وانظر إلى القرآن العظيم حينما يتخذ أسلوب التمثيل وسيلة إلى التغلغل في أعماق المنافقين فيكشف عن منازعهم ونوازعهم، ويبين خوالجهم ونبضاتهم، ويميط اللثام عن أدق حالاتهم وأحوالهم، ويلون سلوكهم ومشاربهم فها هو ذا- في أول سوره الطوال سورة البقرة- يحلل اتجاهاتهم، ويرسم بأسلوبه المشرق الأخاذ صورة تنبض بما يجيش في أعماقهم، وتومي إلى ما حاولوا الحفاظ عليه، وتفضح ما خفي من نقائصهم ونقائضهم.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [33] .(19/13)
هذا لون من المنافقين آتاهم الله دينا فيه هداية، وشريعة فيها صلاح وفلاح، فآمنوا إيمان ظاهريا، وعطلوا عقولهم، وألغوا تفكيرهم، ولم ينتفعوا بما جاءهم، ولم يقتفوا نهج من سلفهم، وكانوا أمة وحدهم، فابتكروا لأنفسهم منازع واتجاهات انحرفت بهم عن السنن الظاهر والحجة الواضحة، ولم يكتشفوا أنفسهم والهدي القائم بينهم والخير السائد فيهم، والنور الغامر لمن حولهم من المؤمنين الخالصين، فعموا عن ذلك كله وصموا، وضربوا صفحات عن هدي الله، وجعلوا بينهم وبين النور حجابا منيعا وسدا صلبا، فعاشوا بمعزل عن الحق وبمنأى عن الضياء، يهيمون في ديجور من الضلال وفي صلبا، فعاشوا بمعزل عن الحق وبمنأى عن الضياء، يهيمون في ديجور من الضلال وفي متاهة الباطل، لم ينعموا بما نعم له مخلصو المؤمنين من خير ونور وهدى.. مثل هؤلاء الصم البكم العمي في نفاقهم كمثل الذي استوقد نارا لينتفع بها في ليله الحالك فلما أضاءت النار ما حوله فرأى الضياء والسناء، سرعان ما أطفأها مطر شديد ذو ريح عاصف أخمد أوارها، وبدد لهيبها، فتحير وتخبط في الظلمات لا يدري ما يتجنبه ولا ما يتقيه.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [34] .(19/14)
وهذا صنف آخر من المنافقين كان فيهم بقية من رجاء ورمق من حياة أصاخوا بحواسهم ومشاعرهم إلى صوت الإيمان الحق، فاستجابوا له وآمنوا به.. ثم ساروا في طريق الله، يقتبسون أحيانا من نور التعاليم الإلهية، وتضيء سبيلهم معالم الشريعة ونور الحقيقة، ويسيرون خطوات ثم تتهاوى أقدامهم وتتعثر خطاهم، وتغشى بصائرهم، وتزيغ أبصارهم وينتكسون عندما يحكمون عقولهم، وتطغى عليهم تقاليد موروثة، وتعتلج في نفوسهم رواسب عفنة، فتهيج وتحيد بهم عن الجادة، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم.
يمثل القرآن حالة هذا الصنف الذي آمن ثم نكص، والذي انتفع آونة بإسلامه ثم آض إلى ما كان عليه بحال قوم كانوا يسيرون في مهمة متسع، وفي فلاة فسيحة، يلفهم فيها ظلام الليل الحالك، فوقفوا حيث يلتمسون النجاة ولا سبيل إليها.. ثم نزل بهم مطر غزير فيه رعد وبرق وصواعق، وقصف الرعد ولمع البرق، ودوت الصواعق.. وبين دفقات الخوف، ودفعات الرجاء يمشون خطوات في ضوء البرق الخاطف، ثم يذهب البرق ويذهب معه الضوء ويطبق عليهم الظلام وتحيط بهم العتمة، فيقفون في مكانهم، ويقيمون على حيرتهم ومخاوفهم مجترين أوهامهم وضلالاتهم..
ويقيمون على حيرتهم ومخاوفهم مجتردين أوهامهم وضلالاتهم..
وبهذا التمثيل الرائع أظهر القرآن للمؤمنين أن المنافقين في كل عصر وآن متفاوتون، ليسوا على شاكلة واحدة في الزيغ والمروق والخروج على المحجة والتعاليم، منهم من استقى من منبع الإيمان الصافي، ثم ارتد إلى الوحل يعب من الماء الراكد الآسن.. ومنهم من ظل هيمان صاديا يسدر في غوايته، ويهيم في ضلاله بعد أن ازور عن المنهل العذب وهو منه جد قريب.(19/15)
وإلى هذا يشير الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره فيقول: "ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه.. (يقصد المنافقين في كل عصر وزمان) مثلين ينبئان بانقسامه إلى فريقين خلافا لما عليه أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
الأول: من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمارها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطناً، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمراً خصوا به، أو خيراً سيق إليهم لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في أنفسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم لأن حفظ الموجود أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا، فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة وانطماس الآثار دونها عنده مثل من استوقد نارا.(19/16)
والوجه في التمثيل: أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه وقد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضيء بها في ظلمات الريب والمشكلات ويبصر ضوءها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشبهات فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد وكان بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، وهجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما الفريق الثاني: فقد ضرب الله له المثل في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق من نظره الحين بعد الحين، عندما تحركه الفطرة أو تدفعه الحوادث لنظر فيما بين يديه ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من الهوالك وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي، ويبرق في عينيه نور الهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير.. لا يدري أين يذهب؟ ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه.. هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا.."(19/17)
ويبلغ القرآن قمة التأثير ونهاية الإبداع حينما يصور حال المعوقين عن الجهاد وما يدور في قلوبهم من الفزع والقلق والاضطراب فيقول: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً..} [35] .
فالصورة الأولى في الآيات صورة المعوقين عن الجهاد الفزعين من المضي إليه، الذين لا يريدون أن يتحملوا نصيبا من أعبائه فهم ذو نفوس قلقة مضطربة يتنازعها عاملان أساسيان، أولهما هو الخوف الذي يسيطر عليهم من المآل الفظيع المحدق بهم لو انكشف أمرهم، وبانت سرائرهم، ومن هنا فهم يرتعدون في حركاتهم.. وثانيهما هو الوصول إلى غاية التثبيط عن واجب الجهاد وهو عامل أقل شأناً في واقعهم من العامل الأول لأنهم حينما ينادون حقيقة إلى الجهاد تترجرج أحداقهم في محاجرها دليلاً على تقلصات نفوسهم من شدة الخوف..
والصورة الثانية هي صورة من يعالج سكرات الموت، يتنازع نفسه المال المظلم والخوف العميق من الجزاء المحتوم، دون أن تكون عنده القوة أو الإرادة التي يعتمد عليها في موقفه. أليست صورة المشبه به موحية كل الإيحاء بما كان عليه أولئك المعوقون للجهاد من ضعف في الإرادة وخيبة في المآل؟(19/18)
3- إن عناصر التمثيل في القرآن الكريم مستمدة من الطبيعة، تلك الطبيعة التي ما زالت تشهد مرور الأجيال البشرية وهي ثابتة على حالتها المتغيرة، ومن هنا نلحظ ارتباط الإنسان- في أي جيل- بهذه الطبيعة التي تمثل الميدان الفسيح الذي يؤدي عليه الجنس الآدمي دوره في الحياة وكلما امتزجت عناصر هذا الاختلاط بين الإنسان والطبيعة ازدادت القرابة بينهما، وبرزت الألفة القائمة على معرفة الإنسان بأدق مظاهر الطبيعة، ومن هنا فإن التمثيل في القرآن مستمر استمرار الطبيعة نفسها وعام يدركه الناس جميعاً فنحن لا نكاد نجد في القرآن تمثيلا واحداً يدرك جماله شخص دون آخر، أو يتأثر به إنسان دون إنسان فالتمثيل في القرآن يختلف عن التمثيل عند العرب في الجاهلية مثلاً، لأن هذا الأخير مستمد من بيئة خاصة لا يدركه إلا من عاش في هذه البيئة وعاشر أشياءها على اختلاف طبقاتها من نبات وحيوان وجماد.
- فالطبيعة هي ميدان التمثيلات القرآنية منها استمدت حيويتها وتجددها الدائمين دوام الإنسان والطبيعة..
والتمثيل عند ما يستمد عناصره من الطبيعة التي تختلف من مكان إلى مكان وفي زمان عن زمان يهدف إلى أن يكون مؤثراً في كل وجدان مسيطراً على كل تفكير فالقرآن عندما يوضح أعمال الكفار في هذه الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [36] .. ندرك لأول وهلة أن أعمال الكفار لا قيمة لها ولا غناء فيها مهما كلفت أصحابها من جهد ومشقة ومهما بلغت من الخير، فمثلها كمثل السراب وهو ظاهرة من ظواهر الطبيعة، يغري منظرها الظامئ فيسرع نحوها متكلفا في ذلك جهداً حتى يصل إلى مرمى البصر لاهث الأنفاس خائر القوى.. ثم لا يجد شيئا، فتصور هنا كيف تكون نفسه بعد أن قطع مرحلة من المسير ولم يبل صداه، وكذلك الكافر.(19/19)
ثم انظر إلى الآية الثانية {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ..} [37] ..
كلما هالك تمثيل في موقف وانتقلت إلى غيره وجدت الموقف أشد هولا ًوهل هناك أشد رهبة وظلمة من أمواج بحر لجي بعضها فوق بعض يكتنفها سحاب مظلم؟ إن موقف الكفار الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله رهيب أرهب من أي شيء، وأعمالهم مظلمة بل أشد ظلاماً من الليل، وليس أمامهم بصيص من النور يهتدون به إلى سواء السبيل.
وهذا الانسجام في التنسيق بين الكلمات ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض..
ينتقل بك إلى خضم لا تكاد تدرك فيه نفسك فتغمرك الخشية من جانب، وتمثل هؤلاء الضالين متخبطين في عالم أسود لا ينبلج له صبح ولا تطلع فيه الشمس، كما أن كلمات المشبه به المتسقة المترابطة توحي بالنهاية المحتومة التي تحيط بهؤلاء، وبقلوبهم الكالحة التي لا تنبض بالرحمة، ولا تلين للحق.
ثم تأمل هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [38] ..
إنها تمثل أعمال الكفار في ضياعها وذهابها إلى غير عودة بالرماد الهش الذي تذروه الرياح وتذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبداً.(19/20)
إن القرآن يتخذ من الرماد وهو عنصر من عناصر الطبيعة مثلاً لأعمال الكفار الضائعة، ثم يبلغ قمة التأثير حينما يضم إلى الرماد الريح الشديدة العاتية، إن الرماد لا يقوى على الصمود أمام قوى الرياح العاتية العارمة، إنه يتحلل وتتفتت ذراته، ويصبح لا شيء في دنيا العدم وأعمال الكفار مهما جلت وكثرت كهذا الرماد الذي انعدم وتلاشى في جوف الريح الهادرة.
أرأيت أجمل من هذا التصوير الخالد ولا أعجب من هذا التمثيل المعجز؟..
إن في هذا التمثيل من قوة التأثير وجمال التعبير ما يعجز عن إدراكه أساطين البيان.
وعن بلاغة التمثيل في الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "ومشهد الرماد تشد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا، يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك؛ فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل، فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.. وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر" [39] .(19/21)
وتأمل هذه الآية الكريمة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ [40] فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [41] فَآزَرَهُ [42] فَاسْتَغْلَظ [43] َ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [44] يُعْجِبُ الزُّرَّاع..} [45] .
إن الآية الكريمة تمثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم- في ترقيهم في الزيادة إلى أن قووا واستحكموا بزرع أثمر وأينع ثم قوى وغلظ ثم استوى واستقام حتى أعجب الخاصة من الزراع والعامة من الناظرين.
إنه تمثيل عجيب، وتصوير فني بديع، يستمد عناصره من الطبيعة فيصل إلى نهاية الإبداع وقوة التأثير إنه يجعلك كأنك أمام مشهد يفيض بالحركة والحياة يجعل الغائب مشاهدا والخفي واضحا جليا، ويقرب المراد من العقل ويرفع الأستار عن الحقائق، ويعرض المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر.
يقول المحقق الألوسي [46] : "وهو مثل ضربه سبحانه وتعالى للصحابة رضي الله عنهم قلوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم يوماً فيوما بحيث أعجب الناس.
ثم يتابع الألوسي كلامه فيقول: "وفي الكشاف: وهو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام، وترقية في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قام وحده، ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها.. وظاهره أن الزرع هو النبي صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه- رضي الله عنهم- فيكون مثلاً له عليه السلام وأصحابه لا لأصحابه فقط.."(19/22)
والتمثيل القرآني بهذه الخصائص الفنية التي لا توجد في غيره يعد من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم، فأسلوبه يعجز أساطين البيان عن محاكاته، ونظمه فوق طاقة البشر، وتركيبه لا يقدر عليه إلا خالق الأرض والسموات ... [47] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر القاموس المحيط مادة (مثل) جـ 4 ص 48،49.
[2] انظر نقد الشعر ص 85.
[3] انظر الصناعتين ص 353-356.
[4] انظر العمدة جـ اص 187-189.
[5] راجع كتاب أسرار البلاغة ص 68 وما بعدها، الطبعة السادسة بمطبعة محمد على صبيح في سنة 1379 هـ، 1959م.
[6] الأدهم: الفرس.
[7] أي غير غرزي بألا يكون من الغرائز والطباع.
[8] راجع مفتاح العلوم ص 142 المطبعة الميمنية.
[9] راجع ص 133 وما بعدها من الإيضاح ط القاهرة 1966م.
[10] سورة يونس آية 24.
[11] سورة الجمعة آية 5.
[12] انظر ص 81 من كتاب أسرار البلاغة للشيخ عبد القاهر الجرجاني.
[13] طويت: أخفيت: أتاح:هيأ، العرف: الرائحة.
[14] التبيان لأبي البقاء العكبري جـ 3 ص 271.
[15] الهرم: الكبر والعجز.
[16] الشأن في مثل هذا الوجه أن يكون مفردا.
[17] راجع أسرار البلاغة ص 84 - 87 الطبعة السادسة بمطبعة محمد على صبيح في سنة 1379 هـ 1959م.
[18] الخلاف بكسر الخاء: صنف من الصفصاف وليس به ويسمى خلافا لأن السيل يجيء به سبيا فينبت من خلاف أصله.
[19] الشكس بوزن فلس صعب الخلق، أسعفه بحاجته: قضاها له والمساعفة: المؤاتاة والمساعدة، العسف: الأخذ على غير الطريق ومثله التعسف والاعتساف والعسوف: الظلوم.
[20] زحل: نجم من الخنس لا ينصرف مثل عمر.(19/23)
[21] الزوامل: هي ما يحمل عليها من الإبل وغيرها واحدها زاملة، الأباعر: جمع بعير، أوساقه: أحماله، الغرائر: جمع غرارة بكسر الغين.
[22] الحمام: قدر الموت.
[23] النوار: أزهار الشجر: يقال نورت الشجر تنويرا وأنارت: أخرجت نورها والنوار مشددا مضموما: نور الشجرة الواحدة.
[24] الأسلاب جمع سلب وهو الشيء المسلوب، الخاف بالخاء المعجمة وتشديد الراء مبالغة من خرف الثمار إذا جناها.
[25] سورة الجمعة آية 5.
[26] راحة اسرار البلأغة ص 73- 74 الطبعة السادسة مطبعة صبيح.
[27] المدثر آيه 51,50.
[28] أنظر هامش ص 200 من بلاغه قران للدكتور أحمد بدوي طبعة القاهرة سنة 1950 م.
[29] يونس آيه 24.
[30] الكهف آية 45.
[31] الحديد آية 20.
[32] انظر ص 209 من كتاب بلاغة القرآن طبعة القاهرة سنة 1950 م.
[33] سورة البقرة الآيات من 15- 19.
[34] سورة البقرة آية 20، 21.
[35] سورة الأحزاب آية 18،19.
[36] سورة النور آية 39.
[37] سورة النور آية 40.
[38] سورة إبراهيم آية 18.
[39] انظر ص 75 جـ 13 من ظلال القرآن.
[40] سيماهم: علامتهم.
[41] شطأة: فروعه في الجانبين.
[42] آزره: أعانه.
[43] استغلظ: تحول من الدقة إلى الغلظة.
[44] استوى على سوقه: استقام على ساقه.
[45] سورة الفتح آية 29.
[46]- انظر ص 127 جـ 26 من تفسير (روح المعاني) .
[47]- انظر ص 93 وما بعدها من كتابنا (الإعجاز في نظم القرآن) طبعة القاهرة سنة 1397هـ.(19/24)
سهام طائشة
فضيلة الدكتور/ مصطفى يونس
هناك في رحاب الحرم الآمن، وفي ربوعه الطاهرة المقدسة، انطلقت سهام طائشة، واندلعت فتنة محمومة، روعت القائم الذاكر، وأخافت الراكع الساجد، ونشرت الرعب والفزع في قلوب الآمنين.
عشت مع هذه الأحداث المروعة كما عاشها كل مسلم، وانطلقت بهذه الأبيات:
فاجر آثم يفيض انتقاما
روع الأمن واستباح الحراما
أن يرّد الضياء فينا ظلاما
عابث ينشر الفساد ويبغي
ويشيع الضلال والإجراما
راح يرمي بعدة وعتاد
لم يوقر محرما أو حراما
رووَّع المسجد الحرام بفتك
ينشر الخوف والأذى والسقاما
عاث بالمسجد الحرام فسادا
وأذاق الحجيج كأساً زؤاما
روَّع الآمنين من كل فج
وأصابت بطيشها الإسلاما
فتنة حيرت عقول البرايا
خانت الله والحمى والذماما
أيقظتها مع الصباح ذئاب
تبعث الرعب والردى والحماما
أشعلتها على السلام حرابا
بين قومي ومن أراد انفصاما
لا رعى الله من دعا لشرور
أنه جاء مرشدا وإماما
يا لهذا الدعيّ يزعم زورا
وانتصارا وعزة ووئاما
يبتغي للوجود أمنا وخيرا
في رحاب الإله باتوا كراما؟
أمن الأمن أن يروّع خلق
صانه الله قبلة ومقاما؟
أمن الخير أن يلوث بيت
دون ذنب لحتفها أو تضاما؟
أمن النصر أن تساق جموع
تعبد الله سجدا وقياما؟
أمن العز أن تذل جباه
أن تثيروا على رباها انقساما؟
أمن الحب والوئام بأرض
أو عداء يقطع الأرحاما
دعوة الله ليس فيها خصام
أو رصاص يمزق الأجساما
أو قتال لمسلم وبرئ
يجعل الدين مدية وحساما
أو ضلال وفتنة ومروق
واقتناع يخاطب الأفهاما
دعوة الله حكمة ورشاد(19/25)
واتباع يوحد الأقساما
وامتثال لكل معنى نبيل
جاء بالحق شرعة ونظاما
قادها للهدى نبي كريم
فاستقر البناء صلبا وداما
قاد بالخير أمة وبناها
ووقاها الشرور والآلاما
يا رعى الله أمتي وحماها
فتناست صراعها والخصاما
جمع الرزء شملها من جديد
يرخصون الفداء مهما تسامى
وقف الخلق في رباها جميعا
ومشى الأرز يحضن الأهراما
صافح النيل بالعزاء فراتا
فوق هام الزمان كانت وساما
أمة الخير هكذا من قديم
تحمل الرزء أو ترد السهاما
إن دهاها البلاء هبت جميعا
بارك الله في حماكم دواما
يا ربوع الحجاز يا بطن نجد
وافتديتم بروحكم أقواما
قد حملتم عن البرية عبئا
إن هذا البلاء عم الأناما
ليس هذا المصاب وقفا عليكم
واسمعوها من الورى أنغاما
فاقبلوها من الأنام تحايا
تحمل الشكر ناصعا بساما
وارفعوها إلى المليك المفدى
ورعى الفهد قائدا مقداما
يا رعى الله خالدا وذويه
في مجال القتال كانوا عظاما
ورعى الله للعروبة جندا(19/26)
الرد على من كذَّب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي.
لفضيلة الشيخ: عبد المحسن بن حمد العباد
عضوية هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه وبركاته على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
ففي فجر يوم الثلاثاء الموافق الأول من شهر المحرم من عام ألف وأربعمائة من الهجرة تسللت إلى بيت الله الحرام شرذمة آثمة ظالمة من الهمج السذج ممن عميت بصائرهم وساءت أفهامهم وانحط تفكيرهم ومعهم الأسلحة مقدمين شخصاً زعموه المهدي المنتظر الذي جاء ذكره في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى بسبب إجرامهم واعتدائهم فتنة عظيمة ومصيبة كبيرة ذهب ضحيتها كثيرون من الأبرياء من الحجاج وغيرهم، وقد رد الله كيدهم في نحورهم وكان تدميرهم في تدبيرهم. وإنما قلت أنهم ممن عميت بصائرهم وساءت أفهامهم وانحط تفكيرهم للأمور التالية:
أولا: أن عملهم الإجرامي حصل في أقدس مكان على وجه الأرض في بلد من دخله حتى الصيد فإن يأمن فيه فلا يزعج ولا ينفر.
ثانيا: أنه ورد في بعض الأحاديث الواردة في خروج المهدي في آخر الزمان أنه يبعث على اختلاف من الناس وزلازل وهؤلاء خرجوا على المسلمين بالبلاء والفتنة في بلاد تتمتع بالأمن والاستقرار على وجه لا مثيل له في أنحاء الأرض وذلك بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية فيها.
ثالثا: أن متمهديهم الذي زعموه المهدي الذي جاء ذكره في الأحاديث مشتهر بنسبة القحطاني وذكر بعد ذلك أن والده قال أنه من أصل تركي وقد ذكرني ذلك أبياتا أوردها ياقوت الحموي في معجم الأدباء منها البيت التالي:
واختلط الناس اختلاط الحيس
وادعت الروم أباً في قيس
يعني ادعت الروم أنها من سلالة قيس عيلان فهو تركي ثم قحطاني ثم القرشي هاشمي ثم هالك.(19/27)
رابعا: أنهم خرجوا عن طاعة ولي الأمر في هذه البلاد الإسلامية التي هي قلب العالم وحكومتها هي الحكومة التي تحكم بشريعة الإسلام في هذا العصر وقد نشأ السعوديون من هذه الفئة المعتدية ونشأ آباؤهم من قبلهم كما نشأ غيرهم في ولايتها في أمن وطمأنينة لكن هكذا شأن اللئام إنكار الفضل والإحسان.
ومن الذي يجحد فضل الملك عبد العزيز رحمه الله وما ساقه الله على يديه من الخير العظيم والنفع العميم في توحيد الجزيرة العربية وحكمها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإحلال الأمن والاستقرار فيها محل الذعر والخوف والسلب والنهب ومن بعده الملك سعود رحمه الله الذي فتح الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في عام 1381هـ لأبناء المسلمين من كل مكان يتعلمون فيها العلوم الشرعية ويتثقفون بالثقافة الإسلامية الخالصة النقية ثم يعودون إلى بلادهم دعاة إلى الخير وهداة إلى الصراط المستقيم. ومن الذي يجحد فضل الملك فيصل رحمه الله الذي قاد السفينة أكثر من عشر سنوات وسار فيها بجد وحزم وقوة ويقظة ومواصلة العمل في المصالح العامة في الليل والنهار حتى وافته المنية وهو مكب على عمله في مكتبه ومن بعده خلفه في السير على درب الخير أخواه جلالة الملك خالد وسمو ولي العهد الأمير فهد. ونسأل الله عز وجل أن يثبت حكومتهما السنية على دينه والاستمساك بهدية والالتزام بأمره ونهيه إذ أن ذلك هو السبب الحقيقي لاستمرار النصر والتأييد.
خامسا: أنهم فيما ذكر عنهم أقدموا على عملهم الشنيع معتمدين على أحلام منام أصبحوا نتيجة لها في خبر كان ودخلوا التاريخ أسوأ دخول وأعادوا إلى الأذهان حادثة اعتداء القرامطة في المسجد الحرام وقتل الحجاج فيه سنة سبع عشرة بعد الثلاثمائة من الهجرة.(19/28)
سادسا: أن الزمان الذي ينزل فيه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء ويخرج فيه المهدي والدجال يختلف عن الزمان الذي نعيش فيه كما ترشد إلى ذلك الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما في صحيح مسلم من أن عيسى عليه الصلاة والسلام يقتل الدجال ويرى أصحابه دمه في حربته ومنها الحديث الدال على أن مركوب الدجال حمار عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً وهو حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه ومنها حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن المسلمين يغزون الروم وفيه فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا وصلوا الشام خرج ومنها حديث ابن مسعود في صحيح مسلم في غزو المسلمين الروم أيضا وفيه فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ"، ومنها الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده عن عكرمة بن خالد قال حدثني فلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نال رجل من بني تميم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تقل فيهم إلا خيرا فإنهم أطول الناس رماحا على الدجال".
فهذه الأحاديث تشعر بأن من السلاح المستعمل في ذلك الزمان الحراب والسيوف والرماح وأن من الدواب التي تركب الحمر والخيل وأن المسلمين يغزون الروم عند خروج الدجال مجاهدين في سبيل الله مستخدمين الخيل ويدل لبقاء الخيل وجهاد المسلمين عليها في سبيل الله في المستقبل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".(19/29)
وهذه الأنواع من الأسلحة توجد في هذا العصر في المتاحف للفرجة أما الخيول فمنذ أمد لم يجاهد عليها في سبيل الله وتستخدم في السباق وجر الأثقال ونحو ذلك، ولا شك أن الخيل والحمير وهذه الأسلحة ستستعمل في آخر الزمان لدلالة هذه الأحاديث الصحيحة على ذلك أما مركوب هذا الزمان من الطائرات والسيارات وأسلحته الفتاكة فهل سيبقى نوعها حتى ذلك الزمان أو تنتهي قبله؟ علم ذلك عند الله تعالى.
لكن جهاد المسلمين في آخر الزمان على الخيل وسلاحهم السيوف والحراب والرماح مع ما جبل الله عليه النفوس البشرية من تفضيل المركوب المريح السريع واستعمال السلاح الأنكى في جهاد الأعداء قد يفهم منه انتهاء هذه المركوبات المريحة والأسلحة الفتاكة قبل ذلك الزمان والله تعالى أعلم، أما حمار الدجال وضخامته فهو من جملة فتنته التي هي أعظم فتنة في الحياة الدنيا كما ثبتت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى أثر وقوع هذا الحادث المؤلم لقلب كل مسلم حصلت بعض التساؤلات عن خروج المهدي في آخر الزمان وهل صح فيه شيء من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوضح بعض العلماء في الإذاعة والصحف صحة كثير من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد فقد تحدث في الإذاعة وكتب في بعض الصحف مبينا ثبوت ذلك بالأحاديث المستفيضة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستنكرا ما قام به هؤلاء المبطلون من الاعتداء في بيت الله الحرام ومنهم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف فقد ندد في إحدى خطب الجمعة باعتداء هذه الفئة الآثمة الظالمة وبين أنهم ومن زعموه المهدي في واد والمهدي الذي جاء ذكره في الأحاديث في واد آخر.(19/30)
وحصل في مقابل ذلك أن أصدر فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رئيس المحاكم الشرعية في دولة قطر رسالة سماها (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر) نحا فيها منحى بعض الكتاب في القرن الرابع عشر ممن ليست لهم خبرة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه وسقيمه وفيه من تعويله على الشبهات العقلية وكذب بكل ما ورد في المهدي وقال كما قالوا إنها أحاديث خرافة وأنها وأنها ... الخ.
وقد رأيت كتابة هذه السطور مبينا أخطاءه وأوهامه في هذه الرسالة وموضحا أن القول بخروج المهدي في آخر الزمان هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهو ما عليه العلماء من أهل السنة والأثر في القديم والحديث إلا من شذ.
ومن المناسب أن أشير هنا إلى أنني سبق أن كتبت بحثا بعنوان (عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر) وقد نشر هذا البحث في العدد الثالث من السنة الأولى من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الصادر في شهر ذي القعدة عام 1388 هـ يشتمل هذا البحث على عشرة أمور:
الأول: في ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: في ذكر أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم.
الثالث: في ذكر العلماء الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف.
الرابع: في ذكر العلماء الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي وحكاية كلامهم في ذلك.
الخامس: في ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث التي لها تعلق بشأن المهدي.
السادس: في ذكر بعض الأحاديث في شأن المهدي الواردة في غير الصحيحين مع الكلام على أسانيد بعضها.
السابع: في ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها وحكاية كلامهم في ذلك.
الثامن: في ذكر من وقفت عليه ممن حكى عنه إنكار الأحاديث في المهدي أو التردد فيها مع مناقشة كلامه باختصار.(19/31)
التاسع: في ذكر بعض ما يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي والجواب عن ذلك.
العاشر: كلمة ختامية في بيان أن التصديق بخروج المهدي في آخر الزمان من الإيمان بالغيب، وأن لا علاقة لعقيدة أهل السنة في المهدي بعقيدة الشيعة.
1- سمى الشيخ ابن محمود رسالته (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر) وقال في ص 14:
"يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائما على أنه لا مهدي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا نبي بعده".
وقال في ص 29:
"والحق الذي نعتقده وندعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه هو أنه لا مهدي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا نبي بعده".
أقول: أولا: هذه التسمية وهي قوله: (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر) فيها إطلاق يدخل فيه إنكار خروج المهدي في آخر الزمان ويفهم من جملة (بعد الرسول خير البشر) إنكار نزول عيسى عليه الصلاة السلام في آخر الزمان ولو كانت هذه العبارات فيها تقييد لا يفهم منه احتمال إنكار نزول عيسى عليه الصلاة والسلام لكان بعض الشر أهون من بعض.
ثم إن الرسالة لم تشتمل على التصريح بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام إلا ضمن كلام أهل السنة الذين ألفت الرسالة للإنكار عليهم بل اشتملت في ص 15 على إيراد حديث فيه نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال وصلاته خلف المهدي قال فيه الشيخ ابن محمود نقلا عن الشيخ على القاري في كتابه الموضوعات الكبير أنه موضوع مع أن الشيخ علي القاري لم يقل فيه أنه موضوع بل قال عنه في كتابه المذكور أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي نقل كلامه بلفظه.(19/32)
ثانيا: هذه الدعوة إلى إنكار خروج المهدي في آخر الزمان دعوة إلى إنكار ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث في ذلك ودعوة إلى سلوك مسلك يخالف ما درج عليه العلماء من أهل السنة مثل البيهقي والعقيلي والخطابي والقاضي عياض والقرطبي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم.
2ـ وقال الشيخ عبد الله بن محمود في ص 3:
"وإن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولا بين التابعين"انتهى.
والجواب أن الأحاديث الكثيرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خروج المهدي في آخر الزمان قد تلقاها عنه الصحابة رضي الله عنهم وتلقاها عنهم التابعون فكيف يقال أنه لم يكن لذلك ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولا بين التابعين، وقد قال الشوكاني في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح كما في كتاب الإذاعة لصديق حسن خان: "والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك". انتهى.
3ـ قال الشيخ ابن محمود في ص 3:
"وإن أصل من تبنى هذه الفكرة - يعني فكرة المهدي - والعقيدة هم الشيعة الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وهو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري فسرت هذه الفكرة وهذا الاعتقاد بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة فدخلت معتقدهم وهي ليست من أصل عقيدتهم". انتهى.
وقال أيضا في ص 30:(19/33)
"والمهدي في مبدأ دعوته واحد وليس باثنين فلم يقل أحد أنهما مهديان وإنما هو مهدي واحد تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة فكل لوم أو ذم ينحى به على الشيعة لإيمانهم بإمامهم محمد بن الحسن الذي هو في السرداب فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب فهما في فساد الاعتقاد به سيان". انتهى.
والجواب أن هناك فرقا كبيرا وبونا شاسعا بين الشيعة وأهل السنة فالمهدي عند أهل السنة لا يعدو كونه إماما من أئمة المسلمين الذين ينشرون العدل ويطبقون شريعة الإسلام يولد في آخر الزمان ويتولى أمرة المسلمين ويكون خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء في زمانه وهو غير معصوم ومستندهم في ذلك أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة في دواوين أهل السنة، قال بصحتها وثبوتها جهابذة أهل العلم والمعتد بهم مثل البيهقي والعقيلي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم.(19/34)
أما المهدي عند الشيعة فهو محمد بن الحسن العسكري ولد في منتصف القرن الثالث تقريبا دخل سردابا في سامرا وهو صغير ولا يزال في ذلك السرداب وهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم الاثني عشر الذين يعتقدون فيهم أنهم معصومون ويصفونهم بصفات تجاوزوا فيها الحدود وأذكر منها على سبيل المثال كلام شخصين كبيرين منهم أولهما الكليني مؤلف كتاب الكافي وهو أجل كتاب عندهم إذا هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة فقد عقد عدة أبواب في كتابه أصول الكافي أورد فيها أحاديث من أحاديثهم اكتفي هنا بذكر أسماء بعض هذه الأبواب وهي: باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وباب أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم، وباب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء وباب أن الأئمة عندهم يعرفون جميع الكتب التي أنزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها وباب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمون علمه كله، وباب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل.(19/35)
والثاني منهما زعيم الشيعة في هذا العصر والمرجع الأعلى لهم آية الله الخميني فقد قال في كتاب الحكومة الإسلامية الذي هو عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب علوم الدين في النجف تحت عنوان: (ولاية الفقهية) قال في الصفحة الثانية والخمسين من هذا الكتاب طبعة بيروت: "وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدقين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله وقد قال جبريل كما ورد في روايات المعراج: لو دنوت أنملة لاحترقت، وقد ورد عنهم (ع) أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل". انتهى كلام الخميني.
قال الشيخ ابن محمد في ص 5:
"ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار ومن إثارة الفتن وسفك دماء الأبرياء ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس والواقع المحسوس"، وقال في ص 37: "وأما اعتقاد بطلانه وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان والسلامة من الزعازع والافتتان".
والجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن خروج المهدي في آخر الزمان من الأمور الغيبية التي يتوقف التصديق بها على ثبوت النص بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت النصوص في خروج المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان وأن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يصلي خلفه والذين قالوا بثبوتها هم العلماء المحققون وجهابذة النقاد من أهل الحديث والواجب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به من أخبار سواء كانت عن أمور ماضية أو مستقبلة أو موجودة غائبة عنا.(19/36)
الثاني: أن إنكار خروج المهدي في آخر الزمان ليس هو الذي يمنع من وقوع الفتن ويحصل به الأمن والاطمنئان بدليل أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" ومع ذلك وجد كثيرون ممن ادعى النبوة وحصل بذلك للمسلمين أضرار كبيرة وإنما الذي يعصم حقيقة من الفتن والمصائب ويكفل السلامة والأمن والنجاة الاستمساك بشرع الله والاعتصام بحبله كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .(19/37)
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك" إلى غير ذلك من أدلة الكتاب والسنة.
الثالث: أن وجود متمهدين من المجانين وأشباه المجانين يخرجون في بعض الأزمان ويحصل بسببهم على المسلمين أضرار كبيرة لا يؤثر في التصديق بمن عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وهو المهدي الذي يصلي عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم خلفه، فما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، ويجب القضاء على كل متمهد أو غير متمهد يريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم، والواجب قبول الحق ورد الباطل لا أن يرد الحق ويكذب بالنصوص من أجل أنه ادعى مقتضاها مدعون مبطلون دجالون.
5- ذكر الشيخ ابن محمود في الصفحات 6 و 8 و 26 و 31 و 39 أن من أسباب ضعف الأحاديث الواردة في المهدي عدم ورودها في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وأن عدم إيرادها في الصحيحين يدل على ضعفها عند الشيخين البخاري ومسلم.
والجواب أن يقال:(19/38)
أولا: ليس عدم إيراد الحديث في الصحيحين دليلا على ضعفه عند الشيخين البخاري ومسلم رحمهما الله لأنه لم ينقل عنهما أنهما استوعبا الصحيح في صحيحيهما أو قصدا استيعابه حتى يمكن أن يقال بضعف ما لم يخرجاه فيهما عندهما وإنما جاء عنهما التصريح بخلاف ذلك قال أبو عمرو في كتابه (علوم الحديث) : "لم يستوعبا- يعني البخاري ومسلم- الصحيح في صحيحيهما ولا التزما ذلك فقد روينا عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح لحال الطول"وروينا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا- يعنى في كتاب الصحيح- إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه"، وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: "روى الإسماعيلي عنه- يعني البخاري- قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر"، وقال النووي في مقدمة شرحه صحيح مسلم بعد أن ذكر إلزام جماعة لهما إخراج أحاديث على شرطهما ولم يخرجاها في كتابيهما قال: "وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جمل من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله"انتهى كلام النووي.
ومما يوضح عدم استيعاب البخاري الصحيح وعدم التزامه بذلك أيضا أنه جاء عن البخاري أنه قال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائي ألف حديث غير صحيح"مع أن جملة ما في صحيحه من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الأحاديث المعلقة لا تبلغ عشرة آلاف حديث وأيضا استدراك الحاكم على البخاري ومسلم أحاديث على شرطيهما وشرط واحد منهما لم يخرجاها وهي كثيرة جدا أوردها في كتابه المستدرك على الصحيحين وقد صححها الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص على تصحيح الكثير منها.(19/39)
ثانيا: أن الصحيح من الحديث كما أنه موجود في الصحيحين فهو موجود خارجهما في الكتب المؤلفة في الحديث النبوي كالموطأ وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرها وهو أمر واضح غاية الوضوح.
ثالثا: أن المقبول من الحديث عند المحدثين أربعة أنواع هي الصحيح لذاته، والصحيح لغيره، والحسن لذاته، والحسن لغيره؛ ومعلوم أن الحديث الصحيح موجود في الصحيحين وفي غيرهما أما الحسن فوجوده في غير الصحيحين وقد ذكر هذه الأنواع الأربعة العلماء ومنهم الحافظ ابن حجر في شرحه نخبة الفكر حيث قال:
"وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ وهو الصحيح لذاته وهذا أول تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع لأنه إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أولا، الأول الصحيح لذاته والثاني إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق فهو الصحيح أيضا لكن لا لذاته وحيث لا جبران فهو الحسن لذاته وإن قامت قرينة ترجح جانب قبول ما يتوقف فيه فيكون الحسن أيضا لكن لذاته".
رابعا: أن العلماء قسموا الصحيح إلى سبع مراتب مرتبة حسب القوة على النحو التالي:
1- صحيح اتفق على إخراجه البخاري ومسلم.
2- صحيح انفرد بإخراجه البخاري عن مسلم.
3- صحيح انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري.
4- صحيح على شرطهما معا ولم يخرجاه.
5- صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه.
6- صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
7- صحيح لم يخرجاه ولم يكن على شرطهما معا ولا على شرط واحد منهما.(19/40)
وهذه المراتب الأربع للصحيح ذكرها أبو عمرو وابن الصلاح في كتابه علوم الحديث والحافظ ابن حجر في شرحه نخبة الفكر وغيرهما وليس في الصحيحين من هذه المراتب إلا الثلاث الأولى، أما الأربع الباقية فلا وجود لها إلا خارج الصحيحين. ولم يزل من دأب العلماء في جميع العصور الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة بل والحسنة الموجودة خارج الصحيحين والعمل بها مطلقا واعتبار ما دلت عليه دون إعراض عنها أو تعرض للحط من شأنها والتقليل من قيمتها، ومن أمثلة ذلك في أمور الاعتقاد الحديث المشتمل على العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم فإنه في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره وليس في الصحيحين ومع ذلك اعتقدت الأمة موجبه بناء على ذلك وكذا الحديث الذي فيه تسمية الملكين اللذين يسألان الميت في قبره بمنكر ونكير لم يرد في الصحيحين وقد اعتقد موجبه أهل السنة.
خامسا: مما سبق يتضح أنه يجب التصديق والعمل بالأحاديث الصحيحة سواء كانت في الصحيحين أو في غيرهما ومن ذلك أحاديث المهدي على أن بعض الأحاديث الواردة في المهدي أصلها في الصحيحين ومن ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل بنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" فقد وردت تسمية هذا الأمير الذي يصلى عيسى عليه الصلاة والسلام، خلفه في حديث جابر عند الحارث بن أبي أسامة، مسنده بالمهدي ولفظه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" قال ابن القيم بعد أن أورده في كتابه المنار المنيف بسنده ومتنه قال: "وهذا إسناد جيد".
6- وقال الشيخ ابن محمود في ص 8:(19/41)
ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدا لمن سبقه.
كما ذكره الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه. ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فادفعه إلي حتى أثبته في كتابي وكذا سائر علماء كل عصر ينقل بعضهم عن بعض".
فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود كالترمذي وابن ماجه لخروج الحديث من كتاب إلى مائة كتاب وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم لكون الناس متقلدة وقليل منها المحققون المجتهدون والمقلد لا يعد من أهل العلم، والجواب على هذا نقول:
أولا: أن هذا الكلام من أخطر ما اشتملت عليه رسالة الشيخ ابن محمود لما فيه من النيل من محدثي هذه الأمة وفقهائها المتقدمين والحط من شأنهم وهذا إن دل على شيء فإنما يدل مع الأسف أن حصون المسلمين مهددة من داخلها. ويرحم الله الإمام الطحاوي إذ يقول في عقيدته المشهورة:
"وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين- أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل..". انتهى
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة عظيمة سماها (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) طبعت مرارا وصف الشيخ جمال الدين القاسمي هذا الكتاب بأنه جدير لو كان بالصين أن يرحل إليه وأن يعض بالنواجذ عليه.(19/42)
ثانيا: إذا كان من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين- كما يقول الشيخ ابن محمود- أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدا لمن سبقه وأنه لذلك يخرج الحديث من كتاب إلى مائة كتاب وينتقل الخطأ من عالم إلى مائة عالم لكون الناس مقلدة وقليل منهم المجتهدون والمقلد لا يعد من أهل العلم ويمثل بأربعة هم الإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام الترمذي والإمام ابن ماجه إذا كان هذا من عادتهم ومثل هؤلاء الأربعة من مقلدتهم والمقلد لا يعد من أهل العلم فمن هم أهل العلم؟ ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!، إننا نربأ بالشيخ عبد الله بن محمود أن يقول مثل هذا الكلام ولكن هكذا جاء، وقدر الله وما شاء فعل، وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني.(19/43)
ثالثا: أن الإمامين الترمذي وابن ماجه لم يقلدا الإمام أبا داود في رواية أحاديث المهدي أما ابن ماجه فإنه لا يرو عن أبي داود في سننه شيئا أصلا وأما الترمذي فمن رجاله في جامعه الإمام أبو داود كما رمز الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي داود لكونه من رجال الترمذي والنسائي، والأحاديث التي أخرجها الترمذي في جامعه في باب ما جاء في المهدي ثلاثة. اثنان منها معناهما واحد ولفظهما بنحو لفظ حديث أخرجه أبو داود في سننه لكن شيوخ الترمذي فيهما غير شيوخ أبي داود فيه ولم يروهما من طريق أبي داود، أما الحديث الثالث فليس في سنن أبي داود وإذاً فلم يخرج حديث في المهدي من كتاب سنن أبي داود إلى كتابي الترمذي وابن ماجه ولم ينتقل خطأ لأبي داود إلى الترمذي وابن ماجه. ولو خرج الترمذي مثلا في جامعه عن أبي داود حديثا قد أخرجه أبو داود في سننه لم يلزم أن يكون بذلك مقلدا له آخذا الحديث على علاته فهما من أوعية العلم ونقاده ولم يلزم أن يكون خطأ انتقل من عالم إلى عالم فقد يكون ذلك الذي انتقل صوابا والتحقق في ذلك سبيله دراسة إسناده ومعرفة ما قاله النقاد فيه، ثم إن وجود الحديث في كتب متعددة من طرق مختلفة يفيد القوة ويعرف به التواتر. قال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"انتهى.(19/44)
رابعا: ما أشار إليه مما ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه قد ذكره بإسناده على نحو آخر الخطيب البغدادي في ترجمة محمد ابن سعد كاتب الواقدي في تاريخ بغداد إلى إبراهيم الحربي قال: كان أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل ابن إسحاق إلى ابن سعد يأخذ منه جزأين من حديث الواقدي ينظر فيها إلى الجمعة الأخرى ثم يردهما ويأخذ غيرهما.
قال إبراهيم: "ولو ذهب وسمعها كان خيرا له"، وأورد كلام إبراهيم الحربي هذا الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة محمد بن سعد.
ويتضح من هذا أن الإمام أحمد كان يستعير أجزاء من حديث الواقدي لينظر فيها ثم يعيدها وليس في ذلك أخذ للحديث على علاته من ابن سعد وتقليد له فإن الواقدي ضعيف جدا عند أهل الحديث. قال فيه الذهبي في الميزان: "واستقر الإجماع على وهن الواقدي"، وقال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: "متروك مع سعة علمه"والإمام أحمد نفسه قد اتهم الواقدي بالكذب كما نقله الخطيب وغيره في ترجمة الواقدي، ولعل هذا السبب الذي جعل الإمام أحمد لا يكترث بحديث الواقدي فيذهب إلى ابن سعد لسماعه منه ويكتفي بأن يستعير أجزاء منه ينظر فيها ثم يعيدها ليكون على علم بحديث الواقدي مع عدم الاعتماد عليه لكونه لا يعتد بصاحبه.(19/45)
خامسا: ما ذكره من أن الشافعي كان يقول للإمام أحمد إذا ثبت عندك الحديث فادفعه إلي حتى أثبته في كتابي، قد ذكر معناه البيهقي في كتابه مناقب الشافعي أخرجه بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال: "قال لنا الشافعي أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحدث الصحيح فأعلموني إن شاء يكون كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا". ثم قال البيهقي: "وهذا لأن أحمد بن حنبل كان من أهل العراق فكان أعلم برجالها من الذي لم يكن من أهلها وكان أحمد عند الشافعي من أهلها وكان أحمد عند الشافعي من أهل العلم بمعرفة الرجال فكان يرجع إلى قوله فيهم"، ثم روى البيهقي بإسناده إلى حرملة قال سمعت الشافعي يقول: "خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أتقى ولا أورع ولا اعلم وأظنه قال ولا أفقه من أحمد بن حنبل".
ومن الواضح أن الإمام الشافعي لا يكون بذلك ناقلا عن الإمام أحمد حديثا على علاته مقلدا له وإنما رغب الشافعي من الإمام أحمد أن يعلمه بما يصح لديه من الحديث مما لم يكن عنده حتى يذهب إلى ما دل عليه الحديث الصحيح ويعمل به وهو متفق مع ما نقل عنه في مسائل كثيرة من قوله: "إن صح الحديث فيها- أي في المسألة قلت به"ومتفق مع ما أثر عنه وعن غيره من الأئمة من أن الاعتماد عندهم على ما يصح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتى كان الحديث عند الإمام أحمد بإسناد صحيح ثم يرويه عنه شيخه الإمام الشافعي ويحتج به فإنه بذلك متبع الطريقة المثلى في العلم والعمل وهو محمدة له لا مذمة.(19/46)
سادسا: ولو أن الشيخ ابن محمود نسب هذه العادة وهي أخذ الحديث أو القول على علاته عن المعاصرين أو نقل ذلك كذلك من كتب المتقدمين إلى طلاب العلم في هذا العصر إلا من شاء الله منهم لما أبعد النجعة وذلك لقلة الاهتمام والعناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تمييز صحيحه من سقيمه ومعرفة رجاله وأحوالهم وعدم التمكن من تطبيق ما رسمه علماء الجرح والتعديل لمعرفة الحكم على الحديث قبولا أو ردا صحة أو حسنا أو ضعفا بل حسب الكثيرين منهم معرفة ما دون في كتب العلماء المعتد بهم وما حكموا به على الحديث وتقليدهم في ذلك، ومادام أن الغالب على طلاب العلم في هذا العصر التقليد في معرفة درجة الحديث وهل هو مقبول أو مردود فإن الأليق بل المتعين تقليد الجهابذة النقاد كالعقيلي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم دون غيرهم ممن لم يكن من أهل الحديث فالصلاة خير من النوم واليد العليا خير من اليد السفلى ولا يصار إلى المتطبب ويترك الأطباء الحذاق المهرة.
7- ذكر الشيخ ابن محمود في ص 6 و 12 "أن من أسباب رد أحاديث المهدي كونها متناقضة متعارضة ومختلفة غير مؤتلفة"وقال في ص 51: "ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرون مهديا صفة كل واحد غير الآخر مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بها"ثم ذكر أمثلة لذلك آخرها قوله: "ومهدي قال فيه رسول الله: "لا مهدي بعدي إلا عيسى بن مريم".(19/47)
والجواب أن أحاديث المهدي كما قال أهل العلم مثل ابن القيم وغيره فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع فما كان منها موضوعا أو ضعيفا لا يحتج به فإنه لا يلتفت إليه ولا يعارض به غيره، وأما ما صح منها فهو مؤتلف غير مختلف ومتفق غير مفترق وهو يتعلق بشخص واحد يأتي في آخر الزمان في زمن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء وخروج المسيح الدجال وهو محمد بن عبد الله الموصوف بالمهدي والذي أخبر عن اسمه واسم أبيه ووصفه بالمهدي في عدة أحاديث هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والواجب التصديق فيما أخبر به، ولم يفهم أحد من أهل السنة والجماعة قديما وحديثا فيما أعلم ما فهمه الشيخ ابن محمود من أن كل حديث أتى فيه ذكر المهدي يفيد تعدد من يوصف بالمهدي وأنه بناء على ذلك تكون الأحاديث متعارضة فيلزم ردها وإنكارها فإن الألف واللام في المهدي في جانب الخير كالألف واللام في الدجال في جانب الشر ولا يستفاد من كل حديث يأتي فيه ذكر الدجال موصوفا بصفة من الصفات تعدد الدجال فالدجال الذي جاءت الأحاديث المتواترة - بذكر خروجه آخر الزمان واحد غير متعدد ولا تعارض بين الأحاديث الواردة فيه والمهدي كذلك واحد غير متعدد ولا تعارض بين الأحاديث الواردة فيه، أما حديث لا مهدي إلا عيسى بن مريم فلم يستدل به أهل السنة على خروج المهدي وهو يعارض الأحاديث الواردة فيه وقد أجابوا عنه بكونه ضعيفا فلا يعارضها وعلى فرض صحته يكون المراد به لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم وذلك لا ينفي إثبات خروج المهدي غير المعصوم كما قال ذلك بعض أهل العلم مثل القرطبي وابن القيم وغيرهما.
8- وقال الشيخ ابن محمود ص 13:(19/48)
"وفي البخاري أن موسى لما لقي ذا القرنين في مجمع البحرين وهاله ما رآه من تصرف ذي القرنين من قتله للغلام وبنائه للجدار الذي يريد أن ينقض وخرقه لسفينة المساكين الذين يعملون فيها في التكسب في البحر فضاق صدر موسى من تصرفه وعيل صبره فأراد أن يفارقه فقال له ذو القرنين: "يا موسى أنت على علم من الله لا أعلمه أنا وأنا على علم من الله لا تعلمه أنت"ثم قال: "وهكذا يقع تفاوت العلماء فيما علموه والاختلاف فيما فهموه". انتهى.
والملاحظ هنا ورود ذكر ذي القرنين ثلاث مرات ومعلوم أن صاحب موسى في هذه القصة هو الخضر وليس ذا القرنين وقد وردت تسمية صاحب موسى بالخضر في الحديث في صحيح البخاري.
9- وقال الشيخ ابن محمود في ص 12 و 13 بعد كلام له في إنكار أحاديث المهدي:(19/49)
لكن قد يعرض لتحقيق ما قلنا قول بعضهم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال بصحة خروج المهدي وهو العالم المحقق المشهود له بصحيح الرؤية وصريح الدراية وأقول: "نعم وإنني رأيت لشيخ الإسلام قولا يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبوداود وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام حيث تأثرت بقوله حتى بلغت سن الأربعين من العمر وبعد أن توسعت في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيئ والحمد لله، وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله"وقال: "وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة يغرق بغرقها الخلق الكثير وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذه كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام"رحمه الله ثم قال معتذرا عن شيخ الإسلام: "ولعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون وهو مجتهد مأجور على اجتهاده إذ يقول العالم المحقق قولا ضعيفا مرجوحا فلا يكون المقلد لقوله والمنتصر لرأيه بمثابته في حصول الأجر.. وحط الوزر بل فرضه الاجتهاد والنظر فكم من عالم كان يقول أقوالا في بداية عمره ثم يتبين له ضعفها فيقول بخلافها"، أقول الجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: لا شك أن ما كان عليه الشيخ عبد الله بن محمود في ذلك قبل بلوغه سن الأربعين خير مما كان عليه بعد الأربعين لأنه بذلك على مسلك العلماء المحدثين قبل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعده ويا ليته وفقه الله لم يشر إلى أنه توسع في العلوم والفنون لأن التواضع هو الأليق بطلاب العلم.(19/50)
الثاني: واعتذاره عن شيخ الإسلام ابن تيمية مدفوع بكون شيخ الإسلام قال بصحة خروج المهدي في آخر الزمان في كتابه منهاج السنة النبوية الذي يعتبر من أجل كتبه وأغزرها علما وأكثرها تحقيقا فلا يصلح أن يقال: لعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون هذا من جهة ومن جهة أخرى ليس شيخ الإسلام ابن تيمية أول القائلين بصحة خروج المهدي في آخر الزمان فقد سبقه إلى ذلك العلماء المحققون مثل البيهقي والخطابي وابن حبان والعقلي وأبي الحسين الابري والقاضي عياض والقرطبي وغيرهم.
الثالث: ما أشار إليه هنا وفي ص 71 من أن قول شخ الإسلام بصحة خروج المهدي خرج بمقتضى اجتهاد منه مردود بأن مثل ذلك لا مجال للاجتهاد فيه لأنه من الأمور الغيبية التي يتوقف القول بها على ثبوت النص فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة ثبوت النصوص والتمييز بين مقبولها ومردودها وصحيحها وسقيمها لا يتأتى إلا لأهل الخبرة والتمكن في علم الحديث مثل البيهقي والعقلي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وقد قال الشوكاني بعد أن أشار إلى كثرة الأحاديث الواردة في صحة خروج المهدي آخر الزمان وبلوغها حد التواتر قال: "وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك"انتهى.
10- ذكر الشيخ ابن محمود في ص 19 و 24 أن ابن خلدون تصدى في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها- يعني أحاديث المهدي- وحكم عليها بالضعف.
والجواب أولا أن ابن خلدون اعترف بسلامة بعضها من النقد حيث قال بعد إيراد الأحاديث في المهدي: "فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه.."انتهى. على أن ابن خلدون فاته الشيء الكثير من الأحاديث.(19/51)
وثانيا: أن ابن خلدون مؤرخ وليس من رجال الحديث فلا يعتد به في التصحيح والتضعيف وإنما الاعتداد بذلك بمثل البيهقي والعقلي والخطابي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل الرواية والدراية الذين قالوا بصحة الكثير من أحاديث المهدي فالذي يرجع في ذلك إلى ابن خلدون كالذي يقصد الساقية ويترك البحور الزاخرة وعمل ابن خلدون في نقد الأحاديث أشبه ما يكون بعمل المتطبب إذا خالف الأطباء الحذاق المهرة..
وقد أحسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه أحاديث مسند الإمام أحمد حيث قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها.."وقال: "إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي تهافتا عجيبا وغلط أغلاطا واضحة.."وقال: "إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين الجرح مقدم على التعديل.. ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال.."انتهى.. ودخول ابن خلدون في ميدان الجرح والتعديل والحكم على الأحاديث بالضعف وهو ليس من أهل الصناعة الحديثية واغترار من اغتر بكلامه لا يبعد كثيرا عن معنى المقالة التي حكاها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية إذ قال: "وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي.. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان"، فإن ابن خلدون وإن كان في التاريخ علما من الأعلام، فهو في الحديث من الاتباع المستفتين وليس من المتبوعين المفتين، والقاصر في فن كالعامي فيه، وإن كان متمكنا في غيره.
والواجب الرجوع في كل فن إلى أهله، ولا شك أن المرجع في الحديث لمعرفة صحيحه وسقيمه أوعيته ونقاده.. قال الحافظ ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه الجرح والتعديل:(19/52)
ثم احتيج إلى تبين طبقاتهم - يعني الرواة - ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقير والبحث عن الرجال والمعرفة بهم، وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح.
وقال أيضا: "فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة قيل بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمان.."انتهى.. وإذا اقتصرنا على القرنين الثامن والتاسع اللذين عاش ابن خلدون فترة منهما إذ كانت ولادته سنة 732 هـ ووفاته سنة 808 هـ - نجد أن من أبرز العلماء المتمكنين في الحديث النبوي ومعرفة صحيحه وسقيمه ممن أدركته الوفاة خلال هذين القرنين الحفاظ الجهابذة النقاد الذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حجر العسقلاني وقد قالوا جميعا بصحة خروج المهدي في آخر الزمان استنادا إلى ثبوت الأحاديث الصحيحة في ذلك عندهم فقد صحح الذهبي جملة من الأحاديث الواردة في المهدي وذلكَ في كتابه تلخيص المستدرك وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية وابن القيم في كتابه المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف وابن كثير في النهاية وفي كتابه التفسير ونقل ابن حجر في كتابه فتح الباري جملة من أقوال أهل العلم في ذلك وسكت عليها، ومن ذلك كلام أبى الحسين الابري في تواتر أحاديث المهدي.
11- حكى الشيخ ابن محمود عن ابن القيم في المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف أنه يضعف الأحاديث الواردة في المهدي فقال في صفحة 9 بعد أن أورد الأقوال التي ذكرها ابن القيم إجمالا قال: "ومن لوازم قوله - يعني ابن القيم - أن ما يزعمونه من خروج المهدي المجهول في عالم الغيب أنه لا حقيقة له"وقال ابن محمود في ص 19:(19/53)
"لهذا وقبل ذلك تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث - أي المتعلقة بالمهدي - التي يتلونها ويموهون بها على الناس فأخضعوها للتصحيح والتمحيص وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين وممن انتقد هذه الأحاديث وبين معايبها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف"وقال أيضا في ص35:
"وقد رأينا من يؤيد قول ابن خلدون من العلماء المتقدمين والراقين في العلم والمعرفة والاعتصام بالكتاب والسنة ومنهم العلامة ابن القيم فقد ذكر في كتابه المنار المنيف عن أحاديث المهدي وضعفها".
والجواب أن نقول: لم يضعف ابن القيم الأحاديث الواردة في المهدي كما يقول ابن محمود بل بين أن فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع وذلك في كتابه المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف ولا أدري كيف خفي ذلك على الشيخ ابن محمود فنسب إليه القول بتضعيفها مع أن كلامه رحمه الله واضح وصريح في تصحيحها والقول بثبوتها.. ومن ذلك أنه نقل كلام أبي الحسين الابري المتوفى عام 363 هـ في تواتر الأحاديث الواردة في المهدي وسكت عليه ولم يتعقبه، وهو قول أبي الحسين الابري في كتابه مناقب الشافعي: وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه.. ومن ذلك أنه نقل قول البيهقي: "والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادا"، ثم ذكر ابن القيم بعض الأمثلة لهذه الأحاديث، ومنها أن ابن القيم قال: "وفي الباب عن حذيفة بن اليمان وأبي أمامة الباهلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وثوبان وأنس بن مالك وجابر وابن عباس، وغيرهم..".(19/54)
ثم أورد عدة أحاديث رواها بعض أهل السنن والمسانيد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف أورده للاستئناس به ثم قال ابن القيم: "وهذه الأحاديث أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة".
ومنها أنه ذكر الأقوال في المهدي وقال في ثالثها: "القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.. من ولد الحسن بن علي يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلما، فيملاها قسطا وعدلا وأكثر الأحاديث على هذا تدل. وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف، وهو أن الحسن ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض. وهذه سنة الله في عباده أن من ترك شيئا لأجله أعطاه الله وأعطى ذريته أفضل منه"فهذه نصوص متعددة من كلام ابن القيم في المنار المنيف صريحة في أنه يقول بصحة الأحاديث في خروج المهدي في آخر الزمان، ولا يفهم من كلامه إطلاقا أنه يضعف الأحاديث الواردة فيه مطلقا كما نسب ذلك إليه ابن محمود..
12- وقال الشيخ ابن محمود في ص 19:
"وممن انتقد هذه الأحاديث - يعني أحاديث المهدي - العلامة ابن القيم في المنار المنيف في الصحيح والضعيف" ثم قال:
"ومنهم الشاطبي صاحب كتاب الاعتصام فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع"ويعني بالمهدية الذين يصدقون صحة خروج المهدي..
وقال أيضا في ص 35:
"وقد رأينا من يؤيد ابن خلدون من العلماء المتقدمين والراقين في العلم والمعرفة والاعتصام بالكتاب والسنة ومنهم العلامة ابن القيم فقد ذكر في كتابه المنار المنيف عن أحاديث المهدي وضعفها"ثم قال: "ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام فقد جعل المهديين والإمامية من أهل البدع ويعني بالمهديين الذين يصدقون بخروج المهدي ودونك كلامه بلفظه إثباتا للحجة والعذر وإزالة للشبهة والعذل قال بعد كلام له سبق في المتبعين لأهل الأهواء والبدع:(19/55)
"وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثيرا من بدع المغرب، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها"وقال: "ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابه والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل..".
وقال: "ومذهب الفرقة المهدية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد أيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي..".
ثم قال ابن محمود: "وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي.."انتهى.(19/56)
والجواب أن الشيخ ابن محمود ذكر أن ممن سبق ابن خلدون في تضعيف أحاديث المهدي الإمامين ابن القيم والشاطبي وسبق إيضاح عدم صحة ما نسبه إلى ابن القيم في ذلك، أما الإمام الشاطبي فما نسبه إليه غير صحيح أيضا فإن كلام الشاطبي عن اتباع المهدي المغربي لا علاقة له بموضوع الأحاديث الواردة في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان والتي قال بصحتها وثبوتها العلماء من أهل السنة والجماعة قديماً وحديثا، أما قول الشاطبي رحمه الله "ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل"، فهو كلام جميل لكنه لا ينطبق على العلماء الذين يعولون فيما يقولون على الدليل وإنما ينطبق على الذين يعرضون عن الدليل ويتبعون أهواءهم.. ولهذا قال عقب ذلك مباشرة: "ولنضرب لذلك عشرة أمثلة أحدها - وهو أشدها- قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه دون غيره حتى ردوا بذلك براهين الرسالة وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية"إلى آخر كلامه رحمه الله ثم قال: "والثاني رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم - في زعمهم - وإن خالف ما جاء به النبي المعصوم حقا وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم"، ثم قال: "والثالث لاحق بالثاني.. وهو مذهب الفرقة المهدية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة (؟) في عقد أيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي وقد تقدم من ذلك أمثلة" انتهى كلام الإمام الشاطبي رحمه الله، ثم ذكر بقية الأمثلة العشرة. ومن الواضح الجلي أنه فسر المهدية بتفسير خاص بمبتدعة وهم أتباع المهدي المغربي حيث قال: "والثالث لاحق بالثاني(19/57)
وهو مذهب المهدية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت الشريعة أوخالفت" وقد أوضح ذلك في كلام له سبق وذكر الأمثلة التي أشار إلى تقدمها فقال عن المهدي المغربي: "إنه عد نفسه الإمام المنتظر وأنه معصوم حتى أن من شك في عصمته أو في أنه المهدي المنتظر فهو كافر.."وقال عنه: "إنه نزل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك"وقال: "وأحدث في دين الله أحداثا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم والتخصيص بالعصمة ثم وضع ذلك في الخطب وضرب في السكك بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة فمن لم يؤمن بها أو شك فيها فهو كافر وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها وهي نحو من ثمانية عشر موضعا كترك امتثال أمر من يستمع أمره وترك حضور مواعظه ثلاث مرات والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل وأشباه ذلك"، أقول فهؤلاء هم الذين عناهم الشاطبي بالفرقة المهدية والتي فسرها بقوله: "التي جعلت أفعال مهدي حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت"، وهم الذين اعتبرهم من المبتدعة وقد فسر هو مراده بالفرقة المهدية بهذا التفسير وليس مراده بالفرقة المهدية الذين يصدقون بخروج المهدي كما زعم الشيخ ابن محمود، ولا يليق بإمام كالشاطبي أن يصف أئمة أهل السنة وعلماء الحديث كالعقيلي والخطابي والابري وابن حبان البستي والقاضي عياض والقرطبي وابن تيمية والذهبي وابن القيم وابن كثير وغيرهم بأنهم من أهل البدع لكونهم يقولون بصحة خروج المهدي في آخر الزمان..
وبهذا يتضح أن الشاطبي رحمه الله لم يقل بتضعيف أحاديث المهدي ولم يصف القائلين بثبوتها بأنهم من أهل البدع بل أن ما حكاه عن المتمهدي المغربي من أنه نزل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه أنه هو بلا شك، دون أن يشير إلى تضعيف الأحاديث في ذلك، يشعر بأنه يعتبر خروج المهدي في آخر الزمان أمرا ثابتا..
13- وقال الشيخ ابن محمود في ص 70:(19/58)
ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونه لا حقيقة لها فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدا فلا ينكر على من أنكره.
والجواب أن الشيخ محمد بن مانع رحمه الله قال أولا كلا ما محتملا تضعيف أحاديث المهدي وذلك في كتابه الكواكب الدرية اغترارا بكلام ابن خلدون يدل على ذلك قوله في كتابه المذكور:(19/59)
"ومن أراد تحقيق هذه المسألة فليراجع مقدمة ابن خلدون فقد أفاد فيها وأجاد" ولكنه بعد أن حدق النظر في الموضوع عاد فألف رسالة سماها (تحديق النظر بأخبار الإمام المنتظر) توجد منها نسخة خطية في دار الكتب المصرية قال فيها بعد أن ذكر كلام ابن خلدون وتعقب صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود عليه قال وأقول: "قول العلامة الهندي في هذه الأحاديث أقرب إلى الصواب من قول من جزم بضعفها كلها فمن صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها أو من غيرها وجب عليه قبوله والاعتقاد بمدلوله ومن علم بضعف الحديث وتيقنه لم يجب عليه شيء من ذلك، وإذا اعتبرنا هذه الأحاديث الواردة في المهدي بخصوصها وجدنا التي لم يصرح فيها باسمه أقوى ورأينا الضعف غالبا على ما ذكر فيها اسمه ولهذا قلت في الكواكب لما قال السفاريني: "فكلها صحت به الأخبار"أي بأكثرها فإن الأحاديث التي فيها ذكر المهدي لم تصح عند علماء الحديث ولم أقل الواردة في شأن المهدي ليشمل التعميم ما لم يذكر فيها فإن التي لم يذكر فيها اسمه بل ذكر نعته فيها القوي والضعيف ولهذا نعتقد ونجزم بخروج رجل من أهل البيت آخر الزمان اسمه محمد ابن عبد الله يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وكذلك قولنا فلا نعتقد بمجيء المهدي مرادنا أن هذا اللفظ غير ثابت فلا يجب أن يسمى محمد بن عبد الله الذي يخرج في آخر الزمان بالمهدي بل تسميته بذلك جائزة لا واجبة إذ هذا اللفظ غير ثابت عند علماء الحديث ولعل أحدا أن يظن أن المقصود من عبارة الكواكب هو القول بعدم مجيء المهدي مطلقا كما هو قول بعض الأئمة وليس كذلك بل المراد ما قدمناه من أن هذا اللفظ غير ثابت وإنما الثابت أن اسمه مواطئ لاسم النبي واسم أبيه مواطئ لاسم أبيه فالإيمان بذلك واجب على الإجمال والإطلاق"إلى أن قال: "وقد خرج جماعة من العلماء عن الاعتدال في هذه المسألة فبالغ طائفة في الإنكار حتى ردوا جملة من الأحاديث الصحيحة(19/60)
وقابلهم آخرون فبالغوا في الإثبات حتى قبلوا الموضوعات والحكايات المكذوبة"إلى أن قال: "وبهذا التوضيح والتبيين يزول الإشكال ويتبين المراد وبالله التوفيق".
أقول: وبهذا يتضح أن الشيخ ابن مانع رحمه الله لا يقول بتضعيف أحاديث المهدي كلها بل يقول بصحة بعضها ويعتقده، وأضيف أن بعض الأحاديث التي جاء فيها لفظ المهدي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: "ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا". الحديث أخرجه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده وقال فيه ابن القيم إسناده جيد ومنها الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهدي مني أجل الجبهة" الحديث قال فيه ابن القيم رواه أبو داود بإسناد جيد وأورده البغوي في مصابيح السنة في فصل الأحاديث الحسان.
14- قال الشيخ ابن محمود في ص 9:
"وكلام العلماء من المتأخرين كثير وأعدل من رأيته أصاب الهدف في قضية المهدي هو أبو الأعلى المودودي حيث قال في رسالة اسمها البيانات عن المهدي: "إن الأحاديث في هذه المسألة على نوعين: أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان ويعلي كلمة الإسلام وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحه ولكن ما جاءت فيها أيضا الصراحة بكلمة المهدي"، وقال: "لا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبا دينيا يعرف بالمهدية يجب على كل مسلم أن يؤمن به ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة" وقال: "مما يناسب ذكره في هذا الصدد أن ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد"انتهى.(19/61)
وأقول جوابا على ذلك:
أولا: كون أحاديث المهدي لم ترد في الصحيحين لا يؤثر ذلك في قبولها فما صح من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مقبول سواء كان في الصحيحين أم لم يكن فيهما وسبق إيضاح هذا في رقم 5.
ثانيا: قوله: ولا يمكن أن يستنبط من هذه الروايات ولو بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبا دينيا يعرف بالمهدية يجب على كل مسلم أن يؤمن به ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة يجاب عن هذا بأنه يستنبط من الأحاديث الصحيحة في شأن المهدي حصول الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود إمام للمسلمين عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يواطئ اسمه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه ومن أهل بيته يقال له المهدي والواجب على كل مسلم أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أخبار عن أمور مغيبه مطلقا ومن ذلك ما كان في المستقبل كإخباره عن المهدي وعن الدجال وغير ذلك.
ثالثا: قوله: "ومما يناسب ذكره بهذا الصدد أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد"يجاب عنه بأن من عقائد أهل السنة التصديق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ومن ذلك إخباره بشأن المهدي وقد قال السفارينى في عقيدته: "فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة"انتهى.
وذكر ذلك الشيخ الحسن بن علي البربهاري الحنبلي المتوفى سنة 329 هـ في عقيدته المثبتة ضمن ترجمته في كتاب طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى الحنبلي.
15- قال الشيخ ابن محمود في ص 70:(19/62)
بعد كلامه عن الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع المتقدم قال: "كما رأيت أيضا لمنشئ مجلة المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعا وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار"ونقل في ص 62 والصفحتين بعدها شيئا من كلامه في دعوى بطلان أحاديث المهدي ومنه في ص 64 قوله:
"وردت أحاديث في المهدي منها ما حكموا بقوة إسناده ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار وعرف مواردها ومصادرها يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة".
والجواب أن نقول:
أولا: اعتماد الشيخ محمد رشيد رضا على بطلان الأحاديث الواردة في المهدي مبني على إعلال ابن خلدون لأحاديث المهدي وسبق أن أوضحت أن ابن خلدون ليس ممن يعتمد عليه في مجال نقد الأحاديث والحكم عليها صحة أو ضعفا لأنه ليس من أهل الاختصاص.
ثانيا: ما ادعاه من أن الأحاديث في المهدي كلها منقولة عن الشيعة مردود بأن أحاديث المهدي عند أهل السنة مدونة في كثير من الكتب المعتمدة في السنن والمسانيد وغيرها بأسانيد تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق صحابته الكرام رضي الله عنهم أما الأحاديث عند الشيعة فهي تنتهي إلى أئمتهم المعصومين في زعمهم وقد تصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما صح من الأحاديث الواردة في المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بالشيعة ولم ينقل عن الشيعة ثم إن المهدي عند الشيعة هو محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب أما المهدي عند أهل السنة فاسمه مواطئ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه فعقيدة أهل السنة في المهدي في واد وعقيدة الشيعة في مهديهم في واد آخر.(19/63)
ثالثا: لا شك أن ما زعمه الشيخ محمد رشيد رضا من إنكار خروج المهدي في آخر الزمان خطأ واضح وأخطر منه خطأه في إنكار رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حيا إلى السماء ونزوله منها في آخر الزمان ولن أكلف نفسي في سرد كلامه ومناقشته وإنما أحيل إلى الرسالة التي ألفها في الرد عليه الشيخ محمد خليل الهراس رحمه الله والتي أسماها: (فصل المقال في رفع عيسى عليه السلام حيا وفي نزوله وقتله الدجال) قال فيها بعد حمد الله والثناء عليه: "أما بعد فمنذ مطلع هذا القرن أو قبله وجدت جماعة تدعو إلى التحرر الفكري وتتصدر حركة الإصلاح الديني وتعمل لإحياء المفاهيم الدينية الصحيحة في نفوس المسلمين ولكنهم في سبيل ذلك عمدوا إلى إنكار كثير من المغيبات التي وردت بها النصوص الصريحة المتواترة من الكتاب والسنة الأمر الذي يجعل ثبوتها قطعيا ومعلوما من الدين بالضرورة ولا سند لهم في هذا الإنكار إلا الجموح الفكري والغرور العقلي وقد راجت بتأثيرهم تلك النزعة الفلسفية الاعتزالية التي تقوم على تحكيم العقل في أخبار الكتاب والسنة وعمت فتنتها حتى تأثر بها بعض الأغرار ممن تستهويهم زخارف القول وتغرهم لوامع الأسماء والألقاب لهذا رأيت من واجب البيان الذي أتخلص به من إثم الكتمان أن أضع الحق في نصابه فأبين لهؤلاء الشاردين عن منهج الرشد أن تلك الأمور التي يمارون فيها ثابتة ثبوتا قطعيا بأدلة لا تقبل الجدل ولا المكابرة وأن من يحاول ردها أو يسوغ الطعن فيها فهو مخاطر بدينه وهو في الوقت نفسه قد فتح بابا للطعن فيها هو أقل منها ثبوتا من قضايا الدين الأخرى وبذلك نكون أمام موجة من الإنكار لا أول لها ولا آخر وتصبح قضايا العقيدة كلها عرضة لتلاعب الأهواء وتنازع الآراء"ثم ذكر الآيات في رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حيا إلى السماء وفي نزوله ثم أورد الأحاديث في نزوله من السماء وقتله الدجال ثم أورد بعض الآثار بذلك عن الصحابة رضي الله عنهم وجملة من(19/64)
أقوال الأئمة والعلماء في ذلك ثم عقد عنوانا للرد على صاحب المنار قال فيه: "والعجب من هذا الرجل الذي حمل لواء الدفاع عن الإسلام دهرا طويلا ضد خصومه والطاعنين عليه من أهل الأديان الأخرى ونافح مشكورا عن مذهب السلف في العقيدة وأحيا وجدد كثيرا مما درس من معاني الإسلام أقول العجب منه أن يسقط في هذه المسألة سقطة لا قاع لها ويلتوي في فهم الآيات والأحاديث التواء معيبا ويتأثر وهو من رجال الأثر بكلام أستاذه يعني محمد عبده في هذه المسألة السمعية ولكيلا نكون متجنين على الرجل.. ننقل هنا عباراته بنصها ثم نناقشه فيها"وبعد فراغه من مناقشته والرد عليه وعلى شيخه محمد عبده نقل جملة من رد الشيخ محمد حامد الفقي على شلتوت في إنكاره رفع عيسى حيا ونزوله من السماء ثم ذكر جملة من كلام الشيخ عبد الله ابن الصديق الغماري في الرد على شلتوت في ذلك أيضا.
ومن أسوأ ما نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن شيخه محمد عبده وسكت عليه ولم يتعقبه قوله في تفسير المنار ج 3 ص 317: "وسئل عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: أن الدجال رمز للخرافات والدجال والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها وأن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك"انتهى. أقول: ومادام أن الشيخ محمد رشيد رضا سقط هذه المسقطة السحيقة في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام فليس بمستغرب أن يسقط ويتردى في شأن المهدي.
16- ذكر الشيخ ابن محمود في ص 20:(19/65)
أن محمد فريد وجدي صاحب دائرة معارف القرن العشرين ممن ضعف أحاديث المهدي ونقل كلامه في ذلك وأحب أن يضيف الشيخ ابن محمود إلى معلوماته أن محمد فريد وجدي في كتابه المذكور ج 8 ص 788 اعتبر جميع الأحاديث الواردة في الدجال موضوعة بناء على شبه عقلية وأكثر أحاديث الدجال في الصحيحين للبخاري ومسلم كما هو معلوم وما دام أن أحاديث الدجال على كثرتها في الصحيحين وفي غيرهما حظها من محمد فريد وجدي أن يبطلها بجرة قلم ويحكم عليها جميعها بأنها موضوعة ملفقة فمن باب أولى إبطال أحاديث المهدي لأنها دونها في الكثرة والصحة وقد يكون من المناسب هنا أن أناقش بإيجاز محمد فريد وجدي في شبهه العقلية الأربع التي اعتمد عليها في توهين أحاديث الدجال وقال عنها أنها لا تقبل المناقشة:
الشبهة الأولى:
أن ما ورد بشأن الدجال أشبه بالأساطير الباطلة فإن رجلا يمشي على رجلين يطوف البلاد يدعو الناس لعبادته ويكون معه جنة ونار يلقي فيهما من يشاء كل هذا من الأمور التي لا يسيغها العقل والنبي أجل من أن يأتي بشيء تنقضه بداهة النظر وإلا فما هي جنته وما هي ناره التي تتبعانه حيث سار هل هما مرئيان أو خياليان الخ..(19/66)
ويجاب عن هذه الشبهة بأن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الدجال يقبله العقل السليم ولا يرده والعقل لا يتعارض مع النقل الصحيح وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل على أمر ما تعين اتهام العقل كما ثبت في الصحيحين عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم". وكما جاء عن علي رضي الله عنه في سنن أبي داود قال الحافظ في الفتح بسند حسن أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه"هذا من جهة ومن جهة أخرى العقول تتفاوت فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا وأحاديث الدجال الثابتة صدق بها الصحابة الكرام رضي الله عنهم وقبلتها عقولهم وكذا التابعون لهم بإحسان فالعقول التي لم تقبل ما قبلوه قد أصيبت بمرض لا شفاء لها منه إلا بالاعتصام بما جاء في الكتاب والسنة والسير على ما درج عليه سلف الأمة.
ومن جهة ثالثة هذه الأمور التي يأتي بها الدجال هي من جملة فتنته التي هي أعظم فتنة في الحياة الدنيا وهي تحصل منه بإذن الله ابتلاءا وامتحانا للعباد في ذلك الزمان وهي غير مستحيلة عقلا أما كونها على خلاف ما هو معتاد ومألوف فنعم ومن أجل هذا صارت فتنة ومن عرف أن الله على كل شيء قدير وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى أخبر عن الدجال بهذه الأخبار التي منها طوافه البلاد ودخولها ما عدا مكة والمدينة ومعه جنة ونار أقول من عرف كمال قدرة الله وأخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور لم يتردد في التصديق بذلك وأنه سيقع وفقا لما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثانية:(19/67)
قوله كيف يعقل أن رجلاً أعور مكتوب على جبهته كافر يقرأها الكاتب والأمي على السواء يقوم بين الناس فيدعوهم لعبادته فتروج له دعوة أو تسمع له كلمة أي إنسان يبلغ به الإنحطاط العقلي إلى درجة يعتقد فيها بألوهية رجل مشوه الخلقة مكتوب في وجهه كافر بالأحرف العريضة وأي جيل من أجيال الناس تروج فيهم مثل هذه الدعوة إلى الخ ...
أقول هذه إحدى شبهه التي اعتمد عليها في رد النصوص الصحيحة ولا أدري كيف فات على هذا المسكين أن الأبصار لا تغني شيئا إذا عميت البصائر فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وكيف ينكر النصوص المتواترة لأن عقله استبعد أن تروج دعوة الدجال ويقبل قوله وقد كتب على وجهه كافر يقرأها الكاتب والأمي مع وجود المثال المحوس فيما نشاهده ونعاين في هذا العصر الذي نعيش فيه فأكثر البلاد التي تنتمي إلى الإسلام لا تحكم بشريعة الإسلام مع أن آيات القرآن ينادى بها بأعلى الأصوات ومنها قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إلى غير ذلك من الآيات فإن الذين تروج عليهم دعوة الدجال في آخر أزمان فيتبعون لعمى بصائرهم مع أنه مكتوب على وجهه كافر يقرأها الكاتب والأمي هم من جنس الذين عميت بصائرهم في عصرنا فلما يحكموا شريعة الإسلام مع قراءتهم القرآن وفيه مثل هذه الآيات وسماعهم لها في الإذاعات(19/68)
ما أشبه الليلة بالبارحة والله المستعان.
الشبهة الثالثة:
قوله لماذا لم يذكر في القرآن عن هذا المسيح الدجال شيئا مع خطورة أمره وعظم فتنته كما تدل عليه الأحاديث الموضوعة فهل يعقل أن القرآن يذكر ظهور دابة الأرض ولا يذكر
ظهور ذلك الدجال الذي معه جنة ونار يفتتن به الناس.
والجواب عن هذه الشبهة أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة، والسنة والقرآن متلازمان لا يفترقان ومن لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن ومن زعم فصل السنة عن القرآن يقال له أين وجدت في القرآن أعداد الصلوات وأعداد ركعاتها وكيفيتها وغير ذلك مما لا يعرف توضيحه وبيانه إلا في السنة التي هي شقيقة القرآن والموضحة والمبينة له، ولم تعدم السنة منذ أزمان أعداء لها هم في الحقيقة أعداء للقرآن يشككون فيها ويحاولون فصلها عن القرآن وقد هيأ الله من العلماء من يذب عنها ويدحض شبه أعدائها ومنهم الحافظ السيوطي فقد ألف رسالة لطيفة سماها مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة افتتحها بعد حمد الله بقوله: "اعلموا يرحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء ومن الآراء كهيئة الخلاء لا تذكر إلا عند داعية الضرورة وإن مما فاح ريحه في الزمان وكان دارسا بحمد الله منذ زمان وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية- زادها الله علوا وشرفا- لا يحتج بها وأن الحجة في القرآن خاصة"إلى أن قال: "فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة روى الإمام الشافعي رضي الله عنه يوما حديثا وقال إنه صحيح فقال له قائل: "أتقول به يا أبا عبد(19/69)
الله"فاضطرب وقال: "يا هذا أرأيتني نصرانيا؟ أرأيتني خارجا من كنيسة أرأيت في وسطي زنارا؟ أروي حديثا عن رسول الله ولا أقول به".
ورسالة السيوطي هذه رسالة عظيمة مفيدة.
