لعلماء السلف دورا كبيرا في الرد على النزعات الفلسفية التي دخلت على الفكر الإسلامي من أعدائه، ذلك أن الجهم بن صفوان المتوفى سنة 128 مائة وثمان وعشرين مقتولا، أخذ مقالته في نفي صفات الله تعالى عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ التعطيل عن أبان بن سمعان، وأخذ أبان عن طالوت، وأخذ طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه سلسلة سند المعطلة الذين أنكروا صفات الباري تبارك وتعالى.
لذلك فقد نشط علماء السلف في الرد على أهل التعطيل؛ إذ ليس إنكار الصفات إلا رأيا فلسفيا تسرب إلى صفوف المسلمين من أعدائه، وردود السلف في القرون الأولى يعتبر أول رد على هذه النزعات في تأريخ الإسلام الذي توسع فيه من جاء بعدهم إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية.(21/117)
وقد صنف السلف في ذلك مؤلفات كثيرة تبين فساد آراء ومعتقدات هؤلاء المعطلة الذين أعمتهم أنوار النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فأرادوا ردها، وحتى يقبل منهم ذلك تستروا في جُنّة ظلام التأويل، وهو في الحقيقة تحريف لتلك النصوص الصريحة عن مواضعها، غير أن الذي نشر من هذه المؤلفات في العقائد السلفية التي تعتمد على صريح القرآن وصحيح السنة قليل بالنسبة لما لم ينشر، وعقائد الإسلام لا يمكن أن تكون قائمة على سوقها مؤتية لثمارها إن لم تتناول ما كتبه علماء السلف من القرن الثالث والرابع ومن نهج نهجهم من بعدهم إلى عصرنا هذا.
وكتاب ابن مندة هذا (الرد على الجهمية) الذي نقدمه للقراء واحد من تلك السلسلة التي انتظمها كتاب الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية والزنادقة، ومن سلك مسلكه كالبخاري والدارمي وغيرهما من علماء السلف.
نرجو الله تعالى أن ينفع به، وأن يوفق المسؤولين في جامعات المملكة نشر تراث سلفنا الصالح، وإخراج ما خلفه علماؤنا لخدمة العقيدة الإسلامية المعتمدة على صريح القرآن وصحيح السنة، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الإمام ابن مندة: (310هـ- 395هـ) .
هو الإمام الحافظ الجوال محدث الإسلام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة [1] ، واسم مندة إبراهيم بن الوليد بن مندة بن بطة بن استندار بن جهار بخت، وقيل اسم استندار هذا فيرزان، وهو الذي أسلم حين فتح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبهان.
مولده:
ولد سنة عشر وثلاثمائة، أو إحدى عشرة وثلاثمائة.
وقد لقي ابن مندة منذ صغره عناية وتوجيها من أبيه؛ فقد بث في روحه التقى وحب السنة المطهرة؛ ولذا نجد في ترجمته أن أول سماعه كان في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، وعمره حينذاك بين السابعة والثامنة، وتوفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
أسرته:(21/118)
وبيت بني مندة بيت علم ورواية وتمسك بالسنة وذب عنها، يقول الذهبي في ترجمة ابن مندة: وقد أفردت تأليفا بابن مندة وأقاربه، وما علمت بيتا في الرواة مثل بيت بني مندة؛ بقيت الرواية فيهم من خلافة المعتصم وإلى بعد الثلاثين وستمائة [2] .
حياته العلمية:
والباحث في حياة الإمام الحافظ ابن مندة يجد فيها مثال العالم العامل الدؤوب الجاد في تحصيل العلم، والحريص على جمعه وتطبيقه في المسائل الدينية لا سيما ما يتعلق منها بالأمور الاعتقادية، فهو الحافظ المحدث الذي لم يبلغ أحد مبلغه في كثرة الشيوخ الذين سمع منهم وأخذ عنهم، وهو بعد ذلك المصنف في الحديث وعلومه، وفي التفسير والتاريخ، وفروع العقيدة؛ وذلك لعلمه أن مصدر العقيدة الإسلامية الصحيحة بعد كتاب الله تعالى السنة المطهرة، ولذلك نجد من مؤلفاته في العقيدة الكتب التالية:
كتاب الصفات، كتاب الرد على اللفظية، كتاب في النفس والروح.
وقد ذكر هذه الكتب الثلاثة الذهبي [3] ضمن مصنفات ابن مندة، وهي في حكم المفقود.
وكتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله وصفاته على الاتفاق والتفرد [4] ، وكتاب الإيمان على رسم الاتفاق والتفرد [5] .
وكتاب الرد على الجهمية، وهو هذا الذي نحن بصدد تحقيقه ونشره.(21/119)
وقد ضمن هذا الكتاب الرد على فرقة الجهمية، وعلى رأسها زعيمها الأول ومؤسس بدعتها جهم بن صفوان المتوفى سنة 128 مقتولا [6] ، ذلك الذي تأثر بعناصر فلسفية في نفي الصفات، وبعناصر يهودية، وصابئة، وبوذية في ترمذ والكوفة وحران [7] ، فطلع على الناس ببدعته في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن والقول بالجبر؛ لأن الله عنده لا يمكن أن يتصف بصفة تكون مشتركة بينه وبين خلقه، فذلك في تصوره يقتضي التشبيه، إلا أنه أثبت أن الله قادر وفاعل؛ لأن العبد لا يوصف عنده بقدرة ولا فعل [8] ؛ لأنه يقول بالجبر، ولما كان مذهبه هذا يؤدي إلى تعطيل الصفات، وإلى تعطيل التكليف، والشرع، وإبطال النبوات والرسالات - لأن الإنسان عنده، لا كسب له ولا اختيار وإنما هو ريشة في مهب الرياح - اشتد إنكار السلف عليه وبينوا بطلان مذهبه، ومن هؤلاء ابن مندة؛ فقد استعرض في هذا الكتاب عددا من الصفات التي أنكرها الجهمية، ورد على هؤلاء المنكرين لحقائق هذه الصفات، بما ورد في القرآن الكريم، وما ثبت في صحيح السنة، مما رواه الشيخان وغيرهما، ثم أتبعهما بأحاديث وآثار منها الحسن ومنها الضعيف، أوردها بأسانيدها وأشار إلى ضعف بعضها أو عدم ثبوته، والضعيف منها لا يعدو أن يكون إيراده متابعة أو استشهادا، إذ الاعتماد على ما جاء في كتاب الله الكريم والثابت من السنة الوارد في الصحيحين وغيرهما فقد صدر المصنف الأبواب التي ذكرها بالآيات القرآنية والأحاديث الثابتة.(21/120)
ثم أورد بعد ذلك آثارا من أقوال الصحابة والتابعين ليبين بها أن مذهب سلف هذه الأمة في آيات الصفات وأحاديثها إثبات معانيها لله عز جل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، بل على أساس قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى لمن سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال له: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ثم قال: ولا أراك إلا مبتدعا وأمر بإخراجه.
وحين ظهرت بدعة الجهم واعتنقها كثير من الناس؛ لجهلهم بالكتاب والسنة هب علماء السنة للرد على هذه البدعة، ولبيان مذهب الحق في ذلك؛ أداء للأمانة ووفاء للعهد الذي أخذه الله على العلماء في بيان الحق وعدم كتمانه.(21/121)
وقد ذكر الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) عددا من الأئمة الذين أنكروا على الجهمية آراءهم المنحرفة، وما الجهمية إلا آراء واعتقادات يعتنقها كثير من الناس حتى الآن، وهم لا يعرفون، والبعض منهم يتجاهلون تجاهل العارف أنها آراء الجهمية التي حذر منها العلماء، فالمعتقد لما جاء به الجهم جهمي وإن تسمى باسم آخر؛ إذ الأسماء لا تغير الحقائق، ولذا فإن نشر كتب السلف هذه من واجب الأمة ليستضيء بها الشباب المسلم، فهي من أمور الساعة، فحصوننا مهددة من داخلها- كما قال محمد محمد حسين - في السلوك والاعتقاد، ذلك أن بعض الدعاة المعاصرين يقولون: إن الجهمية وفرقا أخرى كالمعتزلة وغيرها قد انقرضت فلا حاجة إلى البحث فيها، فنشر مثل هذه الكتب لا حاجة إليه؛ لأنها تبحث في أمور لا يوجد من يعتنقها ويؤمن بها، وحتى نثبت ما أشرنا إليه من أن آراء الجهمية منتشرة بين أبناء الأمة الإسلامية، وأن الشباب في حاجة إلى بيان ذلك، ليعرف قيمة كتب السلف التي تبنى عليها العقيدة الصحيحة، فسنذكر بعضا مما أنكره الجهمية من صفات الله تعالى، فنقول:
من الصفات التي أنكرها الجهمية:
1- كون الله عز وجل في السماء، وأنه مستو على عرشه كما قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك آية 16) وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه آية 5) .
1- تأويل صفة النزول.
2- القول بأن القرآن مخلوق.
3- إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
وغير ذلك من الصفات الثابتة في الكتاب، وفي السنة الصحيحة، كصفة الرحمة، والرضى، والغضب، والقدم، والضحك وغيرها، يقول الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها) بعد أن أورد الآيات، ثم الأحاديث وبين الصحيح من الضعيف منها، قال: "ذكر ما قاله الأئمة عند ظهور الجهم ومقالته" [9] .(21/122)
فذكر ما نقل عن أبي حنيفة، وابن جريج، والأوزاعي، ومقاتل بن حيان عالم خراسان، وسفيان الثوري، ومالك إمام دار الهجرة حيث قال عنه:
قال إسحاق بن عيسى الطباع قال مالك: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله، قال: وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب: كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه آية 5) ، كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة؛ أخرجوه.
قال الذهبي: "هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل الستة قاطبة إن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراراه وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا" [10] .
ثم أورد بعد ذلك قول الليث بن سعد عالم مصر، وسلام بن أبي مطيع، وحماد بن سلمة، وعبد العزيز بن الماجشون مفتي المدينة وعالمها.(21/123)
وقد ذكر عنه ما يأتي: قال: أنكر الجهمية قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وقد قال المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يا رسول الله؟ فقال: "هل تضارون في رؤية الشمس.." الحديث، إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تملأ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط ويزوي بعضها إلى بعض"، وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة"، قال: وذكر فصلا طويلا في المعنى [11] .
ثم تابع ذكر أقوال العلماء في هذا الباب فذكر قول حماد بن زيد البصري الحافظ أحد الأعلام، وابن أبي ليلى، وسلام مقرئ البصرة، وشريك القاضي، ومحمد بن إسحاق ومسعر بن كدام أحد الأئمة [12] .
ثم قال: طبقة أخرى تالية لمن مضى.
فذكر جرير الضبي محدث الري، وعبد الله بن المبارك شيخ الإسلام، ونقل عنه فقال: صح عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: قلت لعبد الله بن المبارك كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة على عرشه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض [13] .
ثم ذكر أقوال عدد من العلماء إلى أن قال:
طبقة الشافعي وأحمد رضي الله عنهما: روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهما إلى أبي ثور وأبي شعيب كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث رحمه الله تعالى قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء كيف شاء، وذكر سائر الاعتقاد [14] .(21/124)
وكذلك استمر في ذكر أقوال العلماء إلى أن ذكر أبا الحسن الأشعري فقال: قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري المتكلم في كتابه الذي سماه (اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين) ، فذكر فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم إلى أن قال: (ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة) فقال: قولهم الإقرار بالله وملائكته ورسله وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} ، ويصدقون الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ "، ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .
ثم قال: وقال الأشعري في كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) في باب الاستواء: فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .(21/125)
ثم قال - أي الذهبي-: وكتاب (الإبانة) من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهّره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام ابن فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبي الحسن الأشعري في كتاب (المقالات والخلاف) بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري، تأليف ابن فورك، فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك، ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها، ثم قال في آخره: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم [15] .
ثم قال في ص 162: قال الحافظ الحجة أبو القاسم بن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) : فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكرنا عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد.. إلى أن قال: فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة، فإنه قال: الحمد لله.. إلى أن قال: وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته.. وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [16] .
ثم قال الذهبي: فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه ولزموها لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق؛ فلا قوة إلا بالله! [17] .
وبعد هذا العرض لأقوال بعض الأئمة نرى أن الصفات التي ردوا فيها على الجهمية هي: صفة الاستواء على العرش، وصفة النزول، وصفة الكلام، ورؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
فهل المحرفون لهذه الصفات باسم التأويل انقرضوا؟.(21/126)
الجواب: لا، هم موجودون ويدعون العالم والشباب المسلم لاعتقادها؛ فما عقيدة أبي منصور الماتوريدي في هذه الصفات التي يدعو لها ويدعي بعض الكتاب أن الأمة سلمت، بل أجمعت على عقيدة أبي منصور الماتوريدي، وأبي الحسن الأشعري - ولا يقصد بعقيدة أبي الحسن الأشعري التي سبق بيانها في الإبانة والمقالات كما نقلها ابن عساكر في تبيين كذب المفتري، وعنه الذهبي في العلو للعلي الغفار - وإنما يريد عقيدة الأشاعرة التي ذكرها صاحب جوهرة التوحيد في قوله:
وكل نص أوهم التشبيها
أوله أو فوض ورم تنزيها
قال الشارح البيجوري - بعد أن بين أن المقصود بالنص في قوله: (وكل نص) هو الدليل من الكتاب أو السنة -: إن التفويض بعد التأويل الإجمالي وهو صرف اللفظ عن ظاهره، ثم ذكر بعض النصوص التي توهم التشبيه فقال: فمما يوهم الجهة - أي جهة العلو لله -، قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، قال: فالسلف يقولون فوقية لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد بالفوقية التعالي في العظمة.
قال: ومنه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؛ فالسلف يقولون: استواء لا نعلمه [18] ، والخلف يقولون: المراد به الاستيلاء والملك، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق [19]
ويقول الآمدي في غاية المرام في علم الكلام ص 200 - محاولا نفي الجهة عن الله تعالى، وهي جهة العلو، ورادا للنصوص القرآنية الواردة في ذلك، - قال: ولعل الخصم قد يتمسك هاهنا بظاهر من الكتاب والسنة، وأقوال بعض الأئمة، وهي بأسرها ظنية ولا يسوغ استعمالها في المسائل القطعية؛ فلهذا آثرنا الإعراض عنها ولم نشغل الزمان بإيرادها. اه
القرآن كلام الله:
قالت الجهمية والمعتزلة: إنه مخلوق، ورد عليهم السلف، وضرب الإمام أحمد بن حنبل على ذلك بين يدي المعتصم.(21/127)
لكن ماذا قال الأشاعرة الذين يدعو لمذهبهم من سبقت الإشارة إليه، يقول صاحب جوهرة التوحيد ص 54:
نزّه القرآن أيْ كلامه
عن الحدوث واحذر انتقامه
يقول الشارح البيجوري - بعد أن ردّ على المعتزلة في قولهم إن القرآن مخلوق، - قال: ومذهب أهل السنة - يعني الأشاعرة - أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرأه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال القرآن مخلوق ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم؛ لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق، أي الكلام النفسي.
صفة النزول:
أولوها بأن المقصود إقباله تعالى على أهل الأرض بالرحمة، أو أن الله يأمر ملائكة بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء [20] .
رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة:
أنكرها المعتزلة ردا للنصوص النبوية، وتأويلا للآيات القرآنية، ونفيا للجهة - أي جهة العلو – ومعلوم أن الشيعة والزيدية معتزلة، وأثبتها الأشاعرة مع نفي الجهة.
كما قال صاحب الجوهرة:
ويستحيل ضد ذي الصفات
في حقه كالكون في الجهات
قال الشارح: أي الجهات الست الفوق.. الخ، ولا يستطيع أن يفسر هذه الرؤية إلا الأشاعرة؛ إذ لا توجد ذات ترى، ولا تكون في جهة من الرائي، والحمد لله الهادي إلى التمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(21/128)
ثم تأويل جميع الصفات الثابتة في كتاب الله تعالى، وفي صحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كصفة الرضى، والرحمة، والغضب، واليدين، والضحك، وغيرها؛ اعتمادا على قول صاحب الجوهرة السابق، وهو تأويل كل نص أوهم تشبيها في عقولهم، ذلك أنهم لم يعرفوا من صفات الخالق جل جلاله، إلا ما شاهدوه في المخلوق الضعيف المسكين الذي كان معدوما ثم وجد؛ فتوهموا أنهم إن أثبتوا صفة لله، والمخلوق يتصف بها فقد شبهوا، فجرهم هذا التنزيه المتوهم إلى التعطيل؛ لأن كل لفظ يأتي وهو مشترك في الاسم لا في الحقيقة، فلابد من تأويله، أي صرف اللفظ عن ظاهره.
وقد أحسن الأستاذ الزنداني في المثل الذي ذكره في محاضرته التي ألقاها في الجامعة الإسلامية، حينما تعرض لهؤلاء المؤولين لصفات الباري عز وجل فقال: إن هؤلاء لم يروا إلا رأس الديك؟
يقول في شرح هذا المثل: يقال إن رجلا أعمى ردّ بصره عليه لحظة فرأى رأس ديك، ثم عاد أعمى كما كان، فكان إذا قيل له: إن فلانا بنى قصرا عظيما، قال: كيف هو من رأس الديك، وإذا قيل له: وصلت اليوم الميناء سفينة ضخمة، قال: كيف هي من رأس الديك، وهكذا كلما ذكر له شيء قال: كيف هو من رأس الديك؛ لأنه لم يشاهد غيره ويريد أن يقيس كل شيء على الذي شاهده.
وهكذا هؤلاء المؤولون لصفات الله تعالى، لم يشاهدوا إلا هذا المخلوق الضعيف الفاني المتصف بهذه الصفات الفانية بفنائه؛ فتوهموا أنهم إن أثبتوا لله هذه الصفات التي ذكرها في كتابه، وهو أعلم بنفسه من خلقه أو أثبتها له رسوله، وهو أعلم الخلق وأتقاهم وأخشاهم لله تعالى، فقد شبهوه بخلقه، والله تعالى أجل وأعظم من كل ما شاهدته الأبصار أو توهّمته العقول؛ {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .(21/129)
واقرأ قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك، يقول في الفقه الأكبر: وله يد ووجه ونفس، كما ذكر الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف [21] .
أما الذين ألفوا في الرد على الجهمية فمنهم إمام أهل السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكر في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) [22] أن كثيرا من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد [23] بالبصرة تأثروا بمذهب الجهم بن صفوان؛ يقول رحمه الله - بعد أن ذكر مناظرة الجهم للسُّمنية.. -: "ووجد ثلاث آيات من المتشابه، قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى/11) {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (الأنعام /3) {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (الأنعام/103) ، فبنى أصل كلامه على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية، فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة، ولا يفعل [24] ..الخ..
قلت: وهذا يوضح لنا أن كثيرا من المتكلمين أخذوا بآراء الجهم بن صفوان؛ فكان هذا الكتاب ردا عليهم جميعا.(21/130)
ولقول الجهم هذا الذي أحدث تصدعا في صفوف المسلمين وفرّق كلمتهم وجعلهم فرقا وأحزابا، هبّ علماء السلف في الرد عليه وبيان فساد آرائه.
فممن رد عليه وفند أقواله وبين زيفها:
- الإمام أحمد بن حنبل (245) إمام أهل السنة وقامع البدعة بما جاء في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة، وهو ما سبقت الإشارة إليه.
- ثم جاء البخاري محمد بن إسماعيل؛ ردّ على الجهمية القائلين بخلق القرآن بكتابه خلق أفعال العباد؛ فقد رد فيه على الجهمية التي تشمل المعتزلة والجهمية الأولى.
- وابن قتيبة عبد الله بن مسلم بن قتيبة (376) ؛ فقد رد على الجهمية بكتابه (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) ، كما بين المذهب الحق في أحاديث الصفات حيث قال: وعَدْل القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صحّ منها بنقل الثقات لها؛ فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنه يعجب وينزل إلى السماء، وأنه على العرش استوى، وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحد أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غدا إن شاء الله [25] .
- والإمام أبو سعيد الدارمي المتوفى سنة 280هـ، فقد ألف كتابا في الرد على الجهمية، وهو من أقوى ما كتب في الرد على الجهمية أسلوبا ومنهجا، وأمتنها حجة مستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومثله كتابه في الرد على بشر المريسي وهو بشر بن غياث بن أبي كريمة أبو عبد الرحمن المريسي وقد سماه جهميا، وغير هؤلاء من علماء السلف [26] .
نسبة الكتاب إلى ابن مندة:
جاء على ظهر الكتاب ما يأتي:
(الرد على الجهمية تأليف أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الحافظ) .
وقال فؤاد سزكين في تاريخ التراث ص 529: رفان كوشك رقم 510/ 5 من ورقة 55- 66، 1084هـ.(21/131)
وذكر السيوطي في الدر المنثور 3/ 142 أحاديث في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية عن ابن عباس وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر؛ فقال: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مندة في كتاب الرد على الجهمية وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية..الخامس، وهو الحديث رقم 231.
وقال: وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مندة في كتاب الرد على الجهمية.. عن أبي كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وهو الحديث رقم 30.
ثم قال: وأخرج ابن جرير وابن مندة في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمر، ص 29 كما ذكر في الجزء 6/244، 245 في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} عددا من النصوص منسوبة إلى ابن مندة في كتابه الرد على الجهمية أشرنا إلى ذلك في هامش كل صفحة ورد فيها النص.
هذه النصوص التي ذكرها السيوطي نقلا عن كتاب الرد على الجهمية لابن مندة وهي مطابقة لما في الكتاب بما لا يدع مجالا للشك أن هذا هو كتاب الرد على الجهمية لابن مندة.
وصف المخطوطة:
تقع في عشر ورقات، وتحوي الصفحة واحدا وثلاثين سطرا.
وكتبت في عام أربعة وثمانين بعد الألف ضمن مجموعة من العقائد في مكتبة ريفان كوشك تحت رقم 510/ 5 (ص ورقة 55- 66، 1084هـ) .
أما منهج المصنف في الكتاب فقد سلك فيه مسلك المحدثين من حيث إيراد النصوص بأسانيدها، وقد اشتمل على اثنين وتسعين حديثا وأثرا.
عملي في الكتاب:
1- ترجمت للمؤلف ترجمة مختصرة، كما أشرت إلى مصادر ترجمته في الحاشية.
2- حققت النص، وذلك بمقابلته بالنصوص مكان ورودها.
3- خرجت الآيات القرآنية.(21/132)
4- خرجت الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب، وقد عزوتها إلى مصادرها مشيرا إلى الجزء والصفحة.
5- شرحت الألفاظ الغريبة.
6- ذكرت في المقدمة موضوع الكتاب، ومنهج السلف في الرد على الجهمية ومن سلك مسلكهم؛ ولذلك فقد اكتفيت بالتعليق على الباب الأول من أبواب الكتاب لبيان منهج السلف في ذلك حتى لا نثقل الكتاب بالتعليقات، ولأن القول في صفة كالقول في جميع الصفات.
7- وضعنا فهرسا للموضوعات وآخر للمراجع.
الرموز المستعملة في التخريج:
خ- البخاري.
م- مسلم.
حم - مسند الإمام أحمد.
جه – ابن ماجه.
ن - النسائي.
وما عدا ذلك أصرح باسم الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخبرنا الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن مندة [27] ، قال: قول الله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [28] ، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، واختلاف الصحابة في معنى تأويله.
1- حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف الأصم بنيسابور، ثنا محمد بن عبد الوهاب بن حبيب النيسابوري البصري، ثنا جعفر بن عون، هشام بن سعد، ح وثنا إبراهيم بن محمد الديبلي بمكة، ثنا إبراهيم بن عيسى الشيباني البصري، ثنا سويد بن سعيد، ثنا جعفر بن ميسرة الصنعاني، جميعا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.(21/133)
أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا عز وجل يوم القيامة؟ قال: "هل تضامون [29] في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب"؟ قالوا: لا. قال: "فإنكم لا تضامون في رؤية أحدهما [30] ؛ فإذا كان يوم القيامة نودي ليتبع كل أمة ما كانت تعبد؛ فلا يبقى أحد كان يعبد شيئا إلا تبعه حتى لا يبقى إلا المؤمنون، فيأتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، فيقول: هل بينكم وبينه آية، فيقولون: نعم، يكشف عن ساق فلا يبقى أحد ممن كان يعبد الله عز وجل إلا خر له ساجدا" [31] . وذكر الحديث
2- أخبرنا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي بمصر، ثنا روح بن الفرح، ح/ وثنا عبد الله بن جعفر الوردي بمصر، ثنا يحيى بن أيوب المصري، ثنا [32] يحيى بن بكير، ثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: "ويكشف عن ساقيه جل وعز".
قال أبو عبد الله [33] : وهذا حديث ثابت باتفاق من البخاري [34] ومسلم بن الحجاج [35] ، وقد رواه آدم بن أبي إياس عن الليث بن سعد، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم مثله وقال: "يكشف عن ساقه جل وعز".
وقد اختلف الصحابة في معنى قوله جل وعز: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} .
3- أخبرنا علي بن العباس بن الأشعث الغزي بغزة، ثنا محمد بن حم الطهراني، ثنا عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود في قوله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [36] قال: عن ساقيه.
قال أبو عبد الله: هكذا في قراءة ابن مسعود.
ويكشف بفتح الياء وكسر الشين [37] .(21/134)
4- وأخبرنا علي بن العباس، ثنا محمد بن حماد، ثنا عبد لرزاق، أنبا ابن التيمي [38] ، عن أبيه [39] ، عن مغيرة [40] ، عن إبراهيم 6 في قوله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال ابن عباس: يكشف عن أمر عظيم، ثم قال: قد قامت الحرب على ساق [41] ، قال إبراهيم: وقال ابن مسعود: يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن، ويقسو كل كافر فيكون عظما واحدا.
5- (ثنا) عمر بن الربيع بن سليمان بمصر، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الغني بن سعيد، ثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: شدة الآخرة [42] .
6- وأخبرنا محمد بن أيوب بن حبيب الرقي، ثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا ورقاء، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [43] قال: عن شدة الأمر. قال ابن عباس: أشد ساعة تكون يوم القيامة [44] .
7- أخبرنا علي بن العباس، ثنا محمد بن حماد، أنبا عبد الرزاق، أنبا معمر، عن قتادة في قوله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: عن شدة الأمر [45] .
قال أبو عبد الله: اختلفت الروايات عن عبد الله بن عباس في قوله جل وعز: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ؛ فروى أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} بالياء وضمها، قال يعقوب الحضرمي عن ابن عباس: إنه قرأ {يَوْمَ يُكْشَفُ} عن ساق بالتاء مفتوحة [46] .
قال أبو حاتم: من قرأ بالتاء، أي تكشف الآخرة عن ساق، يستبين منها ما هو غائب عنه، ومن قرأ يكشف، يبين عن شدة، وهي قراءة الأئمة السبعة، وكذلك قرأ طلحة بن مصرف، والأعمش، قال أبو عبد الله ابن مسعود: يوم يكشف عن ساق بفتح الياء وكسر الشين [47] ، قال أبو حاتم السختياني: وقرأ الأخفش: نكشف عن ساق، بالنون على معنى قراءة عبد الله.(21/135)
8- أخبرنا علي بن أحمد بن الأزرق بمصر، ثنا أحمد بن محمد بن مروان.. ثنا أحمد بن محمد بن أبي عبد الله البغدادي، ثنا يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [48] قال: "يكشف الله عز وجل عن ساقه" [49] .
باب في قول الله عز وجل:
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [50] ، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جل وعز يضع رجله في النار فتقول قَط قط".
1- (9) - أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن القطان بنيسابور، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فإني لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال جل وعز للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما علي ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله جل وعز ينشئ لها خلقا" [51] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس؛ فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: فذهب إليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله، (قال: فزادوه ورحمة الله) ؛ [52] فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعا؛ فلا يزال الخلق ينقص بعده حتى الآن" [53] .
قال أبو عبد الله: وهذا حديث ثابت باتفاق من أهل المعرفة بالأثر.(21/136)
2- (10) - أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الوراق، ثنا عبد الله بن يحيى، ثنا المقدمي، ثنا أشعث بن عبد الله الخراساني، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع رجله أو قدمه فتقول: قَط قط".
ورواه القواريري عن حرمي عن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يضع الله رجله في النار فتقول: قَط قط" [54] .
قال أبو عبد الله: وهذا حديث ثابت باتفاق.
ذكر خبر آخر يدل على ما تقدم:
3- (11) - أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا إبراهيم بن أبي الليث، ثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد قول أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه
والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق صدق"، وقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة
حمراء يصبح لونها يتورد
تأتي فما تطلع لنا في رسلها
إلا معذبة وإلا تجلد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق".
قال أبو عبد الله: هذا حديث مشهور عن محمد بن إسحاق، رواه عبدة بن سليمان [55] ويونس بن بكير وغيرهما.
4- (12) - أخبرنا أحمد بن سليمان بن حذلم، ثنا أبو زرعة، ثنا يوسف بن بهلول [56] ، ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّق أمية بن أبي الصلت في شعره حيث قال:
رجل وثور تحت رجل يمينه
والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق". ثم ذكر الحديث.(21/137)
5- (13) - أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله البجلي، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، ثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم، ثنا يزيد بن ربيعة، ثنا أبو الأشعث الصنعاني، سمعت ثوبان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يقبل الجبار عز وجل فيثني رجله على الجسر فيقول: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم فينصف الخلق بعضهم من بعض، حتى إنه لينصف الجماء من العضباء تنطحها النطحة" [57] .
6- (14) - أخبرنا أحمد بن سليما بن حذلم، ثنا أبو زرعة، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يطوي المظالم يوم الجمعة؛ فيجعله تحت قدمه، إلا ما كان من أجر الأجير، وعقر البهيمة وفض الختم؛ يعني الأبكار" [58] .
خبر آخر يدل على ما تقدم من ذكر القدمين:
7- (15) - أخبرنا خيثمة بن سليمان، ثنا إسحاق بن سيار النصيبي، ثنا أبو حاتم، ح/ وثنا إبراهيم بن محمد بن عمارة، ثنا أحمد بن يحيى الصوفي، ثنا شجاع بن مخلد، ثنا أبو عاصم عن سفيان، عن عمار الدهني عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال شجاع في حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال: "كرسيه موضع القدمين، والعرش لا يقادر قدره" [59] .
قال أبو عبد الله: هكذا رواه شجاع بن مخلد في التفسير مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إسحاق بن سيار في حديثه عن أبي عاصم، من قول ابن عباس [60] ، وكذلك رواه أصحاب الثوري عنه، وكذلك روى عن عمار الدهني موقوفا، ورواه أبو بكر الهذلي وغيره عن سعيد بن جبير من قوله، قال: الكرسي موضع القدمين، ورواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي علمه [61] ، ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير.(21/138)
8- (16) - أخبرنا بذلك أحمد بن محمد بن إبراهيم مولى بني هاشم، ثنا محمد بن عبد الوهاب عن ابن أبي تمام، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا هشيم عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله جل وعز: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال: علمه [62] .
قال أبو عبد الله: وهذا حديث مشهور عن مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة لم يتابع عليه، وروي عن أبي موسى الأشعري، أن الكرسي موضع القدمين.
9- (17) – أخبرنا بذلك أحمد بن إبراهيم البغدادي بمكة، ثنا محمد بن يزيد، ثنا علي بن مسلم، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى قال: الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل [63] .
قال أبو عبد الله: وروى نهشل عن الضحاك عن ابن عباس {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ} قال: علمه، وهذا خبر لا يثبت؛ لأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، نهشل متروك.
ومما يدل على صحة قول ابن عباس، وأبي موسى في الكرسي ما ذكره الربيع بن أنس عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الكرسي وسع السموات والأرض، كيف بالعرش؛ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [64] .
باب في قول الله عز وجل:
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [65] .
1- (18) أخبرنا محمد بن محمد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا مسعر بن كدام، ح/ وأخبرنا علي بن العباس الغزي، ثنا محمد بن حماد، ثنا عبد الرزاق، أنبا الثوري؛ جميعا عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي [66] .(21/139)
وقال أبو عبد الله: هكذا رواه الثوري، ومسعر عن الأعمش، ورواه أسباط بن محمد وعبدة بن سليمان، وغيرهما عن الأعمش، عن أبي الضحى [67] ، عن ابن عباس مثله.
2- (19) وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن هاشم الأذرعي، ثنا هارون بن كامل، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، ثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: عهد إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما، يقول: لم نجد له عزما [68] .
3- (20) أخبرنا خيثمة بن سليمان، ثنا محمد بن سعد العوفي، ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [69] ، يقول: لم نجد له حفظا [70] .
4- (21) أخبرنا عمر بن الربيع بن سليمان بمصر، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الغني بن سعيد، ثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس، ومقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [71] يريد صبرا عن أكل الشجرة.
قال أبو عبد الله: وكذلك قاله قتادة [72] والسدي، وقال الحسن وعبيدة بن عمير: لم يكن آدم من أولي العزم.
5- (22) أخبرنا أبو عمر بن ممل أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم المديني، ثنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي قال: ولو أن أحلام بني آدم كلهم جُمعت فحطت في كفة، وحلم آدم في كفة لرجح (حلم) آدم بأحلامهم، يقول الله عز وجل: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [73] .
قال أبو عبد الله: ومما يشهد لهذا المعنى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بأسانيد صحاح وهو:(21/140)
6- (22) ما أخبرنا به أبو عامر بن ممل أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم مولى بني هاشم، ثنا محمد بن إبراهيم بن مسلم أبو أمية، ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: رجل آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: أي رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد وجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطئ فخطئت ذريته" [74] .
قال أبو عبد الله: هذا حديث صحيح من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواه خلاد وغيره، وروى هذا الحديث صفوان عن عيسى، عن الحارث بن أبي ذباب، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهو صحيح أيضا، ورواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، فقال: عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.(21/141)
7- (24) أخبرنا بذلك خيثمة بن سليمان، ثنا عباس بن الوليد بن مزيد البيروتي، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدثه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جل وعز لما خلق آدم مسح ظهره فجرت من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ونزع ضلعا من أضلاعه فخلق منه حوى، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق" {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [75] . قال: "ثم أقبس كل نسمة رجل من بني آدم بنوره في وجهه، وجعل البلوى الذي كتب أنه يبتليه بها في الدنيا من الأسقام، ثم عرضهم على آدم، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك فإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي يشكروا نعمتي يا آدم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا رب من هؤلاء من أراهم أظهر الناس نورا؟ قال: هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يا آدم من ذريتك، قال: فمن هذا الذي أراه أظهرهم نورا؟ قال: هذا داود يكون في آخر الأمم. قال: يا رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب كم جعلت عمري؟ قال: كذا وكذا، قال: يا رب فزده من عمري أربعين سنة حتى يكون عمره مائة سنة، قال: أتفعل يا آدم؟ قال: نعم يا رب. قال: نكتب ونختم، إنا إن كتبنا وختمنا لم نغير. قال: فافعل أي رب". قال رسول الله صلى عليه وسلم: "فلما جاء ملك الموت إلى آدم ليقبض روحه قال: ماذا تريد يا ملك الموت؟ قال: أريد أن أقبض روحك. قال: ألم يبق من أجلي أربعون سنة؟ قال: ألم تعطها ابنك داود؟ قال: لا". قال: فكان أبو هريرة يقول: فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته [76] .
قال محمد بن شعيب: وأخبرني أبو الحفص عثمان بن أبي العاتكة [77] أن عمر آدم كان ألف سنة.(21/142)
8- (25) أخبرنا أحمد بن إبراهيم البغدادي بمكة، ثنا محمد بن يزيد الطبري، ثنا محمد بن أبي حماد الرازي، ثنا ابن سليم، عن عمارة، عن أبي محمد رجل من أهل المدينة، قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [78] قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: "خلق الله جل وعز آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمين فأخرج ذرا فقال: ذر وذراتهم للجنة، ثم مسح ظهره بيده اليسرى وكلتا يديه يمين، فقال: ذر وذراتهم للنار؛ يعملون فيم شئت من عمل وأختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار" [79] .
قال أبو عبد الله: أبو محمد المدني الذي روى هذا الحديث عن عمر يقال إنه مسلم بن يسار [80] ، وقيل نعيم بن ربيعة [81] ، رواه مالك بن أنس في الموطأ [82] عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار، عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحديث، ورواه أبو عبد الرحيم الرقي عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
باب في قوله جل وعز:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [83] ، وذكر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في معنى صفة خلقهم، وإقرارهم، وإشهادهم على أنفسهم.(21/143)
1- (26) أخبرنا أحمد بن سليمان بن حذلم الدمشقي، ثنا جعفر بن محمد القلانسي، ثنا أبو سلمة يزيد بن خالد بن مرشد، ثنا سليمان بن حيان [84] ، عن ابن أبي ذباب المديني [85] ، أخبرني سعيد المقبري، ويزيد بن هرمز عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وداود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له؛ فعطس فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك ربك، ائت أولئك الملأ من الملائكة فقل: السلام عليكم، فأتاهم فسلم عليهم فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم، ثم قبض يديه وأخذ يديه - وكلنا يديه يمين -ففتحها فإذا فيها صورة ذريته كلهم، وإذا كل رجل مكتوب عنده أجله، قال: وإذا قد كتب له ألف سنة، وإذا قوم عليهم النور، قال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور؟ قال: هؤلاء الأنبياء أو الرسل الذين أرسلوا إلى عبادي أو خلقي، قال: وإذا فيهم رجل هو أضوأهم نورا ولم يكتب له إلا أربعين سنة [86] ، قال: يا رب ما بال هذا هو من أضوءهم نورا ولم يكتب له إلا أربعين سنة، قال: ذلك ما كتبت، قال: يا رب زده من عمري ستين سنة". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلما أسكنه الله الجنة، وأهبط إلى الأرض كما ذكره الله في القرآن فأتاه الموت، فقال: عجلت علي، فقال: ما فعلت, قال: بقي من عمري ستون سنة! قال: ما بقي من عمرك شيء، سألت ربك أن يكتبه لابنك داود، قال: ما فعلت". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنسي فنسيت ذريته فجحد فجحدت ذريته، فمن يومئذ وضع الكتاب وأمر بالشهود [87] ، فلقيه موسى فقال: أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لك، وأسكنك الجنة فأخرجتنا [88] من الجنة بذنبك، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله جل وعز برسالته، وآتاك التوراة فيها بينات كل(21/144)
شيء؛ فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين عاما، قال: وجدت فيها فعصى آدم ربه فغوى، قال: نعم، قال: فتلومني على عمل كتبه الله علي من قبل أن أخلق بأربعين عاما". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم [89] موسى" [90] .
قال أبو عبد الله: روى هذا الحديث أحمد بن عبد العزيز الواسطي، ومخلد بن مالك؛ جميعا عن أبي خالد الأحمر [91] بهذا الإسناد، ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي خالد الأحمر على هذا الإقرار بين هذه الأسانيد.
2- (27) أخبرنا أحمد بن مهران الفارسي، ثنا عبيد الله بن سعيد بن عفير، ثنا أبي، ح/ وأنبا إسحاق بن إبراهيم، بن هاشم الأذرعي، ثنا يحيى بن أيوب المصري، ثنا يحيى بن بكير؛ جميعا عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره أن مسلم بن يسار أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [92] ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: "إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون"، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جل وعز إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار فيدخله به النار" [93] .(21/145)
3- (28) أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى بن مندة، وعبد الله بن إبراهيم بن المقري، قالا ثنا أبو مسعود الرازي، أنبا مسلم بن إبراهيم، ثنا روح بن المسيب، عن يزيد البصري، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم قبض من صلبه قبضتين فوقع كل طيب بيمينه، وكل خبيث بيده الأخرى، فقال: هؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة، وهؤلاء أصحاب الشمال أهل النار ولا أبالي، ثم ردّهم في صلب آدم، فعلى ذلك ينسلون".
4- (29) أخبرنا أحمد بن محمد يبن إبراهيم مولى بني هاشم، ثنا أبو أمية الطوسي، ثنا حسين بن محمد المروزي، ثنا جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان، يعني عرفة؛ فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا وقال": {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} "إلى قوله": {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [94] .
قال أبو عبد الله: وهذا حديث تفرد به حسين المروزي، عن جرير بن حازم، وهو أحد الثقات، ورواه حماد بن زيد، وعبد الوارث، وابن علية، وربيعة بن كلثوم؛ كلهم عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفا [95] ، وكذلك رواه حبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بذيمة، وعطاء بن السائب [96] كلهم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله، وزاد عطاء في حديثه قال: "أهبط الله عز وجل آدم (بدخنا) [97] ومسح ظهره" [98] .
قال أبو عبد الله: وقد اختلف أهل التأويل في قوله جل وعز: {شَهِدْنَا} .
فقالت طائفة: هو خبر من الله عز وجل عن نفسه وملائكته إذا أقروا بربوبيته حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فقال الله وملائكته: شهدنا بإقراركم.
ذكر من قال ذلك:(21/146)
5- (30) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف النيسابوري، والحسن بن يوسف الطرائفي بمصر، قالا: ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا روح بن أسلم، ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن (أبي) [99] بن كعب في قوله جل وعز {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [100] ، قال: جمعهم جميعا: فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم ليتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} .. الآية. فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم أباكم آدم عليه السلام أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا؛ اعلموا أنه لا إله غيري (ولا رب غيري) [101] ؛ فلا تشركوا بي شيئا، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد إنك ربنا لا رب لنا غيرك.. ولا إله لنا غيرك، فأقروا يومئذ بالطاعة [102] .
وقال آخرون: قوله جل وعز: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} يعني أن الرسل أجابوا من بينهم، قاله وهب بن منبه، وعبد الملك بن أبي يزيد الصنعاني، وهذا مما يوافق قراءة من قرأ بالياء (أن يقولوا) ، وهو قراءة أهل مكة والبصرة، وقراءة عامة أهل المدينة: (أن تقولوا) بالتاء على وجه الخطاب، كيلا يقولوا يوم القيامة كنا لا نعلم.(21/147)
واختلف أهل التأويل في معنى الذرية، ومعرفتهم حين أخرجهم من صلب آدم وأخذ عليهم الميثاق الأول وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، أجمعوا على أنهم كانوا في صور الذر.
ثم اختلفوا فقال بعضهم: أرواح بلا أجسام [103] ، ومعرفة بلا عقول.
وقال بعضهم: أرواح بأجسام، ومعرفة بعقول.
وأولها أصحها في الرواية؛ أن الله أخذ عليهم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم كأنهم الذر من آذيّ من ماء.
6- (31) أخبرنا إبراهيم بن محمد الرملي، ثنا موسى بن هارون، ثنا أبو هلال، ثنا أبو حمزة، عن ابن عباس، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: أخذ الله ميثاق بني آدم من آذى الماء كأنهم الذر في آذيّ الماء [104] .
ذكر من قال أخرجهم من صلبه نطفا ووجوه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالسرج:
7- (22) أخبرنا محمد بن يحيى العجيقي بمكة، ثنا عبد الله بن علي النيسابوري، ثنا عبد الله بن سعيد، عن يحيى بن يمان [105] ، عن أبي جعفر الرازي، عن أبي العالية عن أبيّ في قوله جل وعز: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: استخرجهم من صلبه نطفا، ووجوه الأنبياء كالسرج [106] ، وكذلك رواه النضر بن عربي [107] عن عكرمة قال: كلمته النطف وأقرت بالعبودية، وهذا لا يعرف إلا من هذا الوجه عن عكرمة ولا يثبت.
ذكر من قال أخرجهم صورا ثم استنطقهم:(21/148)
8- (33) أخبرنا محمد بن يعقوب والحسن بن يوسف الطرائقي بمصر قالا: ثنا إبراهيم بن مرزوق ثنا روح بن مسلم، ثنا معتمر بن سليمان، (سمعت) [108] أبي يحدث عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبيّ في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [109] قال: جمعهم فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم، قال: فما كان روح عيسى في تلك الأرواح التي أخذ الله تعالى عليها العهد والميثاق، قال: نعم أرسل ذلك الروح إلى مريم، قال الله جل وعز: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} إلى قوله {أَمْراً مَقْضِيّاً} [110] ، قال: حملت الذي خاطبها وهو روح عيسى عليه السلام، فقال: فسأله مقاتل بن حيان من أين دخل الروح؟ فذكر عن أبي العالية عن أبيّ أنه دخل من فيها [111] .
ذكر من قال كانوا مثل الخردل:
قال أبو عبد الله: روى طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال: أخذهم في كفه كأنهم الخردل الأولين والآخرين؛ فيميلهم في يده مرتين أو ثلاثا يرفع يده ويطأطئها ما شاء من ذلك، ثم ردهم في أصلاب آبائهم حتى أخرجهم قرنا بعد قرن.
ذكر من قال سماهم بأسمائهم:
9- (34) أخبرنا أحمد بن محمد بن أبان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا ابن نمير عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره مثل الذر؛ فسماهم فقال: هذا فلان وهذا فلان، ثم قبض قبضتين فقال للتي في يمينه: ادخلوا الجنة، وقال للتي في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي [112] .
ذكر من قال استخرجهم كما يستخرج المشط:(21/149)
رواه عن مجاهد عن ابن عمر، وقال: استخرج الله من ظهر آدم عليه السلام كما يستخرج المشط [113] .
ذكر من قال أقرت الأرواح قبل أن تخلق الأجساد:
رواه موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، ولا يثبت.
ذكر من قال أقرت الأجساد بأرواح في صورهم التي خلقوا فيها على ما يخلقهم من البلاء:
رواه حوشب عن الحسن قوله.
والذي يدل على أن الله عزّ وجل استنطقهم فنطقوا عن أجساد وأرواح ومعرفة وأفهام، ما أخبرنا به.
10- (35) أحمد بن محمد الوراق، ثنا محمد بن إسماعيل عن حجاج بن محمد [114] ، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى [115] ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن (الله) [116] ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نسمة مخلوقة للنار سوداء فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عليهم (عهودهم) على الإيمان والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره بني آدم كلهم؛ فأشهدهم على أنفسهم وصدقوا وعرفوا وأقروا.
وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل.
قال مجاهد [117] عن ابن عباس قال: إن الله جل وعز لما أخرجهم قال: يا عبادي أجيبوا الله، والإجابة الطاعة؛ فقالوا: اللهم أطعناك لبيك اللهم لبيك، فأعطيها إبراهيم عليه السلام في المناسك: لبيك اللهم لبيك، قال: وضرب متن آدم عليه السلام حين خلقه.
قال ابن عباس: خلق آدم ثم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر؛ فكلمهم ثم أعادهم في صلبه، فليس أحد إلا قد تكلم وقال: ربي الله، وكل مخلوق خلق وهو كائن إلى يوم القيامة، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها [118] .
قال ابن عباس وأبي بن كعب من رواية أخرى: استنطقهم فنطقوا.(21/150)
11- (36) أخبرنا مسلم بن الفضل بمكة، ثنا محمد بن عثمان بن إبراهيم القيسي، ثنا أبو بلال الأشعري، ثنا أبو بشر، عن الحكم [119] ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله جل وعز ضرب منكبه الأيمن - يعني آدم - فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء؛ فقال: هؤلاء للجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء؛ فقال: هؤلاء للنار، ثم أخذ عهودهم على الإيمان، والمعرفة والتصديق له كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وقروا [120] .
قال أبو عبد الله: واختلفوا في معنى الإجابة لما أخذ عليهم الميثاق؛ فقال عامتهم: أجابوا كلهم طائعين غير مكرهين، رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي قال: أقروا له يومئذ بالطاعة [121] . وكذلك غيره من التابعين.
قال أبو عبد الله: وقال غيره أجابوا على معنى الوحدانية أنه ربهم، لا يسأل كافر ولا غيره إلا قال: ربي الله [122] .
12- (37) أخبرنا علي بن العباس بغزة، ثنا محمد بن حماد، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد يعني ابن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [123] قال: فمسح الله جل وعز صلب آدم عليه السلام فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم؛ فأعطوه ذلك؛ فلا يسأل أحد كافر ولا غيره: من ربك، إلا قال: الله ربي.
وقال السدي: بل أعطاه طائفة طائعين، وطائفة مكرهين [124] .
(البقية في العدد القادم)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مصادر ترجمة ابن مندة:
1- سير أعلام النبلاء 11/ ورقة 7- 10 خ / المجمع اللغوي بدمشق.
2- تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1031 ط الثالثة سنة 1376هـ.
3- البداية والنهاية 11/ 336 ط الأولى سنة 1966م.(21/151)
4- تاريخ دمشق لابن عساكر 15/ ورقة 32- 34 خ/ المجمع الغوي بدمشق.
5- طبقات الحنابلة لأبي يعلى 2/167 سنة 371هـ السنة المحمدية.
6- المنتظم لابن الجوزي 7/ 232- 233.
وقد استوفينا ترجمته في تحقيقنا لكتاب الإيمان الذي طبع بمطابع الجامعة الإسلامية.
[2] خلافة المعتصم سنة 248 البداية والنهاية 11/ 2.
[3] سير أعلام النبلاء 11/ 8/ 2.
[4] الظاهرية: توحيد 36 (147) ورقة قبل 527هفؤاد سزكين تاريخ التراث ص 529.
[5] طبع بمطابع الجامعة الإسلامية بتحقيقنا.
[6] البداية والنهاية 10/ 27- 29.
[7] انظر فتوى الحموية الكبرى لابن تيمية ص 98 مع نفائس بتحقيق محمد حامد الفقي الطبعة الثالثة سنة 1374هـ.
[8] مقدمة عقائد السلف ص 18 بتحقيق علي سامي النشار.
[9] العلو للذهبي ص 101.
[10] العلو للذهبي ص103- 104.
[11] العلو للذهبي ص 106.
[12] العلو للذهبي ص 109.
[13] العلو للذهبي ص 110.
[14] العلو للذهبي ص 120.
[15] العلو للذهبي ص 161.
[16] انظر تبيين كذب المفتري لابن عساكر 152- 163 طبعة سنة 1399هدار الكتاب العربي بيروت.
[17] العلو للذهبي ص 163.
[18] السلف يقولون: الاستواء علوم، والكيف مجهول، وتقدم قول الإمام مالك.
[19] تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص 13- 54 المطبعة الخيرية شهر رمضان سنة 1310هـ.
[20] مشكل الآثار لابن فورك ص 75- 82 طبعة دائرة المعارف العثمانية سنة 1391هـ.
[21] الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة رحمه الله ص 167- 168 طبعة دار الكتاب العربي بيروت سنة 1399هـ.(21/152)
[22] وقد شكك زاهد الكوثري في نسبته إلى الإمام أحمد في تعليقه على كتاب ابن قتيبة (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية) مكتبة القدسي القاهرة 1349هـ ص 55 بدعوى أن نسبته إليه إنما كانت تعزى إليه في القرن الرابع الهجري عن طريق رواية مجهولة، يقول الدكتور علي سامي النشار - وأتى بعلل قادحة – حسب تصوره - للمتن والسند، ولا ندري ما هي هذه العلل القادحة التي صرح بأنه ذكرها في موضع آخر، ولم نجد لها ذكرا في تعليقاته التي نعلمها. انظر مقدمة عقائد السلف ص 13 للدكتور علي سامي النشار.
وقد أثبت صحة نسبة الكتاب للإمام أحمد حيث قال: إن الخلال رواه عن طريق ابن أحمد بن حنبل وهو عبد الله، وقد نص الخلال على هذا الكتاب في كتابة السنة، وأورده بجملته لأنه قد جمع في هذا الكتاب نصوص الإمام أحمد وكلامه، ثم ذكر أن ممن أثبته أيضا البيهقي في كتابه الذي سماه (جامع النصوص) وابن القيم في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية) ص 78، 82، وقال: ولم يسمع عن أحد من متقدمي أصحابه ولا متأخريهم طعن فيه، وذكره أيضا القاضي أبو الحسين بن القاضي بن يعلى، كما ذكره صاحب المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد. انظر مقدمة العقائد المشار إليها من ص 13- 15.
[23] عمرو بن عبيد بن البصري المعتزلي التميمي مولاهم أبو عثمان البصري، من أبناء فارس شيخ القدرية والمعتزلة، قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه، وقال علي بن المديني ويحيى بن معين ليس بشيء، وزاد ابن معين: وكان رجل سوء وكان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع، وقال الفلاس: متروك صاحب بدعة، وقد ذكر ابن كثير الأقوال فيه، وأن ما نسب إليه من زهد كان يغر الناس به، وأن الزهد لا يدل على الصلاح وضرب أمثلة لذلك. البداية والنهاية 10/ 78- 80.(21/153)
[24] الرد على الجهمية للإمام أحمد بن جنبل ص 67، تحقيق علي سامي النشار، وص 104 تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. طبعة دار اللواء الرياض.
[25] الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لابن قتيبة ص 243 تحقيق علي سامي النشار.
[26] انظر ص 359 - مجموع عقائد السلف: تحقيق علي سامي النشار.
[27] هو المصنف تقدم التعريف به.
[28] القلم: آية 42.
[29] لا تضامون) يروى بالتشديد والتخفيف، فالتشديد معناه: لا ينضم بعضكم إلى بعض وتزدحمون وقت النظر إليه. ومعنى التخفيف: لا ينالكم ضيم في رؤيته، فيراه بعضكم دون بعض، والضيم: الظلم. النهاية 3/ 101 ط الأولى عام 1383هـ- 1963م.
[30] في مسلم 1/ 167 ح 302 قال: (ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) .
[31] م/ في كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية 1/ 167 ح 302 من طريق سويد بن سعيد قال: حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به.
[32] في الأصل (وثنا) .
[33] أبو عبد الله هو المصنف، تقدم التعريف به.
[34] خ / في التوحيد / باب {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ، فتح الباري 13/ 420 ح 7439 من طريق يحيى بن بكير.
[35] م/ في الإيمان تقدم ح رقم 1.
[36] سورة القلم آية 42.
[37] وذكر السيوطي في الدر المنثور 6/ 254 أن الحديث أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مندة عن ابن مسعود، قال ابن مندة: لعله في قراءة ابن مسعود يكشف بفتح الياء وكسر الشين.
[38] هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي أبو محمد البصري، ثقة. انظر تهذيب التهذيب 4/ 227.(21/154)
[39] مغيرة بن مقسم، بكسر الميم الضبي مولاهم أبو هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس ولا سيما عن إبراهيم، من السادسة مات سنة ست وثلاثين. ع /. تقريب التهذيب 2/ 270. قلت: وهنا روى عن إبراهيم، وهو النخعي، ولم يصرح بالسماع، وإنما عنعن.
[40] هو سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر البصري. ثقة. تهذيب التهذيب 4/ 202.
[41] أخرجه ابن جرير في التفسير ج 29/ 38، من طريق ابن حميد ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم به.
[42] أخرجه ابن جرير في التفسير ج 29/ 39، وذكر السيوطي في الدر المنثور 6/ 255 أن ابن مندة أخرجه.
[43] سورة القلم آية 42.
[44] ابن جرير الطبري، التفسير ج 29/ 39.
[45] ابن جرير الطبري، التفسير ج 29/ 39.
[46] ابن جرير الطبري، التفسير ج 29/ 42، من طريق عكرمة ثم قال: وذكر ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} بمعنى تكشف القيامة عن شدة شديدة، والعرب تقول: كشف هذا الأمر عن ساق، إذا صار إلى شدة ومنه قول الشاعر:
كشفت لهم عن ساقها ويدا من الشر الصراح
وذكر السيوطي في الدر المنثور 6/ 255 أن الحديث أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مندة من طريق عمرو بن دينار.
[47] في الدر المنثور 6/ 254 قال ابن مندة: لعله في قراءة ابن مسعود: يكشف بفتح الياء وكسر الشين.
[48] القلم آية 42.
[49] ذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 254 قال: أخرجه ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة، وأصل الحديث في الصحيحين كما تقدم ح رقم 2. وإنما الغرض من ذكره عن السيوطي هو إثبات نسبة الكتاب لابن مندة؛ لأن السيوطي اطلع على هذا الكتاب ونقل منه نصوصا سنشير إليها في مواضعها لهذا الغرض.
[50] سورة ق آية 20.(21/155)
التعليق: مذهب سلف هذه الأمة في آيات الصفات وأحاديثها إثبات معانيها لله عز وجل على مراد الله؛ لأنه أعلم بنفسه من خلقه، وكذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وصف به ربه عز وجل؛ فهو أعلم الخلق بما يليق بجلال الله، كل ذلك على ما يليق بجلاله وكماله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل وبلا تعطيل، بل على أساس قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وهذا هو منهج السلف في إثبات آيات الصفات وأحاديثها، وقد أتبع ابن مندة الآيات والأحاديث التي أوردها تحت أبواب هذا الكتاب بأقوال الصحابة والتابعين؛ ليبين أن ذلك هو منهجهم في إثبات صفات الله تعالى، وأن الخير كل الخير في اتباع سلف هذه الأمة لا سيما أهل القرون المفضلة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
[51] خ / التفسير / باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فتح الباري 8/ 595 ح 4850 من طريق عبد الله بن محمد ثنا عبد الرزاق به.
وم / الجنة / باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4/ 2186 ح 36 من طريق محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق به.
وحم /2/ 214 من طريق عبد الرزاق به.
[52] ما بين القوسين من البخاري ومسلم.
[53] خ / الأنبياء / باب خلق آدم وذريته / فتح الباري 6/ 362 ح 3326 من طريق عبد الله بن محمد ثنا عبد الرزاق به، وفي الاستئذان / باب بدء السلام، فتح الباري 11/ 3 ح 6227 من طريق يحيى بن جعفر ثنا عبد الرزاق به.
م/ في الجنة / باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير 4/ 2183 ح 28 من طريق محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق به.
[54] خ / التفسير / باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فتح الباري 8/ 594 ح 4848 من طريق عبد الله بن أبي الأسود ثنا حرمي بن عمارة به.
وفي الأيمان والنذور/ باب الحلف بعزة الله فتح الباري 11/ 545 ح 6661 من طريق آدم ثنا شيبان ثنا قتادة به.(21/156)
م / الجنة / باب النار يدخلها الجبارون 4/ 2187 ح 37 من طريق عبد بن حميد ثنا يونس بن محمد ثنا شيبان عن قتادة به.
[55] أخرجه حم / 1/ 256 من طريق عبد الله بن محمد قال ثنا عبدة بن سليمان به، وهو الحديث التالي.
[56] يوسف بن بهلول التميمي الأنباري بفتح الهمزة وسكون النون بعدها موحدة، نزيل الكوفة، ثقة من العاشرة، مات سنة ثماني عشرة، خ تقريب 2/ 279- 280.
[57] لم أعثر على من خرجه، وتقدم الحديث رقم 10 المتفق عليه يغني عنه.
[58] مشكل الآثار لابن فورك ص 97، وراشد بن سعد هو المقرائي، لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. انظر تهذيب التهذيب 3/ 226.
[59] الدارقطني / في الصفات ورقة 3/ ب. خ.
[60] ابن جرير الطبري التفسير 3/ 10.
[61] ابن جرير الطبري التفسير 3/ 11.
[62] تقدم قول المصنف إن جعفر بن أبي المغيرة ليس بالقوي في سعيد بن جبير ولم يتابع.
[63] ابن جرير الطبري التفسير 3/10 من طريق علي بن مسلم بن سعيد الطوسي، وإسناده حسن.
[64] ابن جرير الطبري. التفسير 3/10.
[65] طه آية / 115
[66] ابن جرير. التفسير 16/ 221
[67] أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح بالتصغير الهمذاني الكوفي العطار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل، من الرابعة، مات سنة مائة. ع تقريب 2/ 245.
[68] ابن جرير، التفسير 16/ 221، وفيه: لم نجد له عزما.
[69] طه آية / 115.
[70] ابن جرير. التفسير 16/ 221.
[71] طه آية / 115.
[72] ابن جرير، التفسير 16/ 221.
[73] ابن جرير، التفسير 16/ 221- 222.
[74] أخرجه ت / في تفسير سورة الأعراف تحفة الأحوذي 8/ 457 ح 5072 وقال: هذا حديث حسن صحيح.(21/157)
المستدرك في التفسير ج 2/ 325 من طريق علي بن حمشاذ العدل، ثنا بشر بن موسى الأسدي، وعلي بن عبد العزيز قالا: ثنا أبو نعيم ثنا هشام بن سعد به وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي بـ (م) ، ولم أجد هذا اللفظ في مسلم في كتاب القدر
حم / 1/ 251، 299، 371 من حديث ابن عباس.
[75] الأعراف آية / 172.
[76] فيه متابعة عطاء بن يسار لأبي صالح عن أبي هريرة..
[77] عثمان بن أبي العاتكة سليمان الأزدي أبو حفص ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني. تقريب 2/ 10.
[78] الأعراف آية / 172.
[79] يأتي تخريجه ح رقم 27.
[80] يأتي في تخريج الحديث رقم 27 ما أشار إليه المصنف، ومسلم بن يسار الجهني قال ابن حجر فيه مقبول. من الثالثة. تقريب 2/ 248.
[81] نعيم بن ربيعة الأزدي، مقبول. من الثالثة. تقريب 2/ 305.
[82] في كتاب القدر، ويأتي ح رقم 27.
[83] سورة الأعراف آية / 172.
[84] سليمان بن حيان الأزدي، أبو خالد الأحمد الكوفي، صدوق يخطئ. ع تقريب 1/ 323.
[85] ابن أبي ذباب بضم المعجمة وبموحدتين، هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدوسي، صدوق يهم، من الخامسة، مات سنة ست وأربعين. عخ م مد س ق. تقريب 1/ 142، تهذيب 2/ 147- 148.
[86] تقدم في الحديث رقم 24: أن عمره ستون سنة، وكذلك في رواية المستدرك والترمذي 2/ 325.
[87] توحيد ابن خزيمة ص 67- 68.
[88] في الأصل: ورقة 4/ ب فأخرجتك.
[89] آخر الحديث وهو محاجة آدم وموسى أخرجه م / في القدر / باب محاجة آدم وموسى عليهما السلام 4/ 2042- 3024 من حديث أبي هريرة. وتقدم ح رقم 23 نحوه.
[90] يقول ابن تيمية معلقا على الحديث في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 115 - في معرض رده على المحتجين بالقدر -: وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان:(21/158)
طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر.
وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا.
ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل.
ثم قال: ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة؛ فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام وهو قد تاب منه أيضا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعايب. اه
وذكر في ص 114 أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذنب والعقاب فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم؛ فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا، وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا. اه(21/159)
كما ذكر ابن القيم في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - الباب الثالث في ذكر احتجاج آدم وموسى.. ص 13- 19 - هذا الحديث وقال: إنه قد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لبطلت نبوات الأنبياء؛ فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، ثم أورد الأقوال في ذلك، ورجح ما ذكره ابن تيمية في شرح الحديث، كما اعتذر لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري فقد جاء في كلامه ما يوهم أنه يقول بقول من يدعي الحقيقة والمعرفة؛ إذ قالوا: العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم.
وهذا قول الصوفية الذين يدعون كشف الحجاب عما في اللوح المحفوظ، حيث قال: وقد أعاذه الله منه، ثم ذكر كلامه الذي يوهم ذلك، وبين وجه اعتذاره له من ص 15- 19.
[91] أبو خالد الأحمد هو سليمان بن حيان الأزدي تقدمت ترجمته.
[92] الأعراف آية / 172.
[93] الموطأ / كتاب القدر/ باب النهي عن القول بالقدر ص 560 ح 2. طبعة الشعب
د/ السنة/ / بال القدر 5 / 79 ح 4703.
حم / 1/ 44.
ابن جرير في التفسير 9/ 113.
ت / في التفسير 8 / 452 ح 5071 وقال هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر.
وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا.
الحاكم في المستدرك / التفسير 2 / 324- 325، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
البيهقي في الأسماء والصفات ص 325.
[94] حم / 1/ 272 من طريق حسين بن محمد به.
ابن جرير الطبري. التفسير 9 / 110.
البيهقي في الأسماء والصفات ص 327.
[95] ابن جرير الطبري. التفسير 9 / 111.
[96] عطاء بن السائب ن أبو محمد. صدوق، اختلط. تقريب 2/ 22. التقييد والإيضاح ص 442.(21/160)
[97] كذا في الأصل (بدخنا) ورقة 4/ ب، بالخاء المعجمة والنون، وفي تفسير ابن جرير ج 9/ 111 (بدجني) بالجيم والنون. قال المعلق: لعل المقصود بهذه الكلمة، هضبة الدكن من بلاد الهند.
[98] ابن جرير. التفسير 9 / 111.
[99] (أبي) ساقط في الأصل.
[100] الأعراف آية / 272.
[101] ما بين القوسين من ابن جرير.
[102] ابن جرير الطبري، التفسير 9/ 115.
والحاكم في المستدرك، التفسير 2/ 323- 324. قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[103] قاله محمد بن كعب القرظي. انظر تفسير ابن جرير الطبري 9 / 117.
كما ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 141.
[104] ابن جرير الطبري. التفسير 9/ 112. وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 وقال: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مندة في كتاب الرد على الجهمية وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية.. الحديث.
قوله: آذيّ الماء: الآذي: بالمد والتشديد: الموج الشديد ويجمع على أواذي.. النهاية 1/ 34.
[105] يحيى بن يمان العجلي الكوفي. صدوق عابد، يخطئ كثيرا، وقد تغير. تقريب 2/ 361.
[106] ذكره ابن كثير في التفسير 3/ 469 من طريق أبي جعفر الرازي ... عن أبي بن كعب به.
[107] النضر بن عربي الباهلي مولاهم، أبو روح ويقال: أبو عمر الحراني لا بأس به. من السادسة مات سنة ثمان وستين./ د ت. تقريب 2/ 2، 3، وقد أشار المصنف أن هذا الأثر لا يثبت.
[108] ساقط في الأصل والسياق يدل عليه.
[109] الأعراف آية / 172.
[110] مريم آية / من 17- 21.
[111] الحاكم في المستدرك، التفسير 2/ 324، وفي مجمع الزوائد 7/ 25 قال: رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح.(21/161)
[112] ابن جرير في التفسير 9/ 111 من طريق أبي كريب ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش دون قوله فسماهم.. الخ.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 141.
[113] ابن جرير الطبري في التفسير 9/ 113 من طريق ابن بشار ... عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو به.
وذكر السيوطي أن ابن مندة أخرجه في كتاب الرد على الجهمية.. انظر الدر المنثور 3/ 142.
[114] حجاج بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد الترمذي الأصل، ثقة ثبت لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، من التاسعة، مات ببغداد سنة ست ومائتين. ع / تقريب 1/ 154.
[115] الزبير بن موسى بن مينا المكي، روى عن سعيد بن جبير، وعنه ابن جريج، قال ابن نمير: روى عنه الكبار القدماء. وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب 3/ 320.
[116] ما بين القوسين من تفسير ابن جرير.
[117] في تفسير ابن جرير قال: ابن جريج عن مجاهد.
[118] ابن جرير الطبري. التفسير 9/ 114- 115.
[119] لحكم هو ابن عتبة الكندي مولاهم أبو محمد ويقال: أبو عبد الله، روى عن سعيد بن جبير وغيره، ثقة ثبت، ربما رمي بالتدليس، مات سنة ثلاث عشرة أو بعدها، من الخامسة، /ع تهذيب 2/ 432-434. تقريب 1/ 192.
[120] في هذه الرواية متابعة الحكم للزبير بن موسى عن سعيد بن جبير.
[121] ابن جرير الطبري. التفسير 9/ 115.
[122] قاله ابن عباس. تفسير ابن جرير 9/ 115.
[123] الأعراف آية / 172.
[124] قول السدي: أخرجه ابن جرير في التفسير 9/ 117.(21/162)
من وحي رمضان
أكبر مسابقة وأعظم جائزة
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
يسر أسرة مجلة الجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية أن تنقل إلى العالم الإسلامي نبأ وإعلان أكبر مسابقة، وأعظم جائزة؛ تلك التي تقام بين المسلمين في كل رمضان وتوزع جوائزها على الفائزين يوم العيد أول يوم من شوال.
صورة الإعلان:
وهذه صورة الإعلان عن المسابقة كما ورد إلى المجلة:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
أيها المسلم العزيز! يا أخي عبد الله ووليه!
هل لي أن أتشرف بإبلاغك؟ هل لي أن أسعد بإعلانك؟
هل يا ابن الإسلام والحسام؟ هل تدري يا حائز المجد ووارث الشرف؟
هل تدري يا وصي الله على البشرية ماذا أبلغك وبم أعلمك؟؟
إنها البشرى السارة، إنها الفرحة الكبرى العميمة، إنها تلك المسابقة الإسلامية التي تبتدئ بأول ليلة من رمضان، ولا تنتهي إلا بآخر ليلة منه.
فاستعد يا سليل المهاجرين والأنصار، وتهيأ يا حفيد الفاتحين، استعد - يا أخي - لأكبر فرصة في عامك، وأبرك موسم في سنتك.
إنها المسابقة العظمى التي أعلن عنها الملك العظيم في كتابه الكريم بقوله الحق المبين: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} .
إن جائزة هذه المسابقة لأكبر جائزة والله، إنها الجنة، الجنة التي عرضها السموات والأرض، والتي فيها منة النعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها من المتع الروحية واللذائذ الجسدية ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
وهل بعد الجنة أيها العاقل اللبيب من مطلب لأصحاب السمو الروحي والكمال النفسي؛ من مطلب سوى رضوان الله، والنظر إلى وجهه الكريم؟(21/163)
واسمح لي الآن أصف لك ميدان المسابقة، وأفصل لك شروط المسابقة حتى يمكنك اللحاق بحلبتها والمشاركة على بصيرة فيها.
ميدان المسابقة:
إن ميدان المسابقة أيها المسلم الكريم هو شهر رمضان المبارك؛ شهر أمة الإسلام الذي تفتح فيه أبواب الجنات، وتغلق فيه أبواب النيران، ويصفّد فيه مردة الجان والشيطان.
شروط المسابقة:
إن من يمن هذه المسابقة وبركتها قلة شروطها، إنها تقام على شرطين اثنين فقط، وهما:
1- أن يتخلى المتسابق عن كل محرم أو مكروه كان يأتيه في حياته قبل دخوله هذه المسابقة، وذلك بأن يرد الحقوق إلى أصحابها، وأن يتجنب الباطل والشر والفساد في أي شكل كان أو صورة، وأن يترك سماع الأغاني والمزامير ودقات الطبول وأن يترك لعب الورق وكل آلات الميسر والقمار، ويبتعد عن مجالسه، كما يبتعد عن سماع الغيبة والكذب والنميمة وقول الزور وشهادته، وأن يطهر لسانه من قول الفحش والبذاء وسماعه مطلقا، وأن يطيب فمه ومجلسه بترك المكيفات من تبغ وشيشة ونحوهما.
2- أن يقبل بعزم وتصميم صادقين على ما يلي:
أ – أن يعلن عن توبته لله تعالى كأن يقول: اللهم إني أستغفرك من كل ذنوبي، وأتوب إليك من كل معتقد وقول وعمل تكرهه ولا يرضيك؛ فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
ب- أن يعمل الصالحات الآتية:
1) أداء الصلوات الخمس في بيوت الله مع جماعة المسلمين بحيث لا تفوته صلاة منها.
2) قراءة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، طوال شهر رمضان.
3) الإكثار من نوافل الصلاة في الليل والنهار شهر رمضان كله.
4) الإكثار من الصدقات بالمال أو الطعام أو الشراب أو اللباس بحسب فقره وغناه.
5) الإكثار من الدعاء والاستغفار وقت السحر من كل ليلة من رمضان.
وبعد، فهذه هي المسابقة بشروطها قد بينت لك مفصلة؛ فهل لك يا ابن الأبطال في السبق؟
هل لك في الفوز بالحور العين؟(21/164)
هل لك أن تضيف إلى عمرك عمرا جديدا؟ وإلى رأس مالك نصيبا موفورا؟
هل لك أن تعلم أنك بدخولك هذه المسابقة الإسلامية الكبرى تعمل على إضافة أعمال ثلاثة وثمانين عاما وأربعة أشهر صياما وقياما؟
إذا فارْمِ أيها المسلم البطل بجواد عزمك في حلبة هذه المسابقة، وسابق واستعن بالله تعالى ثم بما يلي: احفظ سمعك من الغناء والزمر والتطبيل، ومن الغيبة والفحش في القول، وصن يديك من أن تتناول بهما محرما، وقيد رجليك أن تمشي بهما إلى لهو أو باطل، وكف لسانك من أن تقول به غيبة أو نميمة أو كذبا أو زورا، واصرف قلبك عما لا يعني، وأخله من التفكير فيما ليس لك فيه ضرورة أو حاجة.