الشبهة الرابعة:
قوله إن كون هذه الأحاديث موضوعة يعرف بالحسي من الحديث الطويل الذي نسب إلى النواس بن سمعان ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الذي ينبئ أن الدجال يخرج من خلة بين الشام والعراق ويعمل الأعاجيب ثم يدركه عيسى فيقتله ثم يؤمر عيسى بأن يعتصم بالطور هربا من قوم لا قدرة عليهم وهم يأجوج ومأجوج- إلى أن قال- فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما- إلى أن قال- أن تنظر إلى تركيب هذه القصة نظر منتقد لا يخطر ببالك شك في أنها موضوعة وقد وضعها واضع لا يفرق بين الممكن والمستحيل وبين سنن الله وما تولده الخيالات من الأباطيل ولكن الدليل الحسي على بطلان هذا الحديث أن واضعه لقصر نظره خيل له أن أسلحة الناس لن تزال القسي والسهام والنشاب والجعاب حتى تقوم الساعة ولم يدرك أنه لن يمر على وضع هذا الحديث نحو سبعة قرون حتى يوجد البارود والبندق ولم تمر ستة قرون أخرى حتى لم يكن للقوس والنشاب ذكر وقام مقامه مدافع الماكسيم وقنابل اليد والشرنبيل والأدخنة السامة والغازات الملتهبة والديناميت الذي يتساقط من الطائرات الخ..(19/70)
وحديث النواس بن سمعان الذي زعم أنه موضوع أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وهو واحد من أحاديث الدجال المتواترة التي اعتبرها محمد فريد وجدي موضوعه وشبهته التي اعتبرها دليلا حسيا على وضع هذا الحديث كون يأجوج ومأجوج يستعملون النشاب وهو سلاح قديم جاءت بعده الأسلحة الفتاكة التي عدد بعض أنواعها ويجاب عن شبهته هذه أن هذا السلاح الذي ورد ذكره في الحديث هو الذي سوف يستعمل حتما من قبل يأجوج ومأجوج إذا خرجوا في آخر الزمان أما الحضارة المادية والأسلحة الفتاكة التي وجدت في هذا العصر فليس بقاء نوعها حتى نهاية الزمان محققا فقد يبقى نوعها حتى ذلك الزمان وقد تنتهي قبل ذلك والله تعالى أعلم بالذي سيكون من بقائها أو انتهائها واحتمال انتهائها أقرب لأن الأحاديث الصحيحة وردت باستعمال الخيل والرماح وإلى السيوف والحراب مع أن النفوس البشرية جبلت على تفضيل المركوبات المريحة واستعمال السلاح الأنكى في الحرب فقد يكون استعمال هذه الأسلحة العادية لعدم وجود الأسلحة الفتاكة. ولا أدري كيف تجرأ هذا المسكين على رد هذا الحديث وزعم أنه موضوع من أجل أنه ذكر فيه سلاح قديم فإن هذا السلاح هو المحقق الوجود في ذلك الوقت لإخبار الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا الحديث الصحيح أما أسلحة هذا الزمان ومركوباته فإن وجودها في آخر الزمان غير محقق وإنما هو محتمل ومن قرائن احتمال عدم بقائها ما نسمعه في الإذاعات من الذعر والتخوف من نفاذ النفط وتنافس الدول الصناعية في البحث عن مصادره لما أسموه بالطاقة ليحرك بها الحد يد بدلا من البترول حتى لا تكون هذه الحضارة المادية ركاما من الحديد البارد ويحضرني لي هنا نكتة لطيفة سمعتها من رجل قال فيها: "هذه الحمر السائبة التي تعترض طرق السيارات وتسبب الحوادث لو توقف البترول لتشاح الناس فيها وتنافسوا في اقتنائها وشغلوا المحاكم باستخراج صكوك في تملكها والتخاصم عليها وقد يقول(19/71)
قائلهم: إنني قد ورثت هذا عن أبي عن جدي".
ومعذرة للقارئ في هذا الاستطراد الذي لا يخلو من فائدة إن شاء الله في مناقشة محمد فريد وجدي في شبهه الواهية التي اعتمد عليها في إنكار أحاديث الدجال وزعمه أنها موضوعه ومثل هذه الشبه التي أودعها في كتابه دائرة معارف القرن العشرين هي في الحقيقة من جاهلية القرن العشرين.
17- هناك كاتب من كتاب القرن الرابع عشر اعتمد على كلامه الشيخ ابن محمود دون أن يفصح عن اسمه في رسالته ولا مرة واحدة وهو الأستاذ أحمد أمين صاحب كتاب ضحى الإسلام وسأنقل كلام ابن محمود في رسالته ثم اتبعه بأصله كلام أحمد أمين في ضحى الإسلام.
قال الشيخ ابن محمود ص 37: "إن فكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية وكلها نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها وذلك بعد خروج الخلافة من آل البيت واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الظاهرة ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك واحكموا أسانيدها وأذاعوها عن طرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم وكانت بذلك مؤامرة شنيعة أفسدت بها عقول الناس وامتلأت بأحاديث تروى وقصص تقص نسبوا بعضها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى أئمة أهل البيت وبعضها إلى كعب الأحبار وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام كما كان من أثر ذلك الثورات والحركات المتتالية في تاريخ المسلمين ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة يزعم أنه المهدي المنتظر ويلتف حوله طائفة من الناس ويتسببون في إثارة الكثير من الفتن وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدي وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا تتفق مع العقل الصحيح"انتهى كلام الشيخ ابن محمود.(19/72)
وقال الأستاذ أحمد أمين في كتاب ضحى الإسلام ج 3/ 241: "وفكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية ففي نظري أنها نبعت من الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم"وقال في ج 3/243: "واستغل هؤلاء القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطاهرة ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم"وقال في ص 243. أيضا: "حديث المهدي هذا حديث خرافة وقد ترتب عليه نتائج خطيرة في حياة المسلمين"وقال في ص 244: "فامتلأت عقول الناس بأحاديث تروى وقصص تقص ونشأ باب كبير في كتب المسلمين اسمه الملاحم فيه أخبار الوقائع من كل لون فأخبار العرب والروم وأخبار في قتال الترك" إلى أن قال:
"وجعلت هذه الأشياء كلها أحاديث بعضها نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى أئمة أهل البيت وبعضها إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وهكذا وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام كما كان من أثر ذلك الثورات المتتالية في تاريخ المسلمين ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة كلهم يزعم أنه المهدي المنتظر ويلتف حوله طائفة من الناس"إلى أن قال: "وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدية وهي نظرية لا تتفق وسنة الله في خلقه ولا تتفق والعقل الصحيح"انتهى.(19/73)
بعد نقل كلام الشيخ ابن محمود هذا ونقل كلام قدوته في ذلك الأستاذ أحمد أمين يتضح للقارئ أن التابع نقل الكلام المتبوع بنصه ونسبه إلى نفسه دون نسبته إلى قائله وإن كان مثل هذا الكلام يعتبر في الحقيقة منقصة ينسب إليه ثم أن الشيخ ابن محمود يعيب جمهور الأمة سلفا وخلفا أنهم يقلد بعضهم بعضا والمقلد لا يعد من أهل العلم كما في ص 5 و 8 من رسالته وفي نفس الوقت يرضى لنفسه أن يقلد مثل أحمد أمين ومحمد فريد وجدي ممن هم أجانب عن علم الحديث الشريف، فإذا كان من يقلد أهل الاختصاص مثل الترمذي والعقيلي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني وغيرهم لا يعد من أهل العلم فبم يوصف من يكون قدوته من هو أجنبي عن العلم الشرعي مثل محمد فريد وجدي وأحمد أمين؟
ومن جعل الغراب له دليلا
يمر به على جيف الكلاب
ثم إني أناقش هذا الكلام الذي اشترك في حمل وزره الأستاذ أحمد أمين والشيخ ابن محمد فأقول:
أولا: ما قاله التابع والمتبوع من أن فكرة المهدي نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها وأنهم استغلوا أفكار الجمهور الساذجة وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك واحكموا أسانيدها وأذاعوها عن طرق مختلفة وصدقها الجمهور الطيب لبساطته هذان القول الذي قالاه يشتمل على تنقص سلف هذه الأمة أوعية السنة ونقلة الآثار والنيل منهم ووصف أفكارهم بالسذاجة وأنهم يصدقون بالموضوعات لبساطتهم ولا شك أنه كلام في غاية الخطورة لأن القدح بالناقل قدح - بالمنقول وهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مقابل هذا الكلام الذي هو من أسوأ الكلام أنقل فيما يلي كلاما لأبي بكر الخطيب البغدادي رحمه الله في أهل الحديث هو من أحسن الكلام قال رحمه الله في كتابه شرف أصحاب الحديث:(19/74)
"وقد جعل الله تعالى أهله - يعني الحديث - أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة فهم أمناء الله من خليقته والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمجتهدون في حفظ ملته أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه أو تستحسن رأيا تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم والرسول قدوتهم وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول وهم المأمونون عليه والعدول حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحملته. إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به فهو المقبول المسموع منهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب مسحن، وهم الجمهور العظيم، وسبيهم- السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر. من كادهم قصمه الله ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم ولا يفلح من اعتزلهم"، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير وبصر الناظر إليهم بالسوء حسير وإن الله على نصرهم لقدير، وقال رحمه الله: "فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار وركوب البراري والبحار في اقتباس ما يشرع الرسول المصطفى لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى. قبلوا شريعته قولا وفعلا، وحرسوا سنته حفظا ونقلا، حتى ثبتوا بذلك أصلها وكانوا أحق بها وأهلها. وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها فهم الحفاظ لأركانها والقوامون بأمرها وشأنها إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون".(19/75)
هذا ما قاله الخطيب البغدادي رحمه الله في أهل الحديث، وبعد أن يتفق ابن محمود مع
أحمد أمين في هذا الكلام ينفرد الشيخ ابن محمود بلمز لأهل الحديث فيقول في ص 23 من رسالته: لكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن بالله ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة حتى بلغت خمسين حديثا في قول الشوكاني كما نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها وسأتكلم حول هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.
ثانيا: قول أحمد أمين: "فامتلأت عقول الناس بأحاديث تروى وقصص تقص ونشأ باب كبير في كتب المسلمين اسمه الملاحم فيه أخبار الوقائع من كل لون فأخبار العرب والروم وأخبار في قتال الترك.." ألخ هذا القول فيه زيادة في الهلكة لما فيه من استنكار هذا الباب الذي اشتملت عليه دواوين السنة النبوية وهو باب الملاحم وما يندرج تحته من أحاديث عن أخبار بمغيبات وكثير من أحاديث هذا الباب موجودة في الصحيحين وفي غيرها.(19/76)
ثالثا: ما قالاه من أن نظرية المهدي نظرية لا تتفق وسنة الله في خلقه ولا تتفق والعقل الصحيح يجاب عنه بأن مثل ذلك لا يصلح أن يطلق عليه نظرية لأنه من الأمور الغيبية التي هي ليست محلا للرأي والنظر وإنما يتوقف قبول ذلك على صحة الحديث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صاحت الأحاديث بخروج المهدي في آخر الزمان والعقل السليم لا يختلف مع النقل الصحيح بل يتفق معه إذ أن العقل تابع للنقل وهو معه كالعامي المقلد مع العالم المجتهد كما قال ذلك بعض العلماء وخروج المهدي في آخر الزمان متفق مع سنة الله في خلقه فإن سنة الله تعالى أن الحق في صراع دائما مع الباطل والله تعالى يهيئ لهذا الدين في كل زمان من يقوم بنصرته ولا تخلو الأرض في أي وقت من قائم لله بحجته والمهدي فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينصر الله به دينه في الزمن الذي يخرج فيه الدجال وينزل فيه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء كما صحت الأخبار بذلك عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(19/77)
18- اعتبر الشيخ ابن محمود كل ما ورد في المهدي من الأحاديث من قبيل المختلق الموضوع فقد وصف الأحاديث الواردة في المهدي في ص 4 بأنها "مختلقة"وقال في ص 6 "إِنه ليس أول من كذب بهذه الأحاديث"وقال في ص 7 بعد أن ذكر بعض الشبه لإنكارها: "فهذه وما هو أكثر منها مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته وليست من كلامه فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها". وقال في ص 11: "وأنه بمقتضى التحقيق لها يعني -الأحاديث الواردة في المهدي- والدرس لرواياتها يتبين بطريق اليقين أن فيها من التعارض والاختلاف وعدم التوافق والائتلاف ووقوع الإشكالات وتعذر الجمع بين الروايات ما يحقق عدم صلاحيتها ويجعل العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين يحكمون عليها بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست من كلامه وينزهون ساحة رسول الله وسنته عن الإتيان بمثلها إذ الشبهة فيها يقينية والكذب فيها ظاهر جلي"وقال في ص 16: "وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال في ص 19: "لهذا وقبل ذلك تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث التي يتلونها ويموهون بها على الناس فأخضعوها للتصحيح والتمحيص وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين" ووصفه في ص 24 بأنه حديث خرافة وكذا في ص 27 وقال في ص 27 "وهذا الجهل هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثا عند أهل السنة". وقال في ص 29: "وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يحدث بها"وقال في ص 31: "وأحاديث المهدي هي بمثابة ألف ليلة وليلة قد أحصاها الشوكاني فيما يزيد على خمسين حديثا"وقال في ص 36: "وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في(19/78)
تضعيف أحاديث المهدي وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم"وقال في ص58: "ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح وهي في الأصل حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف".
هذه فقرات من كلام الشيخ ابن محمود في رسالته تتعلق برد الأحاديث الواردة في المهدي كلها لكونها مختلقة موضوعة مصنوعة مكذوبة مزورة حديث خرافة وبمثابة ألف ليلة وليلة وتعليقي على ذلك ما يلي:
أولا: أن تكرار مثل هذا الكلام وترديد مثل هذه العبارات في مواضع متعددة من رسالة الشيخ ابن محمود هو الذي زاد في حجمها ورفع عدد صفحاتها.(19/79)
ثانيا: الحديث الموضوع هو الحديث الذي يكون في سنده راو معروف بتعمد الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسوأ أنواع المردود من الحديث وهو الذي قال فيه المحدثون لا تجوز روايته إلا مع بيان حاله لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم، والأحاديث الواردة في المهدي كما قال العلماء فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع فكيف يجرأ أحد على أدعاء أن كل ما ورد في المهدي موضوع! إذ أن معنى هذا الكلام أن كل حديث فيه ذكر المهدي في سنده راو على الأقل معروف بتعمد الكذب في الحديث الشريف ومعلوم أن كل الأحاديث الصحاح والحسان الواردة في المهدي ليس فيها شخص من هذا القبيل بل إن الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة مما ورد في المهدي ليس فيها من هو كذاب وقد جمع الحافظ بن حجر الأحاديث التي اعتبرها ابن الجوزي موضوعة في مسند الإمام أحمد وهي قليلة جدا عدتها أربعة وعشرون منها تسعة استخرجها شيخه الحافظ العراقي وذلك في كتاب أسماه القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد أوضح فيها أنه لا يتأتى الحكم على شيء منها بالوضع ومنها حديث ثوبان عند الإمام أحمد: "إذا أقبلت الرايات السود من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي" قال فيه في الرد على ابن الجوزي: "وفي طريق ثوبان علي بن زيد ابن جدعان فيه ضعف ولم يقل أحد أنه كان يتعمد الكذب حتى يحكم على حديثه بالوضع إذا انفرد وكيف وقد توبع من طريق آخر رجالها غير رجال الأول" فذكرها.
ثالثا: ما اشتملت عليه هذه العبارات من الإشارة إلى رد الأحاديث والتكذيب بها لكونها متعارضة مختلفة جوابه أن ما كان فيها موضوعا أو ضعيفا لا يلتفت إليه ولا يعارض به غيره وما كان منها ثابتا فإنه مؤتلف غير مختلف وسبق إيضاح هذا في رقم 7.(19/80)
رابعا: ما أشار إليه في هذه العبارات من أن العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين حكموا على أحاديث المهدي بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار رجحوا بأنها كلها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول ما أشار إليه في هذه العبارات عن العلماء من متقدمين ومتأخرين من أن الأحاديث في المهدي كلها موضوعة ينقصه التثبت ويفتقر إلى الإثبات ولا سبيل إلى ذلك فأنا شخصيا لا أعلم في المتقدمين من العلماء واحدا قال بأنها كلها موضوعة وإنما اعرف شخصين أثنين أحدهما أبو محمد بن الوليد البغدادي ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة أنه في طائفة أنكروا أحاديث المهدي معتمدين على حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم قال ابن تيمية وليس مما يعتمد عليه ولم ينقل عنه ولا عن غيره أنهم اعتبروا أحاديث المهدي موضوعة بل اعتمدوا على حديث ضعيف لا يعتمد عليه والثاني ابن خلدون ولم يقل إن كل الأحاديث في المهدي موضوعة وإنما حكم على أكثرها بالضعف وهو ليس أهلا للحكم لكونه ليس من أهل الاختصاص وأعترف بسلامة بعضها من النقد وقد مر الكلام عن تضعيف ابن خلدون وأنه ليس مما يعتمد عليه في مثل ذلك في رقم 10، ولم يسم الشيخ ابن محمود في رسالته أحدا من العلماء المتقدمين انتقد أحاديث المهدي وضعفها سوى ثلاثة هم ابن خلدون وقبله ابن القيم والشاطبي ولم يكن مصيبا في العزو إليهما إذ لم يقولا بتضعيفها وسبق إيضاح ذلك في رقم 11، 12.(19/81)
أما القول بأنها موضوعة فهو ما لا أعلم واحدا في الماضين قاله ولو علم الشيخ ابن محمود أحدا منهم سماه في رسالته أما المتأخرون من العلماء الذي كاد أن ينعقد إجماعهم على أن أحاديث المهدي كلها موضوعة كما قال الشيخ ابن محمود فأنا أيضا لا اعرف أحدا له معرفة بالحديث النبوي قال إنها كلها ضعيفة فضلا عن القول بأنها موضوعة وكل الذين سماهم الشيخ ابن محمود في رسالته من المتأخرين خمسة هم الشيخ محمد بن مانع والشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ محمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي والبلاغي، أما الشيخ محمد بن مانع فهو ممن يقول بتصحيح بعض الأحاديث الواردة في المهدي وقد مر إيضاح ذلك في رقم 13 وأما الشيخ المودودي فلم يقل بأنها موضوعة بل لم يقل إنها كلها ضعيفة وإنما قال: "بأن سند هذه الأحاديث ليس في القوة حيث يثبت أمام مقياس البخاري ومسلم لنقد الروايات"وقد مر ذلك في رقم 14، وأما الشيخ محمد رشيد رضا فقد مر في رقم 15 أنه أنكر ما هو أوضع من خروج المهدي وهو نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وأما محمد فريد وجدي فقد زعم أن أحاديث الدجال كلها موضوعة ملفقة وأكثرها في الصحيحين كما هو معلوم وقد مر إيضاح ذلك في رقم 16 أما البلاغي فله ترجمة في معجم المؤلفين المؤلفين 3/ 164لكحالة ذكر فيها أن من آثاره نصائح الهدى في الرد على البهائية ولم أقف على كتابه لأتمكن من إبداء شيء بشأنه ويبدو من ترجمته أنه من الشيعة (فأي إجماع هذا الذي كاد أن ينعقد على خلاف ما عليه سلف الأمة وأوعية السنة) وإني لأسأل الله عز وجل أن يوفق الأحياء ممن عناهم الشيخ ابن محمود بالمتأخرين من علماء الأمصار أسأله تعالى أن يوفقهم لأن يسيروا على الجادة التي سلكها سلفنا الصالح في تعظيم السنة النبوية وأن يعقلوا عقولهم بعقالهم الكتاب والسنة.(19/82)
19- نقل الشيخ ابن محمود في ص 20 كلاما لمحمد فريد وجدي من كتابه دائرة معارف القرن العشرين بدأه بقوله ويقول محمد فريد وجدي وقال في نهايته انتهى ومنه ما يلي: "وقد ضعف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه منهم الدارقطني والذهبي وقد أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر حتى لا يجرأ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس"هكذا عزاه الشيخ ابن محمود إلى محمد فريد وجدي ونص كلام محمد فريد وجدي في كتابه دائرة معارف القرن العشرين ج 10 ص 481 ما يلي: "وقد ضعف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي واعتبروها ممن لا يجوز النظر فيه وإننا إذ أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر حتى لا يجرأ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس"انتهى.
وفي كلام ابن محمود هذا خطآن. أحدهما إضافة جملة (منهم الدارقطني والذهبي) إلى كلام محمد فريد وجدي وهو تقويل له ما لم يقله والخطأ الثاني إضافة القول بتضعيف أحاديث المهدي وعدم جواز النظر فيه إلى الحافظين الدارقطني والذهبي وهذا القول بعيد غاية البعد عن مثل هذين الإمامين. أما الذهبي فقد صحح أحاديث كثيرة من أحاديث المهدي في تلخيص المستدرك وأما الدارقطني فلم أقف له على كلام في أحاديث المهدي والقول بأن الحافظين الذهبي والدارقطني يضعفان أحاديث المهدي ويعتبرانها مما لا يجوز النظر فيه غير صحيح وغير مطابق للواقع ولا يستطيع الشيخ ابن محمود إثباته إضافته إليهما مثل إضافة الجملة إلى محمد فريد وجدي.
20- وقال الشيخ أبو محمود ص 29:
"وإننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا صريحا يعتمد عليه في تسمية المهدي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم فيه باسمه".(19/83)
والجواب أنه ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة قال بصحتها وثبوتها أهل الصناعة الحديثية قديما مثل الترمذي وأبي الحسين الآجري وابن جعفر العقيلي وابن حبان البستي وأبي سليمان الخطابي والإمام البيهقي والقاضي عياض والقرطبي صاحب التفسير المشهور والحافظ الذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والحافظ عماد الدين بن كثير وغيرهم وحديثا بعد القرن العاشر مثل الشيخ علي القارئ والشيخ عبد الرؤوف المناوي والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني والشيخ صديق حسن خان وغيرهم وممن استقرأها وتتبعها وهو من المحدثين القاضي محمد بن علي الشوكاني مؤلف كتاب نيل الأوطار قال في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح: "والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديث فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف المتواتر عليها هو أقل منها في جميع الاصطلاحات المقررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك"انتهى.
ومن أوضح الأحاديث في ذلك الحديث الذي أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" قال ابن القيم بعد أن أورده في كتابه المنار المنيف: "وإسناده جيد وهو مبين لحديث جابر عن مسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمه الله لهذه الأمة".(19/84)
21- قال الشيخ ابن محمود في ص 83. سألني غير واحد عن حديث "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها" فيسألون هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح أو غير صحيح؟ فأجبتهم بأن هذا الحديث رواه أبو داود وصححه الحافظ العراقي والعلامة السخاوي"وفي ص 84 ذكر حديثا ثم قال: "ومثله ما رواه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرا أم أخره"قال الحافظ أبي بن حجر في فتح الباري: "هذا الحديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة"قال: "وصححه ابن حبان من حديث عمار"انتهى.
أقول: إن المسلك الذي سلكه الشيخ ابن محمود في بيان حكم هذين الحديثين هو المسك الأرشد والمنهج الأحمد إذ عول على حكم من هو أهل للحكم على الأحاديث وتبع أهل الاختصاص في اختصاصهم وكان ينبغي له أن يسير في هذا الاتجاه في معرفة درجه الأحاديث الواردة في المهدي وإذا اقتصرنا على معرفة حكم هؤلاء الحفاظ الأربعة على الأحاديث الواردة في المهدي نجد أن السخاوي اعتبر أحاديث المهدي من قبيل الأحاديث المتواترة إذ ذكر ذلك في جملة الأمثلة والأحاديث المتواترة وذلكَ في كتابه (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) للحافظ العراقي ونجد أنه أيضا ألف في أحاديث المهدي كتابا سماه (ارتقاء الغرف) ذكره في كتابه المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة وقال العجلوني في كشف الخفاء: "ورد ذكره - أي المهدي - في أحاديث أفردها بعض الحفاظ بالتأليف منهم الحافظ السخاوي في كتاب ارتقاء الغرف"الخ.(19/85)
أما الحافظ العراقي فلم أقف له على كلام بشأن أحاديث المهدي لكن ابنه وتلميذه الحافظ ولي الدين آبازرعه العراقي قد جمع طرق أحاديث المهدي ذكره في مؤلفاته ابن فهد في ذيله على تذكرة الحفاظ للذهبي وأما الحافظ ابن حجر العسقلاني فقد نقل كلام أبي الحسن الأبري في تواتر أحاديث المهدي وسكت عليه وذلك في فتح الباري وفي تهذيب التهذيب كما ذكر جملة من أقوال أهل العلم في ثبوت خروج المهدي في آخر الزمان وذلك في كتابه فتح الباري وأما أقدم هؤلاء الحفاظ وهو ابن حبان البستي فقد أورد في صحيحه مجموعة من أحاديث المهدي وقد أورد الهيثمي في (موارد الظمآن) جملة منها وقال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري في شرح حديث: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه" قال: "واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما"انتهى. وهؤلاء الأربعة وهم الإمام ابن حبان البستي والحافظ ابن العراقي والحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ السخاوي يعتبرون قطرة من بحر في عدد الأئمة الحفاظ الذين قالوا بثبوت خروج المهدي في آخر الزمان استنادا إلى الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
(22) - وقال الشيخ ابن محمود في ص 51:
"وهنا حديث كثيرا ما يحتج به المتعصبون للمهدي وهو أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال وأن عيسى عليه السلام ينزل من منارة مسجد الشام فيأتي فيقتل الدجال ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فيقول المهدي: تقدم يا روح الله فيقول: إنما هذه الصلاة أقيمت لك فيتقدم المهدي ويقتدي به عيسى عليه السلام إشعارا بأنه من جملة الأمة ثم يصلي عيسى عليه السلام في سائر الأيام قال علي بن محمد القارئ في كتابه الموضوعات الكبير:" بأنه حديث موضوع"انتهى.(19/86)
أقول: لم يقل الشيخ علي القارئ عن هذا الحديث أنه موضوع كما قال الشيخ ابن محمود بل الذي قاله فيه أنه ثابت فقد نقل في كتابه الموضوعات الكبير ص 164 كلام ابن القيم في فضائل المسجد الأقصى وأخرها قول ابن القيم: "وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يتحصنون به من يأجوج ومأجوج"ثم قال ابن القيم: "فهذا مجموع ما يصح فيه من الأحاديث" وعقب ذلك مباشرة قال الشيخ علي القاري: "قلت وكذا ثبت أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال وأن عيسى عليه السلام ينزل من منارة مسجد الشام فيأتي فيقتل الدجال ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فيقول المهدي: تقدم يا روح الله فيقول إنما هذه الصلاة أقيمت لك فيتقدم المهدي ويقتدي به عيسى عليه السلام إشعارا بأنه من جملة الأمة ثم يصلى عيسى عليه السلام في سائر الأيام.." انتهى كلام الشيخ علي القاري وهو واضح في إثبات ذلك ولم يقل إنه موضوع كما عزاه إليه الشيخ ابن محمود ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقتله الدجال بباب لد وصلاته خلف إمام المسلمين في ذلك الزمان ثابت في صحيح مسلم وغيره وكون ذلك الإمام الذي يصلى عيسى بن مريم خلفه يقال له المهدي ثابت في مسند الحارث بن أبي أسامة.(19/87)
(23) عقد الشيخ ابن محمود في رسالته فصلا بعنوان التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر يقع في سبع ورقات يشتمل على أحد عشر حديثا قال قبل كلامه عليها.. وسنتكلم على الأحاديث التي يزعمونها صحيحة والتي رواها أبو داود والإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وكلها متعارضة ومختلفة ليست بصحيحة ولا متواترة لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى، وقد أعجب الشيخ عبد الله بن محمود بكلامه في هذا الفصل فقد قال في ص 8: "وقد عقدت في الرسالة فصلا عنوانه (التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر) شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم بما لا مزيد عليه فليراجع".
وقال في ص 27: "إنهم لو رجعوا- يعني الذين يقولون بصحة الأحاديث الواردة في المهدي- إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة وقابلوا بعضها ببعض لظهر لهم بطريق اليقين أنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة لا باللفظ ولا بالمعنى".
وتعليقي على هذا الفصل ما يلي:(19/88)
أولا إن من سهل عليه أن يحكم على كل ما ورد في المهدي سواء كان في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ومسند الإمام أحمد أو في غيرها من دواوين السنة النبوية من سهل عليه أن يحكم على كل ذلك بأنه موضوع مصنوع مزور مختلق مكذوب حديث خرافة بمثابة ألف ليلة وليلة كما أثبت بعض عباراته في ذلك في رقم 18 فإنه يصعب عليه أن يأتي بتحقيق معتبر لأن التحقيق المعتبر يحتاج إلى التأني والتثبت والإطلاع على المصادر المختلفة ومعرفة ما قاله أهل العلم المعتد بهم وأن لا يخرج ذلك التحقيق إلا بعد مدة طويلة ومن أراد أن يقف على التحقيق المعتبر بشأن المهدي المنتظر فيمكنه ذلك بالإطلاع على الرسالة التي أعدها الشيخ عبد العليم عبد العظيم الهندي ونال بها درجة الماجستير من قسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز بمكة والتي زادت صفحاتها على ستمائة صفحة وهي بعنوان: (الأحاديث الواردة في المهدي في ميزان الجرح والتعديل) والتي مكث في إعدادها مدة تزيد على أربع سنوات جمع فيها ما ورد في الموضوع من الأحاديث والآثار ودرس أسانيدها وبين ما قاله المحدثون عن أحوال رجالها وما قاله أهل العلم في صحتها أو ضعفها ونقل فيها الكثير من أقوال العلماء في تواترها وفي ثبوتها والاحتجاج بها وتكلم فيها في موضوع المهدي من مختلف الجوانب مما جعلها بحق أفضل وأوسع مرجع يرجع إليه في هذه المسألة.(19/89)
ثانيا: قوله: "وقد عقدت في الرسالة فصلا عنوانه: (التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر) شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم بما لا مزيد علي فليراجع" يفهم من قوله هذا أنه تكلم على كل الأحاديث التي لها تعلق بالمهدي مما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم وليس الأمر كذلك أما الحاكم فلم يرد له ذكر إطلاقا في ورقات الفصل السبع، وأما الترمذي فقد روى في جامعه في باب ما جاء في المهدي ثلاثة أحاديث الأول والثاني عن ابن مسعود وأبي هريرة: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم" الحديث وقد أورد الشيخ ابن محمود الحديث عند أبي داود فقال: روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلا منا يملأها عدلا كما ملئت جورا" ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم ورواه الترمذي أيضا.. انتهى.(19/90)
والملاحظ في هذا شيئان أحدهما عزوه الحديث إلى الترمذي مع أن الترمذي لم يسنده إلا عن ابن مسعود وأبي هريرة. والثاني أن لفظ حديث علي عند أبي داود "لبعث الله رجلا من أهل بيتي" وليس لفظه "رجلا منا"كما نقل الشيخ ابن محمود وهذا اللفظ "رجلا منا" لفظ الحديث في مسند الإمام أحمد وأما الحديث الثالث عند الترمذي فهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "إن في أمتي المهدي" الحديث لم يرد له ذكر في فصل التحقيق المعتبر في رسالة الشيخ ابن محمود، وأما ابن ماجه فقد روى في سننه سبعة أحاديث في باب خروج المهدي ولم يذكر الشيخ ابن محمود في فصله إلا ثلاثة من هذه الأحاديث السبعة وهي حديث أبي سعيد الخدري "يكون في أمتي المهدي" الحديث وحديث ثوبان "يقتتل عند كنزكم" الحديث وحديث أنس "نحن ولد عبد المطلب" الحديث وأما الإمام أحمد فقد عزا إليه الشيخ ابن محمود في الفصل الذي عقده ثلاثة أحاديث مع أن مسند الإمام أحمد فيه أحاديث كثيرة في المهدي غير هذه الثلاثة.
ثالثا: أن كلامه على الأحاديث التي أوردها لبيان ضعفها وبطلانها كما يريد لا يتسم بسمة التحقيق الذي يصلح أن يكون معتبرا وسأكتفي بإيضاح هذا بأمثلة من كلامه على بعض هذه الأحاديث.
المثال الأول: قال الشيخ ابن محمود في ص 48:(19/91)
"روى الإمام أحمد حدثنا أبو نعيم حدثنا ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية عن أبيه عن علي قال: "المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة"، وقد رأيت من ينتقد هذا الحديث قائلا: والعجيب أن يكون المهدي بعيدا عن التوفيق والفهم والرشد ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة ليكون في صبيحتها داعية هداية ومنقذ أمة ورواه ابن ماجه عن عثمان ابن أبي شيبة وقال: "ياسين العجلي ضعيف"فهذا من جملة الأحاديث التي فيه التصريح باسم المهدي لكنها ليست بصحيحة كما أشار ابن ماجه إلى تضعيفه ومن الأمر العجيب في هذا الحديث كون المهدي بعيدا عن الهداية والتوفيق والرشد، ثم يهبط عليه في ليلة فيكون في صبيحتها هاديا مهديا ومنقذ أمة من جورها وفجورها".
أقول: بنى الشيخ ابن محمود إنكاره لهذا الحديث على أمرين:
أحدهما: أن ابن ماجه قال: "ياسين العجلي ضعيف".
والثاني: استنكار معناه وهو كون المهدي يصلحه الله في ليلة.(19/92)
ويجاب عن ذلك: بأن ابن ماجه لم يضعف ياسين العجلي في كتابه السنن عندما أورد هذا الحديث عنه وليس من عادته في سننه أن يشير إلى أحوال الرجال، وإنما طبعة سنن ابن ماجه المشتملة على ترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي اشتملت أحيانا على إيراد كلام البوصيري في زوائد ابن ماجه عقب إيراد الحديث وهو من عمل الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، ثم إن الذين ترجموا لياسين العجلي مثل الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب والحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال لم يذكروا في ترجمته أن ابن ماجه ضعفه ولعل الشيخ ابن محمود لم يسبق إلى نسبة تضعيف ياسين العجلي إلى ابن ماجه، وحاصل ما قاله أهل العلم في تعديل ياسين العجلي أن عباس الدوري قال سمعت يحي بن معين قال: "ليس به بأس"وقال إسحاق بن منصور عن يحي بن معين: "صالح"وقال أبو زرعة: "لا بأس به"ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ولم يزد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل في بيان حاله على قول ابن معين وأبي زرعة أنه لا بأس به. وقال عنه الحافظ في التقريب: "لا بأس به"، أما ما قيل فيه من الجرح، فقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب. وقال البخاري: "فيه نظر"ولا أعلم له حديثا غير هذا يعني هذا الحديث انتهى، ولم يترجم البخاري لياسين في كتابه الضعفاء الصغير وترجم له في التاريخ الكبير ترجمة لم يزد فيها على قوله: "ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية، روى عنه أبو نعيم والعكلي يعد من الكوفيين" وقد أورد البخاري الحديث في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحنفية بإسناد الإمام أحمد وقال: "وفي إسناده نظر"وقال الذهبي في الكاشف: ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية وعنه وكيع وأبو نعيم: ضعيف وحاصل ما قيل في جرحه أن البخاري قال فيه: "فيه نظر"كما نقله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب غير أن البخاري لم يورده في كتابه الضعفاء الصغير ولم يذكر هذا القدح في ترجمته في التاريخ الكبير وإنما قال في إسناده(19/93)
نظر يعني الحديث فيحتمل أن يكون ذلك النظر الذي في إسناد الحديث لكون ياسين العجلي ليس له إلا هذا الحديث وهو غير مؤثر ويحتمل غير ذلك مما لا يؤثر ويوضح عدم تأثير هذه الكلمة في قبول حديث ياسين العجلي أن الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب أشار إلى ثبوت حديثه هذا فقال: "ووقع في سند ابن ماجه غير منسوب فظنه بعض الحفاظ المتأخرين ياسين بن معاذ الزيات فضعف الحديث به فلم يصنع شيئا"- انتهى.
وأما قول الذهبي في الكاشف: "ضعف"فهو إشارة إلى ما نقل عن البخاري بشأن ياسين وذلك غير مؤثر وقد رمز السيوطي في الجامع الصغير لحسن هذا الحديث واحد من أحاديث كثيرة دالة على ثبوت خروج المهدي في آخر الزمان. وأما القدح في هذا الحديث من جهة استنكار معناه فإن الشيخ ابن محمود تبع في ذلك محمد أبا عبية فإنه هو الذي قال هذا الكلام في تعليقه علن النهاية لابن كثير وقلده فيه ابن محمود ولا شك أن العقل السليم يتفق مع النقل الصحيح، وأي غرابة في معناه حتى يتعجبا منه تعجب المنكر لمقتضاه فالله على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد ومن يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما حصل لمن هو أفضل من المهدي ومن سائر الأمة سوى أبي بكر رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان من أشد الناس على المسلمين ثم تحول بقدرة الله وتوفيقه فصارت شدته على أعداء الإسلام والمسلمين وأصبح ذلك الرجل العظيم الذي إذا سلك فجا سلك الشيطان فجا غيره كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذا أقول: أي تحقيق معتبر قام به الشيخ ابن محمود في الكلام على الحديث؟ أهو إضافة كلام إلى ابن ماجه لم يسبق في إضافته إليه؟ أو هو التقليد للكاتب أبي عبية في إنكار معناه؟
المثال الثاني: قال الشيخ ابن محمود في ص 49:(19/94)
"روى أبو داود عن هارون بن المغيرة حدثنا ابن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال: "نظر علي إلى ابنه فقال: "إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلا"- وهذا يعد من كلام علي رضي الله عنه وليس بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط الاحتجاج به، ومن المحتمل أن يكون مكذوبا على علي به". هذه هي الصيغة التي أوردها الشيخ ابن محمود في نقله الحديث من سنن أبي داود وهذا هو ما بنى عليه الشيخ ابن محمود تضعيف الحديث، أما الصيغة في سنن أبي داود فهي عن أبي إسحاق قال: "قال علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال: "إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث"، وأما الحديث فهو بهذا الإسناد ضعيف وليس السبب في ضعفه ما قاله الشيخ ابن محمود من أنه يعد من كلام علي رضي الله عنه، وليس بحديث فسقط الاحتجاج به لأن القول الذي يقوله الصحابي ينقسم إلى قسمين..ما للرأي فيه مجال، وما ليس له فيه مجال، فالذي للرأي فيه مجال يكون من قول الصحابي ولا يعد حديثا..أما الذي لا مجال للرأي فيه مثل هذا الحديث، فإنه يعد حديثا وله حكم الرفع وهو الذي يطلق عليه المحدثون المرفوع حكما لا تصريحا..وقد أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه شرح نخبة الفكر فقال: "ومثال المرفوع من القول حكما لا تصريحا أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للاجتهاد فيه ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب كالأخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الأخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، وإنما كان له حكم المرفوع لأن إخباره بذلك يقتضي موقفاً للقائل به، ولا موقف للصحابة إلا النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة،(19/95)
فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع سواء كان ممن سمعه منه أو عنه بواسطة"، انتهى كلام ابن حجر، وقال الشوكاني في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح: بعد أن ذكر الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنها بلغت حد التواتر قال: "وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك"انتهى.
وبهذا يتضح أن كلام الشيخ ابن محمود في تضعيف هذا الحديث ليس من التحقيق المعتبر والتحقيق المعتبر هو ما قاله المحدثون في إسناده وهو أن فيه انقطاعا في أعلاه وفي أسفله، أما الانقطاع الذي في أعلاه، فأبو إسحاق السبيعي قيل إنه لم يسمع من علي رضي الله عنه وإنما رآه رؤية وذلك أنه ولد لسنتين بقيا من خلافة عثمان رضي الله عنه، والانقطاع الذي في أسفله هو أن أبا داود لم يسم شيخه فيه وإنما قال: "حدثت عن هارون ابن المغيرة"وقد قال المنذري في اختصار سنن أبي داود عقب هذا الحديث: "هذا منقطع أبو إسحاق السبيعي رأى عليا رضي الله عنه رؤية"، وقال فيه أبو داود: "حدثت عن هارون ابن المغيرة".
مثال الثالث: قال الشيخ ابن محمود في ص 49:
"روى أبو داود في سننه من حديث سفيان الثوري بسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أمتي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما" ورواه أحمد والترمذي وقال: "حسن صحيح.."(19/96)
والجواب: أن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت كهذه الأحاديث وأمثالها، لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة قلت لعلي رضي الله عنه: "هل خصكم رسول الله بشيء؟ "فقال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا وما في هذه الصحيفة"قلت: "وما في هذه الصحيفة"قال: "العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر"وفي رواية: "والمؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم"ولم يذكر شيئا من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما لكون الغالب عليها الضعف والوضع، وأصح ما ورد في ذلك هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وقد وقع ما أخبر به حيث تنازل الحسن عن المطالبة بالملك لمعاوية ابن أبي سفيان فاطفأ الله به نار الحرب بين الصحابة وسموا ذلك العام بعام الجماعة"انتهى.
هذا هو التحقيق المعتبر الذي أتى به الشيخ ابن محمود لإبطال هذا الحديث وتعليقي على هذا التحقيق ما يلي:
أولا: لم يتطرق الشيخ ابن محمود هنا لإبداء علة محددة لتضعيف هذا الحديث وإنما لكون شأنه تضعيف الأحاديث بالجملة أتى بما يشمله ويشمل غيره فقال: والجواب أن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت كهذه الأحاديث وأمثالها لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم، ومن جهة أخرى فالحديث قد خرجه فيمن خرجه أبو داود والترمذي والإمام أحمد كما أشار إليه الشيخ ابن محمود هنا فكيف يتفق ذلك مع قوله إن علماء الحديث قد تحاشوا الخ. وهؤلاء الأئمة الثلاثة من علماء الحديث.(19/97)
ثانيا: ما أشار إليه من سؤال أبي جحيفة عليا رضي الله عنه وإجابة علي أبا جحيفة بجواب ليس منه هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب جوابه أن عدم ذكر أحاديث المهدي التي هي إخبار عن شيء مستقبل في إجابة علي على سؤال أبي جحيفة لا يدل على بطلانها لأن العبرة في ثبوت أي حديث أن يصح إسناده، وهذا الحديث واحد من أحاديث كثيرة صحت عن رسول الله صلى عليه وسلم في خروج المهدي في آخر الزمان، هذا من جهة ومن جهة أخرى فعلي رضي الله عنه أحد الصحابة الذين رووا هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه هو المثال الرابع الآتي بعد هذا.