الله أكبر! الله أكبر! أقدم أيها البطل المتسابق، وابسط يديك بالعطاء، وتصدق فهذا أوان الصدقة، اعتكف في بيت ربك راغبا فيه، راهبا منه، لازم بيت مولاك لا تخرج منه إلا لحاجة حتى يغفر لك ويتوب عليك.
مكانك يا أخا الإسلام، وبطل السباق، مكانك في الصفوف الأولى، لا تفوتك تكبيرة الإحرام من كل صلاة أبدا، كتاب الله رتل آيه وتدبر معانيه، إياك أن يمضي رمضان وتنتهي المسابقة ولم تختم قراءته ثلاث مرات، ولتكن قراءتك له محفوفة بالتدبر والدعاء والخشوع والدموع.
وسلام عليك في المتسابقين، وبارك الله فيك وعليك في الفائزين.
وإلى أعظم الجوائز
إنه بسم الله ولي المؤمنين، ومتولي الصالحين، وبسم الله رب العاملين والعالمين، وبسم الله المنعم بأوسمة القبول على السابقين الأولين والآخرين، يعلن لجماهير المتسابقين من المؤمنين والمسلمين، أن غدا توزع فيه جوائز السابقين لقريب جد قريب.
إنه يوم العيد السعيد الذي لم يبق عليه إلا أن تحترق فحمة آخر ليلة من ليال السباق؛ ليالي رمضان المشرقة العذاب، ليالي الأنس والشوق إلى الحبيب القريب، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،.(21/165)
أيتها الجماهير المتسابقة، أيتها الفئات المؤمنة الآملة، أيتها المواكب الراكبة إلى الله الراكضة إلى المشهد، إلى مصلى العيد، هلموا هلموا ... خذوا بطاقات الحضور من بيوت إماء الله تعالى وعبيده الفقراء والمساكين بدفع صدقات فطركم إليهم، ثم يمموا المشهد آملين راجين، وبذكر ملككم العظيم لاهجين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
لا تزالوا أيها الفائزون مكبرين مهللين كذلكم حتى ساحة المشهد الفيحاء، خذوا أماكنكم من الساحة الطاهرة مترنمين بتسبيح مليككم، السبوح القدوس، رب الملائكة والروح، قائلين:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واسمعوا هذه القائمة تتلى بأسماء الفائزين في هذه المسابقة العظيمة.
أيها الحفل الكريم في المشهد العظيم إليكم هذه الطائفة بأسماء الفائزين في هذه المسابقة العظيمة:
1) عبد الله الذي كان لا يشهد صلاة الجماعة صبحا ولا ظهرا ولا عصرا، ولا مغربا ولا عشاء؛ فأصبح يشهدها كلها لا تفوته ركعة منها، بل ولا تكبيرة الإحرام مع الإمام.
2) عبد الحق الذي كان بينه وبين أحد أقربائه عداوة وشحناء؛ فأزالها وصافى قريبه وبره وأحبه لله في الله.
3) عبد الرحمن الذي كان يؤذي جيرانه؛ فترك أذاهم وأحسن إليهم تقربا إلى الله تعالى.
4) ولي الله تعالى الذي كان يستهويه الطرب فيسمع الأغاني، ويقضي جزءا كبيرا من يومه وليله حول المذياع، أو شاشة التلفاز يسمع أصوات الشياطين ومزاميرهم؛ فتاب من ذلك وأصبح إذا سمع صوت طرب أدخل أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع خوفا من الله وتزلفا إليه.
5) عبد الخالق الذي كان يأتي المساجد بيوت الله ورائحة فمه متغيرة بنتن التبغ والشيشة؛ فاستحى من الله تبارك وتعالى، وترك ذلك تطهيرا لبيت ربه وتطيبا لفمه الذي يذكر به اسم ربه.(21/166)
6) عبد العليم الذي كان بعض أصدقائه يدعونه إلى السمر على لعب (الكريم) والورق، فكان يأتيهم ويلهو ويلعب معهم؛ فترك ذلك نهائيا خوفا من الله وطلبا لمرضاته.
نكتفي بذكر هذا الذي ذكرنا من أسماء الفائزين، وذكر الله تعالى قائلين: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولنستمع إلى هذه الهتافات الرفيعة:
. هنيئا لمن سابق فسبق.
. هنيئا لمن تاب وأناب فتيب عليه وقبل.
. هنيئا لمن أحب الله فأحبه، وأحب فيه محبيه إلى أوليائه!
تعزية وتسلية
وأنتم أيها المتخلفون عن ركب الفائزين لا تيأسوا من روح الله، ولا تقنطوا من رحمته؛ إن مليككم جل جلاله وعظم سلطانه يناديكم ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
إنه تعالى قد هيأ لكم فرصة أخرى للمسابقة والفوز فاقبلوها ولا تضيعوها، إنها تبتدئ بيومكم هذا ولا تنتهي إلا بسبقكم وفوزكم، فارموا بخيول العزم في ميدان السبق، واستعينوا بالصبر والصلاة، استعينوا على ترك الآثام بخوف المقام، وتقووا على الطاعة بذكر الساعة، وتغلبوا على الرذائل بكرهها وحب الفضائل.
ثم احذروا أيها المتسابقون الأبطال من العائق الأكبر، احذروه أن يعيقكم كما أعاق من قبلكم، احذروه؛ إنه حب الدنيا وكراهية الموت، فأحبوا الآخرة بالإكثار من الزكاة والصلاة، واكرهوا الدنيا بتقليل الرغبة فيها، وبالتجافي عن شهواتها وملاذها، إلا ما أذن لكم فيه ولزم.
هذا وإلى اللقاء معكم ساعة توزع الجوائز وتوضع الموائد بعد سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(21/167)
التعريف بكتاب
محنة الإمام أحمد بن حنبل
للدكتور محمد نغش
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
إن في ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل لعبرة للذين يتصدون للبدع والمبتدعين، تظهر مكانة الإمام أحمد بن حنبل في إعلاء كلمة الدين، وكيف حقق الله له ولأتباعه المخلصين النصر المبين، فحفظ بمنه وكرمه للسنة مكانتها وأعلى رايتها.
وكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل الذي وفقني الله إلى تحقيقه وضح فضل الإمام أحمد، وجهوده في الدفاع عن دين الله، وصبره على ما قاسى في محنته، رحمه الله وجزته عن الإسلام خيرا، وإليك تلخيص وتعريف بهذا الكتاب، فيما يلي:
نبذة عن حياة الإمام أحمد بن حنبل:
كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - خيار الناس، وأكرمهم نفسا، وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق والغض، معرضا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث وذكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، وكان قدوة عالية لأهل زمانه بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل الله.
وكانت روح الجدة والسكينة هي التي تظل مجلسه؛ لأن ذلك هو الذي يتفق مع رواية السنة النبوية الشريفة، وآثار الرسول الكريم، وفتاوى السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن شأن السكينة أن تجعل للقول مكانه من القلب ومنزلته، وإنه وإن كانت الدعابة تذهب بالملال، فإن كثرتها تذهب بالروعة ورواء العلم، وقد تجنب الإمام أحمد المزاح جملة؛ إذ إن رواية السنة عبادة عنده، ولا مزح في وقت العبادة، بل المزاح ينافيها.(21/168)
إن لنشأة الإمام أحمد أثرا بالغا في سلوكه، فهو من أصل كريم من ناحية أبيه وأمه، وقد كان لليتم فضل في صبره على أذى أعدائه؛ إذ قد حرم حنان الأب وعطفه، ونشأ يحمل المسؤولية من صغره، وورث الذكاء عن والده، الذي كان في مكانة مرموقة، وعن أمه الفاضلة.
وتكفي شهادات الناس له في مراحل حياته كافة بالفضل وإجماعهم على علو مكانته، ويجدر بنا أن نذكر بعضها؛ لأن المقام لا يتسع لحصرها.
والحلم من السمات التي تحلى بها نبينا صلى الله عليه وسلم، وشاركه في هذه الصفة الحميدة الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، والحلم صفة لازمة للعلماء، الذين يقصدون وجه ربهم الكريم، وهذا أحمد بن حنبل يقول: "أحللت المعتصم من دمي" [1] ، وكم من صنوف العذاب صب المعتصم على الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، وقد أحبّ الناس الإمام أحمد وأرادوا أن يغدقوا عليه من أموالهم؛ لأنهم يعلمون فقره وحاجته، ويريدون أن يمدوا يد المعونة له ولأولاده، ولكنه يتعفف في أدب جم، فيرهن متاعه، ويأكل من عرق جبينه، ومن كسب يديه.
ونسوق على ذلك مثالا واحدا من أمثلة عديدة: "عرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة، جعلها باسم -الإمام أحمد-؛ فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا" [2] .
وقد كان الإمام أحمد إماما في الزهد، ومن أقواله فيه: "أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء) [3] ، وقوله: (إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل" [4] .
وهكذا من يزهد في الدنيا، يجود بما ملكت يداه، فما بالك بهذا الإمام الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة مولاه.
وقد ذكر المؤرخون عن جوده وكرمه الكثير، ونضرب لذلك مثلا، قال هارون المستملي: "لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شيء!، فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها" [5] .(21/169)
وقيل إن الشافعي قال له: ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا وقال للشافعي: "إني إنما أختلف إليك لأجل العلم والزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء، ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم، فاستحى الشافعي منه" [6] .
والأمثلة على ورعه كثيرة، نحو قول أبي عبد الله السمسار: "كانت لأم عبد الله بن أحمد دار معنا في الدرب، يأخذ منها أحمد درهما بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة لتصلحها فأصلحها ابنه عبد الله؛ فترك أبو عبد الله الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أفسده علي، قلت: إنما تورع من أخذ حقه من الأجرة؛ خشية أن يكون ابنه أنفق على الدار مما يصل إليه من مال الخليفة [7] .
إن الإمام أحمد لم يذق طعاما من حاكم تنَزّها عنه، وكان يتصدق بخلع المتوكل ولا يقبل أن يلبسها على جسده، وأبى أن يسكن في قصر يبنيه له، وأوصى أن يكفن في ملابسه؛ خشية أن يقبل أولاده من أحد كفنا له.
ولم يكن ورعه قاصرا على مأكله وملبسه ومسكنه، بل شمل علمه الذي كان يتقنه، وهو درايته بالحديث وإجادة حفظه، فهذا علي بن المديني يقول: (ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة" [8] .
وهذا ابن الحربي يقول: "لزمت أحمد بن حنبل سنتين، فكان إذا خرج يحدثنا يخرج معه محبرة مجلدة بجلد أحمر وقلما، فإذا مر به سقط أو خطأ في كتابه أصلحه بقلمه من محبرته، يتورع أن يأخذ من محبرة أحدنا شيئا، وكنا نقول لأحمد في الشيء يحفظه، فيقول: لا، إلا من كتاب" [9] .
وشهد له الناس بالتواضع، فهو لا يتقدم الناس في الخروج من المسجد، بل يجعلهم يتقدمونه، وهو لا يفتخر بحسبه ولا نسبه ولا بعلمه وفضله، وكان يسأل الله دائما أن يجعله خيرا مما يظنون ويغفر له ما لا يعلمون.
يقول فيه يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا مما كان فيه من الصلاح والخير" [10] .(21/170)
وكان يؤثر العزلة والوحدة، هروبا من الشهرة، وتحصيلا للمعرفة، وتجنبا للقيل والقال، فهو يرى الخلوة أروح لقلبه؛ تذكره بربه، ولكنه كان لا يتخلى عن واجب اجتماعي أو حضوره صلاة جماعة، وقد رآه الناس حين تحدى الحاكمين، وصبر على إيذائهم ليعلي كلمة الحق والدين.
وانعقد إجماع أهل الأقطار الإسلامية المتنائية على أنه رجل صالح، وتسايرت الركبان بذكر صلاحه، وتقواه وورعه وقوة إيمانه وزهده، وإذا كان الإجماع حجة فقد قامت الحجة على صلاح الإمام أحمد بن حنبل [11] .
ومما قيل فيه من شعر قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أضحى ابن حنبل حجة
وبحب أحمد يُعرف المُتَنسك [12]
ومن ذلك ما قال أبو محمد جعفر بن الحسن السراج البغدادي فيه:
دعَوْه إلى خَلق القرآن كما دَعوا
سواه فلم يسمع ولم يتأول
ولا ردّه ضربُ السياط وسجنُه
عن السنة الغراء والمذهب الجلي
لقد عاش في الدنيا حميدا موفقا
وصار إلى الأخرى إلى خير منزل
وإني لأرجو أن يكون شفيع مَن
تولاه من شيخ ومن متكهل
ومن حَدث قد نوّر الله قلبَه
إذا سألوا عن أصله قال: حنبلي [13]
هذه هي السيرة العطرة للإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة، رضوان الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين، إنه قد وضع روحه على كفه ليقدمها في سبيل ربه، لم يساوره الخوف لحظة من مخلوق مهما كانت لديه من قوة، إنه يدافع من أجل أن ينتصر الحق ويزهق الباطل.
فقد قدم الإمام أحمد كل ما يملك ليرد البدع والخرافات عن الدين الإسلامي الحنيف، صبر وصابر حتى لقي ربه.
أعز الله به دينه، فما نراه اليوم من تمسك بالكتاب والسنة أثر من آثاره الخالدة، فهنيئا له برضوان الواحد الديان وبرفقته لنبيه الكريم خير الأنام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
مؤلفاته:(21/171)
صنف (المسند) وهو ثلاثون ألف حديث، وكان ابتداؤه فيه سنة ثمانين ومائة، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند؛ فإنه سيكون للناس إماما [14] ، وقد اشتهر من مؤلفات أحمد بن حنبل بنوع خاص كتابه المسند: وهو كتاب جامع في الأحاديث.
ونشر له غير المسند: (كتاب الصلاة وما يلزم فيها) .
ويذكرون له (كتاب طاعة الرسول) ، الذي بين فيه ما ينبغي اتباعه عندما يبدو الحديث متعارضا مع بعض آيات القرآن، ولقد قرر ابن حنبل عقائده في مصنفه (كتاب السنة) .
وله كتب تبين وجهة نظره الفقهية نذكر منها على سبيل المثال (مسائل صالح) ، وهي المسائل التي وجهها إليه ابنه صالح، وكذلك أجوبته على مسائل تلميذه حرب [15] ، وقد بلغت فتاواه التي استطاع ابن القيم أن يرجع إليها نحو عشرين مجلدا [16] .
تلاميذه:
روى عنه أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين ودحيم الشامي وغيرهم [17] ، وروى عنه عبد الرزاق بن همام ويحيى بن آدم وأبو الوليد هاشم بن عبد الملك الطيالسي، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشاقعي، والأسود بن عامر شاذان، والبخاري ومسلم، وأبو داود، وأكثر عنه في السنن، وروى الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه، وروى النسائي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وعن ابن عبد الله، وروى ابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي عنه، وإبراهيم الحربي الأثرم، وأبو بكر أحمد الدارمي، وعمر بن سعيد الدارمي، ومحمد بن يحي الذهلي النيسابوري وخلق لا يحصون [18] .
وفاته:
توفي الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه - ضحوة نهار الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول [19] ، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر [20] ، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة [21] ، 31 تموز 855 للميلاد [22] ، فكانت سنه سبعا وسبعين سنة عند وفاته، ودفن في مقابر الشهداء في حي الحربية ببغداد [23] .(21/172)
وقيل: أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرة آلاف من اليهود والنصارى والمجوس.
قال الوركاني: يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس [24] .
أولاده:
كان له ولدان عالمان هما: صالح، وعبد الله.
فأما صالح فتوفي في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وكان قاضي أصفهان فمات بها. وأما عبد الله فإنه بقي إلى سنة تسعين ومائتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة، وله سبع وسبعون سنة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وبه يكنى الإمام أحمد، رحمهم الله أجمعين [25] .
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
بداية المحنة في عهد المأمون:
استطاع الإمام أحمد بن حنبل، بإيمانه الصادق وصلابته في لحق، أن يهزم المعتزلة الذين ادعوا فيما ادعوا خلق القرآن، واتخذوا الخليفة المأمون أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد أداة لنشر بدعتهم وترويج ضلالهم؛ فقد زينوا له طريق الباطل، وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وكانت ولاية المأمون في المحرم، وقيل في رجب سنة 198 للهجرة.
وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم فعَنّ له أن يكتب إلى إسحاق بن مصعب صاحب الشرطة أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فاستدعى جماعة من العلماء والقضاة وأئمة الحديث، ودعاهم إلى ذلك، ولكنهم امتنعوا، فاشتد غضبه [26] .
الإمام أحمد مكبلا في الأغلال:(21/173)
ولما استعصى على المأمون وأذنابه التأثير على الإمام أحمد بن حنبل في ميدان الحجة والإقناع، أمر بإشخاصه مكبلا في الأغلال، هو ورفيقه في المحنة محمد بن نوح - رضي الله عنهما - وتوفي محمد بن نوح وهو في طريقه إلى المأمون، وصلى عليه الإمام أحمد بن حنبل الذي بقي وحده، والخليفة يتوعده بالتعذيب والقتل إن لم يجبه إلى القول بخلق القرآن، فتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه؛ فبينما هو في الطريق قبل وصوله إليه إذ جاءهم الصريخ بموت المأمون، وكان موته في شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، فرد الإمام أحمد إلى بغداد وحبس هناك.
الترغيب والترهيب والتعذيب في عهد المعتصم:
ثم ولي الخلافة المعتصم، وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي قدم من بلاد الروم، فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، فامتحن الإمام أحمد وضرب بين يديه [27] ، ويقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهدا رهيبا؛ فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول سلاحه البطش والجبروت، والثاني سلاحه القرآن والسنة يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه ربه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه.
يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة (القرآن مخلوق) ، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه.(21/174)
ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله أقول به.
ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد - رحمه الله - على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به.
وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له الإمام أحمد: يا بن أبي دؤاد قل في أذني القرآن كلام الله وليس بمخلوق حتى أخلصك من عذاب الله عز وجل، فقال المعتصم: أدخلوه إلى الحبس، فحمل إلى الحبس وانصرف الناس [28] .
وهكذا واجه الإمام أحمد بن حنبل المحنة في صبر جميل وشجاعة نادرة، يقول أحد جلاديه: "ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدمته" [29] .
والراجح أن المحنة كانت في سنة تسع عشرة ومائتين؛ من واقع ما جاء في هذا الكتاب الذي يرويه ابن عمه، وفي كتاب النجوم الزاهرة [30] .
وذهب العليمي إلى احتمال أن تكون المحنة في سنة تسع عشرة [31] ، بخلاف مما ذكره ابن خلكان من أن ضربه في العشر الأخير من رمضان سنة عشرين ومائتين [32] .
وكانت مدة حبس الإمام ثلاثين شهرا، منذ بداية المحنة في عهد المأمون إلى أن خرج من السجن في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين.
وقد رأى الإمام أحمد - رحمه الله - أن الأخذ بالتقية في دار الإسلام لا يصح؛ لأن المنكر في دار الإسلام يجب استنكاره وإلا تحولت صفتها ولم يعد لها اسم، وأن الاستنكار له مراتب، والتقية تكون حيث لا يكون للإسلام قوة وسلطانا كبلاد يضطهد الإسلام فيها، ولا سبيل للمسلم في الخروج منها فيستخفي بدينه، وتلك رخصة رخصت له تيسيرا وتسهيلا، وكل نفس وما تطيق.(21/175)
ولأن التقية لا تجوز من الأئمة الذين يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، حتى لا يضل الناس؛ لأنهم إن نطقوا بغير ما يعتقدون وليس للناس علم ما في الصدر، اتبعوهم في مظهرهم، وظنوا أنه الحق الذي ارتضوه دينا، وبذلك يكون الفساد عاما ولا يخص، وحق على الإمام أن يكون الممتحن المبتلى، فتنشر الفكرة السليمة ويكون الابتلاء سبيل نشرها وذيوعها [33] ، وينتصر الدين بصاحب العقيدة القوية، ويتحمله في سبيل نصرة دين الله على كل بلية، وترفع راية الإسلام عالية ويندحر أصحاب البدعة والضلالة.
ويصفح الإمام أحمد رضوان الله عليه عن المعتصم، راجيا غفران ربه، وحسن ثوابه، مستجيبا لأوامره؛ {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [34] ، ولقوله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [35] .
تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق:
وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد [36] .
وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.
انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة:(21/176)
ففي عهد المتوكل بعد الواثق - وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم سخط المتوكل على أحمد بن دؤاد ووله محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد؛ مائة وعشرين ألف دينار وجوهرا بأربعين ألف دينار، وسيره من بغداد من (سر من رأى) ، وولى القضاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة، فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة، ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوما، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين.
وعن عمران بن موسى قال: دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب أحمد لأنظر إليه؛ فمكث خمسة وأربعين يوما ينبح كما ينبح الكلب [37] .(21/177)
وقد أقبلت الدنيا على الإمام أحمد وهو زاهد فيها، لا يريد منصبا ولا جاها، ولا يريد طعاما فاخرا، أو خلعة سنية، أو مسكنا شاهقا في الدنيا الدنية، وهو يريد أخرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا يريد بعد صبره الطويل في محتنه أن يبيع الآجلة بالعاجلة؛ إنه يرفض عطايا السلطان حتى لا يوجده عليه، ولكنه يتصدق بها، ويأتيه طعام الخليفة المتوكل الخاص فلا يأكل منه لقمة، رغم فقره المدقع، ولكن الغني غنى النفس؛ فيا لها من نفس أبية غنية!.
وعظمت مكانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحدا إلا بمشورته، "ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره، رحمهما الله ورضي عنهما" [38] .
وهكذا خرج من الاختبار رجلا صالحا، وقد تنوعت طرائق الاختبار، اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيدا مغلولا يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نهنهوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا ابتلي بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل بالنعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع منه، ثم ابتلي أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس؛ فقد ابتلي بعد أن انتصر على كل الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبا ولا ولاه بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء [39] .
وتعالت سلطة المحدثين وعلى رأسهم الحنابلة، وقوي نفوذهم حتى كانوا حكومة داخل الحكومة [40] ، حتى أنه في سنة 323هـ "عظم أمر الحنابلة ببغداد وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء فأرهبوا بغداد" [41] .(21/178)
مشهدان من محنة الإمام أحمد بن حنبل:
الأول: مشهد من دفاعه عن الكتاب والسنة:
قال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فقال لي أبو إسحاق فقلت له: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت لعبد الرحمن القزاز: (القرآن) من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، قال: فسكت عبد الرحمن، فلم يردّ عليّ شيئا، فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين، أكفرنا وأكفرك، فلم يلتفت إليهم.
قال أبو عبد الله: فقال لي عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، قلت له: فكان الله ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله، ثم قال أبو عبد الله: لم يزل الله علما متكلما، نعبد الله لصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه, ونرد القرآن إلى عالمه تبارك وتعالى، إلى الله فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود.(21/179)
قال أبو عبد الله: وجعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، فأقول: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول به، قال: فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟ ثم قلت له: تأولت تأويلا تدعوا الناس إليه، فأنت أعلم وما تأولت، وتحبس عليه وتقتل عليه، فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، هو ضال مضل مبتدع، فلم يزالوا يكلموني، وجعل صوتي يعلو على أصواتهم إلى أن قال لي عبد الرحمن بن إسحاق: قال الله عز وجل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [42] أفيكون محدثا إلا مخلوقا؟ فقلت له: قال الله عز وجل {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [43] فالذكر هو القرآن، وتلك ليس [44] فيها ألف ولام؟ قال: وكان ابن سماعة [45] لا يفهم ما أقول، فقال: ما يقول: قالوا: إنه يقول: كذا وكذا، وقال لي إنسان منهم: حديث خبّاب: يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه [46] ، قلت: نعم، هو هكذا [47] .
الثاني: مشهد جلده وتعذيبه:
قال الخليفة المعتصم: حدّوه اخلعوه، واسحبوه، قال: فأخذت ثم خلعت، ثم قال: العقابين [48] والأسياط، فجيء بعقابين وأسياط.(21/180)
قال أبو عبد الله: وأنا أنظر، وكان معي شعر النبي [صلى الله عليه وسلم] [49] أعطانيه ابن الفضل بن الربيع، وكان في صرة من قميص، فقال: انزعوا عنه قميصه ولا تخرقوه، ثم قال: ما هذا في ثوبه؟ فقالوا لي: ما هذا في ثوبك؟ قلت: هذا شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسم، قال: صُيرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث" وتلوت الحديث [50] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" [51] ؛ فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا يا أمير المؤمنين؟ الله الله! لا يكفي الله وبيني وبينك مطالبة، يا أمير المؤمنين! اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين! راقب الله، فكأنه أمسك ولم يترك [52] ، فقال ابن أبي دؤاد - وخاف أن يكون منه عطف أو رحمة -: يا أمير المؤمنين! إنه ضال مضل كافر بالله، قلت: يا أمير المؤمنين! اتق الله في دمي ونفسي، فقال: هذا كافر، وقال: هذا كافر، فأمرني حينئذ فأقمت بين العقابين، وجيء بكرسي فوضع له، فجلس عليه وابن أبي دؤاد وأصحابه قيام على رأسه، فقال لي إنسان: خذ الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم منه ذاك فتخلعت يداي، ثم قال أبو إسحاق للجلادين: أروني سياطكم، فنظر فقال: ائتوني بغيرها [53] ، فأتوه بغيرها، ثم قال لهم: تقدموا، وقال لهم: ادنوا واحدا واحدا، ثم قال: أوجع؛ قطع الله يدك! فتقدم فضربني سوطين ثم تأخر، ثم قال لآخر: ادن، شد؛ قطع الله يدك! فضربني سوطين، ثم جاء آخر، فلم يزل كذلك فأغمي علي لما ضربني أسواطا، فلم أعقل حتى أرخى عني، فجاء فوقف وهم محدقون به، فقال: يا أحمد: ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني، أطلق عنك، وقال لي بعضهم: ويلك أمير المؤمنين قائم، ويلك إمامك على رأسك قائم،(21/181)
ويعجني عجيف بقائمة سيفه، فقال لي: يريد يغلب هؤلاء كلهم.
وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول لي: ويلك الخليفة على رأسك قائم، وهذا يقول: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، ثم يرجع فيجلس على الكرسي، ثم يقول للجلاد: ادنه، أوجع؛ قطع الله يدك! ولم (يزل يدعو) [54] واحدا واحدا حتى يضربني سوطين سوطين، ويتنحى وهو يقول: (شدّ؛ قطع الله يدك!) [55] أوجع! قال: ثم قام إليّ الثالثة، وما أعقل، فجعل يقول: يا أحمد أجبني، قال: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا؟ قال للجلاد: أوجع! وذهب عقلي، واسترخيت، فلما أحس أني ميت، كأنه أرعبه ذلك، فأمر بتخليتي حينئذ، وأنا على ذلك لا أعقل، فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق الأقياد" [56] .
وهكذا صور هذا الكتاب تلك البطولة الفذة في مواجهة الجيوش الخاسرة أبدع تصوير وأصدقه، صور الزبد والحق؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [57] ، صور الجبروت والإيمان، صور سيف الحق، صور سجن الدار وحرية النفس، صور قيد الحديد وانطلاق القلب واللسان، صور أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، صور واجب العلماء في مواجهة المنكر.
فكان هذا الكتاب دليل الحيران في هذا الزمان، ومصباح الرشاد في بحر الظلمات، وكان نشره اليوم إسهاما في الدعوة إلى الله، ورسما للسلوك القويم، وما ينبغي أن يكون عليه الداعية من ثبات في العقيدة وقوة في الإيمان وصلابة في الحق" [58] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 221.
[2] البداية والنهاية لابن كثير ج 10 ص 320.
[3] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 248.
[4] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص.248.(21/182)
[5] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص40.
[6] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص107.
[7] طبقات الحنابلة للقاضي ابن أبي يعلى ج 1 ص 10..
[8] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص260.
[9] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص226.
[10] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص274.
[11] أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص 5.
[12] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 53.
[13] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 50، 51.
[14] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 19.
[15] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص 251، 293 وما بعدها.
[16] هداية الحيارى ص 121.
[17] طبقات الشافعية الكبرى ج 1 ص 199.
[18] شذرات الذهب لأبي الفلاح ج 2 ص 97.
[19] وفيات الأعيان ج 1 ص 48، وطبقات الشافعية الكبرى ج 1 ص 203، وتهذيب الأسماء واللغات ج 1 ص 112، والبداية والنهاية ج 10 ص 326 ومصادر أخرى.
[20] وفيات الأعيان ج 1 ص 48، وتاريخ بغداد ج 4 ص 422.
[21] لم تختلف المصادر في سنة الوفاة.
[22] دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 492.
[23] دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 492.
[24] حلية الأولياء للحافظ الأصفهاني ج 9 ص 180.
[25] وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 49.
[26] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 31.
[27] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 32.
[28] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 35.
[29] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 36.
[30] ابن تغري بردي ج 2 ص 230.
[31] المنهج الأحمد ج 1 ص 37.
[32] وفيات الأعيان ج 1 ص 48.
[33] أحمد بن حنبل لبي زهرة ص 67.
[34] سورة النور الآية 22.
[35] سورة الشورى الآية 40.
[36] ضحى الإسلام لأحمد أمين ج 3 ص 184.(21/183)
[37] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 39، 40.
[38] المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 41
[39] أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص 5، 6.
[40] ضحى الإسلام لأحمد أمين ج 3 ص 200..
[41] كتاب أخبار سيبويه المصري ص 18.
[42] سورة الأنبياء الآية 2.
[43] سورة ص الآية 1.
[44] في الأصل: أليس.
[45] ابن سماعة: محمد بن سماعة بن عبيد الله هلال بن وكيع، كان إماما عالما صالحا بارعا، صاحب اختيارات وأقوال في المذاهب، وله المصنفات الحسان، ولي القضاء وتوفي سنة 322هـ. (النجوم الزاهرة ج 2 ص 71) والبداية والنهاية ج 10 ص 312) .
[46] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 322ن وبدلا من هناه هنتاه.
[47] ذكر محنة الإمام أحمد ص 48، 50.
[48] العقابين: خشبتان يُشبَح الرجل بينهما للجلد (لسان العرب) .
[49] ناقصة في الأصل: صلى الله عليه وسلم.
[50] رواه الشيخان.
[51] رواه الشيخان وأبو داود.
[52] لعل الصواب ما أثبتناه.
[53] في الأصل: فأتوه بغيرها.
[54] غير واضحة في الأصل.
[55] العبارة من كتاب طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.
[56] ذكر محنة الإمام أحمد ص 61، 63.
[57] سورة الرعد الآية 17.
[58] تصدير: د. موسى شاهين لاشين لكتاب ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل.(21/184)
الاعتماد على الحساب الفلكي
في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه وتحديد الأعياد
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كثر الكلام حول العمل بالحساب الفلكي في دخول شهر رمضان وخروجه، وتحديد الأعياد؛ فرأيت إيضاح الحكم وبيانه لعامة الناس في هذه البلاد وغيرها ليكونوا على بصيرة في عبادتهم لربهم، فأقول وبالله التوفيق:
إن الله سبحانه وتعالى علق بالهلال أحكاما كثيرة، كالصوم والحج والأعياد والعدد والإيلاء وغيرها؛ لأن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار، ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الحكم بالهلال معلقا على الرؤية وحدها؛ لأنها الأمر الطبيعي الظاهر الذي يستطيعه عامة الناس؛ فلا يحصل لبس على أحد في أمر دينه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب؛ الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"، وقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
ومن هذا يتبين أن المعول عليه في إثبات الصوم والفطر وسائر الشهور هو الرؤية أو إكمال العدة، ولا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءا وانتهاءً - بإجماع أهل العلم المعتد بهم - ما لم تثبت رؤيته شرعا، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله وقوله مردود؛ لأنه لا كلام لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حساب الشمس والقمر فلا يعتبر في هذا المقام لما يأتي:(21/185)
أ - إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وحصر ذلك فيها بقوله: "لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه"، وأمر المسلمين إذا غم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم هو الأصل وحده أو أصلا آخر مع الرؤية في إثبات الشهر لبين ذلك، فلما لم ينقل ذلك بل نقل ما يخالفه دل ذلك على أنه لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، وما كان ربك نسيا، ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من غيرهم، وجرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت.
ولا يصح أيضا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "فإن غم عليكم فاقدروا له" أراد أمرنا بتقدير منازل القمر لنعلم بالحساب بدء الشهر ونهايته؛ لأن هذه الرواية فسرتها رواية "فاقدروا له ثلاثين" وما في معناها، ومع ذلك فالذين يدعون إلى توحيد أوائل الشهور يقولون بالاعتماد على حساب المنازل في الصحو والغيم، والحديث قيّد القدر له بحالة الغيم.(21/186)
ب- إن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس من العامة والخاصة في الصحاري والبنيان، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة؛ لأن أغلب الأمة لا يعرف الحساب، ودعوى زوال وصف الأمية بعلم النجوم عن الأمة غير مسلّمة، ولو سلمت فذلك لا يغير حكم الله؛ لأن التشريع عام للأمة في جميع الأزمنة.
ج – إن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فمن باب أولى.
د- تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع؛ فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة، ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب رحمة للأمة، وحسما لمادة الاختلاف، وردا لهم إلى أمر يعرفونه جميعا أينما كانوا.(21/187)
هذا وينبغي الانتباه إلى أن اختلاف المطالع من المسائل التي حصل فيها الاختلاف بين أهل العلم، وقد درستها هيئة كبار العلماء في إحدى دوراتها السابقة واتخذت قرارا بالأكثرية مضمونه: أن الأرجح قول من قال إن لكل أهل بلد رؤيته، وعليهم أن يرجعوا إلى علمائهم في ذلك؛ عملا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث كريب عن ابن عباس ونصه: "عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية في الشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه؛ فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشك يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي". اه.
فأما قول من قال إنه ينبغي أن يكون المعتبر رؤية هلال مكة خاصة؛ فلا أصل له ولا دليل عليه، ويلزم أن لا يجب الصوم على من ثبتت رؤية الهلال عندهم من سكان جهات أخرى إذا لم ير الهلال بمكة.
وختاما أسأل الله أن يمن على المسلمين بالفقه في دينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه، وأن يعيذهم من مضلات الفتن، وأن يولي عليهم خيارهم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(21/188)
طب الأسنان في الإسلام
للدكتور أحمد كرات
طبيب الأسنان بمستوصف الجامعة
الحمد لله صاحب الفضل والنعم، بيده الأمر كله ومنه القوة والعون، أعطانا نعمة الصحة لنستعين بها على دنيانا وعبادته، وسوف يسألنا عن مدى اهتمامنا بها، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الذي اهتم بمعالجة القلوب والأبدان، وعلى آله وصحبه رضوان الله عليهم، وعن السلف الصالح، وعن كل من سلك سبيلهم إلى يوم الدين، وبعد:
كتبت بصفة عامة عن الفم والأسنان، وفي هذا المقام أريد أن أو أوضح بعض الموضوعات التي تهمنا معشر المسلمين المؤمنين، فقد روي عن أسامة بن شريك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تداووا عباد الله؛ فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد؛ الهرم" [1] .
يحثنا ديننا على البحث عن العلاج لنأخذ بالأسباب، والشفاء من الله سبحانه وتعالى.
إن الكثيرين منا لا يعنون بصحة الفم والأسنان؛ علما بأن صحة الفم والأسنان هي صحة للجسم، وكما ذكرنا في مقالنا السابق أن الفم هو مدخل الجهاز الهضمي، ففيه يمضغ الطعام مضغا جيدا بواسطة الأسنان والقواطع والأضراس ليختلط باللعاب، وتتم بعض عمليات الهضم به، فيسهل بلعه، ويكون مهيأ لباقي عمليات الهضم في المعدة والأمعاء بطريق سليمة وصحيحة.
ما أحوجنا أن نتبع تعاليم الدين الإسلامي؛ لنحافظ على صحة أفواهنا وأسناننا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" [2] ؛ فالسواك نظافة للفم والأسنان.(21/189)
ولقد كثرت في هذا المجال الأبحاث والتجارب والمقالات، وظهرت أخيرا أنواع من المعجونات الطبية وفرش الأسنان، وفي كل يوم نطالع في الصحف اختراع نوع جديد من المعاجين؛ هذا يحتوي على الفيتامين، والآخر يحتوي على الفلورين، وفرش للأسنان من النايلون والألياف الصناعية، منها يدار بالكهرباء، ومنها كالمعتاد يستعمل باليد.
ولاشك في أن المواد الخام الطبيعية أثبتت فاعليتها وصلاحيتها أكثر من الصناعية، وأثبت العلم أن السواك وما فيه من خصائص ومواد هو الأفضل؛ فإذا أردنا أن تصح أبداننا فلنتبع تعاليم ديننا القويم؛ فمعظم الأمراض التي انتشرت وأصابت الإنسان هي من نتائج هذه المدنية الزائفة التي اخترعها الغرب وقلدها بعضنا..
فمثلا نرى في الغرب مما يدعونه من مدنية واختراعات، انتثرت أمرض الفم والأسنان، ونسمع أن الكثيرين من الغربيين يضطرون إلى خلع أسنانهم، وعمل الاستعاضات الصناعية في سن مبكرة، فما هي الأسباب؟
الأسباب كثيرة ومتعددة، فلقد أهملت المرأة الغربية بيتها وتركت رضيعها، فانتشرت الرضاعة الصناعية، وتركت الأم أبناءها لتغذيتهم بالألبان ولأغذية الصناعية، ونسيت أن الرضاعة الطبيعية من صدرها فيها منافع كثيرة وعظيمة لها ولطفلها، ففضلا على أن لبن الأم يحتوي على مجموعة من العناصر الغذائية والفيتامينات التي لا يمكن بحال من الأحوال مضاهاتها صناعيا، فإنه يحتوي على عناصر تعطي مناعة ضد كثير من الأمراض.
كذلك التصاق الطفل بصدر أمه ورضاعته الطبيعية، وعملية الشفط والسحب من الصدر لها تأثير كبير على نمو الفكين، وارتفاع سقف الحلق، وتقوية عضلات الفم، والتنفس من الأنف طبيعيا.(21/190)
لقد أثبتت التجارب أن كثيرا من التشوهات الحلقية في الفم والفكين سببها الرضاعة الصناعية، وتكون النتيجة عدم الانتظام في مواضع الأسنان، وبروز بعضها والتصاق بعضها ببعض بطريق غير طبيعية ولا منتظمة، وهذا يؤثر مستقبلا على سلامة الأسنان، وتكون عرضة للتسوس أكثر من غيرها، كذلك فأحيانا لا تنبت الأسنان في أماكنها الطبيعية، وربما لا تظهر وتظل مدفونة في عظام الفك، ويكون سببا في صداع دائم أو التهاب يؤدي إلى كيس حول السن المدفون، وربما إلى مرض خبيث.
وبالنسبة للأم فرضاعتها لطفلها سلامة ووقاية لها من أورام خبيثة تتعرض لها، أو اضطرابات في هرمونات الجسم.
أشياء كثيرة لا أستطيع حصرها في هذا المقال نتيجة للرضاعة الصناعية، ولست مبالغا إذا قلت إنها تؤثر على ذكاء الطفل ونشاطه، فلنتدبر أمور ديننا؛ يقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، والحولان زمن يكفي للأمور التي ذكرتها واكتشفها العلم الحديث، وفي عامين من عمر الوليد يكتمل ظهور أسنانه وأضراسه اللبنية، ويصبح قادرا على أن يأكل المواد الطبيعية، فلنعود أولادنا ولنعلمهم من القرآن والسنة، إننا في كل يوم نتجه إلى الله سبحانه وتعالى في صلاتنا خمس مرات، نتوضأ فيها ونغسل أفواهنا، إنها نظافة وتطهير للفم، ولنتعود أن تكون لنا مواعيد منتظمة في تناول وجباتنا، والمعدة بيت الداء، وليكون لنا في رسول الله أسوة حسنة، فحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه.." الحديث، ولنكن معتدلين في تناول أطعمتنا وشرابنا، وفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع"، وعلى هذا فلسنا في حاجة إلى الطبيب؛ عندما أهدى المقوقس للرسول عليه الصلاة والسلام طبيبا وجارية ودابة، فقبل اثنين ورد الطبيب وقال حديثه السابق.(21/191)
لقد استوردنا عادات وتقاليد لا بد لنا أن نمجها؛ لأنها مفسدة، فمثلا التدخين وما له من مضار أولا على الصحة العامة، وأثبتت التجارب والأبحاث أن معظم حالات سرطان الرئة سببه التدخين.
كذلك التهابات الفم والأسنان والبقع البيضاء التي تظهر بالأغشية المخاطية للفم هي بداية لسرطان الفم أخطر الأنواع وأخبثها.
إن لبدنك عليك حقا، إنه أمانة سوف تحاسب عليها، فنعم الله كثيرة وعظيمة؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} ؛ فلنحافظ على هذه النعم والمواهب العظيمة التي أنعم الله بها علينا في نفوسنا وأجسامنا.
الإسلام دين النظافة والتزين بلا إسراف ولا خيلاء، والتواضع في عز وبدون ذل، والأسنان السليمة النظيفة مظهر جميل وكريم للأسنان، كذلك مخارج الألفاظ تتحكم فيها حركة اللسان مع الأسنان، فيكون النطق السليم، اعتن بنظافة فمك وأسنانك حتى لا تؤذي من كان على مقربة منك، والإسلام دين الألفة والمحبة ويبغض الفرقة والبغضاء، الإسلام دين النظافة والتزين؛ فنهى عن أكل الثوم والبصل إذا ذهب المسلم لصلاة الجماعة حتى لا يشم المسلم من أخيه ريحا غير طيبة فيؤذيه، فالإسلام دين الأدب والذوق ودين النظافة والإيمان.
فعلينا أن نبادر بالعلاج؛ إذ أن آلام الأسنان صعبة وشديدة، فكلما كانت منطقة الألم قريبة من منطقة المخ ومركز الألم كان الألم أشد وأقوى، والعلاج في البداية سهل ومفيد، والإهمال في العلاج ربما لا يأتي بالنتيجة المرجوة، وتكون النهاية فقد جزء من أجزاء الجسم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال مهما كانت مهارة الصانع والطبيب وقوة تقليد الأسنان أن تعوض الإنسان ما فقده، فسبحان الذي خلق فأبدع.(21/192)
نصيحتي إليكم - والدين النصيحة - أن نهتم بصحة أبداننا باتباع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ونبادر باستشارة الطبيب المختص أولا بأول، حتى لا يستفحل المرض ويصعب العلاج، وعلينا زيارة طبيب الأسنان مرة كل ستة شهور، حتى ولو لم يكن لدينا أي شكوى أو مرض، ولنعد إلى أطعمتنا التي اعتادها أجدادنا من مأكولات طازجة لم تفقد الكثير من عناصرها، نتيجة للحفظ والتبريد والتجميد، والخبز الجاف أكثر فائدة من غيره، فهو يحتاج لقوة في المضغ فيقوي الفك والعضلات، والخبز كامل العناصر، خير من الخبز الأبيض الصافي، والآن وقد تعودنا أكل الفطائر والحلوى وأنواع البسكوت وكلها أشياء سهلة لينة لا تحتاج للمضغ؛ فتضعف الفك والأسنان فضلا عما يتخلف من بقايا المواد اللينة التي تعلق بالأسنان، وتكون بؤرة ومرتعا للجراثيم والتسويس، فإذا تناولت غذاء لينا مثل البسكوت فضع أصبعك بين شدقيك والأسنان؛ فستجد أن بقايا كثيرة من العجين قد التصقت بالأسنان.(21/193)
إن المأكولات الطازجة والخبز الجاف، والخضروات تحتاج لقوة المضغ، وتحريك الفكين ونشاط الخلايا وسلامة الأسنان، فلو أننا نظرنا إلى أجدادنا لوجدنا أنهم كانوا أكثر صحة ونشاطا منا، فقد عاشوا على طبيعتهم، فأكلوا من الطيبات غذاءهم الطبيعي، وكل ما هو صعب ذللوه بقوة إيمانهم وبجهدهم وتفكيرهم، فلم يصعب أمام قوة إيمانهم شيء، أما نحن الآن وقد استسهلنا كل شيء، وتعودنا الكسل، فأصبح الطعام اللين الذي لا يحتاج لقوة المضغ والبلع هوايتنا، وأخذ منا أولادنا هذه العادات؛ فنادرا ما تجتمع الأسرة الآن على فطور واحد في الصباح الباكر، بل أخذ التلميذ ما يسمى بالسندويتش، وأعطي آخر المصروف ليشتري فطائر الحلوى والشيكولاتة وخلافه، أكلنا جميعا الهين اللين الذي لا يحتاج لتمرين عضلات الفم وتنشيط الأنسجة، والقاعدة أن الخمول يؤدي إلى الضعف والشلل، والحركة والتمرين تساعد على النشاط والبناء وقدرة الجسم على المناعة ضد الأمراض، وتكون النتيجة انتشار أمراض الفم وتسوس الأسنان بين الأطفال، ونحن نجد أطفالا صغارا لم يتجاوزوا لخامسة من عمرهم يشتكون من التسوس والتهاب الفم والتقرح والتقيحات باللثة، وربما يؤدي ذلك إلى خراج باللثة وتحت الأسنان، وبذلك نرى خلع الأسنان للأطفال بنسبة كبيرة، علما بأن الخلع المبكر له أضراره الكثيرة التي تؤثر على نمو الفكين وعلى سلامة الفم وصحة الجسم، وتؤثر أيضا على نمو وسلامة الأسنان الدائمة في الكبر.(21/194)
أعود فأقول: لقد عاش أجدادنا في الماضي - وبالرغم من الظروف الصعبة وقلة سبل العلاج - بعيدين عن الأمراض ومضاعفاتها، وفكروا وتعلموا الحكمة، وظهر النبهاء من العلماء في كافة العلوم من طب وعلوم وفلك بينما كانت أوربا في جهل عميق، لقد جمع الإسلام الأسرة ووحد شملها ودرب المسلمين على النظام؛ إذ حثهم على القيام من نومهم مبكرين ليصلوا الفجر وليتناولوا فطورهم المتكون عادة من اللبن وأنواع التمور، وتوجهوا إلى أعمالهم مبكرين واستقبلوا يومهم متوكلين على الله ومستعينين به في كل أعمالهم، وأدوا حق الله عليهم، فخشعت قلوبهم، واطمأنت بذكر الله نفوسهم، وعاشوا جميعا أخوة متحابين، وذكروا اسم الله في كل عمل يستقبلونه، فلم تكن هناك أمراض نفسية ولا عصبية، ولقد أثبتت التجارب أن الأمراض النفسية تؤثر على صحة الإنسان وعلى سلامة أعضائه، فكثير من الأمراض العضوية سببها الاضطرابات النفسية والعصبية، فلنرجع إلى الله سبحانه وتعالى ونستغفره ونتوب إليه؛ لتطمئن نفوسنا ويصلح حالنا وتشفى نفوسنا وأجسادنا، فالجسم البشري جهاز متعاون متكامل، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" [3] ، وأود أن أذكر أنه قبل أن تكتشف الأمراض وتظهر علاقة المرض بأعضاء الجسم وتأثيرها عليه، كان قول رسولنا الكريم وهو لا ينطق عن الهوى لأنه وحي يوحى إليه من الله تعالى، ومن هنا ننظر إلى عظمة الإسلام وحضارته منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، وقد سبق في الفضل الغرب والشرق، إذ أننا نجد أن مرض أي عضو من أعضاء الجسم له شواهده وأعراضه على بقية أجزاء الجسم الأخرى، فكثير من الأمراض الداخلية لها شواهد تظهر أحيانا في الفم واللسان أو الأسنان أو الجلد، وكذلك تظهر في ارتفاع درجة الحرارة.(21/195)
فيجب علينا أن نتجه دائما إلى الله سبحانه وتعالى ولا نكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فخسروا الدنيا والآخرة، فتفشت فيهم الأمراض النفسية والعضوية، وبالرغم من الاختراعات الحديثة والمدنية كما يدعون ووسائل العلاج؛ فإننا نجد أن نسبة تسوس الأسنان والتهابات اللثة وأمراض الفم في البلدان المتقدمة (الغربية) أكثر من أي مكان آخر، وذلك لأسباب كثيرة، ذكرت بعضها، ومنها أن الأم تترك وليدها للتغذية الصناعية وتحرمه من حقه في الرضاعة، وأهملت الأم بيتها فلجأت إلى السهل من الأطعمة اللينة وشبه المجهزة والمحفوظة، ونشأ الطفل الأوربي في بيئة مفككة تحت غير نظام الأسرة، فتعود العادات السيئة مثل التدخين وشرب المواد الكحولية، وكل ذلك أثر على صحته وسلامة فمه وأسنانه.
ونحن المسلمين في كل يوم وقبل كل صلاة نتوضأ ونغسل الفم ونتمضمض، وهي عملية تنظيف، وفي نفس الوقت وقاية للفم والأسنان خاصة إذا استعملنا السواك.
إن لبدنك عليك حقا، وهو المحافظة عليه واستعمال كل عضو فيما أحله الله لك.
ولقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة في أنفسنا وفي أجسامنا؛ فلنحافظ على هذه النعم، ونديم شكر الله علينا، ولنتجنب ما نهانا الله عنه وما يضر بأبداننا ويفسد قلوبنا، ولنأكل من طيبات ما رزقنا الله سبحانه وتعالى، ولنبتعد عن العادات الخبيثة الضارة كالتدخين، فالتدخين ضياع للمال وفساد للبدن، وسوف نحاسب على ذلك، وإن فقد أي جزء من أجزاء الجسم خسارة كبيرة مهم بلغت الدقة في الصناعة، ومهما سمعنا عن التقدم في زراعة الأسنان، ولقد يكون تعويضا كافيا عن الأسنان التي خلقها الله مكونة في طبقات مختلفة تؤدي وظائف متعددة، وأمدها بشرايين صغيرة تحمل الدم والغذاء، وأمدها بالمواد الدفاعية التي تقيه السموم وجراثيم الأمراض، وكذلك جعل فيه الحس والأعصاب.(21/196)
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ فلقد أنعم الله علينا بنعمة الإسلام والإيمان، وهي نعمة عظيمة وجليلة، ولقد يسر الله لنا سبل العلاج، وكان فضل الله علينا عظيما أن هيأ لهذه البلاد المباركة قادة وولاة مخلصين اهتموا بالعلاج والدواء وصحة المواطنين؛ فانتشرت المستشفيات والمستوصفات في كل مكان، وفي جامعتنا الإسلامية المباركة وبتوفيق من الله واهتمام المسؤولين والقائمين على النهوض بهذه الجامعة أن هيأوا لإدارتها الطبية السبل الكفيلة للنهوض بهذه الإدارة، وكان لتشجيعهم الأثر الطيب في نفوسنا جميعا بإتاحة المجال لتأمين وشراء أحدث وأعظم ما وصل إليه العلم الحديث من آلات ومعدات إلكترونية وتأمين الأدوية اللازمة لكل التخصصات من أحدث الشركات العالمية، فالدواء متوفر للجميع مهما بلغ ثمنه، وكذلك التوسع في الخدمات الطبية بإنشاء مبان جديدة وفتح عيادات متخصصة حديثة، وإنشاء غرفة عمليات وإنعاش وإجراء عمليات جراحية كللت جميعها بالنجاح بفضل الله ثم بتوفيق وجهود المخلصين، كذلك أنشئ بنك للدم، والإدارة الطبية بالجامعة دائما تسعى لتحسين الخدمة وتقديم كل إمكانياتها لتوفير العلاج للجميع.
والله أسأل أن يوفق المخلصين ويجزيهم خير الجزاء.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم.
[2] رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
[3] رواه البخاري ومسلم.(21/197)
مع الخلية العصبية وبديع صنع الله
للدكتور فكري السيد عوض
أخصائي العيون بالجامعة
يوجد بالجسم البشري أجهزة غريبة معقدة التركيب كل منها له وظيفته، وكل ميسر لما خلق له، ويتحكم في ذلك كله جهاز يقوم بالتنسيق بين جميع تلك الأجهزة وينظم وظائفها، إنه الجهاز العصبي، حيث يتحكم في الجسم كله على الإطلاق.
وسنلقي بعض الضوء في عجالة سريعة حول ذلك الجهاز الرباني الدقيق الصنع؛ لنقف على حقيقة يتدبرها من يتدبر، لنقول بعدها: سبحان الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأن هذا الإنسان الذي أنشأه الله برعايته وتولاه بحفظه وعنايته، يقدر سبحانه وتعالى أن يخرسه أو يعميه أو يصمه أو يشله في أي لحظة من اللحظات وبدون مقدمات؛ {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يس / 83.
والجهاز العصبي يتكون من شقين:
الأول: جهاز مركزي: ويشمل المخ والنخاع الشوكي.
والثاني: جهاز فرعي: ويشمل الأعصاب المخية والأعصاب الشوكية والأعصاب الذاتية.
أولا: المخ:
يخرج منه اثنا عشر زوجا من الأعصاب المخية، فالأول للشم، والثاني للبصر، والثالث والرابع والسادس من أجل حركة العين، أما الخامس فيختص بنقل الأحاسيس من الوجه والجبهة والأسنان، ويحرك العضلات الماضغة، والسابع يقوم بتحريك عضلات الوجه والشفاه؛ فيسيطر وحده على ست وأربعين عضلة موزعة على الجانبين منها ست وعشرون عضلة حول الشفتين، والثامن خاص بحاسة السمع والاتزان؛ فينقل المسموعات إلى ما يزيد عن ثلاثين ألف خلية سمعية، والتاسع يختص بمنطقة البلعوم واللسان، والعاشر يغذي القلب والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي، والحادي عشر لتغذية الرقبة وفوق الكتف، والثاني عشر يختص بحركة عضلات اللسان الذي يحتوي على سبعة عشرة عضلة.(21/198)
ولم أقصد إلى سرد محاضرة في التشريح، بل هو إيضاح حتى يمكن لنا أن نتخيل ماذا يحدث لو أصيب الإنسان بشلل في أحد هذه الأعصاب، وهنا ندرك قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إبراهيم /34، كما يقول الدكتور وتز - عميد كلية الطب في باريس وعضو أكاديمية العلوم -: (إذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله تزعزعت وجهت وجهي إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها) ، وصدق الله إذ يقول: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} الجاثية / 4.
ويبلغ عدد الخلايا التي في الدماغ أربعة عشر مليار خلية، وكل منطقة من مناطق المخ تتراكم فيها أنواع خاصة من الخلايا أكثر من غيرها، فهذه منطقة للرؤية، وتلك للسمع، وثالثة للحركة، ورابعة للحس، وهكذا، ولوحظ أن خلايا الدماغ ترسل إشارات كهربائية أمكن تسجيلها ونقلها وتكبيرها بآلة ترسم هذه الإشارات بشكل خطوط وموجات مما فتح مجالات كثيرة أمام الطب، مثل تحديد بعض الأمراض المخيفة، والكشف عن بعض الأورام المدفونة في تلافيف المخ.
وكلما كان تركيب الشيء معقدا ووظيفته غالية كلما كانت العناية به فائقة والمحافظة عليه ضرورية؛ ولذلك نجد أن المخ تحميه الأشياء الآتية:
1- بقة من العظام: وهي عظام الجمجمة التي تتكون من اثنتين وعشرين عظمة.
2- أغشية ثلاثة تغلفه.
3- سائل يحيط به من جميع الجهات ليكون حاميا له من الرضوض والصدمات.
إنها الرعاية الإلهية الشاملة، كما في الجنين وهو في رحم أمه حيث يحيط به السائل الأمنيوسي وثلاثة أغلفة.
ثانيا: النخاع الشوكي:(21/199)
يتصل بالمخ عن طريق فتحة كبيرة في مؤخرة الجمجمة، ويقع النخاع الشوكي داخل قنوات في العمود الفقري، وأيضا تحوطه طبقة من العظام (عظام الفقرات) والأغلفة الثلاثة، والسائل الشوكي، ويبلغ طوله حوالي ثلاثة وأربعين سنتيمترا، وقطره حوالي سنتيمتر واحد، ويتفرع منه واحد وثلاثون زوجا من الأعصاب تخرج جميعها خلال ثقوب صغيرة من بين الفقرات، وتوزع على بقية أجزاء الجسم لتقوم بنقل الأحاسيس، وكل عصب شوكي موكل بنقل إحساس معين من مكان محدود، ويأمر مجموعة معينة من العضلات بأوامر معينة في دقة وانسجام.
وعملية نقل الحس تثير الدهشة والتعجب، حيث تنقل الأحاسيس إلى خلايا الأعصاب الشوكية في النخاع الشوكي؛ ليصل في النهاية إلى المخّ الذي يقوم بترجمتها وإصدار الأوامر إلى تلك الأعصاب؛ لتحرك عضلات معينة وفقا لما تقتضيه الحاجة، ولنا أن نتخيل أن عدد الإشارات التي تصب في الجهاز العصبي في كل ثانية (000ر000ر100) مائة مليون إشارة قادمة من الأعضاء الحسية، فالجلد مثلا يحتوي على الأجهزة الآتية:
(000ر000ر3 إلى 000ر000ر4) من ثلاثة إلى أربعة ملايين جهاز للألم.
(000ر500) خمسمائة ألف جهاز خاص باللمس أو الضغط.
(000ر200) مائتي ألف جهاز حساس للحرارة.
ومن هنا نستشعر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء / 56.(21/200)
وهناك نوع آخر من الإحساس هو الإحساس العميق (حس الأعضاء والعضلات والعظام) ، وهذا من عمل المخيخ حيث يقوم بالمحافظة على اتزان الجسم وانسجام حركاته، وأي خلل بسيط يصيب المخيخ يعطل هذا التوازن فيضطرب المشي، وترتجف الأطراف، وتتقطع الكلمات، وعندما جربوا تخريب المخيخ في الطيور ثم ألقيت في الهواء سقطت كالجسم ليس فيها حراك، مع أنها تبصر ما يحل بها؛ لأنها لا تستطيع أن تنظم حركات أجنحتها.
ثالثا: الجهاز العصبي الذاتي:
وهو مجموعة من الأعصاب تنقسم إلى مجموعتين كل منهما يناقض الآخر:
المجموعة الأولى: تسمى بالأعصاب الودية أو التعاطفية:
وهذه تنشط في حالات الغضب أو القتال حيث ترسل الإشارات إلى المخ وتترجم لمواجهة الموقف بأقصى سرعة؛ فتقوم تلك الأعصاب بدورها العجيب من توفير للرؤيا (حيث تتسع حدقة العين) ، وتوفير الغذاء (فيدفع السكر من مخازنه لكي تحرقه وتحوله إلى طاقة) ، وتوفير الهواء (حيث يزداد عمق التنفس) ، وتوفير الدم (حيث تزداد سرعة الدورة الدموية) .
إنه الاستعداد التام السريع لمواجهة الخطر المفاجئ، إسراع في ضربات القلب، اندفاع الدم بسرعة إلى الأوعية الدموية، ارتفاع في ضغط الدم، انتفاخ في الأوداج، إفراز للعرق، ازدياد في عمق التنفس، حالة شديدة من الغيظ، وتثور شهوة الغضب، فإذا استطاع الإنسان أن يقهر نفسه بحلمه، ويصرعها بثباته، فإنه يكون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" [1] ، وقد بينت الشريعة الإسلامية الطرق العديدة لمواجهة حالة الغضب هذه كما يلي:(21/201)
أ- بالقول: وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، كما جاء في الحديث أنه استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجه أحدهما؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" [2] .
ب- بالوضوء: وذلك كما جاء في الحديث الذي رواه أبو وائل القاص حيث قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه فقام فتوضأ؛ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" [3] .
ج- بتغيير وضع الجسم عند حدوث الغضب، وذلك كما جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري حيث قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" [4] .
وقبل كل هذا نتذكر الوصية العظيمة التي جاءت في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصني ولا تكثر علي أو قال: وأقلله لي كي لا أنسى، قال: "لا تغضب".
المجموعة الثانية: الأعصاب نظير الودية:
وهي تنشط في حالات الأمان والهدوء والاسترخاء، عندئذ ينشط الجهاز الهضمي وتزداد الإفرازات، وتبطئ حركات القلب، ويقل التنفس.
وهكذا يظل الجسم في حالة اتزان عجيبة ما بين جهاز يسرع (إذا جاء الخوف والغضب) وما بين جهاز يبطئ (إذا جاء الاسترخاء والهدوء) ، والإنسان لا يتحكم في هذا ولا ذاك، ولو حدث أي خلل في ذلك الاتزان المتقن لكانت له ويلاته الوخيمة التي يضيق المجال عن ذكرها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} الرعد / 8.(21/202)
بقي أن نعرف أن الخلية العصبية تتغذى كباقي الخلايا، وتتفاعل كما تتفاعل الخلايا الأخرى، وتركيبها الداخلي أيضا لا يفترق كثيرا عن الخلايا الأخرى، فما هو الشيء الكامن فيها بحيث تكون مقرا للتفكير والإدراك والخيال؟ لا جواب، كل الذي وصل إليه العلماء أنه يوجد بداخل الخلية العصبية جسيمات (جسيمات نيسل) لا توجد في الخلايا الأخرى، ووجد أنها تكثر أثناء الراحة وتقل أثناء العمل.
ولا يزال البحث جاريا للكشف عن هذا السر والوقوف على الأشياء الكثيرة التي مازالت في عالم المجهول، بالرغم من تقدم العلم إلى أقصى مداه، وصدق الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاًّ قَلِيلاً} .
وتوجد أمراض كثيرة تصيب هذا لجهاز الغالي، وتحدث أعراضا غريبة ومخيفة، وسنذكر منها أعراض حالة واحدة تجعل الإنسان يفقد أعز ما وهبه الله، وهذه الحالة تسمى (الحبسة) ، وتحدث بأحد الأشكال الآتية:
أ- تجد المريض يسمع جيدا ويفهم ما يقال له، ويرى جيدا ويفهم ما يراه، ومع كل هذا لا يستطيع أن ينطق بالكلمة التي سمعها أو يكتب الشيء الذي رآه.
ب- المريض يسمع لكنه لا يفهم ما يسمعه، مع أنه يتكلم ولكن لا فائدة ولا معنى لكلامه.
ج- المريض يقرأ ويكتب ويرى الكتابة، ولكنه لا يفهم معناها.
د- له عين سليمة، وأذن طبيعية، وأحبال صوتية عادية، لكنه إذا رأى لا يفهم ما يراه، وإذا سمع لا يعقل ما سمعه، وإذا أراد النطق عجز عن ذلك.
أظن بعد هذا الجزء القليل من هذا المرض المخيف الذي أصاب مركزا واحدا من مراكز المخ العديدة أنه لا يعقل أن يتكبر هذا الإنسان الذي خلق من طين، وأصبح خصيما مبينا، بل من البديهي أن يشكر الله الذي أفاض عليه من نعمه وهداه وعافاه.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا واجعله الوارث منا.(21/203)
وهناك نقطة أخيرة نختم بها الحديث، وهي ماذا يحدث لهذا الجهاز العصبي الذي تفضل الله به علينا وأمرنا بالمحافظة عليه، ماذا يحدث له إذا شذّ الإنسان عن نهج الله وخالف أوامر ربه؟
الإجابة عديدة ومتفرعة وسنقتصر على جزء قليل من ناحية واحدة فقط، وهي تأثير الخمر على ذلك الحهاز العزيز.
فالخمر كما هو معروف في اللغة خمر الشيء: ستره، خمر وجهه أي غطاه، فماذا تفعل الخمر؟ إنها تستر وتغطي هذا الجهاز الدقيق فيختل عمله وتعتل وظيفته، سواء كان هذا المسكر له تأثير مباشر بسمومه على الجهاز العصبي حيث يسبب ضمورا لخلايا المخ والمخيخ والعضلات، أو كان تأثيرها بطريقة غير مباشرة على الجهاز العصبي، وذلك لما تسببه من نقص في بعض مجموعة فيتامين ب المركب، (وذلك لما ينتج عنها من التهابات في جدار المعدة والأمعاء وسوء الامتصاص من الأمعاء، وكذلك لأن الخمر (الكحول) ذات سعر حراري مرتفع يحتاج لأكسدته كميات كبيرة من فيتامين ب المركب) ، وإذا ما حدث هذا النقص أدى إلى أمراض كثيرة وعديدة منها التهابات الأعصاب سواء كانت هذه الأعصاب مخية أو نخاعية أو ذاتية.
وما نراه عند المدمنين من ارتعاش في اليدين، وحالات الهلوسة (حيث يتخيل المريض أن أمامه أشباحا يراها بعينه، ويسمع أصواتا لا وجود لها، ويشم روائح كريهة لا أساس لها، وهكذا تصبح حياته كلها في خيالات وأوهام مخيفة) ، وكذلك ما نراه من حالات الصرع والتشنجات لما تسببه من تهيج لخلايا المخ، فإن الإنسان إذا ما وصل إلى هذه المرحلة، فإن العلاج يتطلب جهدا خارقا وتخصصات دقيقة وإمكانات لإنقاذه، وربما مع كل هذا لا يتم شفاؤه.(21/204)
ومن هنا كانت التنبيهات والتأكيدات المتتابعة لعدم الاقتراب من الخمر حينما قرنها الله تعالى بالميسر والأنصاب والأزلام، وحينما وصفها بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأنها وسيلة لإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعدم الفلاح، ولذا كان لابد من اجتنابها وسد كل الطرق المؤدية إليها، والحذر دائما وفي كل حين من هذه الآفة اللعينة؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} المائدة /90- 92.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مسلم.
[2] رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سليمان بن صرد.
[3] رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عطية العوفي.
[4] رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان.(21/205)
من أعماق الكتب
سعد ندا
- لماذا اعتنقت الإسلام؟
- وما الذي جذبني إليه خاصة؟
- هنا يجب أن أعترف أنني لا أعرف جوابا شافيا؟
- لم يكن الذي جذبني تعليما خاصا من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب والمتراص بما لا نستطيع له تفسيرا من تلك التعاليم الأخلاقية، بالإضافة إلى منهاج الحياة العملية.
- ولا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها؛ فإن الإسلام - على ما يبدو لي - بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضا، ويشد بعضها بعضا، فليس هناك شيء لا حاجة إليه، وليس هناك نقص في شيء، فنتج عن ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص.
- ولعل هذا الشعور من أن ما في الإسلام من تعاليم وفرائض (قد وضعت مواضعها) ، هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي، وربما كانت مع هذا كله أيضا مؤثرات أخرى يصعب علي الآن أن أحللها، وبالإيجاز فقد كان ذلك قضية من قضايا الحب، والحب يتألف من أشياء كثيرة، من رغباتنا وتوحدنا، ومن أهدافنا السامية وعثراتنا، ومن قوتنا وضعفنا، وكذلك كان شأني، لقد هبط علي الإسلام كاللص الذي يهبط المنزل في جوف الليل، ولكنه لا يشبه اللص لأنه هبط ليبقى إلى الأبد.(21/206)
ومن ذلك الحين سعيت إلى أن أتعلم من الإسلام كل ما أقدر: لقد درست القرآن الكريم، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لقد درست لغة الإسلام، وتاريخ الإسلام، وكثيرا مما كتب عنه، أو كتب في الرد عليه، وقد قضيت أكثر من خمس سنوات في الحجاز ونجد، وأكثر ذلك في المدينة؛ ليطمئن قلبي بشيء من البيئة الأصلية الذي قام النبي العربي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إليه فيها، وبما أن الحجاز ملتقى المسلمين من جميع الأقطار، فقد تمكنت من المقارنة بين أكثر وجهات النظر الدينية والاجتماعية التي تسود العالم الإسلامي في أيامنا، هذه الدراسات والمقارنات خلقت فيَّ العقيدة الراسخة بأن الإسلام من وجهتيه الروحية والاجتماعية، لا يزال بالرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين، أعظم قوة نَهّاضة بالهمم عرفها البشر.
وهكذا تجمعت رغباتي كلها منذ ذلك الحين حول مسألة بعثه من جديد.
من كتاب (الإسلام على مفترق الطرق)
للمستشرق النمساوي المسلم (محمد أسد)
تعليق التحرير:
تلك كلمات رائعة صاغها الأستاذ محمد أسد، ذلك الرجل الذي شرح الله صدره للإسلام، فأصبح - بفضل الله ورحمته - على نور من ربه، وعبر بها عن شعوره عن هذا الدين العظيم، وحاول أن يضمنها سبب اعتناقه للإسلام، وأخذ يتلمس ما استهواه منه حتى دخل حماه، ولكنه لم يبلغ ما يريد من ذلك إلا أن يصور الإسلام بناء مجموعا، عجيبا متراصا، تام الصنعة، لا نقص فيه، بل إن أجزاءه يتم بعضها بعضا، وقد وضع كل منها في موضعه فتكون ائتلاف متزن مرصوص.
وقد ذكر الأستاذ محمد أسد أن هذا الدين هبط عليه كاللص الذي يهبط المنزل في جوف الليل ثم استدرك فقال: "ولكن لا يشبه اللص لأنه هبط علي ليبقى إلى الأبد".
والذي أفهمه من تعبيره أنه يريد أن يقول قد تسلل إلى قلبه فجأة - دون سابق إنذار - فاحتله، وسكن في جنباته، فاطمأن اطمئنانا يبقى معه مدى حياته.(21/207)
ولقد دفعه اطمئنانه بالإسلام إلى أن يعيش في مهده الأول، ليلمس تطبيقا عمليا، ويقارن بين المجتمع المسلم والمجتمع الأوربي الذي أعرض عن الإسلام ونأى عنه بجانبه، ولينتهي إلى النتيجة التي لا يقوى أحد على إنكارها، وهي أن الإسلام من وجهتيه الروحية والاجتماعية - بالرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين - أعظم قوة نَهّاضة بالهمم عرفها البشر.
تلك - في إيجاز - مشاعر وأحاسيس ذلك المستشرق المسلم الذي استضاء بنور الهدى، فأنار له قلبه، وفكره، وحياته، وصدق فيه وفي أمثاله قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} . (الزمر آية 22) .
أما أولئك الذين تحجرت قلوبهم، فعموا عن هدى الله وصمّوا، فضلوا وأضلوا، فأظلمت قلوبهم، وأفكارهم، وحياتهم؛ فقد صدق فيهم وفي أمثالهم قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الزمر آية 22) .
ولماذا لا يلحقهم الويل، ويحيق بهم العذاب؟ إنهم كذبوا الله ونبذوا هديه؛ {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الزمر آية 26) .
فلينتبه أولئك المعرضون عن الله بصفة عامة، والمستشرقون الذين اتخذوا بحثهم في الإسلام تجارة به وحربا له، دون أن يُسلموا، بصفة خاصة، وليحذو حذو مستشرقنا المسلم الأستاذ محمد أسد في صدق الإسلام وإخلاص الدين الحق لله رب العالمين.
ثم ليعد المسلمون إلى الأخذ بدينهم العظيم، وتحكيم نهج الله في كل أمورهم، حتى يعود لهم مجدهم، وعزهم، وأمنهم، وسكينتهم، ولن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
سعد ندا
عضو تحرير مجلة الجامعة الإسلامية(21/208)
مختارات من الصحف
الطاغوت الجديد:
لما عجزت اليهودية العالمية والصليبية العالمية ومؤتمرات التنصير عن القضاء على الإسلام في قلوب المسلمين، وأخفقت أيضا في أسلوب التدخل العسكري السافر لجأت إلى حيلة ماكرة، وهي إيجاد أنظمة تحمل شعار المسلمين وتكتب في دساتيرها أن دين الدولة الإسلام.
فالإسلام عند هذه الأنظمة مناسبات واحتفالات وتراث يوضع في المتاحف، وفولكلور يعرض على المسارح، أما أن يكون نظام حياة يغطي جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والأخلاقية والتعليمية فهذا مرفوض، وكل من يحاول أن يفهم الإسلام هذا المفهوم الصحيح أو ينادي به أو يعمل لإعادة سلطان الله المغتصب في الأرض؛ فإن أعواد المشانق في انتظاره، ولقد حققت هذه الأنظمة ما لم يحققه اليهود والنصارى والشيوعيون عبر ثلاثة قرون.
(عن مجلة المجتمع الكويتية)
الإسلام بنظر ريجان:
في تصريح أدلى به ريجان الرئيس الجديد للولايات المتحدة لمراسيلي الصحف عقيب فوزه في الانتخابات عمد إلى تحريض الأميركيين ضد المسلمين بقوله:
"إن المسلمين يرجعون إلى فكرتهم التي تقول: إن الطريق إلى الجنة هو أن يموت المسلم وهو يقاتل المسيحيين أو اليهود".
وكان لهذا اللغو الشيطاني أسوأ الأثر في مسلمي العالم، وبخاصة مسلمي أمريكة الشمالية..
وقد دعا الأمين العام لمجلس المساجد في أمريكة رؤساء الجمعيات الإسلامية إلى اجتماع طارئ لبحث النتائج المترتبة على هذا التصريح، وبعث ببرقية إلى ريجان يستنكر بها تلك المحاولات المثيرة، ويذكره بما يلقاه اليهود والنصارى في بلاد المسلمين من تسامح وعدالة تكذب ادعاءه..
..وأنديرا غاندي(21/209)
وفي الهند أيضا أعلنت رئيسة حكومتها أنديرا غاندي نقمتها على مؤتمر القمة الإسلامي، وهاجمت مفهوم التمسك بالمبادئ الإسلامية قائلة إنه بمثابة حرب نفسية من جانب أولئك الذين يتذرعون به..
وأضافت إلى ما تقدم أن الهدف من ذلك التحيز ضد كل الذين يؤكدون شخصيتهم القومية، وإعطاء انطباع بأنه ليس هناك عناصر ليبرالية أو رشيدة في العالم الإسلامي..
ولا يستغرب من هذه السيدة أن تعلن نقمتها على مبادئ الإسلام على هذا الوجه من الكراهية، وهي التي يذبح المسلمون في ظل حكمها بالمئات والآلاف؛ فلا تزيد على القول: إن الذين يقتلون من المسلمين في بعض الدول العربية أكثر من الذين يقتلون في الهند..
كأن دماء المسلمين موضع سباق بين الطواغيت؛ فعلى كل منهم أن يفرغ وسعه في القضاء عليهم..
ولا حول ولا قوة إلا بالله..
جرائم الشيوعية
أباد الروس سنة 1921م بالقرم 100000 مسلم بالجوع، وأرغموا 50000 مسلم على الهجرة في عهد بللاكو الشيوعي الهنغاري الذي نصبوه رئيسا للجمهورية القرمية الإسلامية.
وقد قلد الشيوعيون في شرق أوربا رفاقهم في روسيا؛ فأبادوا في يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية 24000 مسلم، وهدموا المساجد وحولوها إلى دور للهو، وبلغ مجموع المساجد التي هدمت أو حولت إلى غايات أخرى في تركستان وحدها 6682 جامعا ومسجدا، منها أعظم المساجد الأثرية مثل (منارة مسجد كالان) في مدينة بخارى.
تقرير هام من طشقند(21/210)
أذاعت وكالة الأنباء الفرنسية تقريرا هاما بعث به مراسلها في طشقند، وهي المدينة التي نظم فيها السوفيت مؤخرا مؤتمرا إسلاميا قاطعته الدول الإسلامية، وقد ذكر المراسل في تقريره أن بعض الخبراء الغربيين يتوقعون حدوث انفجار إسلامي في الاتحاد السوفيتي الذي يقطنه حوالي ستين مليون مسلم، يتجمع معظمهم في جمهوريات آسيا الوسطى على الحدود السوفيتية، على مقربة من بعض الدول التي تجتاحها الحركات الإسلامية العنيفة مثل إيران، وأشار المراسل إلى أن هذه التوقعات التي تثير المخاوف في الاتحاد السوفيتي ترجع إلى الزيادة المذهلة لعدد السكان في الجمهوريات السوفيتية بآسيا الوسطى، وهي أعلى نسبة في الاتحاد السوفيتي بأكمله كما ترجع إلى تمسك سكان هذه الجمهوريات بالتقاليد الإسلامية.
(الأخبار الكويتية)
اللاجئون في السودان والغزو الصليبي
موجز من تقرير لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي، عميد كلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية:
- لفت نظري في عاصمة جمهورية السودان مبنى (مجمع الكنائس العالمية بالخرطوم) ، وهو يملك إمكانات كبيرة جندها في غزو اللاجئين من الأقطار المجاورة للسودان: وهي أرتيريا وأثيوبيا وتشاد وأوغندا، وفي ضواحي مدينة (كسلا) عدة معسكرات للاجئين في (خشم القربة) ، وفي (القضارف) معسكرات أخرى، يعيش فيها هؤلاء المساكين الذين خرجوا من ديارهم، وقد فقدوا الأمن والوطن وكل ما يملكون، وهم يعيشون في هذه المعسكرات في حالة سيئة جدا وخاصة في موسم الأمطار، وهذه هي المناطق التي أتيح لي المرور بها والإلمام ببعض ما يعانيه اللاجئون إليها، وقد علمت أن هناك مناطق متعددة للاجئين في غرب السودان وجنوبه وشرقه.(21/211)
- ونشاط المبشرين مخطط ومنظم؛ فمجلس الكنائس العالمي يضع في أيدي دعاة التنصير إمكانات واسعة، ويطلق أيديهم في التصرف ماليا وإداريا، فهم يقومون بتشييد الكنائس في عدة مناطق من السودان، بين الأهالي المسلمين على الرغم من معارضتهم، بالإضافة إلى:
1- توفير مكائن الخياطة والتطريز للفتيات مع تقديم المعونة النقدية لهن.
2- توظيف الشباب في الأعمال الكتابية إن كانوا مثقفين.
3- توجيه غير المتعلمين إلى المهن الحرة المناسبة، ومنحهم مساعدة مالية سخية.
4- اختيار بعض الطلاب للمنح الدراسية مع التساهل في شروط القبول.
5- العمل في مجال الرياضة على احتواء الفرق الرياضية من الشباب السوداني وغيرهم من الرياضيين اللاجئين، وتقديم أدوات الألعاب الرياضية إليهم.
- وإذا نظرنا إلى نشاط الدعاة في السودان وجهودهم فإنا نجد ضآلة هذه الجهود، وقلة إمكاناتهم المادية والعلمية؛ فلابد من العمل على تلافي هذا النقص، وهذا من مهمة (المجلس الأعلى العالمي للمساجد) التابع لرابطة العالم الإسلامي، بالتعاون مع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وإني أوصي بما يلي:
أولا: إنشاء مكتب للدعوة الإسلامية يتبع المجلس الأعلى العالمي للمساجد في جمهورية السودان، تكون له صلاحيات كافية للقيام بالأعباء التي يقتضيها الموقف الذي تمر به هذه البلاد.
ثانيا: الاعتناء يإيفاد الدعاة الأكفاء المؤهلين لدعوة الناس، الذين تتوفر فيهم صفات الإخلاص والعلم والذكاء.
ثالثا: عدم إغفال المجالات الاجتماعية العملية لتدريب المسلمين على أعمال الحرف المتنوعة من خياطة وحياكة وكتابة وحدادة وزراعة، وتمويل بعض المشاريع الصغيرة في هذه المجالات.(21/212)
أحداث العالم الإسلامي
100 ألف فلبيني مسلم يهاجرون
قالت وكالة أنباء (إنتارا) الإندونيسية إن أكثر من 100 ألف من المسلمين الفليبينيين لجأوا إلى مقاطعة (صباح) الواقعة شرقي ماليزيا، وذلك نتيجة ازدياد نشاط الثوار المسلمين في جنوب الفليبين، وحملات التنكيل التي تقوم بها ضدهم قوات الرئيس الفليبيني ماركوس.
وقالت الوكالة - نقلا عن مصادر متعددة - إن كلا من إندونيسيا وماليزيا تسعيان للتعرف على وجهة نظر الحكومة الفليبينية في الموضوع.
وحذرت هذه المصادر من أن عدم حل الخلاف في الفليبين بشكل نهائي وفي زمن قريب فإن الأمر قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي في المنطقة.
وكانت الحكومة الفليبينية قد أعلنت مؤخرا عن إلغاء اتفاقية طرابلس التي عقدتها مع زعماء الثورة الإسلامية عام 1976.
(جريدة النور)
المستشرق المجري المسلم
الدكتور عبد الكريم جرمانوس
هو أحد مجموعة من مستشرقي العالم الغربي الذين شرح الله صدورهم فهداهم إلى الحق، وقد اعتنق الإسلام عام 1930، ومنذ ذلك اليوم لم يفتر نشاطه في خدمة الإسلام ولغة القرآن، عاش في مكة ردحا من الزمن، وجاور في الأزهر، وتنقل ما بين استنبول والهند وأوروبة، ورأس قسم الدراسات الإسلامية والشرقية في جامعة بودابست، وقد بلغت تآليفه مائة وخمسين كتابا في العلوم الإسلامية واللغات الشرقية والتاريخ والفلسفة، وكتبها في أكثر من ثماني لغات.
ومن أبرز مؤلفاته: (الله أكبر) و (الحركات الحديثة في الإسلام) و (شوامخ الأدب العربي) و (بين فكرين) و (حضارات رائدة) و (العلاقات الثقافية بين العرب وأوربة الوسطى) و (معاني القرآن الكريم) .
ومن آرائه المشرقة بنور الحق قوله في خطاب وجهه إلى الملتقى الفكري في الجزائر:(21/213)
إنني أكتب هذه السطور من قلب المدنية الغربية محاطا بآلاف الكتب ومزودا بحياة طولها تسعة وثمانون عاما بين الخبرة الغربية والشرقية، والمجلدات الغربية والشرقية، إنني أتشرب المعلومات والمعرفة المفيدة كما أتشرب الأحداث المؤذية في الكيان الإنساني في كرتنا الأرضية، إنني بحكم كوني المجري المسلم الوحيد والحاج، أحث بجسارة وشجاعة كل إخواني المسلمين للحفاظ على الأخلاق التي هي عقائدنا الروحية في ديننا الإسلامي: حافظوا على الشريعة الإسلامية التي ترتكز على الأخلاق، إن فلسفة التشريع الغربي قد قامت عقيدتها ومعتقداتها على فكر إنساني متأثر باعتبارات سياسية فقط، بينما الشريعة الإسلامية قد انبثقت من الإيمان والاقتناع بأن الكون ما هو إلا خلق منسق منتظم للروحيات الأخلاقية؛ أساس العقيدة هو الوحي وتنفيذها مبني على أساس قانون استدلالات، واستنتاجات منطقية التفكير، وعلى شرح وتفسير دنيوي زائل وأحوال مادية ...
رحم الله المستشرق المؤمن الدكتور عبد الكريم جرمانوس كفاء خدماته للإسلام ولغة القرآن..(21/214)
أخبار الجامعة
وقائع الجلسة الافتتاحية للدورة العاشرة للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية:
عقد المجلس الأعلى جلسته الافتتاحية في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد 5 من ذي القعدة الموافق 1400 الموافق 14 سبتمبر 1980م، برئاسة حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.
وقد بدئت الجلسة بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم افتتح سموه الدورة بكلمة قال فيها:
كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة
بسم الله ارحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
في هذا اليوم المبارك أتيحت لي هذه الفرصة الطيبة لألتقي بإخواني من المسئولين في الجامعة الإسلامية، ومن أسعدنا تفرغهم للقيام بواجبهم الإسلامي ومشاركة هذه البلاد وهذه الجامعة بمجهودهم الخير، إن هذه الجامعة الإسلامية هي جامعة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإنني لأرجو من الله عز وجل أن يوفق العاملين والقائمين على إدارة هذه الجامعة بما يحب رب العزة والجلال، وأن يوفقنا جميعا في أن نؤدي هذا الواجب العظيم، لعلنا نستطيع أن نقول إننا قمنا ببعض الواجب الذي يتوجب علينا أمام ربنا ورسالة نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال سموه: إن هذه الجامعة تضم بين جانبيها أعدادا كبيرة من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها.
وقال: إن مما لاشك فيه أننا نلمس النتائج الطيبة الخيرة سواء كان بما يصلنا من إخواننا لمسلمين المقيمين في آسيا وإفريقيا أو أوربا أو أمريكا، أو ما يصلنا من المسئولين السعوديين في سفارات المملكة العربية السعودية، بأن هذه الجهود الخيرة أعطت ثمارها، وسوف تعطي أكثر إن شاء الله.(21/215)
وقال سموه: باسم جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، وباسم حكومته وباسم شعب المملكة العربية السعودية أقدم شكري الجزيل لإخواني الحضور في هذه الجلسة، وسوف تستمر حكومة المملكة العربية السعودية في القيام بالواجب نحو هذه الجامعة، ودفعها إلى الأمام، وتهيئة جميع السبل التي تمكن القائمين عليها في أن يستمروا في هذا العمل الخير، وإن من أعظم الأعمال التي سوف نفتخر بها الآن، وتفتخر بها الأجيال القادمة قيام هذه الجامعة في هذه البقعة المباركة.
وقال سموه: إنه لا يفوتني أن أكرر شكري الجزيل لفضيلة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله على ما أبدوه من واجب نحو هذه الجامعة، وكذلك والد الجميع المغفور له جلالة الملك عبد العزيز بما أبداه من اهتمام بهذه البقعة الطاهرة، وجلالة الملك سعود رحمه الله الذي كان له اليد الطولى في قيام هذه الجامعة الإسلامية، واهتمام جلالة الملك فيصل رحمه الله، واهتمام جلالة الملك خالد - حفظه الله - في الوقت الحاضر.
وقال سموه: لقد أمنني جلالته أن أذكر لإخواني المسئولين في هذه الجامعة أن نبذل ونسهل الأسباب التي ترسخ هذه الجامعة، وتهيئ لها السبل المفيدة البناءة، وسوف نعمل على ذلك إن شاء الله.
وختاما أرجو لكم التوفيق في عملكم المبارك في هذا اليوم المبارك وفي هذه البقعة الطاهرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كلمة نائب رئيس الجامعة الدكتور عبد الله الزايد:
ثم ألقى كلمة الجامعة فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة فقال:(21/216)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية.
صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة.
أصحاب السمو الملكي الأمراء.
أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية.
أصحاب المعالي الوزراء.
أيها الضيوف الكرام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
إنه لمن المعروف حقا أن المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة الإسلامية خاصة - والعالم عامة - هي مرحلة جد خطيرة، نظرا لما أفرزته من صراعات فكرية حادة نشأت منها وستنشأ صراعات مادية تهدد حياة البشرية على هذا الكوكب بالدمار والفناء.. وربما كان نصيبنا - نحن المسلمين - من التعرض لويلات هذه الصراعات أكبر نصيب؛ نظرا لما عرض لنا من ضعف في هذه المرحلة التاريخية؛ فصرنا هدفا يرمى وغنيمة يتنازع فيها المتنازعون، أو نظرا إلى تنبه أعدائنا لحقيقة ديننا وعقيدتنا؛ فمتى كنا كما يريد الله ورسوله حقا وصدقا كان لنا شأن يعرفونه عن أسلافنا الصالحين؛ لذلك يكون نصيبنا من كيدهم وعدائهم أكبر نصيب إن استطاعوا، ولا منجاة لنا من هذا الواقع الرهيب إلا بتحقيق ذاتنا الإسلامية في ضوء تعاليم القرآن والسنة، وفي ضوء السيرة النبوية الهادية، ثم من خلال سير الأصحاب الكرام رضي الله عنهم، ولا ننسى بهذا الصدد مذاهب أئمة الإسلام الأعلام، موزونة ومقدرة ومنظورا إليها في ضوء أصالة ووضاءة مصدر التشريع الحقيقي؛ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(21/217)
وإن الجامعة الإسلامية التي أنشأتها الدولة السعودية - صانها الله - لهي استجابة ومواجهة حيوية تاريخية للظروف والتحديات الراهنة؛ لتسهم في تأصيل الذات الإسلامية وتنقيتها وإثرائها؛ لتتمكن من استئناف الوجود الإسلامي الحق المطلوب، وإن المجلس الأعلى للجامعة الذي يضم نخبة مختارة من علماء العالم الإسلامي وشخصياته الجامعية وخبرائه في التربية والتعليم والتوجيه إنما يرمي إلى إمداد الجامعة في تحركها لتحقيق أهدافها بخبراته القيمة, ومدركاته الفعالة؛ لتكون أقدر على تحقيق رسالتها وأداء أمانتها في معترك الأفكار والتحديات المواجهة.
وإنه لمن جميل صنع الله عز وجل - فله عظيم الحمد وجميل الثناء - أن وفق لاختيار أعضاء المجلس الموقر من قارتي الإسلام آسيا وإفريقية، ومن جنسيات وعروق إسلامية متعددة سعوديين وغير سعوديين وعرب وغيرهم؛ فكان تركيب هذا المجلس الكريم تجاوبا سديدا مع تركيب الجامعة الإسلامية التي ينتمي طلابها إلى نحو من مائة جنسية أو يزيدون، كما كان تجاوبا مع خاصية أمتنا الإسلامية الواحدة، والتي هي أمة الإسلام، هذه الخاصية التي تتخطى في وثوق وقطعية كل الفروق العرقية والقومية واللغوية، وما ورد هذا المورد، أو نحا هذا المنحى.
ونحن واثقون إن شاء الله أن الجامعة ستجد في خبرات أعضاء المجلس الجامعية والأكاديمية والتربوية ما يمد مسيرتها نحو أهدافها بالحيوية والفعالية في نطاق من التخطيط الحكيم والإحكام المحقق لغاياتها، يجزيكم الله خيرا ويحسن مثوبتكم.(21/218)
وبعد فإنه لمما يثلج صدري ويبعث على الأمل حيا نشيطا في جوانب حياة الأمة الإسلامية دعوتكم يا صاحب السمو إلى إعلان الجهاد بتوجيه من جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة والرئيس الفخري للجامعة الإسلامية إمام المسلمين خادم الحرمين الشريفين خالد بن عبد العزيز، الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة يفتحه الله لخاصة أوليائه وخاصة أصفيائه وأهل كرامته، فجزاك الله كل خير وسدد خطاك وأمدك بروح منه.
وإن لهذه الدعوة لدلالات كثيرة منها دقة نظر سموكم - حفظكم الله - وبصيرتكم النافذة في مسيرة التاريخ وفي الظروف المناسبة، ولا غرو فأنت ابن عبد العزيز رجل السياسة والمواقف والحسم الحقيقي.
إن دعوة سموكم إلى الجهاد واجب إسلامي محتم، ألم تر أن الجهاد يكون بإجماع العلماء فرض عين في مواطن منها إذا دخل الكفار بلدا من بلاد المسلمين فيتعين على أهله - ومن ورائهم المسلمون - دفعهم وقتالهم، ولاشك أن الأقطار الإسلامية التي سلمت من دخول الكفار لها بشكل مفتوح أو عن طريق النفوذ والتحكم قليلة جدا، ومن ثم فإن دعوة سموكم تحقيق واجب إسلامي طال وبعد العهد عن لحنه الذي اشتاقت إليه القلوب وهفت إليه النفوس.
هذا وقد قلت في كلمة لي سابقة إن من خصائص هذه الجامعة أنها الجامعة المرشحة والمهيأة - مع ما يماثلها من الجامعات إن شاء الله - للإسهام في إيجاد العالم الإسلامي الواعي المستقر الذي يحتل مكانته اللائقة به تحت الشمس، وهذا يعني لزوما أنها الجامعة المرشحة والمهيأة في إعداد العالم الإسلامي المجاهد إن شاء الله، ومن ثم واندفاعا من حدود وظيفتها الطبيعية هذه فهي بكل طاقاتها وإمكاناتها وراء هذه الدولة في دعوتها إلى الجهاد، وستكون بحول الله من أمضى السيوف تضيء في يمناها إذا جد الجد، وأزفت الساعة المنتظرة.(21/219)
وأخيرا - وليس آخرا - لنا في اجتماع مجلسكم الموقر في هذه الدورة التي أسأل الله أن يباركها أمل كبير في أن تجد الجامعة منها في حاضر أمرها ومستقبله كل الخير لأمتنا الإسلامية المجيدة.
وأسأل الله أن يكتب النصر والتأييد لعباده المجاهدين، وأن يوفق ولاة أمورنا إلى ترشيد مسيرة أمتنا بالهدى ودين الحق الذي بعث الله به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كلمة أعضاء المجلس ألقاها الدكتور إسحاق الفرحان:
وألقى الدكتور إسحاق فرحان أستاذ التربية بجامعة الأردن كلمة نيابة عن أعضاء المجلس؛ فشكر صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد على دعمه المتواصل للجامعة الإسلامية، كما شكر حكومة جلالة الملك على رعايتها لهذه الجامعة حتى تؤدي رسالتها الإسلامية كما أدى الأزهر الشريف وجامع الزيتونة وجامع القرويين في سالف الأيام مع الملوك والأمراء والمجاهدين المسلمين دورهم في قيادة الأمة الإسلامية.
وقال: إن صلاح الأمراء والعلماء في صلاح الناس، وقد اجتمع ذلك والحمد لله منذ التقت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع قيادة الأمير محمد بن سعود، وقد قامت الجامعة الإسلامية تلبية لحاجات المسلمين وتحقيقا لآمالهم في نشر رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وإن أعضاء المجلس يتطلعون إلى اليوم الذي يجدون فيه الجامعة تضم الكليات التي تخرج الطبيب الداعية والمهندس الداعية والمهني الداعية؛ لمواجهة المستشرقين والمستغربين أعداء الإسلام بمثل الأسلحة التي يحاربون بها، حين يرسلون إلى البلاد الإسلامية الطبيب المبشر والمهندس المبشر والمهني المبشر، محاولين غزو المسلمين في عقر دارهم، ولن ينالوا ذلك مع يقظة المسلمين وتمسكهم بعقيدتهم وشريعتهم السمحاء.(21/220)
ثم قال: ولا يفوتني - أيها الأمير - باسمي واسم أعضاء المجلس الأعلى أن نلفت إلى هذه الدعوة الكريمة التي دعوتم إليها، وهي دعوة الجهاد المقدس الذي هو ذروة سنام الإسلام، وهو السلاح الذي ينصر الله به المسلمين؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وأشاد بالتقاء هذه الدعوة مع رسالة الجامعة التي تهيئ النفوس والقلوب للبذل والعطاء في سبيل الله، فرسالتها إذن هي رسالة جهاد ودعوتها هي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة المسلمين من بعده، وبرسالة الإسلام ينصرنا الله على كل المعتدين، وإلى جهاد يحرر الأقصى الذي ينادي مكة المكرمة؛ لتحرر أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد الرحال إليها.
ثم ختم كلمته بأن الله لن يخذل حكومة هذه المملكة ما تمسكت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أهم قرارات المجلس الأعلى في دورته العاشرة:
استمرت جلسات المجلس الأعلى في دورته العاشرة بعد الجلسة الافتتاحية ثلاثة أيام من أيام 5، 6، 7/11/1400.
وقد انعقدت هذه الجلسات مغلقة، ثم كانت الجلسة التي أذيعت فيها أهم القرارات التي اتخذها المجلس في هذه الدورة ومنها:
1- الموافقة على إنشاء قسم للإعلام في كلية الدعوة وأصول الدين.
2- الموافقة على إنشاء قسم للدراسات المسائية للطلبة السعوديين الحاصلين على الشهادة الثانوية لمتابعة الدراسة على مستوى كليات الجامعة، بشروط خاصة ضمانا لحسن سير الدراسة وجديتها.
3- الموافقة على مشروع لائحة دار القرآن الكريم.
4- الموافقة على تعيين الدكتور علي ناصر فقيهي عميدا لشؤون المكتبات بالجامعة.
الدراسات العليا في الجامعة:
أ- أول رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية:(21/221)
نوقشت أول رسالة للحصول على الدكتوراه من الجامعة الإسلامية، وهي الرسالة التي تقدم بها الطالب نايف هاشم الدعيس سعودي الجنسية، وموضوعها (تحقيق كتاب المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي للحافظ الهيثمي) وذلك مساء يوم الأربعاء 22/من ذي القعدة 1400هـ.
وتكونت لجنة المناقشة من أصحاب الفضيلة:
1- فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، عضو مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء.
2- فضيلة الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض.
3- فضيلة الدكتور أكرم ضياء العمري، رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية مشرفا على الرسالة.
4- عمر بن عبد العزيز، وكيل الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
هذا وقد حضر صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز جزءا من هذه المناقشة، وألقى سموه كلمة قيمة بهذه المناسبة شكر فيها الجامعة على مجهوداتها العلمية.
كما ألقى فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية كلمة الجامعة تحدث فيها فضيلة الدكتور عن تطور قسم الدراسات العليا، وما حرصت عليه الجامعة في أول الأمر من تخريج طلاب مسلمين لإفادة أوطانهم في مجال التدريس والدعوة، ولهذا تأخر افتتاح قسم الدراسات العليا فلم يفتح إلا في عام 1395/1396هـ.
وقد أوصت لجنة المناقشة منح الطالب نايف هاشم الدعيس درجة الدكتوراه بتقدير (ممتاز) .
ب- رسائل الماجستير التي نوقشت من أول العام الجامعي الجديد:
نوقشت رسائل الماجستير التالية بعد أول العام الجامعي الجديد:
1- (الاجتهاد وأدواره) للطالب عبد الرحيم صالح أفغاني الجنسية، وتمت مناقشتها يوم 29/ 11/ 1400هـ.
2- (أثر العلمانية في المجتمعات الإسلامية) للطالب محمد زين الهادي سوداني الجنسية (من شعبة الدعوة) ، وذلك يوم 27/ 12/ 1400هـ.(21/222)
3- (حقوق الآباء والأبناء) من الطالب مصطفى سي يعقوب من ساحل العاج (شعبة السنة) ، وذلك يوم 14/ 1/ 1401هـ.
4- (نواسخ القرآن لابن الجوزي) للطالب محمد أشرف علي هندي الجنسية، وذلك صباح يوم الأربعاء 18/ 1/ 1401هـ.
5- (السنة باعتبارها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي) للطالب محمود صالح شريتح من الأردن (شعبة أصول الفقه) ، وذلك يوم 9/ 2/ 1401هـ.
6- (الأمر ودلالته على الأحكام وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء) للطالب ملاطف محمد صلاح من اليمن (شعبة أصول الفقه) وذلك يوم الأربعاء 3/ 2/ 1401هـ.
7- (غرر البيان لمبهمات القرآن) للطالب عبد الغفار بدر الدين من بنين (شعبة التفسير) ، وذلك يوم 4/ 2/ 1401هـ.
8- (المتروكين ومروياتهم) للطالب محمد راضي بن الحاج عثمان من ماليزبا (شعبة السنة) ، وذلك يوم الخميس 18/ 2/ 1401هـ.
9- (عقد القراض) للطالب بله الحسن عمر من السودان (شعبة الفقه) ، وذلك يوم 15/2/1401هـ.
10- (التفسير بالرأي ما له وما عليه) للطالب أحمد عمر عبد الله من غانا يوم الثلاثاء 24/ 1/ 1401هـ.
11- (تخريج أحاديث سورة الرعد من تفسير ابن كثير) للطالب محمد عبده عبد الرحمن من اليمن، وذلك يوم الثلاثاء 10/ 1/ 1401هـ.
موسم النشاط الثقافي من المحاضرات والندوات
أعلنت عمادة شؤون الطلاب بالجامعة عن بدء الموسم الثقافي بالجامعة بعد موسم الحج مباشرة، وذلك بعد أن أعدت له الإعداد اللازم لنجاح هذا الموسم.
ومن المحاضرات التي ألقيت في إطار الموسم الثقافي للعام الجامعي 1400/ 1401هحتى إعداد المجلة للطبع ما يلي:
1- (نظرة في الماضي وإطلالة نحو المستقبل) ألقاها فضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية وذلك يوم 4/ 1/ 1401هـ.(21/223)
2- (سُئلت عن آية) هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي مدرس التفسير بكلية الحديث، وذلك يوم 11/ 1/ 1401هـ.
3- (الحضارة الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوربية) محاضرة ألقاها الدكتور جاد محمد رمضان أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الدعوة، وذلك يوم 18/ 1/ 1401هـ.
4- (تجديد الدين) محاضرة ألقاها فضيلة الدكتور جعفر شيخ إدريس الأستاذ بمركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وذلك يوم 25/ 1/ 1401هـ.
5- (الاتجاهات الفكرية بين قرنين) هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ مناع خليل قطان، رئيس قسم الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك يوم 10/2/1401هـ.
المسابقة الكبرى في حفظ القرآن الكريم:
تعد عمادة شؤون الطلاب بالجامعة العدة لإجراء مسابقة كبرى بين طلاب الجامعة بمختلف مراحلها من الكليات والمعاهد والدور؛ لحفظ القرآن الكريم، وستجري امتحانات التصفية الأولية يوم السبت 13/ 2/ 1401هوتنتهي الامتحانات النهائية لهذه المسابقة في شهر ربيع الثاني 1401هبعد إجازة نصف السنة وبدء الفصل الدراسي الثاني.
ضيوف وزوار الجامعة:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة جامعة كل المسلمين، كما قال عنها صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة؛ ولهذا فإنها تستقبل وفود المسلمين من الجامعات الإسلامية والجماعات والهيئات الإسلامية من كل مكان من العالم، وتأتي هذه الزيارات في إطار التعاون بين الجامعات الإسلامية والعربية، وفي إطار تدعيم التبادل الفكري والثقافي مع كل العاملين في مجال الدعوة الإسلامية.
وممن استقبلتهم الجامعة الإسلامية خلال الفترة الماضية من العام الجامعي الجديد:
1- الوفد الماليزي(21/224)
قدم إلى المملكة وفد من ماليزيا برئاسة الأستاذ عبد الجليل حسن رئيس الإفتاء العليا، وهو يعمل تحت رئاسة مجلس الوزراء الماليزي، وقد حرص هذا الوفد على زيارة المدينة المنورة وزيارة الجامعة الإسلامية، وقد استقبله فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة مرحبا بهم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي جامعة كل المسلمين، وتبادل فضيلته معهم أهم قضايا الإسلام والمسلمين، وتحدث عن أهمية حرص المسلمين على العمل بالشريعة والتمسك بالعزة واجتناب الخلاف.
وقد ضم الوفد الماليزي المسلم برئاسة الأستاذ عبد الجليل حسن عددا كبيرا من أعضاء هيئة الإفتاء العليا، وهم الدكتور محمد زين عثمان، والحاج عبد القادر إسماعيل، والحاج حسن بن صالح، والحاج دان عبد المنان، والحاج طه بن عمر، والحاج محمد سعد بن محمد، والحاج عبد الوهاب بن أوانج، والحاج طارق موسى.
وقد استضافتهم الجامعة مدة يومين في فندق قصر الرحاب يومي 13، 14/ 11/ 1400 هـ.
2- بعثة الحج من بنجلاديش
استضافت الجامعة معالي السيد عبد الرحمن وزير الشؤون الدينية ورئيس بعثة الحج البنجلاديشية، وذلك بدءا من يوم 14/ 12/ 1400هحتى غادروا المدينة المنورة.
3- وفد من مسلمي دار الإسلام بجنوب الهند
وزار الجامعة وفد يمثل اللجنة الإدارية للكلية العربية العالية بدار الإسلام تشمناد – كاسركرت - بكيرلا، بجنوب الهند، وقد ضم هذا الوفد كلا من فضيلة الشيخ أبي بكر العميد المساعد، والشبخ أبي بكر الندوي الأمين العام المساعد في موسم الحج لهذا العام.(21/225)
وقد جاءت هذه الزيارة من الوفد الهندي في إطار توثيق العلاقات مع الأوساط المعنية بدعم المعاهد الإسلامية، ولشكر الجامعة الإسلامية على دعمها المتواصل علميا وأكاديميا، ولشكر رئاسة الجامعة على الدعم الذي قدمته لإعانة مشروع الكلية المسمى بمسجد الجامعة، وقد تم هذا الدعم في أثناء الزيارة التي قام بها فضيلة الدكتور عبد الله الزايد على رأس وفد الجامعة الإسلامية للهند بمناسبة المشاركة في احتفال (جامعة ديوبند) الإسلامية.
4- غرباء أهل الحديث بباكستان
وزار الجامعة فضيلة الشيخ عبد الرحمن السلفي أمير جماعة غرباء أهل الحديث بباكستان، ورئيس الجامعة الستارية والمدرسة العربية الإسلامية دار الإسلام بكراتشي.
5- من السنغال
كما زار الجامعة السيد محمد مصطفى درامي مفتش التعليم العربي ومستشار وزارة التربية بالسنغال، في إطار جولة قام بها لتفقد الطلبة السنغاليين في الدول العربية، وقام بزيارة الجامعة الإسلامية واستقبله فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة.
وفود من جامعات الأردن والسودان ودولة الإمارات
واستضافت الجامعة وفود الجامعات العربية التي جاءت لأداء فريضة الحج مدة إقامتها بالمدينة المنورة، وكان من بينها وفود من طلبة جامعة الأردن، وجامعة اليرموك الأردنية، وجامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة دولة الإمارات العربية.
وفد جامعة بايرو بكانو بنيجيريا(21/226)
زار الجامعة مدير جامعة بايرو الإسلامية بمدينة (كانو) بنيجيريا الدكتور إبراهيم عمر مدير الجامعة، وبصحبته الدكتور محمد الثاني زهر الدين رئيس الدراسات الإسلامية بجامعة بايرو، وقد تمت هذه الزيارة يوم 16 صفر 1401هـ وذلك لمناقشة إتمام الاتفاق الثقافي بين الجامعة الإسلامية وجامعة بايرو، وذلك ما تم الاتفاق عليه في زيارة فضيلة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية وفضيلة الشيخ عمر فلاتة الأمين العام للجامعة لنيجيريا من العام الماضي.
مواعيد الامتحانات والإجازات للعام الجامعي الجديد 1400/ 1401هـ
اتخذ مجلس الجامعة بجلسته يوم 23/ 1/ 1401هالقرار رقم 31/ 400/ 1401 الذي يقضي بتحديد مواعيد الامتحانات للعام الدراسي 1400/ 1401هوبداية العام الدراسي 1401/ 1402هلمختلف المراحل في الجامعة والمعاهد والدور على النحو التالي:
1- يبدأ اختبار الفصل الأول يوم الثلاثاء 14/3/ 1401هـ (20 يناير 1981م) ، وتتوقف الدراسة أسبوعا من يوم الأربعاء 8/ 3/ 1401هاستعدادا للاختبار.
2- تبدأ إجازة نصف السنة يوم السبت 25/ 3/ 1401هـ (31 يناير 1981م) .
3- يبدأ الفصل الدراسي الثاني يوم السبت (10/ 4/ 1401هالموافق 14 فبراير 1981م) .
4- تنتهي الدراسة في الفصل الدراسي الثاني للعام الدراسي 1400/ 1401هبنهاية يوم الأربعاء الموافق 9/ 7/ 1401هـ (3 مايو 1981م) .
5- يبدأ امتحان الفصل الدراسي الثاني يوم السبت 19/ 7/ 1401هـ (23 مايو 1981م) .
6- تبدأ الإجازة الصيفية لجميع أقسام الجامعة يوم السبت 9/ 9/ 1401هـ (10 يوليو 1981م) .
7- عودة جميع المدرسين يوم الخميس 12/ 11/ 1401هـ.
8- تبدأ امتحانات الدور الثاني لجميع المراحل في الجامعة يوم الثلاثاء 17/ 11/ 1401هـ (15 سبتمبر 1981م) .
9- تبدأ الدراسة للعام الدراسي 1401/ 1402هيوم الثلاثاء 24/ 11/ 1401هالموافق 22 سبتمبر 1981م.(21/227)
تنظيم العمل في بعض إدارات الجامعة
1- في عمادة شؤون الطلاب: صدرت القرارات الإدارية التي تقضي بتقسيم عمادة شؤون الطلاب إلى وكالتين: وكالة لشؤون النشاط الطلابي وتضم النشاط والرعاية، ووكالة لشؤون الخدمات وتتبعها إدارة الإسكان والتغذية ومكتب عميد شؤون الطلاب، وقد صدر قرار يقضي بتعيين فضيلة الشيخ موسى محمد القرني وكيلا لعمادة شؤون النشاط، وتفرغ فضيلة الشيخ علي الحذيفي لوكالة العمادة لشؤون الخدمات، وقد حددت القرارات الإدارية الصادرة في هذا الشأن تحديد الاختصاصات والصلاحيات لكل منهما في الشؤون المالية والإدارية الخاصة بعمادة شؤون الطلاب. وقد صدرت هذه القرارات حرصا من رئاسة الجامعة على تنظيم العمل وسرعة إنجازه وحسن الأداء على أكمل وجه مستطاع وبالله التوفيق.
2- صدر قرار رئاسة الجامعة بإنشاء عمادة لشؤون القبول والتسجيل، وذلك للبت في شؤون قبول الطلاب والمعادلات للشهادات الدراسية والإشراف على شئونهم التعليمية وشئون الجوازات والاستقدام والترحيل لجميع منسوبي الجامعة، ويتبع هذه العمادة كل من إدارة الاستقدام والترحيل ومكتب الخطوط الجوية السعودية، وقد عين لها فضيلة الشيخ أبو سيف الجهني وكيلا للعمادة.(21/228)
دراسة حول قول أبي زرعة في سنن ابن ماجه
للدكتور سعدي الهاشمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث بالجامعة
ابن ماجه:
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي القزويني الحافظ، ولد سنة 209 هـ.
وصفه أبو يعلى الخليلي بقوله: ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه، محتج به، له معرفة وحفظ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، وكان عارفا بهذا الشأن، ارتحل إلى العراقيين - البصرة والكوفة – ومكة والشام ومصر [1] .
وقال عنه الحافظ ابن كثير: صاحب كتاب السنن المشهورة وهي دالة على عمله وعلمه، وتبحره واطلاعه، واتباعه للسنة في الأصول والفروع [2] ، وكانت وفاته لثمان بقين من رمضان سنة 273هـ[3] .
منزلة سنن ابن ماجه بين الكتب الستة:
قال الحافظ السلفي: اتفق على صحتها - أي الكتب الخمسة [4]- علماء الشرق والغرب، ولم يضموا إليها سنن ابن ماجه لتأخر مرتيتها عنها، وأول من جعلها سادس الكتب الستة الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد القيسراني المقدسي المتوفى سنة 507هفي كتابه (أطراف الكتب الستة) ، ورسالته (شروط الأئمة الستة) [5] .
ثم تابعه الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600هفي كتابه (الكمال في أسماء الرجال) ، ثم تابعهما أصحاب كتب الأطراف وأسماء الرجال، والمتأخرون في تصانيفهم، وإنما قدم هؤلاء سنن ابن ماجة على الموطأ لكثرة زوائده على الكتب الخمسة بخلاف الموطأ؛ فإن أحاديثه - إلا القليل منها - موجودة في الكتب الخمسة مندمجة فيها، فهذا هو السبب في عدهم السادس سنن ابن ماجة دون الموطأ [6] .
وقد عدّ بعض الحفاظ موطأ مالك في درجة الصحيحين، بل منهم من قدمه على الصحيحين، كالإمام ابن عبد البر المتوفى سنة 463هـ، والإمام أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543هـ.(21/229)
وقال ابن حجر: لم يرو - أي الإمام مالك - فيه إلا الصحيح عنده [7] .
ومن الذين قدموا الموطأ على سنن ابن ماجة أبو الحسن أحمد بن رزين السرقسطي المتوفى سنة 535هفي كتابه (التجريد في الجمع بين الصحاح) ، وتابعه على ذلك أبو السعادات مبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هوكذا غيره [8] .
ومن الحفاظ من عد سادس الكتب كتاب الدارمي.
قال طاهر الجزائري: ولما كان ابن ماجة قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، قال بعضهم: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي؛ فإنه قليل الرجال الضعفاء، نادر الأحاديث المنكرة والشاذة، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة؛ فهو مع ذلك أولى منه [9] .
وقال الذهبي: سنن أبي عبد الله كتاب حسن لولا ما كدره أحاديث واهية ليست بالكثيرة [10] .
وقال الحافظ ابن رجب عند كلامه عن طبقات الرواة عن الزهري في الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي، وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب، وبحر السقاء ونحوهم؛ فلم يخرج لهم الترمذي ولا أبو داود ولا النسائي، ويخرج لبعضهم ابن ماجة، ومن هنا نزلت درجة كتابه عن بقية الكتب، ولم يعده من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين [11] .
وقال الحافظ ابن حجر: كتابه في السنن - أي ابن ماجة - جامع جيد، كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر، فيه أحاديث كثيرة منكرة، والله تعالى المستعان، ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد بن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجة فهو ضعيف [12] ، يعني: وكلامه هو ظاهر كلام شيخه.
لكن حمله على الرجال أولى، وأما حمله على أحاديث فلا يصح [13] .
عدد كتب سنن ابن ماجة، وأبوابه، وأحاديثه:(21/230)
قال الذهبي: عدد كتب سننه - أي ابن ماجة - اثنان وثلاثون كتابا [14] .
وقال أبو الحسن القطان صاحب ابن ماجة [15] : في السنن ألف وخمس مائة باب، وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث [16] .
ولقد قام الأستاذ المحقق محمد فؤاد عبد الباقي - رحمه الله – بإحصاء أحاديث سنن ابن ماجة بصورة علمية متقنة؛ فكان جملة أحاديثها (4341) أربعة آلاف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا، من هذه الأحاديث (3002) اثنان وثلاثة آلاف حديث أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم، وباقي الأحاديث وعددها (1339) ألف وثلاثمائة وتسعة وثلاثون حديثا هي الزوائد على ما جاء بالكتب الخمسة، وهذه الزوائد هي التي عرض لها الحافظ الشهاب البوصيري في (مصباح الزجاجة) [17] ، ومن هذه الزوائد (428) أربعمائة وثمانية وعشرون حديثا رجالها ثقات صحيحة الإسناد، ومنها (199) تسعة وتسعون ومائة حديث؛ حسنة الإسناد، ومنها (613) ثلاثة عشر وستمائة حديث؛ ما بين واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة [18] .
تبين لنا من خلال إحصاء الأستاذ محمد فؤاد أن عدد كتب سنن ابن ماجة (37) سبعة وثلاثون كتابا عدا المقدمة، وعدد أبوابه (1515) بابا، وعدد أحاديثه (4341) حديثا [19] .(21/231)
ويبدو أن الاختلاف في عدد الأحاديث نجم عن اختلاف النسخ؛ فالنسخة التي كانت عند أبي الحسن القطان تختلف من حيث عدد الأبواب والأحاديث عن النسخ التي طبعت ووقف عليها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي [20] ولعل أبا الحسن القطان - رحمه الله - لم يدخل مقدمة سنن ابن ماجة ضمن أحاديث الكتب الأخرى ابتداء من كتاب الطهارة وسننها حتى نهاية كتاب الزهد، ولو أسقطنا أحاديث المقدمة والتي مجموعها (266) حديثا يبقى الفرق بين العدد الذي ذكره فؤاد عبد الباقي وبين ما ذكره أبو الحسن القطان (75) حديثا، ولعل تعبير ابن القطان - وجملة ما فيها – يدل على أنه لم يذكرها بالضبط والدقة حديثا حديثا؛ ابتداء من المقدمة حتى نهاية كتاب لزهد.
وكذلك يقال عن الأبواب؛ فالفرق بين عدد الأبواب التي ذكرها فؤاد عبد الباقي وبين ما ذكره أبو الحسن القطان (15) خمسة عشر بابا؛ عد فؤاد عبد الباقي في المقدمة (24) أربعة وعشرين بابا.
أما عدد الكتب ففيه اختلاف كذلك؛ فذكر الذهبي أنها (اثنان وثلاثون) كتابا، بينما عددها حسب إحصاء فؤاد عبد الباقي (سبعة وثلاثون) كتابا، ولو وقف الأستاذ فؤاد عبد الباقي على نسخة متقنة مروية بالسند الصحيح عن الإمام ابن ماجة لكان عمله أكمل في خدمة هذا المصدر السادس للسنة النبوية، ويزيل هذا الاختلاف الواقع في عدد الكتب وكذا الأبواب والأحاديث.
قول أبي زرعة في سنن ابن ماجة:
قال ابن ماجة: عرضت هذه السنن على أبي زرعة؛ فنظر فيها وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: (لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف) [21] .(21/232)
وعقب الحافظ الذهبي على هذا القول في سير أعلام النبلاء بقوله: (وقول أبي زرعة لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في سنده ضعف، أو نحو ذلك - إن صح- كأنما عنى بثلاثين حديثا، الأحاديث المطرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة نحو الألف..) [22] .
ونقل ابن الوزير في (تنقيح الأنظار) كلام الذهبي هذا وعقب عليه بقوله: (إنما أراد الذهبي تقليل الأحاديث الباطلة، وأما الأحاديث الضعيفة في عرف أهل الحديث ففيه قدر ألف حديث منها - كما ذكر في النبلاء في ترجمة ابن ماجة - وقدر الباطلة بعشرين حديثا) [23] .
أما الشق الأول من كلام أبي زرعة وهو: (أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها) ؛ فأراد به - والله أعلم - ما ذكره ابن طاهر المقدسي المتوفى سنة 507همن (حسن الترتيب، وغزارة الأبواب، وقلة الأحاديث، وترك التكرار، ولا يوجد فيه من النوازل والمقاطيع والمراسيل..) [24]
وقال الحافظ ابن حجر: (كتابه في السنن - أي ابن ماجة - جامع جيد، كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدا..) [25] .
وقال صديق حسن خان عند كلامه عن سنن ابن ماجة: (وفي الواقع؛ الذي فيه من حسن الترتيب وسرد الأحاديث بالاختصار من غير تكرار ليس في أحد من الكتب، وقد شهد أبو زرعة على صحته) [26] .
ولعل الإمام الرازي - أبو زرعة - أراد بالجوامع التي صنفها الحفاظ في بلاد الري وقزوين وطبرستان وتلك البلادن، ويؤيد هذا ما قاله ابن طاهر المقدسي عند ذكره سنن ابن ماجة، يقول ابن طاهر: (وهذا الكتاب وإن لم يشتهر عند أكثر الفقهاء فإن له بالري وما والاها من ديار الجبل وقوهستان ومازندان وطبرستان شأن عظيم؛ عليه اعتمادهم، وله عندهم طرق كثيرة) [27] .
أو أراد الجوامع المشهورة، ومنها الجامع الصحيح للبخاري والجامع الصحيح لمسلم؛ من حيث الترتيب والتنظيم، وهذا رأيه، ولكل رأيه واجتهاده.(21/233)
ولقد ذكر بعض المحدثين عددا أقل من الأحاديث التي ذكرها أبو زرعة، ولعلهم أرادوا أن يرفعوا من شأن سنن ابن ماجة ومكانتها.
قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي المتوفى سنة 623هفي ترجمة ابن ماجة من تأريخه: (وسمعت والدي رحمه الله يقول: عرض كتاب السنن لابن ماجة على أبي زرعة الرازي فاستحسنه وقال: لم يخطئ إلا في ثلاثة أحاديث) [28] .
أقول: هذا الخبر ظاهر الضعف، ولعله أراد أن يفتخر بإمام بلده ويرفع من شأن سننه - رحمهما الله-، ويحتمل وقوع تصحيف (ثلاثين) إلى (ثلاثة) .
وروى ابن نقطة بسنده إلى ابن طاهر المقدسي الحافظ أنه قال: (رأيت على ظهر جزء قديم بالري حكاية كتبها أبو حاتم الحافظ المعروف بخاموش: قال أبو زرعة: طالعت كتاب أبي عبد الله بن ماجة فلم أجد فيه إلا قدرا يسيرا مما فيه شيء. وذكر بضعة عشر، وكلاما هذا معناه، قال ابن طاهر المقدسي: وحسبك من كتاب يعرض على أبي زرعة الرازي، ويذكر هذا الكلام بعد إمعان النظر والنقد) [29] .
وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة ابن ماجة قول أبي زرعة هذا إلى قوله: وكلامه هذا معناه..، إلا أنه قال فيه: (وذكر قريب تسعة عشر..) [30] .
الرد على هذا القول
رد الإمام ابن رشيد:
قال الإمام أبو عبد الله بن رشيد - أثناء كلامه عن منزلة سنن النسائي، والموازنة بينها وبين كتب السنن -: (وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة أنه نظر فيه فقال: (لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا) لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءا منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب (العلل) لأبي حاتم [31] . [والصواب لابن أبي حاتم] .
رد الحافظ ابن الملقن:(21/234)
ولقد رد على قول ابن طاهر أيضا الحافظ ابن الملقن في فصل أفرده لسنن ابن ماجة في كتابه البدر المنير، يقول فيه: (وأما سنن أبي عبد الله بن ماجة القزويني فلا أعلم له شرطا، وهو أكثر السنن الأربعة ضعفا، وفيه موضوعات، منها ما ذكره في إتيانه بحديث في فضل قزوين، لكن قال أبو زرعة فيما رويناه عنه: طالعت كتاب أبي عبد الله بن ماجة فلم أجد فيه إلا قدرا يسيرا مما فيه شيء، وذكر قدر بضعة عشر، أو كلاما هذا معناه، وهذا الكلام من أبي زرعة - رحمه الله - لولا أنه مروي عنه من أوجه لجزمت بعدم صحته عنه؛ فإنه غير لائق لجلالته، لا جرم أن الشيخ تقي الدين قال في الإلمام: هذا الكلام من أبي زرعة لابد من تأويله وإخراجه عن ظاهره وحمله على وجه صحيح، وعجيب قول ابن طاهر حسبك من كتاب يعرض على أبي زرعة الرازي ويذكر هذا الكلام بعد إمعان النظر والنقد، وقوله: ولعمري إن كتاب أبي عبد الله بن ماجة من نظر فيه علم منزلة الرجل من حسن الترتيب وغزارة الأبواب وقلة الأحاديث وترك التكرار، ولا يوجد فيه من النوازل والمقاطيع والمراسيل والرواية عن المجروحين إلا هذا القدر الذي أشار إليه أبو زرعة. وروى ابن عساكر عن أبي الحسن بن بالويه قال: أبو عبد الله ابن ماجة: عرضت هذه النسخة على أبي زرعة فنظر فيه وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع كلها أو أكثرها، ثم قال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف، أو قال: عشرين ونحوها من الكلام، قال: وحكى عنه أنه نظر في جزء من أجزائه وكان عنده في خمسة أجزاء، قال الشيخ تقي الدين: لابد من تأويله جزما، ولعله أراد ذلك الجزء الذي نظر فيه أو غيره مما يصح) [32] .(21/235)
والحق أن سنن ابن ماجة فيها أكثر من هذا العدد المشار إليه من الأحاديث المنتقدة، ولقد ساق الشيخ عبد الرشيد النعماني - في كتابه (ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجة) - (34) حديثا من أحاديث سنن ابن ماجة والتي ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات، ثم قال: (فهذه أربعة وثلاثون حديثا قد حكم عليها ابن الجوزي بالوضع، وقد تركت من الأحاديث ما أدرجها ابن الجوزي في الموضوعات وشطرها مروي في سنن ابن ماجة أولها شاهد في كتابه، والحافظ السيوطي ذكر في كتابه (القول الحسن في الذب عن السنن) ستة عشر حديثا مما أورده ابن الجوزي في الموضوعات وهو في سنن ابن ماجة، وأورد في التعقبات على الموضوعات من كتاب ابن الجوزي ثلاثين حديثا؛ فزدت عليه الأربعة، ولله الحمد) .
وقال النعماني أيضا: ويوجد في كتاب ابن ماجه أحاديث أخر قد حكم عليها بعض الحفاظ بالوضع أو البطلان منها..) وذكر سبعة أحاديث [33] .
ولقد جمعت الرجال الذين انفرد ابن ماجة بالرواية عنهم دون أصحاب الكتب الستة، وتكلم فيهم الإمام أبو زرعة بالضعف أو الكذب أو غير ذلك من ألفاظ التجريح؛ فكانت مجموعة كبيرة أذكرها بعد هذا الكلام، مع الإشارة إلى المصادر التي نقلت أقوال أبي زرعة فيهم، وإضافة إلى هؤلاء هنالك من الرجال الذين تكلم فيهم أبو زرعة وقد انفرد بالرواية عنهم ابن ماجة والإمام الترمذي دون الأئمة الستة، وكذلك من انفرد بالرواية عنهم ابن ماجة والإمام أبو داود دون الأئمة الستة، وقد أرجأت ذكر هؤلاء الرواة والأحاديث التي رووها إلى دراسة موسعة في سنن ابن ماجة أرجو إنهاءها.
أسماء الرواة الذين انفرد الإمام ابن ماجة في الرواية عنهم في سننه دون رجال الكتب الستة:
1- إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، واسمه سمعان الأسلمي مولاهم، أبو إسحاق المدني ت 184هـ، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [34] .(21/236)
2- إبراهيم بن مسلم العبدي، أبو إسحاق الكوفي المعروف بالهجري قال عنه: (ضعيف) [35] .
3- (خت ق) إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن يزيد، وقيل ابن زيد بن مجمع الأنصاري، أبو إسحاق المدني. نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه: (لا يسوي حديثه) ، وسكت ثم قال بعد ذلك - أي أبو زرعة -: (لا يسوي حديثه فلسين) [36] ، وذكره أبو زرعة أيضا في أسماء الضعفاء [37] .
4-إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف المدني، وقيل المزني مولى مزينة، قال عنه: (منكر الحديث ليس بقوي) [38] .
5- إسماعيل بن زياد، ويقال ابن أبي زياد، السكوني قاضي الموصل، قال البرذعي: وسمعته - أي أبو زرعة - يقول: (إسماعيل بن أبي زياد يروي أحاديث مفتعلة) ، قلت: - أي البرذعي - من أين هو؟ قال: (كوفي حدث عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي في (الكرفس بقلة الأنبياء) [39] .
6- (بخ ق) إسماعيل بن سلمان بن أبي المغيرة الأزرق التميمي الكوفي قال عنه: (واهي الحديث، ضعيف الحديث) [40] .
7- إسماعيل بن محمد بن يحيى الطلحي الكوفي ت 232هأو 233هقال البرذعي: (وانتهى أبو زرعة في كتاب الفوائد إلى حديث إسماعيل بن محمد الطلحي، عن داود بن عطاء [41] ، عن صالح بن كيسان [42] ، عن سعيد بن المسيب [43] ، عن أبي بن كعب [44] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول من يصافح الحق عمر" [45] ، فلم أره، وقال: (حديث منكر) ، وأمرنا لأن نضرب عليه، ثم قرأه عليّ في كتاب الفضائل بعد أن ألححت عليه) [46] .
8- بشار بن كدام، السلمي، الكوفي، قال البرذعي: (قلت لأبي زرعة: بشار بن كدام؟ قال: ضعيف الحديث، حدث عن محمد بن زيد [47] ، عن ابن عمر [48] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلف حنث أو ندم" [49] ، ورواه عاصم بن محمد بن زيد [50] عن أبيه، قال: (كان عمر يقول: (اليمين مأثمة) [51] ، حدثناه أحمد بن يونس، وجماعة [52] .(21/237)
9- بشر بن منصور الحناط عن أبي زيد، عن المغيرة، عن ابن عباس بحديث "أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة..) الحديث، قال عنه: (لا أعرفه ولا أعرف أبا زيد) [53] .
10- بشر بن نمير القشيري البصري روى عن مكحول والقاسم بن عبد الرحمن، وروى عنه نسخة كبيرة ساقطة، توفي ما بين (140- 150هـ) ، قال البرذعي: وقلت: (حديث صفوان بن أمية [54] "من دفِّي بكفّي" [55] حديث يحيى بن العلاء [56] ؟ فكلح وجهه وحرك رأسه وقال: (حدثنا به سلمة ابن شبيب) [57] ، ولم يرد علي فيه جوابا كأنه أنكره؛ إذ هو رواية يحيى بن العلاء وبشر بن نمير. قال أبو عثمان - أي البرذعي -: (سمعت محمد بن سهل بن عسكر [58] ؛ كذاب رافضي، يضع الحديث، وبشر بن نمير أسوأ حالا منه) [59] .
11- بشير بن ميمون الخراساني ثم الواسطي، أبو صيفي توفي ما بين (180- 190هـ) قال ابن أبي حاتم: (سئل أبو زرعة عنه فقال: ضعيف الحديث، ولم يمنع من قراءة حديثه) [60] .
12- ثابت بن موسى بن عبد الرحمن بن سلمة الضبي، أبو يزيد الكوفي الضرير العابد، ت 229 أو 228هـ. قال ابن أبي حاتم: (أمسك أبي وأبو زرعة الرواية عنه) [61] .
13- جبارة بن المغلس الحماني، أبو محمد الكوفي ت 241هقال البرذعي: (سمعت أبا زرعة ذكر جبارة بن المغلس فقال: أما أنه كان لا يتعمد الكذب، ولكن كان يوضع له الحديث فيقرأه) [62] .
14- جعفر بن الزبير الحنفي، وقيل الباهلي الدمشقي نزيل البصرة، توفي ما بين (140- 150هـ) . قال عنه: (لا أحدث عنه، ليس بشيء) [63] .
15- جميل بن الحسن بن جميل الأزدي الجهضمي، أبو الحسن البصري، نزيل الأهواز [64] ، سأل البرذعي أبا زرعة عنه فقال: (قد كنت كتبت عنه، وسألت عنه نصر بن علي الجهضمي [65] فقال: اتق الله! ذاك زفان [66] ، يجتمع بالليل مع هؤلاء المغبرين [67] يزفن ويرقص معهم. قال أبو زرعة: فضربت على ما كتبت عنه) [68] .(21/238)
16- (خدق) جويبر بن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي عداده في الكوفيين، ويقال اسمه جابر، وجويبر توفي ما بين (140- 150هـ) . قال ابن أبي حاتم: (سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: جويبر ابن سعيد كان خرسانيا ليس بالقوي) [69] .
17- الحارث بن عمران الجعفري المدني، قال عنه: (ضعيف الحديث، واهي الحديث) [70] .
18- حيان بن علي العنزي الكوفي ت 171 أو 172هقال عنه: (لين) [71] .
19- حبيب بن أبي حبيب إبراهيم، ويقال مرزوق، ويقال زريق الحنيفي أبو محمد المصري كاتب مالك ت 218هقال البرذعي: (سمعت أبا زرعة يقول: وقع بمصر رجلان كانا يضعان الحديث؛ خالد بن نجيح [72] ، وحبيب بن زريق) [73] .
20- حريش بن الخريت، البصري، أخو الزبير، قال عنه: (واهي الحديث) [74] .
21- حصين، والد داود بن الحصين الأموي مولاهمـ ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [75] .
22- حفص بن جميع العجلي الكوفي، قال عنه: (ليس بالقوي) [76] .
23- حفص بن عمر بن ميمون، العدني، أبو إسماعيل الملقب بالفرخ، مولى عمر، ويقال مولى علي، ويقال له الصنعاني، قال عنه: واهي [77] .
24- حماد بن عبد الرحمن الكلبي، أبو عبد الرحمن من أهل قنسرين، وقيل كوفي، وقيل حمصي، قال عنه: (يروي أحاديث مناكير) [78] .
25- حميد بن أبي سويد، ويقال ابن أبي سوية، ويقال ابن أبي حميد المكي قال عنه: (ضعيف الحديث) [79] .
26- داود بن عطاء المزني مولاهم، ويقال مولى الزبير، أبو سليمان المديني قال عنه: (منكر الحديث) [80] .
27- (قدق) داود بن المحبر بن محذم بن سليمان الطائي، ويقال الثقفي البكراوي، أبو سليمان البصري، نزيل بغداد وصاحب كتاب العقل ت 206هقال عنه: (ضعيف الحديث) [81] .
28- دهثم بن قران العكلي، ويقال الحنفي اليمامي الذي روى عن يحيى بن كثير وغيره، قال عنه: (ضعيف الحديث) [82] .(21/239)
29- الربيع بن حبيب الملاح العبسي مولاهم، أبو هاشم الكوفي الأحول توفي ما بين (150-160هـ) ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [83] .
30- زكرياء بن منظور، يقال اسم جده عقبة بن ثعلبة بن أبي مالك، ويقال زكرياء بن يحيى بن منظور بن ثعلبة القرضي، أبو يحيى المدني قال عنه: (واهي الحديث) [84] .
31- السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي ابن عم الشعبي ذكره في أسماء الضعفاء [85] .
32- سعاد (كجبار) بن سليمان الجعفي، ويقال التميمي، الكوفي قال عنه: (ضعيف) [86] .
33- سعيد بن خالد بن أبي طويل، القرشي، الصيداوي روى عن أنس وغيره، قال: ضعيف الحديث؛ حدث عن أنس بمناكير [87] .
34- سعيد بن سنان، أبو مهدي الحنفي، ويقال الكندي الحمصي ت 163 أو 168هقال ابن أبي حاتم: (سألت أبا زرعة عنه فأومأ بيده أنه ضعيف) [88] .
35- سعيد بن الجبار الزبيدي، أبو عثمان، ويقال أبو عثيم بن أبي سعيد الحمصي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [89] .
36- سلام بن مسلم، أبو سليمان، ويقال أبو أيوب، ويقال أبو عبد الله وهو سلام الطويل المدائني ت بحدود 177هـ قال البرذعي: (وذكرت لأبي زرعة في حديث جرى عنده سلام الطويل؟ فحرك رأسه كالمتعجب من ذكري له، كأن سلاما الطويل عنده في موضع لا يذكر، ومر بحديث في كتابنا، عنه، عن قبيصة [90] ، عن سلام، فأمر أن نضرب عليه، وقال: سلام ما نصنع به) [91] .
37- أبو بكر الهذلي البصري، اسمه سلمى بن عبد اله بن سلمى، وقيل اسمه روح، وهو ابن بنت حميد بن عبد الرحمن الحميري ت 168هقال عنه: (ضعيف) [92] .
38- سليمان بن عطاء بن قيس، القرشي، أبو عمرو الجزري ت ما بين 190-200هقال عنه: (منكر الحديث) [93] .(21/240)
39- سليمان بن يسير، ويقال ابن أسير، ويقال ابن قسم النخعي، أبو الصباح الكوفي، مولى إبراهيم النخعي قال البرذعي: (قلت: سليمان بن يسير؟ قال: منكر الحديث، حدث عنه شعبة [94] ، قلت: شعبة؟ قال: نعم شعبة، عن أبي الصباح، وليس موسى بن أبي كثير [95] ، عن إبراهيم [96] مسألة، قلت: فهو سليمان بن يسير؟ قال: نعم) [97] .
40- صالح بن عبد الله بن صالح العامري مولاهم المدني ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [98] .
41- طلحة بن زيد القرشي، أبو مسكين، ويقال أبو محمد الرقي ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [99] .
42- طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي ت 152هقال عنه (ضعيف) [100] .
43- عائذ الله المجاشعي، أبو معاذ، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [101] .
44- عاصم بن عمرو، ويقال ابن عوف البجلي الكوفي الشيعي ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [102] .
45- (بخ ق) عباد بن كثير الرملي الفلسطيني بقي إلى ما بعد 170هقال عنه: واهي الحديث [103] .
46- عباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد بن حنظلة بن رافع الأنصاري الواقفي، أبو الفضل البصري ت 186هقال عنه (كان لا يصدق) [104] .
47- عبد الأعلى بن أعين الكوفي، مولى بني شيبان, قال عنه (ضعيف الحديث) [105] .
48- عبد الأعلى بن أبي المساور الزهري مولاهم، أبو مسعود الجرار الكوفي، قال عنه: (ضعيف جدا) [106] .
49- (بخ ق) عبد الله بن الحسين بن عطاء بن يسار الهلالي المدني، قال عنه: (ضعيف) [107] .
50- عبد الله بن خراش بن حريث الشيباني الحوشبي، أبو جعفر الكوفي، قال عنه: (منكر الحديث، يحدث عن العوام بأحاديث مناكير..) [108] .
51- عبد الله بن دينار، البهراني، ويقال الأسدي، أبو محمد، الحمصي، قال عنه (شيخ ربما أنكر) [109] .(21/241)
52- (مدق) عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المخزومي، أبو عبد الرحمن المدني، قال ابن أبي حاتم: (امتنع أبو زرعة من أن يقرأ علينا حديث ابن سمعان وقال: هو لا شيء) [110] .
53- عبد الله بن عامر الأسلمي أبو عامر المدني ت 151 أو 150هـ، قال عنه: (ضعيف الحديث) [111] .
54- عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر الليثي أبو عبد العزيز قال عنه: (ضعيف الحديث) [112] .
55- عبد الله بن محمد العدوي التميمي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [113] .
56- عبد الله بن محرر العامري الجزري الحراني قاضي الجزيرة توفي ما بين (150- 160هـ) (قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عنه فقال: ضعيف الحديث وامتنع من قراءة حديثه وضربنا عليه) [114] .
57- (عس ق) عبد الله بن ميسرة أبو ليلى الحارثي الكوفي، قال عنه (واهي الحديث) [115] .
58- عبد الله بن نافع العدوي مولاهم المدني ابن عمر ت 154هقال عنه: (منكر الحديث) [116] .
59- عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت الأنصاري ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [117] .
60- عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري، قال عنه ابن أبي حاتم (سئل أبو زرعة عنه فقال: هو متروك الحديث، وترك قراءة حديثه في مسند ابن عمر ولم يقرأه علينا) [118] .
61- عبد الرحيم بن زيد بن الحواري، العمري، البصري، أبو زيد ت 184هقال عنه: (واهي ضعيف الحديث) [119] .
62- عبد السلام بن أبي الجنوب المدني روى عن الزهري. قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه فقال: (ضعيف ولم يقرأ علينا حديثه) [120] .
63- عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب بن ميسرة القرشي مولاهم، أبو الصلت الهروي، قال ابن أبي حاتم: (وأما أبو زرعة فأمر أن يضرب على حديث أبي الصلت، وقال: لا أحدث عنه ولا أرضاه) [121] .(21/242)
64- عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة بن صهيب الحمصي، قال عنه: (ضعيف الحديث) [122] .
65- عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي الواسطي، ويقال عبادة بن الحسين ويعرف بأبي ذر، قال عنه: (ضعيف الحديث) [123] .
66- عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب الجمحي ت ما بين (160- 170هـ) ، قال عنه: (منكر الحديث) [124] .
67- عبد الواحد بن قيس السلمي أبو حمزة الدمشقي الأفطس، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [125] .
68- عبيد الله بن أبي حميد غالب، الهذلي، أبو الخطاب البصري، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [126] .
69- عبيد بن القاسم الأسدي التيمي الكوفي، قال عنه: (واهي الحديث) [127] .
70- عبيدة بن ميمون التيمي الرقاشي، أبو عبيدة الخزار البصري قال عنه: (ضعيف الحديث) [128] .
71- عثمان بن مطر الشيباني، أبو الفضل، ويقال أبو علي البصري قال ابن أبي حاتم سئل أبو زرعة عنه فقال: (حماد بن سلمة أحب إلي منه، فقلت: ما تقول فيه؟ قال: ضعيف الحديث) [129] .
72- عدي بن الفضل التيمي، أبو حاتم البصري ت 171هقال ابن أبي حاتم: (وترك أبو زرعة حديث عدي بن الفضل وكان في كتابه، عن عبد الواحد بن غياث عنه، فلم يقرأ علينا وقال: ليس بالقوي) [130] .
73- علي بن الحزور الكوفي ت ما بين (130- 140هـ) ، قال عنه: (واهي الحديث) [131] .
74- علي بن ظبيان بن هلال بن قتادة الكوفي أبو الحسن ت 172هـ، قال عنه: (واهي الحديث جدا) [132] .
75- عمر بن حبيب بن محمد بن مجالد العدوي البصري القاضي ت 202 أو 207هقال عنه: (ليس بالقوي) [133] .
76- عمر بن شبيب بن عمر المسلي المذحجي أبو حفص الكوفي ت 202هـ. قال عنه: (واهي الحديث) [134] .
77- عمر بن صهبان ويقال عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي أبو جعفر المدني ت 157هـ. ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [135] .(21/243)
78- عمر بن قيس المكي أبو جعفر، المعروف بسندل، بقي إلى قريب 160هقال عنه: (لين الحديث) [136] .
79- عمرو بن الحصين العقيلي، الباهلي، أبو عثنان البصري قال عنه: (واهي الحديث) [137] .
80- عمرو بن خالد، أبو خالد القرشي الكوفي انتقل إلى واسط ت ما بين (110- 120هـ) ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [138] .
81- عمرو بن عثمان بن يسار الكلابي، أبو عمرو الرقي ت 219 أو 217هذكره عنده البرذعي؛ (فكلح وجهه وأساء الثناء عليه) [139] .
82- عون بن عمارة العبدي، القيسي، أبو محمد البصري ت 212هقال عنه: (منكر الحديث) [140] .
83- عيسى بن عبد الرحمن بن فروة الأنصاري المدني قال عنه: (ليس بالقوي) [141] .
84- الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي، أبو عيسى البصري قال عنه: (شيخ صالح، إلا أنه ضعيف، وكان قدريا، وكان قاصا يذكر) [142] .
85- (بخ ق) الفضل بن مبشر الأنصاري، أبو بكر المدني قال عنه: (لين) [143] .
86- القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص أبو الخطاب العمري المدني، ت ما بين (150- 160هـ) قال عنه: (ضعيف لا يساوي شيئا، ومتروك الحديث، منكر الحديث) [144] .
87- كثير بن سليم الضبي، أبو سلمة المدائني ت 170هـ، قال عنه (ضعيف الحديث) [145] .
88- مبارك بن سحيم ويقال ابن عبد الله، أبو سحيم البناني البصري، قال عنه: (واهي الحديث منكر الحديث، ثم قال: ما أعرف له حديثا واحدا صحيحا، وقد حسنوه بمولى عبد العزيز بن صهيب) [146] .
89- مبشر بن عبيد، القرشي أبو حفص الحمصي كوفي الأصل، قال عنه (هو عندي ممن يكذب) [147] .
90- محمد بن الحارث بن زياد الهاشمي الحارثي البصري، قال ابن أبي حاتم: (ترك أبو زرعة حديثه ولم يقرأه علينا في كتاب الشفعة) [148] .
91- محمد بن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان توفي ما بين 150- 240هقال عنه (رجل سوء) [149] .(21/244)
92- محمد بن داب المديني قال عنه: (ضعيف الحديث كان يكذب) [150] .
93- محمد بن ذكوان الأزدي الطاحي الجهضمي، مولاهم البصري، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [151] .
94- (خذ ق) محمد بن مروان بن قدامة العقيلي، أبو بكر البصري العجلي قال عنه: (ليس عندي بذاك) [152] .
95- محمد بن عبيد الله بن أبي رافع الهاشمي مولاهم الكوفي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [153] .
96- محمد بن عمر بن واقد، الواقدي الأسلمي مولاهم أبو عبد الله المدني ت 207هقال عنه: (ترك الناس حديثه) [154] .
97- محمد بن عون، أبو عبد الله الخراساني ت ما بين (140- 150هـ) قال عنه: (ضعيف الحديث، ليس بقوي) [155]
98- محمد بن الفرات التميمي أبو علي الكوفي قال عنه: (منكر الحديث) [156] .
99- محمد بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي قال عنه: (منكر الحديث) [157] .
100- مسلمة بن علي بن خلف الخشني، أبو سعيد، الدمشقي ت 190هـ، قال عنه: (منكر الحديث) [158] .
101- مروان بن سالم الغفاري أبو عبد الله الشامي الجزري ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [159] .
102- مطر بن ميمون المحاربي أبو خالد الكوفي ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [160] .
103- مطرح بن يزيد الأسدي الكناني، أبو المهلب الكوفي قال عنه: (ضعيف الحديث) [161] .
104- مطهر - كمعظم - بن الهيثم الطائي البصري ت في حدود 200هقال عنه: (منكر الحديث) [162] .
105- معبد الجهني البصري، يقال إنه ابن عبد الله بن حكيم قتل في سنة 80هـ، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [163] .
106- معلى بن عبد الرحمن الواسطي قال عنه: (واهي الحديث) [164] .
107- معلى بن هلال بن مؤيد الحضرمي، ويقال الجعفي، أبو عبد الله الطحان الكوفي، سئل أبو زرعة عنه ما كان تنقم عليه؟ قال: الكذب [165] .(21/245)
108- (مد ق) مهران بن أبي عمر العطار أبو عبد الله الرازي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [166] .
109- نصر بن حماد بن عجلان البجلي، أبو الحارث، الحافظ البصري، قال عنه: (لا يكتب حديثه) [167] .