ثالثا: قوله: ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما لكون الغالب عليها الضعف والوضع جوابه أن عدم إخراج الحديث في الصحيحين ليس دليلا على ضعفه وقد أوضحت ذلك في رقم (5) وهذا أحد المواضع التي يكرر فيها الشيخ ابن محمود مثل هذا الكلام.
رابعا: المتبادر من سياق حديث أبي جحيفة في كلام الشيخ ابن محمود أن قوله: وفي رواية: "والمؤمنون تتكافأ دماؤهم"الحديث في صحيح البخاري وليس الأمر كذلك فهذه الرواية عند الإمام أحمد والنسائي وأبي داود.
خامسا: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا قال فيه الترمذي: "حديث حسن صحيح"وسكت عليه أبو داود والمنذري وكذا ابن القيم في تهذيب السنن وقد أشار إلى صحته ابن القيم في المنار المنيف وصححه ابن تيمية في كتابه منهاج السنة.
المثال الرابع: قال الشيخ ابن محمودة ص 42: وروى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلا منا يملأها عدلا كما ملئت جورا" ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم ورواه الترمذي أيضا.(19/98)
والجواب: "أن هذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وهي ليست بصريحة في الدلالة على المعنى الذي ذكروه إذ ليس فيها ذكر للمهدي وعلى فرض صحته فإنه لا مانع من جعل هذا الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقرضوا واستقام عليهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين فقوله منا.. يحتمل أن يكون من أهل ديننا وأمتنا على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يحتمل أن يكون من المحال فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر والبر والفاجر.. كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان.. والمصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين المسلمين والكفار، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنتم في الأمم المكذبة للرسل إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.." وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله يا آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة" وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي ولا زمانه ومكانه، ولا الإيمان به ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذي استقام بهم الدين وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين.. وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة"انتهى.(19/99)
هذا هو التحقيق المعتبر الذي توصل إليه الشيخ ابن محمود لرد هذا الحديث.. وواضح أنه لم يتطرق إلى إبداء علة في الإسناد لرده وإنما درج في رده كما درج في رد غيره من الأحاديث على النهج الذي اتبعه بعض كتاب القرن الرابع عشر وهو الاعتماد على الشبه العقلية في رد النصوص الشرعية ويجاب على هذا التحقيق الذي جزم الشيخ ابن محمود بأنه معتبر بما أرجو أن يكون تحقيقا معتبرا وذلك فيما يلي:
أولا: قوله: "إن هذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وهي ليست صريحة في الدلالة على المعنى الذي ذكروه إذ ليس فيها ذكر للمهدي"، جوابه أن المحدثين عندما يصححون الأحاديث أو يضعفونها يبنون أحكامهم على منهج علمي دقيق لم تحظ به أي أمة من الأمم السابقة ولا يظفر به أحد ليس من أهل الحديث إلا إذا سلك المسلك الذي سلكوه ومشى على النهج الذي رسموه وهو الاعتماد على الإسناد ومعرفة أحوال رجاله واتصاله أو انقطاعه وغير ذلك، وهذا الحديث بهذا الإسناد ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده على شرط البخاري وقد سكت عنه أبو داود والمنذري وقال فيه صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود..: الحديث سنده حسن قوي، وقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود وأبو هريرة وأم سلمة وأبو سعيد الخدري. رضي الله عن الجميع.. وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي الله عنه في المثال الثالث وهذا الحديث بطرقه المتعددة عن الصحابة رضي الله عنهم يدل على أنه يلي أمر المسلمين في آخر الزمان رجل من أهل بيت النبوة يسمى محمد بن عبد الله وهو وإن لم يصرح فيه بوصف المهدي متفق مع النصوص الأخرى المصرحة بهذا الوصف وعلى ذلك درج أهل الحديث حيث أوردوا مثل هذا مما لم يصرح فيه بوصف المهدي وما صرح فيه بهذا الوصف في باب خروج المهدي كما فعل أبو داود والترمذي وغيرهما.(19/100)
ثانيا: قوله: "وعلى فرض صحته فإنه لا مانع من جعل هذا الرجل من جملة المسلمين الذين مضوا وانقرضوا واستقام عليهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين"، فقوله مما يحتمل أن يكون من أهل ديننا وملتنا جوابه أن الحديث صحيح واقعا لا فرضا، ولا يصلح حمله على أحد مضى لأن علماء الحديث حملوه على المهدي الذي يخرج في آخر الزمان ويدل لكون المقصود ذلك الذي يكون في آخر الزمان الحديث نفسه وذلك في قوله: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد" وفي حديث ابن مسعود "لطول الله ذلك اليوم.." وهو واضح في أن ذلك مراد به المهدي الذي يكون في آخر الزمان ولا يصلح حمله على أحد قبله، أما لفظ "رجل منا"التي تأولها الشيخ ابن محمود رجلا من أهل ديننا وملتنا فهو ليس لفظ أبي داود كما يوهم ذلك إيراد الشيخ ابن محمود الحديث عنه وإنما هو لفظ حديث علي في مسند الإمام أحمد، ولفظ الحديث عند أبي داود "رجلا من أهل بيتي" وهو موضح المراد من لفظ الحديث في مسند الإمام أحمد.(19/101)
ثالثا: قوله: "على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يحتمل أن يكون من المحال، فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر.. كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمصارعة لا تزال بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار"، جوابه أن الله على كل شيء قدير ولا يستحيل على قدرة الله شيء.. هذا أولا وثانيا أنه لا يلزم من قوله: "يملأها عدلا" انقراض الشر، فالشر موجود في زمن المهدي.. والصراع بين الحق والباطل قائم في زمانه.. وأعظم فتنة في الحياة الدنيا هي فتنة الدجال وخروجه على الناس.. يكون في ذلك الزمان.. يوضح ذلك أن قوله: "كما ملئت جورا" لا يدل على انقراض الخير وإنما سنة الله في خلقه أن يكون الصراع بين الحق والباطل في هذه الحياة الدنيا ففي بعض الأزمان يقوى جانب الخير على جانب الشر وأحيانا يقوى جانب الشر ولا تخلو الأرض من أهل الخير إلا في الذين تقوم عليهم الساعة وفي زمان المهدي يكون جانب الحق قويا والخير منتشرا كما هو الشأن في صدر الإسلام وسبق في رقم 21 أن ابن حبان كما نقله عنه الحافظ في فتح الباري استدل بأن حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه" ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.(19/102)
رابعا: قوله: "وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي ولا زمانه ولا مكانه ولا الإيمان"به جوابه أن هذا الحديث وغيره من الأحاديث في معناه هي في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان كما عليه علماء الحديث كما مر بيانه في الفقرة الأولى من الكلام على هذا الحديث وأما زمانه فقد أوضحت الأحاديث أنه يكون في زمن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وزمن الدجال وأما مكانه فإنه يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء في أرض الشام في بيت المقدس كما ورد في بعض الأحاديث إذ يصلي خلف المهدي ثم يخرج لقتل الدجال. وأما الإيمان به فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بما صح من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك خروج المهدي والدجال ونزول عيسى عليه السلام من السماء وغير ذلك.
خامسا: قوله: "ولا يمنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذين استقام بهم الدين وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين"جوابه أن يقال وما المانع أن يكون المقصود به المهدي الذي يخرج في آخر الزمان الذي هو قول العلماء المحدثين أوعية السنة وجهابذة الأمة وهو الذي يقتضيه لفظ الحديث في قوله: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد.." ثم إن الشيخ ابن محمود قال في أول الكلام على هذا الحديث: "على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يحتمل أن يكون من المحال"ثم في آخر الكلام على الحديث قال: "ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذين استقام بهم الدين وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين"، فالشيء الذي كان في أول الكلام على الحديث يحتمل أن يكون من المحال، أصبح مثله في الكلام على آخر الحديث من الممكن، وهكذا شأن الكلام المفتقر إلى التحقيق ينقض أخره أوله.(19/103)
هذه أمثلة من كلامه على أربعة أحاديث وهي مقياس ونموذج لكلامه على بقية الأحاديث التي أوردها في فصل التحقيق المعتبر البالغ عددها جميعا أحد عشر عقبت كلامه بما يوضح بأنه كلام يفتقر إلى التحقيق المعتبر وأدهى من ذلك وأمر اغتباطه بهذا التحقيق وقوله أنه تكلم على الأحاديث بما لا مزيد عليه والله المستعان وإن تعجب فعجب قوله: "إنهم- يعني الذين يقولون بصحة الأحاديث في خروج المهدي- لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة وقابلوا بعضها ببعض لظهر لهم بطريق اليقين أنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة لا بالفظ ولا بالمعنى"فإن مما لا شك فيه أن الشيخ ابن محمود يعتبر هذه الإحالة هنا إحالة على مليء وكذلك الإحالة في قوله في ص 8: "وقد عقدت في الرسالة فصلا عنوانه التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم بما لا مزيد عليه فليراجع"لكن الواقع أن أي طالب علم له إلمام قليل في معرفة الحديث الشريف يرجع إلى هذا الفصل يجد النتيجة بالعكس كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
فأنا أحد طلاب العلم الصغار قصير الباع قليل الإطلاع لما رجعت إلى ذلك الفصل أسفت كثيرا وأشفقت على فضيلة الشيخ ابن محمود -حفظه الله- إذ زج بنفسه في لجج لا يجيد السباحة فيها وتذكرت قول الشيخ أحمد شاكر في ابن خلدون إذ قال:"أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها وتهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي تهافتا عجيبا وغلط أغلاطا واضحة.."وإذا كان هذا رأي طالب العلم الصغير فما الشأن في العلماء الكبار في الحاضر والمستقبل عندما يقفون على هذه الرسالة والفصل الذي اشتملت عليه؟.
- للبحث بقية -(19/104)
بل فلنعود أنفسنا أسلوب النقد النزيه.
فضيلة الدكتور: صلاح الدين عبد التواب.
الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية.
في العدد الصادر في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر 1399 هـ. الثالث والعشرين من يناير 1979 م. نشرت صحيفة الرياض في صفحتها الأدبية (حروف وأفكار) مقالا أدبيا للدكتور/ أحمد محمد الضبيب، وكان عنوانه: فلنحرر أذواقنا من حافظ إبراهيم..
فلفت نظري هذا العنوان الجديد، وحسبت في نفسي أنني سأقف على نظرات جديدة في مجال النقد الأدبي لم نتعرف عليها من قبل، وأقبلت أقرأ المقال في شغف لأرى إلى أي مدى يمكن أن نحرر أذواقنا من حافظ إبراهيم، ولعل هذا المقال يكون نموذجا واضحا يجمع فيه صاحبه بين النقد الذاتي المعتمد أساسا على الذوق الشخصي السليم والنقد الموضوعي الذي يعتمد أساسا على الجانب المنهجي في عرض مقاييس النقد ومعاييره.
وبدأ الدكتور مقاله، وكانت مقدمته لا بأس بها وإن كانت لم تأت بجديد، فلا ينكر
أحد أن لغة من لغات العالم كله حظيت من العناية والاهتمام ما حظيت به العربية على امتداد القرون، وما ينكر أحد أن النظرة إليها قد اختلفت بين أعين المكبرين لها وأعين المشفقين عليها..
كذلك نحن مع صاحب المقال في أن ما كتب عن مشكلة اللغة العربية كثير وفير إلا أن معالجات الشعراء لهذا الموضوع قليلة إذا ما قيست بمعالجات الكتَاب..
نحن مع الدكتور صاحب المقال في كل هذا.. ولكنني أريد أن أقف معه بعض وقفات فيما تلا ذلك من كلام، عندما تعرض بالنقد لقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم: (اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها..)(19/105)
يقول الدكتور الضبيب: "فهي في تصوري نموذج ضعيف سيئ ويزيد من سوئه أنه يقدم إلى التلميذ العربي في المرحلة الابتدائية الإلزامية من التعليم على امتداد الوطن العربي، فما أن يبدأ التلميذ العربي تفتحه على ما حوله حتى يفاجأ بحافظ إبراهيم ينعى إليه لغته ويقدم إليه بطاقة سوداء تعزية (بهذه) اللغة التي أنهكت ضعفا ومرضا.. وهكذا يتربى التلميذ العربي لدينا وقد استقر في ذهنه منذ الأيام الأولى أن لغته لغة ضعيفة مهضومة الحقوق مهيضة الجناح، وتربى معه أيضا (احتقار) لهذه اللغة وازدراء لها.."
وحتى يكون الرد أولا بأول.. نقول: وهل يعاب الشاعر حافظ إبراهيم لمجرد أن قصيدته قد أسيء إليها لأنها قدمت لصغار لا يحسنون فهمها؟
ثم هل يعاب الشاعر حافظ إبراهيم عندما تعرض قصيدته على التلاميذ دون تقديم واع تبين فيه الظروف المحيطة بها والأحداث الداعية إليها؟..
ومع ذلك فليس لي أن أقف طويلا هنا، فقد تأتي السطور القادمة لتزيد الأمر أيضا في هذا الشأن، ويحسن أن نمضي مع الدكتور الضبيب في نقده وتذوقه لقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم..
يقول الدكتور الناقد: "وقصيدة حافظ تصور فيها اللغة العربية بثلاث صور كلها منتزعة من بيئات النساء وربما بيئات بعض النساء من (بنات البلد) في مصر..
في الجزء الأول من قصيدة حافظ صورة (لأمرة نائحة) تتحسر على شباب الميت و (تعدّد) فضائله وميزاته وتكاد (تلطم خدها وتخمش وجهها وتشد شعرها) بل إنها تذكر رجالا سالفين كانوا فيما مضى من الزمان قد حفظوا لها الوداد، فهي لا تفتأ تذكرهم كما تفعل (النائحة المصرية) عندما ترفع ذراعيها وتشير بسبّابتيها قائلة (يا سبعي) .."(19/106)
تلك هي الصورة الأولى من قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم كما وعاها فهم الناقد، ثم أباح له ذوقه من بعد ذلك أن يحللها بالأسلوب النقدي (الرفيع) على ذلك المستوى الذي رأيناه ... وهو بطبيعة الحال يشير بشرحه هذا إلى أبيات الشاعر حافظ إبراهيم التي لم يشأ أن يذكرها في مقاله حتى لا يرى القارئ هذه الصورة (الفاضحة) لتلك المرأة النائحة التي رسمها حافظ إبراهيم في قوله:
يعز عليها أن تلين قناتي
سقى الله في بطن الجزيرة أعظما
لهن بقلب دائم الحسرات
حفظن ودادي في البلى وحفظته
حياء بتلك الأعظم النخرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
هكذا كان ترحم الشاعر حافظ إبراهيم في حقيقته على أولئكم الرجال الذين عرفوا للغة حقها عليهم فما فرطوا فيه، بل حافظوا على لغتهم وتراثهم، وكانوا حملة العلم والحضارة، وعلموا الدنيا بأسرها فدان لهم شرقيها وغربيها، ومن حق العربية أن تفاخر بأولئكم العظام حتى بعد أن صاروا رفاتا- أهل الغرب طرا.. كيف لا وقد كانوا الهداة المرشدين والعلماء المصلحين الذين استطاعوا أن يبقوا آثارهم ويثبتوا وجودهم في كل ما تناولوه من شئون الحياة، بلغتهم العربية.. لغة القرآن الكريم.
لذلك لم يكن غريبا من الشاعر حافظ إبراهيم أن يصرخ- على لسان العربية- في بنيها مستثيرا نخوتهم حتى يدركوا لغتهم من الضياع، وقبل أن يغلبهم عدوهم على أمرهم وهم في غمرة ساهون..
ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
أخاف عليك أن تحين وفاتي
فلا تكلوني للزمان فإنني
وكم عز أقوام بعز لغات
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
فياليتكم تأتون بالكلمات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟(19/107)
هذه هي الصورة الأولى كما أوضحها الشاعر حافظ إبراهيم، وهي كما رأيتها- وأعتقد أن غيري رآها كذلك- خالية من النواح على طريقة النائحة المصرية التي تتحسر على شباب الميت وهي (تعدد) فضائله وتكاد تلطم خدها وتخمش وجهها وتشد شعرها وترفع ذراعيها وتشير بسبابتيْها قائلة بأعلى صوتها (يا سبعي) ..
(فإذا أتينا إلى الصورة الثانية له..) (والقول هنا للدكتور الضبيب) :
"وجدنا امرأة مهضومة الحقوق تتحدث عن المزالق التي ستؤدي بها إلى الموت وتنتهي إلى أن قومها قد آثروا عليها (ضرة) جديدة، تلك هي اللهجة العامية التي سرت فيها لوثة الإفرنج، وجاءت مشكلة الألوان كثوب ضم سبعين رقعة ونحو ذلك وهي أوصاف وأفكار منتزعة من بيئة (النساء الضرائر) وما يحدث بينهن من الغيرة (والسب والشتم والردح) .."
هكذا شاء الناقد الدكتور الضبيب أن يعطينا تصوره للصورة الثانية من قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم..
ولكن.. هل كانت تلك الصورة الثانية حقا كما تذوقها وتصورها الدكتور الناقد؟ لنسمع اللغة العربية على لسان الشاعر حافظ إبراهيم وهي تقول:
إلى لغة لم تتصل برواة؟
أيهجرني قومي- عفا الله عنهمو
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
مشكلة الألوان مختلفات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة(19/108)
بهذا (السب والشتم والردح) وما إلى ذلك من أسلوب النساء الضرائر- على حد تذوق الدكتور الضبيب- جاء عتاب العربية لقومها واستنكارها لهم لأن هجروها وهي العريقة الأصيلة التي بذل فيها الأولون ما بذلوه من أجل الحفاظ عليها، والإبقاء على جمالها ورونقها، والعمل على غناها ووفرتها، حتى هجرها أبناؤها أو كادوا إلى أي شيء؟.. إلى عامية لا أصل لها ولا عراقة، فلم يأخذها الخلف عن السلف بطريق الرواية التي تحفظها من الغير كما هو الشأن في العربية الأصيلة لغة القرآن الكريم؛ وكأن اللغة تشير بذلك إلى تلك الأساليب المرقعة التي كانت مستعملة أيام نشر هذه القصيدة- وسيأتي تفصيل لذلك فيما بعد- حتى خرجت على الناس أو خرج الناس بها خلطا من العربية والأجنبية يثير التهكم والسخرية. فالعربية- في هذه الصورة أيضا- لم نرها كما رآها الدكتور الضبيب- تشتم وتسب وتردح كالنساء الضرائر، بل على العكس رأيناها كما عهدناها دائما.. الذوق كله، والرفق كله، والسمو كله.. فهي وسط عتابها الشديد واستنكارها لفعل بنيها معها تسأل الله لهم العفو:
إلى لغة لم تتصل برواة
أيهجرني قومي- عفا الله عنهم
ولكن لا يمنع ذلك من أن تنبه أبناءها إلى خطورة ما هم مقبلون عليه من استعمال تلك اللغة التي (سرت لوثة الإفرنج فيها..) فلا ينبغي أن ينخدعوا بها بل من الخطر أن تتسر إلى ألسنتهم.. وإلا فهي (لعاب الأفاعي في مسيل فرات) ..
وزيادة في تحقير ذلك الخليط من (العامية العربية الأجنبية) جاء تشبيه تلك اللغة بذلك الثوب الخلق وقد جاوزت رقعة السبعين مختلفة الألوان والأشكال، وليتصور العقلاء مدى السخرية التي تلحق بكل من يرتديه..
فهل رأي أحد في كل ذلك (ضرة) تكيل لضرتها سبا وشتما و (ردحا) ؟(19/109)
أما الصورة الثالثة- حسب تصور وتذوق الدكتور الضبيب- فهي صورة امرأة (متسولة) تلبس ثياب المكدين، و (تمد يدها) إلى الكتاب والأدباء شاكية سوء حظها، شارحة واقع حالها طالبة منهم أن يهبوا إلى نجدتها وإلا فإنها على وشك الموت والهلاك.. ويشير الدكتور الناقد بشرحه هذا إلي أبيات الشاعر حافظ إبراهيم:
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
إلى معشر الكتاب والجمع حافل
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى
ممات لعمري لم يقس بممات
وإما ممات لا قيامة بعده
وهكذا أيضا لم ير الدكتور الضبيب في هذه الصورة سوى صورة (المرأة المتسولة الشاكية الباكية والتي تمد يدها تسأل العطاء..) ..
ويبدو أن الناقد قد نسي أن الخطاب هنا موجه إلى أهل العلم الذين يمكنهم أن يدركوا اللغة من سقطتها.. وأهل الدراية الذين يمكنهم أن يرفعوا من شأن لغتهم.. معشر الكتاب، فجعل الحديث إليهم تسولا!!
كما يبدو أن الناقد هنا نسي أن اللغة تشفق على أبنائها أن يكونوا هم الذين يتسولون عندما يتطلعون إلى غيرهم ويستعيرون أو يتسولون منهم الكلمات والعبارات.. فقلب الناقد الوضع، فوضع اللغة ورفع من شأن المتسولين..
فالشاعر حافظ إبراهيم لم يضع اللغة هنا موضع (المرأة المتسولة) كما فهم الدكتور الضبيب.. وإنما صورها في صورة الأم العطوف الشفوق الحنون التي لا تود أن ترى أبناءها يتسولون..
والشاعر حافظ إبراهيم لم يصور اللغة بالمرأة التي (تمد يدها) تتسول من لئام.. وإنما هي الأم الرؤم التي بسطت رجاءها إلى معشر كرام الكتاب.. أهل العلم والدراية والغيرة..
ثم إنها هي الأم عزيزة النفس كريمة المحتد.. الأم القدوة التي ترسم لبنيها طريق العزة والكرامة وتأبى لبنيها أن يعيشوا عالة على غيرهم، وإلا فلا كان ذلك اليوم الذي يعيش فيه أبناء العربية على فتات الآخرين:
وتنبت في تلك الرموس رفاتي(19/110)
فإما حياة تبعث الموت في البلى
ممات لعمري لم يقس بممات
وإما ممات لا قيامة بعده
والعجيب بعد كل هذا أن يختم الدكتور الضبيب هذه النظرات النقدية حول قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم، بقوله: "تلك هي قصيدة حافظ التي نضعها بين أيدي أبنائنا في المدارس في مرحلة من أخطر مراحل حياتهم، فأي احترام نطالب هذا التلميذ به وقد رأى لغة تلبس هذه الأسمال (وتدور شاكية، تارة تنوح وتعدد، وتارة تسب وتشتم وثالثة تشكو وتتسول) .. إن خيال حافظ السطحي لم يستطع أن يجلو لنا اللغة العربية إلا في تلك الصورة المنتزعة من بيئة النساء في أحوال الضعف والهوان، وهي صورة لا تنمي في نفوس أبنائنا الاعتزاز بهذه اللغة ولا الإعجاب بها. وإن كانت تثير العطف والشفقة، وفرق بين الموقفين.."
ومما يثير العجب أكثر وأكثر أن الناقد المتذوق الدكتور الضبيب قد ساق في المقابل النموذج البديل الذي يمكن أن يحل محل ذلك النموذج السابق الذي حاول جاهداً أن يبرزه في صورة تافهة محقرة ولكنه لم يستطع أن ينكر أنها (ذائعة مشهورة) .(19/111)
فيقول في معرض تقديمه للنموذج البديل: "وإذا كانت قصيدة حافظ شائعة ذائعة، فبين يدي الآن قصيدة مغمورة مهجورة لشاعر لا يكاد يعرفه إلا مواطنوه من سكان الخليج العربي هو الشاعر الكويتي صقر بن سالم الشبيب (توفي سنة 1963 م) "ودون أن يسائل الدكتور الضبيب نفسه على الأقل لماذا أقر بأن قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم (مع هذا كله) شائعة ذائعة؟ ولماذا كانت تلك القصيدة التي سيقدمها لقراء العربية (مغمورة مهجورة) وهي على حد قوله: لشاعر لا يكاد يعرفه إلا مواطنوه، مع أن فيها من عناصر الجمال- على حد قوله أيضاً- ما يجعلها تتفوق على قصيدة حافظ إبراهيم؟.. دون أن يفعل ذلك.. أخذ الدكتور الناقد يتناول القصيدة الجديدة بالنقد والتحليل، وعلى غير العادة في أسلوب الدكتور الضبيب تحولت العبارات الأدبية والأساليب (الرفيعة) التي أهداها لقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم.. عبارات النوح والتعدد والسب والشتم والتسول.. إلى العبارات التي تستحقها القصيدة الجديدة وصاحبها (على الرغم من بعض عيوبه الشاعرية) على حد قول الدكتور الضبيب نفسه.. ولكن على الرغم من هذه العيوب الشاعرية فإن أسلوب الدكتور الناقد لها شاء أن يتخير لها ما يناسبها من عبارات (الجودة، والصور الجميلة التي تبعث على الاحترام) والعبارات التي تبرز (مواطن الجمال) والفتنة، وأن الشاعر قد وفق إلى إبراز عنصر جديد استحق به مرتبة التفوق على الشاعر حافظ إبراهيم، هكذا في تغير مفاجئ في طريقة النقد..
ولننتقل مع الدكتور الضبيب إلى القصيدة الثانية التي بدأ في تقديمها بقوله:(19/112)
"هذا الشاعر على الرغم من بعض عيوبه الشاعرية إلا أنه تناول موضوع اللغة العربية تناولا جيدا وصورها بصورة جميلة تبعث على احترامها، وتجعلنا نستشعر خطأنا نحوها وتفريطنا في حقها.. وأخذ الدكتور الناقد يكشف النقاب عن السبب الذي حفز صاحب القصيدة الجديدة على قولها- الأمر الذي لم يحرص عليه، ولم يفكر فيه بالنسبة لقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم- فيقول ومبعث قصيدة صقر أنه كان يزور المدرسة المباركية في الكويت، وحدث أن كان جالساً على كرسي قرب أحد الفصول فإذا به يسمع مدرس اللغة العربية في ذلك الفصل وقد امتلأ حديثه وشرحه بالأخطاء الفادحة فأثار ذلك الموقف شعور الشاعر، وكانت قصيدته التي بدأها بقوله:
حتى لكدت أذوب في أشجاني
ما زلت أسمع لحن ذا اللحان
إلا وشان البيت بالألحان
لم يلق من بيت على طلابه
شهدت له بالعلم والعرفان
خذلت بني قومي شهادته التي
فالجهل يدينه من الصبيان
إن تعل صبيان المدارس سنه
تدريسه ضرب من الهذيان
لهفي على الفصحى يدرسها أمرؤ
بهذا المطلع برزت لنا قصيدة صقر بن سالم الشبيب، التي شاء الناقد الدكتور الضبيب أن يقدمها لأبناء العربية بدلا من تلك القصيدة التي خرج علينا حافظ إبراهيم (بخياله السطحي) على حد تعبير الدكتور الناقد، فكانت، الحقيقة: أن أنبأت قصيدة صقر بنفسها عن الفارق الهائل الذي يبدو من أول وهلة بين قصيدته وقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم، وإلا فأين قوة المطلع وبراعة الاستهلال في قصيدة صقر من براعة الاستهلال في قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم- والتي لم يرد الدكتور الناقد أن يذكرها- وهي:
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
عقمت فلم أجزع عقمت لقول عداتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
رجالا وأكفاءَ وأدت بناتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
فهل في مثل مطلع:
حتى لكدت أذوب في أشجاني(19/113)
ما زلت أسمع لحن ذا اللحان
وما يليه من الأبيات (ويمكن الرجوع إليها ثانية) ، هل في مثل المطلع الأخير من حرارة المشاعر وتدفقها ما يمكن أن نلمسه مثلما لمسناه في قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم؟
وهل يمكن أن نجد في مطلع صقر والأبيات التي تليه من الكلمات الشاعرة والعبارات الموحية مثلما نجده في مطلع الشاعر حافظ إبراهيم والأبيات التي تليه.. من مثل "رجعت لنفسي"- "اتهمت حصاتي"- "احتسبت حياتي"- "رموني بعقم"- "ليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي"..
رجالا وأكفاء وأدت لبناتي"؟!
"ولدت ولما لم أجد لعرائسي
هذا من ناحية حسن المطلع وبراعة الاستهلال وانتقاء الألفاظ والعبارات الشاعرة الموحية.. أما من ناحية أن الناقد قد قدم لقصيدة صقر مبينا الظروف التي أوحت إليه بقصيدته هذه فقد كان على الدكتور الضبيب- إنصافا للشاعر حافظ إبراهيم- أن يذكر شيئا عن الظروف التي أوحت إليه هو الآخر بقصيدته، بدلا من أن يتهمها وصاحبها (بالخيال السطحي) وبدلا من أن يرغم (العربية) من أن تقول مضطرة مكرهة (يا سبعي) وما قالتها..
أجل.. كان على الدكتور الناقد- إحقاقا للحق ووضعا للأمور في نصابها أن يذكر شيئا ولو عن طريق التلميح عن (مناسبة النص) مراعاة للتاريخ الأدبي حتى يمكن للقارئ العربي وللقارئ المسلم على وجه العموم أن يربط بين النص والظروف المحيطة به ومن ثم يصدق الحكم ويسلم القول..
أما وأن الدكتور الضبيب لم يذكر شيئا من ذلك فإني أراني مضطرا إلى ذكر طرف من الظروف التي أحاطت بالشاعر حافظ إبراهيم حتى اضطر إلى قصيدته (اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها) ..(19/114)
ولد حافظ إبراهيم سنة 1872 م (أي منذ أكثر من مائة عام) .. ومعلوم أن تلك الفترة كانت من أحلك الفترات التي مر بها تاريخ مصر وهي ترزح تحت الحكم الأجنبي وسيطرة المستعمر الدخيل.. وشب حافظ ليرى أمته مهيضة الجناح مغلوبة على أمرها، والمستعمر يدس بأنفه في كل شيء، لا يعبأ بمقدسات ولا يرعى حرمات، ولم يكن من مصلحة المستعمر أن يستشعر المسلمون كرامتهم أو أن يحسوا بمقومات حياتهم أو مقدساتهم. ومن ثم سلّط همه على أبرز ما يمكن أن يجتمع المسلمون تحت لوائه.. القرآن الكريم.. ولم يكن المستعمر من الغباء بحيث يهيّج مشاعر المسلمين بالتهجم على كتاب الله فجاءه من ناحية لغته.. العربية.. والتي عن طريقها كذلك كانت حضارة الإسلام والمسلمين..
وجاء أمثال (وليم ويلكوكس) ذلك المهندس الإنجليزي.. جاء إلى مصر سنة 1883م ليثبط من عزم المصريين، وليثنيهم عن محاولة التقدم العلمي، بحجة أن (الفصحى) لا يمكن لها أن تقوم بهذا الدور الحضاري [1] . ثم يجيء مستر (ويلمور) سنة 1901 م ليدعو أحد قضاة محاكم الاستئناف بالقاهرة إلى استعمال العامية بدلا من الفصحى، ودعا إلى ما أسماه (لغة القاهرة) وأن يوضع لها قواعد.. واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية [2] ..
وكثر المقترحون من أهل اللغات الأجنبية (لشدة حرصهم على العربية) !!!
وكان من سوء حظ العربية بين أهلها أن وجدت هذه الدعاوى وتلك المقترحات آذانا مصغية من مثل (الخورى غصن) في سوريا سنة 1925، ثم تبعه (سلامه موسى) في مصر سنة 1926 م.. ومعلوم أن (حافظ إبراهيم) توفى سنة 1932 م.
وكان من أقوال (الخوري غصن) في كتابه (درس ومطالعة) وتحت عنوان (حياة اللغة وموتها) : "أن كل لغة على وجه الأرض ماشية إلى الفناء مهما بلغت من المجد والكمال وذلك لأن كل حي يولد فينمو فيبلغ أشده، فشبابه، ثم يضعف ويهرم ويموت ... "(19/115)
"إن اللغة العامية يسهل عليها اقتباس الكلمات أيا كان مصدرها، ولو أجنبيا، أما الفصحى فلا وجه لها إلى الاغتناء إلا في أن يتواطأ أرباب اللغة فيها على وضع ألفاظ جديدة..".
"إن اللغة الفصحى تزول وإن اللغة العامية هي التي ترتقي إلى درجة لغة فصيحة وإن اللغة الفصحى قد تترقي بترقي التمدن ولكنها لا تستطيعْ مجاراة اللغة العامية".- "إن الآلاف من أبناء لبنان يتضورون جوعا إلى آداب راقية قريبة المنال عذبة اللفظ مكتوبة بلغتهم، وجميع هذه الشروط لا تجتمع إلا في العامية.." [3] .
ثم يأتي سلامه موسى في مصر- ولم يكن أقل هدما للعربية من سابقيه- ليلخص سبب حملته على العربية في قوله: "لست أحمل على الفصحى إلا لسببين: الأول صعوبة تعلمها، والثاني عجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية والعلمية" (وطبعا نسي كل هؤلاء كيف وصلت أساب الحضارة والتقدم العلمي إلى دول الغرب والشرق عن طريق العربية على أيدي العلماء المسلمين منذ القدم) ثم يخلص سلامه موسى إلى إعلان آرائه ومقترحاته (الهامة) في سبيل اصطلاح اللغة وتعديل الفصحى على الوجه الآتي:
1 - إلغاء الألف والنون من المثنى والواو والنون من جمع المذكر السالم.
2- إلغاء التصغير.
3 - إلغاء جمع التكسير كله والاكتفاء بالألف والتاء لغير المذكر السالم.
4- إلغاء الإعراب والاكتفاء بتسكين أواخر الكلمات.
5- إيجاد حرف كبير عند ابتداء الجمل (أسوة باللغة الإنجليزية مثلا) .
6- استعمال الألفاظ العامية.
7- عدم ترجمة الألفاظ الأوروبية والاكتفاء بتعريبها كأن نقول (بسكليت) بدل (دراجة) .. وهكذا [4] ...(19/116)
فهل عرف الدكتور الضبيب هذه الظروف التي أحاطت بالشاعر حافظ إبراهيم وأطلقت شاعريته بهذه القصيدة، وأظهرت غضبته العارمة على ذلك الوجه الذي لم يعجب الدكتور الناقد؟ وهل تصور الناقد مدى الحزن الذي أقام الشاعر وأقعده خوفا على العربية التي هوجمت في عقر دارها، فأطلقها نفثة مصدور علّ هناك من يسمع ومن يجيب؟..
على أية حال.. لقد كان موقف حافظ إبراهيم وقتذاك هو موقف كل غيور على لغة القرآن.. واستطاع هو وأمثاله من أهل اللسن والبيان أن يخرسوا ألسنة الباطل، وأن يعلو بفضل الله كلمة الحق.. وأقر العالم كله بسيادة العربية لغة القرآن- ولكن بعد جهاد طويل وعمر طويل كان نموذجا رائعا من نماذج الكفاح- وأصبحت العربية الآن بفضل الله أولا، ثم بوقفة هؤلاء الصامدين دفاعا عنها- أصبحت من لغات التخاطب في المحافل الدولية وأقيمت لها المجامع، وعقدت بها ومن أجلها المؤتمرات هنا وهناك، وأنشئت باسمها المعاهد والكليات في كثير من بقاع العالم الإسلامي، وإذن فقد تغيرت الظروف إلى حد كبير بين فترة كفاح مرير عاشها الشاعر حافظ إبراهيم، وفترة تعتبر من ثمار هذا الكفاح عاشها صقر ابن سالم الشبيب، ومن ثم لم يكن غريبا أن تكون القصيدة الأولى مفعمة بالأحزان وإن كانت لم تخل من أمل ومن حفز للهمم، خاصة وأن العربية فيها تتحدث عن مقومات نجاحها كما عبر عنها الشاعر حافظ إبراهيم:
وما ضقت عن آي به وعظات
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وتنسيق أسماء لمخترعات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
ومنكم وإن عز الدواء أساتي؟
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني(19/117)
كما أنه لم يكن غريبا أن يتفاءل صقر بن سالم الشبيب فيما قاله من شعره، وإن كان تفاؤلا لا يغري بإقدام أو إغراء وكيف يكون هناك إقدام أو إغراء لأبناء العربية بالعودة إلى لغتهم الأم، وهم يتصورن أنفسهم كالأنعام السائمة تعود إلى مرعاها، على حد تصوير الشاعر صقر بن الشبيب:
يمضي ولو حين من الأحيان
فتوقعي أن يرجعوا من قبل أن
(مرعى ولكن ليس كاسعدان) ؟
متمثلين لدى الرجوع بقولهم
وإذا كان الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته (الحزينة) قد استطاع أن يبرز لنا صوراً محددة تعبر عن سعة العربية وعمقها، وقوتها وتدفقها، وجمالها وطيب عنصرها، كل ذلك من خلال ثلاثة أبيات من قصيدته:
وما ضقت عن آي به وعظات
وسعت كتاب لفظاً وغاية
وتنسيق أسماء لمخترعات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل استطاع صقر بن سالم أن يعبر عن مثل تلك المعاني في ستة أبيات من قصيدته (المتفائلة) هي كل ما قاله في هذا المجال، مجال الحديث عن العربية وما تتحلى به من مظاهر الحسن والجمال؟.. يقول الشاعر صقر:
وهم من الفصحى بخير مكان
إنا لنأمل في بنينا أن يروا
ما أضمرته حوادث الأزمان
كي يظهروا من حسنها وجمالهما
مغرى الفؤاد بحسنك الفتان
يا أيها اللغة الجميلة إنني
سر الجمال لديك عين جناني
ألقى جناني حب غيرك مذ رأت
فهواك سد منافذ السلوان
الحسن والإحسان فيك تكاملا
فهل زاد صقر في هذه الأبيات عن ذكر عبارات الإطراء المتراصة في وصف العربية بالحسن والجمال وأنه مغرى بحسنها الفتان، وأنه ما كادت عين جنانه ترق سر جمالها حتى ألقى حب غيرها وراءه ظهريا، وأنه سيظل أسير حبها بعد أن سد هواها عليه كل منافذ السلوان.. أما وقد تكامل فيها الحسن والإحسان، فالحر عبد الحسن والإحسان ...(19/118)
بتلك الألفاظ والكلمات المتراصة، وهذه العبارات العامة التي أطلقها الشاعر ليكشف عن إحساسه بجمال العربية كانت أبياته في قصيدة، دون أن يشعرنا معه ولو في بيت واحد، أو حتى في صورة واحدة بما يمكن أن يكون في الحيية نفسها من مظاهر الحسن والجمال من مثل ما قالته العربية على لسان حافظ في البيت:
وما ضقت عن آي به وعظات
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
أو في البيت:
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
ومع ذلك كله نرى ونسمع الرأي الأخير للدكتور الضبيب وهو يحكم بالتفوق لصقر وقصيدته ورسوب حافظ إبراهيم.. بل وأكثر من ذلك.. حثنا جميعا أن نتحاشى الشاعر حافظ إبراهيم وذوقه.. تحت ذلك العنوان الكبير: (فلنحرر أذواقنا من حافظ إبراهيم) ..(19/119)
أما لماذا تفوق صقر في نظر الناقد؟.. فالجواب ما قاله هو حرفيا في معرض تفضيل صقر على حافظ.. يقول الدكتور: "ولكنه- أي صقر- مع ذلك وفق إلى إبراز عنصر جديد يدل عليه مجرى التطور للغة العربية وهو إمكانية عودة العرب إلى لغتهم والتفافهم حولها بعد أن بعدوا عنها زمنا ليس بالقليل. وهو بهذا الموقف المتفائل يجعل اللغة منتصرة دائما عزيزة دائما ثم يقول: "هذا العنصر المتفائل وذلك الموقف الشامخ الصامد للغة العربية أمران يميزان قصيدة صقر ويجعلانها تتفوق على قصيدة حافظ إبراهيم، لأن اللغة العربية باقية بقاء الدهر وكيف تموت؟.."وإني لأعتقد أن الدكتور الضبيب لو وضع كل الظروف المحيطة بالشاعر حافظ إبراهيم وقصيدته وقت أن قالها لما حمل عليه تلك الحملة، ولما تقول عليه بما لا يقال، ولما جعل عنصر التفاؤل أو التشاؤم هنا مقياسا للجودة أو الرداءة.. فلقد كان لكل ظاهرة ما يدعو إليها ولكل مقام مقال.. وماذا كان يمكن أن يقوله حافظ إبراهيم في أقوام أعلنوها نهارا بأن العربية يجب أن تنتهي وقد عفا عليها الزمان، ويجب أن يبحث الناس عن البديل، إلى آخر ما قالوه في ذلك الوقت من آراء ومقترحات؟ هل كان ينتظر منه والحالة هذه أن يملأ حياة الناس بالأحلام السعيدة والأماني العذبة البراقة؟ أم أن الأولى من ذلك أن يوقظ الواهمين الغافلين من إغفاء قبل فوات الأوان؟ ثم إن حافظ إبراهيم لم يغفل نهائيا عنصر الأمل أو التفاؤل في قصيدته، لأنه لم يفقد ثقته في العربية لحظة واحدة، ولم ير هناك استحالة قط في أن يعود القوم إلى لغتهم أصل حضارتهم وتراثهم، ومن ثم كانت صرخة العربية المدوية في بنيها في قصيدة حافظ:
ومنكم وان عز الدواء أساتي؟
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
فلا تكلوني للزمان فإنني(19/120)
فليس ثمة عنصر جديد في قصيدة صقر تفضل به على قصيدة حافظ من هذه الناحية، وغاية الأمر أن يقال: إن لكل من الشاعرين طريقته في دعوته حسبما أملته عليه الظروف التي عاشها.