110- نصر بن محمد بن سليمان بن أبي ضمرة السلمي، قال عنه: لست أحدث عنه، وأمر بالضرب على حديثه جملة [168] .
111- نهشل بن سعيد بن وردان، أبو سعيد الخراساني. قال عنه: (ضعيف) [169] .
112-هارون بن هارون بن عبد الله بن محرز القرشي التيمي، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [170] .
113- هارون بن زيد بن يسار بن بولا البصري، ذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [171] .
114- يحيى بن راشد المازني، أبو سعيد البصري، البراء، قال عنه: (شيخ لين الحديث) [172] .
115- يحيى بن كثير، أبو النضر صاحب البصري. قال عنه: (ضعيف الحديث) [173] .
116- يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل، أبو المغيرة المدني ت 167هذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [174] .
117- (عخ ق) يعقوب بن حميد بن كاسب المدني ت 140 أو 141هقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فحرك رأسه قلت: كان صدوقا في الحديث؟ قال: لهذا شروط، وقال مرة في حديث رواه يعقوب: قلبي لا يسكن على ابن كاسب [175] .
118- (خنت ق) يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك الزهري ت 213هقال عنه: (واهي الحديث) [176] .
119- يوسف بن خالد بن عمير السمتي، أبو خالد البصري ت 189 أو 190هقال عنه: (ذاهب الحديث، كان يحيى – أي ابن معين – يقول كذاب) [177] .
120- يوسف بن محمد بن المنكدر التيمي قال عنه: (واهي الحديث) [178] .
121- يوسف بن ميمون القرشي المخزومي الكوفي أبو خزيمة الصباغ، قال عنه: (واهي الحديث) [179] .
122- أبو بكر العنسي روى عن أبي قبيل المعافري ت 256هقال عنه: (منكر الحديث) [180] .(21/246)
123- أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم العامري المدني ت 162هذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء [181] .
124- أبو زيد، عن أبي المغيرة عن ابن عباس بحديث "أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة"، قال عنه: (لا أعرف أبا زيد، ولا أبا المغيرة) [182] .
125- أبو سعيد الساعدي عن أنس، قال عنه: (مجهول) [183] .
المراجع
1- الإرشاد في معرفة علماء البلاد للخليلي نسخة أيا صوفيا.
2- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ط السعادة 1323هوطبعة البجاوي.
3- أسماء الضعفاء لابن الجوزي نسخة مصورة عن نسخة المكتبة السعيدية محفوظة بمكتبة السيد صبحي السامرائي ببغداد.
1- البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر لجلال الدين السيوطي مخطوط في دار الكتب المصرية رقم (10 حليم مصطلح الحديث) .
2- البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لسراج الدين ابن الملقن نسخة مصورة عن نسخة مكتبة أحمد الثالث بتركيا رقم (474) محفوظة في مكتبة السيد صبحي السامرائي ببغداد.
3- البداية والنهاية للحافظ إسماعيل بن كثير ط 1358هالقاهرة.
4- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ط 1349هالقاهرة.
5- تاريخ التراث العربي للدكتور فؤاد سزكين ترجمة د. فهمي أبو الفضل ط الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر القاهرة 1971م.
6- تاريخ مدينة دمشق لأبي الحسن علي بن عساكر نسخة مصورة عن نسخة مكتبة أحمد الثالث في تركيا والمحفوظة بمعهد المخطوطات بمصر رقم (602 تاريخ) .
7- تاريخ واسط لأسلم بن سهل الرزاز الواسطي المعروف ببخشل ط المعارف ببغداد 1387هـ/1967م.
8- التدوين في أخبار قزوين لأبي القاسم عبد الكريم بم محمد القزويني الرافعي مخطوط في دار الكتب المصرية.
9- تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي ط حيدر أباد الهند 1955- 1958.(21/247)
10- الترغيب والترهيب لزكي الدين عبد العظيم المنذري ط مصطفى عمارة.
11- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة لابن حجر العسقلاني ط 1387هـ/1966م.
12- التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة الحنبلي نسخة مصورة عن نسخة المتحف البريطاني والمحفوظة في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.
13- التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين العراقي ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1969م.
14- تلخيص المستدرك للحافظ الذهبي طبع مع المستدرك للحاكم.
15- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ط حيدر أباد الهند 1325- 1327 هـ0
16- توجيه النظر إلى أصول الأثر لطاهر بن صالح الجزائري الدمشقي ط المكتبة العلمية في المدينة المنورة.
17- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح النظار لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ط مكتبة الخانجي بالقاهرة ط 1366هـ.
18- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم حيدر اباد / الهند 1952- 1953.
19- الحطة بذكر الصحاح الستة لصديق حسن خان ط اسلامي اكاديمي / لاهور 1397هـ.
20- خلاصة تهذيب الكمالفي أسماء الرجال لصفي الدين الخزرجي ط مكتبة القاهرة وكذا ط2 1967م.
21- الرسالة المستطرفة في بيان كتب السنة المشرفة للكتاني ط 1963 دمشق.
22- الزهر الربى في شرح المجتبى للسيوطي ط مع سنن النسائي / مصطفى الحلبي..1964م.
23- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر ط الهند / حيدر أباد.
24- سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني تحقيق فؤاد عبد الباقي القاهرة 1964م.
25- سير أعلام النبلاء للذهبي نسخة معهد المخطوطات رقم (287 تاريخ) .
26- شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي البغدادي تحقيق السيد صبحي السامرائي ط بغداد 1397هـ/ 1977.
27- شروط الأئمة الستة لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ط مكتبة القدس القاهرة 1357هـ.(21/248)
28- علل الحديث لابن أبي حاتم ط المكتبة السلفية / القاهرة 1343هـ.
29- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني الجراحي ط مكتبة التراث الإسلامي حلب.
30- لسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري ط مصورة عن طبعة بولاق الدار المصرية للتأليف والترجمة / القاهرة.
31- ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجة لمحمد رشيد الهندي ط الهند.
32- المجروحين من المحدثين لبي حاتم ابن حبان ط القاهرة 1396هـ.
33- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين البغدادي ط 1373هـ/1954م. القاهرة.
34- المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم ط حيدر أباد الدكن الهند 1341هـ
35- المسند للإمام أحمد بن حنبل ط 1313هـ القاهرة.
36- معجم البلدان لياقوت لحموي ط دار صادق صادر بيروت.
37- لمعجم الصغير للطبراني ط المكتبة السلفية المدينة المنورة.
38- المقاصد الحسنة في الأحاديث المشهورة للسخاوي ط الخانجي القاهرة 1375هـ
39- ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي ط عيسى الحلبي القاهرة 1963 م.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر تذكرة الحفاظ ج 2/636، وتهذيب التهذيب ج 9/531، والمنتخب من الإرشاد في علماء قزوين.
[2] انظر البداية والنهاية لابن كثير ج 11/52.
[3] انظر المصادر السابقة.
[4] أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي. والمراد بالصحة، صحة أصولها. انظر التقييد والإيضاح ص 62
[5] انظر البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر ورقة (65- أ-) حيث نسبه ابن عساكر الدمشقي لأبي الفضل إضافته للكتب الستة.
[6] انظر توجيه النظر ص 153.
[7] انظر تعجيل المنفعة ص 9.
[8] انظر توجيه النظر ص 153.(21/249)
[9] انظر توجيه النظر ص 153 ومقدمة ابن الصلاح ص 34- 35 حيث ذكر السبب في تأخر المسانيد عن مرتبة الكتب الخمسة ومنها مسند الدارمي، وانظر كلام ابن رشيد في حاشية سنن النسائي ج 1/11.
[10] انظر تذكرة الحفاظ ج2/636.
[11] انظر شرح علل الترمذي ص 294. ومحمد بن سعيد المصلوب لم ينفرد ابن ماجة بإخراج حديثه في السنن بل شاركه أيضاً الترمذي في الجامع. انظر: ميزان الاعتدال ج3/561. وخلاصة تهذيب الكمال ج2/407
[12] وقال ابن حجر في الفهرسة: إنه قال الحافظ المزي: إن الغالب فيما انفرد به ابن ماجة الضعف. انظر توضيح الأفكار للأمير الصنعاني ج 1/223.
[13] انظر: تهذيب التهذيب ج 9/531- 532، وفي البحر الذي زخر للسيوطي ورقة (65- أ-) (قال الحافظ ابن حجر فيما كتبه بخطه على حاشية الكتاب: مراده – أي المزي - من الرجال لا من الأحاديث فإن في أفراده صحاحا) اه.
[14] انظر تذكرة الحفاظ ج 2/636.
[15] هو الحافظ الإمام القدوة أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القزويني، محدث قزوين وعالمها (254- 345هـ) . انظر تذكرة الحفاظ ج 3/856- 857.
[16] انظر تذكرة الحفاظ ج 2/636.
[17] (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة) لأحمد بن أبي بكر ابن إسماعيل الكناني البوصيري المتوفى سنة 840هـ، توجد نسخة منه في دار الكتب المصرية رقم (حديث 442) وقد اطلعت عليه. وانظر تاريخ التراث العربي ج1/380 ط1. وأفرد هذه الزوائد أيضا نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي المتوفى سنة 807هـ باسم زوائد على الكتب الخمسة. توجد نسخة منه في الآصفية رقم (حديث 410) . انظر تاريخ التراث ج 1/380.
[18] انظر سنن ابن ماجة ج 2/1519- 1520.
[19] انظر سنن ابن ماجة ج 2/1524.(21/250)
[20] اعتمد الأستاذ فؤاد عبد الباقي على نسخة مطبوعة بالمطبعة العلمية بمصر سنة 1313هوعليها حاشية الإمام أبي الحسن محمد بن عبد الهادي الحنفي نزيل المدينة المنورة المتوفى سنة 1138هـ. وهذه النسخة - كما يقول فؤاد عبد الباقي - لم يراع فيها شيء من الدقة، لا في تحري صحة المتن ولا في أسماء رجال السند.
والمطبوعة الثانية طبعت سنة 1847 ميلادية، نصفها في المطبع الفاروقي في الدهلي بالهند بتصحيح مولانا مولوي طاهر، والنصف الآخر في مطبع مجتبائي في الدهلي بالهند بتصحيح مولوي عبد الأحد.
ولعل أصح النسخ المروية عن ابن ماجة هي النسخة التي تداولتها أيدي الحفاظ المتقنين من المقادسة وغيرهم طبقة بعد طبقة، والمحفوظة بالخزانة التيمورية (رقم 522) بدار الكتب المصرية.
[21] انظر تذكرة الحفاظ ج 2/636، وفي معجم البلدان لياقوت الحموي في مادة (قزوين) (عرضت هذه النسخة) ، وزاد في الخبر بعد قوله في إسناده ضعف (أو قال عشرين أو نحو هذا الكلام) .
[22] انظر سير أعلام النبلاء النسخة المصورة المحفوظة في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.
[23] انظر توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار للأمير الصنعاني ج 1/223.
[24] انظر كتاب التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة الحنبلي البغدادي المتوفى سنة 629هنسخة المتحف البريطاني ورقة (42- ب-) وانظر كتاب البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير الذي صنفه أبو القاسم عبد الكريم بن أبي الفضل الرافعي المتوفى سنة 623هلأبي حفص ابن الملقن المتوفى سنة 804هج 1/ ورقة 15.
[25] انظر تهذيب التهذيب ج 9/531-532، والبحر الذي زخر للسيوطي ورقة (65- أ-) .
[26] انظر الحطة في ذكر الصحاح الستة ص 256 ط إسلامي أكادمي أردو بازار - لاهور 1397هـ/ 1977م.(21/251)
[27] انظر التقييد لابن نقطة وكذا البدر المنير لابن الملقن. ومن المعلوم أن تلك البلاد برز فيها الكثير من الحفاظ لا سيما في القرن الثالث وصنفوا الكثير من المسانيد، والسنن وغير ذلك من كتب السنة النبوية.
[28] انظر كتاب التدوين في ذكر أهل العلم بقزوين النسخة المصورة بدار الكتب المصرية.
[29] انظر كتاب التقييد لرواة السنن والمسانيد نسخة المتحف البريطاني، وشروط الأئمة الستة للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 9/532 وذكر ابن طاهر في المسور - ولعل الصواب - المشهور أن أبا زرعة وقف عليه فقال: ليس فيه إلا نحو سبعة أحاديث.
[30] تاريخ دمشق لابن عساكر نسخة المكتبة الظاهرية نسخة منها مصورة محفوظة في معهد المخطوطات لجامعة الدول العربية.
[31] انظر سنن النسائي (المجتبى) بشرح زهر الربى ج 1/11، والبحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر للسيوطي المتوفى سنة 911هورقة (65- أ-) مخطوط في دار الكتب المصرية تحت رقم (10 حليم مصطلح الحديث) وابن رشيد هو محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رشيد، أبو عبد الله السبتي الفهري المالكي المتوفى سنة 721هـ، رحالة عالم بالأدب، عارف بالتفسير والتاريخ، وله (المحاكمة بين البخاري ومسلم) و (مسألة العنعنة) و (إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب) و (ترجمان التراجم على أبواب البخاري) لم يتمه وله غير ذلك من الكتب والرسائل. انظر الدرر الكامنة ج 4/111- 113.
[32] انظر الجزء الأول من كتاب (البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير) ورقة
[33] انظر ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجة لمحمد رشيد الهندي ط الهند ص 44- 45.(21/252)
[34] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - أ- وقال عنه: (ليس بشيء) . انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/127، وكذا في تهذيب التهذيب ج 1/160، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1/61: (ما خرج له ابن ماجة سوى الحديث الماضي من مات مريضا مات شهيدا) . انظر سنن ابن ماجة ج 1/516.
ملاحظة: إذا ذكر أحد الرواة في أسماء الضعفاء لأبي زرعة فأذكر الحرف الذي ذكر فيه ذلك الراوي أما إذا ذكره في الأجوبة - أي أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي - فأشير إلى رقم الورقة لأن الكتاب المخطوط يحتوي على كتاب الضعفاء لأبي زرعة مع أجوبته على أسئلة البرذعي.
[35] انظر تهذيب التهذيب ج 1/165.
[36] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/84 وفي تهذيب التهذيب ج1/105، وقال أبو زرعة: سمعت أبا نعيم - أي الفضل بن دكين - يقول: (لا يسوى حديثه فلسين) .
[37] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف- أ-.
[38] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/206، وتهذيب التهذيب ج 1/105، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي. واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1/176 بقوله (منكر الحديث) .
[39] (ع) الحارث بن عبد الأعور. الهمذاني، الخارفي، أبو زهير الكوفي ت 65هـ قال عنه أبو زرعة: (لا يحتج بحديثه) انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/79، وتهذيب التهذيب ج2/146.
والحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه إلا أن السيوطي ذكر في اللآلئ المصنوعة ج 2/223 كتاب الأطعمة، وابن عراق في تنزيه الشريعة ج 2/263 عن الحسن بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا بني كل الكرفس فإنها بقلة الأنبياء".
[40] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/176، وتهذيب التهذيب ج 1/303- 304 ونقل البرذعي في الأجوبة عن أبي زرعة تضعيفه لإسماعيل. انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة مع أجوبته على أسئلة البرذعي ورقة (11- ب-) .(21/253)
[41] (ق) داود بن عطاء المزني مولاهم، ويقال مولى الزبير أبو سليمان المديني قال عنه أبو زرعة: (منكر الحديث) انظر الجرح والتعديل ج1/ق2/421، وتهذيب التهذيب ج1/194.
[42] (ع) صالح بن كيسان المدني أبو محمد ويقال أبو الحارث قال ابن حبان: (كان من فقهاء المدينة والجامعين للحديث والفقه من ذوي الهيئة والمروءة) توفي بعد 140هانظر تهذيب التهذيب ج 4/399- 400.
[43] (ع) سعيد بن المسيب، أبو محمد المخزومي الإمام أجل التابعين كان واسع العلم وافر الحرمة متين الديانة، قوالا بالحق فقيه النفس توفى سنة 94هـ. انظر تذكرة الحفاظ ج 1/54- 56.
[44] (ع) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو أبو المنذر المدني سيد القراء كان من أصحاب القضاء من الصحابة، شهد بدرا والمشاهد كلها، وكان عمر يسميه سيد المسلمين. انظر تهذيب التهذيب ج 1/187- 188، والإصابة ج 1/27- 28.
[45] رواه ابن ماجة في سننه ج 1/39 قال: ثنا إسماعيل بن محمد الطلحي، أنبأنا داود بن عطاء المديني، عن صالح بن كيسان، عب ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة"، قال ابن كثير في جامع المسانيد: هذا حديث منكر جدا، وما هو أبعد من أن يكون موضوعا. كذا في حاشيته على سنن ابن ماجة ج 1/39. ورواه الحاكم في المستدرك ج 3/84 من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، عن أبي..وزاد في أوله "أول من يعانقه الحق يوم القيامة"، ولم يذكر "وأول من يسلم عليه". وقال عنه الذهبي في تلخيص المستدرك ج 3/84: (موضوع في إسناده كذاب) وذكر في الميزان ج 2/12 في ترجمة داود بن عطاء أن الحديث ذكره ابن أبي عاصم في كتاب السنة بنفس سند ابن ماجة واللفظ دون ذكر "وأول من يسلم عليه"، وقال عنه: هذا منكر جدا.(21/254)
[46] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة مع أجوبته على أسئلة البرذعي ورقة (29- ب-) .
[47] (ع) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر الخطاب، القرشي، العدوي روى عن جده وسعيد بن زيد بن عمرو وغيرهما. وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وقال: يحتج به. انظر تهذيب التهذيب ج 9/172.
[48] (ع) عبد الله عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي، أبو عبد الرحمن المكي، أسلم قديما وهو صغير وهاجر مع أبيه واستصغر في أحد ثم شهد الخندق وبيعة الرضوان والمشاهد بعدها ت 73 أو 74هـ. انظر تهذيب التهذيب ج 5/328- 330، الإصابة ج 4/181- 188.
[49] رواه ابن ماجة في سننه ج 1/680 من طرق بشار بن كدام، ورواه الحاكم في المستدرك ج 4/303 وقال: (قد كنت أحسب برهة من دهري بشار هذا أخو مسعر فلم أقف عليه، وهذا الكلام صحيح من قول ابن عمر) . ورواه الطبراني في لمعجم الصغير ج 2/112 ثم قال: لم يروه عن بشار إلا معاوية ولا نحفظ لبشار حديثا مسندا غير هذا. ورواه أبو يعلى، والعسكري فيما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ص 193، وانظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس ج 1/365ن ورواه البخاري في التاريخ انظر الجامع الصغير ج 1/0151، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة بشار ج 1/310 بلفظ: (اليمين حنث أو ندم) وقال: أخرجه ابن أبي شيبة.
[50] (ع) عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر الخطاب العمري المدني روى عن أبيه وإخوته، وغيرهم قال أحمد وابن معين وأبو داود (ثقة) وقال أبو زرعة: صدوق في الحديث. انظر تهذيب التهذيب ج 5/57.
[51] رواه الحاكم في المستدرك ج 4/304 من طريق عاصم بن محمد إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إنما اليمين مأثمة أو مندمة) وانظر المقاصد الحسنة ص 193، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس ج 1/365.(21/255)
[52] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة مع أجوبته على أسئلة البرذعي ورقة (4- ب-) وتقل المزي قول أبي زرعة فيه. انظر تهذيب التهذيب ج 1/440، وكذلك الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1/310.
[53] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/365، وتهذيب التهذيب ج 1/460.
[54] (خت م 4) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام. ت 41 أو 42هـ, انظر تهذيب التهذيب ج 4/424- 425، والإصابة ج 3/432- 434.
[55] رواه ابن ماجة في سننه ج 2/871- 872 من طريق يحيى بن العلاء، أنه سمع بشر بن نمير أنه سمع مكحولا يقول أنه سمع يزيد ابن عبد الله أنه سمع صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمر بن مرة فقال: "يا رسول الله، إن الله قد كتب علي الشقوة، فما أراني أرزق إلا من دُفِّي بكفِّي، فأذن لي في الغناء في غير فاحشة".. وذكر بقية الحديث، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1/326 في ترجمة بشر بن نمير القشيري البصري.
[56] (د ق) يحيى بن العلاء البجلي، أبو سلمة، ويقال أبو عمرو الرازي ت ما بين (150- 160هـ) قال عنه أبو زرعة (في حديثه ضعف) , انظر الجرح والتعديل ج4 – ق 2/180، وتهذيب التهذيب ج 11/262.
[57] (م4) سلمة بن شبيب النيسابوري، أبو عبد الرحمن الجحري المسمعي نزيل مكة الحافظ الجوال قال النسائي عنه: (ليس به بأس) ت 247 أو 246هـ، انظر تهذيب التهذيب ج 4/146، تذكرة الحفاظ ج 2/543
[58] (5) (م ت س) محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة التميمي مولاهم أبو بكر الحافظ الجوال روى عن عبد الرزاق وغيره، وعنه مسلم والنسائي، وأبو حاتم والذهلي وكان ثقة صدوقا ت 251هـ. انظر تهذيب التهذيب ج 9/207.
[59] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة.. ورقة (23- ب-) .(21/256)
[60] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/379، وذكره أبو زرعة في كتابه الضعفاء حرف- ب- انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ... ورقة (25- ب-) .
[61] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/458، وتهذيب التهذيب ج 2/15.
[62] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة..ورقة (13- أ-) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 1/ق1/550 (كان أبو زرعة حدث عنه في أول أمره وكناه. قال: حدثنا أبو محمد الحماني، ثم ترك حديثه بعد ذلك فلم يقرأ علينا حديثه 9. وقال- أي أبو زرعة - (قال لي ابن نمير: ما هو عندي ممن يكذب، قلت: ما حاله؟ كان يوضع له الحديث فيحدث به وما كان عندي ممن يتعمد الكذب) وانظر تهذيب التهذيب ج 2/58 حيث ذكر قول أبي زرعة فيه باختصار.
[63] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (14- ب-) وروى بسنده إلى عبد الله ابن المبارك أنه اتهم بأنه كان اختلط - أي في الحديث - وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 1/ق1/479 (سمعت أبا زرعة يقول: - وكان في كتابنا حديث عن جعفر بن الزبير - فقال اضربوا عليه. فقلت: ما حال جعفر بن الزبير؟ ضعيف هو؟ قال: كما يكون لا أحدث عنه ليس بشيء) وانظر تهذيب التهذيب ج 2/91 حيث ذكر قول أبي زرعة فيه باختصار.
[64] الأهواز: سبع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم ويجمعهن الأهواز. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي في مادة (الأهواز) ومراصد الاطلاع ج 1/135.
[65] (ع) نصر بن علي بن نصر بن علي، أبو عمرو الأزدي الجهضمي البصري الحافظ العلامة روى عن سفيان بن عيينة وغيره. قال أحمد: ما به بأس، وقال النسائي: ثقة وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من الفلاس وأحفظ منه وأوثق. ت 250هـ. انظر تذكرة الحفاظ ج 2/519.
[66] الزفن: الرقص. انظر تهذيب اللغة ج 13/224, والقاموس المحيط ج 4/233.(21/257)
[67] المغبرة: قوم يغبرون، يذكرون الله بدعاء وتضرع، وقد يسمى ما يقرأ بالتطريب من الشعر في ذكر الله تعالى تغبيرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طربوا فرقصوا وأَرْهَجوا فسموا مغبرة بهذا المعنى، قال الشافعي رحمه الله: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغبير ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن. وقال أبو إسحاق النحوي: سمي هؤلاء مغبرين لتزهيدهم الناس في الفانية الماضية وترغيبهم في الغابرة، وهي الآخرة الباقية. انظر تهذيب اللغة ج 8/122- 123. والقاموس المحيط ج 2/103.
[68] انظر: كتاب الضعفاء لأبي زرعة..... ورقة (23-أ-) .
[69] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق1/541، وذكره أبو زرعة في كتاب الضعفاء حرف - ج - وقال عنه أبو زرعة أيضا: لا يحتج بحديثه. انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (33- ب-) وورقة (39 - ب -) .
[70] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/84، وتهذيب التهذيب ج 2/152، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1/439 بقوله (واهي الحديث) ونقل ابن الجوزي في أسماء الضعفاء انه قال: (ضعيف الحديث واه) .
[71] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/270ن وتهذيب التهذيب 2/173، وميزان الاعتدال ج 1/449 روى له ابن ماجة في السنن حديثا واحدا، وآخر في التفسير.
[72] خالد بن نجيح المصري، كان يصحب عثمان بن صالح المصري قال أبو حاتم عنه (هو كذاب كان يفتعل الأحاديث ويضعها في كتب ابن أبي مريم وأبي صالح. وهذه الأحاديث التي أنكرت على أبي صالح يتوهم أنه من فعله) انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/355، وميزان الاعتدال ج 1/644.
[73] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (12- أ-) ، وروى له ابن ماجة حديثا واحدا في البيوع.(21/258)
[74] انظر المصدر السابق ورقة (8- أ -) . ونقل المزي قول أبي زرعة فيه. انظر تهذيب التهذيب ج 2/241 وفي ميزان الاعتدال ج 1/467 اكتفى بقوله، في علل الحديث ج 1/47 قال أبو زرعة عن حديث رواه: (هذا حديث منك، والحريش شيخ لا يحتج به) . روى له ابن ماجة حديثا واحدا عن عائشة "كنت أضع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آنية مخمرة" انظر سنن ابن ماجة ج 1/99، 129 ج 2/1119، 1129.
[75] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - ح - وقال عنه ابن حبان: (كان ممن اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، واختلط حديثه القديم بحديثه الأخير فاستحق الترك) انظر المجروحين ج 1/270. روى له ابن ماجة حديثا واحدا في الجنائز. انظر سنن ابن ماجة ج 1/495.
[76] انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/171 وتهذيب التهذيب ج 2/397، وميزان الاعتدال ج 1/656، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[77] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (10- أ -) له عند ابن ماجة حديث واحد من جحد آية من القرآن فقد حل ضرب عنقه. انظر سنن ابن ماجة ج 2/848- 849.
[78] انظر المصدر السابق ورقة (15 - ب-) ، والجرح والتعديل ج 1/ق2/143، وتهذيب التهذيب ج 2/18.
[79] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (4- ب-) .
[80] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف -د- والجرح والتعديل ج 1/ق2/421 وتهذيب التهذيب ج 3/194.(21/259)
ملاحظة: قال ابن حجر في آخر ترجمة داود بن عمر الضبي في تهذيب التهذيب ج 3/195: (وحكى ابن الجوزي في الضعفاء أن أبا زرعة وأبا حاتم قالا أنه منكر الحديث فيحرر هذا) وكذا فعل الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/17، وانظر أسماء الضعفاء لابن الجوزي. وعقب ذلك الشيخ المعلمي اليماني في حاشية ج 1/ق2/420: (إنما قالا ذلك في الآتي - أي داود بن عطاء - فكأن ابن الجوزي لم يتفطن لأول الترجمة الآتية وتوهم أن ما فيها من الكلام يتعلق بهذا. ونقل ابن الجوزي في ترجمة - ابن عطاء - عن أبي زرعة قوله: (متروك الحديث) والصواب قوله: (منكر الحديث) .
[81] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (17- أ-) . وانظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/424، وتهذيب التهذيب ج3/200ن وتاريخ بغداد ج 8/361 ن واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/20 بقوله (ضعيف) روى له ابن ماجة حديثه عب الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي، عن أنس في فضل قزوين وهو منكر يقال أنه أدخله عليه. قال الذهبي: (لقد شان ابن ماجة سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها) وذكر أبو زرعة في كتابه الضعفاء حرف - د – انظر سنن ابن ماجة ج 2/929.
[82] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- أ-) وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/29 في ترجمة دهثم (وقد روى دهثم بن قران، عن نمران ابن جارية، عن أبيه من بني حنيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: يأخذ ماء جديدا للأذنين رواه ابن ماجة ولا يصح لحال دهثم وجهالة نمران) .
[83] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف - ر- وقال عنه أيضا (شيعي) انظر الجرح والتعديل ج 1/ق2/458ن وتهذيب التهذيب ج 3/241ن وميزان الاعتدال ج 2/40. له في سنن ابن ماجة حديث واحد في النهي عن ذبح ذوات الدر.(21/260)
[84] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (10- أ -) وكذا في ميزان الاعتدال ج 2/78ن وروى الخطيب في تاريخه ج 8/452 بسنده إلى البرذعي قول أبي زرعة وزاد على واهي الحديث (واهي الحديث منكر الحديث) ، وكذلك نقله المزي كما تهذيب التهذيب ج 3/333، أما في الجرح والتعديل ج 1/ق2/597 قال عنه (ليس بقوي) .
[85] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف - س -.
[86] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (15- أ -) .
[87] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (3- أ -) واقتصر الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/132 على قوله (ضعفه أبو زرعة وغيره) والمزي على قوله (ضعيف الحديث) انظر تهذيب التهذيب ج 4/20.
[88] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق1/28- 29 وكذا في تهذيب التهذيب ج 4/47 وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف - س-.
[89] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - س – روى له ابن ماجه حديثا واحدا في الكحل وهو صائم. انظر سنن ابن ماجة ج 1/536.
[90] (ع) قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان بن عقبة السوائي، أبو عامر الكوفي كان ثقة صدوقا كثير الحديث عن سفيان الثوري ت 213هـ. انظر تهذيب التهذيب ج 8/347- 349 , والجرح والتعديل ج 3/ق2/126- 127.
[91] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (22- ب -) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق1/260 عن أبي زرعة أنه قال عنه (ضعيف الحديث) . واكتفى في تهذيب التهذيب ج 4/281- 282 بقوله (ضعيف) وكذا في ميزان الاعتدال ج 2/175.
[92] انظر تهذيب التهذيب ج 12/45- 46، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف - س - والجرح والتعديل ج 2/ق1/314.
[93] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (4- ب-) ن وتهذيب التهذيب ج 4/211، وذكره أبو زرعة كذلك في أسماء الضعفاء حرف - س -.(21/261)
[94] شعبة هو (ع) ابن الحجاج بن الورد، أبو بسطام الأزدي العتكي مولاهم الواسطي الحجة الحافظ شيخ الإسلام قال الثوري: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. ت 160هـ. انظر تذكرة الحفاظ ج 1/193.
[95] (بخ س) موسى بن أبي كثير الأنصاري مولاهم، ويقال الهمداني، أبو الصباح الكوفي، ويقال الواسطي، المعروف بموسى الكبير ضعفه أبو زرعة بقوله (كان يرى القدر) انظر تهذيب التهذيب ج 10/368.
[96] (ع) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي ثقة إلا أنه يرسل كثيرا ت 96هـ. انظر تهذيب التهذيب ج 1/177- 178.
[97] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- أ -) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق1/150 (سمعت أبا زرعة يقول: سليمان بن يسير واهي الحديث، ضعيف الحديث) . وانظر كذلك تهذيب التهذيب ج 4/230 روى له ابن ماجة حديثا واحدا في أجر القرض. وانظر سنن ابن ماجة ج 2/812.
[98] انظر كتاب الضعفاء لبي زرعة حرف - ص- قال عنه البخاري في الضعفاء الصغير (منكر الحديث) .
[99] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - ط -.
[100] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق1/478ن وتهذيب التهذيب ج 5/24، وميزان الاعتدال ج 2/342 وأسماء الضعفاء لابن الجوزي وكذلك ذكره أبو زرعة في كتاب الضعفاء حرف - ط -.
[101] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف (ع) ، وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد له الحديث الذي أخرجه له ابن ماجه في الأضاحي (وإن بكل شعرة حسنة) انظر سنن ابن ماجة ج 2/1045.
[102] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف (ع) روى له ابن ماجة حديثا واحدا في فضل صلاة الرجل في بيته، انظر سنن ابن ماجة ج 1/437- 438، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: (صدوق كتبه البخاري في كتاب الضعفاء) فسمعت أبي يقول: يحول من هناك، انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/348 قال البخاري: لم يثبت حديثه.(21/262)
[103] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (7) ، وانظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/85ن وتهذيب التهذيب ج 5/102، وفي ميزان الاعتدال ج 2/370 نقل عنه قوله (ضعيف) ، وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف - ع -، وذكره أيضا في موضعين من كتابه الضعفاء ورقة (15- ب-) ، و (39- ب) وقال عنه لا يحتج بحديثه.
[104] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (15 - ب -) والجرح والتعديل ج 3/ق1/213ن وتهذيب التهذيب ج 5/126ن وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، وكذلك ذكره أبو زرعة في الضعفاء في حرف (ع) .
[105] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (2 - أ-) وذكره مرة أخرى فوهن أمره روى له ابن ماجة حديثا واحدا في آداب الأكل. انظر تهذيب التهذيب ج 6/93.
[106] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (2- أ-) وانظر كذلك الجرح والتعديل ج 3/ق1/27، وتهذيب التهذيب ج 6/98.
[107] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (19- أ-) والجرح والتعديل ج 2/ق2/35 وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي وميزان الاعتدال ج 2/408، وتهذيب التهذيب ج 5/187 وفيه (له عندها في القول عند الخروج من البيت) انظر سنن ابن ماجة ج 2/1278.(21/263)
[108] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (12- أ-) وقال عنه أيضا (ليس بشيء، ضعيف الحديث) انظر الجرح والتعديل ج 2/ق2/46، وفي تهذيب التهذيب ج 5/198 (ليس بشيء ضعيف) ، واكتفى في ميزان الاعتدال ج 2/413 بقوله (ليس بشيء) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي. والعوام هو: (ع) بن حوشب بن يزيد بن الحارث الشيباني الربعي كان صاحب أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وكان ثقة ت 148هـ. وانظر تهذيب التهذيب ج 8/163- 164، وتاريخ واسط ص 114- 117 ومن هذه الأحاديث ما رواه ابن ماجة في سننه ج 2/826 بسنده عن شيخ شيخه بن خراش بن حوشب ولفظه (المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام) ورواه أحمد في مسنده ج 5/364، ورواه أبو إسحاق الفزاري بسنده مطولا. وهذه الرواية ضعفها أبو حاتم كما ذكرها ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 2/322.
[109] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (2- ب-) ، وانظر تهذيب التهذيب ج 5/203.
[110] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق2/62، وتهذيب التهذيب ج 5/220- 221، وروى أبو زرعة بسنده إلى مالك أنه قال عن ابن سمعان (كذاب) وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف (ع) .
[111] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق2/123، وتهذيب التهذيب ج 5/275.
[112] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (4- ب-) ، وفي الجرح والتعديل ج 2/ق2/103 قال عمه (ليس بالقوي) ، وكذلك في تهذيب التهذيب ج 5/301، وميزان الاعتدال ج 2/455، والترغيب والترهيب ج 4/573 وقال أبو زرعة في موضع آخر ورقة (30- أ-) من كتابه الضعفاء.. (ليس بالقوي) .(21/264)
[113] انظر كتاب الضعفاء حرف (ع) قال ابن حبان في المجروحين ج 2/9 (منكر الحديث جدا على قلة روايته، لا يشبه حديثه حديث الأثبات ولا روايته رواية الثقات لا يحل الاحتجاج بخبره وهو صاحب حديث: تارك الجمعة: ألا ولا صلاة له، ألا ولا صوم له ألا ولا حج له) قال ابن عبد البر: (جماعة أهل العلم بالحديث يقولون إن هذا الحديث يعني الذي أخرجه له ابن ماجة من وضع عبد الله بن محمد العدوي وهو عندهم موسوم بالكذب) انظر تهذيب التهذيب ج 6/21، وانظر سنن ابن ماجة ج 1 /343.
[114] انظر الجرح والتعديل ج2/ق2/176ن وفي تهذيب التهذيب ج 5/389 له في سنن ابن ماجة حديث واحد في الحلف باليهودية. انظر سنن ابن ماجة ج 1/679.
[115] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (10- ب-) وفي الجرح والتعديل ج 2/ق2/178 (واهي الحديث، ضعيف الحديث) .
[116] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف (ع) .
[117] انظر المصدر السابق وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق2/219 (سألت أبي عنه فقال: ليس عندي بمنكر الحديث، قلت: أدخله البخاري في كتابه الضعفاء قال: يكتب حديثه ليس بحديثه بأس ويحول من هناك) .
[118] انظر الجرح والتعديل ج2/ق2/253، واكتفى في تهذيب التهذيب ج 6/305 بقوله (متروك الحديث وترك قراءة حديثه) وفي أسماء الضعفاء لابن الجوزي اكتفى بقوله (متروك) له في سنن ابن ماجة حديث واحد في العيدين. انظر سنن ابن ماجة ج 1/411.
[119] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق2/340، وتهذيب التهذيب ج 6/305، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/605 بقوله (واه) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[120] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/45، وتهذيب التهذيب ج 6/315.(21/265)
[121] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/48، وتهذيب التهذيب ج 6/312، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/616 باختصار. له في سنن ابن ماجه حديث الإيمان إقرار بالقول وهو متهم بوضعه كذا في تهذيب التهذيب. انظر سنن ابن ماجة ج 1/25- 26.
[122] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (20- أ-) وقال عنه أيضا (مضطرب الحديث، واهي الحديث) وزاد في تهذيب التهذيب ج 6/348- 349 0 يروي عن أهل الكوفة والمدينة ولم يرو عنه، غير إسماعيل، وهو عندي عجيب ضعيف منكر الحديث ينكر حديثه، ويروي أحاديث مناكير، ويروي أحاديث حسانا) روى له ابن ماجة حديثا واحدا في ترجمة السائب بن الخباب.
[123] انظر الجرح والتعديل ج 2/ق2/347ن وتهذيب التهذيب ج 12/219، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/653 بقوله (ضعيف) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[124] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (4- ب-) .
[125] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - ع – قال عنه ابن حبان في المجروحين ج 2/54 (ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير فلا يجوز الاحتجاج بما خالف الثقات فإن اعتبر معتبر بحديثه الذي لم يخالف الأثبات فيه فحسن) له عند ابن ماجة حديث عن نافع عن ابن عمر: كان عليه السلام إذا توضأ عرك عرضه شيئا. انظر سنن ابن ماجة ج 1/149.
[126] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - ع - قال ابن حبان في المجروحين ج 2/65 (كان ممن يقلب الأسانيد ويأتي بالأشياء التي لا يشك مَن الحديث صناعته أنها مقلوبة فاستحق الترك لما كثر في روايته) له عند ابن ماجة حديث واثلة في قول الأعرابي "اللهم ارحمني ومحمدا.." ج 1/176 واتهمه أبو زرعة بهذا الحديث انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (7- أ -) .(21/266)
[127] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (16- ب-) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 2/ق2/412 سألت أبا زرعة عنه فقال (كوفي قدم البصرة حدث بأحاديث منكرة لا ينبغي أن يحدث عنه) ، وفي تهذيب التهذيب ج 7/73 نقل المزي عن أبي زرعة أنه قال: (واهي الحديث حدث بأحاديث منكرة لا ينبغي لأن يحدث عنه) واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (لا ينبغي أن يحدث عنه) وكذا في ميزان الاعتدال ج 3/21 وانظر كذلك تاريخ بغداد ج 11/94- 95.
[128] انظر كتاب تهذيب التهذيب ج 7/88 وفيه روى له ابن ماجة حديث سلمان الفارسي: "من غدا إلى صلاة الصبح". انظر سنن ابن ماجة ج 2/751 وفي سند الحديث اسم (عيسى بن ميمون) وذكره ابن أبي حاتم باسم عيسى بن ميمون أبو عبيدة التيمي البصري وقال عنه (ضعيف الحديث) انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/34 وكذا ذكره الذهبي بهذا الاسم انظر ميزان الاعتدال ج 3/26- 27، وخلاصة تذهيب الكمال ج 2/207.
[129] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/170، وفي تهذيب التهذيب ج 7/154- 155 قال أبو زرعة (ضعيف الحديث) وقال ابن الجوزي في أسماء الضعفاء (ضعفه أبو زرعة..) .
[130] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/4، وكذا في تهذيب التهذيب ج 7/170 وفيه روى له ابن ماجة حديثا واحدا في النهي عن البول قائما، وذكره ابن عدي بهذا الحديث وغيره. وذكره أيضا أبو زرعة في كتابه الضعفاء ورقة (30) وقال عن حديث عن روايته: غريب، منكر ولم يقرأه وأمر بالضرب عليه.
[131] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- أ -) قال ابن معين (لا يحل لأحد أن يروي عنه) انظر ميزان الاعتدال ج 3/118، وتهذيب التهذيب ج 7/296- 297، روى له ابن ماجة حديثا واحدا في الجنائز. انظر سنن ابن ماجة ج 1/476.(21/267)
[132] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- أ-) ، وتاريخ بغداد ج 11/445، وتهذيب التهذيب ج 7/342، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، روى له ابن ماجة حديث المدبر عن ابن عمر فقط، وقال علي: كنت أرفعه فنهاني أصحابي ورواه جماعة عن علي مرفوعا. ساق له ابن عدي عدة أحاديث، وقال: الضعف على حديثه بين. انظر تهذيب التهذيب ج 7/342، وميزان الاعتدال ج 3/134.
[133] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (7- أ -) وتهذيب التهذيب ج 7/432، وتاريخ بغداد ج 11/200.
[134] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- أ -) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي وتاريخ بغداد ج 11/195، وفي الجرح والتعديل ج 3/ق1/115 نقل قوله (لين الحديث) وفي ميزان الاعتدال ج 3/204 اكتفى بقوله (لين) وفي تهذيب التهذيب ج 7/462 قال أبو زرعة (لين الحديث، وقال مرة واهي الحديث) .
[135] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف (ع) ونقل عنه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق1/116 في ترجمة عمر بن صهبان قوله (ضعيف الحديث) وفي ج 3/ق1/132 في ترجمة عمر بن محمد بن صهبان قوله (واهي الحديث) وفي تهذيب التهذيب ج 7/464 ذكر القولين في ترجمة الأول، واكتفى في ميزان الاعتدال ج 3/220 بقوله (واه) وقال ذهبي في ترجمة عمر بن محمد بن صهبان وهو عمر بن صهبان نسب إلى جده، واه عنده حديث في الأكل يوم الفطر قبل الغدو، ونقل ابن الجوزي عنه في ترجمة عمر بن صهبان قوله (واهي الحديث) وانظر ابن ماجة ج 1/558.
[136] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/130، وكذا في تهذيب التهذيب ج 7/491، وضعفه أيضا حينما ذكر عنده حميد بن قيس المكي ووثقه وقال البرذعي: (ما أبعد ما بين الأخوين، انظر إلى حميد في أعلى درجة العلو، وانظر إلى عمر في أي درجة من الوهاء) انظر كتاب الضعفاء.(21/268)
[137] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (17- أ -) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق/229 وسئل أبو زرعة عنه عندما امتنع من التحديث عنه فقال: ليس هو موضع يحدث عنه واهي انظر تهذيب التهذ يب ج 8/21، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/253 بقوله (واه) .
[138] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف (ع) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 3/ق1/230 سألت أبا زرعة عنه فقال (كان واسطيا، وكان يضع الحديث، ولم يقرأ علينا حديثه وقال اضربوا عليه) وفي تهذيب التهذيب ج 8/27 اكتفى بقوله (كان يضع الحديث) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[139] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (37- أ -) .
[140] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/388، وتهذيب التهذيب ج 8/173.
[141] انظر تهذيب التهذيب ج 8/218، وميزان الاعتدال ج 3/317، وقال عنه في الضعفاء ورقة (2- أ-) ضعيف.
[142] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (3- ب-) وذكره في أسماء الضعفاء حرف - ف- وروى بسنده إلى أيوب السختياني أنه كان قال عنه: (إن فضلا الرقاشي لو ولد أخرس كان خيرا له) وقال عنه أبو زرعة أيضا (منكر الحديث) انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/65، وتهذيب التهذيب ج 8/283.
[143] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/67، وتهذيب التهذيب ج 8/285، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء حرف - ف-.
[144] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/112، وتهذيب التهذيب ج 8/321، وفي أسماء الضعفاء لابن الجوزي اكتفى بقوله (لا يساوي شيئا متروك الحديث) .
[145] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (20- أ -) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 1/ق2/152 عن أبي زرعة أنه قال عنه (واهي الحديث) وكذا في تهذيب التهذيب ج 8/416، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/405 بقوله (واه) .(21/269)
[146] انظر كتاب الضعفاء ل أبي زرعة ورقة (17- أ-) والجرح والتعديل ج 4/ق1/341، وتهذيب التهذيب ج 10/27 واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/430 بقوله (ما أعرف له حديثا صحيحا) وانظر أسماء الضعفاء لابن الجوزي حيث نقل قول أبي زرعة إلى قوله (.. صحيحا) وذكره وأبو زرعة أيضا في أسماء الضعفاء حرف - م -.
[147] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (2- أ-) .
[148] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/231، وتهذيب التهذيب ج 9/105، وميزان الاعتدال ج 3/404- 405.
[149] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (33- أ -) وفي الجرح والتعديل ج 3/ق2/243 قال أبو زرعة أخبرني وهب الفامي قال سمعت محمد بن خالد الواسطي يقول: لم أسمع من أبي إلا حديثا واحدا، خالد عن بيان عن الشعبي لا أدري أيهما أكبر في الناس البخل أو الكذب، ثم حدث عنه حديثا كثيرا. وقال أبو زرعة أيضا أخبرني أبو عون بن عمرو قال أخرج ابن خالد الواسطي عن أبيه عن الأعمش كتابا قال أبو زرعة ولم يسمع أبوه من الأعمش حرفا، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: (ضعيف الحديث لا أحدث عنه ولم يقرأ علينا حديثه وكان حدث عنه قديما وأبى أن يقرأ علينا) وكذا في تهذيب التهذيب ج 9/141- 142 باختصار في بعض الألفاظ.. واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3/533 بقوله (ضعيف) .
[150] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق2/250، وتهذيب التهذيب ج 9/153، وميزان الاعتدال ج 3/540 واكتفى ابن الجوزي في أسماء الضعفاء بقوله (كان يكذب) .
[151] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف - م- قال البخاري عنه (منكر الحديث) وقال النسائي (ليس بثقة ولا يكتب حديثه) انظر ميزان الاعتدال ج 3/542 له عند ابن ماجة حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى الشعب فبال"، وحديث عمرو بن عنبسة أي الجهاد أفضل.(21/270)
[152] انظر الجرح والتعديل ج 3/ق1/86، وتهذيب التهذيب ج 9/437 واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 4/33 بقوله (ليس بذاك) وكذا في أسماء الضعفاء لابن الجوزي وقال عنه أبو داود صدوق، أما الإمام أحمد فقد لينه. كما في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب.
[153] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف- م – وقال عنه البخاري منكر الحديث. انظر تهذيب التهذيب ج 9/321 وميزان الاعتدال ج 3/635 وخلاصة تذهيب الكمال ج 2/434.
[154] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (17- أ -) . وفي الجرح والتعديل ج 4/ق1/21 قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: ضعيف، قلت: يكتب حديثه؟ قال: ما يعجبني إلا على الاعتبار ترك الناس حديثه. واكتفى في تهذيب التهذيب ج 9/367 بقوله (متروك الحديث) وانظر تاريخ بغداد ج 3/14. وضعفه أيضا أبو زرعة في موضع آخر من كتابه عند ذكره بعض الضعفاء. انظر الورقة (4- ب-) ، وكذا في أسماء الضعفاء حرف -م-.
[155] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/47 وتهذيب التهذيب ج 9/384 وذكره أبو زرعة أيضا في أسماء الضعفاء حرف - م- روى له ابن ماجة حديثا عن نافع عن ابن عمر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه فسكن طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر يبكي فقال: "يا عمر هاهنا تسكب العبرات". سنن ابن ماجة ج 2/982.
[156] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (13- أ-) وفي الجرح والتعديل ج 4/ق1/60 نقل عن أبي زرعة أنه قال عنه: 0 ضعيف الحديث) وكذا في تهذيب التهذيب ج 9/397 أخرج له ابن ماجة حديث "شاهد الزور" فقط. انظر سنن ابن ماجة ج 2/794.
[157] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (11- ب -) ، وقال عنه أيضا (لين) انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/68، وتهذيب التهذيب ج 9/420. روى له ابن ماجة حديثه عن أبيه عن ابن عباس عن حصين بن عوف في الحج.
[158] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/218، وتهذيب التهذيب ج 10/146.(21/271)
[159] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - م – وسأل ابن أبي حاتم عنه فقال: (منكر الحديث جدا، ضعيف الحديث ليس له حديث قائم، قلت: يترك حديثه؟ قال: لا يكتب حديثه) . انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/275.
[160] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - م- قال عنه ابن حبان في المجروحين ج 3/5: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه.
[161] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/409، وتهذيب التهذيب ج 10/171.
[162] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (2- أ -) .
[163] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - م - وانظر تهذيب التهذيب ج 10/225- 226 حيث قال: (وذكره أبو زرعة الرازي في أسامي الضعفاء ومن تكلم فيهم) ومعبد هو أول من تكلم في القدر بالبصرة روى له ابن ماجة حديث معاوية "إياكم والتمادح". انظر سنن ابن ماجة ج 2/1232.
[164] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (8- أ -) وروى الخطيب في تاريخ بغداد ج 13/188 بسنده إلى البرذعي أن أبا زرعة قال عنه: (ذاهب الحديث) وكذا في تهذيب التهذيب ج 10/238، وميزان الاعتدال ج 4/149، وأسماء الضعفاء لابن الجوزي.
[165] لنظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/332 وتهذيب التهذيب ج 10/242 قال عنه ابن حبان في المجروحين ج 2/16- 17 كان يروي الموضوعات عن أقوام ثقات وكان غاليا في التشيع يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل الرواية عنه بحال ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب، وروى بسنده إلى ابن عيينة - من طريق أبي زرعة - أنه قال عنه (يكذب) .
[166] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف - م - قال البخاري في حديثه اضطراب وقال النسائي ليس بالقوي، وكذا ضعفه إبراهيم الفراء، ووثقه أبو حاتم وابن معين. انظر ميزان الاعتدال ج 4/196، وتهذيب التهذيب ج 10/327.
[167] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/470، وتهذيب التهذيب ج 10/426.(21/272)
[168] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (31- ب -) وقال أبو حاتم (أدركته ولم أكتب عنه وهو ضعيف الحديث لا يصدق) انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/471.
[169] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق1/496، وتهذيب التهذيب ج 10/479.
[170] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - هـ- قال عنه ابن حبان في المجروحين ج 3/94: كان يروي الموضوعات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار لأهل الصناعة فقط.
[171] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة حرف - هـ- قال عنه ابن حبان في المجروحين ج 3/87: لا يجوز الاحتجاج به بحال ولا ذكر حديثه إلا على جهة الاعتبار.
[172] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق2/143، وتهذيب التهذيب ج 11/207، والترغيب والترهيب ج 4/79، وميزان الاعتدال ج 4/373.
[173] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق2/183، وفي تهذيب التهذيب ج 11/267 قال عنه (ضعيف) .
[174] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في حرف - ي – وفي الجرح والتعديل ج 4/ق2/279، نقل ابن أبي حاتم عنه قوله (منكر الحديث) وفي نسخة أخرى قال (ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا) وفي تهذيب التهذيب ج 11/348 (وقال أبو زرعة ضعيف الحديث، وقال مرة واهي الحديث وغلظ القول جدا) واكتفى في ميزان الاعتدال ج 4/433 بقوله (ضعيف) وذكره أيضا أبو زرعة في كتابه الضعفاء ورقة (8- ب -) وقال (واهي الحديث وغلظ فيه القول جدا) .
[175] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق2/206، وتهذيب التهذيب ج 11/383، واكتفى الذهبي في ميزان الاعتدال ج 4/450 بقوله (وسئل أبو زرعة عنه فحرك رأسه) .(21/273)
[176] انظر الجرح والتعديل ج 4/ق2/215، وتهذيب التهذيب ج 11/397، ونقل الذهبي في ميزان الاعتدال ج 4/454 عن أبي زرعة أنه قال عنه (ليس بشيء يقارب الواقدي) وذكره في كنابه الضعفاء ورقة (4- ب -) فقال: (ليس على يعقوب الزهري قياس، يعقوب الزهري، وابن زبالة، والواقدي، وعمر بن أبي بكر الموملي، يقاربون في الضعف في الحديث وهم واهون) وقال عنه في موضع آخر ورقة (30- أ -) (منكر الحديث) .
[177] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (7- أ-) ونقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه قال عنه (ذاهب الحديث، ضعيف الحديث، أضرب على حديثه، كان يحيى بن معين يقول: كان يكذب) انظر الجرح والتعديل ج 4/ق2/222، وتهذيب التهذيب ج 11/412.
[178] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (8- ب -) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج 4/ق2/229 عن أبي زرعة أنه قال عنه (هو صالح وهو أقل رواية من أخيه المنكدر) وكذا في تهذيب التهذيب ج 11/422، وأما في ميزان العتدال ج 4/472 فقال عنه (صالح الحديث) والذي أراه أنه أراد بقوله (صالح) أي من الصلاح والتقوى والعبادة أما في الحديث فهو ضعيف يؤيد هذا قول أبي زرعة الذي نقله عنه البرذعي، ويؤيده أيضا أن ابن حبان قال عنه (غلب عليه الصلاح فغفل عن الحفظ فكان يأتي بالشيء توهما فبطل الاحتجاج به) انظر تهذيب التهذيب ج 11/423، والمجروحين ج 3/135- 136.
[179] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (13- أ -) وتهذيب التهذيب ج 11/426، وذكره أبو زرعة في أسماء الضعفاء، وذكره أيضا في موضع آخر ورقة (30- أ-) فقال (واهي الحديث) .
[180] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة ورقة (6- ب -) وفي تهذيب التهذيب ج 12/29، 44 نقل منه أنه قال (ضعيف منكر الحديث) .(21/274)
[181] انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة في الكنى، قال ابن حبان في المجروحين ج 3/147 (كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه ولا الاحتجاج به بحال، كان أحمد بن حنبل يكذبه) .
[182] انظر تهذيب التهذيب ج 12/103.
[183] انظر تهذيب التهذيب ج 12/106، قال ابن حبان في المجروحين ج 3/157 (شيخ يروي عن أنس بن مالك المناكير التي لا يشارك فيها، لا يجوز الاحتجاج به بحال) .(21/275)
مفهوم الأسماء والصفات
(الحلقة الثالثة)
سعد ندا: المدرس بالجامعة الإسلامية
أسلفت في حلقتين سابقتين ذكر اثنين وثلاثين اسما من أسماء الله الحسنى، وألقيت الضوء على بعض معانيها، وأشرت إلى عدد المرات التي تكررت فيها هذه الأسماء، وقد بلغت في مجموعها خمس عشرة وسبعمائة وألفي مرة (2715) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فضلا عن السنة المطهرة، عدا ما سيأتي من الأسماء الحسنى في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.
وكان أكثر هذه الأسماء تكرارا هو لفظ الجلالة (الله) جل جلاله؛ إذ قد تكرر في القرآن الكريم ثمانين وتسعمائة (980) مرة.
والذي أودّ أن أبرزه أن إيرادي لتلك الأعداد التي تكررت فيها أسماء الله الحسنى ليس من باب التسلية، أو السرد غير الهادف، أو الإحصاء العشوائي، وإنما هدفت من ورائه إلى أن أؤكد حقيقة غاية في الأهمية، تلك الحقيقة هي أن الله تعالى لم يضمن القرآن الكريم هذا الحشد الضخم من أسمائه المباركة إلا لأنه أراد سبحانه أن يلفتنا إلى مدى ضرورة معرفة أسمائه الحسنى التي ذكرها لنا ووردت بها النصوص، ودعانا إلى تعلمها وإحصائها ودعائه بها، وذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) ، وفيما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتعين اسما إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر"، (متفق عليه) .
أعود فأكد أن تكرار أسماء الله الحسنى بهذا العدد الوفير في القرآن الكريم والسنة المشرفة لهو أقطع دليل على بالغ أهمية تعرف العباد عليها؛ ليدعو الله تعالى بها، وليقفوا على ما تتضمنه من صفات الله عز وجل وليتعبدوا الله تعالى بها أحق ما تكون العبادة.(21/276)
ولو أن العبد علم الأسماء الحسنى - جل وعلا - وعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء وما يتضمنه من المعاني السامية، وملأ بها قلبه؛ لاستغنى بهذه الأسماء الكريمة عن التوجه إلى غير الله تعالى يستجديه ويلتمس عنده قضاء ما لا يقوى عليه إلا الله عز وجل، ولصار الناس جميعا – أمام ناظريه – سواء كأسنان المشط، لا لفضل لعربي منهم على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى؛ إذ هم مثله جميعا عبيد لله رب العالمين.
ومن ثم رأيت أن أتم ما بدأت ذكره مما ورد به النص من أسماء الله الحسنى، ملقيا بعض الأضواء على شيء من معانيها بقدر ما ييسر الله تعالى لي، وذلك فيما يلي:
الحيّ:
هو اسم من أسماء الله جل وعلا، يتضمن تفرده بصفة الحياة الأبدية التي لا تنتهي، والتي تشمل جميع صفات كمالاته الذاتية؛ بمعنى أن اسم (الحي) يفيد دوام الحياة لله سبحانه، وأنه تعالى الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا [1] ، وقيل: الحي معناه: الباقي، وقيل: الذي لا يزول ولا يحول، وقيل: المصرف للأمور والمقدر للأشياء، وقال الطبري عن قوم أنه يقال: حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه [2] ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله (الحي) أي حي لا يموت [3] .
وقد ذكر شيخ الإسلام فخر الدين الرازي: واعلم أنه تعالى إنما تمدح بكونه حيا، لأن مراده منه كونه حياً لا يموت، ألا ترى أن الحي الذي يجوز عليه الموت حكم عليه بأنه ميت؟ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر آية 30) [4] .
أقول: وتسمية نفسه سبحانه باسم (الحي) يفهم منه - وهو جل وعلا دائم الحياة وآثار حيلته منبثة في كل ما خلق - أنه تعالى مصدر حياة كل كائن حي، فهو سبحانه يبدؤها له من حين يشاء، وينهيها منه حين يشاء.(21/277)
وما دام أنه تعالى مصدر حياتنا، فقد لفتنا أن نربط به وحده هذه الحياة، ولا نكل أي أمر من أمورها إلا إليه وحده؛ لأنه هو وحده دائم الحياة، فيدوم تدبيره لأمورنا، فقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان لآية 57) ، ولم يقل (وتوكل على الحي) فقط، لأن المخلوقين أحياء ولكنهم سيموتون، فإذا توكل بعضهم على بعض، تبددت مصالح المتوكلين بموت المتوكل عليهم، لذا علمنا عز وجل أن يكون توكلنا على {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} وهو الله وحده سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الإمام الشوكاني - رحمه الله - أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه، دون الأحياء المنقطعة حياتهم، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم. والتوكل هو اعتماد القلب على الله في كل الأمور [5] .
وقد ورد اسم (الحي) في القرآن خمس مرات وذلك على ما يلي:
1- في قوله تعال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة آية 255) .
2- وفي قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران آية 1، 2) .
أقول: وقد ورد اسم (الحي) في الآيتين المذكورتين مقترنا باسم (القيوم) بعد إقرار وتجريد توحيد الألوهية لله تعالى سبحانه.
3- وفي قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طه آية 111) .(21/278)
أقول: وقد ورد اسم (الحي) في الآية المذكورة مقترنا باسم (القيوم) كذلك، مع بيان أن وجوه الخلائق ذلت وخضعت لجبارها (الحي) الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، ولا قوام لشيء إلا به [6] ، وكذلك مع بيان أنه من يلقى ربه (الحي القيوم) على شيء من الظلم - وهو الشرك - فإنه يكون خائبا خاسرا [7] .
4- وفي قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان آية 58) .
أقول: وقد أسلفت - قبل قليل - بيان لِمَ لَفَتَنا الله جل وعلا إلى أن يكون توكلنا عليه وحده لأنه {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ؛ فلا أرى داعيا لتكراره.
5- وفي قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر آية 56) .
أقول: وقد ورد اسم (الحي) في هذه الآية مع إقرار تجريد توحيد الألوهية لله تعالى سبحانه، مع أمرنا أن ندعوه وحده مخلصين له قلوبنا في كل دعائنا.
وقد ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: هو الأول والآخر والظاهر والباطن، الذي لا معبود إلا هو سبحانه.
وذكر في قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: موحدين له مقرين بألوهيته وربوبيته، كما ذكر أنه روي عن ابن عباس قوله: من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [8] .
وذكر الإمام الشوكاني في قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي الباقي الذي لا يفنى، المنفرد بالألوهية، وفي قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة والعبادة.(21/279)
وذكر أنه أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال: لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . [9]
وقد ذكر الإمام الشوكاني معنى {ادْعُونِي} في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر آية 60) : قال أكثر المفسرين: (والمعنى: وحدوني واعبدوني، أتقبّل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر، قيل: الأول أولى، لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو العبادة، بل مخ العبادة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد، ثم صرح سبحانه بأن الدعاء - باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب - هو من عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين [10] .(21/280)
أقول: ومن ثم فإن اسم (الحي) - وهو من أسماء الله تعالى الحسنى - يتضمن معنى تفرد الله - عز وجل - بالبقاء الدائم الذي لا فناء معه على الإطلاق، فمن علم أنه هكذا، وأنه يتضمن جميع صفات الكمال الذاتية، وآمن أن الله تعالى وحده هو مصدر كل حياة؛ فإنه لابد أن يجعل اللجأ إليه وحده سبحانه، ضارعا إليه أن يرزقه الحياة الطيبة التي يحس فيها بسعادة العيش، حياة الجسم المعافى من كل داء، وحياة القلب المعافى من كل سوء.
القيوم:
هو من أسماء الله تعالى، ورد بصيغة المبالغة على وزن (فيعول) من قام، يقوم بمعنى يدوم، والقيوم: الدائم، وكان من قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [11] .
يقول الرازي: إن القيوم مبالغة من القيام، وكمال المبالغة إنما عند الاستغناء به عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه؛ فثبت بهذا البرهان أنه سبحانه هو (القيوم) الحق بالنسبة إلى كل الموجودات [12] .
ويقول: إن تأثيره - سبحانه - في غيره بالإيجاد، والموجد بالقصد والاختيار لابد وأن يكون متصورا ماهية ذلك الشيء الذي يقصد إلى إيجاده، فثبت أن المؤثر في العالم فعال درّاك، ولا معنى للحي إلا ذاك، فثبت أنه سبحانه حي، فلهذا قال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، دل بقوله: {الْحَيُّ} على كونه عالما، وبقوله: {الْقَيُّومُ} على كونه قائما بذاته، مقوما لغيره، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد [13] .
ويقول: واعلم أنه لما ثبت كونه سبحانه قيوما، فهذه القيومية لها لوازم، ويجملها في خمس، أوجزها فيما يلي:
اللازمة الأولى: أن واجب الوجود واحد، وهو الله تعالى، بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء، إذ لو كانت كذلك لافتقرت إلى كل جزء منها، وكل جزء غيره سبحانه، والمركب متقوم بغيره، فلا يكون إذا متقوما بذاته، ولا مقوما لسواه، ومن ثم لا يكون على الإطلاق قيوما.(21/281)
اللازمة الثانية: أن لا يكون سبحانه في محل، فيكون حالا، والحال مفتقر إلى المحل، وإذا كان مفتقرا فلا يكون على الإطلاق قيوما.
اللازمة الثالثة: ما دام أنه سبحانه قيوم، فهو قائم بنفسه، عالم بذاته، وذاته مؤثرة في غيره، وهذا يقتضي علمه بكل الموجودات، فكان قيوما عليها.
اللازمة الرابعة: ما دام أنه سبحانه قيوم على كل ما سواه، فكل ما سواه متقوم به، أي موجود بإيجاده.
اللازمة الخامسة: وما دام أنه سبحانه قيوم بالنسبة إلى كل الممكنات، استند كل الممكنات إليه.
وإذا عرفت هذا، فالقيوم من حيث إنه يدل على تقومه بذاته يدل على وجوده الخاص به، ويدل على استغنائه عن غيره [14] .
أقول: يخلص من كلام الرازي أن اسم (القيوم) يعني تفرد الله جل وعلا بذاته وقيوميته على كل ما سواه، بحيث تكون جميعها متقومة به، ومفتقرة افتقارا كاملا دائما إليه سبحانه، فضلا عن أنه متقوما بذاته، وغني غنى كاملا عمن سواه.
وقد ورد اسم (القيوم) في القرآن الكريم ثلاث مرات [15] ، على النحو التالي:
1- في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة آية 255) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في هذه الآية أن معنى (القيوم) : القيم لغيره، ولا قوم للموجودات بدون أمره [16] .
وذكر الإمام الشوكاني في الآية المذكورة أن (القيوم) : القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القائم بذاته المقيم لغيره. وقيل: القائم بتدبير الخلق وحفظه. وقيل: هو الذي لا ينام. وقيل: الذي لا بديل له [17] .
2- وفي قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران آية 1، 2) .(21/282)
وقد ذكر الإمام الشوكاني في هذه الآية أن ابن جرير وابن أبي حاتم أخرجا في معنى (القيوم) : القائم الذي لا بديل له، كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في قوله (القيوم) : القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القيوم الذي لا زوال له [18] .
3- وفي قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طه آية 111) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في هذه الآية أن (القيوم) هو الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، ولا قوام لشيء إلا به [19] .
أقول: وقد اقترن اسم (القيوم) في هذه الآيات الثلاث باسم (الحي) واقترانهما له دلالة عظيمة، ذلك أن اسم (الحي) يشمل جميع صفات الكمال الذاتية لله عز وجل، واسم (القيوم) يشمل جميع صفات الكمال الفعلية له سبحانه، وجمع النوعين من صفات الكمال الذاتية والفعلية، جمع لكل صفات الكمال المطلقة بصورها المتعددة؛ لهذا كان من دعاء الله جل وعلا بهذين الاسمين (الحي القيوم) له من الأهمية البالغة ما لو علمه العبد لما انقطع من الدعاء بها البتة؛ فقد ذكر الإمام ابن كثير عن أبي أمامة مرفوعا: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: البقرة، وآل عمران، وطه) [20] .
وذكر الإمام الرازي أنه روي عن ابن عباس أنه كان يقول: (أعظم أسماء الله: الحي القيوم) [21] .
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآتين - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} - إن فيهما اسم الله الأعظم) [22] .(21/283)
كما ذكر الإمام الرازي أن قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كالينبوع لجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت الآيات المشتملة على هذين اللفظين في الشرف إلى المقصد الأقصى [23] .
وقد ورد الاسمان الكريمان (الحي القيوم) أول ما وردا في كتاب الله العزيز في أعظم آية منه، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارا، ثم قال: "آية الكرسي"، قال: "ليهنك العلم أبا المنذر؛ والذي نفسي بيده، إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش"، وقد رواه الإمام مسلم، وليس عنده زيادة "والذي نفسي بيده.." [24] .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر جندب بن جنادة – في بعض حديث له: ( ... قلت: يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي": {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ) ، ورواه النسائي [25] .
وأخرج الإمام البخاري في تاريخه، والطبراني، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكر (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين ... فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، حتى انفضت الآية) .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ".
وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه؛ آية الكرسي"، قال الحاكم: صحيح الإسناد [26] .(21/284)
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى اله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا؛ فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى اله عليه وسلم إنه سيعود؛ فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى اله عليه وسلم: "يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله! شكا حاجة وعيالا؛ فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود؛ فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها! قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .. حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله، فأصبحت؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها؛ فخليت سبيله، قال: "وما هي؟ "، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك وهو كذوب،(21/285)
تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذاك شيطان" [27] .
أقول: يخلص مما سبق أن الاسمين الكريمين - (الحي) و (القيوم) - قد وردا في القرآن الكريم مقترنين في مواضع ثلاث من سور البقرة، وآل عمران، وطه؛ ليفيدا اتصاف الله جل وعلا - وهما كلمتان فحسب - بصفتي الحياة والقيومية؛ فالأولى تثبت له تعالى جميع صفات الكمال الفعلية المطلقة، ومن ثم وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهما يعبران عن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، فنسألك اللهم (يا حي يا قيوم) أن ترينا الحق حقا وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلا وترزقنا اجتنابه، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تثبت قلوبنا على دينك، وأن تصرفها على طاعتك، وأن تختم لنا بخاتمة الإيمان.
العلي:
هم اسم من أسماء الله تعالى، وهو على وزن (فعيل) بمعنى فاعل، أي العالي، هو الذي ليس فوقه شيء [28] .
أقول: وصفة العلو لله تعالى التي تؤخذ من اسمه (العلي) سبحانه، ثابتة بالكتاب والسنة، ومفهومها - على ما سأبين إن شاء الله تعالى عند بيان صفات الله سبحانه - أنه جل وعلا عال فوق عرشه، فهو مستو سبحانه بذاته استواء يليق به، بائن عن جميع خلقه، والعرش واحد من خلقه، وهو رغم ذلك مع خلقه، وأقرب ما يكون إليهم بعلمه، وإحاطته، وقدرته، وقهره، وسمعه، وبصره، وباقي صفاته المطلقة في الكمال، فهو سبحانه قريب في علوه، عال في دنوه، فضلا عن ذلك فالله - جل وعلا - علي في ذاته، وعلي في أسمائه، وعلي في صفاته، وعلي في أفعاله.
وقد ورد اسم (العلي) في القرآن الكريم ثماني مرات [29] على النحو التالي:
ورد مرتين [30] مقترنا باسم (العظيم) ، وذلك في قوله تعالى:
1- {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة آية 255) .(21/286)
2- وفي قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى آية 4) .
أقول: وفي هاتين الآيتين نجد أن اسم (العلي) بما يتضمنه من صفة العلو في الذات، والأسماء، والصفات، والأفعال، الأمر الذي يدل على انفراده سبحانه بالكمال المطلق، وقد اقترن باسم (العظيم) بما يتضمنه من صفة العظمة في الذات والأسماء، والصفات، والأفعال، الأمر الذي يدل عل انفراده - سبحانه - بالقدرة المطلقة، اقتران بلغت العقول والقلوب إلى أن الله - عز وجل - في علاه فوق عرشه بما لا يطلع عليه أحد من خلقه في هذه الحياة الدنيا البتة، عظيم عظمة تتضمن القدرة على كل شيء، وتذل أمامها الخلائق فتنصاع صاغرة لعظمة الله (العلي العظيم) ؛ إذ إنه خالق ومالك ما في السموات وما في الأرض.
وقد ورد اسم (العلي) في القرآن الكريم مقترنا باسم (الكبير) خمس مرات [31] ، على النحو التالي:
1- في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج آية 62) .
أقول: في هذه الآية سبق الاسمان الكريمان (العلي الكبير) بإقرار قضية التوحيد لعظيم أهميتها، فقررت أن الله تعالى هو الإله الحق الذي لا ينبغي أن تصرف أي عبادة إلا له وحده، إذ إن صرف أي شيء منها، ودعاء غيره سبحانه هو الباطل الذي يجب أن ينأى عنه المسلم، ثم تقرر الآية أن الإله الحق الواجب تجريد العبادة له هو الله العلي الكبير.
ويقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: إن الله هو الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأن كل ما عبد من دونه فهو باطل، لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا، وأن الله هو العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا [32] .(21/287)
ويقول الإمام الشوكاني في تفسيرها: أي هو سبحانه ذو الحق؛ فدينه حق، وعبادته حق، ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق، وأن الذين يدعونه إلها من الأصنام [33] هو الباطل الذي لا ثبوت له، ولا لكونه إلها، وأن الله هو العالي على كل شيء بقدرته، المتقدس على الأشباه والأنداد، المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات، وأنه سبحانه ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته، وتفرده بالإلهية [34] .
2- وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (لقمان آية 30) .
أقول: وما أقوله عن هذه الآية الكريمة من اقتران اسم (العلي) باسم (الكبير) ، ومن تصدر الآية بإقرار توحيد الله وتجريد العبادة له سبحانه، هو ما أقوله في هذه الآية، لتماثلها مع الآية السابقة.
3- وفي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبا آية 23) .
وهنا ترى الاسمين الكريمين (العلي الكبير) سُبقا بما بين الله جل وعلا من أن الملائكة حين يزول فَزَع قلوبهم من سماعهم كلام الله تعالى بالوحي يتساءلون عن قول الله عز وجل، فيقول بعضهم لبعض الحق الذي قال، وأقروا بأن الله هو العلي الكبير، فلا قول بعد قوله سبحانه.
وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أنه إذا خلي عن قلوبهم، وزال الفزع عنها، سأل بعضهم: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم للذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قَالُوا الْحَقَّ} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [35] .(21/288)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان يَنْفُذُهم ذلك، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض؛ وَصَفَه سفيان بكفه: فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" [36] .
وروى ابن أبي حاتم - بسنده - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي أخَذَت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة؛ خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض".
4- وفي قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر آية 12) .(21/289)
أقول: في هذه الآية الكريمة، نجد أنه قد ورد قبل الاسمين الكريمين (العلي الكبير) تقرير وتأكيد لأهمية توحيد الله عز وجل، وتوبيخ لأصحاب النار الذين يطلبون من ربهم أن يعيدهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملون، لأنهم لم يقبلوا توحيد الله عز وجل في الدنيا، بل كانوا إذا دعوا إلى توحيده يكفرون، وإن يشرك به تعالى يؤمنون، فكان الحكم القاطع بعدم إجابتهم من الله العلي الذي ليس أعلى منه أحد، الكبير الذي ليس أكبر منه أحد، ومن ثم فلا حكم بعد حكمه سبحانه.
وقد ذكر الإمام الشوكاني في هذه الآية أن الله سبحانه بين لهم السبب الباعث على عد إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، ثم ذكر في قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} أي أنه وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليهم بالخلود في النار وعدم الخروج منها، وفي قوله: (العلي) أنه المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، وفي قوله: (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل، أو صاحبة، أو ولد، أو شريك [37] .
أقول: ومن هنا يبين لنا أن الآية تدور حول بيان مدى أهمية قضية توحيد الله عز وجل، وجزاء من رفض توحيده سبحانه وأن الله (العلي الكبير) إذا حكم فلا معقب لحكمه.
5- وفي قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} (النساء آية 34) .(21/290)
أقول: في هذه الآية الكريمة نجد أن الاسمين الكريمين في قوله تعالى: {عَلِيّاً كَبِيراً} قد سبقا بقضية من القضايا الاجتماعية الخطيرة، وهي قضية قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديبها عند خوف نشوزها؛ فقررت الآية للرجل القوامة الكاملة على المرأة، لأنه هو الذي يتولى الذب عنها، والإنفاق عليها، وذلك بسبب تفضيله بما فضله الله تعالى بأن جعل منه الخليفة، والسلطان، والحاكم، والأمير، والغازي، والقاضي، وغير ذلك من الأمور التي خص الله عز وجل بها الرجل، ثم ذكرت الآية أن الزوجات الصالحات قانتات أي مطيعات لله بتأدية حقوقه وحقوق أزواجهن، وأنهن حافظات لأنفسهن ومال أزواجهن في غيبتهم بحفظ الله.
ثم عالجت الآية قضية خوف نشوز المرأة، فحددت للرجل خطوات علاج لابد له أن يتبعها مع زوجته، وذلك أولا: بأن يعظها، ثانيا: بأن يهجرها في المضجع إن لم يثمر وعظها، وثالثا: بأن يضربها ضربا - غير مبرح كما بينت السنة المشرفة - إن لم يثمر هجرها، فإن أطاعت، فليس له أن يتعرض لها بسوء من قول أو فعل، فإن تعرض لها رغم طاعتها، فإن الله (العلي الكبير) يجازيه بعمله.
وقد ذكر الإمام الشوكاني في قوله تعالى في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} أن هذا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب - أي في حالة طاعتهن - أي: وإن كانوا يقدرون عليهن، فليذكروا قدرة الله عليهم، فإنها فوق كل قدرة، والله بالمرصاد لهم [38] .
وفضلا عما ذكرت، فقد ورد اسم (العلي) سبحانه مقترنا باسم (الحكيم) في القرآن الكريم مرة واحدة [39] في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى آية 51) .(21/291)
أقول: في هذه الآية الكريمة نجد أن الاسمين الكريمين (العلي الحكيم) قد سُبقا ببيان الطريق الذي ينزل به وحي الله على من يختارهم من عباده، وذلك بإحدى طرق ثلاث: أولا: إما بالنفث في القلب، ثانيا: أو بالكلام من وراء حجاب دون أن يرى سبحانه، ثالثا: أو بإرسال ملك بالوحي الذي يريد سبحانه. وذلك لأنه (علي حكيم) بمعنى أنه متعال عن صفات النقص، وحكيم في كل أحكامه [40] .
المتعالي:
هو اسم من أسماء الله تعالى، على وزن (متفاعل) ، وهو من العلو، والله تعالى عال، ومتعال، وعلي [41] .
وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم مرة واحدة [42] في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد آية 9) .
أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الكبير المتعال) في هذه الآية بإفراد الله - عز وجل - بعلم ما غُيِّب عن العباد وما لم يُغَيَّب عنهم، مما يدل على استئثاره سبحانه بهذا العلم.
وقد ذكر الإمام ابن كثير عن هذين الاسمين (الكبير المتعال) في الآية المذكورة أن (الكبير) هو الذي أكبر من كل شيء، وأن (المتعال) هو المتعالي على كل شيء [43] .
وقال الإمام الشوكاني في تفسيرها إن معنى (الكبير) العظيم الذي كل شيء دونه، ومعنى (المتعال) المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره [44] .
الأعلى:
هو اسم من أسماء الله تعالى، على وزن (أفعل) وهي بصيغة المبالغة، واسم (الأعلى) بالتعريف يفهم منه أنه تعالى هو وحده الأعلى في ذاته، وفي أسمائه، وفي أفعاله، ولا يوجد من هو أعلى منه في أي شيء على الإطلاق.
وقد ورد اسم (الأعلى) في القرآن الكريم مرتين [45] :
1- في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى آية 1) .(21/292)
أقول: وقد سبق اسم (الأعلى) في هذه الآية الكريمة أمر من الله عز وجل أن نسبح اسمه، وهنا يثور التساؤل: هل التسبيح - وهو التنزيه عن كل ما لا يليق - للرب أو لاسمه تعالى؟
ذهب العلماء إلى رأيين:
الأول: أن التسبيح إنما هو للرب جل وعلا، ومن ثم يكون (اسم) مقحما، وفي هذا يقول الإمام الشوكاني: المعنى: سبح ربك الأعلى.
الثاني: أن التسبيح لاسم الرب جل وعلا، ومن ثم فلا يكون (اسم) مقحما، وفي هذا يقول الإمام ابن جرير: المعنى: نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه. وقيل: المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم.
وقال الحسن: معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} صلِّ له. وقيل: المعنى: صلِّ بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: المعنى: ارفع صوتك بذكر ربك.
ثم هناك تساؤل آخر: هل الأعلى صفة للرب أو صفة الاسم؟
ذكر الإمام الشوكاني أنه قيل: إنه صفة للرب، ويرى أن هذا الرأي هو أولى. وقيل: إنه صفة للاسم [46] .
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب سورة الأعلى؛ فقد روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ) ، تفرد به أحمد.
كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في أكثر من مناسبة؛ فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا) ، ولفظ الإمام مسلم وأهل السنن: (كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) .(21/293)
وروى الإمام أحمد عن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وزادت عائشة: والمعوذتين) .
بل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصلاة بسورة الأعلى؛ فقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "هلا صلَّيت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ) .
أقول: مما أسلفت يتبين أن اسم (الأعلى) - وقد سبق بالأمر بتنزيه ربنا تعالى أو اسمه، بمعنى الإقرار بجميع صفات كماله، وإبعاده عن جميع صفات النقص - يدل على أهمية قضية توحيد الله عز وجل في مناسبات عديدة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.
2- وفي قوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} (الليل آية 19، 20) .
أقول: وقد سبق اسم (الأعلى) في هذه الآية بيان أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ما كان يبذل ماله ليكافئ من أسدى إليه معروفا، فيكون إعطاؤه إياه مقابل معروفه، وإنما كان بذله ابتغاء وجه ربه الأعلى، طاعة له ليزكي نفسه وماله؛ بمعنى أنه - رضي الله عنه - إنما كان يتصدق مبتغيا بصدقته وجه الله تعالى خالصا، لا ليجازي بصدقته صاحب نعمة عليه.
ومن هذا يتبين لنا أن اسم (الأعلى) قد سبق بإقرار قضية التوحيد بإخلاص العمل لله تعالى وحده، دون أن يكون لأي من البشر فيه نصيب.
وقد ذكر الإمام الشوكاني في معنى الآية المذكورة: أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازي عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة [47] .(21/294)
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل آية 17- 18) . ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الصفات، وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقا، تقيا، كريما، جوادا، بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه [48] .
العظيم:
هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعيل) بصيغة المبالغة، بما يدل على منتهى العظمة لله تعالى، بحيث لا تعلوها عظمة مخلوق.
وبهذا الاسم الكريم أثبت الله جل جلاله لنفسه العظمة المطلقة في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
وقد ورد اسم (العظيم) في القرآن الكريم ست مرات [49] على النحو التالي:
1- في قوله تعالى: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة آية 255) .
أقول: وقد سبق أن أشرت إلى اقتران الاسمين الكريمين (العلي العظيم) عند الكلام على اسم (العلي) .
وأضيف هنا أن اسم (العظيم) وقبله (العلي) قد سبقا في هذه الآية الكريمة ببيان القدرة المطلقة لله تعالى، التي من مظاهرها حفظ السموات والأرض، ولا يثقله - سبحانه – هذا الحفظ أدنى ثقالة، وإثبات كمال القدرة لله تعالى، وهي من باب إثبات أسمائه - جل وعلا - وصفاته، وهو قسم من أقسام توحيد الله عز وجل.
2- وفي قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى آية 4) .(21/295)
أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (العلي العظيم) في هذه الآية الكريمة ببيان تجريد الربوبية لله سبحانه - التي من مظاهرها بأنه هو وحده الملك للسموات والأرض وما فيهن، وتجريد الربوبية له تعالى قسم من أقسام توحيد الله عز وجل.
3- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة آية 74) .
أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بالأمر بالتسبيح باسم ربنا تعالى، ومعنى هذا الأمر: أن ننزهه عما لا يليق بشأنه كما يذكر الإمام الشوكاني [50] .
وتنزيهه سبحانه على هذا الوجه معناه إثبات كل صفات الكمال له تعالى، وهذا الأمر من مباحث توحيد الله عز وجل.
4- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة آية 96) .
أقول: وما ذكرته في الآية السابقة هو ما أقرره في هذه الآية؛ لأن الأمر فيهما واحد.
5- وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} (الحاقة آية 33) .
أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بذكر حال الذي يؤتى كتابه بشماله - يوم تعرض الخلائق على الله - فيدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا ثم يرمى في الجحيم، وبيان أنه ما كان يؤمن بالله (العظيم) فلم يطعه، ولم يؤيد ما أوجبه تعالى عليه من حقوق سبحانه، فضلا عن حقوق العباد، والإيمان بالله يترتب عليه الائتمار بما أمر، والانتهاء عما نهى، وهذا الإيمان إنما يعني توحيد الله عز وجل.
6- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الحاقة آية 52) .(21/296)
أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بالأمر بتنزيه الله تعالى عما لا يليق، إذ إنه لا يأتي منه إلا بكل خير، والقرآن الكريم جاء من عنده تعالى، لذلك كان حق اليقين؛ فجاءت الآية السابقة (وإنه لحق اليقين) أي: أن القرآن لأنه من عند الله؛ فهو حق لا يحول حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك، والقرآن هو كلام الله تعالى، وكلامه سبحانه صفة من صفاته، والصفات من مباحث توحيد الله عز وجل.
ومن ثم يبدو أن أسماء الله تبارك وتعالى غالبا ما تأتي بعد قضية توحيد الله جل وعلا، وتجريد العبادات له سبحانه.
الغني:
هم اسم من أسماء الله تعالى، يتضمن أن الله جل وعلا غني غنى مطلقا عن جميع خلقه، فليس محتاجا إلى أي منهم، لأنه سبحانه هو خالق الخلق، ومالكه، ومدبر أمره، وخزائن كل شيء عنده وحده، يمد منها خلقه بقدر معلوم حسب مشيئته هو سبحانه كما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (لحجر آية 21) ومن كانت صفاته بهذه المثابة، فلا يمكن أن يحتاج البتة إلى واحد من خلقه، إذ إن الذي يحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها، ومن ثم إلهنا العظيم هو (الغني) على الإطلاق.
وقد ورد هذا الاسم الكريم (الغني) في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة [51] ، على النحو التالي:
ورد عشر مرات [52] مقترنا باسم (الحميد) سبحانه، وذلك على مثل ما يلي:
1- في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة آية 267) .(21/297)
أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة بأمر الله تعالى لنا بأن نعلم أن الله تعالى (غني حميد) ، فهو المتصف بالغنى المطلق، والمستحق للحمد المطلق، وذلك بعد أن أمر المؤمنين - في الآية ذاتها - أن ينفقوا من طيبات ما كسبوا ومما أخرج الله تعالى لهم من الأرض، وأن لا ينفقوا من الخبيث، إذ إنهم لا يقبلون أخذه إلا تساهلا وتجاوزا عن بعض حقوقهم، ومع أمر الله لهم إلا بالإنفاق من الطيبات، فالله غني - على الإطلاق - عن إنفاقهم، ومستحق للحمد على كل ما أمر وفعل.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في معنى قوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أن الله تعالى وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها، فهو غني عنها، وما ذلك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} ، وهو غني عن جميع خلقه، وجميع الخلق فقراء إليه، وهو واسع الفضل، لا ينفذ ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليعلم أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، وسيجزيه بها، ويضاعفها له أضعافا كثيرة، فالذي يقرضه غير عديم ولا ظلوم. وهو سبحانه الحميد أي المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه [53] .(21/298)
أقول: ولو أن العبد علم أن من أسماء الله تعالى (الغني) ، وأن خزائنه ملأى لا تنقص ولا تنفذ، لجرد كل اعتماده عليه سبحانه، ولما طلب مددا من غيره جل شأنه، ولما لجأ إلى ما يزين له الشيطان من الاستمداد من الأحياء، والموتى، بل ومن الجمادات، لأن الله - وحده - هو الذي يملك أن يمد بكل أنواع الإمدادات، وقد أشار سبحانه إلى هذا في قوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (نوح آية 10- 12)
2-وفي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم آية 8) .
أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) ببيان قول رسول الله موسى عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل - أنه لو كفر قومه وهم بنو إسرائيل، وكفر الناس جميعا؛ فإن كفرهم لن يضر الله شيئا، فهو سبحانه الغني غنى مطلقا عن خلقه جميعا، المحمود على كل أوامره وأفعاله.
وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره كقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ..} الآية، فسبحانه وتعالى الغني الحميد [54] .
وقد قال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: أي إن تكفروا نعمته تعالى أنتم وجميع الخلق ولم تشكروها، فإن الله سبحانه {الْغَنِيُّ} عن شكركم لا يحتاج إليه، ولا يلحقه بذلك نقص {الْحَمِيدُ} أي مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه، وإن لم تشكروه، أو يحمده غيركم من الملائكة [55] .
2- وفي قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الحج آية 64) .(21/299)
أقول: وقد سُبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة ببيان ملك الله عز وجل لكل ما في السموات وما في الأرض، فهو خالق كل شيء وحده، ومالك كل شيء وحده، ومدبر أمر كل شيء وحده، وهذا يدل على كمال ربوبيته وكمال غناه عن خلقه سبحانه.
وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن كل شيء في السموات والأرض ملكه وحده لا شريك له سبحانه، وهو (الغني الحميد) أي المستغني عما سواه، المستوجب الحمد من عباده في كل حال [56] .
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إن الله تعالى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} خلقا وملكا وتصرفا، وكلهم محتاجون إلى رزقه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} فلا يحتاج إلى شيء، {الْحَمِيدُ} المستوجب للحمد في كل حال [57] .
4- وفي قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (لقمان آية 26)
أقول: وما ذكرته في الآية الثالثة يصدق على هذه الآية؛ لتضمنها تقريبا المعنى نفسه.
6- وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان آية 12) .
أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة ببيان أن الله تعالى أعطاه الحكمة وأمره أن يشكر وحده على ما أنعم به عليه، إذ إن الشكر ينفع الشاكر وحده، والذي يجحد النعم ولا يشكرها فلن يضر الله بكفره؛ لأنه سبحانه ليس في حاجة إلى شكر شاكر، فهو الغني المستحق لكافة أنواع الحمد.
ويفهم من هذا أن المنعم وحده هو الله تعالى، وهذا من كمال ربوبيته، وبهذا يستحق الشكر وحده، فهو المستغني عن كل خلقه، الواجب الحمد منهم على كل حال.(21/300)
وقد قال الإمام ابن كثير في معنى هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى آتى لقمان [58] الفهم، والعلم والتعبير، والفقه في الإسلام، ولم يكن نبيا ولم يوح إليه، وأمره بشكره على ما آتاه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، وأن الشكر يعود نفعه على الشاكرين، أما الله تعالى فليس بحاجة إلى العباد، ولا يتضرر ولو كفر أهل الأرض جميعا، فإنه الغني عما سواه، فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه [59] .
مما سبق يتبين أن اسم (الغني) جاء في أغلب الآيات بعد إقرار قضية توحيد الله عز وجل.
وقد ورد اسم (الغني) مقترنا باسم (الحليم) سبحانه مرة واحدة [60] :
في قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة آية 263) .
أقول: واقتران الغني بالحليم أفهم منه أنه سبحانه مع غناه المطلق الذي لا يحتاج به إلى أحد من خلقه؛ فإنه حليم عليهم حين يعصونه، والمعهود في عرف الناس أن الغني منهم - وغناه محدود - لا يحلم على عبده لو عصاه، لكن الله جل وعلا - وله المثل الأعلى - مع غناه المطلق حليم بعباده العاملين.
وقد سبق هذان الاسمان الكريمان ببيان أن المنفق إذا أتبع صدقته بالقول الطيب والغفران - لأنه ينفق ابتغاء وجه الله الذي لا توجه العبادة إلا له وحده سبحانه - فإن ذلك يكون خيرا له من اتباعه إنفاقه بما يؤذي من أعطاه، ولا يتأتى القول الطيب والمغفرة إلا من المنفق المؤمن الموحد الذي يؤمن بأن الذي أعطاه ما ينفق منه إنما هو ربه (الغني) الذي لا ينفد عطاؤه، ومن ثم خرج كلامه طيبا، من قلب طيب، عل لسان طيب. ورغم ذلك فإن صدر منه خطأ - وكل بني آدم خطاء – وجد أن الله (الغني) هو سبحانه (الحليم) الذي يتجاوز عن مثل خطئه لدوام رجوعه إلى ربه وتوبته.(21/301)
وقد ذكر الإمام ابن كثير في قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} - في هذه الآية - أن الله غني عن خلقه يحلم ويغفر ويصفح [61] .
وقد ورد اسم (الغني) مقترنا باسم (الكريم) سبحانه مرة واحدة [62] :
في قوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل آية 40) .
أقول: واقتران (الغني بالكريم) أفهم منه أنه سبحانه مع غناه المطلق عن خلقه، فهو الكريم كرما مطلقا لا يسلب عباده الذين يعصونه نعمه التي تفضل بها عليهم إلا بعد أن يذكروا ويوعظوا ويبين لهم، فإذا نسوا ما ذكروا به بعد توالي نعمه سلبهم ما أعطاهم بأخذه بغتة كما يقول تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (النعام آية 44) .
والمعهود في عرف الناس أن الغني منهم إذا عصاه عبده سلب منه ما أعطاه عاجلا؛ إذ يضيق صدره بعصيان عبده إياه، فيرى في لحظة عصيانه أنه لا يستحق خيره وعطاءه، فيسارع إلى استعادة ما أعطاه، لكن الله جل وعلا - وله المثل الأعلى - في غناه المطلق، واسع الكرم لا يسلب عباده العاصين بمجرد عصيانهم نعمه، بل يمهلهم - دون إهمال - بل قد يزيد في الإنعام عليهم، فإذا ما ظلوا في غيهم سادرين أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي هو غني عن العباد وعبادتهم، كريم في نفسه وإن لم يعبدوه، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [63] .(21/302)
وذكر الإمام الشوكاني أن الشكر لا ينفع إلا الشاكر، {وَمَنْ كَفَرَ} بترك الشكر {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره، {كَرِيمٌ} في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها [64] .
أقول: وبهذه المناسبة أود أن أذكر أن الله (الغني) سبحانه، يحتاج إليه كل خلقه صغر أم كبر، إنسيا أم جنيا، طيرا أم زاحفا، وحشا أم مستأنسا، فالكل فقير في أمس الحاجة إلى فضل ربهم (الغني) سبحانه وتعالى.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: (خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تستقينا، وإما أن تهلكنا؛ فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم) .
فهذه نملة هداها الله إلى أن تدعوه وتقول: ليس بنا غنى عن رزقك. فاستجاب الله تعالى لدعائها، وسقى قوم سليمان بدعاء النملة كما ذكر سليمان لهم: (ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم) .
أقول: فلو أن الإنسان - الذي كرمه الله تعالى وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا - علم أن خالقه سبحانه هو الغني الذي بيده وحده كل الخير، وواسع الفضل، وآمن بأنه لا يدعى ولا تطلب النعم إلا منه جل وعلا، لاطمأن قلبه من فزع الجوع وخوف الفقر، ولسلب أموره التي فوضها للعباد، وأدعيته التي وضعها بين أيديهم، ليضعها في يد خالقه الغني رب العالمين، الذي يقدر وحده أن يمده بما شاء من فضله، إذ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقد ورد اسم (الغني) مقترنا بما وصف به نفسه تعالى بقوله {ذُو الرَّحْمَةِ} مرة واحدة [65] في القرآن الكريم:
في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (الأنعام آية 133) .(21/303)
أقول: واقتران اسم (الغني) في هذه الآية بقوله تعالى: {ذُو الرَّحْمَةِ} أفهم منه أنه تعالى مع غناه المطلق الذي لا يحتاج به إلى واحد من خلقه، والذي به ينعم بما يشاء من النعم على خلقه، فهو تعالى رحيم بمن عصاه من خلقه، لا يعاجلهم بعقوبته فور عصيانهم، كما نرى المعهود بين الناس - ولله المثل الأعلى - فالغني منهم إذا عصاه عبده سرعان ما يوقع به عقوبته، محاولا أن يجعلها تناسب جرمه، لكن الله جل وعلا واسع الرحمة يمهل عباده العاصين لعلهم يرجعون إليه ويتوبون، وفي هذا يقول سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (النحل آية 61) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} إلى قوله {قَوْمٍ آخَرِينَ} أنه الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وهو مع ذلك رحيم بهم، فإن شاء أذهبهم إذا خالفوا أمره، ويستخلف من بعدهم ما يشاء من قوم آخرين يطيعونه، كما أذهب القرون الأولى وأتى بمن بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بغيرهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [66] .(21/304)
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: وربك الغني عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم، لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم؛ فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه مانعا من رحمته لهم. وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم، هي غاية التفضل والتطوّل، إذ لو شاء لاستأصل العصاة بالعذاب المفضي إلى الهلاك، ويستخلف من بعد إهلاكهم ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منهم؛ مثل ما استخلف غيرهم الذين أنشأهم من ذرية قوم آخرين أهلكهم - قيل: هم أهل سفينة نوح - ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفا بهم [67] .
وقد ورد اسم (الغني) سبحانه في القرآن الكريم دون أن يقترن بغيره من أسماء الله تعالى الحسنى خمس مرات [68] : على ما يلي:
1- في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران آية 97) .
أقول: وقد سبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية الكريمة ببيان وجوب أداء حج بيت الله الحرام لكل من يستطيع السبيل لبلوغه، وإبراز أن الحج إنما هو لله وحده، واعتبر المستطيع الذي يتقاعس عن أداء هذا الركن من أركان الإسلام كافرا، وكفره عليه، فلن يضر الله به شيئا، إذ إن الله غني عنه وعن عبادته وعن العالمين جميعا، وتجريد العبادة لله وحده هو من توحيده سبحانه.(21/305)
وقد قال الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} : إن من جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وروى سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله عز وجل: فأخصمهم فحجهم، يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [69] .
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه، وقيل المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وما شرع الله تعالى لعباده هذه الشرائع إلا لنفعهم ومصلحتهم، وهو - تعالى شأنه وتقدس سلطانه - غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع [70] .
2- وفي قوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت آية 6) .
أقول: وقد سبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية ببيان أن جهاد الإنسان - وهو عبادة عدت ذروة سنام الإسلام – لا ينفع سواه، وهكذا شأن كل أعماله، ولا ينفع الله شيئا، فهو سبحانه غني عن كل العالمين، ويتبين أن ذكر العبادة التي تجرد لله تعالى - وهذا من توحيده - سبق ذكرها اسمه (الغني) سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: أن من جاهد فإنما يعود جهاده على نفسه، فإن الله غني عن أفعال العباد، ولو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيء [71] .(21/306)
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية نفسها: أن من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه، أي ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء، فلا يحتاج إلى طاعة العالمين كما لا تضره معاصيهم [72] .
3- وفي قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر آية 7) .
أقول: إن اسمه الكريم (غني) ذكر معه بيان أن عدم توجيه العبادات لله تعالى لعدم الإيمان به لا يضر الله شيئا، بل ضرره على صاحبه لعدم توحيده، ورغم هذا فالله تعالى لا يرضى لعباده أن يكفروا، ولكنه يرضى لهم أن يشكروا.
ويتبين من هذا ومما سبق من الآيات أن الأسماء الحسنى تذكر غالبا مقترنة مع بيان توحيد الله عز وجل، مما يؤكد أهمية توحيد صاحب هذه الأسماء الكريمة.
وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى يخبر عن نفسه تبارك وتعالى أنه الغني عما سواه كما قال موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وكما جاء في صحيح مسلم: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئ ا"، ومع ذلك فالله لا يحب الكفر لعباده ولا يأمر به، ولكن يحب لهم أن يشكروا ويزيدهم من فضله [73] .
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إنه تعالى غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له، فإنه الغني المطلق، ومع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن فهو سبحانه لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} هل هي عامة أم خاصة؟(21/307)
فذهب فريق إلى أنها عامة لعباد الله جميعا؛ فالكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر؛ فقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضي الله لعبد ضلالة، ولا أمره بها، ولا دعا إليها، ولكن رضي لكم طاعته، وأمركم بها، ونهاكم عن معصيته.
وذهب فريق - منهم ابن عباس رضي الله عنهما، على ما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات في قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} - أنهم عباده المخلصون الذين قال عنهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ؛ فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أن المعنى: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر [74] .
4- وفي قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (يونس آية 68) .
أقول: إن من لديه أدنى ذرة من عقل يعلم يقينا أن الله سبحانه لا يمكن أن يتخذ ولدا، لأن اتخاذ الولد مظهر من مظاهر الحاجة، إذ إن المعهود في الإنسان أنه يتخذ الولد لحاجته إليه ليحمل اسمه ويبقى ذكره بعد موته، وليعينه في حياته إذا عجز أو كبر، وليمده بما يقتات به إذا افتقر، والله تعالى - وله المثل الأعلى - لا يتصور عاقل أن يتخذ له ولدا، لأن اتخاذ الولد دليل على حاجة متخذه إليه، والمحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله العلي الكبير أن يحتاج لغيره، فهو (الغني) عن خلقه جميعا، وآية ذلك أنه خالق السموات والأرض وما فيها وما بينهما، ومالك الخلق جميعا ومدبر أمره وحده سبحانه وتعالى.(21/308)
وتجريد الربوبية لله تعالى على هذه الصورة لينبني عليه توحيد الألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات أكمل تجريد لتوحيد الله عز وجل؛ ومن ثم نرى أن أسماء الله تعالى تذكر غالبا بإقرار قضية توحيد الله تبارك وتعالى لعظيم أهميته في صحة الأعمال.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة أن الله تعالى ينكر على من ادعى أن له ولدا، {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أي تنزه عن أن يكون له ولد، بل هو الغني عن كل ما سواه، إذ كيفي كون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك وعبد له؟ [75] .
وذكر الإمام الشوكاني في بيان الآية نفسها: أن هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدا، فرد ذلك عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} ؛ فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غني عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة، والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى لولد، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك، ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيها ولدا؛ للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة [76] .
5- وفي قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد آية 38) .(21/309)
أقول: وقد سُبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية الكريمة ببيان نوع من أنواع العبادة وهو الإنفاق، وأنه لا يكون مقبولا إلا إذا جرد لله تعالى وحده، وأن الذي لا يكون موحدا بالله ومؤمنا بأسمائه الحسنى وصفات كماله العليا - ومنها أنه الغني وغناه مطلق لأنها نهاية له - فيبخل بالإنفاق خالصا لوجهه تعالى، فإنما يقع ضرر ذلك عليه وحده، ولا يضر الله شيئا، لأنه سبحانه هو الغني وخلقه هو الفقراء إليه، وإن استمروا على عدم توحيدهم مدبرين فإن الله قادر على أن يذهبهم ويأت بأقوام غيرهم آخرين يعرفون الله تعالى ويخلصون له توحيده وأعمالهم.
وهذا يستفاد منه أن توحيد الله عز وجل في غاية الأهمية، وفاقده على خطر عظيم.
وقد قال الإمام ابن كثير في بيان الآية الكريمة: إن من يبخل أضاع على نفسه الأجر وعود الوبال عليه، والله الغني عما سواه، وفقير إليه ما عداه، ولذا قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} أي بالذات إليه فوصفه بالغنى، ووصف الخلق بالفقر لازم لهم لا ينفكون عنه، كما ذكر تعالى أنهم إن تولوا عن طاعته واتباع شرعه استبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره [77] .
وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إنكم أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير فمنكم من يبخل بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال، ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس بمنعها الأجر والثواب ببخله، فإن الله هو الغني المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالهم، وأنتم الفقراء إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وأنكم إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم أطوع لله منكم ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى [78] .(21/310)
أقول: وهذا يستفاد منه أن الإيمان بالله تعالى وحده وتجريد الأعمال جميعا له في غاية الأهمية، وفاقد ذلك على خطر عظيم.
نسألك اللهم أن تثبت قلوبنا على دينك، وأن ترسخ في قلوبنا عقيدة التوحيد، وأن ترزقنا العمل بما تقتضيه، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 218.
[2] فتح القدير الجزء الأول ص 271.
[3] المرجع السابق ص 273.
[4] شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 303.
[5] فتح القدير الجزء الرابع ص 83، 84.
[6] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 26.
[7] فتح القدير الجزء الثالث ص 387 – بتصرف.
[8] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 539.
[9] فتح القدير الجزء الرابع ص 499.
[10] فتح القدير الجزء الرابع ص 498.
[11] مرجع الزجاج ص 56 – وقال أبو إسحاق الزجاج في هامش هذه الصفحة: قال أبو حيان في البحر المحيط 2/277: قرأ الجمهور (القيوم) على وزن (فيعول) ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وعلقمة والنخعي والأعمش (القيام) ، وفي زاد المسير 1/302: وبه قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن أبي عبلة والأعمش.
[12] شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 305
[13] المرجع السابق ص 305.
[14] المرجع السابق ص 305- 307 بتصرف.
[15] المعجم المفهرس ص 580.
[16] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 218.
[17] فتح القدير الجزء الأول ص 271.
[18] المرجع السابق ص 273.
[19] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 26.
[20] المرجع السابق ص 218.
[21] شرح أسماء الله الحسنى ص 307.
[22] فتح القدير الجزء الأول ص 274.
[23] المرجع السابق ص 307.(21/311)
[24] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 217 – وفتح القدير الجزء الأول ص 273.
[25] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 217.
[26] فتح القدير الجزء الأول ص 274.
[27] صحيح البخاري.
[28] مرجع الزجاج ص 48- بتصرف.
[29] المعجم المفهرس.
[30] المرجع المذكور.
[31] المعجم المفهرس.
[32] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 97.
[33] أقول: أو غيرها من الطواغيت، سواء أكانت جبابرة أحياء، أو موتى، أو حيوانات، أو جمادات ينزل عندها الجاهلون الضالون، ويخشونها كخشية الله أو أشد خشية.
[34] فتح القدير الجزء الثالث ص 465.
[35] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 407.
[36] أخرجه الإمام البخاري.
[37] فتح القدير الجزء 4 ص 484.
[38] فتح القدير – الجزء الأول ص 461 بتصرف - وأقول في إيجاز: والخطوة الرابعة في علاج الزوجة إن لم تثمر الثالثة هي بعث حكم من أهله وحكم من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، والخطوة الخامسة الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويكون الطلاق رجعيا في طهر لم يمسها فيه، فإن طلقها بعد المرتين فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره.
[39] المعجم المفهرس.
[40] فتح القدير الجزء الرابع ص 544/ 545 بتصرف.
[41] مرجع الزجاج ص 61.
[42] المعجم المفهرس.
[43] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 205.
[44] فتح القدير الجزء الثالث ص 68.
[45] المعجم المفهرس.
[46] فتح القدير الجزء الخامس ص 423.
[47] فتح القدير الجزء الخامس ص 454.
[48] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 399
[49] المعجم المفهرس.
[50] فتح القدير الجزء الخامس ص 162.
[51] المعجم المفهرس.
[52] المعجم المفهرس.
[53] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 230- 231.(21/312)
[54] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 426.
[55] فتح القدير الجزء الثالث ص 96.
[56] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 98.
[57] فتح القدير الجزء الثالث ص 466.
[58] اختلف السلف في لقمان: هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين: فالأكثرون على الثاني، وعن ابن عباس أنه كان عبدا حبشيا نجارا، وعن جابر بن عبد الله قال: كان قصير أفطس الأنف من النوبة، وعن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، أعطاه الحكمة ومنعه النبوة. (تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 325) .
[59] المرجع السابق ص 326.
[60] المعجم المفهرس.
[61] تيسير الكريم الرحمن المجلد الأول ص 228.
[62] المعجم المفهرس.
[63] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 239.
[64] فتح القدير الجزء الرابع ص 139.
[65] المعجم المفهرس.
[66] تيسير العلي القدير المجلد لثاني ص 58- بتصرف قليل.
[67] فتح القدير الجزء الثاني ص 164- بتصرف قليل.
[68] المعجم المفهرس.
[69] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 295- 296.
[70] فتح القدير الجزء الأول ص 363- بتصرف قليل.
[71] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 284.
[72] فتح القدير الجزء الرابع ص 193.
[73] تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 497.
[74] فتح القدير الجزء الرابع ص 453- 454.
[75] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 309.
[76] فتح القدير لجزء الثاني ص 460.
[77] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 67.
[78] فتح القدير ص 42.(21/313)
وحدة المسلمين في مواجهة الأخطار سبيلها وغايتها
فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن الراوي
رئيس قسم التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه، وأدعوه بحق وجهه أن يبارك جمعنا، وأن يجمع على الخير والبر قلوبنا، وأشكر الذين أتاحوا لي هذا اللقاء الطيب الكريم، أرجو أن يكون في صالح أعمالنا جميعا يوم لقائه.
وبعد:
فلقد واجهت أمتنا منذ نشأتها - بل من أول نداء في بطحاء مكة – واجهت التحديات في صور متعددة من الصد والكيد.
لكنها - بحمد الله - قد شقت طريقها ومضت بخصائصها ومقوماتها منتصرة ظافرة بفضل ربها، وكان لفاعلية الحركة فيها أثر بالغ في كسر الطوق الذي يحيط بها؛ وهذه الفاعلية نشأت من فطرة هذا الدين الذي حول النفوس - بإذن الله - من حال إلى حال.
نحن نشرف على نهاية القرن الرابع عشر من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزيد عليه إذا عدنا إلى بداية الدعوة ونشأتها.
وهذا العمر المديد لأمتنا الإسلامية جدير أن يقدم لنا تجارب حية، ندرك منها جوانب الإيجاب والسلب في مسار هذه الأمة، فنأخذ بما حفظ أمرها وأعلى شأنها وأبقى عزها، ونطرح ما ساق لها الهوان والضعف، ويسر للطامعين أن يحققوا أحلامهم وأن يعيثوا في الأرض فسادا.(21/314)
إن للعز أسبابا، وللذل أسبابا، وسنن الله ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ولا تخضع لأماني الناس وأحلامهم، والله لم يدع لأحد حجة بعد الهدى والبيان؛ فما من سبب من أسباب العزة والفلاح إلا دعانا إليه ورغبنا فيه وأثابنا عليه وحقق لنا نتائجه وبين لنا أثره في أنفسنا وفي الأمم التي خلت من قبلنا، وما من سبب من أسباب الهوان وذهاب الريح إلا نهانا عنه وحذرنا منه وبين لنا سوء عاقبته في أنفسنا وفي الأمم من قبلنا. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
في الحياة الدنيا، نرى النافع المفيد يمكث في الأرض بخصائص ثابتة ويمتد مع الأجيال بلا تغير ولا انقطاع، وفي حياة أمتنا خصائص ثابتة تقوم مقام الماء في عالم الحياة، ولم يعرف التاريخ في ماض أو حاضر أن حياة قامت بغير الماء، ولم تتغير خصائص الماء في فطرته من زمن إلى زمن وإن تغير الزرع والثمر، وكل أرض هامدة قبلته اهتزت به وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
ولم يعرف التاريخ أن أمتنا انتصرت في أي معركة صغرت أو كبرت بغير الثابت من خصائصها؛ به واجهت التحديات التي فرضت علها، واجتازت العوائق التي وضعت في طريقها، وكانت هذه الخصائص دائما هي العاملة في استنهاض الهمم للأخذ بأسباب النصر في كل عصر وزمن.
الثابت في حياة أمتنا يقوم على عقيدة أصيلة راشدة، دافعة ومانعة ودافعة إلى الخير حاثة عليه، مانعة من الشر زاجرة عنه، يتفتح لها القلب فتحول بينه وبين المكابرة أو لإصرار على خطأ أو إثم صغر أو كبر.
وهذه العقيدة يوضح معالمها كتاب عزيز، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .(21/315)
ومن رحمة الله بأمتنا وبالإنسانية جميعا أن حفظ لها هذا الكتاب لتحيا به النفوس وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولتجد أمتنا دائما ما تزن به أمرها وتصحح خطأها وتعالج واقعها وتهدي به إلى التي هي أقوم وتهتدي إلى صراط مستقيم، وكم هزم المسلمون وانتصر هذا الكتاب، وكم نال العدو من ديارهم ولم يستطع مغالبة حرف منه.
ترى الغالب مغلوبا أمام سطوته، والمنتصر منهزما إزاء حجته، وقد بين الله فيه معالم كل شيء، ودعا إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليرى الناس في سلوكه القرآن العملي قولا وعملا وخلقا وتطبيقا.
لقد كان القرآن وما زال مبعث حياة الأمة، به اعتصمت فتوحدت وتمسكت فاهتدت، وعاشت تاريخها بين مد وجزر؛ يعلو شأنها حين تعتصم به ولا تتفرق، ويصيبها من الهوان ما يصيبها حين تشْغَل عنه أو تعتز بغير ما أعزها الله به، بهذا الكتاب تعرف قيم الناس وتوزن أعمالهم، وبه يرفع الله أقواما ويضع آخرين، وهو ثابت لا يتغير، محفوظ بحفظ الله لا يتبدل، وأمتنا الإسلامية بخير دائما إن هي أحسنت كيف تحيا بثابت في متغير.
الثابت يحفظ شخصيتها ويبقى عليها ممتدة مع الزمن كله، ويجعلها تصمد أمام المخاطر والمغريات ونحن نرى فطرة الثبات في خصائص الأشياء التي لا يستقيم أمر الحياة إلا بها من شمس وهواء، وقمر وماء، وليل ونهار وزروع وثمار.
وتلك آيات الله في خلقه تمضي ثابتة بخصائصها لتؤدي دورها بإذن ربها في اطراد وامتداد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وثبات القرآن متميز ذو خصائص تتجدد به حياة النفوس وتمتد، والذي جعله سببا لذلك هو الذي جعل من الماء كل شيء حي.
وكثيرا ما نجد الحديث عن القرآن يتجاور مع الحديث عن الماء في كناب الله عز وجل، وهذا التجاور يلفت نظر المتدبر إلى ما بينهما من مناسبة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك بقوله: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا..".(21/316)
ولذا فإن كلمة (مبارك) يوصف بها الماء ويوصف بها الكتاب {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ، وكلنا يدرك إلى أي حد تنتهي بركة الماء، وإلى أي مدى تمتد بركة هذا الكتاب المنزل على رسوله، وكيف يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه.
وإذا كانت الأرض الطيبة تقبل الماء فتنبت الكلأ والعشب الكثير؛ فإن النفوس الطيبة - بفضل ربها - تتقبل وحي الله وتؤمن بآياته، فتنبت العمل الطيب وتثمر الخلق الحسن، تحرك بإيمانها وتنبعث بيقينها ويؤازر بعضها بعضا تعبدا لله وطاعة لأمره؛ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} .
والقرآن الكريم يبصر الناس بمقتضيات الإيمان وسبل المؤازرة وغايتها؛ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
واضح أن ولاية المؤمنين لا تقوم إلا على صدق الإيمان بالله وتنفيذ أمره وإقامة شرعه، وبهذا يكون تأييد الله لهم ورحمته بهم.
وهم يعرضون أنفسهم لسخط الله عندما يتخذون الولاية من غير المؤمنين أو يتبعون غير سبيلهم؛ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .(21/317)
إن غير المؤمن لا يكون عاملا في نصر دين الله، ولا تكون ولايته إلا ضعفا وخذلانا وطريقا إلى الدرك الأسفل من النار، ومن وقع فيها لا ينجيه منها إلا توبة وإصلاح واعتصام بالله وإخلاص لدينه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا، إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} .
وأي شيء يرتجف له قلب المؤمن أشد من التعرض لبطش الله ونقمته وهو يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي: حجة عليكم في عقوبته إياكم، أو حجة بينة على أنكم منافقون؛ فإن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين من أوضح أدلة النفاق، وهو مفض إلى عذاب أليم؛ {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .
وإذا كان الله عز وجل قد نهانا عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإنه قد بصرنا بحقيقة الولاية التي يجب أن تقوم بين المؤمنين.(21/318)
فهي ليست ولاية ضعف أو تواكل، ليست ولاية ركون أو قعود، إنها ولاية عاملة تأخذ بالأسباب ولا تركن إلى الأماني، ولاية تماسك وتعاطف وتراحم وتفاعل في السراء والضراء كتفاعل الجسد الحي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء تداعيا يأخذ بالأسباب حتى يعود العضو المصاب معافى كما كان؛ لأن التفريط في الأخذ بالأسباب التي أمر الله بها معصية يعاقب الله عليها، وكل قعود متعمد عن متطلبات الإيمان يورث صاحبه ذلا ونفاقا ويودي به إلى الدمار والهلاك.
إن الإيمان حركة حياة لا تعرف اليأس ولا القعود، حركة مؤملة مبصرة واعية تثبت أمام عوارض الحياة وتقلبات الأيام، وهي تعتمد على الله وتركن إليه وتؤمن أن العمل هنا والجزاء هناك؛ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} .
ذاك هو الأصل الثابت الذي لا يقوم لنا بنيان إلا عليه، ولا تتحقق ألفة إلا به؛ ذاك هو الأصل الذي واجهت به أمتنا جميع التحديات، تحمله النفوس فتعز، وتعتز بغيره فتذل.
أدرك الأعداء أمره فاستهدفوا حصنه، ووجهوا خططهم على سلب النفوس قبل سلب الأرض، وتحطيم القيم والأخلاق قبل تحطيم السلاح والعتاد، وإغراء الأخ بأخيه أن يقتله قبل أن يقتلهما معا؛ ورحم الله آباء لنا عرفوا حقيقة الإيمان فكانوا يبحثون عن سرّ الهزيمة الطارئة في نفوسهم قبل أن يتأملوها في سلاح عدوّهم، ورحم الله عمر بن الخطاب إذ يقول: (إن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وما لم ننتصر عليهم بفضل الله لن نغلبهم بقوتنا) .
منذ زمن بعيد استهدف أعداؤنا الحصن الحصين في نفوسنا، وعن طريق التعليم وتناقض وسائله ومناهجه تم لهم ما أرادوا واستطاعوا أن يوجدوا التباين بين أبناء الأمة الواحدة.(21/319)
ولابد للجيل الذي يريد أن يفوز وأن ينتصر على هذه الغارة من أعداء الإسلام جميعا أن يحقق أمرين يزيل بهما التباين والتناقض بين أبناء أمته؛ أن يدرك الإسلامَ على فطرته من كتاب الله وسنة رسوله، وأن يكون عالما بطبيعة العصر الذي يعيش فيه وما يسيطر عليه من دوافع وما يتحكم في سلوك أهله من مذاهب، والتقاءُ أبناء الجيل الواحد على فهم مشترك وغاية واحدة يفوِّت على الأعداء مخططهم في إيجاد التباين وتحقيق الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة بإيجاد ناس يؤمنون بحضارة المادة وحدها وآخرين يحفظون أوامر الدين حفظا، ثم يعزلون بما حفظوا عن الحياة عزلا.
إن كل جيل مطالب أن يأخذ نفسه بالإسلام في عصره ولا يسأل عن أمة خلت؛ ولا يغني أحد الأمرين عن الآخر: فهم الدين على فطرته وإدراك طبيعة العصر؛ ليكون العمل قائما على أسس متينة وإدراك لما يجب أن يكون.
لأن فهم الدين مع الجهل بطبيعة العصر وأحواله وإعداد القوة الملائمة له يجعل العلاج في غير موضعه، وقد يسيء الإنسان من حيث أراد الإحسان وكذلك إدراك طبيعة العصر مع الجهل بفطرة الإسلام أو التنكر له سيؤدي حتما إلى مجافاة الدين وبغض أهله وعدم التسليم بحكمه.
وقد اعتنق العدو فكرة التباين هذه، وسرت في ديار الإسلام حتى رأينا في كثير من الديار الإسلامية موجات مؤيدة مدعومة تعمل على إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة ورميه بكل نقيصة أو تأويله بما يناسب الأهواء ويساير الأطماع.
ولم يوقظ الناس لهذا الخطر إلا ما وقع من مآس ونكبات على يد أصحاب الشعارات التي رميت بها الديار الإسلامية؛ فحققت للأعداء أكثر مما يطمعون وأشاعت من الفرقة والتنازع ما جعل الأعداء يطمعون في كل شيء ولا يبالون من أمر المسلمين بشيء.(21/320)
وفتحت الباب على مصراعيه للكتل الدولية للتنازع على خيرات الأمة الإسلامية كل يدخل تحت شعار من الشعارات التي اعتنقها فريق من أبناء المسلمين، وهكذا غدت هذه المنطقة الحساسة من قلب الأمة الإسلامية مسرحا لقوى الشرق والغرب، وبركانا يوشك أن يدمر كل شيء.
ولقد اتضح للناس بعد تجارب عديدة أن أي نظام لأمتنا الإسلامية يقوم على غير أسس القرآن ومقاصده ستعصف به أساليب العصر، وسيكون مرتعا للشهوات وأهلا للخيانات وسلعة رخيصة في يد العابثين.
إن الإنسان الذي يثبت في الشدائد لابد أن يبنى من داخله بالعقيدة التي تحقق مراقبة الله وخشيته؛ {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ، ويرتبط السلوك دائما بالعقيدة فلا تجد وسائل الأعداء منفذا إلى النفوس الغالية المتحصنة بإيمانها، وإنما تنفذ وسائل الأعداء إلى النفوس الرخيصة التي دمرت من داخلها؛ إن جميع القيم والفضائل ترتبط كل الارتباط بالعقيدة وتقوم على هذا الأصل الثابت.
وحيث تهبط القيم وتسيطر الأهواء والشهوات يجد العدو مجالا خصبا لتحقيق مآربه بشراء العملاء والخونة الذين يبيعون أمتهم بلذة عاجلة أو منفعة زائلة، وحيث يقوى الجانب الأخلاقي المستمد من الإيمان بالله يجد العدو نفسه في مواجهة بنيان قوي وصف تطيش أمامه سهامه وتتبدد أحلامه.
وهذا حكم الله فينا وسنته التي جرت وتجري في جميع أمورنا؛ ما انتصرنا في معركة قط حتى ننصره في أنفسنا بتغليب أمره على هوانا.
إن الاستمساك بالأصل الثابت يتوقف عليه مصير أمتنا وبقاؤها وأن لا شيء على الإطلاق يمكن أن نحتمي به أو نركن إليه إذا نحن بَعُدنا عن هذا الأصل أو تنكرنا له.(21/321)
لقد جربنا كل شيء، جربنا التعامل مع الشرق والغرب، جربنا الكَمّ من السلاح، جربنا جميع الشعارات السرابية الخادعة، وانتهت بنا التجارب إلى الحقيقة الثابتة الراشدة أننا بالإسلام ولن نكون بغيره؛ إذ عندما أرادت الشعارات أن تكون بغيره لم نصل في روابطنا إلى مستوى الحيوانات الدنيا.
إن الحيوانات قد تتقاتل بعضها مع بعض ويشاحن بعضها بعضا، لكنها عندما تشعر بخطر خارجي يتساند بعضها مع بعض لرد العدو ودرء الخطر، وعندما بعدنا عن ديننا وتنكرنا له في روابطنا لم نصل في كثير من المواقف إلى مستوى الحيوانات التي لا ترى متناطحة والعدو يقصد حماها أو متنازعة والخطر محدق بحظائرها.
إننا حين مضينا إلى الأعداء دون أن نستند إلى الأصل الثابت - وهو الإسلام - بدت مواقفنا أمام أنفسنا وأمام العالم كله متناقضة تثير الهزء وتدعو إلى السخرية؛ ذلك أننا فقدنا وحدة الكلمة ووحدة الاتجاه، ولو استندنا إلى الأصل الثابت وأخضعنا أهواءنا له لاتّزنت خطانا ولم نقع في متناقضات بين أقوالنا وأفعالنا.
إن انتصار أعدائنا في غاراتهم المعاصرة كان انتصارا في فراغ، أعني أن الجو قد خلا لهم وأن النفوس قد تغيرت بفعل الشعارات واضطربت الموازين؛ فغدا المستحيل جائزا وأصبح الحرام حلالا.
وقد تعلمنا من وقائع ديننا أن الأمم يقذف في قلوب أبنائها الوهن عندما تصل إلى درجة الغثاء، ولا يكون ذلك إلا عندما تفشو الفرقة ويقع التنازع فيأتي الفشل ويذهب الريح.
إن شيئا واحدا قد عمل على تكوين الشخصية الإسلامية والمحافظة عليها على مر التاريخ، وهو الإسلام، وفي عصرنا هذا قد تكالب الأعداء علينا بعد أن استطاعوا بوسائل متعددة إضعاف الروح الإسلامية وإغراء المسلمين بسفك دماء بعضهم بعضا، والعمل دؤوب على تدمير الروابط الإسلامية بشتى الوسائل ليظل أعداء الإسلام هم أصحاب الكلمة في ديار الإسلام.(21/322)
نحن في عصر لا يسمع فيه للضعيف كلمة ولا للمنهزم حجة، وإنما الكلمة للقوي والاحترام للمنتصر، ولا يرضى لنا ديننا أن نكون ضعفاء ولن نكون ضعفاء ونحن نعتصم بالقرآن ونتحرك بدوافعه؛ نرد حياتنا إليه ونقيم روابطنا عليه؛ نصحح به واقعنا وننير حاضرنا ومستقبلنا، وأول أسباب القوة وحدة أمتنا الإسلامية على سواء.
ولن تكون هذه الكلمة من صنع بشر، لن تكون شعارا مستوردا من شرق أو غرب، وإنما هي الكلمة التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه؛ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
تلك هي الكلمة التي يتم بها الاستخلاف والتمكين في الأرض ويتحقق الأمن بعد الخوف؛ {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} .
ولا أعرف موقفا واحدا واجهنا فيه أعداءنا وظفرنا بتأييد ونصر من الله بغير صدق الولاء لهذه الكلمة؛ بها واجهنا جميع التحديات التي فرضت علينا، ولم نستطع بغير نصرتها أن نصنع شيئا، بل ذقنا مرارة الذل ومهانة الفرقة وغدت ديارنا مرتعا للذئاب وتداعي الأمم عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها، ونحن كثير كثرة الغثاء ونحن أمة واحدة ولكن فرقتها الأهواء.
فما هو السبيل لرد هذه الأمة إلى ما كانت عليه عزيزة متحابة متعاطفة متراحمة؟ ما هو السبيل لوحدتها لكي تدرأ الخطر عن نفسها وترد كيد عدوها؟
نحن نؤمن إيمانا جازما أننا بغير لإسلام الذي تجتمع عليه القلوب لن نصنع شيئا؟ ولكن ما هو السبيل لرضى النفوس به وتنشئة الناشئة عليه وقيامه في حياتنا الخاصة والعامة مقام الروح في الجسد؟ ما هو السبيل لعودة المسلمين جميعا إليه وأخذ أنفسهم به وإخضاع أهوائهم له ومواجهة خصومهم بنصرته والدعوة إليه؟(21/323)
أرى - على ضوء التجارب - أنه مهما طال الزمن فإننا لن نستطيع أن نحقق نصرا إلا بإعداد الإنسان الإعداد الصحيح الذي يكون أهلا لنصر الله وتأييده، وهذا يقتضي أن ننظر نظرة شاملة في وسائلنا لإعداد المسلم في جميع الديار الإسلامية حتى لا يقع التباين والتناقض بين المسلمين في وسائلهم وغاياتهم.
وقد أشرت من قبل أن العدو في غارته الأخيرة قد استهدف النفوس قبل الاستيلاء على الأرض، ومهد لذلك بأساليب متعددة وحقق انتصارا رهيبا في هذا الجانب ولم يستطع أن يستولي على شبر أرض من أرض المسلمين قبل الاستيلاء على بعض النفوس وجعلها تؤمن بما تؤمن به وتحقق له أكثر مما يطمع فيه.
ولذا فإن أمر التربية والإعداد هو الأصل في قوتنا ورد الغارة عن أمتنا.
أنا أعرف أن هذا الأمر قد يصعب تقبله على الشباب المسلم الذي يتطلع إلى مجد أمته وعزتها، ويتعجل ذلك ويطلبه بين عشية وضحاها.
وهم معذورون لقوة دوافعهم وشدة عواطفهم ولكن الله لا يعجل بعجلة أحد، إننا نخطئ كثيرا إذا ظننا أننا نستطيع رد الغارة بغير تحقيق الأسباب التي أمر الله بها، ومن أولها إعداد الإنسان الصحيح في فهم دينه وإدراك عصره وإخضاع هواه لمرضاة ربه، الإنسان الذي يحيا بتصور كلي لما يجب أن يكون حتى لا يكون عمله للإسلام فرقة بين المسلمين؛ فيسيء من حيث أراد الإحسان، ولن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وذاك أول أمرنا، وتلك مهمة المبعوث فينا المرسل رحمة للعالمين، بل تلك منة الله على المؤمنين؛ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .(21/324)
تزكية وتعليم؛ تلك مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل منة الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، هذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصر في بعض المواطن بعثته عليه؛ "إنما بعثت معلما".
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} : عن هذا الطريق يوجد الإنسان الصحيح، ويوجد التصور الكلي، بل يوجد الإعداد الشامل لتحقيق الغاية العليا (إعلاء كلمة الله) التي لا تعز نفوسنا إلا بها، ولا نقاتل إلا من أجلها ولا نحقق أمنا وسلاما لأنفسنا وللعالم من حولنا إلا بمقوماتها، ولا تتحقق الولاية بين المؤمنين إلا بحسن الاتجاه إليها.
عن هذا الطريق نأخذ بجميع الأسباب المحققة للغاية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ودعونا نصارح أنفسنا لنرى ما هو السبيل لتعليم الكتاب وتدبره؟ أنتدبره بأسلوب الاغويين؟ أو نتأمله بأسلوب الحكماء والفلاسفة؟ أو بمنطق الفقهاء؟ أو بأسلوب الفرق والمذاهب؟ وكل ذلك واقع وتحشى به الكتب حشوا.
أراني رضي النفس خاشع القلب عندما أقول نتأمله في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه وحياته وجهاده وسلوك صحابته الأطهار من بعده.
ولست بهذا أحول عن الدراسات المنهجية لشتى المذاهب والأفكار، ولكنني أتأمل واقع أمتنا الإسلامية فالتمس سبيلا لعزها ومجدها، ولا عز لها إلا أن ترى كيف كان القرآن الكريم خلقا لنبيها صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يرضى برضاه ويسخط بسخطه، هكذا تعلمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا القرآن والعلم والعمل جميعا، وبهذا يأتي القرآن شفيعا لأهله ويأتي أهله مكرمين معه كما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران؛ تحاجان عن صاحبهما".(21/325)
والله الذي أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط قد أنزل الأسباب التي تحقق نصره، وجعل الأخذ بالأسباب مع صدق النية عملا من أعمال الدين يكافئ الله عليها بالنصر والتأييد، وهنا نجد أنفسنا بدافع من الكتاب نفسه مطالبين بجميع المعارف التي لابد منها في إعداد القوة الملائمة لعصرنا، وهذا يقتضي غيرة ومثابرة ودراسة ومتابعة بحيث يتآخى العالم الإسلامي كله في مواجهة الظروف التي تحيط به، وتتآخى اللبنات المتخصصة في فروع العلوم المختلفة بدافع تعبدي ينصر فيه دين الله وتعلو كلمته، وذاك موضوع امتحاننا واختبارنا في هذه الحياة؛ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
{وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} : عن هذا الطريق يوجد الإنسان الصحيح، وبه نعمل على حل المتناقضات، ونعالج في رحمة وبر وصراحة وحكمة قضايا أمتنا الإسلامية، ولا نترك للمتربصين ثغرات ينفذون منها فنعين العدو - بقصد أو بغير قصد - على تحقيق أهدافه وتنفيذ أغراضه وتدمير الأمة الإسلامية وضرب بعضها ببعض.
وهذا يستلزم أن يتجرد المؤمنون لأمر الدين، وأن يمنحوه صدق القلوب ووفاء النفوس، وأن يكون أغلى شيء لديهم، وأن يطوعوا له وقتهم وأنفسهم وأموالهم، وأن تنشرح بذلك صدورهم؛ ولهم بذلك عز الدنيا وسعادة الآخرة.
إننا - نحن العاملين في مجال الدراسات الإسلامية - مسئولون عن أي انحراف في مجال الفكر والتصور، وعلى عاتق المربين تقع المسئولية الأولى.(21/326)
وإذا ظلت مؤسساتنا العلمية - على شتى صورها في الديار الإسلامية - تتأمل التعليم على أنه شهادات تعطى لإتمام مرحلة معينة؛ فإنها تكون قد أخطأت وبعدت عما يجب أن يكون.
إن إعداد النفوس أمر يتطلب حراسة الإيمان وملاحظة آثاره ونتائجه، ومع ما هو سار في عصرنا من رغبة في الدنيا وتسخير كل شيء لها نرى دراستنا كذلك في كثير من الديار الإسلامية تقف عند الوسائل ولا تصل إلى الغايات، وتنشد بهذه الوسائل دنيا مرغوبة؛ فغدت العلوم سلعا ينتهي عملها عند تحقيق ربح أو طلب جاه، وهبطت بنا ولم تصعد، وهذا مناف لما يجب أن يكون من جعل العلوم كلها ربانية تنشد وجه الله وتبتغي رضاه.
وعند اتجاه العزائم إلى الغاية الصادقة تكون العلوم على شتى صورها - كما كانت - منارات على الطريق، وعامل قوة في بناء الأمة ووحدتها.
وهذا يدعونا - نحن المسلمين - أن نربط جميع معارفنا بالقرآن الكريم، وأن نتوجه بها لخدمة أغراضه وتحقيق هدايته.
ومهما كانت مرارة الواقع فإن الأخذ بالأسباب التي أمر الله بها - طال الزمن أو قصر - هو الطريق الوحيد للوصول إلى الأمل المنشود.
وأول عملنا في هذا السبيل أن نعلن المفاهيم الكلية للإسلام وأن نبينها للناس، وأن يتحرك الدعاة في إخلاص وحكمة وصدق ليعالجوا على بصيرة قضايا أمتهم، وأن يصدعوا بما أمروا به من تبليغ هذه الدعوة كما جاءت من عند الله في كتابه وسنة نبيه؛ لتتسلح الأمة بثقافة القرآن وتقف عند معالم ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال.
إن الإسلام دين شامل يعنى بالشؤون الخاصة كما يعنى بالشؤون العامة، ودعوته دعوة عالمية، ورسوله قد بعث للناس كافة رحمة للعالمين وأمته أمة واحدة، هذه المفاهيم الكلية وغيرها من مقومات الإيمان يجب أن تعلم للخاصة والعامة والكبير والصغير والرجل والمرأة، وأن ينشَّأ عليها الناشئة من أبناء المسلمين.(21/327)
فإن الغارة على الأمة الإسلامية ما بين فترة وأخرى تقيم حربا ضارية على هذه المفاهيم؛ تدميرا لروابط هذه الأمة وإبعادا للإسلام عن الساحة، وكلما أريد قضاء أمر لا يرضاه الإسلام ولا يقره ظهرت الموجة التقليدية (لا دخل للدين في السياسة) ، وكأننا بهذا نشرع لأنفسنا وبأهوائنا ما لم يأذن به الله، إن الشرع ما شرع الله لا ما أحبت النفس أو رغبت؛ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} .
نحن نستطيع بوعي أن نفرق بين أمرين:
أمر لا عذر لنا فيه: وهذا أن نرد أنفسنا وأمتنا الإسلامية إلى كتاب ربنا الذي يجب أن نحققه وسنة نبينا، وهو الجانب الأعظم الذي يجب أن نحققه في مواجهة الأخطار المحدقة بنا وطلب النصر من الله، ولا عذر لنا في ذلك؛ فنحن لا نستورد معالم ديننا من مخازن الأسلحة في شرق أو غرب حتى يضنَّ علينا به، وإنما نحن الذين نردده بلسان عربي مبين ونسمع آيات الله للعالمين.
وإذا لم توقظنا هذه الكوارث والتجارب المريرة فماذا ننتظر من عبر وعظات.
قلت: نستطيع أن نفرق بين أمرين:
1- أمر يرتبط بأخذ أنفسنا بهذا الدين، ولا عذر لنا فيه.
2- وأمر يرتبط بإعداد القوة المناسبة لعصرنا ووضعنا، وهذا الجانب يتوقف على الجد في حياتنا والاستقامة في سلوكنا حتى نهيئ مناخا صالحا للتفوق فيما تخلفنا فيه.
نحن لا نتعجل الثمرة أو نطلبها في غير موعدها، ولكنا نود - على مستوى العالم الإسلامي - أن نهيئ مناخا مناسبا، وأن نبدأ بدايات صالحة نحافظ فيها على الإنسان وعلى الإمكانات المتاحة لنا.
إن التكنولوجيا الحديثة - كما يسمونها - لم تعد وقفا على أمة دون أمة، ولكن الأمر يختلف من أمة إلى أخرى بما توفر هذه أو تلك من أسباب الجد والمحافظة على مقومات الإنسان.(21/328)
وعليه فإن البدايات الصحيحة لا تتوفر إلا بصدق الولاء لدين الله؛ تربية النشء عليه وتهيئة الجو الصالح لإعداد النفوس إعدادا يؤهلها لنصر الله.
إن البدايات الصحيحة تستلزم أن يقوم الود والتراحم والتعاطف بين المسلمين، وهذا أيضا لا يحققه إلا تغليب أمر الله على هوى النفوس، فالمسلمون بسمة الإيمان لا بشيء آخر يكونون كالجسد الواحد، يستجيب بعضهم لبعض ويغيث بعضهم بعضا بدواعي الإيمان لا بشيء آخر، "مثل المؤمنين في توادهم ... " فالمثل للمؤمنين فلا ترابط ولا ألفة إلا بصدق الإيمان، ولا تداعى إلا بتماسك الجسد وسريان روح الإسلام فيه.
إن الإمكانات المتاحة للأمة الإسلامية تحقق لها التكامل والاستغناء عن الغير، لكن ما ننشده لا يتحقق إلا بالأصل الثابت من حسن الإيمان بالله وصدق الإخلاص له؛ عندئذ يقوم الأمن وتنبعث الطمأنينة، ويذهب الخوف من جموح الشعارات، ويأمن الإنسان على دمه وعرضه وماله، ويوجد من الإيثار بين الأخ وأخيه ما يجعل الواحد منهم يؤثر حاجة أخيه على حاجة نفسه ويفتديه بما هو من ضرورات حياته.
ورحم الله زمانا رأينا فيه قطرات الماء في إناء؛ تمرّ على الظامئ الشهيد وهو في أمسّ الحاجة إليها فلا يرضاها لنفسه قبل أخيه، ويجود بروحه وهو يؤثر أخاه على نفسه، ويلقى الثلاثة ربهم بأخوة الإيمان التي لا تعرف الأثرة ولا ترى الحياة إلا بنعمة الأخوة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .(21/329)
إن معظم ديارنا الإسلامية تستورد حاجاتها اليومية من بلاد العالم في شرق أو غرب، ولم يستطع العالم الإسلامي بسبب الفرقة والتوجس من تقلبات الشعارات أن يحقق التكامل الاقتصادي وأن ينتفع بمليارات الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة التي يتوفر حولها الماء، بل لم يستطع بسبب الفرقة والتنازع أن يستفيد من الطاقات البشرية المتخصصة التي تهاجر إلى بلاد الغرب لتشيد هناك وتبني بكفاءة شهد لها العدو قبل الصديق، والعالم كله يعجب لماذا تظهر الكفاءة هناك وتهدر في ديار الإسلام.
لا زالت البلاد الإسلامية بكرا بثرواتها، ولا زالت الثروات في شتى المجالات معطلة عن أداء واجبها، ويخشى أن تتحول الثروات في الديار الإسلامية - ما لم يلتق المسلمون على كلمة سواء، ويولي بعضهم بعضا كما أمر الله - يخشى أن تتحول الثروات إلى نقمة على المسلمين يتنافس الشرق والغرب على استغلالها، ويشقى بها أبناء المسلمين. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} .
لقد حالت الفرقة التي أوجدتها المذاهب والشعارات دون تحقيق تكامل على أي صورة من الصور، ولا زال الإصرار على المذاهب المنافية للإسلام يملأ النفوس بالريبة والخوف والترقب مما يجعل الأخ لا يثق في أخيه وإن بدا الأمر على خلاف ذلك.
إن أخوة الإيمان وحدها هي التي تحقق التعاون في كل شيء، وبغيرها يقع التنازع والتخاصم ويعم الفشل وذهاب الريح.
لقد أدركت الأمم بدافع من التجارب ما يؤديه الترابط والتعاون بينها من قوة، فرأينا أوربا وقد طحنتها الفرقة زمنا تبحث لنفسها عن وحدة مشتركة يجتمع عليها أمرها ويصان أمنها، فهيأت من الأسباب ما جعلها كالبلد الواحد في مواجهة ما يهددها من أخطار، ولكن يبدو أن أوربا قد صدرت لنا المذاهب التي طحنت بها لتسود مع غيرها بفرقتنا وتنعم بتفريق كلمتنا.(21/330)
ونحن - المسلمين - بدافع من ديننا أولى الناس بتحقيق التعاون فيما بيننا في جميع الأحوال، وفي وقت تتكالب علينا في الأمم الطامعة، وتحاول أن تبتلعنا واحدا بعد الآخر، ولن يتحقق التعاون إلا بثقة نابعة من الإيمان وطمأنينة بين الأخ وأخيه يحكمها شرع الله وتوجهها آياته.
إن أسس الوحدة في أمتنا الإسلامية ثابتة راسخة لا تغيرها العوامل المصطنعة؛ لأنها تستند إلى كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والتفاعل بالثابت يحقق انتصارا وتفوقا في جميع المجالات، والتخلي عن الثابت يفقد الشخصية الإسلامية خصائصها ويجعلها سوقا لمذاهب الأمم وعاداتها، قبل أن تكون سوقا لسلعها ومنتجاتها.
إن السبيل لرد الكيد هو اعتصام المسلمين بكتاب الله، ولقاؤهم على أخوة الإيمان.
وهذا الجيل إن فرط أو ارتد فسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، والناس ذاهبون ودين الله باق، والشمس إن بارحت رؤوس قوم أنارت عند آخرين، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} .
ولعل هذا الواقع المرير يؤدي إلى يقظة لا غفلة بعدها، وكم لله من منة في طي المكاره؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
وبعد مرة أخرى؛ فإن الإسلام لم يقل بعد كلمته العملية في الأحداث الجارية في أرضنا المسلمة، وستكون كلمته - بعون الله - منهية للتعاسة والضياع.
ستكون مدوية تهرع منها الفرقة ويذهب التنازع والفشل، وتختفي كل الشعارات التي أوجدت أنماطا من العداء المحزن والتعاون المضحك بين المسلمين.(21/331)
كلمة الإسلام أخوة صادقة تستمد أصالتها من الإيمان بالله ووحدة متماسكة، تستمد حياتها من عبادة الله الواحد الأحد وعدم الإشراك به وتعاون أصيل مبصر واع يعرف ما تزخر به أمتنا من نعم تفوق الحصر؛ ثروات طبيعية مكنوزة، مدد بشرى هائل، مركز استراتيجي حساس، وقبل هذا كله عقيدة إسلامية موحدة، تحرك النفوس للعمل في إطار شريعة ربانية معمرة.
كلمة الإسلام تبرز إلى عالمنا المعاصر أمة الإسلام كقوة عالمية يستقيم بها الميزان المضطرب؛ تجمع الشمل وتحقق التعاون وتصلح ذات البين.
كلمة الإسلام تبطل الباطل وتنصر الحق حيث كان.
ومهما طالت الأيام أو قصرت فإن هذه الكلمة بمدلولها العملي ستقال؛ لأن إدراك ما تعنيه قد سرى في وجدان هذه الأمة وفي النبت الصاعد منها، وغدا فكرا أصيلا تحمله الكلمة وتتحرك به النفوس، والأفكار لا تحبس والعقائد لا تؤسر، ومداولة الأيام تأبى أن يبقى الناس على حال واحد، وصراع الحياة يدور أمره بين عسر ويسر وشدة ورخاء، ولا نجاة إلا بالصدق مع الله وعدم الإصرار على مخالفة أمره.
وكل ما نذكره من أسباب الوحدة يرجع إلى إعداد المسلم الصادق مع الله في خطئه وصوابه، وهذه الوحدة ليست باغية ولا متسلطة، وإنما عاملة في إسعاد البشرية كلها بإعلاء كلمة الله وتلك غايتها، وبها ترفع الرؤوس المنكسة أمام أصنام الهوى، وتعز النفوس الموزعة الضائعة التي سلبت حقوقها وديست كرامتها، وينصف الثكالى والمتشردون من تجار الدماء والخراب، ويعاد للناس أمنهم المفقود وسلامهم المضيَّع، بها ينصف المظلوم ويؤخذ على يد الظالم، ويوقف حق (الفيتو) حق مصادرة العدل وإقرار الظلم، ومن أجلها تتحرك أمة الجهاد لتغيث المظلوم وتجيره بنجدة صادقة؛ تؤدب الظالم في عقر داره وهي لا ترى لنفسها حظا إلا فيما عند الله ولا تعلقا إلا في مرضاته.(21/332)
والتفريط في وحدة هذه الأمة وترابطها ونصرة بعضها بعضا سيؤدي حتما إلا فتنة في الأرض وفساد كبير، والمسؤولية في ذلك تقع على المسلمين والخسارة عليهم وعلى غيرهم؛ إذ ليس لدى الشرق أو الغرب ما يقدمه للإنصاف والعدل والمذاهب البشرية كلها عاجزة عن ذلك.
والأخوة الإسلامية هي الأساس الذي يقوم عليه بنيان الإسلام في الواقع، بها قام من قبل وبها يقوم من بعد، وهي وحدها موطن المنة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
آية أجملت جميع الوسائل، وجعلت من شكر نعمة تحقيق نعمة؛ فكانت المعادلة: قرآن تجتمع به القلوب ولا تتفرق يؤدي بفضل الله إلى نعمة الأخوة والإنقاذ من الهلاك، وهي نعمة لا تأتي إلا من الله، وما عند الله لا يطلب إلا بطاعته، والتفرق والاختلاف بعد مجيء الآيات يفضي إلى العذاب.