بقى أن أشير إلى بعض الأخطاء التي وقعت في مقال الدكتور الضبيب ولعلها كانت من قبيل السهو وجل من لا يسهو..
من هذه الأخطاء ما يقوله عن عدم وجود إحساس داخلي بأهمية اللغة لا (كوسيلة) من وسائل التعبير فحسب، وإنما (كأداة) لصياغة الفكر (وكخصيصة) خالدة من خصائصنا المميزة و (كلسان) مقدس حمل إلينا كلام الله العزيز والمعروف أن (الكاف) تأتي إذا كان في الكلام ما يشعر بالتشبيه ولا تشبيه هنا، ومن ثم فالتعبير الصحيح أن يقال: (لا باعتبارها وسيلة.. وإنما باعتبارها أداة لصياغة الفكر، وباعتبارها.. الخ.. كذلك يقول الدكتور: "ويقدم إليه بطاقة سوداء تعزية بهذه اللغة"والأصح أن يقول: "تعزية في هذه اللغة"فالميت لا يعزى به وإنما يعزى فيه..
ثم إن أخشى ما أخشاه من قبل ومن بعد أن تضيق علينا لغتنا العربية على اتساعها، فلا نجد ما يساعفنا في التعبير عنها وبها، ونظل كذلك حتى يأتي اليوم الذي يصدق علينا فيه قول العربية على لسان حافظ إبراهيم:
رجالا وأكفان وأدت بناتي!!
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
وخلاصة القول.. هي أننا إذا حاولنا النظر في المقال وفيما جاء فيه من نقد لحافظ إبراهيم وقصيدته، فإننا نجده نقدا شخصيا خالصا، يصدر فيه الناقد عن رأيه الشخصي وحده، ولا أعتقد أن هناك واحدا من قراء العربية الآن يجهل حافظ إبراهيم ولا الناقد بمستطيع أن ينتزع منه انتزاعا تذوقنا لشعر حافظ إبراهيم..(19/121)
وهو نقد شخصي متحامل.. جائر.. غير منصف.. ودليل ذلك أنه كان كلاما يميل فيه صاحبه إلى جانب دون الآخر بغير حق ولا إنصاف.. فينقد بما يريده في الوقت الذي يريده والمكان الذي يريده.. ثم يغفل ما يريده.. ثم يغفل ما يريد عندما يشاء. يغفل التمهيد لقصيدة حافظ لإشعار القارئ بمدى الخطأ الفاحش والذوق الممجوج في شعره- والقارئ أوعى من أن يتلقى أوامره في استقباله لشعر حافظ تحت شعار: (فلنحرر أذواقنا من حافظ إبراهيم) .. بينما نجد الناقد قد حرص على أن يقدم لقصيدة صقر ليبين للقارئ مدى الترابط (الجيد) بين النص والمناسبة التي قاله فيها.. والعجيب في الأمر أن الناقد لقصيدة حافظ مع إغفاله المناسبة التي قيلت فيها.. قد حرص بإلحاح- على أن يعرض ببيئة حافظ ذلك التعريض المزري، مع أنها هي البيئة التي ربت حافظا وشوقيا وغيرهما ممن لم ينجب الزمان بعدهم..
وبالطبع لم يشر الناقد إلى شيء مما يتعلق ببيئة صقر، فليس هناك ما يدعو إلى ذلك من
وجهة نظره..
هو نقد شخصي.. لأن عباراته تنبئ بذلك، فما في قاموس النقد كلمات (خاصة) صالحة للاستعمال في جانب الشاعر حافظ إبراهيم وبيئته حتى إذا أفرغ الناقد ما في جعبته، تحول بكل الرفق واللين وعبارات الثناء والإطراء إلى الجانب الآخر فيتأنق في اختيار ما يناسب صقرا وقصيدته، لأنه الشاعر الجدير بكل إطراء.
أما النقد الموضوعي فلم يعرف سبيله إلى الدكتور الضبيب، وإلا فعلى أي مقياس من مقاييس النقد ومعاييره كان هذا الكلام؟
وعلى أي وجه من أوجه الموازنة وضع كلا من القصيدتين في الميزان؟
ثم.. متى كان للناقد حق التدخل في أذواقنا نحن بهذا الأمر الجازم: (فلنحرر أذواقنا من حافظ إبراهيم) ، دون أن يعطينا القدوة المتمثلة في طريقة النقد الصحيح؟!!
لا.. بل فلنعود أنفسنا أسلوب النقد النزيه..
د. صلاح الدين محمد عبد التواب(19/122)
1 اللغة العربية بين حماتها وخصومها للأستاذ أنور الجندي ص 54 مطبعة الرسالة بمصر.
2 المرجع السابق ص 60
3 المرجع السابق ص 89.
4 اللغة العربية بين حماتها وخصومها ص 99.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اللغة العربية بين حماتها وخصومها للأستاذ أنور الجندي ص 54 مطبعة الرسالة بمصر.
[2] المرجع السابق ص 60.
[3] المرجع السابق ص 89.
[4] اللغة العربية بين حماتها وخصومها ص 99.(19/123)
كيس المرارة
المجاري الصفراوية
للدكتور: سيد أحمد عبد البر/ مدير الإدارة الطبية بالجامعة.
إن أمراض كيس المرارة Gall Bladder والمجاري الصفراوية من الأمراض المنتشرة انتشارا كثيرا في وطننا العربي.
كيس المرارة يشبه حبة الكمثري طوله من 7-10 سم وسعتها حوالى 30 سم وتقع في السطح الأسفل للكبد- وهي المخزن الذي يتم فيه تخزين السائل المراري وتركيزه بين الوجبات.
يفرز السائل المراري بمعرفة الكبد ليلا ونهارا وبصفة مستمرة وتبلغ كميته حوالي لتر إلى لتر ونصف يوميا في ضغط 15-30 سم / ماء - لونه أصفر ذهبي داكن ـ متعادل أو أقلوي التفاعل ويحتوي على ملونات الصفراء Bile pigmemts 50 ملجم %-وأملاح الصفراء 1 مجلم % Bile salt وكوسترول cholesterol 60 ملجم % - والمواد التي تزيد من تكوينه تسمى Choleretics مثل أملاح الصفراء وسكرتين ٍ Secretin - وفي كيس المرارة السليم يتغير تفاعل السائل المراري ويصبح حمصينا.
- جسم الإنسان لا يحتاج إلى السائل المراري إلا أثناء عملية الهضم فقط فيتم تخزينه في كيس المرارة إلى حين الحاجة إليه - وحجم السائل المراري المفرز بين الوجبات يبلغ حوالي 600 سم ويتم تركيزه في كيس المرارة حوالى 20 مرة ليصبح حجمه حوالى 30 سم تقريبا وهو حجم الكيس - ويتم التركيز بامتصاص الماء وملح الطعام Sodium Chloride والبيكربونات Sodium Bicarbornate
- كيس المرارة السليم يفرز Mucus فقط - أما كيس المرارة المريض فيفرز كذلك كالسيوم وكولسترول ويمتص أملاح الصفراء بكثرة.
- يساعد السائل المراري في عملية هضم وامتصاص المواد الدهنية التي نأكلها في الطعام.(19/124)
- تشترك القناة المرارية Bile Auct مع قناة البنكرياس Pancreatic Duct وتكون قناة واحدة تفتح في الإثنى عشر بواسطة فتحة تهيمن عليها عضلة تسمى عضلة أودى sphimcter of oddi عندما يكون الإثنى عشر Ruo denum خاليا من الطعام تتقلص هذه العضلة وتمنع السائل المراري من الانسكاب فيه وينتح عن ذلك تجمع السائل المراري في القنوات الصفراوية وفي كيس المرارة.
ينظم عملية امتلاء وتفريغ كيس المرارة عوامل كثيرة:
1- كان الاعتقاد السائد بأن الأعصاب اللاشعورية هي التي تهيمن على هذا التوزيع ولكن أثبتت الأبحاث الحديثة بأن هناك هرمون يسمى كوليسستوكينين Cholecystokinin هو الذي يهيمن على امتلاء وتفريغ الكيس المراري- وهذا الهرمون يتكون في الإثنى عشر ويمتص بدرجة كبيرة عند وجود مواد دهنية في الإثنى عشر- يسبب هذا الهرمون انقباض كيس المرارة ويرفع من ضغطها إلى 25 سم/ ماء وهذا أعلى من ضغط عضلة أودي الذي يؤدي بدوره إلى انبساطها- وفي الوقت نفسه أقل من الضغط في القنوات الكبدية وبذلك يمنع رجوع سائل الصفراء إلى الكبد.
- في حالة المريض الصائم فان كيس المرارة ينقبض.. Slow spontaneous contraction من خلال تأثير عصبي.. Nervous Reflex
2- هناك مواد تسبب انقباض كيس المرارة تسمى Cholasosus مثل الدهنيات- زيت الزيتون olive oil المورفين- المهدئات- سلسلات الصوديوم - الملح الإنجليزي Mag sulphate الخ
4- امتلاء كيس المرارة يؤدي إلى انبساط عضلة أودي ويسمح لسائل الصفراء من الكبد للمرور للإثنى عشر وهذا يحدث غالباً في الصباح قبل تناول الإفطار.
5- هناك عوامل أخرى تتدخل في تنظيم وانقباض أو استرخاء المجاري الصفراوية وأهمها ازدياد ضغط التجويف البريتوني كما يحدث في حالات الحمل عند النساء أو عند وجود أورام كبيرة أو استسقاء في البطن.(19/125)
6- كما أن العوامل النفسية من حزن واكتئاب وكذا الميكروبات المختلفة لها تأثير هام لقلب هذا التوازن.
إن تركيز السائل المراري لدرجة كبيرة من أهم العوامل المساعدة لتكوين الحصوات المرارية GALL STONES يؤدي تركيز السائل المراري إلى ازدياد نسبة أملاح المرارة والكولسترول والمواد الملونة للسائل المراري الذي يتحول لونه إلى سائل أخضر داكن عسلي القوام- وإذا استمر السائل المراري مختزنا في الكيس المراري مدة غير عادية فإنه يزداد تركيز المواد الملونة.. وهذا يؤدي إلى اتحاد هذه الملونات بعنصر الكالسيوم فترسب وتكون حصوات المرارة.
كما أن زيادة تركيز السائل المراري وبطء تفريغ كيس المرارة يؤدي إلى حدوث الالتهاب الذي بدوره يساعد في تكوين حصوات المرارة.. وهناك ارتباط متبادل بين حصوات المرارة والتهاب المرارة..
فإن التهاب المرارة Infection حصوات المرارة Stonex
فمثلاً في حالة المرارة المريضة يزداد امتصاص أملاح الصفراء- وهي في نسبتها الطبيعية تحافظ على سيولة الكولسترول.
والنسبة الطبيعية بين أملاح الصفراء
الكولسترول
فإذا نقصت هذه النسبة إلى 1/13 أو أقل يترسب الكولسترول على شكل حصوة واحدة كبيرة قد يغلفها عنصر الكالسيوم من الخارج وهذه الحصوات لونها أبيض شاحب.
كما أن عنصر الكالسيوم والكولسترول وملونات الصفراء قد تتحد مع بعضها وتكون حصوات مختلفة الأشكال والأحجام.
والتهاب المرارة بدوره يؤدي إلى تغيير تفاعل السائل المراري إلى القلوية.. Alkalinity وهذا يسبب ترسيب كربونات الكالسيوم كنواة للحصوة.
وحصوات المرارة تؤدي إلى مضاعفات عديدة وهي:
1- التهاب حاد بالمرارة قد يؤدي إلى غرغريِنا gagrenous أو حدوث ثقب Perforation أو التهاب بريتوني موضعي local biliary
2- التهاب مزمن بالمرارة.. ch. Cholecystitis(19/126)
2- التهاب مزمن بالبنكرياس ch. Pancreatitis
4- سرطان بكيس المرارة carcinoma of gall bladder وهذا يحدث في حوالي 5 %من الحالات..
5- مرض بوفرت Bouvert,s syndrome وهو انسداد بالإثنى عشر ناتج من الحصوات المرارية..
6- تكوين قناة داخلية بين كيس المرارة والأعضاء المجاورة nternal biliary firtula مثل الإثنى عشر والقولون المستعرض وغالباً يحدث هذا بعد حدوث التصاقات بين المرارة وهذه الأعضاء وبدون أي أعراض وقد يؤدي هذا إلى خروج الحصوات مع البراز ويحدث الشفاء تلقائيا وقد يؤدي إلى حدوث انسداد بالأمعاء.. gall stone Ileus
7 - أمراض الشريان التاجي للقلب:
كيس المرارة والقنوات المرارية يكونان وحده واحدة لا تتجزأ- وعلى ذلك عند حدوث التهاب مرض يشملها جميعاً- كما أن التهاب كيس المرارة الحاد والمزمن يشمل أيضا الكبد وفي كثير من الأحوال غدة البنكرياس بدرجات متفاوتة في الشدة..
وهذه حقائق هامة يجب أن توضع موضع الاعتبار في علاج أمراض المرارة والمجاري الصفراوية وإلا كان الفشل في العلاج نتيجة محققة لهذا الجهل بالحقائق الحديثة..
ومن المهم أن نقرر أن أمراض المجاري الصفراوية حتى إذا صاحبها وجود حصوات بالمرارة قد لا تؤدى إلى الشعور بأي أعراض مرضية تجعل المريض أو الطبيب يتنبه إلى ذلك أو قد تكون الأعراض المرضية من الضآلة بدرجة يهملها المريض.
وهناك أعراض موضعية يشعر بها المريض في منطقة المرارة أو الكبد تتفاوت في شدتها وفي نوعها- فقد يشعر المريض وكأن حجراً أو ثقلاً موجود بالجهة اليمنى من أعلى البطن- أو قد يشعر بالآم تتفاوت في الشدة قد يكون موضعها محصوراً في منطقة كيس المرارة في الجهة اليمنى من أعلى البطن أو قد يمتد الألم إلى لوحة الظهر من الخلف- أو قد ينحصر الألم على منطقة القلب أو الجهة اليسرى من أعلى البطن؛ أو أسفل البطن فقط..(19/127)
والألم البسيط قد يكون منشوءه تقلصات بالمرارة - أما إذا صاحب الألم شعور بالبرد أو قشعريرة مع ارتفاع ولو بسيط في درجة الحرارة فهذا يدل على وجود التهاب ميكروبي بالكيس المراري والقنوات الصفراوية..
أما الأعراض الانعكاسية: أي التي يشعر بها المريض في مواضع أخرى من الجسم فكثيرة الحدوث ومتعددة النواحي- وأهم هذه الأعراض ناتج من تهيج منطقة الإثنى عشر والمعدة وكذا القولون أو المصارين الغليظة - ويسبب كل هذا شعور بالثقل والامتلاء في منطقة فم المعدة epigustrium وكذا الغثيان أو إخراج غازات بكثرة أو تجشؤ وحموضة وتكريع- وقد يكون القيء أحد الأعراض الهامة - وجميع هذه الأعراض تحدث بعد الأكل مباشرة - كما أن تهيج القولون يسبب في بعض الأحوال أدوار إسهال أو مغص وانتفاخ في البطن، والمغص المراري؛ Biliary Colic هو أشد أنواع الآلام التي يعانيها مريض المجاري الصفراوية ويتسبب من وجود حصوة بالكيس تحاول الخروج من عنق كيس المرارة- ويبدأ المغص فجأة وبشدة في الجانب الأيمن من أعلى البطن مع امتداد الألم لمكان فم المعدة.. والظهر والكتف الأيمن كما أنه قد يتقيأ المريض وقد تظهر أعراض الصفراء ويختفي الألم فجأة كما ظهر فجأة- ووجود الحصوات ساكنة في الكيس أو المجاري الصفراوية لا يسبب هذه الآلام مطلقاً..
أما حدوث اليرقان وفيه يتلون بياض العين باللون الأصفر وكذا الجلد كما يتغير لون البول ويشبه في لونه سائل العرقسوس أو الشاي الثقيل فيتسبب من وجود حصوة في القناة الرئيسية الموصولة للإثنى عشرة والهرش الذي يصاحب مثل هذه الحالة قد يسبق ظهور اليرقان في المريض.. وهنا يجدر الإشارة بأن اليرقان يحدث في أمراض أخرى سنتكلم عنها في مقالات قادمة إن شاء الله.(19/128)
ومن الحقائق الهامة أن التهاب الكيس المراري قد يسبب تغيرات جوهرية في رسم القلب الكهربائي ومع وجود ألم في منطقة القلب قد يشتبه في نسبة الأعراض إلى مرض بشرايين القلب كالذبحة الصدرية.. وهذا يؤدي إلى هلع المريض وتحمله مشاق ومتاعب لا يعلم إلا الله متى ينتهي منها- وعلى ذلك فإنه من المهم للطبيب المعالج أن يقطع الشك باليقين وذلك بالاستعانة برسام القلب الكهربائي ممن له دراية حقيقية بهذا النوع من الفحص.
ومما يضاعف الصعوبة في بعض الأحوال أن أمراض القلب بالذات قد تصاحب أمراض المجاري الصفراوية.. وعلى ذلك أعود فأؤكد أنه من المهم في جميع هذه الحالات الصعبة أن تتأكد من سلامة القلب وشرايينه منذ البداية وذلك بعمل رسم كهربائي للقلب..
وكثيراً ما يشبه المغص المراري آلام قرحة المعدة أو الإثنى عشر أو المغص الكلوي أو المغص المتسبب من حصوات غدة البنكرياس والإسهال وكما سبق أن قلت قد يكون أحد الأعراض الرئيسية في أمراض المجاري الصفراوية وهو في العادة إسهال دوري يحدث على فترات متقطعة ولمدة طويلة.
كما أن تضخم الكبد يصاحب دائماً أمراض المجاري الصفراوية والكيس المراري.. وقد يتضخم الطحال هو الآخر وإن كان ذلك نادراً أو بدرجات متفاوتة ومع وجود أدوار الحمى والقشعريرة قد يشخص المرض بأنه حمى ملاريا ويعالج مدة طويلة دون جدوى.(19/129)
وعلى ذلك ولتشابه أعراض أمراض كيس المرارة والمجاري الصفراوية بعديد من الأمراض فإنه يلزم الاستعانة بالفحوصات الطبية اللازمة لتشخيص الحالة والتفريق بينها وبين هذه الأمراض- فينصح بالفحص بالأشعة العادية وكذا الفحص بالأشعة بعد حقن مادة ملونة للمجاري الصفراوية وكيس المرارة- وكذا الفحوص المختلفة للكبد.. وعمل رسم القلب الكهربائي إذا لزم الأمر- وإنني أرى أن هذه الفحوص لازمة وضرورية للوصول إلي التشخيص الصحيح والسليم في بقية الأحوال حتى يتم علاج المريض بالطريقة السليمة وبسرعة قبل أن يستفحل المرض.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض الدنيا".
(رواه مسلم)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله".
(رواه مسلم)
عن ثوبان وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"من قال حين يمسي وحين يصبح: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم، نبياً ورسولاً كان على الله أن يرضيه يوم القيامة".
(قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح)(19/130)
الخمر والإدمان الكحولي
خطر يجتاح العالم - فاحذروه
الدكتور: أبو الوفاء عبد الآخر
صيدلي الجامعة الإسلامية
الحمد لله خلق الإنسان وأحسن خلقه، وأنعم عليه بنعمة الإسلام وجمل خلقه، وأكرمه بالعقل وأحسن عمله.. والصلاة والسلام على سيد الأنام، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء، وبصرها بالخير والشر.. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.. أما بعد:
فإن أخطر الأفعال على الكيان الإنساني، وأشدها ضررا بالكيان الاجتماعي، لهي المعاصي، التي نهى عنها رب العالمين سبحانه وتعالى، وحذر منها سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه. ومن أشد هذه المعاصي فتكا بالإنسان، وعصفا بالعقل والقيم والوجدان: الخمر.. المفسد للعقول والأبدان، والربا.. الآكل للثروات والأموال، والزنا الذي يجعل النسل والأنساب مجهولين.(19/131)
ودراستنا لمشكلة (الكحول، والخمر، والإدمان الكحولي) ، والتركيز على هذه المعصية التي تسمى بحق (أم الكبائر) ، لا تعني أننا نقلل من شأن باقي المعاصي، فكلها في ميزان السيئات ثقيلة، وعلى حياة الإنسان خطيرة، غير أننا أقدر على دراسة هذه المشكلة، حيث أنها ترتبط بالعلوم التي درسناها، وتقع في مجال تخصصاتنا المهنية التي نمارسها. ونحن معاشر الأطباء والصيادلة من أبناء الأمة الإسلامية، تقع علينا- أكثر من غيرنا- مسئولية التصدي لمشاكل الإدمان، ولاستعمال الكحول في الصيدلة والعلاج، والتوصل بعون الله وتوفيقه إلى الحلول الحاسمة وهي مسئولية دينية في المقام الأول، ومسئولية إنسانية في المقام الثاني. وفي مقال سابق [1] كانت الدراسة الخاصة بموضوع (التخلص من الكحول في الصيدلة والطب) قاصرة على (مقدمة ونبذة تاريخية) كمدخل للموضوع، ولقد اكتفينا بذلك القدر المختصر من الدراسة على أن يتم نشر الدراسات التفصيلية ذات الطابع التخصصي في مظانها المخصصة لمثل هذه الدراسات العلمية، وسوف نتحدث في هذا المقال وباختصار أيضاً عن النقاط التالية:
أولاً: الإدمان ودوافعه.
ثانياً: مواد الإدمان.
ثالثاً: أثار الكحول وأضراره الصحية.
رابعاً: الوقاية والعلاج.
أولا: الإدمان ودوافعه
تعريف: (الإدمان) : Addiction
هو حالة التعود على تعاطي عقار مع تولد الاعتماد البدني والاعتماد النفسي وظهور الحاجة إلى زيادة الجرعة tolerance مع احتياج الجسم بشدة إلى العقار ليصبح في حالته الطبيعية، نتيجة لعمل بعض أنسجة الجسم وأجهزته تحت تأثير مادة الإدمان، ولما يحدث من بعض التكييف في كيمياء الأعصاب وفي الوظائف المرتبطة بالتشريح العصبي بالمخ في مواجهة التواجد المستمر أو الغالب لمادة الإدمان، ولهذا يتولد بمجرد البدء في الإقلاع عن تعاطي العقار (أعراض سحب withdrawal symptoms شديدة قد تؤدي إلى أخطر الحالات) .(19/132)
ومن أهم العقاقير التي تسبب حالات الإدمان: الكحول، والأفيون. وإلى جانب (الإدمان) وهو الإدمان الحقيقي، توجد حالة أخرى يتعرض لها الإنسان، تسمى (التعود) Habit form: وهو الارتباط بتعاطي عقار بحيث يتولد عنه حالة اعتماد تكون أساساً ذات طابع نفسي، ويمكن تركه ببعض المشقة ولكن بدون حدوث أعراض سحب خطيرة. ونطلق على (التعود) الإدمان الكاذب، تمييزاً له عن (الإدمان) أو (الإدمان الحقيقي) ، ومن أهم المواد التي تسبب (التعود) السجائر، والقهوة، والحشيش.
الدوافع المؤدية إلى التعود والإدمان:
أولاً: علاج الأمراض وبصفة خاصة تخفيف الآلام، أو جلب النوم، وأبرز المجموعات الدوائية المرتبطة بهذا الدافع: المخدرات Narcotics والمنومات، ويشترك معهما (الكحول) كوسيلة للهروب من الحالة المرضية التي يعاني منها المريض أو كعلاج شعبي، أو كمادة صيدلانية تدخل في كثير من التركيبات الدوائية المطروحة بالأسواق.
ثانيا: الرغبة في رفع الضغوط النفسية، أو الهروب من الواقع بمشاكله ومسئولياته وأبرز
المواد المرتبطة بهذا الدافع: (الكحول) ممثلاً في المشروبات الكحولية، وكذلك المطمئنات Minor Tranquilizers والحشيش.
ثالثاً: المحاكاة والتقليد والعرف الاجتماعي، وأبرز المواد المرتبطة بهذا الدافع المجموعة المسماة بالعقاقير الاجتماعية، وأهمها (الكافيين) ممثلاً في القهوة والشاي (والنيكوتين) ممثلاً في السجائر (التبغ) ، ويشرك معهما (الكحول) ممثلاً في الخمور التي أصبح شرابها من سمات المجتمعات المعاصرة ...(19/133)
ومن هذا نرى أن (الكحول) هو المادة التي تتحرك بكل الدوافع: فالعامة يستعملونه كعلاج شعبي لمجموعة من الأمراض، وهم يفضلونه عن الأدوية التي تفوقه في المفعول والتي تعززها الدراسات العلمية والتجارب الطبية؛ والجبناء وضعاف الهمم والعزائم يهربون من الواقع بشرابهم (للخمور) التي تستمد شهرتها وأهميتها لكونها تمنح شاربها إحساساً نفسياً معيناً، وتقوده إلى حالة مزاجية تخرجه من واقع حياته، وذلك بجانب البقاء فترة من الوقت في حالة اللاوعي؛ وهي من المشروبات التي أصبحت من أهم المتطلبات لكثير من المجتمعات المعاصرة في حياتهم ومناسباتهم المختلفة: أفراحهم، مناسباتهم القومية، أعيادهم، حفلاتهم الرسمية، وصار الناس يقلدون بعضهم البعض في شرابهم للخمر في تلك المناسبات، فليس عجبا أن يصبح (الخمر) أكثر مواد الإدمان انتشارا، ويصبح (الإدمان الكحولي) أعم وأخطرْ أنواع الإدمان.
ويزيد من فاعلية الدوافع التي ذكرناها بعض العوامل المساعدة ومنها:
(1) المبالغة في تقييم الكحول، كعقار ومادة صيدلانية، واستعماله بكثرة في تجهيز المستحضرات الصيدلانية والتركيبات الدوائية، واعتباره من أهم المواد التي تدخل في صناعة الدواء كمذيب ومادة حافظة، حتى أنه توجد بالسوق الدوائي آلاف التركيبات الدوائية المحتوية على كحول بنسب متفاوتة، وأكثرها أدوية لعلاج السعال، ومقويات، وفاتحات للشهية ومن أشهرها مشروبات الكينا؛ ويقال أحيانا عن هذه الأدوية الكحولية بأنها مشروبات كحولية متنكرة، أو مشروبات كحولية خفية.(19/134)
(2) أمراض العصر الحديث وأسلوب علاجها؛ والعقاقير المستعملة للعلاج من أكثر العوامل المساعدة للدوافع التي تسبب الإدمان؛ فقد كثرت في العصر الحديث الاضطرابات النفسية لتصاعد الصراع في النفس البشرية بين الخير المفطور عليه الإنسان، والشر الذي يوسوس به الشيطان، كما كثرت الضغوط الفكرية، والاضطرابات الوظيفية الجسدية، وكلها تعالج بأدوية مسكنة أو مهدئة أو مطمئنة أو منومة، وهي تحتوي على عقاقير تؤدي سريعاً إلى سوء الاستعمال وإلى التعود والإدمان. ومما يساعد على انتشار هذه العقاقير وإلى سهوله استعمالها، رغبة المريض المتعجلة في التخلص من أعراض المرض الذي يعاني منه، وتعجل الطبيب في علاج الحالة، وقناعته المبدئية واستحسانه لإخفاء أعراض المرض تمشياً مع رغبة المريض، لذلك فهو يسرع إلى وصف الأدوية التي تسكن الأعراض وتخفيها سواء كانت مسكنات أو مهدئات أو منومات.
(3) الترويج والإغراء والتحريض المدعومة بوسائل الإعلام وبالتيارات الفكرية المعاصرة، وخاصة بالنسبة للخمور.
(4) المناخ الاجتماعي الذي يسبب الظروف النفسية المؤدية إلى الإدمان، كالاختلاط والترف والتطلع، والصراع الطبقي، والمجتمع المعاصر الذي يعيش في حالة من اللامبالاة والذي لا يعترض بل ويستحسن استعمال بعض مواد الإدمان وعلى رأسها (الخمور) ، وذلك بكل مستويات المجتمع، سواء كان مجتمع الأسرة الصغير، أو مجتمع الأصدقاء والمعارف الأكبر قليلاً، أو المجتمع العام العالمي، ولا يستثنى من ذلك إلا قلة من الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية وقلة من المجتمعات التي يسود فيها العرف والتقاليد الإسلامية.
(5) عدم وجود عوامل المقاومة التي تعارض أو تمنع أو تعالج بجدية تلك الدوافع المؤدية(19/135)
إلى الإدمان (فالدين الإسلامي) - أقوى العوامل وهو الذي يتميز عن باقي الأديان بأسلوبه الإيجابي في حل المشاكل- لا يأخذ دوره المناسب بأكثر الدول الإسلامية، كأداة للحكم والتشريع والتربية. ولا يخفى على كل منصف أن تعطيل دور الوازع الديني الإسلامي الذي يبصر الناس بعواقب الأمور أو يصرفهم عن الأفعال السيئة بقناعة وحماس، قد أدى بدوره إلى انحراف الضمير العالمي فأصبح لا يرى أدنى غضاضة في احتساء (الخمر) بل ويشجع عليه بعمل المسابقات في بعض الدول بين شاربي الخمر؛ وهو يجعله رمزاً للصداقة في المؤتمرات الرسمية عندما يقرع رؤساء الدول كؤوسهم بعضها مع بعض.. كما يجعله إعلاناً عن نجاح المشروعات ويباركها به وذلك عندما يقوم كبار المسئولين في دولة ما (بتدشين) مشروعاتهم بإراقة الخمر عليها.. وبذلك وغيره لم يعد احتساء الخمر من الأفعال المعيبة التي يخجل منها الإنسان، بل أصبحت من الأفعال التي يتباهى بها ويحرص عليها.
- "وعامل العرف"الذي يولد الإحساس بالخجل، قد تضاءل أثره.
"والقوانين الوضعية"قد احتوتها شعارات الحرية الشخصية الزائفة، وشغلتها المشاكل الاقتصادية، والثورات الاجتماعية الطاحنة، وكادت أن تنظر إلى المشاكل الأخلاقية بعامة وإلى مشاكل الإدمان بخاصة، على أنها مشاكل شخصية بحتة، يتولى كل فرد من أفراد المجتمع حلها بطريقته الخاصة، ولا يليق بالدولة أن تشغل نفسها بهذه الأمور الهينة وتلك المشاكل التافهة. بل إن مشكلة (البترول والطاقة) في نظر المجتمع العالمي أفراد وحكومات أخطر على الإنسانية من مشاكل (الخمر والربا والزنا) مجتمعة ... والعامل الذي يشرب الخمر في موقع العمل لا يوجد في قوانين العمل ما يعاقبه طالما أنه يؤدي عمله، أما العامل الذي يتهاون في عمله بعض التهاون، فإن قوانين العمل تلاحقه بالعقوبات حتى تجهز عليه أو يحسن أداء عمله.
ثانياً: المواد المسببة للتعود والإدمان:(19/136)
إننا نقرر- وبكل الفزع والحسرة - أن المواد المسببة لسوء الاستعمال والتعود والإدمان قد تعددت مصادرها، وتضاعفت أعدادها، وتزايد استعمالها وتنوعت آثارها واستفحل ضررها، وأصبحت تهدد المجتمع الإنساني بدرجة خطيرة، في صحة أفراده الجسدية والعقلية والنفسية، كما أصبحت تهدده اجتماعيا واقتصادياً؛ وما زال (شراب الخمر والإدمان الكحولي) ، أكبر مشاكل الإدمان في العالم، وكما تقول عنه بعض المراجع العلمية "مشكلة الإدمان التي تتضاءل بجانبها مشاكل الإدمان لباقي المواد مجتمعة".
وبعد أن كانت المواد التي تسبب الإدمان ذات مصادر طبيعية محدودة وكانت قليلة العدد فقد أصبحت تعد بالمئات، وذلك بعد أن تدخل علم الكيمياء في تجهيز مواد جديدة عن طريق البناء الكيميائي، وذلك بالإضافة إلى الاهتمام المتزايد بإنتاج كميات ضخمة من مواد الإدمان التقليدية وعلى رأسها الخمر والسجائر.
ونقدم مواد الإدمان الشائعة في المجموعات التالية:
(1) الكحول: وتوجد منه أشكال متعددة، منها:
- المشروبات الكحولية (الخمور) : وهي المتعارف عليها - بين العصاة - كمشروبات مقبولة للسكر. وينضم إليها الخمر المعروف (بالبيرة) .
- الكحول الصافي: وله استعمالات متعددة، ومنها استعماله في تركيبات خاصة كمسكر، ويشربها العصاة تارة لرخصها، وتارة لقوة مفعولها المسكر.(19/137)
- كثير من التركيبات الدوائية، ذات الأغراض العلاجية المختلفة، وهي تحتوي على نسب متفاوتة من الكحول الذي يوصف بأنه (كحول متنكر) أو (كحول متخفي) وبعض هذه التركيبات الدوائية يستعمل بديلاً للخمر، خاصة في الدول التي مازال شراب الخمر فيها، لا يقره القانون أو (العرف المتدين) ومن هذه التركيبات الشائعة: أنواع الكينا المختلفة (كينا بسليري-كينا لايس- كينا روماني، فتالشوف) ؛ وبعض التركيبات التي تطرح في الأسواق كمقويات: تونيك باير، ب. ج. فوس، ستيم ... الخ، وبعض التركيبات ذات الأغراض العلاجية البحتة كبعض شرابات السعال.
- ماء الكولونيا: وإن شئت فقل (خمر كولونيا) فهي تحتوي على كحول تصل نسبته إلى 90%، واستعمالها العادي معروف للجميع، غير أن البعض يشربها بديلا عن الخمور.
(2) المخدرات Narcotics: ومن أشهرها الأفيون وعناصره الفعالة.
(3) المنومات والمهدئات Sedative – hypnotics: ومن أشهرها (مجموعة البربيتورات) .
(4) المطمئنات Minor Tranquilizers: وتسمى أيضا (مزيلات القلق) ومن أشهرها (مركب مبروبامات) .
(5) مواد الهلوسة: وعلى رأسها المادة المعروفة (بالحشيش) أو (القنب الهندي) .
(6) العقاقير الاجتماعية Social drugs: وعلى رأسها (مادة النيكوتين) الممثلة في (السجائر) أو (التبغ) .
ولا تدخل كل المواد المسببة للتعود والإدمان في نطاق هذه المجموعات، فهناك (مجموعة مضادات الحساسية) كما أن هناك مجموعات خارج نطاق العقاقير الدوائية مثل الهيدروكربون الطيار Volatile Hydrocarbons ... الخ، ولقد اكتفينا بذكر تلك المجموعات الستة التي تشتمل على معقم مواد الإدمان، المألوفة والأكثر انتشارا.
ثالثا: آثار الكحول وأضراره الصحية(19/138)
لقد أصبحت الأضرار المتسببة عن تعاطي مواد الإدمان - بعد أن استفحل خطرها- موضع الاهتمام المتزايد من جانب كثير من العلماء خاصة العاملين منهم بحقل الأمراض العصبية والنفسية، كما ارتفعت صيحات العلماء المخلصين ورجال الأخلاق والاجتماع تطالب بإيجاد الحلول الحاسمة، واتخاذ الإجراءات الحازمة لإيقاف موجة الإدمان التي تجتاح العالم.
أما بالنسبة (للإدمان الكحولي) ، وهو موضوع بحثنا، فلقد تمت الدراسات المستفيضة الخاصة بالتعرف على آثار الكحول الضارة في الإنسان، سواء كان كحولاً صافياً، أو كان في أية صورة من الصور، خمرا كانت أو مستحضراً دوائياً. وتم التعرف على آثار الكحول وأضراره بأية كمية يتعاطاها الإنسان. وأجريت التجارب، وتحققت المشاهدات، ورصدت حالات الإدمان، والسكر ودون السكر، وكادت أن تتوحد المعلومات العلمية وكذلك الفكر العلمي تجاه مفعول الكحول في الإنسان وآثاره الضارة بأية كميات يتعاطاها الإنسان، ولم تعد تلك المعلومات موضع جدل بين العلماء، وهي الآن موضع استقصاء وتعرف على مزيد من التفاصيل.
وفيما يلي تقدم بعض المعلومات العلمية المقتضبة:
أولا: يثبط الكحول الجهاز العصبي المركزي من البداية إلى النهاية، وهو مثبط أيضاً للمراكز العليا بالمخ التي تميز الشخصية الإنسانية عن الحيوانات، والتي اكتسبت أدائها بالتعاليم الدينية والتهذيب والثقافة، والتي تقوم بكبح جماح الغرائز الإنسانية؛ ولذلك فإن الكحول يطلق العنان لهذه الغرائز بمفعوله المثبط لعمل المراكز العليا الضابطة لها والمهيمنة عليها، ويترتب على ذلك بالضرورة بعض مظاهر الانطلاق العضلي والذهني مما يظنها البعض نشاطا، وهي في حقيقتها حالات انفلات من سيطرة المراكز العليا، لهذا فهي نشاط كاذب ومؤقت.(19/139)
والكحول بهذا الجمع بين الأثر المثبط للجهاز العصبي المركزي وبين التنشيط الكاذب يسبب قوة مع لا إرادة، وطاقة ذهنية مع ثرثرة كلامية بلا منطق، واندفاع مع خوف وجبن.. وهذه الصفات والصفات المضادة تلازم شارب الخمر ابتداء إلى أن يصل إلى مرحلة اللاوعي:
- وهذه إحدى الدراسات التي تصف الحال الذي يكون عليه شارب الخمر نتيجة لما يحدثه الكحول من آثار على الجهاز العصبي المركزي، والمراكز العليا.. تقول الدراسة (تختلف حدة مفعول الكحول باختلاف الأشخاص، كما أنها تختلف في الشخص الواحد بين حين وآخر. والجرعات الصغيرة تغري بالمزيد، وتظهر على شارب الخمر تغييرات ذهنية من البداية وبأقل كمية، ويمكن الكشف عنها باختبارات خاصة، كما تظهر عليه- مع زيادة الجرعات- أعراض الإثارة وعدم الاتزان.
ومن مظاهرها الضحك لأتفه الأسباب، وظهور نوبات من الغضب المفاجىء أو الرقة والوداعة:
كما أنه يتحدث في موضوع أو في غير موضوع، ويصبح حديثه أكثر فكاهة وأبعد ما يكون عن الوقار. وتصبح حركات شارب الخمر- قبل أن ينتقل إلى مرحلة اللاوعي والغيبوبة- أكثر حيوية، ولكنها لا تبعث على الاحترام في كثير من الأحيان ويضيع الشعور بالمسئولية فلا يميز بين التافه والمهم) .
- وهذه دراسة تبين الأعراض التي تطرأ على شارب الخمر، نتيجة لتأثير الكحول على الجهاز العصبي المركزي، وحسب تركيز الكحول بالدم، تختلف الأعراض باختلاف نسبة تركيز الكحول في الدم على النحو التالي:
أقل من0.1 % يمكن الكشف عن تغييرات بإجراء اختبارات خاصة.
أقل من 0.1%-0.2 % عدم اتزان
أقل من 0.2 %-0.35 % التخبط- ترنح الخطي- ثقل الكلام
أقل من0.3 %-0.4 % نوم عميق
أقل من0.35 %-0.55 % غيبوبة
أكثر من5.5 % وفاة
وتوجد الرغبة إلى أعمال العنف وارتكاب الجرائم، والانتحار، والحزن والبكاء في بعض الأحيان.(19/140)
ثانياً: يهيج الكحول الغشاء المخاطي بالمعدة، وإذا زاد تركيزه بالمعدة عن 3% عطل مفعول الأنزيمات الهاضمة، ويترتب على ذلك سوء الهضم وضعف الشهية للطعام مما يؤدي إلى سوء التغذية والضعف العام، وما يصاحب ذلك من ضعف للمقاومة واستهداف لكثير من الأمراض الميكروبية كالدرن، وغير الميكروبية كأمراض نقص الفيتامينات والتهاب الأعصاب، وأمراض الكبد.
ثالثاً: يزيد الكحول- ولو بكميات قليلة من حدة ومضاعفات وخطورة الكثير من الأمراض، مثل أمراض الكلى، وقرحة المعدة، والإثنى عشر وقرحة القولون، والتشنج العصبي، ومرض السكر.
رابعاً: الكحول من أقوى الأسباب المعروفة التي تسبب (التليف الكبدي) ، وهو يؤدى إلى المرض الكبدي الخطير (كهبة الكبد) والذي يسمى بالإنجليزية Liver Cirrhosis
خامساً: يؤثر الكحول مباشرة على الألياف العصبية البصرية، فيحدث تلفاً بالأعصاب البصرية، مما يؤدي إلى (الغطش التسممي) الذي يتميز بأنه يكون مركزياً مما يؤدي إلى عدم القدرة على القراءة أو الرؤيا القريبة، وينتهي بفقد الإبصار المركزي.
سادسا: ومن أهم الأضرار التي تنتج عن الكحول والتي بدأت الدراسات العلمية الاهتمام بها، ما يحدث داخل الجسم من تعارض بين الكحول وأدوية العلاج التي يتعاطاها المرضى، وذلك في إطار (التفاعلات بعين الأدوية المشتركة في الإنسان) Drug - Drug Interactions:
- فقد ينتج عن التفاعل بين الكحول وبعض العلاجات، نقص ضار في مفعول الدواء، ومثال ذلك: نقص مفعول علاج الدرن المشهور (ا. ن. هـ) إذا عولج به من يشربون الكحول.
- وقد ينتج عن التفاعل بين الكحول وبعض العلاجات، زيادة خطيرة في مفعول الدواء، ومثال ذلك: زيادة مفعول مضادات التجلط إذا عولج بها من يشربون الكحول.(19/141)
- وقد ينتج عن التفاعل بين الكحول وبعض العلاجات، تفاعلات تسممية تؤدي إلى أخطر النتائج وقد تؤدي إلى الوفاة، ومثال ذلك: ما يحدث من تفاعلات (المنع الدوائي) Antabuse reaction في جسم الإنسان بين علاجات مرض السكر والكحول. ومنها: اضطرابات في ضربات القلب، وسرعة في النبض وانخفاض حاد في الضغط، وضيق في التنفس، وهبوط شديد.
- بل إن الكحول المستعمل من الخارج على شكل معاجين الحلاقة، أو ماء الكولونيا، قد يحدث تفاعلات خطيرة وقاتلة مع بعض العقاقير التي يتناولها المريض، ومن هذه العقاقير دواء ديسولفيرام Disuefiram لهذا يحذر الباحثون بشدة من استعمال الكحول موضعياً بأية صورة من الصور وبأية كمية في حالة تعاطي ذلك العقار..
ولا زالت الدراسة الخاصة بالتفاعلات بين الأدوية المشتركة في الإنسان في أولها، خاصة فيما يختص (بالكحول) ، ولهذا كان لزاماً على علماء الأمة الإسلامية المتخصصين في هذا المجال أن يشاركوا في الدراسات المتعلقة بالكحول ويهتموا بها كثيرا.
سابعا: ولا يقتصر الضرر على شارب الخمر فحسب، بل في حالة (الحوامل) يمتد أثر الكحول إلى الأجنة، فيكونوا دون التكوين الطبيعي، ويكون نموهم بعد الولادة بطيئاً وتوجد انحرافات في الجهاز الدوري، وتشوهات بالجمجمة والوجه ... الخ.
ثامناً: يعتبر الكحول من أسرع المواد المسببة لسوء الاستعمال والتعود، والإدمان، وهذا يضاعف من خطره (وبعد) ... فقد ذكرنا- وباختصار- الآثار والأضرار الصحية التي يسببها الكحول للإنسان، وهناك أضرار أخرى كثيرة وخطيرة، تتعلق بالنواحي الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، نترك لعلماء الأمة الإسلامية الأفاضل -كل في مجال تخصصاته- القيام بتقديم الدراسات عنها.
رابعا: الوقاية والعلاج:(19/142)
لقد أصبح سوء الاستعمال والتعود والإدمان، لكثير من المواد بعامة وللكحول بخاصة من أضخم وأخطر المشاكل التي تواجه المجتمع المعاصر، وكادت هذه المشاكل أن تكون مستعصية على العلاج، سواء من حيث صرف الناس عن تلك الأفعال السيئة، أو من حيث انتشال الذين وقعوا فريسة لها، ليعودوا مرة أخرى إلى مجتمع الأصحاء. وتتزايد أعداد أولئك المنحرفين عاما بعد عام في أرقى الدول رغم النصائح والتحذيرات والإجراءات وذلك على حد قول المهتمين بهذه المشاكل. ونرى صيحات الفزع ترتفع، ودلائل اليأس تظهر على دراساتهم وتقاريرهم. وتقول إحدى الدراسات (بالرغم من شيوع المخاطر عن تعاطي الكحول، وتدخين السجائر، فقد أصبحتا متمكنتين على كل المستويات وفي جميع أنحاء العالم وهما في تزايد مستمر. ولقد فشلت بشكل واضح طرق التوعية والتثقيف، وكذلك الحظر والتحريم المسبقان في التقليل من المشكلة، ومن الضروري إيجاد اتجاهات أخرى إذا أريد حلا للمشكلة. ولقد تصور أولئك الذين يئسوا من حل المشكلة أن الإعلانات المضادة، والأساليب الإعلامية الحديثة كفيلة بالقضاء على هذه المشكلة تماما، ثم تعجبوا من نتائج محاولاتهم في علاج المشكلة، حيث يرون أن التحذيرات والدعايات المضادة يصاحبها تزايد مستمر في استعمال هذه المواد الضارة، وأخيراً أعلنوا يأسهم من حل مشاكل الإدمان بما اتخذوه من وسائل.(19/143)
وحقيقة الأمر أنه ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة من النتائج الفاشلة، التي انتهى إليها أولئك العاملون على محاربة الإدمان، فالإباحة (للخمر) مهما كانت مفيدة، فلابد أن تنتهي بشارب الخمر إلى سوء الاستعمال والتعود والإدمان، وذلك تمشيا مع ملابسات شرب الخمر وطبيعة الإدمان فيه؛ والتحذيرات من شراب الخمر، والدعايات المضادة له، يقابلها على الطرف الآخر وبقوة شديدة واقع معارض ممثلاً في صناعة الخمور ومصانعها التي تعد بالآلاف، وتجارة الخمور ومكاسبها التي تعد بالبلايين من الدولارات، وقوة نفوذ العاملين في صناعة وتجارة الخمور والمستهلكين لها من الحكام والساسة ورجال الأعمال ورجال الفكر ومشاهير الفنانين والفنانات، وهم جميعاً يشكلون القدوة والقيادة للمجتمعات البشرية المعاصرة بكل طبقاتها وثقافاتها ومعتقداتها وأجناسها وأقاليمها ودولها وتنظيماتها..
فأين قوة التحذير من قوة التحريض؟!! وأين قوة المنع والمعارضة من قوة النشر والمؤازرة. ثم يبرز بعد ذلك السؤال الحائر الذي يردده بانزعاج بعض دعاة الإصلاح: ما السبب في صمود مشاكل الإدمان، لا بل واستفحالها عاماً بعد عام رغم جود الإصلاح والعلاج؟!.
ويأتي الجواب سريعا: ليست هناك جدية أو صدق نية لحل هذه المشاكل؛ كما أن تعارض أسلوب الحياة المعاصرة بكل انحرافاته مع وسائل العلاج والإصلاح يجهض كل محاولات المصلحين، والنفسانيين والأطباء المعالجين، ويجهض قوانين الدول مهما بلغت من الصرامة. ولا يعقل ولا يتوقع أن يتم القضاء على مشكلة الإدمان الكحولي، وشراب الخمور، بينما قادة الأمم ورجال السياسة والفكر ورجال المال والصناعة واقتصاديات كثير من الدول ووسائل الإعلام، وقوى الشر والفساد- في معظم أنحاء العالم- تعمل- وبضراوة- على الترويج لهذه المواد الضارة..(19/144)
وعلى ضوء ما ذكرنا من النتائج الفاشلة التي حصل عليها من يعملون لعلاج مشاكل الإدمان، فإننا نطالب بوضع خطط سليمة متكاملة تحقق الإصلاح الجاد والقضاء التام على مشاكل الإدمان وبخاصة (الإدمان الكحولي) ..
وعلينا أن نقتدي وأن نستفيد بسنة كريمة وعمل إصلاحي عظيم قام به نبي هذه الأمة- أمة الإسلام- نبينا (محمد) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، إنها الإصلاح الكامل والحل الشامل لمشكلة الخمر التي شاع شرابها، وسيطرت على عقول العرب وتأصلت في نفوسهم وعاداتهم، وذلك قبل الإسلام وإلى أن جاء نبي الإسلام، نبي الرحمة، الرسول الصادق الأمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين- فتم القضاء على هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة قضاءاً تاماً، بين قوم أشد معارضة وعناداً، من المجتمعات المعاصرة ولكنها الدعوة الصالحة، والقيادة الصادقة التي كلل ويكلل الله سبحانه وتعالى أعمالها بالخير والتوفيق والفلاح.
ونقدم- باختصار- بعض الإجراءات اللازمة وطرق العلاج المناسبة التي نقترح الأخذ بها للقضاء على مشكلة الإدمان:
أولاً: إيقاف سيل المغريات وأسباب التحريض على الفسق، والتوقف عن عرض جوانب الحياة اللاهية، والمنطلقة إلى اللذة الجسدية وإلى الترف والى الكسب المادي، وذلك بوضع رقابة صارمة وجادة على الأعمال الفكرية والبرامج الترفيهية، والمواد الثقافية المقروءة والمسموعة والمنظورة، ولكي تصبح جميعها في الاتجاه الإصلاحي، وبعيداً عن الإثارة والتبذل.. هذا بالإضافة إلى وجود القدوة الصالحة بين أصحاب النفوذ والسلطان وكل من تقتدي بهم المجتمعات البشرية.(19/145)
ثانياً: الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسلوكية للمجتمع، والأخذ بالمفاهيم السليمة لقيم الحياة، واتباع الأساليب التربوية الصحيحة لتربية أفراد المجتمع منذ الطفولة، ويوجد في الدين الإسلامي- خاتم الأديان السماوية - مناهج تربوية مفصلة، سبق تطبيقها بالمجتمعات الإسلامية، وثبت نجاحها، ومن الصواب العمل بها توفيراً للجهد، وتحقيقاً للفائدة وضماناً لحسن النتائج.
ثالثا: التعرف على الدوافع الحقيقية لتعاطي الخمور وغيرها من مواد الإدمان، والتعرف
على العوامل المساعدة لهذه الدوافع، وذلك بدراسة المريض ككل: بدنياً، ونفسياً، واجتماعيا.. والعمل على إبطال هذه الدوافع بالتربية والعلاج، أو بالتأديب والعقوبة، ونبين ذلك بشيء من االتفصيل فيما يلي:
(1) يتم فحص المريض من الناحية الصحية، ويعالج من كل ما يعاني منه من الأمراض خاصة تلك التي دفعته إلى تعاطي مادة الإدمان؛ فإذا كان يشكو من صداع مزمن، أو آلام عضوية مستمرة، أو اضطرابات وظيفية.. فيجب علاجه من هذه الأمراض حتى لا يكون هناك سبب لتعاطي مادة الإدمان بقصد العلاج.
(2) دراسة مشاكل المريض العاطفية والاجتماعية والاقتصادية، ومعاونته على التوصل إلى الحلول الواقعية السليمة والميسرة لهذه المشاكل. وتصحيح مسار فكره وتصويب نظرته إلى هذه المشاكل، بالعلاجات النفسية والروحية، وتعديل نظامه المعيشي والاجتماعي، والتصحيح السلوكي، والاستعانة بالتربية الرياضية. وليس أقوى من التوجيه الديني والتربية الدينية في تعديل السلوك، هذا مع إعطائه جرعات من الإيمان، والتقوى بالعبادات الإسلامية والعقيدة الإسلامية.
(2) وفي حالة شراب الخمر، والإدمان على شرابه، فإن الإقلاع التام عن تعاطي الخمر هو العلاج السليم، وهذا أفضل من محاولة التخفيف المتبعة في مواد الإدمان الأخرى.(19/146)
رابعاً: وللقضاء على شراب الخمر ابتدأ أو بالنسبة للذين أدمنوا على شرابه فإنه بجانب العقوبات العلنية الرادعة التي توجد في الشريعة الإسلامية، يجب ملاحقة تلك العادة الملعونة بكل وسائل الإعلام للتحقير منها وممن يشربونها، وعرض الأفلام التسجيلية للسكارى والمخمورين في كل مراحل شرابهم لبيان ما يطرأ عليهم، وما يحدث لهم وما يصدر عنهم، والإكثار من فترات البث الإعلامي ضد هذا الشراب الملعون عن طريق البرامج التلفزيونية والإذاعية، وبذكر الإحصائيات والدراسات التي تؤكد ضرر وخطورة الخمر بأية كمية، والإكثار من التوجيهات والدراسات الدينية والتمثيليات الهادفة التي تنفر من الخمر وشرابه ومن المخمورين ومن تجار الخمور.
خامساً: إعادة النظر في الاستعمالات المشروعة لجميع الأدوية المحتوية على مواد تسبب التعود والإدمان، والعمل على الحد من استعمالها، وقصر استعمالها على حالات الضرورة، وفي نطاق الاضطرار الذي تقره الشريعة الإسلامية، ولقد سبق أن تحدثنا عن (الضرورة) في المقال السابق [2] .
سادساً: أما بالنسبة (للخمر) ومادته الفعالة (الكحول) ، فلا ضرورة لاستعمالها في الطب والصيدلة؛ وهناك أبحاث تجري لتقييم الاستعمالات الحالية للكحول في الدواء والعلاج، وتشير الدراسات الأولية إلى إمكان الاستغناء عن الكحول صيدلانياً وطبياً. ومن الواجب على علماء الأمة الإسلامية العاملين في حقل الطب والصيدلة أن يعملوا جادين للتخلص من استعمالات الكحول في تجهيز الأدوية وفي العلاج: وبهذا يقدمون إلى أمتهم الإسلامية وإلى الإنسانية خدمات جليلة، ويؤدون واجباً دينيا مقدساً..
وبعد ... فهذه (مشكلة الخمر والإدمان الكحولي) التي تجتاح العالم المعاصر، أعرضها في هذه الدراسة المختصرة، سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يهيئ لها من بين أبناء الأمة الإسلامية من يجدون لها الحل الشامل.
وبالله التوفيق، وهو سبحانه نعم الولي ونعم النصير.(19/147)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: "من يسلم المسلمون من لسانه ويده".
(متفق عليه)
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".. أي اللسان والفرج.
(متفق عليه)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر مجلة الجامعة الإسلامية. العدد الثالث. السنة الحادية عشرة. ص 247.
[2] انظر مجلة الجامعة الإسلامية. العدد الثالث، السنة الحادية عشرة. ص 249.(19/148)
فتاوى هيئة كبار العلماء في أحداث الحرم
أصدر أصحاب الفضيلة العلماء في المملكة فتوى شرعية تحدد طبيعة التعامل الشرعي مع الشرذمة التي انتهكت حرمة البيت العتيق وذلك بناء على دعوة من جلالة الملك حفظه الله وبيانا فيما يلي نصها وأسماء أصحاب الفضيلة العلماء الذين أصدروها
نص الفتوى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وبعد.. ففي يوم الثلاثاء اليوم الأول من شهر المحرم عام أربعمائة وألف من الهجرة دعانا نحن الموقعين أدناه جلالة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود فاجتمعنا لدى جلالته في مكتبه في المعذر وأخبرنا أن جماعة في فجر هذا اليوم بعد صلاة الفجر مباشرة دخلوا المسجد الحرام مسلحين وأغلقوا أبواب الحرم وجعلوا عليها حراساً مسلحين منهم وأعلنوا طلب البيعة لمن سموه المهدي وبدؤوا مبايعته ومنعوا الناس من الخروج من الحرم وقاتلوا من مانعهم وأطلقوا النار على أناس داخل المسجد وخارجه وقتلوا بعض رجال الدولة وأصابوا غيرهم وأنهم لا يزالون يطلقون النار على الناس خارج المسجد.. واستفتانا في شأنهم وما يعمل معهم فأفتيناه بأن الواجب دعوتهم إلى الاستسلام ووضع السلاح فإن فعلوا قبل منهم وسجنوا حتى ينظر في أمرهم شرعا، فإن امتنعوا وجب اتخاذ كافة الوسائل للقبض عليهم ولو أدى إلى قتالهم وقتل من لم يحصل القبض عليه منهم ويستسلم إلا بذلك لقول الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} - ولقول النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم ويشق عصاكم فاضربوا عنقه" رواه مسلم والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يعلي كلمته وينصر دينه وأن يخذل من أراد الإسلام والمسلمين بسوء(19/149)
وأن يشغله بنفسه إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
بيان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه، ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته على من أراد الإسلام والمسلمين بسوء، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكبت من أراد الفساد والإلحاد في حرم الله وانتهاك حرمته وسفك دماء المسلمين- وبعد..
فإن هذا العمل الشنيع الذي قامت به هذه الطائفة الظالمة المعتدية التي انتهكت حرمة حرم الله وأقدس بقعة في أرضه وسفكت فيه الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام وفي رحاب الكعبة المشرفة وروعت المسلمين الآمنين في أمن الله وحرمه.. عمل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، يعتبر منكراً عظيماً وإجراماً شنيعاً وإلحاداً في حرم الله الذي قال فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما حلت لي ساعة من نهار.. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس.. فليبلغ الشاهد الغائب" متفق عليه..(19/150)
وهذه الطائفة تجرأت على مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، ولذلك سأل ولاة الأمر عن حكم مكافحة شر هؤلاء فصدرت الفتوى الشرعية بأن على ولي الأمر أن يقضي على فتنتهم باتخاذ كافة الوسائل ولو أدى ذلك إلى مقاتلتهم إن لم يندفع شرهم إلا بذلك.. لقول الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} وهذه الآية وإن كانت نازلة في كفار فإن حكمها شامل لهم ولغيرهم ممن فعل فعلتهم فاستحل القتال في الحرم بإجماع العلماء ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاضربوا عنقه كائناً من كان".. وهذه تعم ما يدعى أنه المهدي وغيره وهذه الطائفة أرادت شق عصا المسلمين وتفريق كلمتهم والخروج على إمامهم فدخلت في عموم هذا الحديث وغيره من النصوص الشرعية الدالة على معناه.. وولاة الأمر وفقهم الله لكل خير مشكورون على ما قاموا به من جهد لإخماد هذه الفتنة والقضاء عليها فنسأل الله أن يعز بهم الإسلام والمسلمين وأن يوفقهم لما فيه صلاح العباد والبلاد إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصاحبه وسلم.
وقد أصدر الفتوى وأقرها كل من:(19/151)
الشيخ عبد الله بن حميد، الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، الشيخ راشد بن صالح بن خنين، الشيخ عمر بن عبد العزيز بن مترك، الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة، الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن فارس، الشيخ ناصر بن حمد الراشد، الشيخ على بن سليمان الرومي، الشيخ سليمان بن عبد العزيز بن سليمان، الشيخ محمد بن عبد الله بن الأمير، الشيخ عبد العزيز بن محمد بن زاحم، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن رشيد، الشيخ محمد بن سليمان البدر، الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، الشيخ صالح بن على بن غصون، الشيخ غنيم بن مبارك الغنيم، الشيخ ناصر بن عبد العزيز الشترى، الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، الشيخ عبد العزيز العيسى، الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ، الشيخ محمد علوي مالكي، الشيخ صالح بن محمد بن لحيدان، الشيخ محمد بن سبيل، الشيخ سليمان بن عبيد، الشيخ عبد الرحمن حمزة المرزوقي، الشيخ محمد بن إبراهيم البشر، الشيخ محمد إبراهيم العيسى.(19/152)
ملحق رسالة دكتوراه في التحقيق
في تمام السادسة والنصف من مساء يوم السبت الثالث من شهر جمادى الأولى من سنة 1399 هـ الموافق للحادي والثلاثين من شهر مارس من سنة 1979 م وفي مدرج كلية الشريعة بجامعة الأزهر تمت مناقشة الرسالة العلمية المقدمة من الباحث (عبد العزيز بن عبد الفتاح قارئ) المبعوث من قبل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للتحضير لنيل درجة العالمية (الدكتوراه) من جامعة الأزهر وعنوان الرسالة:
(تحقيق الجزء الأول من شرح أدب القاضي للخصاف، تأليف الصدر الشهير حسام الدين عمر بن (مازه البخاري الحنفي المتوفى سنة 526 هـ، تحقيق ودراسة) .
وقد كانت لجنة المناقشة مكونة من الأساتذة: الأستاذ الدكتور عبد الغني محمد عبد الخالق رئيس قسم أصول الفقه سابقا والأستاذ المتفرغ بالكلية: مشرفا، والأستاذ الدكتور محمد محمد مصطفى شحاته رئيس قسم الفقه: عضوا، والأستاذ الدكتور محمد محمد جبر نصار عميد كلية البنات الإسلامية: عضوا..
وبعد تمام المناقشة منح الباحث المذكور درجة العالمية (الدكتوراه) في السياسة الشرعية مع مرتبة الشرف الأولى بإجماع الآراء.
نص البيان الذي ألقاه الباحث
بسم الله الرحمن الرحيم
يقضَى عليه جلَ شأناً وعلا
الحمد لله الذي يقضي ولا
على النبى المصطفى محمد
ثم الصلاة بدوام الأبد
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدَ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجمد..(19/153)
اللهم ارضَ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الهداة المهديين، أبي بكر- وعمر وعثمانَ وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، وعن التابعين لهم بإحسان، الناهجين نهجهم بإيمان، إلى يوم الدين.. اللهم ارحم أئمةَ الإسلام وعلماءه، ومحدثيه وفقهاءه، من حملوا إلينا على أكتاف علمهم وعقلهم وحكمتهم هذا النور المبين.. اللهم ارحم أبا حنيفةَ النعمان، ومالكَ ابْنَ أنس، ومحمَد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسائر الأئمة المجتهدين.. اللهم عظم ثوابهم، وارفع درجتهم، واحشرنا معهم في زمرة نبيك واتباعه من يشفع فيهم فيشفّع ويسأل لهم فيعطي اللهم- يا معلم إبراهيم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا ...
أما بعد:
فإن فقه السياسة الشرعية يحتاج إلى مزيد من جهود الباحثين، فقهاء ومحققين، لأمرين، أحدهما: قلة ما وصلنا فيه من مؤلفات، فكأنها ضاعت مع أكداس المخطوطات والكتب، إن لم تكن على أيدي المغول المتوحشين، فعلى أيدي لصوص المستشرقين المتمدنين..
وثانيهما: أهمية هذا الفقه في حياة المسلمين، لشدة الانحطاط السياسي الذي تردوا فيه، فكادت تندرس معالمه بسبب ذلك، والفقه يحببه التطبيق، ويزدهر بالتنفيذ..
والقضاء، من أهم مجالات فقه السياسة الشرعية، وقد اخترْته لبحثي، لا تقديماً له على المجالات الأخرى، ولكن لأسباب في نظري هامة:
منها: أن القاضي أكثر مساساً بحياة الناس وحركة دولاب المجتمع، حيث يعيش مشكلاتهم وقضاياهم عن كثب، ويؤثر فيها بدوره الفعال..
والسلف قد فَرَقوا بين القضاء والفتوى، فلكل منهما رجال، فكانوا يقولون: فلان أعلم من فلان بالقضاء، وذلك أعلم منه بالفتوى..
كما قالوا في شريح ومسروق: "شريح أعلم من مسروق بالقضاء، ومسروقَ أعلم من شريح بالفتوى، وكان شريح يستشير مسروقاً، ومسروق لا يستشير شريحا.."(19/154)
ومنه قولهم أحيانا: يباح له ذلك قضاء لا فتوى، فيعنون ما لو حكم له في الظاهر، لكنه ليس كذلك في الواقع، فإنه لا يباح له..
إذ أن قضاء القاضي تعتبر فيه ملابسات الدعوى والإثبات، مما لا يعتبره المفتي..
والقاضي بفَصله، وفقه هذا الفصل، واستشارته لأهل الفتوى، أو استغنائه عن ذلك باجتهاده، يؤثر في الفقه عامةً، ويقوم في حركة وازدهاره بدور فعال..
بفقه القضاة ازدهر الفقه الإسلامي، أيام كان للقضاة سلطان أو كيان، وكانوا يختارون من الفقهاء المجتهدين أهل السنة والرأي، والفقه والأثر..
فلما فسد الزمان، تضعضعت أركان القضاء، ونتف ريشه، حتى انكمش في صومعةِ ضيّق عليه فيها، فأصبح ذات يوم، وإذا به في ديار تعتبر ديار إسلام، لا تنفذ أحكامه إلا في أنكحة الناس وطلاقهم..
بل وبلغ من تدهوره أن وجد في بعض ديار الإسلام من يتقلد القضاء ويحكم رقاب المسلمين وهو من أهل الذمة، وقد أجمع العلماء على أنه لا ولايةَ لكافر على مسلم، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه..
ولما ماتت أطراف لقضاء الإسلامي وجمدتْ حركته، تدهور الفقه، وضعفت حركته..
وكان اختياري لكتاب في الفقه الحنفي سببه تعلقي بهذا الفقه، وشدة غرامي به وبما كتب فيه: ولهذا التعلق أسباب:
منها: اتجاه هذه المدرسة الفقهية إلى (الرأي) ، فهي تمثل تيار العقلانية في الفقه، وليس معنى ذلك الأعراض عن الأثر، نستغفر الله من ذلك ونعوذ به، فنصوص النقلين- الكتاب والسنة- هما المصدر والمنهل، لا يملك أحد مخالَفَتها والتمرد عليهما.. لكن العقلانيةَ هي في فهم هذه النصوص، واستخراج مقاصد الشرع منها..
وكل مدارس الفقه واتجاهاته لها نصيب منها بهذا المفهوم..
لكن النسب في ذلك تفاوتت، والمناهج تنوعت، فكانت نسبة إعمال الفكر والعقل في المدرسة الحنفية أكبر، ومنهاجها المرسوم لذلك أكثر إتقاناً و (حكاماَ، وسعةَ وشمولاً، ومتابعةَ لحركة تطور المجتمع..(19/155)
ومنها: اتجاه المدرسة الحنفية إلى الروح (العملية) في الفقه، مع كون هذه المدرسة اشتهرت بالفقه التقديري، لكنّ هذا النوع من الفقه، مع أمور أخرى من صميم المنهج، تمثَل أبرز ملامح هذا الاتجاه..
ومنها: الضجة الكبرى التي أثيرت في وجه هذه المدرسة، من المحدثين والفقهاء، فنشبت معركة علمية لا نظير لها بينها وبينهم..
ومع هذا كان لهذه المدرسة تأثير كبير في كثير من الاتجاهات المعارضة لها في الفقه..
وهذا يتيح للدارس فرصة ثمنية للاطلاع على أكبر قدر ممكن من الآراء المتغايرة، فيثرى أفُقَه كمتفقه، ويغوص في أعماق الشريعة، حيث تتجلى له مقاصدها، وأسرارها.
ثم كان اختيار كتاب يجتمع فيه الخصاف مؤلف المتن، والصدر الشهيد مؤلف الشرح لأسباب عديدة بينتها في الدراسة في مواضع، وأبرز هذه الأسباب:
أنهما من مجتهدي المذهب الحنفي، ممن يًعتمد على فتاويهم واجتهاداتهم..
وأنهما باجتماعهما، جمعا بين أسلوبين من أساليب الفقه الحنفي، وبين زمانين ومكانين من أزمنته وأمكنته، بكل ما يحمله ذلك من اختلاف الرسوم، والواقعات، والاجتهادات..
فأبو بكر الخصاف، توفى ببغداد سنة (إحدى وستين ومائتين) والصدر الشهيد عاش ببخاري، واستشهد بسمرقند سنة (ست وثلاثين وخمسمائة) ..
ونشعر ونحن نقدم للمسلمين هذا العملَ الذي استفرغنا فيه الجهد والطاقةَ، أننا بذلك نساهم مساهمةَ صغيرةَ ضئيلةً في مجال إحياء الشريعة الإسلامية، وإعادة المجتمع الإسلامي إلى حظيرتها..
نقول ذلك لا من باب التواضع فحسب، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه..(19/156)
ولكن، لأننا نرى أن إحياء الشريعة لا يكون إلا بإحياء الفقه الإسلامي، وإحياء الفقه الإسلامي وبعثه من جديد، لا يكون بنشر مصادره، واستخراج مخطوطاته وبثَ علومه فحسْب، فذلك في رأيي يمثل نسبةً أقل في الأهمية من أمر آخر يجب أن يواكبه ويصاحبه.. وهو إيجاد فقهاء مجتهدين مصلحين، يتابعون بحركتهم الفكرية الدائبة الممتلئة بالحيوية الفقهية حياةَ الناس ومشكلاتهم، وما يطرأ على المجتمع من تغيرات..
فبدون هؤلاء الفقهاء المصلحين الذين توفرت فيهم شروط المجتهدين ولو اجتهَادا منتسًبًا لمذهب فإن الأمل في بعث الفقه وتطبيق الشريعة يضعف رويداً رويداً حتى يستلقي في ركن مهجور مستغرقاَ في سبات عميق، كسبات عامة المسلمين..
قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء/ 82) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل (43) .
أما عملي في الرسالة فقسمته إلى قسمين:
القسم الأول: دراسة الكتاب وحياة المؤلف: ويتكون من قسمين: الأول منقسما يتناول دراسةَ حياة المؤلف: ويشتمل على ذكر: اسمه ولقبه، وأسرته، وولادته، واستشهاده، وإسناده في الفقه وشيوخه، ومكانته العلمية، ودراسة موجزة لعصره: تشتمل على دراسة الحالة السياسية، والدور السياسي لأسرة بني مازة، والدور السياسي الذي كان للصدر الشهيد، ثم الحالة العلمية، ثم دراسة لأثر ذلك كله على كتاب المؤلف (شرح أدب القاضي) ..(19/157)
والقسم الثاني: يتناول دراسة فقه القضاء، ويشتمل على: كلمة موجزة عن منهج الفقهاء عامة في التصنيف في القضاء، وقائمة ببعض المصنفات فيه، ذكرت فيها أربعة وستين عالماً ممن ألف في القضاء وما يتصل به من علوم، مع ذكْر ما ألفوه وأماكن وجوده في مكتبات العالم..
ويشمل القسم الثاني أيضا على باب أخير عنونته بنظرات في كتاب الصدر الشهيد، ناقشت فيه المؤلف في منهجه، وفي بعض مسائل الكتاب التي رأيْت التوسع فيها لأهميتها، وهى: تعريف القضاء، وشروط القاضي، وحديث معاذ في الاجتهاد، وقاعدة الحيل..
أما القسم الثاني من عملي في الرسالة، فهو تحقيق الجزء الأول من نص الكتاب، الذكر هو: شرح أدب القاضي للخصاف، وقد واجهتني صعوبة بالغة في ذلك نظرا لتكاثر نسخ الكتاب، وقد توصل علمي إلى وجود أكثر من خمسين نسخة، جمعت ما تيسر من معلومات عنها، فوجدتها متقاربة قي تاريخها، وأكثرها حديث متأخر في النسخ، فانتقيت منها خمس نسخ، جعلت ثلاثاً أصولا للتحقيق، واتخذت من النسختين الباقيتين نسختين مساعدتين.
أما النسخ الأصول: فهي نسخة دار الكتب المصرية، وكتبت سنة (أربع وستين وسبعمائة) فنسختها وقارنتها بالنسختين الأخريتين.. ثم نسخة المكتبة البلدية بالإسكندرية، كتبت بخط نسخي أظن أنه من خطوط القرن الثامن..
ثم نسخة مكتبة سليم أما بتركيا، وكتبت سنة (ثلاث وثمانين وتسعمائة) ..
وأما النسختان المساعدتان فهما: نسخة مكتبة جامعة استنبول وكتبت في القرن العاشر، وبمقارنتها بنسخة الإسكندرية جدت بينهما من التشابة ما جعلني أجزم بأنهما من فئة واحدة.. ثم نسخة مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وكتبت سنة (أربعين وتسعمائة) ، وبمقارنة هذه النسخة ببقية النسخ توصلت إلى تأليفة أخرى للكتاب، كما يترجح لدي، أو أنها مختصر للكتاب من تصنيف أحد الفقهاء..(19/158)
وقد ساعدت هذه النسخة على فهم كثير من مشكلات النسخ الأخرى، وقد التزمت بإثبات عبارتها في الهامش عند الحاجة إلى ذلك، إذ أنني لم أعتبرها أصلا للتحقيق.. ثم اعتنيت بعد ذلك بإثبات ما ترجح لدي أنه نص المؤلف مهما كانت صفته، وإثبات الفروق الأخرى أو التصويبات في الهامش..
ولم ألتزم في ذلكَ بنسخة واحدة، بل لجأت إلى اعتبار النسخ الثلاث كلّها أصولا، أختار منها النص بموجب القرائن التي أبني عليها الترجيح والاختيار..
أما عملي في التعليق فهو: العناية بترقيم الآيات، وتخريج الأحاديث على طريقة أهل الصناعة الحديثية، وتوضيح ما يشكل من عبارات، وشرح ما يستغلق من مفردات، وتخريج بعض المسائل من كتب المذهب الحنفي، وذكر المذاهب الأخرى في بعضها، مع ترجيح ما أراه أقوى المذاهب في المسألة..
وترجمت للأعلام الواردة في الكتاب مع اختلاف في الاختصار والتفضيل.
بعد ذلك وضعت للكتاب سبع فهارس وهي: فَهرست للآيات، وفهرست للأحاديث المرفوعة، وفهرست للأحاديث الموقوفة والمراسيل وفتاوى التابعين: ورتبتهما على حسب موضوعات الكتاب: إذ وجدت ذلك الضابط الوحيد الممكن والمفيد..
ثم فهرست للأعلام..
ثم فهرست عام مفصل للأحكام الواردة في نص الكتاب اعتنيت بأن يكون شاملا دقيقاً يضم كليات الأحكام وجزئياتها بشكل يقدم مضمون الكتاب في هيئة معجمية تيسر الاطلاع عليه.. فجاء هذا الفهرست في (ست وستين) صفحة..
ثم فهرست للأبواب، ثم فهرست للمراجع رتبته حسب العلوم والفنون.
هذا جهد المقل، وطاقة باحث مزجى البضاعة، شغوف بالعلم والتعلم، فما كان فيه منصواب فمن الله، له الفضل أولا وآخراً، وله الحمد ابتداء واختتاماً، وما كان فيه من خطأ وتقصير فمني ومن الشيطان، واستغفر الله منه، وأسأله ألا يحرمني من إحدى المنزلتين، منزلة الأجر أو منزلة الأجرين.(19/159)
عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
(رواه مسلم)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمَام". متفق عليه(19/160)
نداء لمساعدة المجاهدين الأفغان
لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،.
لا يخفى عليكم ما جرى والآن في أفغانستان البلاد المسلمة من اعتداء روسيا الشيوعية عليها واحتلالها وتقتيل المسلمين وتشريدهم من ديارهم ومحاولة الشيوعية على الإسلام والمسلمين في أفغانستان البلد المسلم ومع هذا فهم جادون في الدفاع عن دينهم ثم عن أنفسهم وأعراضهم وبلادهم أمام هذه الحملة الكبيرة الكافرة الظالمة وهم في أشد الحاجة بل الضرورة إلى مساعدتهم من إخوانهم المسلمين لأن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وإنه يؤلمنا ما يؤلم إخواننا ويسرنا ما يسرهم وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على وجوب جهاد أعداء الله بالنفس والمال ولا سيما إذا هجموا على شيء من بلاد المسلمين وأن المسلمين متى تركوا ذلك أثموا جميعا ومن المعلوم أن الخطر الشيوعي يهدد كل دول الإسلام وإننا معرضون لهجمات الشيوعية الحاقدة على الأديان ولقد جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يكفي ويشفي في فضل الجهاد والحض عليه فمن ذلك قوله تعالى: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .(19/161)
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
والآيات في فضل الجهاد كثيرة ومما جاء في السنة النبوية المطهرة في ذلك ما رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"قيل ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل ثم ماذا قال: "حج مبرور". متفق عليه.
وما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال "الجهاد في سبيل الله". متفق عليه.(19/162)
وما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"قال: ثم من قال "مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله، ويدع الناس من شره". متفق عليه والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ويجب الجهاد على الأعيان في ثلاثة مواضع أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، لقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأََدْبَارَ} .
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم، كما هو الواقع في أفغانستان ويجب على إخوانهم المسلمين في كل مكان دعمهم ومساعدتهم لعموم قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.(19/163)
ثالثا: إذا استنفره من له استنفاره، تعين عليه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ..} الآية. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا" متفق عليه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأسراهم، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله ويدعوا المسلمين إلى ما كان عليه سلفهم الصالح من الصدق وحسن الأخلاق. فإن هذا من أعظم أصول الإسلام وقواعد الإيمان التي بعث الله بها رسله وأنزل بها كتبه وأمر عباده عموما بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف كما قال الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وأخبر سبحانه بأنه أرسل جميع الرسل بدين الإسلام كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} ". انتهى كلام شيخ الإسلام.(19/164)
فيا أيها المسلمون في كل مكان علينا جميعا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على ما من به علينا من النعم الظاهرة والباطنة وأن نمد يد المعونة والمساعدة لإخواننا المسلمين الأفغانيين الذين يعانون من أعداء الإسلام التقتيل والتشريد والتيتيم والتشتيت في العراء والصحراء في البرد والجوع فالواجب على المسلمين جميعا أن يبذلوا لهم ما يعينهم على جهاد أعداء الإسلام ويمكنهم من أسباب النصر عليهم كل حسب استطاعته لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزى ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى" والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والنفقة فيه كثيرة. ولا مانع من صرف الزكاة لهم لأنهم من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والمجاهدون هم المقصودون بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا بأس بتعجيلها وإخراجها لهم قبل وقتها أي قبل أن يحول عليها الحول ويشرع للجميع الدعاء لهم بالنصر والتأييد على أعداء الإسلام لأن الدعاء من أفضل القربات مع بذل جميع الأسباب الممكنة في جهاد الأعداء وإعانة المجاهدين ومن أعظم الأسباب التوبة إلى الله سبحانه من جميع الذنوب والاستقامة على أداء فرائضه وترك محارمه لأن المعاصي من أعظم أسباب الخذلان وتسليط الأعداء كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ(19/165)
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ويصلح قادتهم وأن يمن على الجميع بالتوبة النصوح وأن ينصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان وفي كل مكان وأن يجمع كلمتهم على الحق وأن يذل أعداء الإسلام ويشتت شملهم ويفرق جمعهم ويجعل تدميرهم في تدبيرهم وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية(19/166)
ماذا تعرف عن أورومو! ؟
لفضيلة الشيخ/ محمد أمان بن علي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية.
من المعروف تاريخيا أن سكان (قرن) أفريقيا يتكون من عنصرين اثنين:
1- العنصر السامي: كالأمهري والتجراي. وهذان العنصران يقال أنهما نزحا من الجزيرة العربية.
2- العنصر الحامي: الأصيل في المنطقة, وهذا العنصر يشكل مجموعة أوروميا والصومال وعفر ... وغيرهم.
وشعب أورومو يعتبر من أكبر هذه المجموعة من حيث عددهم، ورقعة مساحة أراضيهم، إذ يحد أراضي (أوروميا) شرقا صحراء أو جادين التي يطلق عليها الصومال الغربي حاليا، ويحدها من الغرب السودان، ومن الشمال تجراي وأريتريا وعفار، ومن الجنوب كينيا، وتتكون أراضي أوروميا من هضبات وسهول يتخلل تلك الهضبات العالية وديان سحيقة أو نهار سريعة الجريان التي تحمل كميات ضخمة من الطمي. وأراضي أوروميا تعد من أخصب أراضي قارة أفريقيا، تعيش على محصولها الزراعي بعض الدول المجاورة لها.
علاقة الأوروميين بالجزيرة العربية:
وللأوروميين علاقة تجارية وسياسية قديمة مع الجزيرة العربية وقد انتشر الإسلام في قرن أفريقيا على أيدي تجار العرب ولا سيما الجنوبيين منهم، إذ حملوا إلى سكانه الإسلام مع تجارتهم وقد هاجر عدد كبير من تجار العرب إلى المنطقة، وخالطوا سكان المنطقة أثروا فيهم بكثير من عاداتهم وتقاليدهم.
والجدير بالذكر أن المذهب الفقهي الذي يتمذهب به أولئك التجار هو المنتشر في المنطقة إلى يوم الناس هذا، وهو مذهب الإمام الشافعي (محمد بن إدريس القرشي) .(19/167)
ومما يذكر بهذه المناسبة أنه يقال إن الملك النجاشي تربى في صباه في الجزيرة العربية حتى أجاد اللغة العربية لذا لم يحتج إلى ترجمان يترجم له كلام رئيس الوفد الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (جعفر بن أبى طالب) رضي الله عنه في أثناء المحادثة التي جرت بينهما، كما لم يحتج إلى الترجمة فيما تلاه عليه جعفر من القرآن الكريم من سورة مريم في أثناء الحوار الذي دار بينهما في شأن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وفي شأن مريم عليها السلام والله أعلم.
أين كان مقر النجاشي؟ وأين دفن؟
إن أصحمة كان ملكا على الحبشة عند مبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكان مفهوم أرض الحبشة قديما أوسع مما عليه الآن، بل قد تتناول بعضا أراضي بعض الدول المجاورة في الوقت الحاضر. ومع ذلك كان مقر النجاشي في شمال أراضي أوروميا، بل في (تجراي) بالتحديد وقد ذكرت في بعض محاضراتي أن مقره كان في (أريتريا) ، والصحيح ما ذكرناه هنا، وهو آخر المعلومات. وقد أخبرني شاهد عيان أن قبره معروف في (تجراي) ، وإن كان القطران تجراي وأريتريا متجاورين كأنهما بلد واحد. وأما ما يقوله بعض الناس من أن مقره كان في شرق أراضي أورومو أو في بلد الصومال فخطأ فاحش، ويعد ذلك محاولة لتغيير حقائق تاريخية معروفة لدى العامة والخاصة.
أعود فأقول بعد هذا الاستطراد أن شعب أورومو على اتصال دائم بالجزيرة العربية، ولعل هذا مما ساعدهم على التمسك بدينهم واستماتتهم في سبيل المحافظة عليه. ولكن على الرغم من ضخامة عدده والحزم في تمسكه بدينه وأنه لا يبغي به بديلا، على الرغم من ذلك كله فقد عاش هذا الشعب نحو قرن منعزلا عن العالم ولا سيما العالم العربي والإسلامي، ويرجع سبب ذلك إلى الآتي: قد كان يتنافس في المنطقة عنصران اثنان:
1- العنصر الأمهري الذين يدين في الغالب بالدين المسيحي الذي دخل المنطقة بعد الإسلام بفترة طويلة.(19/168)
2- العنصر الأورومي الذين يدين في أغلبيته بالإسلام. فكل عنصر يحاول السيطرة على الموقف وإظهار دينه، واستعان المسيحيون بأهل ملتهم الأوروميين ليفوزوا في هذا السباق الديني. فبادرت أوروبا فلبت الطلب فدخلت الكنائس التبشيرية المنطقة التبشيرية بكل ثقلها، فأخذت تبشر بالمسيحية وربطت الكنائس الحبشية بالكنيسة الأم بروما حتى تتمكن من محاربة الإسلام بكل ما أوتيت من صلاحيات ونفوذ محلي وعالمي.