ويوم القيامة تبيض وجوه وتسود وجوه، هؤلاء تفرقوا بعد وحدتهم وكفروا بعد إيمانهم، وأولئك تراحموا بنعمة الله فرحمهم الله؛ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .(21/333)
وبين الآيات الداعية إلى الاعتصام بحبل الله والناهية عن التفرق والاختلاف تأتي الآية الآمرة بالدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك رسالة هذه الأمة، وهذا طريق فلاحها؛ {َلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وشكر الله لكم والسلام.(21/334)
التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده
فضيلة الدكتور عباس محجوب
أستاذ مساعد بكلية الدعوة بالجامعة
من البديهيات أن نقول: إن التربية قد ارتبطت بظهور الإنسان على الأرض، وإحساسه بنفسه، وتعامله في نطاق الأسرة ثم الجماعة.
ويحدثنا مؤرخو التربية أن الصغار كانوا يتعلمون من الكبار في المجتمعات الأولى عن طريق التقليد والمحاكاة، أو عن طريق المشاركة فيما يقوم به الكبار سعيا وراء ضروريات الحياة، بطريق عفوية يهيئ الأطفال عن طريقها لاكتساب المهارات العملية في الحياة.(21/335)
والقرآن الكريم يحدثنا أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد البشر تربويا بتعليمهم منذ أن خلق سيدنا آدم وأودع فيهم القوى والطاقات التي تمكنهم من استعمار الأرض وإظهار ما أودع الله فيها من كنوز وخيرات؛ فكان الإنسان هو الخليفة الذي سلم أمر الأرض إليه، وأعطي من العلم ما ييسر له استعمال خاصية اللغات برموزها وإشاراتها إلى الأشياء والأشخاص وإعطائها المسميات التي تميزها، وهذه القدرة التي أودعها الله في الإنسان هي سر من أسرار تكريمه للإنسان على كثير ممن خلق، وترفعه إلى المعرفة والعلم فوق درجات الملائكة هي درجة مسؤوليات الخلافة في الأرض؛ يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا(21/336)
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [1] .
ففي هذه الآيات نلمح بوادر التربية الإلهية للإنسان ممثلا في سيدنا آدم الذي كرمه الله، وعلمه مسميات الأشياء، ووكل إليه تحمل مسؤولية المواجهة للغواية ووسوسة الشيطان والمحافظة على عهد الله، ثم ما أعقبت المعصية من تنبه ويقظة وندامة وحسرة، وما ترتب على هذه التجربة من طلبٍ للمغفرة وتوبة إلى الله؛ كل ذلك ليستفيد الإنسان منها على الأرض مكان الخلافة التي خلق لها وأنزل إليها مزودا بتجارب متهيئة لمواجهة أعدائه في الأرض: النفس والشيطان.(21/337)
فالتجربة التربوية الأولى كانت من عند الله سبحانه، وفي غير الأرض، ثم تتعدد التجارب التي تربي الإنسان في الأرض في أحداث القرآن، وبسائل خارجة عن تجارب البشر ومعارفهم، فإذا كانت التجربة الأولى ممثلة من خليفة الله في الأرض للخير وإبليس رمزا للشر؛ فإن التجربة تتكرر في أول جريمة على هذه الأرض من ابني آدم قابيل وهايبل، وهذه التجربة توضح أن وسائل التربية للإنسان ليست هي التحذير والموعظة والتذكير دائما؛ إذ إن النفوس تتباين وتختلف، ولابد تبعا لذلك من اختلاف الوسائل والطرق التربوية؛ يقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [2] .
فالقصة تعلمنا أن النفس الشريرة إذا ما اندفعت في اتجاهها تطوع للإنسان كل جريمة من إزهاق روح بريئة، كما أن حيرة القاتل تظهر حداثة التجربة وجدتها في الأرض، وتظهر عجز الإنسان أمام التجارب والأحداث الجديدة في حياته مهما كانت قوته وجبروته وبطشه، ما لم تتعده التربية بالتهذيب والتعليم والتوجيه لطاقاته وخبراته الوجهة الصحيحة.(21/338)
وكانت وسيلة التعليم والتربية في القصة أن بعث الله خلقا من مخلوقاته هو الغراب؛ ليظهر للإنسان ضعفه ويعلمه كيف يدفن أمواته.
وسواء أقتل الغراب غرابا آخر معه ثم حفر له أو جاء إلى غراب ميت فدفنه؛ فإن الله هو الذي أودع هذه الغريزة في هذا الحيوان ليعلم الإنسان وليأخذ منه العظات والعبر، وليكون وسيلة أيضا لبيان أحكام شرعية تتعلق بحماية الإنسان في الأرض.
وقد أدرك سيد البشر صلى الله عليه وسلم الناحية التربوية في هذه القصة؛ فوجه المسلمين إليها وقال: "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلا؛ فخذوا بالخير منهما"، كما قال: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم".
والقرآن مليء بنماذج كثيرة تدل على المواقف التربوية في حياة الأنبياء والأمم التي تعاقبت على الأرض قبل الرسالة المحمدية التي جاءت خاتمة للرسالات، كاملة الأسس والأهداف والنظريات التربوية.
ويذكر مؤرخو التربية الحديثة أن البشرية قد عاشت آلاف السنين وهي لا تعرف التربية المنظمة التي نمارسها في مدارسنا أو معاهدنا التي تعتبر الأماكن المخصصة لممارسة عملية التربية، وإذا كانت التربية الأولية أو البدائية لا تمارس في حجرات الدراسة فإنها كانت تمارس في واقع الحياة من خلال المهارات التي يتعلمها الفرد عن طريق المحاكاة والتقليد من خلال ممارسات الزراعة والصيد وغيرهما، أو من خلال المعلومات التي تتبادلها الناس في حياتهم، ولم تكن تلك المهارات والمعلومات من التعقيد بمكان؛ نسبة لبساطة الحياة وقلة الحضارة وبدائية الثقافة وغير ذلك من المكونات التراثية في حياة الأمم.(21/339)
وكانت التربية آنذاك من وظيفة الآباء والمجتمع الصغير الذي يعيش فيه الفرد، وكان لابد لهذه التربية البدائية من أن تتطور بتطور البشرية في سلوكها ومهاراتها ومعارفها وحضارتها، وكان لابد أن يتبع التطور والتغيير في حياة الناس المادية تطور في الأفكار والاتجاهات واختلاف وجهات النظر في أمور الحياة وطرقها ومعيشة الناس وقيمهم وأخلاقياتهم.
وتبع هذا التطور الحاجة إلى جماعة من المجتمع يهتمون بالأبناء ويقومون بواجب التربية والتعليم نيابة عن الآباء والأسرة؛ فظهر المعلم الذي يعلم أبناء مجتمعه في مكان ما من البيئة، ثم تطور الأمر إلى وجود أماكن مخصصة يتعلم فيها الأبناء أصول القراءة والكتابة وما وصلت إليه الأمة من تراث يمثل تاريخها وشرائعها، ولذلك كله نجد في بلاد الصين قبل خمسة آلاف سنة مدارس تنتشر في القرى في مبان ضيقة لا تزيد عن حجرة أو في أركان المعابد، ويتعلم الأطفال فيها الكتابة وبعض الأشعار ومبادئ الحساب، ولم تكن هناك صلة أول الأمر بين لغة التخاطب ولغة التعليم، وينتقل الطلاب من مرحلة دنيا إلى مرحلة عليا يدرسون فيها التاريخ والفلسفة والدين والشؤون الزراعية والحربية، ولأن التربية كانت خاضعة للدولة فإنها كانت تهيئ لها الموظفين الذين يعينون حسب شهاداتهم والامتحانات الدورية التي تعقد لهم، ويجتاز الطالب عدة امتحانات ليمتحن أخيرا في كلية (هان لين بوان) ، وهي أكاديمية امبراطورية في بكين؛ قاعة الامتحانات فيها تتكون من عشرة آلاف حجرة، ولكل طالب حجرة يختبر فيها ويأكل فيها ويعيش فيها؛ حيث تستمر ثلاثة عشر يوما في الأدب والأخلاق والفلسفة، ثم يعين الناجحون - بعد تلك الأيام القاسية التي عاشوها في حجرات غير صحية - في مناصب الدواة الكبرى [3] .(21/340)
وكان غرض التربية إلى جانب ذلك (إعداد القادة؛ بتزويدهم بالمعارف القديمة التي تتصل بنظام المجتمع وصلات الأفراد بعضهم ببعض، وإعداد كل أفراد الشعب ليكون سلوكهم حسنا في جميع أعمالهم وفي جميع ما يزاولونه في حياتهم) [4] ، أي أن التربية كانت تعنى بالناحية الخلقية الاجتماعية.
أما في مصر الفرعونية فقد هدفت التربية إلى تهيئة الأفراد ليكونوا أعضاء عاملين في المجتمع، وذلك بمدّهم بالخبرات اللازمة لذلك، كما عملت التربية على تنمية الناحيتين الثقافية والمهنية، والدينية والدنيوية (فالدنيوي تخريج المتعلمين في الفنون المختلفة مما يضمن لهم المعيشة الراضية، والديني هو العمل على محبة الآلهة في الآخرة بالتعبد والتقرب إليهم) [5] .
أما الهند فقد كان التعليم محتكرا لدى البراهمة الذين قصروا التعليم أول الأمر على عدد قليل من الطبقة العليا، ثم سمحوا به للطبقات كلها، ويشمل التعليم الدين والأخلاق والحساب والكتابة، ثم ينتقل الجميع إلى الجامعات، وكانت التربية تعمل على اكتساب الطلاب لعادات التفكير والإحساس والتحكم في الجسم والسلوك؛ فكان الطالب يجلس جلسة واحدة مدة تستغرق ساعات طويلة يتعود بها على التحكم في نزعات نفسه ورغبات جسمه [6] .
(وقد اهتم قدماء المصريين بالعلم والمدارس؛ باعتبار المعرفة وسيلة إلى المجد والثروة، ووصايا حكمائهم تحث على الثقافة والمعرفة اللتين لا يسمو شيء عليهما، وقد قسموا المجتمع إلى طبقات: أولى تتكون من الكهان والأطباء والمهندسين ورجال الفكر والعلم والكتاب، وثانية هم المحاربون، وثالثة يمثلها الفلاحون والرعاة والتجار والعمال، كما أنهم قسموا التعليم إلى مراحل: أولية للأطفال، ومتقدمة تقتصر على أبناء الفراعنة - الطبقة الأولى - وكان لديهم جامعة مشهورة هي «جامعة اون» عين شمس، كما كان التعليم العسكري عندهم منفصلا) [7] .(21/341)
أما في أوربا فقد كان لمدينة اسبرطة نظامها التربوي العجيب؛ إذ إن الدولة كانت تتعهد الطفل منذ مولده؛ فإذا أحسوا بضعفه تركوه في العراء ثم عادوا إليه بعد فترة؛ فإذا تحمل الجوع والبرد أبقوا على حياته وإلا تركوه حتى يموت بدلا من أن يشب مواطنا ضعيفا، والطفل يظل مع أمه سبع سنوات ثم يرسل إلى إحدى مؤسسات الدولة؛ ليعيش مع غيره من الأطفال تحت نظام قاس عنيف من التربية؛ ليأخذ على مظاهر التقشف والنظام، ومن يبدي منهم شجاعة وإقداما أصبح رئيسا للجماعة، وعلى الآخرين طاعته.
فالتربية في اسبرطة تهدف إلى إعداد الطفل إعدادا عسكريا في المقام الأول؛ ليقوم بوظائفه القتالية، ثم تأتي التربية الأدبية والخلقية، كما تهدف التربية العسكرية على تقوية روح الطاعة المطلقة.
أما الفضائل الإنسانية - مثل الصدق والأمانة - فهي نسبية؛ إذ إن الكذب يجوز على غير الاسبرطيين، ولا يعاقب السارق إلا إذا ضبط متلبسا بجريمته؛ لأنه فشل في إخفاء نفسه ولم يكن حريصا، وكان أغلبهم لا يتعلم القراءة والكتابة مع أنهم كانوا أذكياء.
وإذا انتقلنا إلى أثينا الدولة المنافسة دائما لاسبرطة فإنها مع اهتمامها بالشجاعة والإقدام إلا أنها لم تكن تربية عسكرية؛ إذ كانت تعمل على أن يتحلى الإنسان بالحكمة المغلفة بالعقل والابتكار الجديد في الحياة، والعمل على سعادة الإنسان وكماله الجسماني والعقلي والخلقي، وتطلب الدولة من الأسرة الاهتمام بالطفل، ويعلم الطفل السلوك الطيب والقراءة، ويحفظ مؤلفات أعظم الشعراء حيث يجد فيها النصائح والقصص ومفاخر مشاهير الرجال، والتعليم طبقي يكتفي فيه أبناء الفقراء بالمرحلة الابتدائية، ويستمر أبناء الأغنياء في اكتساب الخبرات والمعلومات وتذوق الفن [8] .(21/342)
وفي مجال المقارنة بين التربية الصينية والأثينية يقول برتراند رسل فيه: (إن التربية الصينية التقليدية كانت كبيرة الشبه من بعض النواحي بنظيرتها في أثينا في أعزّ أيامها؛ كان الصبية الأثينيون يحملون على حفظ هومر عن ظهر قلب من أوله إلى آخره، وكذلك كان الصبية الصينيون يحملون على حفظ المأثورات الكنفوشية، وكان الأثينيون يعلمون نوعا من احترام الآلهة، يقوم على المحافظة على المظاهر، ولا يضع حاجزا في طريق النظر الفكري الحر، وكذلك كان الصينيون يقيمون طقوسا خاصة، تتصل بتقديس الأسلاف، من غير أن يجبروا بحال على اعتقاد ما كان منطويا في تلك الطقوس) .
أما الرومان فمع عراقة دولتهم لم تكن لهم نظريتهم التربوية المميزة، ومرت التربية عندهم بمراحل؛ وشملت الاهتمام بالدين والأخلاق والرياضة وفنون القتال، ثم ظهرت المدارس النظامية التي تعلم مهارات الحياة العملية وإعداد المواطن البليغ خطابة والفصيح بيانا، وفي الثقافة العالية الملم بصنوف المعرفة والمهارات الفلسفية والقانون والسياسة والحرب والذي يتولى أرفع المناصب في الدولة [9] .
وقد عاشت أمم الشمال والغرب من أوربا في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية؛ لم ينبثق منها فجر الحضارة والعلم بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس العربية الإسلامية لأداء رسالتها في العلم والمدنية، وكانت بمعزل عن ركب الحضارة الإنسانية يقول عنها هـ- ج. ويلز: (لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم؛ لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي - كإيطاليا وفرنسا فريسة - الدمار والفوضى والخراب) [10] .(21/343)
أما عن أوربا الغربية فيقول البروفيسور شيلي في كتابه تاريخ الفلسفة: (لعل القرنين السابع والثامن كانا أظلم عهد في تاريخ حضارة أوربا الغربية؛ أنه كان عهد بربرية وجهالة لا نهاية لها، غمرت فظائعها أعمالا تدمر جميع المنجزات الأدبية والجمالية للعهد الماضي الكلاسيكي) ، كما يقول دربير: (يصعب القول عن سكان أوربا القدماء بأنهم تجاوزوا مرحلة البربرية والوحشية؛ فقد كانت أجسامهم قذرة وأخيلتهم مفعمة بالأوهام؛ يؤمنون إيمانا راسخا بكل ما ينقل من الأساطير والحكايات التافهة التي لا أساس لها عن كرامات الضرائح ودعاوى القداسة المزعومة) .
أما التربية المسيحية فلم تخرج عن رسالة المسيح عليه السلام في نشر روح التعاطف والتسامح والمحبة والتواضع، مع استخدام وسائل مختلفة مثل الأمثلة والحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقي المستمد من الواقع والمألوف، إلى جانب الحكم والأمثال كوسائل سريعة إلى قلوب المستمعين، وقد أخذت التربية المسيحية عن سقراط طريقته في استخدام الحوار للكشف عن المغالطات والأخطاء، وأخذ على هذه الطريقة أن النتائج ونهاية الحوار معدتان سلفا، ولا يمكن تغييرها، وكانت التربية المسيحية تعتمد على الأسرة ثم الكنيسة، ثم دخلتها الانحرافات التي دخلت على المسيحية فتغيرت عن صبغتها الدينية الخالصة، ثم بدأت المسيحية في إنشاء المدارس في اليونان، وجاءت فترة سيطرت فيها الكنيسة فيها على التعليم إلى نهاية القرن الحادي عشر، وكان التعليم قاصرا على أبناء الأغنياء والطبقات العليا ورجال الكنيسة [11] .(21/344)
إن التربية المسيحية يمكن النظر إليها من خلال طبيعة الديانة المسيحية؛ فمع ما تقدم ذكره مما جاء في كتاب تاريخ التربية فإن الواقع التاريخي يدل على أن المسيحية لم تكن بطبيعتها ديانة تبنى عليها حضارة أو تقام على ضوء تعاليمها دولة، وقد جاء (بولس) فطمس نورها وأزال البقية من آثار تعاليمها وطعمها بخرافات الجاهلية والوثنية التي نشأ عليها، ثم قضى (قسطنطين) على البقية الباقية فأصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية؛ فتلاشت تعاليم المسيح كتلاشي القطرة في اليم؛ فأصبحت معتقدات لا تغذي الروح ولا تمد القلب ولا تشعل العاطفة ولا تحل مشاكل الحياة، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية؛ يقول (SALE) مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، عن نصارى القرن السادس الميلادي: (وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية؛ حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر) [12] .
والمعروف أن العالم قد وصل إلى درجة كبيرة من الانحطاط في القرنين السادس والسابع؛ نتيجة لانقطاع صلة العالم بالله سبحانه وتعالى، وبعد الشقة بينها وبين رسالات الأنبياء، وفقدان الأديان لروحها وتعاليمها؛ لكثرة ما لحق بها من تحريفات وما لحق الأمم من فوضى وانحلال، وطبيعي أن ديانة كهذه لا تستطيع، بل ليست من طبيعتها أن تقدم نظرية متكاملة في التربية؛ لأنها لم تأت بمنهج كامل للحياة كالإسلام.(21/345)
أما اليهود فكانت التربية عندهم من واجبات الأسرة باعتبارها قوام حياة المجتمع اليهودي، وظلت على هذه الحالة في اعتمادها على الأسرة وعلى التعليم الخلقي والديني والقومي (كشعب الله المختار) ، وقد أنشأوا المدارس بعد ظهور المسيحية ليتعلم أطفالهم القراءة والكتابة والتاريخ والهندسة والفلك، (وكان الإسرائيليون الأوائل يجهلون معنى لأي نظام اجتماعي سوى الأسرة، ولا يتخذون رئيسا سوى الإله، وكان على أطفالهم أن يتربوا على أن يكونوا مخلصين لـ (يهود) .
وكان تعليمهم يتم عن طريق المثال الصالح القدوة، وكانوا يتعلمون القواعد الأخلاقية والمعتقدات الدينية الخاصة بهم، أما تعليم القراءة والكتابة فكانت مقصورة على الفتيان، في حين تتعلم الفتيات الغزل والحياكة وتهيئة الطعام ورعاية شئون المنزل والغناء والرقص) [13] .
أما في القرنين السابقين للإسلام فقد كان اليهود أمة في أوربا وآسيا وإفريقيا، وكانوا أغنى أمم الأرض مادة في الدين، إلا أنهم لم يكونوا من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين المؤثرة في غيرهم؛ إذ قضي عليهم أن يتحكم غيرهم فيهم وكانوا عرضة للاضطهاد والاستبداد والنفي، وأورثهم تاريخهم الخاص - تاريخ العبودية والاضطهاد والإذلال والجشع وشهوة المال والربا - أورثهم نفسية غريبة وخصائص لا توجد في أمة أخرى، منها الخنوع عند الضعف والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، وقد وصف القرآن حالهم في القرنين السادس والسابع وما وصلوا إليه من تدهور خلقي وانحطاط نفسي وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن قيادة العالم.(21/346)
وقد تجددت حوادث في أوائل القرن السابع بينهم وبين المسيحيين بغضتهم إليهم، وحدثت بينهما حروب طويلة وقتل وقسوة، كما فصل ذلك المقريزي في الجزء الرابع من كتابه؛ بما يدل على استهانة الفريقين بالدم الإنساني وتحين الفرص في النكاية بالعدو وعدم مراعاة الحدود في ذلك، مما يبعدهم جميعا بأخلاقهم هذه من قيادة البشرية وأداء رسالة الحق والعدل والسلام وإسعاد البشرية في ظلها [14] .
أما عن إيران أو مملكة الفرس، فقد قاسمت مملكة فارس الروم حكم العالم؛ كانت الأخلاق فيها منحطة والمحرمات موضع خلاف، حتى أن يزدجر الثاني الذي حكم أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته وقتلها، كما أن (بهرام جوينى) في القرن السادس كان متزوجا بأخته، فالإيرانيون اعتادوا الزواج بالمحرمات، وكانوا يعتبرون ذلك وسيلة تقرب إلى الله، وقد سبق ظهور دعوة (ماني) في القرن الثالث إلى تحريم النكاح استعجالا للفناء، ثم دعوة (مزدك) المولود في القرن الخامس إلى المساواة في المال والنساء، وجعل الناس شركاء فيهما حتى لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه.
أما الأكاسرة ملوك فارس فكانوا يدعون أنه يجري فيهم دم إلهي؛ فنظر الفرس إليهم كآلهة يقدسونهم ويؤلهونهم فوق البشر؛ لذا كان بعض ملوكهم أطفالا لأن هذا الحق لا يخرج عنهم.
كما اعتقد الناس في البيوتات الروحية والأشراف الذين يرونهم فوق طينة العامة في نفوسهم وعقولهم؛ مما عمق نظام الطبقات في المجتمع، وجعل كل واحد لا يعمل إلا بالحرفة التي خلقه الله لها، ولا يشتري عقارا لأمير أو كبير، ولا يتولى الوضيع وظيفة، وقصة المغيرة بن شعبة مع الفرس توضح هذا [15] .
كما كان الفرس يمجدون قوميتهم الفارسية التي يرون لها فضلا على سائر الأجناس والأمم التي يزرونها، وينظرون إليها باحتقار وسخرية، ويرون أن الله قد خصهم - دون الأمم - بمواهب خاصة.(21/347)
وكانوا في عبادتهم قديما يعبدون الله ويسجدون له، ثم عبدوا الشمس والقمر والنجوم، ثم جاءت (زرادشت) الذي دعا إلى التوحيد وأبطل الأصنام، وقال: إن نور الله يسطع في كل ما يشرق ويلتهب في الكون، وأمر بالاتجاه إلى الشمس والنار ساعة الصلاة؛ لأن النور رمز إلى الإله، ثم مجدوا النار إلى أن عبدوها وبنوا لها المعابد والهياكل، وانتهت كل عقيدة وديانة إلى عبادة النار [16] .
ولا تذكر كتب تاريخ التربية نظريةً تربوية مميزة للفرس، ولكن تلك المعتقدات والعادات هي التي كانت تحدد فلسفتهم التروية.
وهذا الاضطراب في حياة المجتمعات والديانات كلها أسرعت بحاجة البشرية إلى دين جديد وبعث جديد ورسول جديد وتربية جديدة.
التربية في العصر الجاهلي:
لم تكن للعرب قبل الإسلام - كما نعلم - دولة منظمة، بل كانت الحياة قبلية النظام، والتربية فيها فطرية تكتسب فيها العادات والقيم والمهارات عن طريق التقليد والمحاكاة وقيم القبيلة وأخلاقها؛ فالمثل العليا مأخوذة من مآثر القبيلة وأيامها ورجالها ومعتقداتها وقيمها المتوارثة وحروبها وبطولاتها، والمهارات لا تتعدى مهارات الحرب وطرق الدفاع والهجوم والصيد وصنع آلات الحرب وركوب الخيل، وغير ذلك من المهارات المعروفة لديهم.
ومن الأمم حولهم تعلموا بعض العلوم، وبفطرتهم نبغوا في الشعر والخطابة، ومن علومهم علم الفلك والطب والأنساب والعيافة والفراسة والزجر وغيرها.(21/348)
أما وسائلهم ففي التقليد للآباء ورجال العشيرة، ثم المواعظ والإرشادات والحكم من الآباء والأمهات، كوصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس، وأسماء بنت خارجة لابنتها، والأوس بن حارثة لابنه، وغير ذلك مما تحفل به كتب الأدب القديمة كالعقد الفريد والأمالي ومجمع الأمثال وغيرها، وكان الاهتمام بالناحيتين الأدبية والخلقية أكثر عند العرب إلى جانب النواحي الأخرى المتعلقة بالقيم السامية في الحياة كالشجاعة والكرم والشهامة والمروءة الخ.
ومن وسائلهم لنشر قيمهم وأفكارهم المؤتمرات الموسمية في أسواقهم المعروفة، كسوق عكاظ وذي المجاز ومجنة؛ حيث كانت تلك الأسواق الأدبية معاهد لتبادل الأفكار والأشعار، وتبادل الخبرات في عالم التجارة والاقتصاد ونشر المثل والقيم..
التطور المنهجي للتربية الإسلامية:(21/349)
جاء الإسلام وعدد من يقرؤون ويكتبون من قريش سبعة عشر رجلا؛ منهم عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب من الراشدين، وقلة من النساء منهن حفصة وأم كلثوم من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة التي كانت تقرأ المصحف ولا تكتب، وكذلك أم سلمة، ومنهن الشفاء بنت عبد الله العدوية معلمة حفصة، وأما في المدينة فلم يزد عددهم من الأوس والخزرج على أحد عشر رجلا، وكان بعض اليهود يقومون بتعليم صبيان يثرب بعد أن تعلموا العربية، ولقلة الرجال الذين يكتبون آنذاك كان لقب (الكامل) يطلق على من تعلم الكتابة والرماية والعوم؛ فلقب بذلك سعد بن عبادة سيد الخزرج، وأسيد بن حضير وعبد الله بن أبي، وكان ممن كتبوا للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعثمان بن عفان وشرحبيل بن حسنة وأبان بن سعيد والعلاء الحضرمي ومعاوية، ولم يكن تشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم قاصرا على تعليمهم القراءة والكتابة لصبيان المدينة كما حدث مع أسرى بدر، بل طلب من زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود لأنه لا يأمنهم على القرآن، فعرف كتابتهم، كما طلب منه أن يتعلم السريانية قائلا له: إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلمها في مدة وجيزة..
ولعلنا نستطيع أن نقول بنوع من التجاوز: إن أول مدرسة في تاريخ الإسلام هي تلك المدرسة التي كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة؛ حيث ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تربية لم تتوفر في تاريخ البشرية، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك بعده المصدرين الأساسيين للدعوة والتربية، وهما القرآن الكريم وسنته زيادة على سيرته العطرة.(21/350)
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول الذي أرسله الله إلى البشرية ليعلمها الكتاب والحكمة ويزكيها، وكان عليه الصلاة والسلام المطبق الأول لتعاليم السماء والمنهج الإلهي سائرا على الأرض؛ فقد وصفته أم المؤمنين بأنه كان خلقه القرآن، وكان القدوة الحسنة لأصحابه؛ يعلمهم بالموعظة الحسنة والتجربة الفعلية والتوجيه النافع وقت الشدائد والمحن، ولمعرفته لأهمية المعلم والتعليم في التربية والدعوة أرسل مصعيب بن عمير مع أهل يثرب حين آمنوا ليقوم بواجب التعليم والتربية والدعوة إلى الله.
وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب؛ فكان مسجده صلى الله عليه وسلم جامعة المسلمين الكبرى ومركز الدعوة إلى الله فيها؛ يتعبد الناس، وفيها يبلغ الرسول عن الله، وفيها ينزل التشريع منظما للمجتمع الجديد، وفيها يقابل السفراء والوفود، ومنها تخرج الجيوش حاملة لواء الدعوة، وإليها تتجه أنظار القبائل والدول والأمم، وكان القرآن - والقرآن وحده - هو منهج تلك الدراسة وهدفها ووسيلتها وغايتها، وكان نتائج ذلك المنهج ذلك الجيل القرآني جيل الصحابة المميز في تاريخ الإسلام كله والبشرية جمعاء؛ ذلك الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الله لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده؛ جيل خالص القلب والعقل والتصور والشعور والتكوين المجرد من كل المؤثرات غير منهج الله الممثل في القرآن.
أما وسيلته إلى ذلك فقد كان القرآن وحده؛ باعتباره النبع الذي يسقون منه ويتكيفون به ويتخرجون عليه، مع وجود المؤثرات من حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي مازال في أوربا، ومن حضارة الإغريق ومنطقهم وفلسفتهم وفنهم الذي مازال نبع الغرب، ومن حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها وحضارات أخرى.(21/351)
وكان للرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ ذلك المصدر وحده منهج مقصود وتصميم مرسوم؛ كان نتاجه ذلك الجيل الفريد الذي ذكرنا أوصافه [17] .
والذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم تربية دقيقة عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس؛ يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا؛ قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعا وعشرين مرة في عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة؛ فهان عليهم التخلي عن الدنيا، وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعوّدوه، وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة؛ فتنشطوا وخفوا لامتثال أمرها) [18] .
وهذا الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تيقن من ثمرة تربيته ونجاح غرسه لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الظلمة، وأضاء الأرض بنور الله وهديه.
وقد اقتضى الفتح الإسلامي وامتداده - زيادة على طبيعة هذا الدين الجديد - أن يتعلم المسلمون القراءة والكتابة، وأن تتسع حركة محو الأمية بينهم.
وقد ساعدت عدة عوامل على انتشار القراءة والكتابة وازدهار الحركة العلمية:
أهمها اختلاط العرب بغيرهم مما جعل التعليم أمرا لازما لمواجهة الحياة الجديدة والحضارة الموعودة.(21/352)
ومنها أن الإسلام قد جاء بدعوة تدعو إلى إعمال العقل والتفكير في ملكوت الله وخلق الإنسان؛ ليصل بذلك إلى الإيمان بالله وقدرته وإبداعه ووحدانيته، وتدرج في هذا الخطاب بما يناسب عقلية العرب وتصوراتهم والمحسات المتعلقة بحياتهم؛ {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [19] ، {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [20] .
فكانت هذه الآيات ومثيلاتها في القرآن بواعث على إعمال العقل والنظر في الكون والتأمل فيه، مما وجه إلى أهمية التعليم كوسيلة إلى المعرفة، وارتفع المستوى العقلي في ذلك المجتمع، وزادت الثقافة والمعرفة من القرآن، مما زاد في نفوسهم حب العلم والتطلع إليه.
يقول ابن سعد في طبقاته - عن مسروق من التابعين -: (شاممت أصحاب رسول الله فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت) .(21/353)
وهؤلاء يمثلون بعض رجال الطبقة الأولى في العلم، ومع ذلك نجد بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعا من التخصص في العلوم؛ فعبد الله بن عمر كان من أوثق رواة الحديث وأكثرهم دقة وتحريا لألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما لم يكن والده - على قرب صلته من الرسول صلى الله عليه وسلم - كذلك؛ إذ كان ثاقب الفكر بعيد النظر في المشكلات الكبيرة، خاصة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأيام خلافته، أما عبد الله بن عباس فكان رجلا متعدد المعارف واسع الثقافة؛ فهو مفسر ومحدث وعالم بأشعار العرب وأيامها والأنساب والفرائض والمغازي، كما كان مطلعا على التوراة والإنجيل، أما علي بن أبي طالب فقد عرف بالحكم والأشعار والخطب والأدعية ورواية الحديث وحسن القضاء وأسباب النزول.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهمية العلم والتعليم في تغيير سلوك القبائل المعتنقة للإسلام؛ فقد كان يرسل من يعلمهم؛ فقد أرسل إلى اليمن والبحرين ومكة بعد فتحها، والمدينة قبل الهجرة، وتبعه في ذلك خلفاؤه.
وكان لانتشار الصحابة في الأمصار الإسلامية أكبر الأثر في ازدهار الحركة العلمية، وتكوين مدارس بها، وتخريج جماعات نبغت علميا من التابعين، من أمثال سعيد بن المسيب وشريح وعلقمة ومسروق.(21/354)
ولم يقتصر الأمر على العرب، بل نبغ كثير من الموالي وأبنائهم ممن وحد الإسلام بينهم وبين العرب، من أمثال نافع مولى عبد الله بن عمر وراوي أحاديثه، وسليمان بن يسار الذي كان والده مولى لميمونة أم المؤمنين، وربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، أما في مكة فعكرمة مولى عبد الله بن عباس وراوي أحاديثه، ومجاهد بن جبير مولى بني مخزوم، وعطاء بن رباح مولى بني فهر، وغيرهم كثير، وعرف في مصر يزيد بن حبيب مولى الأزد وأستاذ الليث بن سعد، وكان مفتي أهل مصر، وهو من شمالي السودان من (دنقلا) ، وفي الشام مكحول بن عبد الله، أستاذ الأوزاعي، وفي الكوفة سعيد بن جبير، وفي البصرة محمد بن سيرين، والتي كانت أمه مولاة أبي بكر، والحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت، أما من كانوا من أبوين أحدهما عربي والآخر عجمي فكثيرون، منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طال (زين العابدين) ، وغيرهم كثير.
والمعروف أن التعليم كان يمارس في عهد الخلفاء في المساجد؛ فقد أرسل عمر بن الخطاب لأهل البصرة من يفقههم، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر عنه قوله: (علموا أولادكم السباحة والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن الشعر) [21] .(21/355)
وكان التعليم في عهد الخلفاء وقفا على القراء من حملة القرآن؛ لانشغال الصحابة بأمر الدعوة وإرساء قواعد الدولة الجديدة، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الذين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته؛ بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرؤون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتابة، وتمكن الاستنباط وكمل الفقه، وأصبح صناعة وعلما؛ فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء) [22] .
وقول سيدنا عمر السابق يدل على أن التعليم المنظم لم يكن موجودا في صدر الإسلام، وأن الآباء هم الذين كانوا يقومون بواجب التعليم؛ زيادة على ما كان يتعلمه البعض في حلقات المساجد حيث يجلس الأستاذ وحوله الطلاب يتلقون عنه، فقد روي أن عبد الله بن عباس كان يجلس بفناء الكعبة والناس يسألونه عن تفسير القرآن، وكان ربيعة الرأي يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتيه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة يحدقون به وحلقته وافرة، وكذلك كان مجلس الحسن البصري في مسجد البصرة، وقد يكون في المسجد الواحد عدة حلقات،.
ولم يكن التعليم وقفا على العلوم الدينية، بل كانوا يعلمون في المساجد الكيمياء والزجر والفأل [23] .
ولا تجد سندا على أن المسلمين قد أنشأوا مدارس خاصة للتعليم إلى العهد الأموي، وإنما اقتصر على المساجد والبيوت، وتذكر الروايات أن تعليم الصبيان في المساجد لم يكن مرغوبا فيه، وربما كانت الكتاتيب قرب المسجد أو ملحقة بها.(21/356)
ثم كان محور التعليم في هذه المدارس القرآن، ثم الأحاديث والأخبار وبعض الأحكام الفقهية والشعر؛ وكان الاهتمام بالقرآن - كما يقول ابن خلدون -لأنه شعار الدين، وأصبح القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات.
وقد اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، واختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات؛ فأما أهل المغرب فيقتصرون على تعليم القرآن فقط لا يخلطون ذلك بالحديث أو الفقه أو الشعر، أما أهل الأندلس فيعلمون القرآن ورواية الشعر وتجويد الخط، وأهل إفريقية فيعلمون القرآن والحديث وقوانين العلوم، وأهل المشرق فيخلطون في التعليم مع العناية بالقرآن وإفراد الخط بمعلميه [24] .
ومما سبق يتضح لنا أن التعليم اقتصر في عهد الخلفاء على تعليم القرآن الكريم، ثم دعت دواعي حفظ اللغة مع انتشار الصحابة ومن دخلوا في الإسلام إلى الاهتمام باللغة ودراستها؛ خوفا من ظهور اللحن في القرآن الكريم؛ فكان اهتمام أبو الأسود الدؤلي بقواعد اللغة أخذا عن سيدنا علي أو بتوجيه منه.
وفي العهد الأموي توسعت الدائرة إلى الاهتمام بالشعر والأدب والتاريخ والقصص؛ فقد روي عن معاوية أنه كان يسهر الليل في سماع أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها.
وكان نتاج هذا الاهتمام بالتاريخ ظهور كتب السير والمغازي من جمع الأحاديث المتعلقة بهما، كما انتشرت القصص التي بدأت في نهاية عهد عمر أو عهد عثمان، وكان القاص يجلس في المسجد فيذكر الله، ثم يسرد قصصا عن الأمم الأخرى تقوم كلها على الترغيب والترهيب.
ثم ظهرت العناية بعلم الحديث في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز، مما جعل الحديث يحتل مكانة كبيرة في المنهج الدراسي، ولم تكن تلك بداية الاهتمام بعلم الحديث وتدوينه كما يرى البعض، وإنما كانت بداية احتلال الحديث لمكانته في المنهج التربوي الإسلامي؛ فقد بدأت العناية بعلم الحديث منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.(21/357)
وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن المنهج التربوي التعليمي الإسلامي في صدر الإسلام كان يركز على ثلاث مواد رئيسية هي:
1- القرآن الكريم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صحف مفرقة كتبها كتاب الوحي، ثم تولى زيد بن ثابت جمعه من الصحف وصدور الرجال في عهد أبي بكر، ثم جمع سيدنا عثمان لجنة من الصحابة برئاسة زيد بن ثابت جمعت القرآن في مصحف واحد نسخت منه نسخا أرسلت إلى الأقطار الإسلامية، ولأن العرب لم يكونوا يفهمون القرآن في جملته وتفصيله كلّهم فكانت الحاجة إلى العناية بالقرآن حفظا وتفسيرا، واشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب في المرتبة الأولى، ويليهم زيد بن ثابت وابن الزبير وأبو موسى الأشعري، وكان لهؤلاء المفسرين رواة من التابعين من أمثال عكرمة ومجاهد وابن أبي رباح ممن رووا عن عبد الله بن عباس، ولم يتعد التفسير آنذاك الاقتصار على المعاني اللغوية، أما استنباط الأحكام فقد ارتبط بالحركة الفقهية وظهور المذاهب الدينية.
2- أما مادة الحديث: فكانت العناية به - كما قلنا - منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن تدوينه لم يكن يدوّن منه إلا القليل، وكان أغلبها في صدور الرجال، مما جعل علم الحديث يتعرض إلى كثير من الوضع، وأشهر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم أبو هريرة وعائشة وابن عمر وابن عباس وجابر وأنس بن مالك، ولكن الحديث بصورته التي وصلت إلينا لم يدون في القرن الأول، وقد فكر سيدنا عمر بن الخطاب في تدوينه إلا أنه لم يفعل، حتى جاء سيدنا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله يطلب جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر البخاري أن أول من جمع الأحاديث الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة، كما صنف فيه مالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالكوفة، وغيرهم ممن صنفوا في الحديث.(21/358)
3- أما اللغة فقد أدت الفتوحات الإسلامية إلى انتشار اللغة العربية في البلاد التي دخل أهلها الإسلام، والعوامل التي نتجت من اختلاط العرب بغيرهم إلى ظهور اللحن في اللغة، والحاجة إلى علم يضبط قواعد اللغة ويحفظها ويتعلمه الناس، (وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة، ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره، وإن كان يغني في الدلالات على أصله، وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار الإسلام) [25] .
وقد ذكرنا أن المساجد كانت أمكنة للتعليم كما هي للعبادة والقضاء والتخطيط للحرب ونشر الدعوة، واستمر الحال على ذلك في القرن الثاني للهجرة أيضا، واشتهر من المساجد إلى جانب الحرمين الشريفين جامع المنصور في بغداد، وجامع دمشق الذي بناه الوليد بن عبد الملك، وجامع عمرو بن العاص في مصر والذي بني عام 21هـ.
ولم تقتصر الدراسة فيها على العلوم الدينية بل شملت العلوم اللغوية والأدبية.
أما الكتاتيب - والكلمة مأخوذة من التكتيب وتعليم الكتابة - فقد اقتصرت على تعليم الكتابة والقراءة، ولم تظهر في العهد الأول للإسلام؛ فقد كان التعليم من واجب الآباء والمعلمين الخصوصيين، ووصية سيدنا عمر تدل على ذلك، ولم يشجع المسلمون تعلم الصبيان في المساجد لأن الصبيان لا يحافظون على حرمة المسجد ونظافته، ومع ذلك كانت الحلقات الدراسية في أركان المساجد.(21/359)
وقد وضعوا أسسا للتعلم: أهمها ما نسميه - بالمفهوم الحديث 0 استمرارية التعليم والحض على طلبه والاستزادة منه، ومن ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن عبد الله عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من جاء أجله وهو يطلب علما ليحيي به الإسلام لم تفضله النبيون إلا بدرجة" [26] ، وسئل عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن المرء أن يتعلم؟ فأجاب: ما دام تحسن به الحياة.
ومما يدل على أن التعليم الأول كان في الكتاب ثم ينتقل الطالب إلى المسجد ما روي عن الشافعي قال: (كنت يتيما في حجر أمي فدفعتني في الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم فكان قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء) [27] .
وقد فرقوا بين العلم والتعلم باعتبار التعلم (نشاطا عقليا يمارس فيه الإنسان نوعا معينا من الخبرة الجديدة التي لم يسبق أن مرت في خبرته السابقة) [28] ، وأن التعلم عملية لا تلاحظ مباشرة في المتعلم، إنما يستدل عليها من آثارها ونتائجها في شخص المتعلم وسلوكه وأفكاره؛ ولذلك كانوا يقولون: إنما العلم بالتعلم.
وكانوا يرون التنوع والمرتبة والتدرج في طلب العلم؛ فقد روي عن ابن خالد الوالي قوله: كنا نجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيتناشدون الأشعار ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية [29] . وروي عن يونس بن يزيد قوله عن ابن شهاب: (يا يونس لا تكابر العلم فإن العلم أودية، ولا تأخذ العلم جملة فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي) [30] .
وقد اتخذوا أساليب مختلفة في التعليم ومراعاة الفروق الفردية والجوانب النفسية في التعليم.
أما في العصر الأموي فقد تطور المنهج التربوي لعوامل عدة:(21/360)
أوّلها: اهتمام الخلفاء بالنواحي العلمية؛ فقد عرف عن معاوية استدعاؤه في مجلسه للأدباء والعلماء؛ ليقرؤوا له تاريخ العرب وأيامهم، وتاريخ الفرس والروم وحكامهم ونظم إدارتهم.
أما العامل الثاني: فهو استمرار الاهتمام بالعلوم الدينية، وتفرق الصحابة في الأمصار حيث كونوا مدارس وتلاميذ ينقلون العلم عنهم من جيل التابعين وتابعيهم.
ثالثا: ظهور المدارس المختلفة في علوم الحديث والفقه واللغة في المدينة المنورة والكوفة والبصرة ومصر، وكان من أبرز علماء مدرسة الحديث والفقه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق وسفيان الثوري ومالك، كما ظهر في العراق مدرسة أبي حنيفة، وعرفت مدرسة العراق بالرأي وإعمال القياس في القرنين الأول والثاني وكثير من التابعين ينتمون إليها ومنهم الحسن البصري.
ولم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت في القرن الأول، ولكن ولد إمامان من الأربعة في أواخر الدولة الأموية، وهما الإمام أبو حنيفة الذي ولد عام 80هـ، ومالك الذي ولد عام 96هـ، وامتاز مذهبه باعتماده على الحديث وعمل أهل المدينة.
أما اللغة والنحو فقد ظهرت عدة مدارس أشهرها مدرستا البصرة والكوفة، وقد اشتهر من الأولى عيسى بن عمر الثقفي أستاذ الخليل بن أحمد، وسيبويه ويونس بن حبيب والأصمعي وغيرهم، أما الثانية فعلى رأسها الكسائي والفراء وغيرهما.
وقد تطور منهج التعليم في هذا العصر من حيث المحتوى؛ فشمل - إلى جانب القرآن والحديث والفقه واللغة - العلوم الطبيعية والرياضية.
وقد صاحب التطور في المنهج تطور في مفاهيم التعليم وطرق التعلم وأساليبه.
وكان من نتائج ذلك كله أن بدأت النظريات التربوية تتبلور وتتضح، والمدارس التربوية تتميز.(21/361)
وساعد على ذلك التطور الكبير في ميادين العلوم المختلفة، وانتعاش الحركة العلمية بظهور رجال نبغوا في ميادين المعرفة المختلفة، من أمثال الطبري في التاريخ والتفسير، والجاحظ والمبرد والزجاج في اللغة والأدب، وفي ذلك يقول الكاتب الأمريكي (دريبز) في كتابه (النزاع بين العلم والدين) - نقلا عن (جيبون) -: (كان أمراء المسلمين في الأقاليم ينافسون الملوك ويناظرونهم في رعاية العلم والعلماء، وكان من نتيجة تنشيطهم وتشجيعهم للعلماء أن انتشر الذوق العلمي في المسافة الشاسعة التي بين سمرقند وبخارى إلى فارس وقرطبة، ويروى عن وزير لأحد السلاطين أنه تبرع بمائتي ألف دينار لتأسيس كلية علمية في بغداد، ووقف عليها خمسة عشر ألف دينار سنويا، وكان عدد الطلبة فيها ستة آلاف لا فرق بينهم بين غني وفقير؛ فكان ابن السيد العظيم وابن الصانع الفقير على السواء، وكانوا يكفون التلاميذ الفقراء مئونة دفع أجر التعليم، ويعطون الأساتذة مرتباتهم بكرم وسماحة، وكانت المؤلفات الجديدة الأدبية تنسخ وتجمع؛ سدا لحاجة أهل العلم ورغبة الأغنياء في جمع الكتب) [31] .
وقد صحب تطور المفاهيم التربوية ظهور المدارس التربوية، كمدرسة الحديث والفقه وعلم الأصول والكلام والتصوف وغيرها.
وقد تحددت المفاهيم أول الأمر بالالتزام بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة.
أما في القرن الرابع الهجري فقد حدث الاختلاف في الرأي بين الفقهاء والمحدثين؛ في حين رأى المحدثون الاكتفاء بالنظر في تراث عصر النبوة والصحابة بينما رأى الفقهاء اعتماد ما تركه الأئمة في مجال الرأي واتباع منهجهم في البحث والدراسة؛ إذ إن المحدثين اعتبروا التمسك بتراث الأئمة تقليدا وتحرجوا من اتباعهم، كما استنكروا ظهور المذاهب واشتغال المؤرخين بالتاريخ دون الحديث.(21/362)
كما اختلفوا في طرق البحث والتحصيل العلمي؛ فبينما يشترط المحدثون الرحلة والإسناد لم يشترط ذلك جماعة من الفقهاء، زيادة على اعتبارهم أن جهود الفقهاء قامت على جهود المحدثين.
وهذه الانتقادات أثرت في مفاهيم الفقهاء الذين استنكروا التقليد مع المحدثين وأباحوه للعامة؛ لأنهم لابد من أن يقلدوا علماءهم.
وكان من نتائج ظهور هذه المدارس ظهور رجال اتضحت مفاهيمهم التربوية وتبلورت نظريات التربية الإسلامية فيما كتبوا، وسنعرض لجهودهم وإضافاتهم وآرائهم عندما نتحدث عن جهود رجال التربية الإسلامية.
أما القرن الخامس فقد تبلورت نظريته في التربية على يد علماء الأشاعرة - الماوردي والخطيب البغدادي وأبو حامد الغزالي - وساعدهم على ذلك ظهور التقليد ومعارضة الاجتهاد واتهام من يعمل عقله بالميل للمبتدعة ومشايعة الاعتزال، وكان الحنابلة على رأس هذا الاتجاه المتحرج، ومعهم عدد من رجال الفقه والحديث.
وقد أدى هذا الاتجاه إلى انحسار التخصصات في أطرها المذهبية والتراجع عن بعض المبادئ التربوية، مثل الاستعدادات والميول للمتعلمين، كما أصاب الضعف محتوى المنهاج وأساليب التربية والتعليم التي كانت سائدة، مثل طرق الأسئلة والإملاء، وطريقة السماع.(21/363)
كما تأثرت علاقات المذاهب الفكرية؛ إذ حل التعصب مكان التسامح، وأوقع كل فريق بالآخر فاضطهد العلماء وحدثت الفتن، وظهر خطر الإسماعيليين الذين أنشأوا الجامع الأزهر ليكون مركزا لنشر الدعوة الشيعية، إلا أن السلاجقة قد تحالفوا مع مذاهب السنة في مواجهة الخطر الإسماعيلي في ميدان العقيدة والفكر، (وأن يختاروا من هذه المذاهب من يستطيع قيادة المعركة الفكرية والإشراف على مؤسسات التعليم، ولم يكن هناك من يفوق الأشاعرة في تلك المهمة، والواقع أن استيلاء السلاجقة على السلطة في بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري قد كان بداية لانتصار أهل السنة على الشيعيين، واتخذوا العلم وسيلة لمحاربة أفكار التشيع؛ إذ إن الناس إذا تعلموا الدين الحقيقي فرقوا بين الحق والباطل وحرروا عقولهم من أوهام المضللين؛ فأنشأ (نظام الملك) مدرسة عرفت (بالمدرسة النظامية) ، وكانت نقطة الانطلاق في الاتجاه لبناء مثل هذه المدرسة حتى عند من جاءوا بعد السلاجقة؛ فقد أنشأ (نور الدين زنكي) أول مدرسة في دمشق، كما أن الأيوبيين وضعوا حدا للحكم الشيعي في مصر وأعادوا مصر إلى السنة، وأنشأوا المدارس التي أشاعت السنة، واستمر إنشاء المدارس بعد سقوط الأيوبيين وقيام المماليك بحكم مصر.
وفي القرن الخامس ظهر ثلاثة من العلماء كانوا قمما في مضمار التربية الإسلامية وتحديد أصولها وأهدافها ووسائلها، منهم علي بن محمد الماوردي (364- 450هـ) ، وأحمد بن علي الخطيب البغدادي (392- 463هـ) ، وأبو حامد الغزالي (450- 505هـ) .
وقد حددوا هدف التربية بأنها إعداد الإنسان للحياة الدنيا والآخرة وتربية العقول؛ إذ إن الهدف من طلب العلوم عند الغزالي هو التقرب إلى الله دون الرياسة والمباهاة والمنافسة.
وأما من الناحية المنهجية فتأتي العلوم الدينية في مقدمة المنهج، ثم العلوم المهنية، ولابد للمتعلم من التزود بثقافة كاملة واطلاع على كل العلوم، ثم التخصص.(21/364)
وقد قسم الغزالي العلوم إلى علوم محمودة ومذمومة، ولكل منهما أقسام وأحكام.
وسنتحدث بالتفصيل عن ذلك كله عندما نتحدث عن جهود هؤلاء العلماء وإسهاماتهم في ميدان التربية.
وإذا استعرضنا أهم الأمكنة التي قامت بمهمة التربية والتعليم في القرنين الثالث والرابع نجد الجامع الأموي بدمشق، والذي بناه الوليد بن عبد الملك، وكانت حلقات الدرس فيه مختلفة؛ إذ كان للمالكية فيه زاوية وكذلك للشافعية، وكان للخطيب البغدادي حلقة يجتمع الناس إليه ليقرأ لهم دروسا في الحديث، ولم يقتصر المنهج فيه على العلوم الدينية، بل شمل العلوم اللغوية والأدب والحساب والفلك؛ يفدون من كل مكان.
وكذلك جامع المنصور في بغداد، والذي بناه أبو جعفر المنصور، وكان الكسائي يجلس فيه لتدريس علوم اللغة.
والجامع الأزهر الذي أنشأه جوهر الصقلي، واكتمل بناؤه في 361هـ، وأصبح منارة للطلاب من البلاد الإسلامية كلها حيث يدرسون علوم القرآن والسنة.
أما المدرسة النظامية في بغداد فقد تم بناؤها في 459هـ، وهي تنسب إلى منشئها الوزير العالم الفقيه نظام الملك الذي أنشأ غيرها من المدارس في كل البلاد، وقد درس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
أما المدرسة النورية الكبرى بدمشق؛ فقد قال عنها ابن جبير (تبعد تلك المدرسة عن الجامع الأموي بنصف ميل تقريبا، ومساحتها 1500 متر مربع بالتقريب، وبها بيت خاص لمدرسي المدرسة، وأهم مكان بها قاعة للمحاضرات، وهي قاعة كبيرة تسع عددا كبيرا من الطلاب، وبالمدرسة مسجد مفتوح لمن يرغب في العبادة، وهناك استراحة للمدرسين ومساكن للطلبة المقيمين بالقسم الداخلي، ومسكن لخادم المدرسة، ودورة للمياه ومخزن للأدوات الزائدة بالمدرسة.(21/365)
ونلاحظ أن محتوى التعليم لم يكن متباينا بين التعليم في المساجد والمدارس، إلا أن المساجد هي أماكن للعبادة ثم التعليم وأمور الناس، بينما المدارس أعدت أساسا للدراسة وإقامة الطلاب المغتربين، وألحقت بها أماكن للصلاة.
أما في القرنين السادس والسابع الهجريين فقد تجمد مفهوم النظرية التربوية، وضعف أمام تلبية حاجات المجتمع؛ وذلك لأسباب عدة: أهمها انتشار التعصب المذهبي بين المذاهب والجماعات والفتن والخصومة، وقد ذكر ابن جبير أن أصحاب كل مذهب كانوا يؤدون صلاتهم منفردين في المسجد الحرام، وكل يحرم للحج من مكان يختلف عن الآخرين، وأدى التعصب إلى ظهور مدارس خاصة بالشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وانحصر المنهج فيما يتعصب المذهب إليه، ثم سيطرت الدولة على التعليم لضعف العلماء وذهاب مكانتهم القديمة، واستغلت سلطات الدولة توجيه التعليم لتثبيت أنظمتها وتكريس الولاء لها، وتعيين المشايخ والمدرسين حسب ولائهم، والتخطيط للمناهج التي تدرس وأنواع الكتب [32] ، وحدث الانفصال بين العلوم الدينية والطبيعية.
أما في القرون التالية للقرن الثامن (فلم تتمكن نظرية التربية الإسلامية أن تتحرر من الركود الذي أصابها في الفترة السابقة؛ فأخذت ابتداء من القرن الثامن الهجري في الجمود الذي استمر حتى مطلع القرن الحالي، فلم تعد تتفاعل مع حاجات المجتمع وظروف التطور، وانحسر مفهوم النظرية التربوية ليتخلص من قدرة الخلف على تزويد معارف السلف أو شرحها أو تلخيصها) [33] ، ثم انحسر لذلك المنهج الذي اقتصر على العلوم الدينية وحدها، والاكتفاء باختصار كتب السلف وشرحها وتدريسها.
وسنتحدث عند تفاصيل هذه الموضوعات التي أجملناها عندما نتحدث عن علماء التربية الإسلامية خلال العصور المختلفة في الأعداد القادمة إن شاء الله.(21/366)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة الآيات: 30- 38.
[2] سورة المائدة الآية: 27- 31.
[3] د. سعد موسى أحمد - تطور الفكر لتربوي ط 1 ص 74- 76.
[4] مونرو - تاريخ التربية نقلها عن التربية وطرق التدريس لصالح عبد العزيز وعبد العزيز عبد المجيد.
[5] د. سعد موسى تطور الفكر التربوي ص 84- 85.
[6] التربية وطرق التدريس ص 33.
[7] د. إبراهيم ناصر مقدمة التربية ص 35.
[8] مونرو - تاريخ التربية ترجمة صالح عبد العزيز ص 86- 88.
[9] د. سعد موسى – تطور الفكر التربوي ص 147- 150.
[10] الشيخ أبو الحسن الندوي -ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 45- 46.
[11] راجع المرجع السابق ومقدمة تاريخ التربية د. إبراهيم ناصر ص 38.
[12] راجع الشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (37) .
[13] د. إبراهيم ناصر مقدمة في التربية ص 34.
[14] ماذا خسر العالم ص 44.
[15] راجع الطبري ج 4 ص 108.
[16] الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 47.
[17] راجع سيد قطب معالم في الطريق ص 11- 14..
[18] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 98.
[19] سورة الغاشية: 17، 18، 19، 20.
[20] سورة عبس الآيات: 24- 32.
[21] البيان والتبيين - الجاحظ ص 92 ج 2.
[22] مقدمة ابن خلدون ص 446م ط دار البيان.
[23] أحمد أمين: فجر الإسلام ص 165.
[24] مقدمة ابن خلدون.
[25] مقدمة ابن خلدون ص 379.
[26] القرطبي: جامع بيان العلم وفضله ص 126.
[27] المصدر السابق ص 130.
[28] د. أحمد زكي علم النفس التربوي ص 633.
[29] القرطبي جامع بيان العلم ص 139.
[30] المصدر نفسه ص 138.(21/367)
[31] عطية الابراشي: التربية الإسلامية وفلاسفتها ص 65.
[32] راجع تطور مفهوم النظرية التربوية ص 175 وما بعدها.
[33] ماجد سرحان: تطور مفهوم النظرية التربوية ص 209.(21/368)
الرشوة
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:
فهذه عجالة في موضوع الرشوة تلبية لطلب (الإعلام) ؛ لتقدم في حلقات (تلفزيونية) ، سطرتها كبحث ليساعد على تقديمها على حلقات. وبالله التوفيق ومنه العون والرشاد.
الرشوة لغة:
قيل في المحاباة والجعل؛ قال صاحب القاموس: الرشوة مثلثة الجعل، ورشاه أعطاه، وارتشى أخذها، واسترشى طلبها، والفصيل طلب الرضاع، والرشاء ككساء: الحبل.
وزاد صاحب اللسان: وهي مأخوذة من رشا الفرخ؛ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.
قال ابن الأثير: الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء؛ فالراشي الذي يعطي من يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا.
ألفاظ مرادفة للرشوة: منها السحت والبرطيل:
والسحت لغة: الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار؛ سمي بذلك لأنه يسحت البركة ويذهبها، يقال: (سحته الله) أي أهلكه، ويقال: (أسحته) ، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي يستأصلكم ويهلككم.
واستدل له بقول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن فروان لم يدع
من المال إلا مستحثا أو مجلف
وأصله كلب الجوع، يقال: (فلان سحوت المعدة) إذا كان لا يلقي أبدا إلا جائعا، قاله الفراء [1] .
ومما يشهد لهذا المعنى اللغوي ما ثبت في فقه اللغة من تقارب المعنى بتقارب الألفاظ، والسحت متقارب مع السحق بالقاف، وهو الدق والطحن بشدة، وفيه الهلاك والتحطيم، وكذلك يشترك مع السحت السحب بالباء، وفيه سحب المرتشي، ويشترك مع السحر، والرشوة فعل عمل السحر في نفسه.(21/369)
أما البرطيل: فقيل هو الحجر المستطيل، وسميت به الرشوة لأنها تلجم المرتشي عن التكلم بالحق، كما يلقمه الحجر الطويل، وكما جاء في الأثر: (إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة) [2] ، قاله ابن تيمية.
وفي القاموس: الترطيل: تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله.
مناقشة تلك الأقوال:
إن قولهم في الرشوة هي المحاباة والجعل لا يخلو من نظر؛ لأن المحاباة أعمّ؛ فقد تحابي صديقك وتصانع ولدك، وبعض من يقرب منك، أو تلزم مداراته لمروءتك أنت؛ كعطاء الشعراء ونحوهم.
ويقرب من هذا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع العباس بن مرداس السلمي، حين سخط العطاء في غنائم خيبر وقال شعرا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا عنا لسانه حتى رضي".
وكذلك دخل رجل واستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند عائشة رضي الله عنها؛ فتلطف له ثم قال صلى الله عليه وسلم قولا، وذلك عندما استأذن عليه قال: "ائذنوا له؛ فبئس أخو العشيرة"، وقال: "إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس لشره"، وهو صلى الله عليه وسلم بعيد ومعصوم عن شوائب الرشوة، مما يدل على أن المصانعة والمحاباة ليست رشوة، وأن تفسير الرشوة بذلك فيه نظر، وأن المصانعة تكون بمال وبغير مال.
أما الجعل فمعلوم أنه نوع من الإجارة، وهو لا شك جائز بشروطه من بيان العمل المطلوب والجعل المجعول، وله باب في الفقه معروف.
ولو سلمنا أن الرشوة نوع منه - كجعل على باطل - فإن مسمى الجعل أعمّ من الرشوة.
وكذلك السحت؛ فقد فسروه بما هو أعمّ، كقولهم: هو الحرام، وقولهم: هو ما خبث من المكاسب فلزم فيه العار؛ فإنه يشاركه الربا في الخبث ومهر البغي في لزوم العار.. الخ.
وهذا ما يجعلنا نقول: إنه تعريف للرشوة بالمعنى العام، وسيأتي إيضاح المعنى الخاص بها عند الكلام على نصوص القرآن في الموضوع إن شاء الله.(21/370)
الرشوة في الاصطلاح:
ومما يلزم التنبيه عليه هو أن ما لا يوجد له معنى دقيق في اللغة لا يتأتى وجود معنى دقيق له في الاصطلاح؛ لأن المعنى اللغوي أسبق في الوضع والاستعمال؛ فإذا جاء الشرع نقل المعنى اللغوي إلى الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط ووضع قيود شرعية.
ومن هذا المنطلق اختلف في تعريف الرشوة اصطلاحا فقيل:
أ - ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه.
ب - وقيل: كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على مالا يحل، ذكرهما في فتح الباري [3] .
ج - وقال صاحب الإنصاف: الرشوة ما يعطى بعد طلبه، والهدية ما يدفع إليه ابتداء [4] .
وهذا أيضا تعريف بالأعم؛ لأن دفع مال لذي جاه ليبتاع به عونا، نوع من الرشوة وليس كلها؛ لأن المرتشي قد لا يكون ذا جاه، وقد يبتاع من ذي جاه ما يحل بالنسبة للراشي على ما سيأتي.
وقولهم: ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه؛ فيدخل فيه المكس وحلوان الكاهن.
وقولهم ما يعطى بعد طلبه؛ فقد تقدم الرشوة قبل الطلب وقبل أن تدعو الحاجة إليها تمهيدا إليها.
د- وأحسن ما عرفت به قول الجرجاني: ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل.
وهذا التعريف الأخير أقرب ما يكون لمدلول القرآن له؛ فإن صحة المعنى هو ما يمكن أخذه من عرض القرآن وإيرادها في مواطنها على ما سيأتي إن شاء الله.
وعلى كل فإن لما عرفوا به الرشوة لغة واصطلحوا عليه شرعا صلة كبيرة في الصورة والمنطلق، فالتكلم به إظهار للصورة بصفة عامة.
الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
تقدمت الإشارة إلى أنه لابد من وجود صلة قوية بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل مادة؛ إذ الأصل في الاستعمال هو اللغة، ثم يجري نقل اللفظ إلى الاصطلاح كما هو معلوم.
وهنا جاء في التعريف اللغوي أن الرشوة مأخوذة من (رشا الفرخ) إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.(21/371)
وهذه صورة صارخة لعمل المرتشي، وبيان حقيقة وضعه في منتهى الضعف النفسي، كالفرخ لم ينبت له ريش، العاجز عن كسب قوته بنفسه يرى أمه يفغر لها فاهه لتخرج مما في حوصلتها وتفرغه في فمه؛ يرد جوعته.
ولو علمنا أن ما تلقاه بفيه إنما هو بمثابة القيء تستخرجه أمه من حوصلتها لكان كافيا في التقزز من أكل الرشوة؛ فهو بهذا يجمع بين ضعف الشخصية وذلة النفس وحقارة الطبع.
وهل يوجد أضعف شخصية ممن يبيع مبدأه وإنسانيته ورأيه وما يعتقد صحته، وينحرف إلى طريق معاكس في كل ذلك، ونظير ما يستخرجه الراشي من جوفه ومن ضروريات مقوماته أو اضطراره للوصول إلى حاجته.
وإذا جئنا إلى الأصل الثاني وهو (الرشاء) الذي هو حبل الدلو ليستخرج به الماء من البئر العميق؛ فإننا نجد أيضا صورة التدلي من علياء العزة والكرامة إلى سحيق الذلة والمهانة، وينحدر من منعة الصدق إلى هاوية الكذب، ومن عفة الأمانة إلى دنس الخيانة، وينزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل، وكأن الحاجة المقصودة عند المرتشي مغيبة بعيدا عن الراشي بعد الماء في عقر البئر؛ لا وصول إليها إلا بالتدلي بالرشوة كتدلي الدلو برشاه.
وبإمعان النظر تجد أن حقارة المرتشي ومهانته تأتي أول ما تأتي من الراشي نفسه؛ لأنه قاسه بمقياس الإنسانية فوجده لا إنسانية عنده، وبمقياس الأمانة والدين فوجده خاليا منهما، وما تقدم إليه بالرشوة إلا بعد اليأس منه، وإن ألان له القول وتلطف في السؤال، وقد أحسن من قال في نظير ذلك وقريب منه:
وإذا امرؤ مدح امرأ لسؤاله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
عند الورود لما أطال رشاءه
وهكذا صاحب الحاجة لو لم يقدر عدم استجابة من هي عنده، ولو لم يتوقع إعراضه عنه لما قدم له الرشوة ليستجيب إليه.(21/372)
وكذلك الحال من جانب الراشي؛ إذا لم يكن له حق فيما يطلب، ولا طريق عنده للوصول لما يريد لمنعه منه وتحريمه عليه وعدم استحقاقه إياه؛ فإنه يعمد إلى الرشوة ليتدلى بها متخفيا كتدلي الدلو ظلمة البئر حتى يصل إلى ما يريد.
فظهر بهذا قوة الصلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للرشوة.
وكذلك السحت، إذا كان أصله كلب الجوع وشدته فإن الصلة قوية بينه وبين أكل الرشوة؛ لأن من تعودها - والعياذ بالله - فإنه لا يشبع قط، ولا يكف يده عنها من أي شخص فقير كان أو غني، ضعيف محتاج للمؤنة أو مستغن قوي، إنما همه هو أن يأخذ ويقذف في جوفه السحت لملء فراغه، ولكن ذاك الجوف كالجحيم يقول: هل من مزيد.
وكذلك البرطيل، لقد قيل إنه الحجر الطويل، وإنها لتسكت آكلها عن الحق كما يسكته الحجر، وهذا معنى ظاهر.
ولكن ما قاله صاحب القاموس من أنه الترطيل تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله؛ فإن هذا المعنى أوضح؛ لأن الراشي يلين الطريق لنفسه ويمهده كي يصل إلى مطلبه بسهولة، كمن يمر على شعر مدهون ومن جانب المرتشي؛ فإنه يلين الكلام معه وييسر الطريق له ويسترسل معه في باطله استرسال الشعر في اليد، ويسترخي لسماع قول الراشي استرخاء الشعر المدهون الممشط، أي إنه فقد شخصيته وأسقط إرادته واسترخى في دينه وأمانته، واسترسل في باطله حيث أراده الراشي؛ عياذا بالله!.
نظرة في هذه الألفاظ:
يعتبر بعض العلماء أن هذه الألفاظ - رشوة، سحت، برطيل - هي من قبيل الترادف الذي هو ترادف الألفاظ على معنى واحد، ومثل السيف والمهند والصمصام والبتار، ومثل الأسد والهزبر والغضنفر.(21/373)
ولكن المحققين من علماء اللغة ينفون الترادف في اللغة العربية، ويقولون إن الترادف بمعنى وجود عدة صفات للمسمى، وكل لفظ يكون ملحوظا فيه بعض تلك الأوصاف؛ كالسيف مثلا للجنس، مميزا له عن السكين وأنواع السلاح الأخرى، والمهند يراعى جودة صنعه مثل المصنوع في الهند فعلا، والصمصام يراعى فيه نوع حديده ومعدنه وهكذا.
وقد أيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك، ومثّل له في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} ؛ فقال: يقول العلماء (المور) الحركة من قبيل الترادف، ولكن المور فيه معنى زائد على مطلق الحركة، ألا وهو كونها بسرعة، فالمور الحركة بسرعة.
وعليه يمكن أن يقال هنا إن الرشوة والسحت يجتمعان ويقترقان.
يجتمعان حينما يكون العمل محرما من الجانبين الراشي والمرتشي، فهو رشوة في حقهما، كما في الحديث: "لعن الله الراشي والمرتشي"، على ما سيأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله، وهو سحت في حق المرتشي يأكله سحتا.
وينفرد السحت حينما يكون العمل محرما من جانب واحد، وهو جانب الأخذ فقط؛ فيأكله فيأكل ما أخذه سحتا، والله أعلم.
الرشوة في القرآن الكريم:
مأخذ النصوص على الرشوة في القرآن عند العلماء في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في سورة البقرة في أعقاب تشريع الصيام وقبل الفراغ منه، وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
والنص هنا على وضوحه فهو عام في النهي عن أكل الأموال بالباطل بأي صفة كانت، وخاص في الإدلاء بها إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم، وهذا النص أقرب موضوعية إلى الرشوة ولارتباط الرشوة بالرشاء في معنى الإدلاء بها على ما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.(21/374)
والموضعان الثاني الثالث: في سورة المائدة.
أولهما عقب تشريع حد السرقة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن حزنه من الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود، ثم جاء وصفهم بأكل السحت عاشر عشرة صفات ذميمة في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} .
وثانيهما موجه فيه الخطاب صريحا إلى أهل الكتاب، وهو أظهر في اليهود لمجيء صفاتهم الكاشفة بعد النداء، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا..} الآية، وبعدها: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ..} إلى آخر الآية في نفس السياق.
{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، ثم نحا باللائمة على الربانيين والأحبار منهم في عدم النهي عن ذلك وخاصة السحت بقوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
وفي هذا الموطن أيضا جاء وصفهم بأكل السحت عاشر عشرة صفات غاية في المذمة.
وبدراسة هذه النصوص في تلك المواضع الثلاثة بالتفصيل ستجد حقيقة معنى الرشوة ومعنى السحت وموضوع كل منهما، وبالتالي خطورة وجودهما ومدى تحذير القرآن الكريم منهما، وبأي صورة صوَّر القرآن مَن يتعاطى شيئا مِن ذلك.
دراسة النص الأول:(21/375)
النص الأول عن الرشوة في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
والمنهج العلمي الصحيح لدراسة نص الموضوع ما يستلزم أخذ السياق كاملا بقدر المستطاع.
وهو هنا يبدأ من تشريع الصيام في قوله تعالى: {الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ثم بين مدته أياما معدودات، وزمنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، ثم تفضل بالرخصة عند المشقة بمرض أو سفر تيسيرا من الله تعالى، ثم التقرب إلى عباده السائلين والداعين، وما أحل لهم مما كان محرما على من كان قبلهم من الأكل ليلا إلى الفجر وجواز المباشرة ليلا، وفي النهاية جاء هذا النهي: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية، وبعدها يأتي قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..} الآية.
وهنا يأتي السؤال: لماذا آية النهي عن أكل أموال الناس بالباطل في أثناء مجيء آيات الصيام؛ لأن السؤال عن الأهلة وبيان مهمتها ألصق بالصيام؛ لأنه آخر الحج في التوقيت، كما قال فيه: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
والجواب على ما يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لتمام الارتباط بين فريضة الصوم وبين تحريم أموال الناس؛ للآتي:(21/376)
أولا: لأن حقيقة الصوم الإمساك عن المفطرات، وهي أصلها حلال طيلة نهار رمضان كله، وهذا الإمساك هذه المدة من شأنه أن يورث التقوى التي علل بها فرض الصوم لعلكم تتقون؛ فيأتي وبسرعة وقبل الفراغ من توابع تشريع الصيام، شأن الهلال فيستوقف المسلم قائلا: لئن صمت شهرا كاملا عن الحلال المتاح، فلا يصح منك أن تفطر بعد الشهر على أموال الناس بالباطل، بل يجب عليك أن تضيف إلى صومك الشهر عن الحلال صومك طيلة العام عن الحرام؛ فلا تأكل أموال الناس بالإثم على علم منك وإصرار؛ لأن هذا يتنافى مع التقوى التي هي ثمرة الصوم، ولئن فعلت فكأنك ما صمت.
ولئن راعينا ما جاءت به السنة من صدقة الفطر وربطت بينها وبين الصوم لوجدنا لفتة كريمة، وهي بمثابة التعبير العلمي عن التأثر بفريضة الصوم فعلا، أي كأن الصائم يقول: نعم يا رب إنه بعد صومي رمضان وتحصيل تقوى الله لم يبق لي تطلع إلى أموال الناس المحرمة، بل أنا أبذل من مالي لغيري.
وحقيقة الذي يبذل من ماله تطوعا للغير ابتغاء مرضاة الله لا يرجع بيده الأخرى فيأخذ من مال الناس ما حرم الله.