هكذا سيطر المسيحيون على الموقف بعد أن وثقوا علاقتهم بأوربا وأمريكا سياسيا واقتصاديا وفكريا، فأنشأوا في قلب أراضي أوروميا إمبراطورية حبشية متوارثة في (أديس أبابا) ، فأخذت الإمبراطورية تسوم المسلمين سوء العذاب، ولم تترك أي نوع من أنواع التعذيب والاضطهاد إلا عرض على المسلمين، انتقاما منهم على تمسكهم بدينهم واعتزازهم بإسلامهم محاولين ردهم عن دينهم، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذي لا يتوقعونه ولا يتوقعه أسيادهم الأوربيون، ولله الحمد والمنة.
ويجدر بالذكر أن كثيراً من المسيحيين والوثنيين يعتنقون الإسلام طوعاً على الرغم مما يعانيه المسلمون من الأوربيين وغيرهم من المضايقة الشديدة. بل قد استطاع المسيحيون دون خجل أو حياء أن يقولوا اعتمادا على سلطانهم ونفوذهم أنه لا يوجد في الحبشة غير الدين المسيحي، وإن وجد أحد يدين بالدين الإسلامي فإنما هو من بعض الغرباء الذين نزحوا من الجزيرة العربية وهم أقلية في المنطقة.
هكذا يذيع صوت الإنجيل بأديس أبابا، كدعاية مضللة يعرف عدم صحتها قائلها قبل سامعها، ولكنه يقول ويذيع لتضليل الرأي العام العالمي.(19/169)
ولقد انخدع كثير من المؤرخين والجغرافيين من المسلمين فضلاً عن الأجانب وسجلوا فيما كتبوا عن الحبشة أن المسلمين في المنطقة أقلية جداً، وأن نسبتهم لا تزيد على 40 أو 50 % بينما أن النسبة الصحيحة أن المسلمين يشكلون 70 أو 75 %. وقد سجلت هذه النسبة في بعض الجهات العالمية الرسمية كرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في بعض اجتماعات المجلس التأسيسي للرابطة.
هذا وقد آن الأوان ليعرف المسلمون في أثيوبيا على حقيقتهم من جميع النواحي على يد: (جبهة تحرير أورومو الإسلامية) التي أخذت تظهر على شاشة المسرح السياسي علناً بعد أن عملت سراً فترة غير قصيرة.
وقد كتبت جريدة المدينة المنورة نبأ يتعلق بهذه الجبهة في عددها الصادر في أول هذا الشهر الجاري جمادى الأولى 1400 هـ نقلاً عن جريدة إنجليزية (ايكونومست) نبذة عن نشاط هذه الجبهة لتلقي ضوءا على بعض الجوانب يكفي للفت نظر القراء للبحث عن الحقيقة إن شاء الله.
ما قاله المؤرخون عن شعب الأورومو؟
وقد وصف الأوروميين بعض المؤرخين بالبسالة والشجاعة:
فيقول الدكتور محمد صبري (مؤرخ مصري) في كتابه (إفريقيا الشرقية) ص 129:
"إن الأوروميين يمتازون عن غيرهم بالبسالة والشجاعة والإقدام، ولذلك تتألف منهم خيرة الجنود، وهم من أنشط العناصر الموجودة في شرق إفريقيا في الحرب"، كما وصفهم في الكتاب نفسه "بأن الأوروميين من أكثر الأجناس الأفريقية بهاء وروعة".(19/170)
وقد رآهم المبشر (كرايف) فأعجب بطلعتهم الحربية الفذة وطول قامتهم، وهم أذكياء يقيمون في المناطق الخصبة، ولهم منها مراع نضرة وأنعام كالهياكل (أي في الضخامة) وهم قوم ذو شجاعة وإقدام، يقيمون في الأماكن الوعرة في أعالي الجبال للبطش بأعدائهم. ومما أجمع عليه المؤرخون الأجانب أن الأوروميين استطاعوا أن يحافظوا على عاداتهم وتراثهم القومي واستقلالهم عدة قرون حتى جاءت الموجات المتتالية من الاستعمار وخاصة الأحباش متعاونين مع أسيادهم الأوربيين فأخضعوهم لسلطانهم. ويقول بعض المؤرخين: "كان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وعند ذلك بدءوا المقاومة مع الغزاة الأجانب".
سكان أوروميا
يتراوح عدد سكان (أوروميا) ما بين 18- 20 مليون نسمة، ويمثل نسبة 65- 70% من سكان أثيوبيا الحالية. ونسبة المسلمين من سكان أوروميا 75%، ونسبة المسيحيببن 20%، والباقون وثنيون.
نظام التعليم عندهم:(19/171)
اضطر المسلمون في الحبشة ولا سيما الريفيون منهم إلى مقاطعة المدارس الحكومية التبشيرية لما يلاحظون من أن مدارسهم تحرص على التضليل وتشويه الإسلام والنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من حرصها على التعليم والتثقيف، إذ قد يدرسون في مناهجهم بعض الكفريات التي لا يفطن لها صغار الطلبة حتى ينشأ الطلبة على تصور الإسلام تصورا خاطئا، فيظنون أنه هو السبب في تأخير المسلمين وسيطرة المسيحيين عليهم، مع قلة عدد المسيحيين وكثرة عدد المسلمين. وهي شبهة جد خطيرة كما ترى. ولست بحاجة لأجيب على هذه الشبهة على خطورتها لأن المسلمين في إثيوبيا وغيرها جعلوا يدركون أن السبب تأخرهم وتسلط أعدائهم عليهم هو بعدهم عن دينهم الحق وتصورهم الخاطئ لمفهوم الإسلام حتى ظنوا أنه صلاة وصوم وحج وزكاة فحسب ولا شأن له في السياسة والإدارة وسائر مجالات الحياة، وكأن هذه السحابة أخذت تنفشع شيئا فشيئا ليتصور المسلم أن الإسلام دين ودولة، وعقيدة وسياسة وإدارة.
البديل:
لما تأكد المسلمون من أن المدارس الإثيوبية عبارة عن دور تبشير فقرروا مقاطعتها كما أسلفنا، لم يجدوا بديلا إلا مساجدهم الأهلية التي ينشئونها على حسابهم فاتخذوها مدارس لأولادهم على نظام الحلق المعروفة لدى المسلمين الأولين قبل نظام التعليم الحديث. وإذا أراد طالب التوسع: للإطلاع على بعض المواد التي لا تدرس في تلك المساجد، هاجر إلى حيث الأزهر بالقاهرة، أو إلى السودان، أو إلى الجزيرة العربية مقر الحرمين الشريفين. هذه نبذة عن نظام التعليم في أوروميا.
ولقد حافظوا بهذا النظام على دينهم وعقيدتهم ولغة دينهم اللغة العربية، فطلاب العلم الأوروميون الموجودون في الجامعة الإسلامية حاليا والذين تخرجوا فيها وغيرهم كالدارسين في جامعة الأزهر وغيرها كلهم تخرجوا على هذا النظام المذكور، وبالله التوفيق.
بعض نظام حياتهم:(19/172)
كما قاطع الأوروميون المدارس الإثيوبية للأسباب التي سبق ذكرها، استطاع الأوروميون الريفيون مقاطعة المحاكم الإثيوبية، فلا يتقدمون لها بأي دعوى في قضاياهم، فاصطلحوا أن يعالجوا مشكلاتهم بالتفاوض فيما بينهم حتى تنتهي المفاوضة إلى الصلح، (والصلح خير) .
وبالنسبة لجريمة القتل اصطلحوا على أن أولياء الدم لا يطالبون بالقصاص، بل يتنازلون إلى الدية والدية تتحملها قبيلة القاتل، لأن إقامة حد القصاص فيه لفت الدولة كما لا يخفى، إلا أن المصلحة تقتضي حل مشكلتهم بالصلح على الدية كما قلنا.
ولهم نظم كثيرة خاصة استغنوا بها عن القانون المتبع عند الأحباش، وبعض تلك القوانين خاضع للدراسة حتى يرى هل يوافق الشريعة الإسلامية أو فيها نوع من المخالفة للشريعة!!
وبعد:
وفي ختام هذه النبذة التاريخية لابد من الإجابة على هذه الاستفسارات التي تفرض نفسها بهذه المناسبة:
1 - من رئيس جبهة تحرير الأورومو؟
2- أين توجد قيادتها حاليا؟
3 - ما موقف الدول المجاورة منها؟
للإجابة على هذه الاستفسارات نقول:
ج1 ـ رئيس جبهة الأورومو: هو (عبد الكريم بن إبراهيم حامد) ولقبه الثوري: (جارا أبا ثمدا) وهو من أبناء الأورومو المخلصين من إقليم هرر، وهو معروف ببطولته وشجاعته لدى الخاصة والعامة، بل معروف لدى جيرانه الصوماليين حكومة وشعبا لأنه قد عاش في الصومال عندما كان يسعى لتفجير ثورة مسلحة في أثيوبيا.
وبجانب بطولته وشجاعته وإخلاصه لوطنه، معروف لدى الجميع بالتمسك بتعاليم دينه ظاهرا وباطنا، وكان يلزم جيشه بالتمسك بتعاليم الإسلام، وألا يحصل منهم تعد على الأموال والأعراض في أثناء الحرب مع العدو، وألا يأخذوا شيئا من أموال الشعب بدون إذن أو رضى منهم.(19/173)
وبهذا الموقف الإسلامي ملكَ قلوب الناس، فأصبح كل فرد منهم يعتبر نفسه جنديا من جنود عبد الكريم ولو لم ينضم إليه رسميا في المعارك. هذا هو رئيس الجبهة.
ج 2- أما مقر قيادة الجبهة فهي أراضي أوروميا الواسعة، وليس في الإمكان أن نحدد الآن المقر الرسمي، إلا أننا نستطيع أن نقول: إن الجبهة ولدت في إقليم هرر، ولما قوي ساقها وقامت على رجلها تدرجت إلى الإقاليم، لهذا يعتبر أي شبر من أراضي أوروميا مقراً لقيادة الثورة. كما أن جميع أبناء الأورومو المخلصين يعتبرون جنودا لهذه الجبهة.
ج 3- أما موقف الدول المجاورة كآلاتي:
جمهورية الصومال فهي تعرف من هذه الجبهة ما لا يعرف غيرها.
ولقد حملت إلينا بعض الصحف السعودية في هذا الشهر مرتين أنباء تفيد بأن جمهورية الصومال أعلنت اعترافها بالجبهة. وفي الأيام القليلة المقبلة يتضح الموقف.
وجمهورية السودان موقفها قريب من جمهورية الصومال.
وعن قريب نتحدث عن هذه النقطة إن شاء الله.(19/174)
ملخص لبعض بحوث المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية
الرسالة الإسلامية الأولى في مواجهة الفساد العالمي
بقلم الشيخ/ محمد المجذوب
الإسلام والحضارات:
الحضارة في مفهومنا تركيب من خصائص الذات والقيم والتراث الروحي والتصور الثابت للحياة والإنسان والكون، ينتج سلوكا مميزا، ويلزم نفس الفرد والجماعة التي ينتمي إليها أسلوبا خاصا في ممارسة الحياة على هذه الأرض.
ومن هنا كان الافتراق الفاصل ببين حضارة الإسلام والحضارات الأخرى، إذ كان الطابع الأساسي لحضارتنا كونها ربانية تستوحى الأسلوب والسلوك من منطلق العقيدة المتمثلة في الإيمان بوحدانية الله، وتفرده بالسلطان المطلق على كل شيء. وبأنه خلق الكون كله وبكل ما فيه لإبراز جلاله وحكمته وقدرته، ثم ميز الجنس الإنساني- من بين مخلوقاته- برسالات قيمة اصطفى لهذا أفردا منهم يهدون بأمره إلى الحق وإلى صراط مستقيم لا يضل سالكه ولا يشقى.. فمن أسلم منهم وجهه لله والتزم معالمه العاصمة، فهو يتعامل بوحيها مع الحياة والأحياء والأشياء، وبذلك ينشئ الحضارة الربانية التي من شأنها أن تحيل الأرض- بأسرها معبدا لتمجيد الله، وجنة ينعم فيها أبناء آدم بكل الفضائل المحققة لأمنهم- وسعادتهم واطمئنانهم..
وهكذا تكون منجزات المسلم في أي من جوانب الحياة مصورة لعقيدته الحاكمة لتصرفاته فلا يأخذ ولا يدع.
ولا يبدع ولا يصنع إلا في نطاق الواجب الذي تحدده، وبهذا تكون مدنيته خيرا لا شر فيها، وعدالة لا ظلم معها، وهديا لأخيه الإنسان لا بغي فيها ولا عدوان.. وبذلك تتميز عن مدنية الآخرين الذين اختلت عقيدتهم، فاختلت نظرتهم إلى الحياة والى الأحياء، حتى باتت المنفعة العابرة هي المتحكمة في تصرفاتهم، فكانت حضارتهم في النهاية ذلك التراكم الهائل من التناقضات المنافية بمجموعها لصالح الجماعة البشرية.(19/175)
الغزو الذي زلزل معاييرنا:
ولكن هذا التوازن الفكري والتصوري الذي ضبط مسار الحضارة الإسلامية منذ انطلاقتها الأولى، قد شرع يهتز بتأثير الاحتكاك.. الذي نشأ عن حركة الفتح، التي حملت إلى الوسط الإسلامي مواريث الأمم التي صنعتها الأهواء والانحرافات؛ وقد تجلى ذلك على أشده في ظهور الفرق المتعددة المتعارضة، وتركز أثره الثقافي في أفكار المعتزلة التي أبت البقاء على طريق الوحي المصفى، وأخضعت مفهوماتها العقدية إلى توجيهات الفلسفة الإغريقية التي كادت تزلزل أساس التصور الإسلامي لولا صمود الكبار من أولي العزم بوجهها.
على أن هذا الصراع بين العقيدة الإسلامية والأفكار الغريبة، قد سجل أكبر أحداثه في عهدنا الراهن.. إذ استطاعت مناهج الغرب أن تستحوذ على فريق من أبناء العالم الإسلامي على امتداده فتقطع صلته بتراثه الروحي إلى حد بعيد.
وعن طريق هؤلاء بدأنا نواجه ألوانا جديدة من الهجوم الشرس على معاقل الإسلام..وعلى أيديهم شرعت المعايير تضطرب في تحديد مفهوم الحضارة، إذ يريدون من المسلمين بحق السيطرة على وسائل التعليم والإعلام أن يعتقدوا أن حضارة الغرب بكل ما تنطوي عليه من عناصر الفساد هي الحضارة، وكل ما عداها فخطأ لا مسوغ لبقائه ...(19/176)
ولقد حقق هذا الهجوم أهم انتصاراته في داخل بيت المسلم، حيث ركز أصحابه على تحويل الحياة عن طريق تحويل المرأة المسلمة، فاستطاعوا عن طريق الكتاب المدرسي، والمدرس الموجه، والصحف الملونة المغوية والأشرطة الأجنبية والمقلدة، وعن طريق كل ما ابتكرته التكنولوجية الحديثة من وسائل الإغراء الإعلامي، استطاعوا أن يشككوا الفتاة المسلمة بكل فضائل الماضي، ويوقعوا في خلدها أن الحشمة الإسلامية ليست سوى القيد الذي يحول بينها وبين حقوقها الإنسانية.. وبذلك أصبح البيت الذي احتفظ بسلامته طوال الحقب إذ ظل مركز القيم الحية، ومنطلق المدد المجدد لطاقة الصمود أمام الأحداث، أصبح هذا البيت مع شديد الأسف على وشك أن يتخلى عن رسالته في تثبيت الأخلاق الإسلامية ومميزاتها العاصمة من الذوبان والانحلال.. ولا جرم أن هذا الوضع يمثل ذروة الكارثة في تاريخ الإسلام، وإذا لم تتجه الطاقات الإسلامية الواعية لمقاومته بكل ما تملك من القوة والحكمة، فستكون كل محاولة لوقف التدهور، ولتثبيت القيم الحضارية الإسلامية ضربا من العبث والجهد المهدور..
ألا إن نصر الله قريب:
ولكن من معجزات هذا الإسلام العظيم أنه مهما تكاثفت الأرزاء عليه لا ينفك محتفظا بحجته التي لا تدفع ونظرة ثاقبة إلى الوقائع الراهنة تؤكد أن ثمة طائفة من شباب الإسلام تمثل واحة الضوء في ظلمات التيه، الذي تتخبط البشرية في وحوله.. ومن عجيب أمرها أنها موجودة في كل قرية وحاضرة وإقليم من ديار الإسلام، وقد أعيت حيل الطواغيت فلم يطفئ نورها كبت، ولم يفل من عزيمتها إرهاب، بل إن الإرهاب والكبت ليضاعفان من تصميمها على إعلاء كلمة الله ...(19/177)
بهذا الطائفة المختارة - من فتيان الإسلام وفتياته - تستعلن دعوة الله، إذ هم ورثة النبوة وشهداء الحق على الخلق، ومجرد حضورهم بإزاء أولئك المضللين من أبناء المسلمين، كاف لإيضاح الفرق بين الحق والباطل، وبين العملة الصحيحة، والنقد المزور..
ومع كل ما تعانيه هذه الطائفة من حملات التضليل والتعريض لألوان التشهير والتعذيب، لا تزداد إلا تألقا وتوهجا وإقداما على الاستشهاد..
إنهم يجدون بسلوكهم الأعلى سيرة السلف الصالح من شباب الإسلام، الذين بايعوا رسول الله على أن يكونوا الصورة المثلى لدينه القيم: أخلاقا وسلوكا وتضحية..فلا يضيرهم أن يحرموا حق العدالة، ويحال بينهم وبين الرزق الحلال، وأن يطرحوا مع اللصوص والقتلة في غياهب السجون..على حين يتمتع المنافقون والمهرجون والرقاصون بكل ألوان الرفاه والاحترام، وإلى هؤلاء الثابتين على خط النبوة تتجه اليوم أنظار المؤمنين أملا بأن يحقق الله بهم ما حقق بأسلافهم من فرج بعد الضيق، والعزة بعد الذلة، وصلاح العباد بعد أن استشرت عوامل الضياع والفساد..
أما كيف..ومتى..؟.. فذلك من أسرار الغيب الموقوفة على علم الله.. وقد علمنا أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن اللجوء إليه وحده بعد اليأس من سائر الأسباب، هو البشير باقتراب النصر الموعود.. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .(19/178)
مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها
دكتور: أكرم ضياء العمري
رئيس قسم الدراسات العليا
لا شك أن المجتمع المدني طرأ عليه تغيير عميق أحدثه انتشار الإسلام فيه، وما أعقب ذلك من هجرة المسلمين من قريش أولا ثم من القبائل العربية الأخرى التي أسلمت، وكانت الهجرة حقا على كل المسلمين الجدد ما دامت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إليهم لتوطيد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون في الداخل ويترصده الأعراب وكفار قريش من الخارج. لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها وفي النهي عن الإقامة بين ظهراني المشركين لما في ذلك من تكيد سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم بل ربما اضطروا للمشاركة معهم في القتال ضد المسلمين.(19/179)
لقد أدى تدفق المهاجرين المستمر إلى تنويع سكان المدينة وازديادهم بصورة كبيرة تحتاج إلى تنظيم جديد لمشاكل القوت والسكن والأمن، وقد تحمل الأنصار عبئا كبيرا تمكنوا من النهوض به لقوة عقيدتهم ورحابة صدرهم وحسن خلقهم وجودة أيديهم وهكذا سدوا خلة المهاجرين الذين تركوا أموالهم بمكة التي تحتاجها التجارة في المدينة فضلا عن عدم مهارتهم بالزراعة والصناعة المنتشرتين في المجتمع المدني، ولمواجهة هذه المشاكل عقد النبي صلى الله عليه وسلم نظام المؤاخاة في السنة الأولى للهجرة وقد ترتبت عليه حقوق خاصة بين المتآخين كالمواساة التي تشتمل كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة، كما ترتب عليه أن يتوارث المتآخيان دون أرحامهم، فلما زالت دواعي استحداث هذا التوارث رجع به إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة على أساس صلة الرحم وبقي من المؤاخاة النصر والرفادة والنصية، ورغم قوة الروابط القبلية فإن الإسلام كان أقوى منها مضهر المسلمين من القبائل المختلفة في بوتقة العقيدة، وقضى على العصبية القبلية، وحصر الأخوة والموالاة بين المؤمنين وحدهم.
ووضع مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفة ومصالح العقيدة والتزاماتها من حب لله ورسوله والجهاد في سبيله في كفة أخرى محذرا المسلم من تغليب الأولى على الأخرى.
فكان المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام مجتمعا عقيديا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو مفتوح أمام من يريد الانتماء إليه أيا كان لونه أو جنسه إذا انخلع من صفاته الجاهلية واكتسب الشخصية الإسلامية.(19/180)
وقد تكفلت تعاليم الإسلام بإشاعة الحب وتدعيمه في المجتمع فتعاون الأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء في بناء المجتمع والدولة بروح المساواة والعدل والتعاون بعيدا عن الصراع الطبقي والاستغلال الاقتصادي والأغلال الاجتماعية ولو قدر للمجتمع الإسلامي أن يستمر في تقدمه العلمي والحضاري ويمسك بزمام البشرية اليوم لظهرت مزايا الإسلام في بناء مجتمع متراص على أساس الحب والتكافل وليس الحقد والصراع الذي ليس وراءه إلا الدمار لقد وقف أغنياء المسلمين (عثمان وطلحة وسعد والآخرون) وفقراؤهم (أهل الصفة) صفا واحد لدعم رسالة الإسلام وقد حددت العلاقات بين الجميع في نصوص مكتوبة تحدد الحقوق والواجبات وتعلن مبادئ الأمن والحرية الدينية والتعايش السلمي والمساواة أمام الشرع والمسؤولية الجماعية.
وهكذا فإن النقلة التي أحدثها الإسلام في المجتمع المدينة أولا ثم المجتمع الإسلامي في أرجاء الدولة الإسلامية الأولى كانت عميقة وشاملة شملت العقيدة والفكر والنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والسلوك الفردي اليومي لما تميز به الإسلام من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغته {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} .(19/181)
حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر
لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه..
أما بعد: فإن الحادثة النكراء والجريمة الشنعاء التي قام بها جماعة من المسلحين بعد صلاة الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 1/1/1400 هجرية باقتحامهم المسجد الحرام وإطلاقهم النار بين الطائفين والقائمين والركع السجود في بيت الله الحرام أقدس بقعة وآمنها قد أقضت مضاجع العالم الإسلامي وألهبت مشاعره وقابلها بالاستنكار الشديد وما ذاك إلا لأنها عدوان على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا وانتهاك لحرماته وحرمات البلد الأمين والشهر الحرام وترويع للمسلمين واشعال لنار الفتنة وخروج على ولي أمر البلاد بغير حق.(19/182)
ولاشك أن هذا الإجرام يعتبر من الإلحاد في حرم الله الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ويعتبر ترويعا وإيذاء لهم وعدوانا وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} وقال عز وجل: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} يضاف إلى ذلك حملهم السلاح وإطلاقهم النار على رجال الأمن الذين أرادوا إطفاء فتنتهم وحماية المسلمين من شرهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا".. ونهى عن حمل السلاح في الحرم وقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا البلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يسفك فيه دم ولا يعضد فيه شجرة".. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: "إن هذا البلد لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي ولا يحل لأحد من بعدي وإنما أحل لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب".. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد تعدى شر هذه الفتنة وضررها إلى كثير من الحجاج وغيرهم، يضاف إلى ذلك إغلاقهم أبواب المسجد الحرام ومنعهم بذلك الداخلين والخارجين، وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وبالجملة فقد حصل بهذه الحادثة الشنيعة ظلم كثير وفساد عظيم وبلاء كبير ول نعلم أنه مر بالمسجد الحرام مثل هذه الحادثة لا في الجاهلية ولا في الإسلام.(19/183)
أما تبريرهم لظلمهم وعدوانهم وفسادهم الكبير بأنهم أرادوا إعلان البيعة لمن زعموه المهدي فهذا تبرير فاسد وخطأ ظاهر وزعم لا دليل عليه، ولا يجوز أن يستحلوا به حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين الموجودين فيه، ولا يبيح لهم حمل السلاح وإطلاق النار على رجال الأمن ولا غيرهم، لأن المهدي المنتظر من الأمور الغيبية التي لا يجوز لمسلم أن يجزم بأن فلان بن فلان هو المهدي المنتظر لأن ذلك قول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، ودعوى لأمر قد استأثر الله به حتى تتوافر العلامات والأمارات التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها وصف المهدي وأهمها وأوضحها أن تستقيم ولايته على الشريعة وأن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا مع توافر العلامات الأخرى وهي كونه من بيت النبي صلى الله عليه وسلم.. وكونه أجلى الجبهة أقنى الأنف وكون اسمه واسم أبيه يوافق اسم النبي صلى الله عليعه وسلم واسم أبيه وبعد توافر هذه الأمور كلها يمكن المسلم أن يقول أن من هذه صفته هو المهدي..(19/184)
أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم، والإيمان، لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع االمطهر، لأن الله سبحانه أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئا من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق؟ وكيف يجوز له الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية فيشق عصاها ويفرق جمعها وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان"أخرجه مسلم في صحيحه.
ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بايعهم أن لا ينازعوا الأمر أهله وقال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"، وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هو الخوارج الذي يكفرون المسلمين بالذنوب، ويقاتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية".. وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يو القيامة" متفق عليه.(19/185)
والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة فإن خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية".. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الحارث الأشعري: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجهاد، والسمع والطاعة، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يراجع".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد صدر من عماء المملكة فتوى في هذه الحادثة والقائمين بها وأنا من جملتهم وقد نشرت في الصحف المحلية وأذيعت بواسطة الإذاعة المرئية والمسموعة وفيها الكفاية إن شاء الله والإقناع لطالب الحق، ,إنما أردت بكلمتي هذه مزيد الإيضاح لخطأ هذه الطائفة وظلمها وعدوانها فيما فعلت وغلطها فيمن زعمت أنه المهدي، أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض قسطا كما ملئت جورا قد تواترت تواترا معنويا، وكثرت جدا واستفاضت، كما صرح بذلك جماعة من العلماء بينهم أبو الحسن الآجري السجستاني من علماء القرن الرابع، والعلامة السفاريني، والعلامةالشوكاني، وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، ولكن لا يجوز الجزم بأن فلانا هو المهدي، إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما كما سبق بيان ذلك.. ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق ولاة أمرهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر من كل ما خالفها، وأن يحسن العاقبة للمسلمين إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله لنبينا محمد وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(19/186)
دروس من الفتنة
فضيلة الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة
قضت الحكمة الإلهية أن تكون حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة متصلة الحلقات من المعارك، مع الشيطان وذريته من جانب، ومع غرائزه وشهواته من جانب آخر، ثم مع حاجاته المتجددة أبداَ إلى الضرب في أكناف الأرض. وهو في كل ذلك معرض لأصناف المحن والفتن التي تسلبه الطمأنينة، فلا ينفك فريسة للقلق والروع حتى يجد منفذاً يقربه من السلامة ولو عن طريق الوهم.
ونظرة واعية إلى واقع البشر في هذه الأيام تؤكد لنا هذه الحقيقة، إذ ترينا البسيطة على امتدادها مسرحاً لألوان الأهوال، لا يكاد يسلم من لذعها كائن ولو عاذ بالقمم أو غاص في الخضم.. وليس أسعد للإنسان في مثل هذا الجو الرهيب من أن يعثر على منطقة أمان تهب له فرصة التخلص من قلقه ولو بعد حين.
وعلى ضوء هذا الواقع المشهود ندرك قيمة الهبة العظمى التي خص الله بها هذه البقعة من الأرض. حين أقام فيها بيته العتيق، وجعلها مثابة للناس وأمنا.(19/187)
ولقد شاء الله جلت حكمته أن يستأثر عرب الجزيرة بهذه النعمة منذ قيام هذا البيت المطهر دون سائر أرجاء العالم، فكان لهم كالواحة الخضراء في جديب الصحارى، يأوون إليه كلما أحاط بهم الروع، وضاق عليهم الرحب، فيستروحون في ظله نفحات الأمن الذي عز توافره في غيره. حتى ليلقى الرجل في كنفه قاتل أبيه أو أخيه أو ولده. فلا يفكر في النيل منه، توقيرا لبيت ربه وذكرى أبويه وبانييه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام - بل إن الجاني ليحصَن نفسه من عدوان غرمائه بمجرد اتخاذه قلادة من لحاء الحرم، يطوَّق بها عنقه فلا تمتد إليه يد بما يكره ما دام يحمل أثرا من ذلك الشعار، شعار السلام،.. ومن هنا كان الخروج من هذا المألوف شذوذا عن قيم الفطرة في أوساط أولئك الجاهليين، حتى ليعتبرون مجرد الإقدام عليه ضربا من الفجور المجمع على إنكاره. وهكذا يكون العدوان على حرمة البيت العتيق في عرف أهل الجاهلية، عدوانا على الحياة نفسها لا على الإنسان وحده.
وقد حاول مشركو قريش أن يسوغوا إحجامهم عن قبول الدعوة الإسلامية بالخوف من انقلاب العرب عليهم، ظنا منهم أن تقديس العرب لذلك البيت إنما مرده إلى تقديس قريش لَأْلهتهم المنصوبة عليه {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} فجاء الرد الإلهي على ذلك الزعم تذكيرا بأن الفضل لله وحده في توفير كل هذا الخير لجيران بيت {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا..} (28- 75) .
وما أجل وأروع تلك الصورة التي يتملاها العقل المؤمن في قوله تعالى لهؤلاء المجادلين بالباطل في سورة العنكبوت {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..} .(19/188)
بالخوف من انقلاب العرب عليهم، ظناً منهم أن تقديس العرب لذلك البيت إنما مرده إلى تقديس قريش لآلهتهم المنصوبة عليه {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} فجاء الرد الإلهي على ذلك الزعم تذكيراً بأن الفضل لله وحده في توفير كل هذا الخير لجيران بيته {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا..} 28-57 وما أجمل وأروع تلك الصورة التي يتملاها العقل المؤمن في قوله تعالى لهؤلاء المجادلين بالباطل في سورة العنكبوت {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ!..} .
إنه لمشهد التباين الهائل بين واقع الأرض التي اجتاحتها أعاصير الفتنة حتى لا يفي برسمها إلا صورة الناس كل الناس يتخطفون خلالها، إلى جانب الواحة المحروسة بحدود الله، وقد جعل لكل داخل إليها الحق كل الحق في أن يكون آمنا..
هذه النعمة الكبرى، نعمة الأمن، التي استأثر بها عرب الجاهلية وفقدتها سائر شعوب العالم من قبل، قد أصبحت بعد فجر الإسلام حقا مشاعا لكل بني آدم. تهوي أفئدتهم إلى البيت وتنطلق زحوفهم نحوه من كل حدب وصوب، ليتعارفوا في ظله فيأتلفوا، وليذكروا أسم الله في أيام معدودات ومعلومات على ما رزقهم من أصناف الخيرات. ثم يرجعوا إلى ديارهم كيوم ولدتم أمهاتهم، فرحين مبتهجين بما أكرمهم ربي من زيارة بيته، وبما وفقوا إليه من أداء الشعائر وبذل المبرات، والتطهر من الآثام، فهم- كما وصفه- النبي أشعيا- (مفديو الرب يرجعون بترنم، وفرح أبدى على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد) .(19/189)
هذا الحرم المطهر الذي جعله الله مثابة للناس، يئوبون إليه بين الحين والآخر، ليستمتعوا في ظله بدفء العافية والهدوء، في معزل عن الشقاق والشحناء اللذين يزحمان مسالك الأرض، وأتم نعمته عليه بأن ألزم واردين ومجاوريه موجبات الأمن التي تجدد ما رث من وشائج الأخوة الإنسانية..
هذا الحرم الأمن ... أليس من غرائب المفارقات أن يعدو بعض الناس على حرمته، فيعكروا صفوه، ويخربوا أمنه، فيجنوا بذلك على أنفسهم أول ما يجنون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟!..
أجل.. لقد وجد الشطان خلال التاريخ غير واحد من جنود الباطل يرتضون أن يمتطيهم للإساءة إلى بيت الله، الذي أقامه الله لاستقبال الوافدين إليه من عباده المتقين، فيردهم إلى ما فقدوه من حقيقتهم- ويتجلى عليهم بالنفحات القدسيات التي تفئ عليهم بما سلبوه من هناءتهم!.
ولم يقتصر ذلك على ظلمات الجاهلية، بل تجاوزها إلى تاريخ الإسلام أيضا..
لقد بدا أول عدوان في الجاهلية على كرامة هذا البيت بيد (عمرو بن لحي) يوم رفع فوقه صنمه الذي استورده من بلاد الروم، وما زال حتى أغرى الناس بالاستشفاع به إلى الله ... فكان ذلك مبدأ الزيغ عن ملة إبراهيم، إذ ما لبث الطواغيت المتتابعون على طريقه أن ملئوا شرفات البيت المطهر بهذه الأرجاس، إلى أن شاء الله أن ينكسها فيكنسها بيد خاتم رسل الله محيى ملة إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم..(19/190)
ثم تلا ذلك زحف أبرهة، الذي ركبه الغرور فآلى ليهدمن أول بيت وضعه الله لعباده في مكة مباركا، كي يصرف عنه العرب إلى فليسه التي أقامها هو لهم في دار ملكه. فإذا هو وفيله وكتائبه المغرورة كعصف مأكول.. وتشرق الأرض بنور الإسلام، ويسترد البيت مكانته الإبراهيمية حنيفا خالصا لله وحده. وكان من حقه أن يستمر على هذا الخط الرباني ما دام للإسلام سلطان يحكم مجرى الأحداث وتهفو إليه القلوب.. قلوب أهل الحق.. إلا أن الشيطان الذي أخزاه الله على أيدي الثلة الأولى من تلاميذ النبوة، لم يلبث أن وجد الثغرات في بناء الأجيال التالية. فعشش وباض وفرخ، ثم زين لمبير ثقيف أن يسلط على بيت الله مجانيقه التي صدعت البنية المكرمة، وقد ألقى على لسانه حجته الإبليسية الداحضة، التي تقول بأن هدمه للبيت كان خدمة للإسلام، كي يتمكن من إعادته إلي حجمه الذي عهده الناس أيام رسول الله والراشدين من بعده! وما أحسبه إلا قد علم يقينا أن الصحابي الجليل سليل الصحابة الأجلة عبد الله بن الزبير، لم يتجاوز رغبة نبي الله صلى الله عليه وسلم بتوسعة البيت حتى يشمل حجر إسماعيل عليه السلام، ولكنها الدنيا التي أعماه حبها فلم يفرق بين مرضاة الله وغضبه.. فكان ذلك من الطاغية أول خرق في حرمات البيت يشهده تاريخ الإسلام.
وما هي إلا حقبة قصيرة حتى تلا تلك الهجمة العاتية طغيان صنائع المجوسية من القرامطة، الذين اقتحموا ساحة المسجد عام 317 هـ بقيادة شيطانهم الأكبر سليمان الجنابي- أبو طاهر- ففتكوا بالآلاف من عماره. ما بين طائف وراكع وساجد، وقتلوا الآلاف من أبناء مكة، وسبوا الآلاف من نسائم وذراريهم، ثم عادوا بالحجر الأسود. الذي انتزعوه من الركن الذي أنزله فيه رسول الله، ليجعلوه في بناء مزور دعوا سفهاءهم للطواف به على طريقة أبرهة من قبل..(19/191)
وغير بعيد من ذلك العهد جاء العدوان الثالث- عام 414- على يد مصري غتل من ملاحدة اليهودي بن كلس مؤله الحاكم المجنون.. وبينما الناس في غمرة من الخشوع لجلال الله حول بيته، إذا هو يستل دبوسا من الحديد فيهوى به على الحجر الأسود.. وكانت مؤامرة أريد بها استكمال ما بدأه اللعين أبو طاهر من قبل، ولكن الله سلم. فأحيط بالمجرم ومن معه من الفرسان فقتلوا عن أخرهم.
واليوم.. على مقربة من خاتمة القرن الرابع عشر يروع عالم الإسلام بالفاجعة، التي كادت تعفي على سابقاتها الفواجع.
لقد حدثت الفظائع الأولى في عهود المواصلات البطيئة، فانحصر أثر كل منها في نطاق البيئة المتقاربة، ثم لم تتسرب أنباؤها إلى الأبعاد إلا بعد فوات المناسبة، وعقيب برود الجراح حيث مضت إلى الجماهير عن طريق المسافرين والمؤرخين، ليعيدوا الفكر في ظروفها ودوافعها، ويستخلصوا من دروسها العبر التي لا تنسى.
أما قارعة اليوم فقد اقتحمت قلوب الناس وأسماعهم منذ انفجارها عن طريق البرق والعواكس الفضائية، فكانت كالزلزال الضخم ما كاد ينطلق من مركزه حتى انتشرت رواجعه على امتداد الساحة المتصلة به، تلك الساحة التي تشمل أرجاء العالم الإسلامي كله دون استثناء.. ويا لهول ما غمر ذلك العالم من ذهول وهو يتلقى أنباء الحدث العظيم!..
ولعمر الله ما كان شيء من ذلك الذهول الرهيب بعجيب.. فكيف.. ولم؟.. والنازلة إنما تحل في أقدس أقداس هذا العالم.. في أول بيت وضع للناس، في البقعة التي حرمها الله، فجعلها مأمن الخائف، وأنس الشريد، وملاذ الطريد.. في القبلة التي تشد المسلمين بروابط الوحدة والأخوة صباح مساء.. في المثابة التي يفيئون إليها كلما أدهمت الأحداث، وتعرضت وشائج الأرحام لبوادر الجفاف.(19/192)
وقد ضاعف من وقع النكبة في البيت العتيق ذكريات لم تبرد جذوتها بعد عن مصير أخيه المسجد الأقصى، ومحاولات العدو التي لم تتوقف قط منذ أسبوع العار، لإزالة معالم الإسلام من حوله ومن تحته، ولا سيما أن روائح محاريبه وقبابه المحترقة بنيران الغدر اليهودي ما تزال تملأ صدور المسلمين، فتجدد شعورهم بهول المأساة التي لا تزداد على الأيام إلا تضخما وتفجرا.. وشتان بين جريمة يقترفها بحق المسجد الأقصى أحفاد القرود من سلالات قريظة والنضير وقينقاع، فلا يستغرب صدورها عن قتلة الأنبياء وسدنة الفساد العالمي، وأخرى تحمل كبرها طائفة تزعم أنها وقفت نفسها للدعوة إلى الله. وللذياد عن ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن هنا جاء حجم الجريمة مضاعفا أضعافا كثيرة، إذ كانت حتى الساعة بمثابة القمة بالنسبة إلى سائر أشكال العدوان التي تعرض لها البيت الحرام في الجاهلية وبعد الإسلام.. فوا أسفاه، ووا حسرتاه، ووا حزن أمتاه!..
وبعد.. فمن هم هؤلاء الأشقياء الذين بلغت بهم القحة والتهور والاستهتار بكرامة كل المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها.. إلى حد الإقدام على كل هذه الفجائع، التي تعجز عن ممارستها أمة من الشياطين؟!..
أسفهاء طمس الجهل بصائرهم، فلم يفرقوا بين حلال وحرام، ونور وظلام!؟.. أم هم حملة علم ضل بهم الطريق، فانزلقوا في هاوية (بلعام) الذي آتاه الله آياته، فعجز عن الارتفاع بها إلي الملأ الأعلى، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه!.
إن فيهم لملامح من هؤلاء وأولئك، إلا أنهم سبقوا الفريقين في كبر جنايتهم على أنفسهم بعد جنا يتهم على أمن المؤمنين.(19/193)
أما أنهم السفهاء الذين عميت قلوبهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم.. فذلكَ ما لا يتطلب برهانا ولا دليلا، لأن السفه أبرز معالمهم ... بل إن مجرد تسللهم بالسلاح إلى بيت الله، وإغلاقهم أبوابه بوجوه الوافدين عليه من المصلين والقارئين والمعتمرين إنما هو دليل على أنهم لا يعدون أن يكونوا من المجانين أو المنتحرين.. وكفى بهذا آية تؤكد براءة العلم من تصرفاتهم التي لا يقرها عقل ولا دين..
أجل.. إن قادة هؤلاء السفهة قد مارسوا القراءة من قبل، وحفظوا غير قليل من الكتاب والسنة، وكتبوا بعض رسائل أودعوها خلاصة ما استقر في قلوبهم من الأفكار التي كشفت شذوذهم وانحرافهم عن سواء السبيل، فإذا أبرز سماتهم العناد والغرور، الذي غشى على بصائرهم، فأراهم كل فهم انتهى إليه كبار علماء العصر خطأ بل ضلال لا يستحق بنظرهم سوى الرد والرفض، تماما كما فعل قتلة ذي النورين رضى الله عنه الذين غسل المضللون أدمغتهم، من كل أثر للوعي الإسلامي السليم، وشحنوا قلوبهم بالكراهية للخليفة المظلوم، حتى باتوا كما وصفهم هو بقوله "أراهمني الباطل شيطانا.."فقد نسوا كل سابقة لصاحب رسول الله، وانقلب بنظرهم بإيحاء موجهيهم محض شيطان والعياذ بالله!.