وكذلك في السياق مغايرة في أسلوب الخطاب؛ إذ جاء في الأول: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الخطاب الذي يجمعهم كفرد واحد وأمة واحدة، وبعد الإثم والأكل بالباطل قال: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} فأصبحوا أناسا متفرقين.
أي إن الصوم جمعهم وآخى بينهم، والرشوة فرقتهم وباعدت بينهم، وهذا في عموم أكل أموال الناس بالباطل، وهو شامل لكل صورة من الصور سواء بالغش والتدليس وبخس الوزن والتطفيف والاختلاس والاغتصاب والسرقة والنهب، وكل أنواع أكل المال بغير وجه حق، وكذلك الربا والرشوة.(21/377)
ولكن عطف الرشوة بخصوصها على ذلك العموم، وهو ما يعلم عند المفسرين بشدة الاهتمام بهذا الخاص من بين أفراد العام، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} ، أي جبريل مع دخوله في عموم الملائكة؛ لاختصاصه فيهم.
وقد صورها النص بصورة مطابقة لصورة الراشي والمرتشي بطرفيها؛ حيث قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} ، والإدلاء إرسال الدلو إلى ماء البئر، ولا يكون إلا بالحبل، وحبل الدلو يسمى رشاء؛ فالرشاء والرشوة من مادة واحدة، والمدلي هو الراشي، والمدلى إليه هو المرتشي، وما في الدلو هو الرشوة.
والغاية ليست الحصول على ماء طهور لشراب أو وضوء، ولكن لنقضه من سحت وإثم لأكل فريق من أموال الناس بالإثم عن علم وسبق إصرار، ولما كان التدلي نقيض الترفع فإنه يمكن أن يقال: إن هذا النص يعطينا حكما على المرتشي بأنه تدلى من منعة العزّ إلى هوة الذل، ومن رفعة الصدق إلى سحيق الكذب، ومن علياء العفة والأمانة إلى حضيض ودنس الشره والخيانة، وانزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل.
وقد خصص هذا النص الرشوة في الحكام مع أنها ليست قاصرة عليهم، ولكنها منهم أعظم خطرا وأشد فتكا؛ لأنهم ميزان العدالة؛ فإذا فسد الميزان اختل الاتزان، وإذا خان الوازن ضاع التوازن، ومن ثم ينتشر الفساد.
وقد يكون يتعلق بالأحكام فيكون من ورائها تغيير حكم الله مما يخاف على صاحبه الكفر - عياذا بالله - إذا كان مستحلا لذلك أو مستهزئا، عافانا الله والمسلمين!.
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح عند الكلام على بقية النصوص، وفي الفصل الخاص بمضار الرشوة.
وقد يكون الحاكم عفيفا نزيها ولكنها تعطى الأطراف كشاهد وكاتب لوثيقة زورا وبهتانا، أو لأي طرف له تأثير في الموضوع.
النص الثاني: جاء في سورة المائدة، وكذلك الثالث، وذلك في مسمى السحت الذي تقدم بيانه عند التعريف لغة واصطلاحا، وسنلم بكل منهما على حدة.(21/378)
أ- قال تعالى عن المنافقين واليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وعلى ما قدمنا من ضرورة أخذ السياق كاملا، وهو هنا من أول تشريع حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ..} الآية، ثم توابع السرقة - من توبة وحق الله تعالى في التشريع - يأتي خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} ، ثم يصف أعمالهم بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ..} الآية.
وبتأمل هذا السياق في عمومه، والربط بين أوله وآخره لكانت أمامنا حقيقة ثابتة ظاهرة ألا وهي:
أولا: أن المرتشي سارق.
ثانيا: أنه يخشى الكفر عليه؛ لمسارعته إليها تشبيها للمنافقين واليهود في مسارعتهم إلى الكفر.
ثالثا: أن هذا من عمل المنافقين واليهود؛ ففيه مشاركة لهم في لوصف.
رابعا: منهج المرتشين هو الكذب والسماع للكذابين.(21/379)
خامسا: يأخذون من النصوص ما وافق أهواءهم، وما لم يوافقها يحرفونه من بعد مواضعه.
سادسا: أنهم مفتونون فيما يأخذونه وما ينفذون من أعمال غير مشروعة.
سابعا: قلوبهم غير طاهرة؛ دنستها الرشوة وأكل السحت.
ثامنا: لا يملك أحد لهم من الله شيئا، اللهم إلا هم بأنفسهم إذا تابوا إلى الله تعالى.
تاسعا: أنهم في ذلة في حياتهم، وأشد ما يكون مذلة أمام راشيهم.
عاشرا: ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
أي أن آثار الرشوة ظاهر وباطن، وعاجل وآجل.
نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
ب- الموطن الثالث:
قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وبأخذ السياق من أوله أيضا تجده يبدأ من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ..} الآية، {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} .(21/380)
وإذا كان قد ظهر لنا الربط في المواطن المتقدمة بين أول السياق وآخره فإننا هنا نجد أن أول السياق مقارنة بين من آمن بالله عقيدة بجميع ما يلزم ذلك الإيمان، وبما أنزل إلينا شريعة بجميع ما يلزم التشريع من حلال وحرام وجائز وممنوع، وبين نقيضهم من أهل الكتاب.
وفي عرض تلك الصفات الذميمة واختتامها بأكل السحت نجده عاشر عشر صفات كلها مذمومة ومن خواص اليهود، بدأت بالحكم عليهم:
أولا: بأنهم شر مثوبة عند الله.
ثانيا: قد باءوا باللعنة والغضب من الله تعالى عليهم.
ثالثا: جعل منهم قردة.
رابعا: جعل منهم خنازير.
خامسا: وعبد الطاغوت بدلا من عبادة الله تعالى وحده، وأول ما يشمله كلمة الطاغوت هنا هو الحكم بغير ما أنزل الله وتغيير حكم الله.
سادسا: وضعهم في شر مكان.
سابعا: ضلالهم عن سواء السبيل.
ثامنا: إبطان الكفر مع قولهم آمنا.
تاسعا: مسارعتهم في الإثم والعدوان، وهو ما كان باطلا في أصله ويوجب إثما لمرتكبه، والعدوان من لوازم الإثم؛ لأن الإثم لا يكون إلا بالتعدي، وكذلك العدوان من لوازمه الإثم؛ لأن كل عدوان لا يكون إلا لما فيه إثم.
عاشرا: وأكلهم السحت، وهذه هي النتيجة للعدوان والإثم بسبب أكلهم السحت.
وتقدم قبل هذا ملازمة أكل السحت للكذب؛ فالكذب والإثم والعدوان ملازمات لأكل السحت لا ينفك عنها لتحقيق غرضها والوصول إلى هدفه وعدوانه.
ثم في هذا السياق من زيادة في المنهج بيان من عليه مسؤولية محاربة هذا الداء العضال، ألا وهم الأحبار والربانيون؛ فالأحبار هم العلماء والربانيون هم من جمعوا بين العلم والإنارة، وهذا بيان في تخصيص لولاة الأمر أن عليهم القيام بنهي من تسول له نفسه بأكل السحت، وقدم الربانيون لأنهم أقدر على ذلك لما رجع لهم من الولاية والعلم، وكما في الحديث: "إن الله ليزع بالسلطان.." الخ.
الفرق بين الرشوة والسحت:(21/381)
لعلنا باستعراض المواطن الثلاثة في القرآن نجد الفرق بين الرشوة والسحت؛ إذ في آية البقرة خاطب الله عموم الناس: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وصورها بين طرفين أحدهما يدلي للآخر بالرشوة ليأكل فريقا من أموال الناس بالإثم؛ فيتحقق فيها ما دفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، ففيها التعدي والحرام من الطرفين المدلي والمدلى إليه، وقد يكون منهما ثالث وهو الرائش بينهما، كما جاء في الحديث على ما سيأتي إن شاء الله.
أما في آيتي المائدة فإنه جاء فيهما وصف اليهود والمنافقين بالمسارعة إلى الإثم والعدوان وإلى سماع الكذب وأكل السحت، ومما جعله أعم من كونه في رشوة بين اثنين أو أعم من ذلك، فقد يكون في غمط حقه عن صاحبه وقد يكون في تحريف الكلام من بعد مواضعه، وقد يكون في أسباب جعل القردة والخنازير من بعضهم.
ولعل هذا المعنى يتضح أكثر عند بيان حكم من اضطر إلى دفع ماله لمفاداة نفسه أو عرض أو استخلاص حق ثابت له إن شاء الله.
وخلاصة القول في هذا الفرق هو أن ما كان في اشتراك بين طرفين في ارتكاب الإثم فهو الرشوة؛ لوجود راش ومرتش، وما كان الإثم فيه من طرف واحد مع اضطرار الطرف الثاني فهو السحت.
ويشهد لهذا ما رواه البيهقي [5] بسنده عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن السحت أهو رشوة في الحكم؟ قال: لا؛ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ، ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدي لك فتقبله، فذلك السحت.
الرشوة في نصوص الحديث:
أظهر الأحاديث نصا في موضوع الرشوة حديث عبد الله بن عمر عند الخمسة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي".
وحديث ثوبان عند أحمد بمعناه، وزيادة: "والرائش"، أي وهو الساعي بينهما يستزيد هذا ويستنقص هذا.(21/382)
وحديث أبي هريرة بزيادة: "في الحكم"، رواه أحمد وأبو داود.
وقد جعلوا منها هدايا العمال؛ لما جاء في حديث ابن اللتبية، بّوب عليه البخاري قال: باب هدايا العمال، وساق بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن الاتبية (أو اللتبية) على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي؛ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه ينتظر أيهدى له أم لا! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها تعير"، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: "ألا هل بلغت؟ ثالثا.
قال سفيان: قصه علينا الزهري، وزاد هشام عن أبيه عن أبي حميد قال: سمع أذناي وأبصرته عيني، وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي.
وعند أبي داود قال: باب في هدايا العمال وساق بسنده أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس من عمل منكم لنا على عمل فكتمنا فيه خيطا فما فوقه فهو غلّ يأتي به يوم القيامة"، فقام رجل من الأنصار أسود كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله! أقبل عني عملك، قال: "وما ذاك؟ " قال: سمعتك تقول كذا وكذا، وقال: "وأنا أقول ذلك؛ من استعملناه على عمل فليأت بقليله فيء وكثيره؛ فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى".
وقال البيهقي: أخرجه مسلم في الصحيح من أوجه عن إسماعيل.
وفي سنن البيهقي بسنده عن أبي حميد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول" اه.
ومعلوم أن الغلول جمع غل، وهو الطوق في العنق، وذلك إذا كانت ممن لم يهد إليه من قبل، أو كان لا يكافئ عليها، وكذلك ما أهدي لأهل العامل أو الوالي.(21/383)
وساق البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن القاسم حدثنا مالك قال: أهدى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان من عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - نمرقتين لامرأة عمر رضي الله عنه؛ فدخل عمر فرآهما فقال: (من أين لك هاتين؟ اشتريتيهما؟ أخبريني ولا تكذبيني!) قالت: بعث بهما إليّ فلان، فقال: قاتل الله فلانا إذا أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي؛ فاجتذبهما اجتذابا شديدا من تحت من كان عليهما جالسا، فخرج يحملهما فتبعته جاريتها فقالت: إن صوفهما لنا ففتقهما وطرح إليها الصوف، وخرج بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرات وأعطى الأخرى امرأة من الأنصار.
وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه اشتهى يوما التفاح فلم يجد ما يشتري به من ماله، وبينما هو سائر مع بعض أصحابه أهديت إليه أطباق من التفاح؛ فتناول واحدة فشمها ثم رده إلى مهديه، فقيل له في ذلك، قال: (لا حاجة لي فيه) ، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وأبو بكر وعمر! فقال: (إنها لأولئك هدية وهي للعمال رشوة) .
وقد جاء عن أحمد رحمه الله أنه إذا أهدي لقائد الجيش شيء فليس له وحده دونهم.
وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن جيش المسلمين لما ظفروا بالنصر على إقليم (تركستان) ، وغنموا شيئا عظيما أرسلوا مع البشرى بالفتح هدايا لعمر رضي الله عنه، فأبى أن يقبلها وأمر ببيعها وجعلها في بيت مال المسلمين.(21/384)
ومن أبرز ما جاء في أمر العمال والرشوة قصة عبد الله بن رواحة لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في خيبر ليخرص عليهم، رواه مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر، فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا: خذ هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم! أما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
وقد منع العلماء قبول الوالي ومن في معناه هدية ممن لم يكن له عهد بالإهاء إليه، ولو لم تكن له حاجة بالفعل عنده خشية أن تأتي له حاجة فيما بعد فيدلي إليه بما كان من هديته الأولى.
وقد وقع مثله لعمر رضي الله عنه؛ كان رجل يهدي إليه رِجل جزور كل عام؛ فخاصم إليه يوما فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا، أي كما تفصل الرِّجل من سائر الجزور؛ فقضى عمر وكتب إلى عماله: ألا أن الهدايا الرشا؛ فلا تقبلن من أحد هدية.
دراسة تلك النصوص:
بدراسة تلك النصوص تجد أول شيء التحذير الشديد والوعيد باللعنة - عياذا بالله - على أكل الرشوة، وشملت ثلاثة أشخاص: دافعها وآخذها والساعي بينهما بها.
كما تجد التنصيص على الرشوة في الحكم لما لهذا النوع منها من أكبر الخطر على صاحبه، كما قال مسروق عن ابن مسعود: أنه يخشى عليه الكفر؛ وذلك لأنه قد يحكم بغير ما أنزل الله فيدخل تحت قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .(21/385)
أما حديث ابن اللتبية فهو درس عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم لكل من ولي عملا للمسلمين وأخذ فيه الهدية؛ لأنها في واقع الأمر ليست بهدية خالصة وإنما معها مراعاة حالة العامل، ومن ورائها انتظار ما يترجاه المهدي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "هل جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا".
وهو سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاة الأمور في محاسبة العمال، وهو مبدأ (من أين لك هذا؟) ، وقد جاء في بعض رواياته: (فحاسبه صلى الله عليه وسلم) ، أي أمر من يحاسبه.
ومحاسبة العمال ثابتة عن عمر رضي الله عنه كما جاء في الإصابة في تراجم الصحابة أن أبا هريرة كان عاملا لعمر على البحرين، فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: (أستأثرت بهذه الأموال؛ فمن أين لك؟) فقال: خيل نتجت وأعطية تتابعت وخراج رقيق لي؛ فنظر فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله فأبى؛ فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك،قال: إنه يوسف نبي الله وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري ويشتم عرضي وينزع مالي.
ولعمر مع عماله مواقف عديدة وأمثلة مختلفة في هذا الشأن.
وأصل ذلك كله من حديث ابن اللتبية وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم معه.
وجاء نص حديث أبي حميد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول"، وقد بين حديث أبي داود أن من كتم من العمال ولو مخيطا- أي ولو أقل شيء قيمته قيمة الخيط - فهو غل يوم القيامة، وترى هذا التحذير قد أفزع بعض العمال فطلب إقالته.
أما أثر عمر فهو زيادة على رفض الهدية؛ فإنه قد بين للعمال وكل من حرمت عليه هدايا العامة أن يؤخذ من جهة أهله سواء زوجه أو ولده أو خادمه أو أي إنسان مرتبط به ارتباط الأهل.(21/386)
ولذا قال العلماء: لا ينبغي للقاضي أن يتولى الشراء لنفسه خشية المحاباة، ولا يشتري له من يعلم أنه من طرفه؛ حفاظا على القاضي من ريبة الرشوة.
عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشارها:
ما دامت الرشوة على غير العادة فإن عوامل تفشيها هي أيضا عوامل غير عادية:
- وأهمها وأساسها هو ضعف الوازع الديني للآتي:
1- ما ظهر من ربطها بالصوم.
2- ما ظهر من أنها من عمل المنافقين واليهود.
3- ما ظهر من أن منهجها الأساسي هو الاستماع للكذب والمسارعة للعدوان والإثم.
ثانيا: وقوع الظلم والجور في المجتمعات؛ فيعمد العامة لدفعها خوفا على أنفسهم أو تفشيا في غيرهم.
ثالثا: عدم مراقبة العمال وأصحاب الولايات على الرعية من قبل المسؤولين؛ فيتجرأون على أخذ الرشوة على أعمالهم.
رابعا: وجود خلل في نظام السلطة؛ فلا يصل صاحب الحق إلى حقه إلا بها.
خامسا: وجود الحاجة والفاقة؛ فيعمد المحتاج إليها للوصول إلى أكثر مما له لسد حاجته وفاقته كما فعل اليهود في خيبر.
أما البيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها كالآتي:
بما أن الرشوة داء مرض اجتماعي فهي كأمراض البدن تتفشى في البيئة القابلة للمرض:
- مقدمتها البيئة الفقيرة في حالات الأزمات.
ثانيا: البيئة التي لم يتوفر لها الوعي العام؛ فلم تدرك مضار الرشوة فيها، ولم يقو أفرادها على مجابهة من لهم عندهم حقوق في المطالبة بحقوقهم.
ثالثا: البيئة التي فقد الترابط ووقع في أفرادها التفكك؛ فلا يلوى أحدهم إلا على مصلحته الخاصة ولو عن طريق الرشوة وعلى حساب الآخرين.
وإذا تصورنا عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها فإنه بقي علينا تصوير وبسط نماذج مضار الرشوة وسط هذه العوامل، ومن خلال تلك البيئة بإيجاز.
مضار الرشوة:(21/387)
لا شك أن مضار الرشوة مما أجمع العقلاء عليها؛ سواء على الفرد أو على المجتمع، في العاجل أو في الآجل، ولكن هذا الإجماع في حاجة إلى تفصيل وأمثلة في بعض المجالات مما يزيد المعنى وضوحا، وعليه سنورد الآتي على سبيل الأمثلة لا الاستقصاء والحصر، وفي البعض تنبيه على الكل.
وأعتقد أن مضار الرشوة تتفاوت بتفاوت موضوعها واختلاف درجات طرفيها، فهي وإن كانت داء واحدا إلا أن الداء تختلف أضراره باختلاف محل الإصابة به.
فالداء يصيب القلب وغيره، إذا أصاب اليد أو الرجل، كالجرح مثلا؛ فجرح القلب أو الدماغ قد يميت، وجرح اليد أو الرجل غالبا ما يسلم صاحبه ويبرأ جرحه، وإن ترك ألما أو أثرا في محله.
والناس في هذا الموضوع منهم من هو بمثابة القلب والرأس والعين، ومنهم من هو كسائر أعضاء الجسد، وعليه فإذا كانت الرشوة في معرض الحكم فإنها الداء العضال والمرض القاتل؛ لأنها تصيب صميم القلب فتفسده فيختل في نبضاته ويفقد التغذية ويصبح غير أهل للحكم، وقد نص الفقهاء أن الحاكم إذا أخذ الرشوة انعزل عن الحكم؛ لأنها طعن في عدالته التي هي أساس توليته.
ب: تفسد منهج الحكم في الأمة أيا كان منهجها؛ فإذا كان يقتضي كتاب الله في بلد إسلامي فإنها ستجعله يغير هذا المنهج ويحكم بهواه وهوى من أرشاه، وهذا أشد خطرا عليه هو، كما قال ابن مسعود: إنه كفر مستدلا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
ج: يفقد المجتمع الثقة في الحكم فلا يعول أحد على منهج القضاء والتحاكم لأخذ الحق، وعندئذ فلا يكون أمام المظلوم إلا أن ينتقم لنفسه، ولا عند صاحب الحق إلا الاحتيال لأخذ حقه بيده.
وفي هذا كله ما فيه من فساد مالا يعلم مداه إلا الله تعالى.(21/388)
د: وبالتالي ينقلب منهج الإصلاح الاجتماعي، فبدلا من أن يتعاون الناس على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون على العكس من ذلك كله، وفي هذا مضيعة للأمة كلها كما ضاعت أمة بني إسرائيل كما قال تعالى في موجب لعنهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
هـ: إعطاء الفرصة والتمكين لكل مبطل ليتمادى في باطله؛ فتسلب الأموال وتنتهك الأعراض وتسفك الدماء بدون أي مبالاة؛ تعويلا على أنه سيعبر على جسر الرشوة دون أن يلقى جزاءه.
و: ومن مجموع كل ذلك ستقع الفرقة والشحناء والتقاطع في المجتمع.
وإذا جاوزنا مجال الولاة والحكام فإننا نجد بساحتهم وقريب منهم قرب الفم من الرأس كل من ولي أمرا للمسلمين فلم ينصح لهم حتى يرى كرشوة يعينه أو ينالها بيده، أو تظهر في نطاق عمله وإن كان هو عفيفا لكنه تغاضى عنها بالنسبة إلى من تحت ولايته، وفي استطاعته منعه منها.
وذلك على حد قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه.." الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، والمفاسد في هذا المجال عديدة منها:
أ: تعطيل الأعمال بغية بذل الرشوة.
ب: وبالتالي تكديسها وعدم إنجازها.
ج: يترتب عليه كساد العمل في البلدة وقلة الإنتاج والمضرة على المجتمع بكامله.
د: ذهاب قيمة هذا الجهاز بكامله أدبيا وخلقيا وقريبا من ذلك رسميا، وقد يؤدي إلى تغيير في الجهاز، ويفشو في الناس أن الرشوة هي السبب فتكون مسبة وعارا.
ثالثا: ما يقع في الجمارك وعلى الحدود التي هي بمثابة الثغور؛ فقد تكون سببا في إدخال ما هو ممنوع لشدة ضرره كالممنوعات الدولية من مخدرات ونحوها، أو إخراج ما تمس الحاجة إليه.(21/389)
ففي الأول تمكن عملاء السوء من بث سمومهم في الأمة لإفساد الأبدان وضياع الأديان، بل وإفساد الأموال والعقول، وما يجر فساد الفعل وراءه من ويلات، وكل ذلك بسبب رشوة يدفعها العامل لعامل الجمرك.
وفي الثاني حرمان الأمة مما هو من حقها أن ترتفق به وتتوسع في استعماله؛ فيتيح الفرصة للمهربين وتحصيلهم مصلحة أنفسهم في اتجارهم في ضروريات الأمة.
رابعا: قد تكون في إجراء تعاقد مع العاملين، فقد يتعاقد مع غير الأكفاء بسبب ما يقدمونه من الرشوة، ويترك الأكفاء لتعففهم وعزة نفوسهم، واعتدادهم بكفاءتهم.
وفي ذلك من المضار ما يفوت على الأمة الاستفادة من كفاءة، ومعرفة الأكفاء ويمنحهم بمضار وعجز الضعفاء، ومجالات ذلك عديدة؛ فإذا كان في حقل التعليم أضرّ بالعلم نفسه وبتحصيل أبناء وطنه، وإن كان في الطب فليس هو أقل من غيره، وكذلك في المجالات الأخرى ذات الطابع الفني الذي يرتبط بالمجتمع، وقد يكون في إرساء عطاء لمشروع أو في الإشراف عليه؛ فيتعاطف المرتشي مع الأقل كفاءة وإمكانيات وأسوأ معاملة، وتكون النتيجة على رأس المجتمع، فقد يكون مشروع إسكان أو مدّ جسور فينهار هذا أو ينكسر ذاك، والضحية من المجتمع، وقد سمعنا على مثل هذا، وأن مشروع الإسكان انهار قبل أن يسكن وقبل أن تستلمه الجهة المختصة؛ فكيف تكون الحال لو سكن بالفعل، ومثل ذلك في الطرق والمنشآت الأخرى.(21/390)
خامسا: وقد تكون في إبرام صفقة لحاجة البلد؛ فقد يقع التساهل في الصنف أو النقص في المقدار، وقد سمعنا عن صفقة حبوب؛ فلما وصلت بلدها فإذا هي تالفة بالسوس، فهل تشتري دولة لنفسها حبوبا مسوسة أم أن الرشوة هي التي سوستها، وقد تكون السلعة سلاحا للدفاع عن الوطن والنفس والأهل والمال والعرض فيأتي إما غير صالح أو غير كاف، وقد سمعنا عن السلاح أول ما دخلت الجيوش العربية فلسطين فكان السلاح يرجع على المقاتلين، فهل كانت الأمة تبعث بأبنائها ليعود عليهم السلاح فيقتلهم؛ فيقتلون بأيدي أنفسهم أم الرشوة هي التي قتلتهم.
وقد تكون في إفشاء سر الدولة أيا كان موضوعه؛ فيقع على الأمة من الخسارة بقدر موضوع ذلك السر الذي أفشاه؛ فقد يكون عسكريا فيفوت الفرصة على الجيش أو يوقع الجيش في مهلكة ويمكن العدو منه.
وقضية حاطب بن أبي بلتعة عندما همّ بإفشاء سر تحركات المسلمين إلى مكة معروفة، لولا أن تدارك الله المسلمين بمجيء جبريل عليه السلام بالجنود وتدارك الظعينة بالخطاب قبل أن تصل العدو.
كل هذا من المفاسد على عامة الأمة والمجتمع حكومة وشعبا، وهناك المضار الفردية، وهي بالتالي تعود على المجتمع؛ لأن الفرد جزء منه، وما يؤثر على الجزء يؤثر بالتالي على الكل.
تأثيرها على الفرد:
أما تأثيرها على الفرد فإن مردّ ذلك على طرفيها: الراشي والمرتشي.
وتقدمت الإشارة إليه في نصوص سورة المائدة من دنس القلب وذلة النفس وصغار المرتشي.
وأول ما يكون ذلك وصغاره عند راشيه وشريكه، وقد جاء في بعض الأخبار أن شخصا ارتشى وباع سرا من أسرار بلده لملك من الملوك؛ فجاء ليقبض ثمن خيانته وطلب لقاء ذلك الملك وظن أنه سيكرمه لقاء ما أسداه إليه من جميل، فلما حضر طلب مصافحة الملك فأمر الملك بدفع الثمن إليه وقال له: هذا ثمن عملك أما يدي فلا تصافح خائنا.(21/391)
ب: إماتة الضمير في العاملين؛ فلا يخلص في عمله ولا ينجز ما وكل إليه إلا بأخذها.
ج: إضعاف الكفاءات فلا يجهد المجدّ نفسه في تحصيل مقوماته الشخصية لثقته بالوصول إلى مطلبه عن طريقها، كما يعوّل بعض الطلاب على الغش في الامتحان، أو بعض المشتركين في المسابقات للعمل يعوّل على ما سيوصله إلى العمل المنشود عن طريقها وبالطرق التي يسلكها.
وكما أسلفنا نتائج كل ذلك إنما هي على الفرد أولا ثم على المجتمع ثانيا.
ومن كل ما تقدم يظهر خطر تفشيها ومضار وجودها، مما يحتم محاربتها ومعالجة المجتمع من دائها.
طريقة علاجها:
طريق علاج أي داء إنما تبدأ من تشخيصه، ثم بمنع مسبباته، ثم علاج أعراضه ومضاعفاته.
وإذا كان التشخيص قد وضح فيما تقدم، والأسباب قد وضحت، والأغراض ملموسة والمضاعفات تتزايد فلم يبق إلا منهج العلاج.
ومن المعلوم أن المرض الشخصي يتحمل مسئوليته الشخص المختص به، وإذا كان جماعيا تتحمل الجماعة مسئولية التعاون على علاجه.
والرشوة جمعت بين الأمرين الشخصي والجماعي؛ فعلى الجميع أفرادا وجماعات واجب التعاون على علاجها، وقد رسم لنا القرآن والحديث منهج العلاج.
أولا وقبل كل شيء: القضاء على مسبباتها كما علمنا ضعف الوازع الديني؛ فيعالج بتقويته وتوعية المجتمع توعية دينية، والتحذير من مضارها العاجلة والآجلة من مغبة الأكل الحرام وأثر السحت في النفوس والقلوب مما تقدم.
ثانيا: الرقابة على الأجهزة التي تكون مظنة تفشيها في أوساطها حتى يحسبوا لذلك حسابا، وهذا إن لم يمنعها كلية سيخفف من وطئها.
ثالثا: مصادرة كل ما ثبت أنه أخذ رشوة، سواء كان هذا المأخوذ مالا أو عرضا أو أي عين مادية، حتى تقلل طمع المرتشين وتسد الطريق على من تسول له نفسه بها، كما فعل صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية.(21/392)
رابعا: ما جاء في نص القرآن الكريم: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} ، والربانيون هم ولاة الأمر العالمون بحدود الله، والأحبار هم العلماء والمعلمون فيجتمع الوازع الديني من العلماء والوازع السلطاني من الحكام.
الفرق بين الهدية والرشوة:
ما تقدم أو من خلاله يظهر خيال في الأفق باسم الهدية، ويتساءل من خالط هذا الباب عن الفرق بين الرشوة وبين الهدية.
وقبل الإجابة عن الفرق الحقيقي نقدم مقارنة واضحة من حيث الموضوع ثم من حيث الحكم.
لاشك أن المال أو العرض المدفوع هو بعينه؛ فتارة يكون هدية مقبولة، وتارة يكون رشوة ممقوتة.
والفرق بينهما يظهر من موضوعه والغاية منه، واتفق العقلاء أن الواحد بالجنس يكون بعض آحاده مشروعا وبعض آحاده ممنوعا، كالسجود مثلا؛ فهو جنس يشمل السجود في الصلاة والسجود للسهو وسجود التلاوة وكله عبادة فهو جنس، فإذا وقعت سجدة لله فهي عبادة وفريضة وهي مشروعة، وإذا وقعت سجدة لغير الله فهي شرك وممنوعة، فالسجدة الأولى ليست هي نفسها السجدة الثانية ولكنهما من جنس واحد، أو إن كانتا سجدتان متغايرتان في زمنين مختلفين بل الواحد بالذات يكون ممنوعا باعتبار مشروعا باعتبار آخر، كما في حديث بريرة: تصدق عليها باللحم ووضع على النار للطبخ، ودخل صلى الله عليه وسلم وطلب الطعام، فقدم إليه خبز وملح أو خل فقال: "ولم وأنا البرمة على النار؟ " فقالوا: هذا اللحم تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة، وهو لنا منها هدية" فأكل منه.
فباعتباره صدقة حلّ لبريرة وحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباعتباره منها وبعد تملكه وإهدائها إياه بعينه لرسول الله صلى اله عليه وسلم صار حلالا، وأكل صلى الله عليه وسلم منه.(21/393)
ومن هنا نقول: إن الهدية مشروعة ومرغب فيها، ولها أثر ضد أثر الرشوة؛ لأنها تؤلف القلوب وتورث المحبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا" وبين أن الهدية تزيل أضغان النفوس.
بينما الرشوة على العكس تورث القطيعة وتوقع العداوة، والهدية يدفع المهدي بطيب نفس تقديرا للمهديىإليه أو تطييبا لخاطره أو تأليفا له، وكلها مقاصد حسنة وعن طواعية، ولذا فهو لا يخفيها كما يخفي الراشي رشوته والمهدى إليه قد يكافأ عليها إن عاجلا أم آجلا.
بينما الرشوة يدفعها الراشي مكرها ويأخذها المرتشي متسترا، وقد جاء الحديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس"، وهو موافق للهدية معاكس للرشوة، وكما في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} أي لطيب النفس به.
وقد روي عن علي رضي الله عنه في الدواء أن تأخذ هبة من صداق زوجتك وتشتري به عسلا، أي لاجتماع الشفاء به.
والنصوص في قبول الهدية أكثر من أن تورد هنا، ويكفي إجماع المسلمين على قبولها.
وهناك ما هو أعم، وهو كل عطاء بغير مسألة سواء قصد بذلك الإهداء والمحبة أو قصد به العطف والمساعدة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد والبيهقي أن عبد الله بن عامر بعث إليها بنفقة وكسوة فردته، ثم استدعت الرسول بها وقالت: إني ذكرت شيئا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق الله تعالى إليك".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عرض له من هذا الورق شيء من غير مسالة ولا إشراف نفس فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه"، رواه أحمد والبيهقي وإسناد أحمد جيد قوي [6] .
والنصوص في هذا من حلها وجوازها معلومة، بينما الرشوة كما تقدم.(21/394)
فالفرق بينهما هو عين الفرق بين الحلال الصرف والحرام البحت.
تحذير: وهنا يلزم التحذير الشديد من تسمية الرشوة باسم الهدية؛ لأن من أكلها عالما بها أنها رشوة مستحلا إياها فإنه يخشى عليه الكفر؛ لأنه يدخل في عموم من استحل ما علم تحريمه بالضرورة.
والسؤال هو: متى يكون العطاء هدية ومتى يكون رشوة؟
والجواب أولا وقبل كل شيء أن الأمور بالمقاصد، بناء على حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه قال جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتيت تسأل عن البر والإثم؟ " قلت نعم، قال: "استفت قلبك! البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك".
هذا بحمد الله مقياس واضح في نفس كل مسلم.
ولكن مع هذا أيضا فقد يتساءل البعض عن وجود فارق بين الرشوة والهدية ينتهي إليه كل إنسان، بل ونحكم نحن بمقتضاه على ما نقف عليه من غيرنا، ومما يخفى على بعضنا.
ولا بأس بهذا؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الجواب الكافي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
ونلاحظ في هذا الحديث تأكيد الأسلوب بـ (إن) في الطرفين الحلال والحرام؛ ليوضح أمرهما ومعرفتهما للجميع، وإهمال الواسطة بينهما عن التأكيد لغموضها، وذلك لأن لا يعرفها كثير من الناس.(21/395)
وعندنا هنا طرفان واضحان الهدية حلال مشروعة نافعة مرغب فيها، والرشوة حرام ممنوعة ضارة منهي عنها، وبينهما نوع من العطاء في صور يتردد النظر فيها هل يلحقها بالهدية أم يلحقها بالرشوة، ن من ذلك على سبيل المثال:
1- تعاقدت مع إنسان على عمل بقدر معلوم إلى أجل معلوم فأنجزه إليك قبل أجله، أو قام به على أحسن ما كنت تتوقعه فطابت نفسك وأعطيته شيئا مقابل ذلك.
فلا بأس به؛ لأنه يعتبر من ضمن الأجر ومن المكافأة على الإحسان بالإحسان، وإنما دفعت ما دفعته في مقابل نفع ذلك دون مضرة على غيرك، وهو قدم إليك من المعروف ما ليس واجبا عليه، فكانت منكما معارضة إحسان بإحسان.
2- أعطيت إنسانا لك عنده معاملة في جهة من الجهات، وهو مسؤول عنها وعن غيرها، وذلك ليسرع لك في إنجازها، أو هو من نفسه أسرع في إنجازها دون أن تعطيه، فطابت نفسك عن شيء فأعطيته إياه.
وهنا ينظر في كيفية الإسراع لما أعطيته ابتداء منك: هل كان على حساب تأخير معاملات الآخرين أم هو ضمن نطاق عمله وفي نطاق المعتاد؟ فإن كان على حساب تأخير الآخرين فهذا ألصق بالرشوة، بل إنك ستغريه وتدفعه إلى تعطيل المعاملات الأخرى حتى يتقدم إليه أصحابها بمثل ما تقدمت أنت إليه به.
وإن كان في نطاق عمله وليس على حساب تأخير معاملات الآخرين فلأي شيء دفعت؟ ولأي شيء هو أخذ؟ ولكنها أخفّ مما قبلها إلا إذا كانت ستجعله يتطلع إلى مثل ذلك منك أو من غيرك؛ فتمنع سدا للذريعة.(21/396)
3- أشخاص يعملون في دوائر أو مكاتب مختلفة وتمرّ بهم معاملات لك، وتأخذ طريقها مع غيرها بدون تمييز لها ولا تخصيصها باهتمام من أجل صاحبها، وهو لا يقدم شيئا على تلك المعاملات لكثرتها أو لكثرة من تمر عليهم، ولكنه في المناسبات كالأعياد أو العودة من سفر ربما يقدم هدايا لبعض الناس أو يقدم مساعدات لبعض الأشخاص، فقدم لهؤلاء مع غيرهم من حيث حاجتهم أو صداقتهم لكثرة التعامل معهم.
وهنا يقال: إن كان ما يهديه من هدايا أو يسديه من مساعدات من حيث الإنفاق عليهم ومد يد المساعدة إليهم لقلة مرتباتهم وكثرة منصرفاتهم وأعطاهم كما أعطى غيرهم؛ فهذا أقرب إلى الإهداء والمصانعة.
ولكن لا ننسى ما قدمناه وهو ما لم يكن ذلك لقصد إنجاز عمله وتقديمه على عمل غير عمل الآخرين، وكذلك ما لم يكن ذلك في حسبان العامل واستشراف منه إليه.
ولعل في هذه الأمثلة بعض الصور التي قد يقع الالتباس فيها على بعض الناس وقد رأينا فيها كلها أن العطاء عن طيب نفس ومن غير سؤال ولا استشراف نفس.
ولكن هناك مجال آخر، وهو ما إذا كان العطاء لا عن طيب نفس بل عن اضطرار، ومن الجانب الآخر بطلب وإصرار؛ فماذا يكون الحكم بالنسبة لعطاء المعطي في حالات اضطراره وبالنسبة للأخذ في حالات سؤاله واضطراره؟
أقوال العلماء فيمن صانع بماله عند اضطراره:
أولا: عند المفسرين وبإيجاز:(21/397)
قال القرطبي - عند آية المائدة الأولى {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} -: وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك أو تدفع حقا قد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ أن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة، وهذا كما روي عن عبد الله ابن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع.. اه.
ثانيا: المحدثون:
جاء في تحفة الأحوذي [7] على سنن الترمذي - عند حديث أبي هريرة في لعن الراشي والمرتشي المتقدم ذكره - قال: فأما ما يعطي توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه، وساق خبر ابن مسعود في الحبشة، ثم قال: وروي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وهذا نقلا منه عن ابن الأثير، ثم نقل عن صاحب المرقاة شرح المشكاة كلام الفقهاء عن ابن الأثير.
وكذلك الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة الحق فلا بأس به.
لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة؛ لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقه ودفع الظلم عن المظلوم واجب عليهم؛ فلا يجوز لهم الأخذ عليه.. الخ.
وفي العارضة لابن العربي على صحيح الترمذي [8] ما يقرب مما تقدم لفظا ويتفق معه معنى.
وعند الشوكاني [9] فيها نقاش طويل، من ذلك نقله عن المنصور بالله قول أبي جعفر وبعض أصحاب الشافعي: إنّه إنْ طلب حقا مجمعا عليه جاز، قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر..الخامس.
ثم ناقش هذا القول لعدم قيام دليل عليه، ولعمومات النهي عن أكل أموال الناس بالباطل.(21/398)
والملاحظ أن كل ما ذكره يصدق على الآخذ، وهذا لا خلاف فيه، إنما البحث في الدافع أيضا؛ فهو يتفق مع الجمهور في تحريمه على الآخذ، وخالف الجمهور في حق الدافع مع الاضطرار، وهو محل البحث.
كلام الفقهاء:
الحنابلة: ابن قدامة في المغني؛ يظهر أن ابن قدامة من أشدّ الناس في باب الرشوة، وقد ذكرها في موضوعين:
الأول: في باب الحج [10] في فصل إمكان السير، قال: فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي: لا يلزمه السعي وإن كانت يسيرة؛ لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة، وقال: ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج؛ لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها؛ فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم.
فتراه حكى القولين عنهما ولم يرجح، ولكن في تعليله عند ابن حامد ما يشعر بموافقته عليه، بأن تجوز من المحق وتحرم على المبطل الذي يأخذها بدون حق.
والموضع الثاني: في آداب القاضي [11] ، فيما نقله قتادة عن كعب: وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه، وقال جابر بن زيد: رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا، ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره، فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها.
وعند المالكية: قال في الشرح الصغير على أقرب المسالك [12] :
وفي المعيار سئل بعضهم عن رجل حبسه السلطان أو غيره ظلما، فبذل لمن يتكلم في خلاصه بجاهه أو غيره هل يجوز أم لا؟ فأجاب: نعم يجوز، صرح به جماعة منهم القاضي حسين ونقله عن القفال. اه.
ذكر في حاشيته التفصيل في الأخذ على الجاه التحريم مطلقا، والكراهة مطلقا، والتفصيل إن كان محتاجا إلى نفقة وتعب سفر وأخذ مثل أجر مثله فلا بأس وإلا حرام.
عند الأحناف [13] :(21/399)
في فتح القدير شرح الهداية قسم الرشوة أربعة أقسام: الثالث منها أخذ المال ليسوي أمره عند السلطان دفعا للضرر أو جلبا للنفع، وهو حرام على الآخذ لا الدافع، وحيلة حلها أن يستأجره يوما إلى الليل أو يومين فتصير منافعه مملوكة، ثم يستعمله في الذهاب إلى السلطان للأمر الفلاني.
وفي الأقضية: قسم الهدية وجعل هذا من أقسامها، فقال: حلال من الجانبين كالإهداء للتودد، وحرام من الجانبين كالإهداء ليعينه على الظلم، حلال من جانب المهدي حرام على الآخذ، وهو أن يهدي ليكف عن الظلم، والحيلة أن يستأجره.. الخ.
ونبه على أن هذا إذا كان فيه شرط بينهما، أما إذا كان الإهداء بلا شرط ولكن يعلم يقينا أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان؛ فمشى بحثا على أنه لا بأس به، ولو قضى حاجة بلا شرط ولا طمع فأهدي إليه بعد ذلك فهو حلال لا بأس به.
الرابع: ما يدفع لدفع الخوف من المدفوع إليه على نفسه وماله حلال للدافع حرام على الآخذ؛ لأن دفع الضرر عن المسلم واجب، ولا يجوز أخذ المال ليفعل الواجب اه.
وعند ابن تيمية رحمه الله في المجموع - أي مجموع الفتاوى - في موضعين الأول منهما ج 29 ص 258 أثناء الجواب على المطعومات التي تؤخذ عليها المكس ومحتكرة هل يحرم شراؤها؟.
وبعد تفصيل طويل قال: ألا ترى أن المدلس والغاش ونحوهما إذا باعوا غيرهم شيئا مدلسا لم يكن المشترى حراما على المشتري لأنه أخذ منه أكثر مما يجب عليه، وإن كانت الزيادة التي أخذها الغاش حراما عليه، وأمثال هذا كثير في الشريعة.(21/400)
ثم قال مبينا قاعدة فقهية بقوله: فإن التحريم في حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت في الجانب الآخر، كما لو اشترى الرجل ملكه المغصوب من الغاصب، فإن البائع يحرم عليه أخذ الثمن والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه، ولا بذل ما بذله من الثمن، ثم حكى أقوال العلماء في خصوص الرشوة، فقال: ولهذا قال العلماء: يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحق وإرشاده حرام فيهما. يعني في الأمرين الذين هما دفع الظلم أو منع الحق.
ثم قال: وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه، ومثل كذلك بالزوجة يطلقها زوجها فينكر طلاقها، فكل منهما يفتدي نفسه بالمال ليحق حقا وهو العتق والطلاق، ومعلوم أنهما حق لله تعالى وإلا بقيت الزوجة على غير عصمة.
ولذا تجد الفقهاء في مثل ذلك قالوا: لا تمكنه من نفسها باختيارها لتكون في حكم المغصوبة.
واستدل رحمه الله في هذا المبحث بالأثر عنه صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي أحدهم العطية، فيخرج بها يتلظاها نارا! "، قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله له البخل".
وقوله: ومن ذلك قوله: (ما رقى به المرء عرضه فهو صدقة) ، فلو أعطى الرجل شاعرا أو غير شاعر لئلا يكذب عليه بهجو أو غيره كان بذله بذلك جائزا، وكان آخذ ذلك لئلا يظلمه حرام.
وساق كلاما طويلا في ذلك المقام.
الموضوع الثاني: في مجموع الفتاوى ج 31 ص 285 في جواب عن سؤال في هدايا الأمراء لطلب حاجة أو التقرب منهم.. الخ.
فبدأ جوابه بحديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجة، قال: "من شفع حبة الشفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا".
وساق تحريم الرشوة ثم قال: فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه.(21/401)
وذكر الأثر الأول في إعطائه صلى الله عليه وسلم عن ملح في مسألة المتقدم إبداءه، وذكر أيضا موضوع العتق والطلاق من أسر خيرا وكان ظالما للناس فأعطوه جاز للمعطي حرام على الآخذ، وساق كلاما طويلا في هذا المعنى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو حيان.
[2] المجموع ج 28 ص 304
[3] ج 11 ص 212.
[4] ج11 ص212.
[5] ج 10 ص 139.
[6] مخطوطة النابلسي ص 150.
[7] ج4 ص565
[8] ج 6 ص 80.
[9] ج 8 ص 288.
[10] ج 3 ص 219.
[11] ج 9 ص 277- 278.
[12] ج 3 ص 294.
[13] شرح النهاية ج 5 ص 455، فتح القدير.(21/402)
أكذوبة شعب الله المختار
بقلم الأستاذ معالي عبد الحميد حمودة
عضو جمعية الأدباء بالقاهرة
من فضائل الحياة القويمة التي يزرعها الدين في سلوك الإنسان أنه ينهاه عن الكذب أيا كانت الأحوال، والكذب - كما نعرف - شيء من نقائص البشرية الخطيرة التي تلحق بصاحبها الضرر، وبالمجتمع كذلك.
ولقد أنزلت الكتب السماوية من عند الله تعالى إلى أنبيائه - عليهم جميعا الصلاة والسلام - بقصد الأمر بعبادة الله تعالى والحث على الخلق القويم وإتيانه، والتزام الصدق في كل أحوال الحياة؛ باعتبار أن الصدق فضيلة من أعظم الفضائل، وأن الكذب نقيصة كبيرة من أعظم النقائص إن لم تكن أعظمها.
وقد كان النهي عن الكذب مدونا في التوراة - الأصلية وليست المتداولة المحرفة - وكذا كان النهي عن الكذب موجودا في إنجيل عيسى عليه السلام – وليس الأناجيل المتداولة المحرفة – ثم في القرآن المجيد كتاب الله تعالى الذي تولى حفظه من النسخ والتحريف والتبديل والتزييف والإضافة والتعديل.
إلا أن العصر الحديث شهد - وعلى فترات كثيرة - أكاذيب لا يستطيع المرء منا أن يتركها دون أن يتحدث عنها، مفندا لها، كاشفا لزيفها، ومن أشهر أكاذيب القرن العشرين أن اليهود يقولون عن أنفسهم إنهم شعب الله المختار.
وقبل أن نكشف أفعال شعب الله المختار هذا، يحسن بنا أن نتعرف على معنى عبارة (شعب الله المختار) والظروف التي دفعت إلى ترديد هذه الأكذوبة.
إن المعنى الخاص والعام الذي يترسب في الأذهان أن شعب الله المختار على الأقل تكون أوصافه:
1- شعب ارتبط بالله عز وجل؛ ومن ثم فيكون أعظم الشعوب.
2- أنه تم اختيار هذا الشعب دون الشعوب والأمم كلها لامتيازات خاصة.
3- أنه ترتيبا على ما سبق؛ فإن تفضيل الشعب المختار كان على الأجناس الماضية والحالية واللاحقة.(21/403)
4- أنه جماع لهذا كله يكون الشعب المختار شعبا عظيما.. له كيان له شريعة.. له خلق قويم.. له حضارة.. عنده كتاب مقدس يحيا به..عنده أوامر ونواه من الله، وأن يكون لهذا الشعب تاريخ نظيف في تعامله مع السماء.
هذه هي التعريفات المحددة للشعب المختار.
وننظر - ونحن نفند أكاذيب اليهود - هل هذه الأشياء تنطبق على اليهود أم لا؟
مصادر أكذوبة شعب الله المختار:
يعتمد اليهود في ترويج الأكذوبة الفاضحة من أنهم شعب الله المختار على عدة نصوص في التوراة المتداولة المحرفة، من المفيد أن نتعرف على تلك النصوص مع توضيح أن البحث العلمي والتاريخي أثبت أن التوراة الموجودة حاليا لا علاقة لها مطلقا بالتوراة الأصلية التي أنزلها الله رب العالمين على موسى بن عمران عليه السلام.
يزعم اليهود أن الله تعالى ميّزهم عن الناس طبقا لما تقوله نصوص التوراة المتداولة المحرفة:
(أنا الرب إلهكم الذي ميزكم عن الشعوب؛ تكونون لي قديسين لأني قدوس، أنا الرب وقد ميزتكم عن الشعوب لتكونوا لي) . لاويون 20: 24- 26.
(إنك يا إسرائيل شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق بكم الرب واختاركم، ولا لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم) . التثنية 7: 6- 8.
ويؤخذ من النص الأخير أن السبب الرئيسي لجعل اليهود - كما يزعمون - شعب الله المختار هو محبة الله لهم، وسوف نناقش هذه المحبة المزعومة بعد أن نستكمل توضيحا للمصادر التي منحتهم لقب (شعب الله المختار) .
المصدر الثاني الذي يرتكز إليه اليهود هو نصوص التلمود.(21/404)
والتلمود - كما سبق وعرفه العلم الحديث - ما هو إلا مجرد كتاب إرهابي وضعه زعماء اليهود القدامى العنصريين، واتخذوه أكثر من الكتاب الديني الذي يدينون به، بل إنه جاء في التلمود أنه من يستمع للتوراة دون التلمود فلا إله له ...
ففي التلمود نقرأ:
(الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة..) .
(اليهودي جزء من الله) - تعالى عما يقولون -.
(الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهودي وغير اليهودي) .
(الشعب المختار هو اليهود فقط، أما باقي الشعوب فهم حيوانات) .
هذا ما ذكرته مصادرهم التي يطلق عليها التوراة والنصوص التي نقلنا بعضا منها من كتاب التلمود ...
بيد أن المأساة تكمن في بعض العبارات الاصطلاحية التي ذكرها بعض اليهود للتعبير عن سبب اختيار الله لهم - كما زعموا - ليكونوا شعب الله المختار.. وتلك العبارات تبعث على السخرية والمرارة؛ فالباحث (آرثر هيرزبيرج) يقرر أنه في سيناء عندما تجلى الله لموسى ولبني إسرائيل تم زواج بين الله وإسرائيل.. وسجل عقد الزواج بينهما، وكانت السموات والأرض شهودا لهذا الزواج ...
وفيما يلي نص كلمات الكفر للباحث اليهودي كما وردت في كتابه:
Judaism: Ed. by: Arthur Hertzberg:
(there are number of exambles in jewish literature of a marriage contract between God and Israel. With Heaven and Earth as Witnesses)
تلك تقريبا كل النصوص التي يستند إليها اليهود في مزاعمهم التي يقولون عنها أنهم شعب الله المختار.(21/405)
ولنناقش هذه النصوص وغيرها لنصل إلى أنهم حقا لا صلة لهم بالله عز وجل؛ فهم لا يعترفون بأي قيم أو مبادئ أو خلق.. وليس لهم حضارة ولا تاريخ مجيد مشرف.. فتأثير اليهود في الحضارة كما قال الأستاذ جوستاف لوبون في كتابه (اليهود في الحضارات الأولى) صفر، وأن اليهود لم يستحقوا بأي وجه من الوجوه - كما قال المؤرخ العالمي - أن يعدوا من الأمم المتمدنة.
فعن نصوص التوراة أثبت الباحث العلمي والتاريخي - خاصة بحوث دائرة المعارف البريطانية، ودائرة المعارف الفرنسية الكبرى - لاروس - أن التوراة الحالية المتداولة لا علاقة ولا ارتباط بينها وبين التوراة التي أنزلها الله عزّ وجل على نبيه موسى عليه السلام.
ومن ثم فإن أول الأسس التي ارتكز إليها اليهود أساس منهار لا قائمة له فلا يؤخذ به مطلقا.
وعن المصدر الثاني - وهو التلمود - فمفهوم أن التلمود كتاب إرهابي وضعه بعض الزعماء من بني إسرائيل القدامى، وضمنوه تعليمات وأوامر بهدف السيطرة على عقول اليهود وغير اليهود، ذلك التلمود وضع هؤلاء الزعماء، ومن ثم فهم أحرار في أن يكتبوا فيه ما يريدون، ولكن ليس من حقهم فرض صحة هذا الكتاب على العالم؛ لأن التلمود كتاب مزعوم مزيف، كما لم يثبت عن موسى عليه السلام مطلقا أنه أوحي إليه التلمود، كما أن التلمود يحوي من المخالفات والفواحش مالا يقبله عاقل، ومن ثم وجب إسقاطه تماما من الاعتبار عند الفحص والتقييم.
أما المصدر الثالث فهو عبارات ذلك المخبول المدعو (آرثر هيرزبيرج) الذي زعم - عليه اللعنة - أن زواجا تم بين الله - تعالى عما يقولون - وإسرائيل في صحراء سيناء، فقول ذلك المخبول الساقط لهو الكفر والإلحاد والزندقة الذي نطق به أحد أبناء (شعب الله المختار) .
أين إذن المصادر الشرعية التي تثبت أن بني إسرائيل.. هم شعب الله المختار؟(21/406)
ثم لنا أن نتساءل بكل الوضوح: أين تاريخ هذا الشعب؟ وما هو أصله ونسبه وهويته؟ وأين ديانته؟ وماذا فعلوا بالتوراة الحقيقية التي أنزلها الله عز وجل عليهم؟ وأين هي الشريعة اليهودية الحقيقية؟ وأين مجد اليهود وأين حاضرهم وماضيهم؟؟
إن المستقرئ للقرآن العظيم يجد أخبارهم كلها منذ بدء ظهورهم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.. ومن ذلك الاستقراء يتضح أنه ما من لحظة واحدة في تاريخهم يستحقون أن يلتفت الله لهم أو يعنى بهم.. فماضيهم معروف، وحاضرهم ليس أقل سوءا من ماضيهم، أما مستقبلهم - ولو أنه في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله - فإن الله لعنهم لعنا دائما إلى يوم القيامة.
أوَ نصدق أنهم شعب الله المختار وهذا حزقيال في التوراة المتداولة يذكر ظهور الشعب اليهودي وأوائله؛ فيقول مخاطبا تلك الأمة العاقة قائلا باسم الإله: (ومن جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكرني أيام صباك.. فلذلك أقضي عليك بما يقتضي على الفاسقات وسافكات الدماء) ؟.
أوَ نقول عنهم إنهم شعب الله المختار ونحن نقرأ في الإنجيل المتداول ما نسب للسيد المسيح عليه السلام: (لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) ؟.
أوَ نقول عنهم إنهم شعب الله المختار وهم سبّوا الأنبياء جميعا سبا لم يحدث من قبل، فهم في توراتهم المتداولة التي كتبوها ألصقوا بالأنبياء الفاحشة كما يلي:
- في سفر التكوين الباب 9 من 18/25 قرأنا أن نوحا عليه السلام شرب الخمر ثم سكر، ثم تجرد من ملابسه وأصبح عاريا وبدت عورته لأحد أبنائه.
- في الباب الثاني عشر من سفر التكوين من 11/13 أن الخليل نبي الله سيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قيل عنه إنه كذب.
- وفي سفر التكوين الباب التاسع عشر من 30/38 قيل عن النبي الجليل سيدنا لوط - عليه السلام - إنه زنى بابنتيه وإن ابنتيه اتفقتا على تقديم الخمر لوالدهما وزنى بعد شربه الخمر بهما.(21/407)
- وفي سفر الخروج الباب الثاني والثلاثين من 1/6 جاء أن هارون عليه السلام دعا بني إسرائيل إلى عبادة العجل.
- وفي الباب الثاني والثلاثين من السفر السابق أوصاف لا تليق بالنبي الجليل هارون عليه السلام
- وفي الباب الحادي والعشرين من سفر صموئيل الأول أن داود كذب كذبا كبيرا، كما قيل إنه أرسل رجلا يدعى (أوريا الحثى) إلى القتال كي يتمكن داود من الزنا بزوجته، وأنه زنى بها كما تقول كتبهم المقدسة.
- وفي الباب الحادي عشر من سفر الملوك أن سليمان النبي الجليل عليه السلام ارتد في سنوات عمره وأصبح كافرا..
فضلا عن ذلك فقد ألصقوا بالله العلي الأكبر صفات لا تليق أن تلصق بالذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا سبحانه ليس كمثله شيء.. قالوا - عليهم اللعنة المتتابعة إلى يوم القيامة - عن الله سبحانه وتعالى:
(لبس الله خوذة الخلاص على رأسه) أشعياء 59/ 17.
(شعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار) أرميا 7/9.
(لباسه أبيض كالثلج) أرميا 7/ 9.
(صعد دخان من أنفه ونار في فمه) مزامير مزمور 18/ 9.
هذا بعض صفات النقص التي يلصقونها بالله تعالى.
ثم قالوا عنه سبحانه بأنه يحل في الأماكن - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - فزعموا عنه أنه قال:
(أسكنُ في وسط بني إسرائيل، وأكون لهم إلها) . الخروج 29/ 45.
(..لأني ساكن في وسطهم) العدد 5/ 1- 3.
ووصفوا الله تعالى بنقص العلم - لعنة الله عليهم - كما جاء في سفر الخروج 12/7- 14.
ووصفوه تعالى بأنه ضعيف القدرة كما جاء في سفر التكوين 2/1- 4..
ووصفوه تعالى بأنه يخطئ، كما جاء في سفر صموئيل الأول 15/10.
ووصفوه - جلت قدرته - بأنه متعطش للدماء، كما جاء في سفر اللاويين بأكمله..(21/408)
أيعقل أن نصدق أن هؤلاء شعب الله المختار، وهم يكذبون ويسبون الله عزّ وجل في تلمودهم - الكتاب الإرهابي - فهم يقولون على الله تعالى إضافة إلى ما سبق عن الله عز وجل:
- إنه يلعب مع الحوت ملك الأسماك..
- إنه يغضب ويكذب..
- إنه يسمح لليهود بالتعامل بالربا..
- إنه يحنث في يمينه..
- إن القمر ينسب الخطأ إلى الله تعالى..
أوَ نقول عنهم إنهم شعب الله المختار وهم جبناء أشد من الجبن نفسه.. فنقرأ مثلا في سفر الملوك:
(ولما سار جدعون إلى المدينيين خاطب جنوده بقوله: من كان خائفا مرتعدا فليرجع وينصرف؛ فتركه من هؤلاء اثنان وعشرون ألفا من اثنين وثلاثين ألفا؛ ليعودوا إلى منازلهم) .
أوَ نقول عنهم إنهم شعب الله المختار، والتوراة توضح وحشيتهم وسفكهم الدماء، ففي سفر يشوع بعد الاستيلاء على أريحا نقرأ:
(أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس؛ فإنهم جعلوها في خزانة الرب) .
أوَ نقول عنهم إنهم شعب الله المختار وهم يزعمون - قاتلهم الله - أن يعقوب قام بمصارعة الله، ثم كاد الله تعالى أن ينهزم.. في مكان يسمى (فنئويل) لولا أن الرب أخبره عن شخصيته..
أَو نقول عنهم إنهم شعب الله المختار وهم يزعمون كذبا أن الله تعالى قال لهم:
(إذا ما دخلت مدينة لم يفتك بها أن تقتل سكانها بحد السيف، وأن تستأصلهم، وأن تبيد كل ما يكون في المدينة، وأن تذبح حتى بهائمها) .
وبعد..
فهذا شعب الله المختار.. الذي اخترع أكذوبة قائلا إنه شعب الله المختار، ثم ظل يردد الأكذوبة حتى خيل له أنها حقيقة..
إن اليهود لن يكونوا أبدا شعبا.. إن هذا القول مبني على وعود وتصريحات إلهية، ووعد الله لا يخلف..(21/409)
وهم فسقة فجرة كذبة.. والكذبة لا مجال لهم في الحياة.. تلك الحياة التي تلفظ من يكذب ويغدر ويفجر ويقتل ويسفك الدماء ويستولي على حقوق الغير؛ محاولا أن ينشئ له تاريخا..
والتاريخ نفسه لفظهم ومجهم.. أفي التاريخ شيء ولو عبارة واحدة تشير إلى أنهم كانوا على عدل وخلق قويم يوما ما..
قال تعالى:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .(21/410)
المعجزات والغيبيات بين بصائر التنزيل ودياجير الإنكار والتأويل
لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامه
الأستاذ المساعد بكلية الحديث النبوي الشريف والدراسات الإسلامية
الحمد لله الذي له الخلق والأمر وقوله الفصل، وله الدين واصبا.. والصلاة والسلام على من تمت به النبوة، وختمت به الرسالة، وقامت بدعوته صروح الهداية، وعلى آله الأبرار المطهرين، وعلى صحبه الأخيار المكرمين، وعلى من اهتدى واقتفى، واقتدى واتقى. أما بعد:
فإن للحق سبيلا واضحة المعالم، متلألئة المنائر، لا يزيغ سالكها، ولا يضل طالبها، وإن للباطل فجاجا هي المتاهات الشاردة، والعثرات الجائرة، من سلكها تلجلج في حيرة وشقاء، ومن طلبها ضل في غواية دهياء؛ {وَمَنْ لمْ يَجْعَلِ اللهُ لهُ نُوراً فَمَا لهُ مِنْ نُورٍ} (40: النور) .
ولقد كان للناس من المعجزات والغيبيات مواقف:
- فمنهم من اتخذ (الإنكار) سبيلا، فكان جحوده: مهيعا وبيلا، وجعل التكذيب له رزقا، وارتفق العناد دربا؛ فساء مرتفقا، وهؤلاء وأسلافهم وأخلافهم، هم من الذين قال فيهم أحكم القائلين: {بَل كَذَّبُوا بِمَا لمْ يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (29: يونس) .
وزعم أن إنكاره ينهض على دعامتين من العلم التجريبي، والعقل المادي، والحق الناصع: أنّ تكذيبه ينهض على ساقين كسيحتين من شطط الغرور، وخبل الأوهام، والعلم التجريبي شاهد عدل على كذب دعواه، والعقل البصير يجانبه ويجافيه.(21/411)
وفي كل يوم نرى من جديد البحث العلمي التجريبي: ما يقوم آية ناطقة وحجة شاهدة على عجائب الصنع الرباني، وبدائع الإعجاز الإلهي، وهذه الكشوف تفسير بليغ، وتوضيح فصيح، لقول رب العزة والجلال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53: فصلت) ، ولقوله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (20، 21: الذاريات) .
- وفريق وقف من (المعجزات والغيبيات) موقفا يتذبذب بين الإيمان والجحود، فهو يؤمن ببعضها، ويكذب ببعض، فاتبع في إيمانه غير سبيل المؤمنين وهو إلى المكذبين أقرب، ومن المنافقين أكثر دنوا، ومن هذا الفريق بعض أهل التفلسف، والذين زعموا أن في القرآن أخبارا لم تكن واقعا ملموسا في يوم من أيام هذه الدنيا، بل توقح منهم من زعم أن في القرآن (أساطير فنية) ، وأنها لا تمس قدسيته، وإذا كان هؤلاء من عبيد الشهوة، فإن نقل هذيانهم إلى من لم يسمع بهم قد يبعث من (قبر الخمول) جيفا أحرى بها أن تظل في أجداثها مع البلى والدثور، وهؤلاء لا يؤمنون حتى يصدقوا موقنين بكل خبر جاء عن الله، أو صح عن إمام المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
فالفريق الأول يتمثل في الماديين الذين يعبدون أوهاما يسمونها بغير اسمها، ويصفونها بغير صفتها.
والفريق الثاني يتمثل في أفراخ (الاستشراق) وعبيد (الاستغراب) وصبيان (التضليل) الذي يسمونه (تبشيرا) .
- وفريق ثالث وقف من المعجزات موقف التأويل، والتأويل أنواع وأشكال؛ فمنه ما يمت إلى الحقيقة بسبيل، ومنه ما ينتمي إلى التلبيس والتضليل.. ولأن هذا الفريق الثالث هو - إن شاء الله - من (أهل القبلة) انصرفت هذه الصفحات إلى نقاشه، نقاشا يعتمد على أمانة النقل عنه، وينهض على بيان الحجة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.(21/412)
والمحظور عند كاتب هذه السطور هو القول على الله بغير علم، والاحتكام إلى أقوال الرجال، والمحذور هو المسارعة إلى تكفير الناس بغير سلطان، أو تفسيقهم بغير برهان، والحكم الفصل في الأمور كلها لله وحده، ومن الرسول عليه الصلاة والسلام البلاغ والبيان، وعلينا حسن الاستماع، وتمام الانقياد لله، والاتباع لرسوله.
وأما تزكية العباد فإلى الله وحده، ونعوذ بالله أن نكون ممن قال عنهم: {أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (49: النساء) .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يشاء، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
ولنبدأ سويا السير على دروب الدرس المستأني، سائلين الله أن يجنبنا عثرة الرأي، وسوء القصد، إنه على ما يشاء قدير.
تأويل المعجزات والغيبيات:
قبل أن نتحدث عن وقائع التأويل في هذه القضية، نبدأ فنعرف بما تدل عليه ألفاظها:
فالغيب لغة: كما قال ابن فارس [1] : "الغين والياء والباء: أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس؛ من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده، وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال الله تعالى على لسان قائل من إخوة يوسف في قصة يوسف عليه السلام: {وَأَلقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبّ..} (10: يوسف) ، والغابة: الأجمة، والجمع: غابات وغاب، وسميت غابة لأنه يغاب فيها، والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة.
والغيب شرعا: هو ما سوى الشهادة، والخلق كله منقسم إلى عالمين، عالم غيبي مستور، وعالم مشهود محس.(21/413)
والغيب منه ما هو مطلق، ومنه ما هو نسبي، ومنه ما مضى، ومنه ما لم يقع بعد، ولكنه سيقع في الدنيا، ومنه ما هو من أمر الآخرة، ولهذا وصف الله جل ذكره نفسه بأنه {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} (9: الرعد) ؛ فالإيمان بالله: إيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة بالنسبة لعامة الناس: إيمان بالغيب، وبالنسبة للأنبياء والمرسلين الذين شاهدوا جبريل عليه السلام، وشاهدوا غيره من الملائكة، إيمان بالشهادة، ويقاس على الأنبياء في هذا من ورد به النص: كمريم عليها السلام، حين رأت جبريل، وتمثل لها بشرا سويا، والإيمان بالمعجزات بالنسبة لمن شاهدوها: إيمان بشيء شاهدوه، وبالنسبة لغيرهم: إيمان بالغيب، والإيمان بالجن، والجنة، والنار، والميزان، والحور العين، والولدان المخلدين، وبالخَزَنة، والزبانية، وحملة العرش، وأنواع النعيم الأخروي، وصنوف العذاب في جهنم؛ كل هذا من الإيمان بالغيب.(21/414)
وأخبار الرسل مع أقوامهم هي لمن بعدهم من أحاديث الغيب، كما قال جل ذكره خطابا للنبي صلى الله عيه وسلم بعد ما قص عليه من أنباء نوح عليه السلام: {تِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِليْكَ مَا كُنْتَ تَعْلمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ} (49: هود) ، وبعد ما قص عليه ربنا سبحانه من أنباء الكليم عليه السلام قال له: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (44: القصص) ، وبعد ما قص عليه من أنباء الطاهرة مريم عليها السلام قال له: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِليْكَ وَمَا كُنْتَ لدَيْهِمْ إِذْ يُلقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (44: آل عمران) ، فكل هذه الأحداث سماها القرآن غيبا؛ إذ هي كذلك بعد انقضاء الأعوام علة وقوعهان وزوال الأعيان.
والمعجزات لغة: مشتقة من الإعجاز تقول: أعجزت فلانا وعجَّزته وعاجزته إعجازا، أي: جعلته عاجزا، والإعجاز: الفوت والسبق.
وعرفت اصطلاحا بأنها [2] : بأنها أمر خارق للعادة يؤيد الله بها أنبياءه لإظهار صدقهم، وتكون كما لو قال تعالى: "صدق عبدي فيما بلغ عني"، ولا يشترط أن تكون استجابة لتحدي المعاندين.
وقد وردت مشتقات للكلمة في القرآن الكريم، نذكر منها بعض ما يقارب وجهتنا.
فمن ذلك قوله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} (12: الجن) ، والمعنى: أن مؤمني الجن استيقنوا أنهم لا يستطيعون الإفلات من قدرة الله وحسابه.
ومنها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (44: فاطر) .(21/415)
ومنها قوله عز من قائل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} (59: الأنفال) .
وقوله سبحانه: {وَالذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} (51: الحج) .
وقوله: {وَالذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ} (38: سبأ) .
وقوله سبحانه وتعالى خطابا للمشركين متوعدا لهم: {وَإِنْ تَوَليْتُمْ فَاعْلمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3: التوبة) .
فهذه الآيات يتضافر معناها لبيان حقيقة القدرة الإلهية، وعجز المحاولات البشرية.
وأما لفظة (المعجزة) بمعنى الأمر الخارق للعادة: فلم ترد في كتاب الله، وإنما وردت لفظة (الآية) أو (الآيات) لتدل على هذا المعنى، كما في قوله جل ذكره: {سَل بَنِي إِسْرائيل كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (211: البقرة) ، وقوله تعالى: {وَقَال الذِينَ لا يَعْلمُونَ لوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} (118: البقرة) ، وقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِل بِالآياتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلا تَخْوِيفاً} (59: الإسراء) .
فالمعجزة إذا: أمر خارق للعادة، يؤيد الله بها أنبياءه ورسله؛ ليقيموا بها الحجة الغالبة المعجزة لأقوامهم، وقد سبق تعريفها.
الإغارة على المعجزات والغيبيات:
ولما كانت الغيبيات والمعجزات أمورا لا تقع غالبا تحت الحس، ولا تخضع لمألوف العقل البشري، ولا تجري على السنن المعتادة، أقدم نفر ممن جعلوا عقولهم آلهتهم على إنكارها، وحاول آخرون تأويلها، وهاكم شذرات من تفاصيلها:
الرازي الطبيب وإنكار المعجزات:(21/416)
من أقدم المحاولات التي وصلنا منكَر أخبارها في جحد المعجزات هذه المحاولة التي قام بها أبو بكر الرازي حوالي عام 300هـ؛ فألف كتابا سماه: (مخاريق الأنبياء) ، وقد وصفه المطهر المقدسي [3] بأنه: "المفسد للقلب، المذهب للدين، الهادم للمروءة، المورث البغض للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم"ويفهم من عبارات المطهر أنه قرأ الكتاب، ولكنه لم يبح لنفسه أن ينقل شيئا من كفرياته وأكاذيبه.
صور من تأويلات منكري المعجزات:
قال [4] المطهر المقدسي وهو يؤرخ لظهور هذه التأويلات: "وأنكر قوم العجائب رأسا، وصرفها إلى تأويل منحول".
ومن هذه التأويلات ما يلي:
أولا: تأويلات حول عمر سيدنا نوح وسفينته:
هال الماديين القدامى - الذين يسمون أنفسهم بالعقليين - خبر القرآن عن عمر سيدنا نوح عليه السلام في قوله تعالى: {وَلقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلبِثَ فِيهِمْ أَلفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت: 14) .
فاستبعدوا أن يعيش واحد من خلق الله هذه السنين وأن يعمر قرونا، فتأولوا [5] ذلك بأن لبثه ليس مدة حياته، وإنما هذا العمر هو عمر شريعته ومدة بقائها، وقالوا [6] عن السفينة إنها ليست فُلكا وإنما هي (رمز للدين الذي جاء به) .(21/417)
ولو أنهم قالوا إن هذه السفينة كانت مركب النجاة للمؤمنين، لصدقوا، ولكن هذا التأويل السابق إهدار للغة، ومسخ لدلالات الألفاظ، وتكذيب لآيات أخرى من القرآن، ورد فيها النص الصريح عن هذه السفينة كقوله تعالى: {وَحَمَلنَاهُ عَلى ذَاتِ أَلوَاحٍ وَدُسُر، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (13- 14، القمر) ، ففي هذا النص الكريم ذكر الله المواد التي صنعت منها السفينة، كما ذكر سبحانه أمره العلوي لنوح عليه السلام بصناعتها في قوله: {وَاصْنَعِ الفُلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الذِينَ ظَلمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الفُلكَ وَكُلمَا مَرَّ عَليْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَال إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (37، 38: هود) .
وهكذا ترى أن المؤول إن ركب متن الشطط في تأويل آية، أحاطت به آيات أخر، فلا يستطيع لها صرفا ولا تأويلا.
ثانيا: تأويل غرقى الطوفان:
وجمحت بأولئك الحسيين عقولهم؛ فتساءلوا كيف يهلك الله في الطوفان الأطفال، وهم غير مكلفين؟ وأدى بهم هذا الجموح إلى افتراض لا علم لهم به ولا برهان، وهذا الافتراض جعلوه خبرا كأنه قد وقع؛ فقالوا: "إن الله قد عقم النساء خمسة عشر عاما قبل الطوفان فلم تلد منهن واحدة، وبذلك لم يهلك في الطوفان إلا بالغ مكلف، جاوز عمره خمسة عشر عاما".
وغاب عن هؤلاء ما ذكره رب العزة على لسان نوح عليه السلام: {وَقَال نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} (26، 27: نوح) .
ثالثا: تأويل ناقة صالح عليه السلام بأنها رمز:(21/418)
وتأويل ما ورد في القرآن عن ناقة [7] صالح عليه السلام كقوله سبحانه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (73: الأعراف) ، فقالوا: هي رمز لحجة دامغة وسلطان قاهر، أذعن له القوم، وتأولوا ما ورد في القرآن عن شربها [8] في قوله تعالى: {قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [9] (155: الشعراء) ، بأن معنى هذا الشرب هو أن هذه الحجة قد أبطلت جميع ما خالفها.
وتغافلوا عن وصف القرآن لها بأنها {تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ} (73: الأعراف) وقوله: {لهَا شِرْبٌ} (155: الشعراء) ، وأنهم عقروها {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} (14: الشمس) ، وكل هذا ينقض دعواهم.
رابعا: تأويل الهدهد بأنه رجل وليس طائرا:
وقرأوا ما ذكره الله في كتابه عن هدهد سليمان في قوله سبحانه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ} (20: النمل) ، واستبعدوا كيف يتكلم هذا الهدهد؟ وكيف يقول لسليمان عليه السلام كما ذكر الله سبحانه: {أَحَطْتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} (22: النمل) فقالوا: إن الهدهد رمز لرجل، أو أنه اسم لجندي من جنود سليمان عليه السلام، كانت مهمته أن يجمع له المعلومات.
ولو أن هؤلاء فهموا ما يدل عليه قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ، وقوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} (16: النمل) وكانت لهم عقول يعلمون بها أن الهدهد طائر من هذا الطير لما قالوا بهذا، ولقد كان الطير جنودا لسليمان كما قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (17: النمل)(21/419)
وقد ذكر الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره [10] مطاعن الملاحدة في قصة الهدهد فأطال في ذكرها، وأوجز في نقضها، ولست أرى ما يدعو إلى ذكرها.
خامسا: تأويل النمل بأنهم قوم ضعاف:
وحامت في نفوسهم وساوس الريب حول قول الله جل ذكره: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ النَّمْلِ قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (18: النمل) ؛ إذ كيف تتكلم نملة؟ وكيف يبتسم سليمان عليه السلام ضاحكا من قولها؟ فعمدوا إلى أوهام التأويل يفهمون النص الكريم من خلالها؛ فقالوا: إن النمل ليس هو الحشرة التي نعرفها، وإنما هم قوم ضعاف.
وجاء مؤول [11] آخر في القرن العشرين فقال: (إن المراد بوادي النمل: الوادي الكثير الناس، كأنهم النمل في كثرتهم) .
وقد رد عليه الشيخ النجار [12] بقوله: "وليس ما قاله بشيء؛ لأنه ينافيه قولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ؛ إذ كيف لا يشعر جند سليمان بالناس وخاصة إذا كانوا كثيرين كالنمل".
ونضيف نحن إلى قول الشيخ النجار فلنسلم بوجود مكان من الأرض اسمه وادي النمل؛ فهذا احتمال عقلي، ولكن ماذا نفعل في قوله تعالى: {قَالتْ نَمْلةٌ} وقولها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} ؟ فهل يمكن لغة أن يكون الناس هم النمل؟ وماذا يقول المؤول في قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} ؟ والضمير عائد عليها.
وقد عقد الأديب العربي المعتزلي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فصلا في كتابه (الحيوان) [13] عن النمل ذكر فيه من طبائع هذه الحشرة ما يدل على أنها آية من آيات الله، فكان مما قال:(21/420)
وقد يبلغ من تفقدها وحسن خبرها، والنظر في عواقب أمورها، أنها تخاف على ما ادخرته من الحبوب في الصيف للشتاء أن تعفن أو تسوس؛ فتخرجها إلى ظهر الأرض لتيبسها، وتعيد إليها جفافها وليضربها النسيم وينفي عنها الفساد، وإن خافت أن تنبت، نقرت موضع القطمير من وسط الحبة، وتعلم أنها من ذلك الموضع تنبت.. وتفلق حب الكسبرة أرباعا لأن أنصافه تنبت.
ثم تحدَّث عن ما لها من الهمة والجراءة على نقل شيء يزيد وزنه أو حجمه على حجمها مائة مرة، وتحدث عن التعاون في مجتمع النمل، وكيف تدل النملة صويحباتها على مكان الطعام فيتبعنها كالرائد الذي لا يكذب أهله.
ثم قال: ومن العجب أن تفكر أنها توحي إلى أختها بشيء.
والقرآن قد نطق بما هو أكثر من ذلك أضعافا.. فقد أخبر القرآن بأنها قد عرفت سليمان، وأثبتت عينه [14] ، وأنه عليه السلام علم منطقها، وأنها أمرت صويحباتها بما هو أحزم وأسلم، ثم أخبر أنها تعرف الجنود من غير الجنود، وقد قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، ثم بين أن كلام النمل قول ومنطق، وأنها تفصل بين المعاني التي هي بسبيلها.
إلى أن يقول: "وإن من دخلت عليه الشبه من هذا المكان لناقص الروية رديُّ الفكرة".
ونقل الجاحظ عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي قوله عن وادي النمل: كان ذلك الوادي معروفا (بوادي النمل) ؛ فكأنه كان حمى، وكيف تنكر أن يكون حمى، والنمل ربما أجلت قرية [15] من سكانها.
وهذا الذي ذكره الجاحظ نقلا عن (النظام) [16] ليس خيالا ولا تاريخا يتسرب الشك إلى رواياته، وإنما هو واقع رآه بعضنا وسمع به قوم آخرون، فالصحف في مصر وغير مصر تنشر بين حين وآخر أخبار غزوات النمل البيض، وكيف تهلك غزواته الحرث والفرش.
والقرآن الكريم لم يذكر لنا حجم النملة المتكلمة ولا نوعها، وإنما نؤمن بأنها نملة من نوع النمل.(21/421)
وبعد أن ذكرنا ما قاله أحد العلماء المسلمين عن النمل ننقل ما كتبه أحد علماء التاريخ الطبيعي من الغربيين وهو (رويال ديكنسون) في كتابه (شخصية الحشرات) إذ قال [17] : "ولقد ظللت أدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاما، في بقاع مختلفة من العالم؛ فوجدت أن كل شيء يحدث في هذه المدينة في دقة بالغة، وتعاون عجيب، ونظام لا يمكن أن نراه في مدن البشر، لقد راقبته وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة رباها النمل في جوف الأرض حتى فقدت في الظلام بصرها.
لقد زرع النمل 15 مترا مربعا من الأرض بالأرز) .
ثم ذكر الكاتب أنه وجد جماعة من النمل تقوم بحرثها على أحسن ما يقضي به علم الزراعة، فبعضها زرع بالأرز، وجماعة أزالت الأعشاب، وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان.
ولما بلغت عيدان الأرز نموها، وكان يرى صفا من الشغالة تتسلق العيدان وتنزع الحب، وتعود به إلى مخازن تحت الأرض..
وبعد الحصاد هطل المطر أياما، وما أن انقطع حتى قام النمل بإخراج الأرز من المخازن، وتعريضه للشمس؛ ليجف ثم عادوا به من جديد.
وكل هذا يدل على أن النمل عالم عجيب غريب، وهو من بعض آيات الله في خلقه.
وإنما أطلنا القول في هذه المسألة لنبين لأصحاب التأويلات الجانحة أنهم ليسوا على شيء مما يدعون؛ فلا العلم بمؤيد لهم - وإن زعموا أنهم فيه متبحرون - ولا ظهير من الرشاد.
سادسا: تأويل عقاب المسخ:
ومن أمثلة التأويلات التي يتحكم فيها جموح العقل، فيغدو النص القرآني محكوما بضيق التصور، ويصبح مقيدا بقيود (الواقعية المادية المحدودة) و (العقلانية) المزعومة، من هذه الأمثلة تأويل المسخ الذي ضربه الله عقابا على المعتدين من بني إسرائيل تأويلا لا برهان لهم به.
فقد ورد الحديث عن المسخ في أربعة مواضع من القرآن الكريم، هي قوله عز من قائل:(21/422)
1) {وَلقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ} (65، 66: البقرة) .
2) {قُل يَا أَهْل الكِتَابِ هَل تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِل إِليْنَا وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَليْهِ وَجَعَل مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (59، 60: المائدة) .
3) {فَلمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (166: الأعراف) .
4) {وَلوْ نَشَاءُ لمَسَخْنَاهُمْ عَلى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ} (67:يس) .
1-أقدم محاولة لتأويل المسخ:
وأقدم ما وصلنا من الآراء في تأويل المسخ، هذا الرأي الذي قال به المفسر التابعي مجاهد بن جبير وهو [18] : "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وغنما هو مثل ضربه الله لهم كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (5: الجمعة) .
2- رأي الطبري:
نقل شيخ المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري هذا الرأي في تفسيره [19] لسورة البقرة معزوا إلى مجاهد، ووصفه بأنه "قول لظاهر ما يدل عليه كتاب الله مخالف".(21/423)
ثم إن الطبري رحمه الله كرّ على هذا الرأي بما ينقضه، وذكر عقوبات الله لهم فقال: "وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر أنهم قالوا لنبيهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} (153: النساء) ، وأن الله - تعالى ذكره - صعقهم عند مسألتهم ذلك نبيهم، وأنهم عبدوا العجل فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (24: المائدة) فابتلاهم بالتيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخوا قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم؛ من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم، ومن أنكر من ذلك شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان عن قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك - بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد، قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلا على فساد قول إجماعها على تخطئته [20] .اه.
3- رأي الزمخشري:(21/424)
ومع اعتزاليات الزمخشري وولعه بالتأويل؛ فإنه لم ينهج هذا المنهج مع عقوبة المسخ فقال [21] : ( {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصَّغار والطرد، {فَجَعَلنَاهَاا} يعني المسخة {نَكَالاً} عبرة تنكل من اعتبر بها: أي تمنعه، ومنه النِّكل: القيد، {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} لما قبلها، {وَمَا خَلفَهَا} وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها [22] ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، أريدَ بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم [23] ، وقيل: {نَكَالاً} عقوبة منكلة لما بين يديها لأجل ما تقدمها من ذنوبهم، وما تأخر منها، {وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ} للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متق سمعها. اه.
4- رأي الجاحظ:
للجاحظ في موسوعته (الحيوان) استطرادات كثيرة، ولقد تعرض لموضوع المسخ، ومع نزعته الاعتزالية، ودراسته الكلامية؛ فقد كان من المثبتين للمسخ، المحتجين لوقوعه بحجج النقل والعقل، فتكلم عن بعض أسباب المسخ، ولماذا عاقب الله الممسوخين بأن جعلهم قردة وخنازير؟
فقال عن الخنزير [24] : "فأما قبح وجهه فلو أن القبح والغدر والكذب تجسدت ثم تصورت لما زادت على قبح الخنزير، وكل ذلك بعض الأسباب التي مسخ لها الإنسان خنزيرا، وإن القرد لسمج الوجه، قبيح كل شيء، وكفاك أنه للمثل المضروب.. "يعني أن القرد قد ضرب مثلا للقبح.
ثم عاد [25] إلى ذكر مقابح الخنزير؛ فبين أن الخنزير ينزو ذكره على ذكره، وأن الله سبحانه سمى لحمه رجسا وإن كان غير ميتة ولو ذكر الذابح عليه اسم الله، ولوصفه بهذا الوصف (الرجس) يقول الجاحظ: "ولا نعلم لهذا الوصف وجها إلا الذي خص الله به من ذكر المسخ، فأراد تعظيم شأن العقاب، ونزول الغضب، وكان ذلك القول ليس مما يضر الخنزير، وفيه الزجر عن محارمه، والتخويف من مواضع عذابه".(21/425)
ثم ذكر الجاحظ "أن المسخ لا يتناسل ولا يبقى إلا بقدر ما يكون موعظة وعبرة".
ثم تكلم عن إنكار الدهرية للمسخ؛ فقال [26] : "فمنهم من جحد المسخ، وأقر بالخسف والريح والطوفان، وجعل الخسف كالزلازل، وزعم أنه يقر من القذف بما كان من البَرَد الكبار، فأما الحجارة فإنها لا تجيء من جهة السماء.. إلى آخر أضاليل الدهرية..".
وهكذا رأينا قطبين من مدرسة الاعتزال - هما (الزمخشري والجاحظ) - يؤمنان بالمسخ على حقيقته، ولا يتأولانه على غير وجهه.
5- رأي الفخر الرازي:
وأما (الفخر الرازي) فهو وإن لم ينتصر لرأي مجاهد ويجنح إليه، إلا أنه لم يجد في قبوله غضاضة، ويجدر بنا أن نلم برأيه لما له من منهج خاص.
فقد قال [27] : "..قوله {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ليس بأمر لهم؛ لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد سرعة التكوين، كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ} (40: النحل) ، وكقوله: {قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11: فصلت) ، والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل قال لهم،: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد.
والمروي عن مجاهد: أنه تعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم، لا أنه مسخ صورهم، وهو مثل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (5: الجمعة) ، ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد لا ينجح فيه تعليمه: كن حمارا، واحتج على امتناعه (أي المسخ) بأمرين:(21/426)
الأول: أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد، والبنية المحسوسة؛ فإذا أبطلها، وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله، كان ذلك إعداما للإنسان، وإيجادا للقرد؛ فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنسانا، وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قردا [28] ؛ فهذا يكون إعداما وإيجادا، لا أنه يكون مسخا.
ثم قال الرازي: وأجيب [29] بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل، وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سمينا بعد أن كان هزيلا وبالعكس بالمسخ، ثم أثار إشكالات عليه ثم نقضها، ثم لم يجد محظورا البتة من الصيرورة إلى التأويل وقبول رأي مجاهد.
ويقول كاتبه: فأما عن الإشكال الأول فإن المسخ لغة هو [30] : "تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها"، وهذا التبديل أو التحويل لا دليل على استحالته من نقل أو عقل أو علم.
فأما النقل فدلالته بينة - كما سنوضح بإذن الله -.
وأما العقل والعلم فإن دراسة آيات الله في الأنفس والآفاق - بتعميق واستيعاب - تقرب إلى أذهاننا القاصرة وعلمنا المحدود هذا الذي يراه البعض بعيدا، وخاصة بعد تقدم علم الأحياء (البيولوجيا) في الكشف عن كثير من أسرار (الخلية) و (الغدد) و (الهرمونات) ، وما قرأناه في الصحف منذ سنوات عما سمي (بالإنسان القرد) ، وهو طفل نشأ في غابة بين القرود، فصار يطعم طعامهم ويسير على أربع، ونبت على جسمه شعر القردة.. وانقطعت صلته بالإنسانية.
وفصل القول:
أن المسألة عقاب "أراده الله ببني إسرائيل لعدوانهم وظلمهم، وشاءت إرادته أن يكون العقاب خرقا للعادات ومجريات السنن، ليكون عبرة ونكالا، وليكون آية على تفرده وحده بالقدرة والقهر والجبروت، فهل يعجزه سبحانه شيء في الأرض أو السماء؟ تعالى علوا كبيرا، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (44: فاطر) .(21/427)
وكما قال الرازي نفسه: "فالأجزاء متبدلة.. وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغيير إلى هذا الهيكل، وهذا هو المسخ، وبهذا التقدير يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول عليه السلام" [31] .
ثم قال الرازي:
والإشكال الثاني: إن جوزنا ذلك - أي المسخ - لما أمِنّا في كل ما نراه قردا وكلبا، أنه كان إنسانا عاقلا، وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات.
والجواب: أن الأمان يحصل بإجماع الأمة.
ولما ثبت بما قررناه جواز المسخ، أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله، وإن كان ما ذكره غير مستبعد جدا؛ لأن الإنسان إذا أصر على جهالته - بعد ظهور الآيات وجلاء البينات - فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور البتة"اه.
فأنت ترى أن الرازي - رحمه الله - أجاز القولين، ثم عاد إلى إثارة شبهة أخرى هي (أنه بعد أن يصير (اليهودي المعتدي) قردا، لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم، فلا يعلم ما نزل به من العذاب، ومجرد القردية غير مؤلم، لأن القرود حال سلامتها غير متألمة، فمن أين يحصل العذاب بسببه؟!
وأجاب بقوله: "ولم لا يجوز أن يقال إن الأمر الذي بسببه يكون الإنسان عاقلا فاهما ظل باقيا، إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة، لا جرم أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصبة، وكانت في نهاية الخوف والخجالة.. ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة القردية"اه.
ونضيف إلى قول الفخر الرازي رحمه الله قولنا: إن العقاب لا يتحقق ولا يتم المقصود منه إلا ببقاء الغرائز والمشاعر والأحاسيس التي بها يعاني هؤلاء الممسوخون آلام عذاب المسخ.
6- رأي ابن كثير [32] :(21/428)
ذكر ابن كثير رأي مجاهد، ووصف إسناد هذا الرأي إلى مجاهد بأنه إسناد جيد، ثم وصف رأي مجاهد بأنه قول خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، واستشهد ببعض الآيات الأخرى الواردة في مسخ بني إسرائيل، ثم ذكر رأي (العوفي) في تفسيره من أن الشباب صاروا قردة، وأن الشيوخ صاروا خنازير، وذكر رأي قتادة من أن القوم قد صاروا قردة تتعاوى، ولها أذناب، وروى ابن كثير أن الذين نهوهم كانوا يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى، وذكر رواية الضحاك عن ابن عباس وهي: مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ثم قال ابن عباس: (ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينسل".
وبعد ذكر العديد من الروايات المؤيدة للمسخ عن أئمة التفسير بين ابن كثير أن الغرض من ذكرها هو بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن المسخ كان معنويا لا صوريا، والصحيح أنه معنوي صوري والله أعلم. اه.
7- رأي القاسمي [33] :
نقل القاسمي آراء سابقيه من المفسرين، ثم ارتضى هذا الرأي وهو: "والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة.. وردت به الآيات والأحاديث، وفي أثر: عدد المسوخ ثلاثة عشر، وبيَّن أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم.
والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زاول استعداده وتمكن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان ونفسه نفسه؛ فصارت صفته صورته) اه.
8- رأي الشيخ رشيد رضا:
انتهج الشيخ رشيد منهج أستاذه في إنكار مسخ الصورة والخلقة؛ فبعد ذكره في تفسيره لرأي مجاهد قال [34] : "والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستبذلة المطرودة من حضرة الناس..",(21/429)
ثم قال: وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى (كونوا قردة) أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصا فيه، ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة؛ لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص، فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له، ينزل عن رتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان، وسنة الله تعالى واحدة؛ فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية..
ثم يقول: "وحديث المسخ والتحويل، وأن أولئك قد تحولوا من أناس إلى قردة وخنازير، إنما قصد به التهويل والإغراب، فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة، والأجدر بتحريك الفكرة..
ثم يقول: "إنه ليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول مجاهد إن المسخ معنوي، وقول الآخرين إنه صوري، ثم قال: والصحيح أنه معنوي صوري، فما مراده بذلك؟! "اه.
وما كان ينبغي لمثل الشيخ رشيد أن يغيب عنه مراد الحافظ ابن كثير؛ فالمسخ المعنوي هم مسخ قلوبهم لزيغهم عن الحق، والمسخ الصوري هو مسخ صورهم وأبدانهم، ليتطابق ظاهرهم مع باطنهم.
ولما عاد إلى تناول الموضوع في سورة الأعراف [35] ذكر الخلاف في المسخ أهو مسخ خلق وبدن، أم مسخ خلق ونفس؟ ثم قال: "فالأول قول الجمهور، والثاني قول مجاهد".
9- رأي الشيخ عبد الجليل عيسى [36] :(21/430)
في تفسير الآيتين 65، 66 من سورة البقرة حول (المسخ) اكتفى بذكر المعنى اللغوي لكلمة {خَاسِئِينَ} نقلا عن لسان العرب؛ فقال: الخاسئ من الكلاب والخنازير هو المبعد المطرود، يقال: خسأ فلان الكلب يخسؤه - بفتح السين - خسئا وخسوءا أيضا، أي: طرده مهينا ذليلا، وخسأ الكلب ابتعد ذليلا. اه
ولكنه عند قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (166: الأعراف) صرح بالتأويل؛ فقال: والمراد أصبحوا كالقردة في الاحتقار.
سابعا: تأويل (طمس الوجوه) بالرؤساء والمقاصد والأماكن:
يقول الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلعَنَهُمْ كَمَا لعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} ، (47: النساء) .
من المفسرين من حمل الطمس في هذه الآية على ظاهره، ومنهم من سلك به أودية المجاز؛
وبيان ذلك كما يلي [37] :
1 - تفسير الوجه بمعناه الجسماني وهو وجه البدن:
وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى في أكثر مواضع ورودها، كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (6: المائدة) ، {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (6: المائدة) ، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} (144: البقرة) ، وهو بهذا المعنى المادي في 149، 150: البقرة أيضا، ومن هذا الاستعمال أيضا: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (29ك الذاريات) ، كل هذه الآيات وغيرها كثير، استعمل فيها الوجه بمعناه الحقيقي الجسماني.
وعلى هذا المعنى فسر طمس الوجه بما يلي:(21/431)
أ – محو آثارها من العينين والحاجبين والأنف والفم حتى تصير كالأقفاء، فيصبح الوجه والقفا سواء في عدم الحواس والمعالم.
ب- أن المقصود بطمس الوجوه: تحويلها من جهة الأمام إلى القفا، فتصبح العينان في القفا فيمشون على أعقابهم القهقرى.
ج- أن المقصود بطمس الوجوه: طمس العين فتصير عمياء، كما استشهد الطبري لهذا المعنى بقوله: (ومن ذلك قيل للأعمى الذي تعفَّى غرُّ ما بين جفني عينيه فدثر: (أعمى مطموس، وطميس) ، كما قال جل ثناؤه: {وَلوْ نَشَاءُ لطَمَسْنَا عَلى أَعْيُنِهِمْ} (66: يس) قال أبو جعفر: الغر ُّ (الشق الذي بين الجفنين) اه.
2 - تأويل طمس الوجوه بردها عن الحق:
جاء استعمال الوجه في القرآن بغير مفهومه الحسي كما يلي:
جاء الوجه بمعنى: أول الشيء وبدايته كقوله تعالى: {آمِنُوا بِالذِي أُنْزِل عَلى الذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} (72: آل عمران) .
وفسر الوجه بحقيقة الشيء وكنهه كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلى وَجْهِهَا} (108: المائدة) .
ومن هذا الوادي فسر بعضهم طمس الوجه بالتحول عن الصراط الحق.
وقد عزا الطبري هذا الرأي إلى المفسر التابعي مجاهد بن جبر بعدد من الأسانيد، وعبارته: ( {َنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} عن صراط الحق {فنردها على أدبارها} في الضلالة) .
ونسب الطبري هذا الرأي إلى الحسن كذلك، وأخبرنا أن الضحاك فسرها بقوله: "أي أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به".
وكان للطبري رده الوجيز البليغ على هذا الرأي حين قال [38] : "فبين فساد قول من قال ذلك، فما وجه رد من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال: نرده فيه".
3- تأويل الوجوه بالديار والمساكن:(21/432)
وبعضهم فسر طمس الوجوه بقوله: "من قبل أن نطمس وجوههم التي هم [39] فيها، فنردهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز".
وقد قال الطبري [40] عن هذا الرأي: إنه "مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد".
وذلك أن المعروف من (الوجوه) في كلام العرب التي هي خلاف (الأقفاء) ، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب [41] في كلام من نزل بلسانه، حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه.
4- تأويل طمس الوجوه بإبطال المؤامرات:
وقال بعضهم المقصود بطمس الوجوه إبطال مؤامراتهم.
وبهذا التأويل قال الشيخ رشيد رضا، وعبارته: "فظاهر معنى العبارة هنا: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسرها به على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين، وبه قال مجاهد، ولكن أوجز"اه.
5- تأويل الوجوه بالرؤساء والوجهاء:
وقيل إن المقصود بطمس الوجوه ما ذكره الزمخشري بقوله [42] : "ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم، أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم".
مختار القول: وبعد استعراض الآراء في تفسير الآية استعراضا وافيا، وإن لم نبلغ به حد الاستقصاء، نرى أن أولى الآراء هو حمل الوجه على حقيقته، وأن الطمس على أصل معناه من المحو والإزالة والإخفاء.(21/433)
وهذا الترجيح هو الذي ارتضاه الطبري حين قال [43] : "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: {أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالةَ..} (44: النساء) ، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: {يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا} الآية.. بأسه [44] وسطوته وتعجيل عقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولاشك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا"اه.
وآثر القاسمي حمل الآية على الحقيقة فقال [45] : "ولا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ورد على القائلين بأن قرينة المجاز هي عدم وقوع المتوعد به، بأنه ليس في الآية ما يدل على تحتم وقوع الوعيد إن لم يؤمنوا، ولو فهم منها هذا فهما أوليا، لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار، وهو ينافي التكليف الشرعي، وذهب إلى أن هذه الآية هي كقوله تعالى: {وَلوْ نَشَاءُ لطَمَسْنَا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ، وَلوْ نَشَاءُ لمَسَخْنَاهُمْ عَلى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ} (36: يس) .(21/434)
ثم قال القاسمي: "فهذه عندي تفسير لتلك، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وحول تعقيب الآية بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} أي ما يأمر به، ويريد وقوعه، وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه، فله أن يمضيه على حقيقته، وله أن يصرفه لما هو أعلم به، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق، ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر.. هكذا ظهر لنا الآن، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو أنه مشروط بعدم الإيمان إلى غير ذلك"اه.
ثامنا: تأويلات شتى حول (مائدة الحواريين) :
قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ قَال الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَل يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّل عَليْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَال اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُل مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَليْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِل عَليْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، قَال اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ} (112، 115: المائدة) .
اختلف أهل التأويل حول أمر هذه (المائدة) اختلافا عظيما؛ فمنهم من قال بنزولها وأسهب، ومنهم من جحد نزولها، ومنهم من تأول آيات القرآن ليفسرها بغير الثابت والصحيح من أسفار الإنجيل، ومنهم من فسرها بمائدة المعارف الروحية.
وهاكم بعض التفاصيل:
1- الذين جحدوا نزولها:(21/435)
حدثنا الطبري [46] من أنبائهم، وحكى لنا اختلافهم في مقالة الإنكار، فذكر عن بعضهم أنهم قالوا: (إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبي الله الآيات، ولم ينزل شيء) .
ونسب هذا الرأي إلى مجاهد.
وقال آخرون إن القوم لما قيل لهم: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ} استعفوا منها فلم تنزل.
وعزا الطبري هذا الرأي إلى الحسن.
وقد تعرض ابن كثير [47] لرأي المنكرين لنزولها؛ فقال عنه من حيث الإسناد: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن.
ثم ارتأى ابن كثير أن يعرض حجج المنكرين لنزولها والمثبتين؛ فقال محتجا لدعوى الإنكار: وقد يتقوى ذلك (يعني إنكار نزولها) بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى وليس هو في كتابهم [48] ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا، ولا أقل من الآحاد والله أعلم.
ثم قال عن رأي المثبتين: "إنه هو الذي عليه الجمهور، وهو الذي اختاره ابن جرير، ونقل حجة ابن جرير في الإثبات، ثم بين ابن كثير موقفه هو بقوله: وهذا القول - والله أعلم - الصواب، وكما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف"اه.
2- رأي ابن جرير الطبري:
استعرض ابن جرير رأي المثبتين لنزولها والمنكرين، ثم انتهى إلى تقرير موقفه [49] وهو: "والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه؛ وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.(21/436)
وبعد؛ فإن الله - تعالى ذكره - لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخلف، وقد قال - تعالى ذكره - مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ} ، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ} ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه - تعالى ذكره - خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر، ولو جاز أن يقول: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ} ثم لا ينزلها عليهم جاز أن يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ} ، ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك"اه.
3- محتويات المائدة:
أسهب بعض المفسرين في ذكر محتويات المائدة من الأرغفة، ومشوي السمك الدسم، وما نضد حولها من كل البقول، وما وضع عليها من الزيتون، والرمان، والثمرات.
ومن هذا ما فعله القرطبي حين نقل عن غيره - وأنصف فذكر أسانيد نقوله - وكان مما قال عن حديث محتويات المائدة: (في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده) ، وبعد مناقشة الأسانيد والكلام في رفعها أنهى مطافه بهذه العبارة الجامعة: "والمقطوع به أنها أنزلت، وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه" [50] .
ولقد سبقه إلى هذا المنهج القويم شيخ المفسرين الطبري حين قال [51] : "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكا وخبزا، وجائز أن يكون ثمر من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل"اه.
4- المائدة في رواية (إنجيل متى) [52] :(21/437)
ذكرنا منذ قليل رأي الحافظ ابن كثير الذي يقول فيه: "إن خبر المائدة لا يعرفه النصارى وليس في كتابهم"، ولقد حاول الشيخ عبد الوهاب النجار [53] أن يأخذ من كلام ابن كثير ما يوافق هواه، ثم ادعى أن الإشارة إلى المائدة قد وجدت في كتب النصارى؛ مستندا في ذلك إلى قصة وردت في (إنجيل متى) تتفق بعض الاتفاق مع بعض الروايات الواهية والمدخولة في كتب التفسير عن المائدة، وتختلف كل الاختلاف عن ما ذكره العلي الأعلى في القرآن الكريم عن المائدة.
فما هي رواية (متى) في إنجيله؟
ابتدأ (متى) الإصحاح الرابع عشر بذكر قصة قتل يوحنا (يحيى عليه السلام) على يد الحاكم الروماني هيرودس، ثم انتقل إلى القصة التي توهم الشيخ النجار أنها هي قصة المائدة، ونص عبارات (متى) هو: "ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين: الموضع خلاء، والوقت قد مضى، اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى، ويبتاعوا لهم طعاما، فقال لهم يسوع: لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا، فقالوا له: ليس عندنا هاهنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان، فقال: ائتوني بها إلى هنا، فأمر الجموع أن يتكئوا على العشب، ثم أخذ الأرغفة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر، وأعطى الأرغفة للتلاميذ.. والتلاميذ للجموع، فأكل الجميع وشبعوا، ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة، والآكلون كانوا خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد" [54] .
5- أ - تأويل صاحب قصص الأنبياء لنزول المائدة:
حينما أصدر الشيخ محمد عبد الوهاب النجار كتابه (قصص الأنبياء) قارن المنصفون كتابه بكتاب قصص الأنبياء للثعلبي المسمى (بعرائس المجالس) ، وهو كتاب قمَّ فيه مؤلفه الكثير من الإسرائيليات والخرافات، فكانت عقبى المقارنة رجحان كتاب الشيخ النجار، لكن كتابه لم يخل من هفوات تعد عليه، ولا من مآخذ أمرها لم يكن هونا، وقد انتقدتها عليه لجنة من كبار العلماء حين صدور الكتاب.(21/438)
ومن هذه المآخذ: تأويله لقصة نزول المائدة تأويلا عجيبا، يخضع فيه القرآن لأقاصيص العهد الجديد، وللخرافات الإسرائيلية، ونقل القصة التي نقلناها آنفا عن إنجيل متى، ثم قال: "إن هذه المسألة هي مسألة المائدة السماوية، ومعنى كونها سماوية أن الله تعال بارك في الطعام بطريقة غير معروفة ولا مألوفة، وقد حكيت في القرآن".
وبعد ذكر الشيخ لآيات سورة المائدة، وآراء المفسرين في نزولها، أو عدم نزولها، عاد ليؤكد رأيه بقوله: "وأنا أكرر القول: إن مسألة المائدة هي مسألة الأرغفة الخمسة والسمكتين، والمراد بإنزالها عليهم: أن يرزقهم الله الطعام الكثير من حيث لا يحتسبون".
ثم عاود القول [55] : "إنه يمكن حمل إنزال المائدة من السماء على تيسير الطعام لهم بدون الأسباب العادية التي يعرفونها، وقد جرى العرف على تسمية الأشياء التي يعجز الناس عن تعليلها بأنها سماوية، وذكر ذلك في كتب الفقهاء كثيرا، وتكثير الطعام القليل إلى أن يعم الآلاف من الناس أمر يعجز البشر بمقتضى بشريتهم عن أن يأتوا بمثله" اه.
ب- المآخذ على تأويله:
المأخذ الأول: تفسير القرآن بالأعراف، والعرف مختلف باختلاف الناس والزمان والمكان، وذلك كما ترى في قوله: "وقد جرى العرف على تسمية الأشياء التي يعجز الناس عن تعليلها بأنها سماوية".
المأخذ الثاني: صرف القرآن عن الظاهر المتبادر، وعن دلالة السياق، ليوافق رواية في الإنجيل لو سلمنا جدلا بصحتها فهي مختلفة عن مائدة الحواريين، ثم دعواه أنه يتحدى لجنة العلماء أن تأتي من ألفاظه ما يبين أنه قال بصحة إنجيل (متى) ، ونقول له لا دليل عليك أقوى ولا أبلغ مما فعلت.
المأخذ الثالث: زعمه أن [56] معجزة المائدة ليس فيها نص قطعي الثبوت والدلالة، وهو زعم ما كان لمثله أن ينزل نفسه هذا المنزل الوعر، فآيات سورة المائدة قطعية الثبوت إيمانا يقينا منا ومنه، ودلالتها أيضا كذلك.(21/439)
المأخذ الرابع: اعترافه صراحة بأنه اتخذ التأويل سلما للإنكار، وذلك حين قال في خاتمة رده [57] : "هل يزيد ما قلته على أني أنكر نزول المائدة؟ وهل يعيبني عند ربي أن أنتظم في صف مجاهد والحسن؟ ".
المأخذ الخامس: مع أننا لا نأخذ في هذه المسألة برأي مجاهد والحسن رحمهما الله وغفر لهما، إلا أن تأويل الشيخ النجار يختلف تماما عن صنيعهما.
المأخذ السادس: نقله بعض المسطور في كتب التفسير، دون الإشارة إلى أن أصحاب هذه التفاسير ينقلون ما يوافقهم وما يخالفهم، وقد سبق أن نقلنا لقارئ هذه الأسطر عن الطبري وابن كثير ما يبين إيمانهما بنزول المائدة، ولكن الشيخ كان يوهم القارئ بترجيح المفسرين لما ليس براجح عندهم.
المأخذ السابع: قوله إن كلمة (الإنزال) في القرآن وردت لعديد من المعاني غير معناها الأول، وهو الإنزال من السماء إلى الأرض، ليكون هذا التلبيس عونا له على تأويله.
المأخذ الثامن: يظهر للمتمعن لآراء الشيخ أنه ينكر نزول المائدة؛ اتباعا لمذهب عقلي جامح يحاول أن يخضع الأخبار الغيبية في القرآن للمنطق المادي.
6- نسيج الخيال حول المائدة:
لم يقف خيال الروائيين عند محتويات المائدة كما سبق أن أسلفنا، بل امتد ليصور أن واحدا من الحواريين وهو (شمعون) سأل المسيح عليه السلام عن طعامها أهو من طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ وأن المسيح عليه السلام أجاب: بأنه ليس منهما، وإنما اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته.
ونحن لا نحاكم هذه الرواية إلى العقل لو صحت، وإنما نحاكمها لأنها هجمة على الغيب بالخيال والهوى.
وتصور رواية ثانية: أن الحواريين سألوا المسيح عليه السلام أن يحدث لهم من آية المائدة آية أخرى، فنادى سمكة أن تحيا بإذن الله تعالى فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية.(21/440)
وتصور رواية ثالثة: أن المائدة كانت تطير وترتفع، ثم تهبط إليهم، وهكذا استمر أمرها أربعين يوما.
وتصور رواية رابعة: أنه لم يأكل منها فقير إلا ولازمه الغنى طيلة حياته، ولم يطعم منها مريض إلا فارقه المرض، وظل مهاجرا له مادام حيا.
وهكذا سطرت الروايات، واختُلِقَت الأساطير، ومن عجب أن ننقل ما سبق من الروايات عن تفسير الزمخشري [58] والبيضاوي، وهما من كتب التفسير بالرأي لا بالرواية، ولو جاءنا النقل الصحيح بهذه الأخبار ما ترددنا في قبولها لحظة نهار.
7- التأويلات الصوفية بأنها مادة الغذاء الروحي:
نقل البيضاوي [59] في تفسيره عن بعض الصوفية تفسيرا للمائدة، وهو بنص عبارته: "المائدة هنا عبارة عن حقائق المعارف؛ فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن، وعلى هذا فلعل الحال: أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف [60] عليها، فقال لهم عيسى عليه السلام: إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه، فسأل لأجل اقتراحهم، فبين سبحانه وتعالى أن إنزالها سهل، ولكن في خطر وخوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه، لعله لا يحتمله ولا يستقر له، فيضل به ضلالا بعيدا" اه.
وذهب القشيري يحمل آيات سورة المائدة أفكاره الصوفية؛ فقال [61] : "طلب المائدة المسيح عليه السلام لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة؛ فعذروا وأجيبوا إليها، إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة.
ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في مائدة من الموارد يردها، وعزيز منهم من يجد الفناء [62] عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.(21/441)
وشتان بين أمة طلب لهم نبيهم سكونا بإنزال مائدة عليهم، وبين أمة بدأهم الله سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد قال الله تعالى: {هُوَ الذِي أَنْزَل السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4: الفتح) ، وفرق بين مَن زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم، وبين مَن يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم.
فلما انتهى القشيري إلى قوله جل ذكره: {قَال اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ} (115: المائدة) : أجابه إلى سؤاله [63] لهم، ولكن توعدهم بأليم العقاب لو خالفوا بعده، ليعلم السالكون أن المراد إذا حصل، وأن الكرامة إذا تحققت، فالخطر أشد، والحال من الآفة أقرب، وكلما كانت الرتبة أعلى، كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلت جلت" [64] اه.
8- تعقيب:
تفقد الألفاظ اللغوية دلالتها الحقيقية في الفكر الصوفي، ويخرج بها إلى متاهات لا إلى مجازات؛ فالمائدة هي مائدة المعارف، والحقائق الدينية أسرار محجبة وعلوم (مضنون بها على غير أهلها) ، وإذا انكشفت لذوي الرتب الأدنى ضلوا ضلالا بعيدا.
والمعلوم لكل مسلم أن الحقائق الدينية هي وحي الله إلى رسوله، وكلما ازداد المسلم علما، كان العلم سلما إلى اليقين لا إلى الشك، وكلما انكشف له حكم من أحكام الله واستمسك به، كان ذلك معبرا له إلى النجاة، لا (أن يضل ضلالا بعيدا) كما يذكر البيضاوي، أو تصبح (الآفة أخفى) كما قال القشيري، مع أنوار قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَليْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2: الأنفال) ، وقفة متجردة لما قال ما قال، ومع هذا فقد أجاد القشيري حين قارن بين من كانت المائدة سكونا لهم، وبين من بدأهم الله بالسكينة.(21/442)
9- اختلافات المفسرين حول قوله تعالى: {هَل يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} .
كان المبادر إلى ذهن القارئ أن تكون هذه هي نقطة البدء، لكننا بدأنا بالحديث عن المائدة؛ إذ هي محور الموضوع، وعنايتنا في هذه المباحث هي بذكر التأويلات، ثم نكرُّ عليها بما يجلِّي الحقيقة.
فأما قوله تعالى: {إِذْ قَال الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَل يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّل عَليْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} (112: المائدة) فالأقوال في معنى هذه الآية كثيرة.
فبينما نرى مفسرا كالزمخشري يرى أن هذا القول منهم دليل على أن إيمانهم كان دعوى لا حقيقة؛ وذلك إذ يقول متبعا طريقته في الفنقلة [65] : فإن قلت: كيف قالوا {هَل يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بعد إيمانهم وإخلاصهم، قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: {إِذْ قَال الحَوَارِيُّونَ} ؛ فآذن أن دعواهم كانت باطلة، وأنهم كانوا شاكين، وقولهم: {هَل يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم..
نقول بينما يقول الزمخشري بهذا نجد مفسرا آخر، بينه وبين الزمخشرري اختلافات في العصر والمنهج والمذهب، يقول بمثله، وهذا المفسر هو ابن جرير الطبري؛ فقد أفاض في مناقشة المسألة وانتهى إلى رأي [66] هو: "وخبر الله - تعالى ذكره - عن القوم ينبئ بخلاف ذلك، - أي بخلاف أنهم كانوا في درجة اليقين -، وذلك أنهم قالوا لعيسى إذ قال لهم: {اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .. {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُل مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} ؛ فقد أنبأ هذا من قبلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته؛ فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم حرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا"اه.(21/443)
10- اختيارنا في المسألة:
والحق أن اختيارنا في المسألة لا يخالف في شيء ما اختاره شيخ المفسرين، واستدل له بصريح دلالة ألفاظ القرآن، وبما برهن عليه السياق [67] ، ومع هذا فإن المنهج العلمي يقتضينا أن نذكر الرأي المخالف ليكون القارئ على بينة، وقد وجدنا عند القاسمي جلاء وبينا لهذا الرأي.
11- رأي القاسمي:
عرض القاسمي للقراءات في الآية ثم للإشكال فيها، فقال [68] : "وهاهنا قراءتان: الأولى: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا رَبُّكَ} بالياء على أنه فعل وفاعل و {أَنْ يُنَزِّل} المفعول، والثانية بالتاء و {رَبُّكَ} بالنصب أي سؤال ربك، فحذف المضاف، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ وهي قراءة علي وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم، وسعيد بن جبير والكسائي.
قال أكثر المفسرين [69] : الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز؛ إذ لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، مبالغة في التقاضي [70] ، وإنما قصد بقوله (هل تستطيع) هل يسهل عليك، وهل يخف عليك أن تقوم معي؟ فكذلك معنى الآية؛ لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد الطمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلبِي} ، ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب؛ ولهذا السبب قالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} .(21/444)
وحاصله أن {هَل يَسْتَطِيعُ} سؤال عن الفعل دون القدرة عليه، وهو تعبير عنه بلازمه، أو عن السبب بسببه، وقيل المعنى: هل يستطيع ربك؟ أي هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ (فيستطيع) بمعنى (يطيع) ، وهما بمعنى واحد والسين زائدة، كاستجاب وأجاب [71] ، واستجبْ وأجب، و (يطيع) بمعنى (يجيب) مجازا، لأن المجيب مطيع.
وذكر أبو شامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض، فقال له: يا بن أخي ادع ربك أن يعافيني، فقال: اللهم اشف عمي؛ فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا بن أخي إن ربك الذي تعبده ليطيعك، فقال: يا عم، وأنت لو أطعته لكان يطيعك، أي يجيبك لمقصودك، وحسنه في الحديث المشاكلة، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى". اه.
تاسعا: تأويل الفلاسفة لكيفية الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً..} (1: لإسراء) استطرد الفخر الرازي مفندا [72] لشبهات منكري المعراج، فاستدل على وقوع المعراج بأن من يؤمن بنزول جبريل عليه السلام - من الملأ الأعلى - بالوحي، يجب عليه أن يؤمن بصعود الرسول صلوات الله عليه بجسمه وروحه ليلة المعراج؛ لأن معراج الرسول بجسده كنزول الملك وهو جسم.
ثم ذكر تأويل الفلاسفة - الذين يسميهم بالحكماء - لكيفية الوحي وهو: "زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه السلام".
ثم عقب الرازي على هذا التهافت الفلسفي بقوله: "تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة" [73] .(21/445)
ونحن نعقب: بأن رأي الفلاسفة هذا، اتباع للظن ومصادم لما جاء به القرآن في شأن جبريل عليه السلام، فالله سبحانه قد وصفه بأنه {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى} (6، 7: النجم) ، فاستواؤه بالأفق الأعلى كما رآه رسول الله في بدء الوحي "سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض"فرآه على صورته الحقيقية [74] التي خلقه الله عليها، وهذا يؤكد الجسمانية والحركة لجبريل عليه السلام ثم قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (8، 9: النجم) ، فالدنو والتدلي والقرب هي حركات جسمانية من جبريل عليه السلام.
والقرآن صريح في نزول جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (64: مريم) ، وقوله سبحانه: {وَلقَدْ رَآهُ نَزْلةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى} (13، 14: النجم) رأى رسول الله جبريل مرة ثانية على صورة الملائكة عند سدرة المنتهى.
ولقد رأى الرسول جبريل متشكلا في صورة بشرية لرجل من العرب هو دحية الكلبي، وفي حديث الصحيحين المروي عن أبي هريرة وعمر رضي الله عنهما قال عمر: "بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات مرة إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الوجه، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر.."الخ الحديث، فهذه كلها صفات حسية.
وفي حديث بدء الوحي في الصحيحين ضم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره "..فأخذني فغطني [75]- بالتاء أو بالطاء - حتى بلغ مني الجهد مبلغه ثم أرسلني.." [76] .
كل هذا وغيره كثير يدحض دعاوى الفلاسفة في كيفية الوحي [77] .(21/446)
على أن تصوير الوحي على أنه مكاشفات ومشاهدات على النحو المذكور، قول على الله بغير علم، وغض من قيمة الوحي، وتشكيك في كيفية تلقي القرآن، خاصة إذا علم القارئ أن هذه الألفاظ (المكاشفة والمشاهدة) انتقلت عند المتصوفة والفلاسفة عن وضعها اللغوي إلى وضع اصطلاحي، وعندهم أن المكاشفة تقع بزعمهم للولي فهي دون الوحي.. وإن زعم بعضهم أن مقام الولاية أعلى من مقام النبوة والرسالة، وعبر عن هذا التلبيس بقوله:
مقام النبوة في برزخ
فويق الرسول ودون الولي
عاشرا: تأويل الفجر بتفجر الماء:
حول قول الله تبارك وتعالى: {وَالفَجْرِ وَليَالٍ عَشْرٍ} (1، 2: الفجر) ، أورد المفسرون أقوالا حول معنى الفجر.
وكان من أغرب هذه الآراء رأي أورده الفخر الرازي في تفسيره [78] وهو: "..أو عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه وفيها حياة الخلق"، وقد ذكر الرازي هذا التأويل بين جملة أقوال أخرى في تفسير الآية.
وهذا التأويل يجد له عونا وظهيرا من بعض المعاني اللغوية للكلمة، فابن فارس في معجم المقاييس [79] يقول: "الفاء والجيم والراء: أصل واحد وهو التفتح في الشيء، من ذلك الفجر: انفجار الظلمة من الصبح، ومنه انفجر الماء انفجارا: تفتح، والفجرة موضع تفتح الماء، ثم كثر هذا حتى صار الانبعاث والتفتح في المعاصي فجورا، ثم كثر هذا حتى سمي كل مائل عن الحق فاجرا.. ومن الباب: المفاجر: لانفجار الماء فيها.. ويوم الفجار: يوم للعرب استحلت فيه الحرمة"اه..
وإلى معنى الشق والتفجر أشار الراغب بقوله [80] : (ومنه تفجير الأرض عيونا وأنهارا، ومنه قيل للصبح فجرا لكونه فجر الليل، والفجور شق في ستر الديانة) .
ومع ما ذكرناه من معاضدة بعض معاني الكلمة لما ذكره الرازي، فهل يعني هذا أن ذلكم التأويل لا يجافي الصواب؟.
الحق أن المراجع التي رجعنا إليها من كتب التفسير ذكرت للفجر معاني هي:(21/447)
1- الفجر هو "أول أوقات النهار، الذي هو أحد قسمي الزمان" [81] ، وقريب منه تعريف من عرفه بأنه: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، فيكون المقصود مطلق الفجر، وقد نسب هذا الرأي إلى علي، وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم [82] .
2- إن المقصود بالفجر النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله وعزي كذلك إلى ابن عباس.
3- فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة، ونسب أيضا إلى ابن عباس وقتادة.
4- إن المقصود به صلاة الصبح.
5- فجر يوم النحر.
6- فجر الأول من ذي الحجة؛ لأن (الليالي العشر) هي الليالي العشر من ذي الحجة.
هذه مجموع الآراء التي أحصيناها من كتب التفسير التي رجعنا إليها.
ولم نجد شبيها - في الطرافة - بهذا التأويل الغريب الذي ذكره الرازي إلا إشارة ذكرها القاسمي [83] في كتابه محاسن التأويل، وهي: "والفجر أي الصبح كقوله تعالى {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (18: التكوير) ؛ أقسم تعالى بآيته، لما يحصل به انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس وسائر الحيوانات، لطلب الأرزاق، وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم، وفيه عبرة لمن تأمل"اه.
وهذه الإشارة من القاسمي قد تكون محتملة.
ونعود إلى ذكر الرأي الذي نرجحه وهو أن المقصود بالفجر أول وقت النهار.
والذي يبين أن هذا الرأي هو الأرشد في فهم الآية الدلائل الآتية:
1- إن قرينة السياق تعين عليه، فبعد ذكر الفجر، جاء ذكر الليالي العشر.(21/448)
2- إن كلمة الفجر لم تستعمل في القرآن إلا في معنى أول ضوء النهار، كما قال تعالى: {.. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} (187: البقرة) ، {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (78: الإسراء) ، {.. مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} (58: النور) ، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلعِ الفَجْرِ} (5: القدر) .
3- إن أقوال المفسرين قد أجمعت على أن المقصود بالفجر هو أول وقت النهار، وإن اختلفوا في جعل الفجر على إطلاقه، أو تحديد فجر يوم بعينه؛ فإن هذا الاختلاف هو من قبيل اختلاف التنوع.
الحادي عشر: تأويل (الأوتاد) بالأهرامات:
عند قول الله تبارك وتعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} (10: الفجر) قال الشيخ محمد عبده [84] : "إن أظهر أقوال المفسرين فيها ملائمةً للحقيقة أنّ الأوتاد هي المباني العظيمة الثابتة.. وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي في منظر الوتد المغروز في الأرض، بل إن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة.. وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين".
هذا ما قاله الشيخ رحمه الله؛ فلننظر هل أصاب؟
1- وصف الله فرعون بهذه الصفة في سورة الفجر، وفي قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} (12: ص) ، ووردت كلمة الأوتاد في وصف الجبال في قوله تعالى: {أَلمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادا وَالجِبَال أَوْتَاداً} (7: النبأ) ، وإذا كان هذا هو استعمال الكلمة في القرآن فما معناها في اللغة؟(21/449)
2- الوتد لغة [85] : "قطعة من خشب أو حديد تثبت في الأرض أو الجدار؛ يشد بها حبل هو زمام لدابة أو طنب لخيمة.. ويقال: الجبال أوتاد الأرض على التشبيه، لأنها تثبت بها وتحفظها من الميدان والاضطراب". وأما ابن فارس [86] فقال: "الواو والتاء والدال: كلمة واحدة: هي الوتد يقال وتده ووتد الأذن الذي باطنها كأنه وتد"وأضاف الفيروزأبادي [87] "وأوتاد الأرض جبالها، ومن البلاد رؤساؤها، ومن الفم أسنانه، ووتد الوتد يتده وتدا: ثبته"، وجاء من المجازي عند الزمخشري [88] "وتد بالمكان وهو واتد: لا يبرح ثابت".
3- وأما أقوال المفسرين في معنى الأوتاد فهي [89] :
أ - ذو الأوتاد: ذو البناء المحكم، كان كثير البنيان، والبنيان يسمى أوتادا.
ب - ذو الجنود الكثيرة، فسميت الجنود أوتادا، لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت، وقال ابن قتيبة: "العرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، يريدون دائما شديدا"، وقريب من هذا الرأي من فسرها بأنه ذو القوة والبطش، أو لأن كثرة الجنود تقتضي كثرة الخيام والمضارب والأوتاد.
ج- إن المقصود بالأوتاد: أوتاد الحديد التي كان يشد إليها من يعذبهم، فقيل كان يربط الرجل كل قائمة من قوائمه في وتد، ثم يرسل عليه صخرة عظيمة.
4- تأول الشيخ محمد عبده للأوتاد بالأهرامات علاوة على مناقضته لما تقدم؛ فإنه يقتضي قيام دليل تاريخي، على أن فرعون الذي أرسل إليه الكليم عليه السلام بنى هرما من هذه الأهرامات، أو دفن في واحد منها حتى تصح نسبتها إليه، وهذا الدليل التاريخي غير قائم ولا ثابت.
5- يشم من وصف الشيخ للأهرامات بأنها هياكل عظيمة نزعة مفاخرة.. وهذه الأهرامات وإن كانت عظيمة بالمقياس المادي، فهي ليست كذلك في الميزان الإسلامي.
الثاني عشر: الدابة التي تكلم الناس والتأويلات المتهافتة:(21/450)
حول قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَليْهِمْ أَخْرَجْنَا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} (82: النمل) ، وجدنا لبعض المفسرين تعسفا في التفسير، ووجدنا عند غيرهم شططا في التأويل، وأخذ كل صاحب هوى يحمل الآية على هواه، أو يحمل ألفاظها مشتهاه، وهاك بسط القول:
1- خروج الدابة وظهور الأرواح:
حاول الشيخ طنطاوي جوهر- جريا على مسلكه في التأويلات، واتباعا لنهجه في تحميل ألفاظ الآيات النظريات المحدثات- عقد الصلة بين خروج الدابة وبين خرافة ظهور الأرواح، فقال [90] : "يقول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَليْهِمْ} أي شارف الوقوع، وهو قرب قيام الساعة، وحقت كلمة العذاب على نوع الإنسان، فجهلوا بالمعنويات، وعكفوا على الماديات، وكذبوا الديانات، وشكوا في الآيات، وأصبحوا لا شرف لهم في حكوماتهم ولا أفرادهم، ومردوا على الكذب والنفاق، وازدادوا بالعلم عمى، وبالفلسفة ظلما، أخرج لهم من الأرض من يطرق الموائد ويحركها، ويمسك الأقلام في أيديهم، ويكتب لهم، ويتراءى لهم في أشكال وأزياء مختلفة، ووجوه نورية، فتراه أبصارهم، ويسمعون كلامه، وطورا يبصرون أشكالا، وتارة يقرؤون خطوطا، وآونة يسمعون صريرا وصوتا شديدا، كالرعد القاصف، وقد يحسون ببرودة تمر عليهم، ثم تتحرك الأيدي بالكتابة [91] ، فكان في عمله أشبه بمن يدب على الأرض من الإنسان في تعقله وعمله، وبما يجري فوقها من الدواب في حركاتها وأعمالها الأخرى، فهذا يشير له معنى قوله تعالى: {أَخْرَجْنَا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} ، وهذه الدابة تبين للناس حقائق، وتدرس لهم حكمة وتريهم أنهم غافلون جاهلون ضالون، فيجلس أمامها أكبر الضالين، وأعظم الفاسقين وأشد الغافلين، ومن يدعي أنه ملك مقاليد العلم، وبرع في الحكمة الهادية، فيخر ساجدا لربه، خاضعا لخالقه، موقنا أن روحه ستبقى بعد موته، فهذا(21/451)
معنى تكلمهم.. الخ، وقرأ ابن مسعود: (تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) ، وهذا هو الحاصل الآن بعينه، وهذه معجزة القرآن، وحكمة ثابتة للفرقان، فإن الآلاف المؤلفة من البشر اليوم في أنحاء العالم يوقنون إذا تحققوا مذهب الأرواح، وليس الإيمان بكاف، بل اليقين هو أكمل الإيمان، فتعجب من الآية، وانظر كيف كان هذا مظهرها، وهي مسألة ظهور الأرواح والقرآن يشير إليها.."اه
ولما أحسّ الشيخ أنه أبعد النجعة عن الحقيقة، وسلك التعسف سبيلا إلى فهم الآية، عاد يقول: "إني لم أقل إن هذا هو المعنى، ولكن أقول: إنه رمز له [92] وإشارة، فالآية باقية على ظاهر معناها ترمز إلى ما ذكرنا، فالدابة باقية على المعنى الأصلي، نكل علمها إلى الله تعالى [93] ، وتكون رمزا لهذا، فهذا قسم من أقسام الكناية في علم البيان [94] ، فاللفظ على حاله يشير لما اقترب منه كما وضحه الإمام الغزالي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة"؛ فقد جعلهما على حالهما، ورمز بهما إلى الشهوة والغضب [95] ، فافهم فإذا فهمت هذا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وقطع لسان كل معترض بعدك، فقد سدت في وجهه أبواب الجدال {وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَال} "اه.
2- أ- خروج الدابة وأبطولة (الرجعة) :
الرجعة من العقائد الأصيلة للشيعة كما هو معروف، ولقد كانت آية الدابة من بين الآيات التي يتخذون منها مستندا يدعمون به معتقدهم في الرجعة، وفي هذا المعنى قال الطبرسي [96] المفسر الشيعي في قوله تعالى: {أَخْرَجْنَا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} تخرج من بين الصفا والمروة فتخبر المؤمن بأنه مؤمن، والكافر بأنه كافر، وعند ذلك يرتفع التكليف، ولا تقبل التوبة وهو - يعني خروجها- علم [97] من أعلام الساعة، وقيل لا يبقى مؤمن إلا مسحته، ولا يبقى منافق إلا حطمته، تخرج ليلة جمع [98] والناس يسيرون إلى منى..(21/452)
ثم روى الطبرسي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "سئل عليٌّ - صلوات الرحمن عليه - عن الدابة فقال: (أما والله ما لها ذنب، وأن لها لحية".
ثم قال الطبرسي: "وفي هذا إشارة إلى أنها من الإنس".
ثم ذكر أن ابن عباس وحذيفة يقولان: "إنها من دواب الأرض".
ثم قال الطبرسي: وروي عن وهب أنه قال: وجهها وجه رجل، وسائر خلقها خلق الطير.
ثم عقب الطبرسي على هذه الرواية قائلا: "ومثل هذا لا يعرف إلا من النبوة الإلهية، وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: "إنه صاحب العصا والميسم" [99] ، وروى علي بن إبراهيم بن هاشم [100] في تفسيره عن أبي عبد الله [101] عليه السلام قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان: "آية في كتاب الله أفسدت قلبي" [102] قال عمار: وأية آية هي؟ فذكر له الرجل الآية، وسأله عن دابة الأرض؟ فقال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين، وهو يأكل تمرا وزبدا، فقال: يا أبا اليقظان هلم، فجلس عمار يأكل معه، فتعجب الرجل منه، فلما قام عمار، قال الرجل: سبحان الله!! حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ترينها، قال عمار: أريتكها إن كنت تعقل، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر رحمه الله.(21/453)
ثم ذكر الطبرسي الآية التالية لآية الدابة وهي قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} (83: النمل) ، ثم قال الطبرسي [103] : "واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة، من ذهب إلى ذلك من الإمامية، بأن قال: إن دخول (من) في الكلام يوجب التبعيض، فدل على أن اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم [104] دون قوم، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول في سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَد} (47: الكهف) ، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي [105] قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته؛ ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب في القتل على أيدي شيعته، والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته، ولا يشك عاقل في أن هذا مقدور لله تعالى [106] ، غير مستحيل في نفسه، وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية، ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره، على ما فسرناه في موضعه"اه.
ب- رد الطبرسي على متأولي الرجعة من الشيعة:(21/454)
أحس بعض عقلاء الشيعة أن القول بالرجعة لا سند له من الحق، فتأولوها على نحو لا يصادم المعقول، وندع الحديث عنهم للطبرسي إذ يقول: "على أن جماعة من الإمامية تأولوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي، دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكاليف، وليس كذلك؛ لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب، والامتناع عن القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة، كفلق البحر، وقلب العصا ثعبانا، وما أشبه ذلك، ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل إليها، وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده" [107] .
مناقشتنا للطبرسي:
ونحن نعجب لهذا التناقض من الطبرسي بين قوله: إن جماعة من الإمامية تأولوا الأخبار الواردة في الرجعة.. وقوله: إن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة، فلماذا يؤولون أخبارا لا يعول عليها.
والحلقة الثانية من حلقات التناقض: اعترافه بأن بعض الشيعة تأولوا (الرجعة) ، ثم دعواه إجماع الشيعة على الرجعة، فأين الإجماع مع أن فريقا من الشيعة يؤولون.
والحلقة الثالثة: بأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار، ثم يدعي أن العبرة بإجماع الشيعة، والرجعة أمر غيب، والأمور الغيبية لا تثبت إلا بالنقل، لا بالإجماع؛ إذ كيف يجمع فريق من الناس على أن أمرا سيقع إلا إذا كان لهم برهان من كتاب من عند الله، أو خبر عن نبي مرسل، أو سولت لهم أنفسهم أنهم يعلمون الغيب!!.
ج- زعم الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى عليا رضي الله عنه (دابة الأرض) :(21/455)
ولم يقتصر الشيعة في أمر الدابة على ما سبق ذكره، وإنما ينقل الطباطبائي [108] عن القمي تفسير آية النمل المذكورة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بِعَليّ رضي الله عنه وهو نائم بالمسجد، فحركه برجله ثم قال له: "قم يا دابة الأرض"؛ فقال رجل من أصحاب النبي يا رسول الله: أيسمى بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا والله، ما هو إلا له خاصة، وهو (الدابة) الذي ذكره الله في كتابه..ثم قال: "يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، ومعك ميسم تسم به أعداءك".
ثم روى الطباطبائي أن رجلا قال لأبي عبد الله عليه السلام: "إن هذه الآية إنما هي (تكلمهم) فقال: كَلمَهم الله في نار جهنم، إنما هي تكلمهم من الكلام".
ثم بين الطباطبائي أن الروايات في هذا المعنى من طرق الشيعة كثيرة.
ثم نقل عن القمي ما نقله قبله الطبرسي من أن "قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} إنما هي في الرجعة وليست في القيامة"اه- بإيجاز.
ويذهب الطباطبائي [109] : "إلى أن المقصود بالدابة ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان، وأن المقصود بإخراجه: الإحياء والبعث بعد الموت.. وأن سكوت القرآن عن تفصيل القول في أخبار الدابة دليل القصد إلى الإبهام، ليكو الكلام مرموزا فيه..".
وما ساق الطباطبائي هذه المقدمات إلا ليستدل بها على الرجعة.
د- رأي شيعي معاصر:(21/456)
وتقتضينا الأمانة العلمية أن نذكر رأيا لأحد الشيعة المعاصرين حول موضوع الدابة، ونصه هو [110] : "أما الدابة فقد كثر الكلام فيها، والله سبحانه لم يبين ما هي، والحديث عن المعصوم في بيانها لم يثبت، حتى لو صح سنده لم نعمل به لأنه خبر واحد [111] ، وهو حجة في الأحكام الفرعية، لا في السمعيات وأصول العقيدة، والقول بغير علم حرام، فلم يبق إلا الأخذ بظاهر الآية الذي يدل على أن الله سبحانه عندما يحشر الناس للحساب، يخرج من الأرض مخلوقا، يعلن أن الكافرين جحدوا الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته".
هـ- تسرب الرواية الشيعية حول الدابة إلى بعض التفاسير السنية:
وجدنا الرواية الشيعية القائلة بأن الدابة هي علي رضي الله عنه قد تسربت إلى بعض التفاسير السنية، ومثال ذلك ما أورده البغوي [112] ونصه: "وروي عن علي أنه قال: ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية) ، ثم عقب البغوي بقوله: كأنه يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة".
وما أورده البغوي، أورده ابن كثير [113] وكذلك ذكره القرطبي [114] وغيرهم.
- الدابة وعصا موسى عليه السلام:
ذكر الفيروزأبادي [115] في تفسير آية الدابة ما يلي: " {وَإِذَا وَقَعَ} وجب {القَوْلُ عَليْهِمْ} بالسخط والعذاب، {أَخْرَجْنَا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} بين الصفا والمروة، وهي عصا [116] موسى، ويقال معها عصا موسى، {تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا} بآيات ربنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، ويقال بخروج الدابة {لا يُوقِنُونَ} : لا يصدقون، وإن قرأت تَكلِمُهم: بنصب التاء: تضربهم وتجرحهم".
4- الدابة بين الكَلم والكلام:
وردت لقوله تعالى (تكلمهم) من الآية قراءتان:
الأولى: (تكلمهم) بضم التاء وتشديد اللام المكسورة، وقد قال القرطبي [117] عنها إنها قراءة العامة، أي جمهور القراء.(21/457)
واستدل لها بقراءة أبي (تنبئهم) .
والذي أرجحه أن قراءة أبي هذه ليست قراءة، وإنما هي من باب التفسير.
وقالوا في تفسير القراءة إنها تكلمهم ببطلان الأديان سوى الإسلام، وقيل تكلمهم بما يسوءهم، وقيل تكلمهم بلسان ذلق يسمعه من قرب وبعد {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} ، أي بخروجها لأن خروجها من الآيات.
وبعض المفسرين حمل هذه القراءة على أنها تكثير وتضعيف [118] من (تكلمهم) .
وفي هذا قال الزمخشري [119] : "ويجوز أن يكون (تكلمهم) بضم التاء وتشديد اللام المكسورة من الكلم أيضا على معنى التكثير، يقال: فلان مكلم، أي مجرح، فهي عنده كقراءة (لنحرقنه) - بتشديد الراء - التي فسرت بقراءة علي رضي الله عنه (لنحرقنه) بغير تشديد الراء".
والثانية: هي (تكلمهم) بفتح التاء وسكون الكاف وكسر اللام، من الكلم وهو الجرح.
وفسر بعضهم (كلمها) بما رواه أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم".
وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن علي أيضا من أنها تُكلِّم المؤمن [120] وتَكْلم الكافر، أي تجرحه [121] .
5- تأويل الدابة ودودة القطن:
وأما الذين إذا ذكر خبر من أخبار الغيب اشمأزت نفوسهم، وتجهمت وجوههم، فقد كبر عليهم أن يخرج الله دابة من الأرض تكلم الناس، فحاروا وداروا واستبانوا أنهم لا يستطيعون التكذيب، فبحثوا عن مخرج للتأويل، وأعانهم على بحثهم هذا أن أسعفتهم رواية ابن عباس التي يقرأ فيها (تكلمهم) [122] بفتح التاء وبتخفيف اللام، من الكلم وهو الجرح، وأنه رضي الله عنه لما سئل هل هي تكلِّمهم أو تكلمهم فقال: "كل ذلك تفعل تكلِّم المؤمن، وتكلم الكافر".(21/458)
فارتضى دعاة العقلانية هذه القراءة لأنها أقرب إلى التصورات المادية، ولقد سمعت منذ عشرين عاما محاضرا يقرأ هذه الآية الكريمة ويفسر دابة الأرض بأنها حشرات الزرع، وخص دودة القطن من بين هذه الحشرات؛ لأنها كلمت القوم وآذتهم بإتيانها على محصول القطن، وكانت مصر وقتها تمر بمحنة زراعية من جراء إتلاف هذه الدودة البغيضة للقطن، وما أظن هذا المحاضر بهذا التأويل إلا آثِرا له عن غيره، وليس آتيا به من عند نفسه، وغاب عنه أنها من أمارات الساعة، وأن القطن لا يزرع في كل بلدان العالم.
6- تأويل الدابة بالمذياع:
وجاء مؤول آخر [123] آمن بأن الدابة تكلم الناس، ولكن تفسيرها لكلامها كان تفسيرا هازلا كسابقه، فقد قال: إن الدابة هي المذياع، وإن كلامها هو هذه الأصوات التي تتردد عبر الأثير وأجهزة الاستقبال إلى آذان المستمعين.
7- تأويل الدابة بسفينة الفضاء:
وعندما أطلقت أول سفينة فضاء في الجو في خمسينيات هذا لبقرن سمعنا من يقول: إن سفينة الفضاء هذه هي الدابة التي حدثنا الله عنها في سورة النمل، وهو تأويل لا سند له من اللغة، ولا مسوغ له من السياق، وإنما هو تأويل متعسف وممجوج.
8- الدابة والإسرائيليات:
وكما كثرت هذه التأويلات الممجوجة حول الدابة، كذلك كثرت الروايات الإسرائيلية [124] حولها فجاءت روايات تصفها بأن رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.. إلى غير ذلك من الأوصاف المتناقضة المتضاربة المتنافرة، التي تضحك الثكالى.
وجاءت روايات تصف مكان خروجها من تحت صخرة من صخور مكة.
وجاءت روايات تحدثنا عن أفعالها مع المؤمن والكافر، وعن عصا موسى عليه السلام التي تحملها.. إلى غير ذلك من الروايات.(21/459)
وأكثرها غير صحيح [125] ، وفي الصحيح غنية، وفي الزبد ما يغني عن المخيض.
9- تصورات متوهمة في شأن الدابة:
خبر الدابة من الأمور الغيبية التي يجب علينا أن نتلقاها مصدقين مؤمنين، إلا أن نفرا من المفسرين أورد في شأنها ما لا يقبل إلا إذا صحّ سنده عن سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
فمن هذه الروايات القول بأنها هي فصيل ناقة صالح.
وهو قول يصفه القرطبي بأنه أصح الأقوال، ولم يذكر لنا دليله على هذه الدعوى [126] .
ومن هذه الروايات أيضا القول بأن الدابة هي الثعبان المشرف على بناء الكعبة الذي اقتلعته العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة [127] .
ولا دليل أيضا على صحة هذه الرواية.
وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال [128] : "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: "لها ثلاث خرجات من الدهر؛ فتخرج في أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة -، ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة -".. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام؛ لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتى [129] ومعا، وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله؛ فبدأت بهم فجلت وجوههم، حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول له: يا فلان آلآن تصلي؟! فتقبل عليه فتسمه في وجهه، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطلحون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول: يا كافر اقض حقي".
10- أ- هل الدابة داعية يبعث ليقيم الحجة على الكافرين:(21/460)
نقل القرطبي [130] في تفسيره الرواية المنسوبة لعلي رضي الله عنه، والقائلة بأن الدابة ما لها ذنب وإنما لها لحية، ثم نقل تعليق الماوردي على هذه الرواية وهو: "وفي هذا القول إشارة منه إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به".
ثم بين القرطبي الصلة بين هذه الرواية وبين تأويل من التأويلات الواردة في شأن الدابة وهو قوله: "قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما، يناظر أهل البدع والكفر، ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة"اه.
ب- تفنيد القرطبي لهذا التأويل:
أخذ القرطبي بعد أن ذكر هذا التأويل، يبين رأيه ورأي العلماء فيه فقال: "وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا تكون من أمارات الساعة؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا تكون آية خاصة مقترنة بوقوع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم، الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان، أو بالعالم أو بالإمام، إلى أن يسمى بدابة؛ فهذا خروج عن عادة الفصحاء وعن تعظيم العلماء.. فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور".
الرأي الذي نرتضيه حول الدابة:(21/461)
بعد استعراض كل هذه الآراء السابقة [131] في شأن الدابة، نرى أن المنهج الأرشد في هذه المسألة وما شابهها من المسائل الغيبية، أن نقف أمام ما جاءنا من كتاب الله ساجدين، وأمام ما ورد عن رسول الله مصدقين، وقد روى الإمام أحمد بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: "أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاث خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم [132] حيث قالوا" [133] .
وإذا فخبر الدابة من أخبار الغيب، ومن علامات الساعة التي يجب أن نؤمن بها، والمنهج السديد حيالها هو كما عبر عنه الشيخ شلتوت رحمه الله بقوله [134] : "وماذا علينا لو وقفنا في حديثنا عن الغيبيات عند القدر الذي أخبر به القرآن، ثم تركنا ما وراءه من التفصيل [135] إلى اليوم الذي يأتي فيه تأويله وبيانه، وليس الخبر متعلقا بعمل مطلوب من العباد، وإنما هو إنذار ووعيد وتهديد".
الثالث عشر: تأويلات حول أخبار جهنم:
وردت في القرآن الكريم آيات مجيدة، تصف جهنم بأنها تتكلم: {وَتَقُولُ هَل مِنْ مَزِيدٍ} ، وأنها ترى أصحابها: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، وأنها {التِي تَطَّلِعُ عَلى الأَفْئِدَة} ، وأن لها {تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} ..
وكانت للمفسرين نظرات إلى هذه الآيات تختلف باختلاف مناهجهم.
فلنصطحبهم في تطوافهم.
هل تتكلم جهنم:
قال رب العزة جل جلاله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَل مِنْ مَزِيدٍ} (30: ق) .
أفاد ظاهر هذه الآية الكريمة أن جهنم خوطبت وسئلت، وأنها أجابت وقالت: هل من مزيد.(21/462)