أجل لقد مضى هؤلاء وأولئك من الدهماء وراء مضلليهم، مسلوبي الإرادة والتفكير، أشبه بالضرير الذي أسلم قياده إلى شيطان يتلعب به كما يشاء، فأعادوا بذلك دور أسلافهم من أتباع الفتنة، الذين بلغ بهم الضياع حد استباحة حرم المسلمين وإهدار دمائهم. فإذا وقع في أيديهم أحد من أهل الكتاب لم يمسوه بسوء بل اكتفوا بأسماعه القرآن ثم أبلغوه مأمنه!.. ذلك بأنهم لم يفقهوا من الإسلام إلا ما دسه في أذهانهم طواغيتهم. فهم من أكثر المسلمين ملازمة لكلام الله وحديث رسله..، إلا أنهم من أبعد الناس عن نور العلم الحق، الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام..(19/194)
أنا لا أريد التعرض لدواخلهم، فأحكم على عقائدهم بالسداد أو الفساد. فالمغيب لله وحده، وليس لنا سوى المشاهد من الأعمال.. وهو هنا كاف لإدانتهم بالجريمة، دون أي اعتبار لما في وراءه من ألوان النوايا..
وما أرى حاجة لمحاكمة أفكارهم بشأن المهدي، بعد أن أشبعها علماؤنا بحثا وتدقيقا، فنحن مع أهل العلم في إثبات ظهوره ذات يوم على الوجه الذي حدده الخبر النبوي الصحيح، وهو تحديد بالغ الوضوح بحيث لا يحتمل أي شبهة إلا عند أدعياء المعرفة ممن لا ينظرون أبعد من أنوفهم.. وقد أثبت هؤلاء المغرورون أنهم هم الأدعياء حقا، وإلا فكيف يفسرون دخولهم بالسلاح إلى البيت العتيق؟! وكيف يؤولون إغلاقهم أبوابه دون الناس وهم يقرؤون في كتابه الخالد {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا!!} وبأي تعليل يسوغون تجمعهم على تلك الصورة القتالية، بعد أن فضحوا أنسفهم من خلال خطبهم المسجلة، وهم يوزعون الأوامر على أعوانهم من حملة السلاح ليتخذوا مواقعهم هنا وهنالك على المآذن وفوق السطوح وفي زوايا المسجد ... مما يقطع بأنهم قد خططوا للصدام منذ اللحظة الأولى، على الرغم من إعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن الله قد أباح له مكة ساعة من نهار، ولن تباح لغيره بعد ذلك إلى الأبد ... ويستحيل على معني بخبر المهدي، إلى الحد الذي أوضحوه في رسائلهم، أن يفوته الإطلاع على هذا الحديث المشهور (4) وما يحمله من إنذار خطير لكل من تسول له نفسه العبث بأمن البيت، بل بأمن مكة المكرمة كلها.. فكيف إذا ذكرنا وعيد العزيز الحكيم في شأن بيته الكريم {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (22-25) وقد فهم أولو العلم من ذلك أن مجرد الهمَ بسوء في بيت الله كاف لاستيجاب العذاب الموعود.(19/195)
ثم إني لا أدري لماذا تقفز إلى ذهني، وأنا أفكر في حركة هؤلاء الممرورين صور أسلافهم من الخوارج الذين حبسوا بصائرهم في نطاق الأخطاء التي شاهدوها أو توهموها، فلم يجدوا سبيلا للإصلاح إلا في القضاء على القادة الثلاثة في عواصم الإسلام الثلاث! ... وسرعان ما تتابعوا في هذا المنحدر يفتعلون الأحداث، ويحدثون الفتوق، ويعطلون الطاقات الإسلامية عن مواصلة الجهاد لنشر دين الله وإقامة شريعة اللَه- وهم مصرون على غرورهم بأنهم وحدهم حماة الإسلام، وكل من عداهم فأعداء لله ورسوله ...
وما أكاد أفرغ من هذه المشاهد الموجعة حتى أجداني تلقاء صور متلاحقة من وقائع الرعب المعاصرة التي توشك أن تعم الدول كلها، فتطغي أنباؤها على سائر الحوادث العالمية الأخرى.. إن ثمة جيلا من الشذاذ تباعدت مصادر هوياتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ولكنهم تلاقوا على أمر واحدا هو الكراهية لأوضاع المجتمعات التي يعايشونها، ثم التعبير عن ذلك بالتجرد للعنف، فهم اليوم مصدر بلاء غير محدود على شعوبهم، التي سلبت نعمة الاطمئنان، فهي تتخبط من تصرفاتهم في ظلمات من القتل والخطف والإرهاب، تستثير الشفقة من كل إنسان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن حق هذه المشاهد على تباعد أزمنتها وتباين أغراضها، أن تتداعى في خيال المفكر، لما يربط بينها من وحدة في الخلفيات غير المنظورة. ذلك أن النقمة من الواقع كانت هي الشرارة التي فجرت في أعماق الجميع رغبة التغيير، ثم اختلفت بهم السبل، فسلك كل فريق منهم الاتجاه الأقرب إلى طبيعته ونشأته، مع بقاء الكل أسارى نظرتهم السوداء، إذلم يستطيعوا الارتفاع عن تصورهم المحدود، الذي لا يؤمن بأن في الحياة وسيلة للإصلاح خارج نطاق العنف والكراهية.
إنه الغلو والغرور، الغلو في التشاؤم الذي يضخم به الشيطان حجم المسيئات حتى تحجب عن عيني المتشائم طيف كل حسنة.(19/196)
ثم الغرور الذي أفسد مقاييس أصحابه، فضيق عليهم مجال الرؤية، فلا يبصرون شيئا وراء منظورهم الكالح الكريه.
وإذا كان لإرهابي أوروبة وأمريكة واليابان والصين وما إليها بعض العذر في جنوحهم للجريمة بسبب فقدانهم أنوار الوحي، وتخبط أممهم في أوحال الفجور والطغيان، فأي عذر للمسلم في سلوك متاهات هؤلاء الكافرين، وبين يديه الصراط الذي لا يضل سالكه، وأمامه الدليل الذي لا يبرح يذكره بمسئوليته نحو أولئك الجانحين، وبرسالته التي هي الرحمة المهداة للعالمين! ... بلى ... إنه الغلو والغرور.
وقديما أخرج الغلو أمما من عبادة الله إلى عبادة الحجارة، نحتوها تماثيل لصالحيهم لتذكرهم بفضائلهم كيلا يفارقوها، ثم زين لهم الشيطان اتخاذها آلهة من دون الله ... كما زين للمخدوعين من المتأخرين اتخاذ شيوخهم آلهة، لا يعصون لهم أمرا ولا يخالفون لهم نهيا!
وقبل ذلك كان للغرور سلطانه على نزيل الملائكة، فأخرجه من رحمة الله إلى غضبه، وأخرج به قرونا بعد ذلك كثيرا من جنة الطاعة إلى جحيم المعصية التي أحالت الحياة البشرية مسرحا لصراع لا نهاية له مادام هناك إنسان وشيطان.
ولعمر الحق أن لفحة من هذا الغرور وذلك الغلو قد أصابت بلوثتها بعض ذوى الغيرة من أصحاب (القلوب الطيبة) فراحوا- عقيب الفتنة - يثيرونها شعواء على الجامعات الإسلامية، والسلفية، والملتزمين بالسنة النبوية، حتى سمحوا لأنفسهم بتحميلهم مسئولية الانحراف الذي زين لأصحابه ذلك العدوان الأثيم على حرم الله.- ولو هم رجعوا إلى عقولهم دون عصبيتهم لردوا كل اتهام من ذلك النوع الذميم، ولرددوا مع سلفهم الكريم قول ربهم العليم الحكيم: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ..(19/197)
وبعد ... فإن في كارثة الحرم التي زلزلت ضمائر المسلمين في كل مكان، لدروسا كبيرة جديرة بأن تثير في صدورنا العميق من التأملات، والكثير من التطلعات ... ولعل في رؤوس هذه الدروس تعميق الوعي بحقائق الإسلام، ومزيدا من توثيق الصلة بين المجتمع وهذه الحقائق، حتى تزول كل فجوة بين الدين والواقع ... وسيكون من نتائج ذلك صيانة الطابع الإسلامي للمجتمع من كل منافس دخيل سواء في نطاق الأفكار، أو التعليم، أو الإعلام على اختلاف وسائله.
وشيء آخر هام هو أن نشجع الحوار حول كل مشكلة تواجه الفكر الإسلامي على أساس من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وبذلك نفسح المجال أمام الشباب المتحمس! للتنفيس عن مكنوناته، والاستماع إلى الفهم الآخر، وبهذا وذاك ننقذه من العزلة الفكرية التي تعرضه وتعرض أمته للكثير من المآسي، التي خبرناها خلال التاريخ.
والله وحده المسؤول أن يجنبنا مزالق الغلو والغرور، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه الهادي إلى كل خير والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في المحرم 1400 هـ(19/198)
آية العدد
فضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
معلومات أولية:
هذه الآية الكريمة هي أول آية من سورة الإسراء، ومجموع آي هذه السورة الكريمة مائة وإحدى عشرة آية.. وكما تسمى هذه السورة بالإسراء تسمى أيضاَ بسورة سبحان، وسورة بني إسرائيل لذكر كل من الكلمات الثلاث فيها.. وهى مكية إلا بعض آيات منها، وكان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه يقول فيها وفي سورة الكهف ومريم إنهن من العتاق الأدل ومن تلادي.. يعني أنهن مما نزل في مكة وأنهن من محفوظاته..
والآية لغة: العلامة وجمعها آي، أو آيات.. قال الشاعر العربي:
إلا رواكد جمرهن هباء
بادت وغير آيهن [1] مع البلى
فَبدا وغيب ساره المعزاء
ومشجج أما سوا قذاله
شرح الكلمات في الآية:
{سُبْحَانَ} : اسم مصدر من سبح المضعف نقل إلى العلمية فأصبح علما على تسبيح الله تعالى أي تقديسه وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. وهو أي سبحان اسم جامد، يتصرف ملازم للبناء على الفتح لا يفارقه أبدا.(19/199)
ومعناه: تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من سائر النقائص والعيوب. وهو هنا مفيد مع التنزيه التعجيب من عظيم قدرة الله تعالى. وشرف النبي صلى الله عليه وسلم، القدرة الإلهية التي أسرت بعبد الله في دقائق من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمسافة بينهما مسيرة شهر للراكب، ثم إلى الملكوت الأعلى، وعادت به وإن فراشه ما زال دافنا لم يبرد. والشرف النبوي الذي تم في هذا الإسراء والمعراج حيث رفع الله عبده ورسوله إلى أن بلغ به مستوى وقف دونه جبريل عليه السلام وقال معتذرا حيث تخلى عن صحبة محمد صلى الله عليه وسلم وتركه ليرتفع وحده:
وما منا إلا له مقام معلوم.. وارتفع رسول الله حتى انتهى إلى مقام سمع فيه صرير الأقلام وشرفه ربه بالمناجاة والكلام.
أسرى: أسرى فعل ماض وفاعله الله عز وجل ومعناه: السير ليلا ومثله تسرى وهما بمعنى واحد، وأن الإسراء يكون أول الليل، والسري بالضم ما كان أخره. وقد جمع الفعلين الشاعر في قوله:
حي النظيرة ربت الخدر
أسرت إلي ولم تكن تسري
وأسرى به، كسرى به أي سار به ليلا. والأول مصدره الإسراء، والثاني السري والسريان بالتحريك.
{بِعَبْدِهِ} :الباء للمصاحبة، والعبد لغة المملوك الذي عبدته الطاعة لسيده وذللته وهو هنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير عائد على الإسراء وهو الحق تبارك وتعالى. واختير لقب العبودية هنا عن لقب النبوة والرسالة.. وهما شرفان: لأمرين:
أحدهما: حتى لا تضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم به كما ضلت النصارى بعيسى بن مريم بسبب الغلو في الرفعة والكمال حتى يؤله غير الله تعالى ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله ... ".(19/200)
وثانيهم: أن لقب العبودية الخاصة أشرف من لقب النبوة والرسالة وذلك أن اتخاذ الرب المرء عبدا له خاصا به يتشرف بطاعته والقرب منه وبمناجاته وموالاته ومحبته أفضل من أنباء الرب للإنسان بأخبار، أو إرساله برسالة، وقد لاحظ هذا المعنى الشاعر العربي الذي نزل القرآن بلغته في قوله:
يا قوم قلبي عند زهراء
يعرفه السامع والرائي
فإنه أشرف أسمائي
لا تدعني إلا بيا عبدها
{لَيْلاً} : الليل معروف وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وضده النهار، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.. وذكره مع الإسراء من باب التوكيد، كقول من قال جئت أمس نهارا أو أتيت البارحة ليلا، لأن الإسراء والسريان لا يكون إلا ليلا، وتنكيره لتقليل الفترة الزمانية التي كانت فيه، إذ أخبرت أم هاني بنت أبي طالب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نائما في بيتها ليلة الإسراء. أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم فارق فراشه وعاد إليه وهو دافئ لم يبرد بعد..
{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : من ابتدائية إذ بداية السري كانت من المسجد الحرام، وذلك أن الملك لما أخذه من بيت أم هانيء ذهب به إلى المسجد الحرام فأجرى له عملية شق الصدر وغسله بماء زمزم، ثم حشو صدره بالإيمان والحكمة أعدادا له للرحلة إلى الملكوت الأعلى.
والمسجد الحرام هو المكان الذي كان حول الكعبة الشريفة كالمطاف اليوم. إذ لم يكن المسجد الحرام مبنيا كما هو عليه اليوم. وسمي بالمسجد لسجود المصلين به..ووصف بالحرام لأنه بالحرم، وكل ما كان داخل الحرم وصف بلفظ الحرام كقولهم المشعر الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام.
وهو أقدم المساجد على الإطلاق ودونه المسجد الأقصى، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة وما حرمت مكة ولا شرفت إلا به، فهو كالبدر ومكة كالهالة له، والبدر أشرف من هالته.(19/201)
{إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} : إلى غائية، إذ انتهاء الإسراء كان إلى المسجد الأقصى، ومن ثم ابتدئ المعراج إلى الملكوت الأعلى.
والمسجد الأقصى هو مسجد بيت المقدس ووصف بلفظ الأقصى بمعنى الأبعد لبعده عن المسجد الحرام. واسم التفضيل (الأقصى) مشعر بوجود مفضل عنه وهو القصى. فما هو المسجد القصى بمعنى البعيد..إنه المسجد النبوي الشريف غير أنه عند حدوث هذا الحادث الجلل ونزول هذه الآية الكريمة لم يكن موجودا إذ لم يبن إلا أيام هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، غير أنه في علم الله تعالى حاصل وموجود فلذا أومأ إليه بلفظ الأقصى إشارة إلى وجود مسجد قصي دونه. ومن هنا ذكرت المساجد المفضلة الثلاثة في هذه الآية المكية، الأول والأخير بالنص، والثاني الوسط بالإيماء والإشارة، وفي الحديث الصحيح:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد..المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".
{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : المباركة في الشيء إكثار الخير فيه وإدامته له.. وفاعل هذا هو الله تبارك وتعالى، وحول الشيء ما أحاط به من الأماكن القريبة منه والبعيدة.. والمراد به هنا أرض فلسطين والشام إذ بارك الله تعالى في تلك البلاد دينا ودنيا، إذ هي مجتمع الأنبياء، ومحشر الناس- وأرض الزروع والثمار والأنهار زادها الله بركة وطهرها من عداة أوليائه وكفرة نعمه.
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} : اللام لام التعليل: إذ علة الإسراء وغايته أن يطلع الله رسوله على الملكوت الأعلى وما فيه من عجائب الخلق، ومظاهر العلم والقدرة الإلهية.
و (من) تبعضية إذ الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات الله بعض ما له تعالى من الآيات فقط، وليس كل الآيات، وهذا معلوم بالضرورة.(19/202)
والآيات: جمع آية، وهي العلامة الدالة على وجود الشيء أوعدمه، وهي هنا مظاهر العلم والقدرة الإلهية المتجلية في خلق الله العظيم وصنعه البديع الحكيم من السموات والملائكة والأنبياء، والجنة والنار وما في الأولى من النعيم المقيم، والثانية من العذاب الجحيم، إذ كل ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة التاريخية الفذة التي لم يسبق لها نظير. والتي من حكمها: أن الله تبارك وتعالى قد أطلع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة إلى الملكوت الأعلى على كل غيب كان أخبره به وحيا في القرآن الكريم، فارتقى به من علم اليقين إلى عين اليقين: إذ ما كان غيبا له آمن به ودعا إلى الإيمان به أصبح شهادة له حيث رآه وأبصره وأحس به وباشره بجسمه. فرأى آدم أبا البشر ورأى إخوانه الأنبياء وجرى له معهم أحاديث، وتمت له معهم مقابلات عامة وخاصة، ورأى الجنة حيث بلغ إلى سدرة المنتهى والتي عندها جنة المأوى، ورأى الملائكة وشاهد نعيم الجنان من حور وقصور وعيون، وفوق ذلك كله وأعظمه وأجله مناجاة الله له وكلامه إياه وإدناؤه منه وتقريبه إليه..الله أكبر!..ماذا وهب الله رسول الله!!
وصدق الله العظيم إذ يقول.. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .(19/203)
وقوله تعالى في هذه الآيات: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} إلى آخرها كله في المعراج المحمدي ومن هنا كان هذه اللفظة تقريرا لمعجزة المعراج، والتي أشير إليها في آية سبحان إشارة فقط بكلمة لنريه من آياتنا: إذ الآية نصا صريحا في الإسراء وليس كذلك في المعراج ولكن ما في آية سبحان من إشارة قررتها وأوضحتها آيات النجم، إذ فيها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين مرة بأجياد من مكة والثانية كانت بالملكوت الأعلى عند سدرة المنتهى في جنة المأوى، حيث أراه ربه تعالى من آياته الكبرى ما شرف به على أهل الأرض والسماء، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} :في هذه الجملة التفات من التكلم إلى الغيبة..ونكتته البلاغية تربية المهابة في النفس السامع.
ومعنى هذه الجملة: إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى. وهما صفتان ذاتيتان أزليتان. بهما يسمع كل صوت، ويبصر كل ذات وصفة الحصر الناجمة عن ضمير الفصل، وتعريف المسند بالألف واللام دالة على أن صفات الخالق عز وجل الذاتية أو الفعلية صفات تخصه لا يشاركه فيها غيره، ولا يشبهه فيها أحد. وبيان ذلك أن صفات المخلوق كالسمع والبصر والعلم والإرادة والحياة مثلا ليست ذاتية له بل هي موهوبة ككل حياته من خالقه عز وجل، فالإنسان حي بالله وبه يرى ويسمع ويبصر، ولولا ما وهبه اللْه من ذلك ما كان شيئا ولا كان له شيء. إذ خلقه من قبل ولم يك شيئا..
وهذا سر حصر هذه الجملة السمع والبصر في الله ونفيها لهما ضمنا عما سواه.. والغرض الذي سيقت له هذه الجملة الكريمة هو تقرير حادثة الإسراء والمعراج، وأنها تمت على سمع وبصر من الله تعالى على حد قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وفي ذلك من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم والإعلاء من شأنه ما لا يقادر قدره، ولا يدرك مداه.(19/204)
والمعنى العام لهذه الآية التي شرحنا كلماتها للقارئ الكريم ليتأتى له استيعاب معناها كاملا وتفهمه له، على وجه ينتفع به:
هو أن الله تعالى أخبر عن تنزيه نفسه من كل ما لا يليق به، ويتنافى مع جلاله وكماله من سائر العيوب والنقائص. معجبا عباده من قدرته العجيبة حيث أسرى بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى الملكوت الأعلى، وأراه من آياته الكبرى في ذلك الملكوت الأعلى، وأراه من آياته الكبرى في ذلك الملكوت الأعلى الأمر الذي لم يحصل لغيره ولم يتم لأحد سواه. منوها بفضل المسجدين الشريفين: الحرام والأقصى..
معللا لهذه المعجزة الكبرى والآية العظمى- الإسراء والمعراج- مبينا الغرض منها وهو أن يرى رسوله وحبيبه من عظائم صنعه، وعجائب خلقه، وأن يقف به على تلك الغيوب التي أعلمه بها وحيا، أوحاه إليه، وعرفه عليها بإخباره بها فأصبح الإيمان بها يقينا، واليقين فيها عين اليقين إذ ليس الخبر كالعيان، ولا الإنباء كالمشاهدة.
فقرر تعالى بهذه الآية الكريمة، مبادئ الإيمان وحقائقه وهي تفرده تعالى بالربوبية، والألوهية والكمال. وإثبات نبوة محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم دليل وأقوى برهان وتقرير مبدأ المعاد والجزاء في الدار الآخرة بالوقوف برسوله على عالمي الجزاء من دار االسعادة ودار الشقاء.
قال رجل لعبد الله بن مسعود: علمني كلمات جوامع نوافع. فقال: اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وزل مع القرآن حيث زال. ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضاً، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً.
(ابن مسعود)
--------------------------------------------------------------------------------(19/205)
[1] الشاهد في قوله غير آيهن يريد أن الزمان ومروره غير علامات الدار ولم يبق منها إلا رواكد أي أثافي صار الجمر الذي بينهن غبارا ... ووتد قد بدا أعلاه وأما سائره فقد غاب في الأرض. إذا المشجج المضروب على رأسه فشج لذلك. وسواء فذاله يريد أعلاه. وساره هو سائره والمعزاء الأرض الصلبة ذات الحصى.(19/206)
حول الوحي
محاولة لفهم ومدرجة إلى درس
لفضيلة الدكتور/عبد الفتاح إبراهيم سلامة
الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية
أحمد الله العلي العظيم: هو أهل التقوى: وأهل المغفرة..والصلاة وسلاما على إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الكرام الصادقين، أما بعد:
فمن مأثور القول: ما قاله إمام دار الهجرة: مالك بن أنس رضي الله عنه: "إذا أخطأ العالم "لا أدري" فقد أصيبت مقاتله"..
تذكرت هذه المأثورة الأثيرة إلى نفسي، وأنا أقدم هذه الصحائف للنشر حول موضوع (الوحي) - فالموضوع ذو جلال عظيم، وأنَّى لمثلي أن يتصدى.. وتحسست مقاتلي..واتخذت من التسويف مطية..وتعللت بالغد..
ومضت سنوات وهذا الصحائف حبيسة القمطر، وتذكرت كراما حسنوا لي نشرها، واستيقنت أن التسويف أمينة القاعدين، وأن (الغد) يوم العاجزين.
وإذا كان القصور ضريبة بشرية، فليس لي عن قدري من مفر..ولا يزال المرء على مدرجة الطريق، حتى يبلغ حاجة في صدره.. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} (38:الأحزاب..)
وإذا كنت قد تجاوزت قدري، فعذري أن لي انتسابا، وأن الأخذ بالأسباب: ينفع يوم لا تنفع الأنساب، والله من وراء القصد، وهو المستعان، وعليه التكلان..
الوحي في لسان العرب
نجوس معك خلال أمهات كتب اللغة: نستخرج ما في بطونها من دلالات كلمة (الوحي) واستعمالاتها في لغة العرب.
(1) يقول ابن المنظور في لسان العرب [1] : الوحي: الإشارة؛ الكتابة: والرسالة؛ والإلهام؛ والكلام الخفي؛ وكل ما ألقيته إلى غيرك؛ يقال؛ أوحيت؛ ووحي وحيا؛ وأوحى أيضا أي: كتب قال العجاج:
لقدر كان وحاه الواحي
حتى نحاهم جدنا والناحي
(وحاه الواحي: أي كتبه الكاتب)(19/207)
والوحي: المكتوب؛ والكتاب أيضا على ذلك جمعوا فقالوا: وحي مثل حَلْي وحُلِّي، قال لبيد: كما ضمن الوحي سلامها (والسلام: الحجارة؛ أراد: كما تضمن الحجارة وتحفظ ما يكتب عليها) .
وفي حديث الحارث الأعور، قال علقمة: قرأت القرآن في سنتين، فقال الحارث: القرآن هين، الوحي أشد منه، أراد بالقرآن: القراءة: وبالوحي: الكتابة والخط، ويقال وحيت الكتاب وحيا فأنا واح (أي كاتب) ..
وأوحى إليه: بعثه، وأوحى إليه: ألهمه، وفي التنزيل العزيز {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل} 68: النحل، وفيه {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 5: الزلزلة، ومعنى هذا أمرها ووحى لها؛ وفي هذا المعنى قال العجاج:
وشدَها بالراسيات الثبت
وحى لها القرار فاستقرت
(أي أمر الله الأرض بالقرار، وشدها بالجبال الراسيات) وقيل: أراد أوحى، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف؛ ويروى أوحى، ووحى إليه وأوحى: كلمه بكلام يخْفيه من غيره، ووحى إليه وأوحى: أومأ، وفي التنزيل العزيز {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} 11: مريم..، وقال الشاعر:
فأوحت إلينا والأنامل رسلها..
وقال الفراء في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} 11: مريم أي: أشار إليهم، قال: والعرب تقول: أوحى ووحى، وأوعى ووعى، بمعنى واحد، ووحى يحي ووعى يعي..(19/208)
وأوحى الله إلى أنبيائه: قال ابن الأعرابي: أوحى: إذ ابعث برسول ثقة إلى عبد.. واستوحيته: إذا استفهمته، والوحي ما يوحيه الله إلى أنبيائه، قال ابن الأنباري في قولهم: "أنا مؤمن بوحي الله".. سمي وحيا لأن الملك أسره عن الخلق، وخص به النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث إليه.. وقال أبو إسحق: أصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء، والوحي (بفتح الحاء ممدودة) النار، والملك، والسيد من الرجال، والوحي والوحي مثل الوغي: الصوت يكون في الناس.. والوحا الوحا، والوحاء الوحاء، البدار البدار، الإسراع الإسراع.. وموت وحي سريع، الإيحاء البكاء يوحى أباه: يبكيه، والنائحة توحي الميت: تنوح عليه، ومن أمثالهم "من لا يعرف الوحي أحمق"يقال للذي يتواحى دونه بالشيء، أو لتعبير من لا يعرف الوحي، ومن أمثالهم "وحي في حجر"يضرب مثلا لمن يكتم سره، وللشيء الظاهر البين..) اهـ.
هذا ما ذكره ابن منظور [2] وقد أسهب في القول وأسهبنا في النقل عنه ومع ذلك فلم ننقل كل ما قاله، وأنت تجد رحما جامعة بين استعمالات الكلمة المختلفة رغم تباين الدلالات أحيانا.
(2) القاموس المحيط:
أما مجد الدين الفيروز آبادي فيوجز ما أطنب فيه صاحب اللسان إذ يقول: [3] (الوحي: الإشارة؛ والكتابة: والمكتوب؛ والرسالة: والإلهام والكلام الخفي: وكل ما ألقيته إلى غيرك؛ والصوت يكون في الناس وغيرهم: كالوحى، والوحاة والجمع وحي، وأوحى إليه بعثه وألهمه ونفسه وقع فيها خوف.. وأستوحاه: حرَكه ودعاه ليرسله واستفهمه، ووحّاه توحية عجله) اهـ.
(3) المصباح المنير:(19/209)
ويقرب، مما سبق ما ذكره [4] أحمد المقري الفيومي صاحب المصباح وهو "الوحي: الإشارة والرسالة، والكتابة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه وحي كيف كان، قاله ابن فارس- ثم غلب استعمال الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى، ولغة القرآن الفاشية أوحى بلألف.. ووحيت الذبيحة أحيها ذبحتها ذبحا وحيا.. واستوحيت فلانا استصرخته" اهـ.
(4) مختار الصحاح:
ويقول [5] محمد بن أبي بكر الرازي صاحب المختار: "الوحي الكتاب وجمعه وُحىً مثل حلى وحلى، وهو أيضا- الإشارة؛ والكتابة؛ والرسالة؛ والإلهام: والكلام.. الخ".
(5) أساس البلاغة:
والزمخشري وهو المعني بالتفرقة بين الحقيقة والمجاز في استعمالات الألفاظ لم يضف جديدا إلى ما سبق أن ذكرناه حيث يقول [6] : "وأوحى إليه ووحى بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إذا كلفته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه.. الخ".
(6) مفردات الراغب:
وقال الراغب الأصفهاني [7] : "أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: "أمرّ وحي "، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد من التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة.. ومن وحي الإيماء بالجوارح قول الشاعر:
فأثر ذاك الوحي في وجناتها
فأوحى إليها الطرف أني أحبها
هذا بعض ما ورد عن استعمالات كلمة الوحي في كتب اللغة.
والذي نخلص إليه أن كل هذه الدلالات المختلفة لكلمة (الوحى) ذات وشائج دانية تنتهي إلى رحم واحدة هو: الإعلام دون تقييد لهذه الكلمة بوصف معين؛ فالإشارة؛ والكتابة؛ والرسالة؛ والإلهام؛ والكلام في سرعة وخفاء.. كلها وسائل إعلام أو هي: إعلام.
كلمة الوحي واستعمالها في القرآن:
وردت كلمة الوحي واشتقاقاتها في تسعة وسبعين موضعا في القرآن الكريم..(19/210)
ومن أجمع الآيات الكريمة الواردة حول أنواع الوحي الشرعي قول الله سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 51: الشورى.
وسنعرض لهذه الآية الكريمة بالدرس بعد قليل؛ ولكننا الآن بصدد ما نحن فيه على النحو التالي:
(1) الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:(19/211)
تحدثت آيات القرآن الكريم كثيرا عن الوحي إلى رسول الله من ذلك قوله سبحانه {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 162: النساء، وقوله سبحانه {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} 2: يوسف، وقوله سبحانه {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن} 2: الرعد، وقوله سبحانه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا} 122: النحل، وقوله عز من قائل {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} 72: الإسراء، وقوله جل جلاله {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} 86: الإسراء، وقوله جل جلاله {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} 21: فاطر، وقوله عز من قائل {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 7: الشورى، وقوله {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 12: الشورى، وقوله سبحانه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 52: الشورى.. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة مما سنعرض له بالدرس التفصيلي في مواضعه.
(2) الوحي إلى النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:(19/212)
تحدث القرآن الكريم عن الوحي إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك لأن قضية الوحي واحدة، ودين الله واحد في أصوله وغاياته، ورسل الله جميعا أخوة، تتابعوا على طريق ذللوا صعابه، ورفعوا منائر الحق على جنباته، ونهض كل منهم بقيادة جند الله في مواجهة فلول الشيطان في مرحلة من مراحل معركة الحق الدائمة، يقول الله سبحانه في بيان هذه الوحدة الجامعة {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 162- 163 النساء.(19/213)
فهذه الآيات الكريمة تحدثت عن وحدة الوحي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بدعا في الوحي إليه، ولا فيما أوحي إليه، وذكرت عددا من الرسل الأكرمين من أول نوح باعتباره أبا البشر الثاني بعد أدم، وأول أولى العزم من المرسلين، وأول نبي أوحي إليه برسالة من النبيين، وقد كان آدم عليه السلام نبيا مكلما- وبينت الآيات الغاية من الوحي: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 165: النساء.. ويؤكد اعترف الكريم معنى هذه الوحدة الرسالية في قوله سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} 109: يوسف، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 42، 44: النحل، فالله سبحانه يقطع المعذرة وسبيلها على الممترين في أمر الوحي من مشركي قريش وغيرهم، ويسوق لهم الدليل بما سبق من الرسالات، ويأمرهم بسؤال أهل العلم من أهل الكتاب الذين لم يزغ الشيطان قلوبهم، ويتبع الحديث عن إرسال المرسلين- صلوات الله عليهم- بالبينات والزبر بذكر بينة القرآن وإنزال الذكر بيانا للناس كافة، ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 7: الأنبياء.(19/214)
وليستقر في أذهان البشر ويرسخ في أعماقهم أن توحيد الله عز وجل هو ركن الوحي الركين وأساسه المتين، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 63، 66: الزمر.
(3) الوحي الإشاري:
. وتأتى كلمة الوحي بمعنى الإشارة لغة كما تقدم ومثال ذلك ما ورد في قوله سبحانه عن زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} 10، 11: مريم، فهو عليه السلام خرج من المحراب لا يكلم أحدا وهو سوي من كل آفة تمنعه من الكلام، فأومأ إليهم آمرا إياهم بتسبيح الله وقيل كتب لهم [8] وذلك كما ورد في قوله تعالى {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} 41: آل عمران، وفي تفسير هذه الآية الكريمة يقول البيضاوي [9] : "أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء لحق النعمة، وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال".
(4) الوحي إلى بعض الأنبياء قبل النبوة:
وذلك لأن الله تبارك وتعالى يعد أنبياءه لرسالته، فيحفظ لهم فطرتهم حتى يحين الوقت الذي يفيض فيه أنوار وحيه على قلوبهم، فهو سبحانه يرعاهم من حيث لا يشعرون أو من حيث يشعرون حتى يتم رسالته ويبلغ الكتاب أجله.(19/215)
من ذلك ما كان من لطفه سبحانه بيوسف وقد اجتمعت عليه صبيا المحن، وتظاهرت عليه الخطوب فهو ممتحن بأخوة تسعرت نيران الأحقاد في قلوبهم وطغت على جوارحهم فكادوا له كيدا لئيما وكان أمرهم معه كما قال القائل:
على النفس من وقع الحسام المهند
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
ووضعته المؤامرة في غياهب الجب، أبدلته من حنان الأخوة وزلفى المودة، غدر الأولياء، وإنفصام الإخاء، وتركوه بين مخافات مهلكة، وفزع بئيس، وهنا يهبط الفيض وتتنزل السكينة: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 15: يوسف، فلقد كان هذا الوحي قبل نبوته بيقين كما في قوله تعالى بعد ذلك {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 22: يوسف، ولقد نص غير واحد من المفسرين على أن هذا الوحي كان في طفولته، وكادت أن تتفق عبارة ثلاثة منهم على ذلك وهم: الزمخشرى، وأبو السعود، والبيضاوي، أو قل إن دور الأخيرين دور الناقل قال أبو السعود [10] : "وأوحينا إليه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره، وإزالة لوحشته، وإيناسا له، قيل كان ذلك قبل إدراكه، كما أوحي إلى يحيى وعيسى، وقيل كان إذ ذاك مدركا، قال الحسن رضي الله عنه: كان له سبع عشرة سنة [11] . وذهب البيضاوي [12] إلى أن وسيلة الوحي كان جبريل عليه السلام، ونحن لا نقطع كيف كان الوحي إليه في هذه الضائقة، ونقف عند نص القرآن الكريم، وكذلك عيسى عليه السلام أوحي إليه وكلم الناس في المهد صبيا، وكان ذلك قبل أن يؤمر بالنهوض بأعباء الرسالة تكليفا وتشريفا- كما ورد في قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 46: آل عمران، وقوله سبحانه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ(19/216)
فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} 29: 22 مريم.
وكذلك بالنسبة ليحيى عليه السلام فقد ورد في قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} 12: مريم. أي خذ التوراة بجد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} قال الزمخشري [13] : الحكم الحكمة.. وهو الفهم للتوراة، وقيل النبوة لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه"، وقال البيضاوي [14] وقيل النبوة: أحكم الله عقله في صباه واستنبأه"واختار جلال الدين المحلي [15] تفسير "الحكم والنبوة"وقال صبيا: ابن ثلاث سنين وقول الجلال هذا الأخير لا دليل عليه، ولم يشر ابن كثير [16] إلى معنى النبوة في تفسير الآية.
وعلى هذا فيحتمل أن يكون أوحى إليه قبل النبوة صغيرا، وأوحى إليه بالنبوة ذاتها صبيا، والذي نرجحه أن: الحكم غير النبوة لقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} 189:الأنعام، وكذلك في 79:آل عمران، 16: الجاثية.
(5) الوحي إلى أمهات بعض الأنبياء:(19/217)
وقد أوحى الله تبارك وتعالى إلى أمهات بعض أنبيائه لأمور تتعلق بولادة هؤلاء الأنبياء؛ أو بالحفاظ على حياتهم، وسكنا وربطا على قلوب الأمهات، اقرأ معي قول الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 16-19: مريم، واقرأ قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} 45:آل عمران.. فهذه آيات كريمة صريحة في الوحي إلى مريم عليها السلام وفي رسالة جبريل عليه السلام إليها وبشارة الملائكة لها.
أما أم موسى عليه السلام:
فاقرأ معي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 7:القصص؛ فهذه الآية الكريمة التي جمعت لأم موسى أمرين: {أَرْضِعِيهِ} ، و {أَلْقِيهِ} ونهيين: وَ {لا تَخَافِي} ، و {لا تَحْزَنِي} وخبرين وبشارتين: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وبعيد أن يكون هذا كله بغير وحي قولي، وإن مال لهذا البعيد بعض المفسرين يقول ابن كثير [17] "فلما ضاقت به ذرعا ألهمت في سرها؛ وألقي في خلدها؛ ونفث في روعها.." ويقول أبو مسعود [18] عند قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} : بإلهام أو رؤيا" ...(19/218)
أما الزمخشري [19] فيقول: "وأومنت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويملأها غبطة وسرورا..فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في أليم.. "وعبارة البيضاوي [20] هي نفس عبارة أبي السعود وتقرب منها عبارة الجلال المحلي [21] حيث يقول: "وحي إلهام أو منام".
أما القرطبي [22] فيفصل الأقوال في المسألة حيث يقول: "واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى فقالت فرقه: كان قولا في منامها، وقال قتادة: كان إلهاما، وقالت فرقة: كان الملك يمثل لها. قال مقاتل: أتاها جبريل بذلك، فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية "واحتج القرطبي بروايات صحيحة عن تكليم الملائكة لبعض الناس من غير نبوة..
ونقل أبن منظور في لسان العرب [23] من الأقوال ما هو جدير بأن يذكر "قال الأزهري: "وقول الله عز وجل {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} .. الوحي ها هنا إلقاء الله في قلبها، قال: وما بعد هذا يدل والله أعلم على أنه وحي من الله على جهة الإعلام للضمان لها {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقيل إن معنى الوحي ها هنا الإلهام، وجائز أن يلقي الله في قلبها أنه مردود إليها وأنه يكون مرسلا ولكن الإعلام أبين في معنى الوحي ها هنا"ويرجح أنه وحي أعلام قوله سبحانه: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ..38 39: طه.
والذي نميل إليه ونرجحه ويعين سياق الآية ومنطوقها عليه: أن الوحي إلى أم موسى كان وحي إعلام، لا وحي إلهام.(19/219)
وإنه في الجلي المسفر أن الوحي إلى السيدة مريم عليها السلام، وإلى أم موسى عليه السلام، لم يكن إلا من جميل عناية الله وعظيم روايته بولديهما الكريمين، ثم بهما بالتبعية وليس العكس صحيحا. وقد سكت القرآن الكريم عن ذكر اسم السيدة الفاضلة أم موسى [24] عليه السلام، وهذا من مناهج القرآن الموضوعية.
(6) الوحي إلى الملائكة:
أما وحي الله إلى الملأ الأعلى من الملائكة فأمر بين بديهي، فأمين وحي السماء إلى الأرض هو جبريل عليه السلام، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي فأوحى الله سبحانه إلى عبده جبريل عليه السلام ما أوحاه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم [25] .
ويقول ربنا سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 2: النحل، فالآية الكريمة تذكر أن الله سبحانه ينزل الملائكة بالروح وهي الوحي، أو بعبارة الزمخشري [26] : "بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه".. وقال الجلال السيوطي [27] : "الملائكة أي جبريل والروح أي الوحي".
ويقول سبحانه عن القرآن الكريم ووحيه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 102: النحل.
ويقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 192- 195: الشعراء، وجبريل لا ينزل بالوحي إلا إذا كان موحى إليه به من عند الله سبحانه بداهة وقطعا.(19/220)
ويقول سبحانه عن وحيه إلى الملائكة في بدر: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 12: الأنفال.
(7) معنى الوحي إلى الحواريين:
يقول ربنا سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 111: المائدة. فليس الوحي وحيا مباشرا إلى الحواريين وإنما هو وحي إليهم عن طريق رسولهم عيسى عليه السلام، والمعنى أمرتهم فيما أوحيت إلى عبدي عيسى عليه السلام أن يؤمنوا ويصدقوا بأن عيسى رسول من عندي، وفي عبارة الزمخشري: "أمرتهم على ألسنة الرسل " [28] وقد نقلها عن الزمخشري المتابعون له.
إلا أن ابن كثير [29] المفسر السلفي يذكر غير ما رجحناه ثم يذكر ما رجحناه قال: "قيل إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وهو وحي إلهام بلا خلاف [30] إلى أن قال: وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا.."وقال السدي [31] : قذف في قلوبهم ذلك ويحتمل أن يكون المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، فاستجابوا لك وانقادوا، وتابعوك فقالوا {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 111: المائدة.
وهذا الذي ذكره ابن كثير مؤخرا وجعله احتمالا هو ما رجحناه.. والله اعلم..
(8) الوحي الإلهامي التسخيري إلى الكائنات الحية:(19/221)
يقول ربنا سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} 68، 69: النحل، فوحي الله سبحانه للنحل هو ما أودعه في فطرة النحل من غرائز ومواهب وملكات سواها وأبدعها الذي أبدع كل شيء، وهو كذلك تسخير النحل لهذا النشاط النافع والسعي الدائب والنظام الرائع، ليكون من ذلك إنعام على الناس ومنافع للناس، وآية من آيات الله للناس، يقول ابن كثير [32] في تفسير الآية الكريمة: "المراد بالوحي هنا: الإلهام والهداية، والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوى إليها ومن الشجرط ويقول الزمخشري [33] : "الإيحاء إلى النحل إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه وإلا فنيقتها [34] في صنعها ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها: دلائل بينة شاهدة على أن الله أودعها علما بذلك، وفطنها كما أولى أولي العقول عقولهم ".
وإذا كان النص القرآني الكريم ورد بالوحي إلى النحل فليس ذلك فيما نرى قاصرا على النحل بل إن الله تبارك وتعالى قد ألهم كل مخلوقاته ما تستقيم به حيواتها، أو يتم للإنسان به تسخيرها وبسط هذه الفكرة يحتاج إلى كتاب قائم برأسه في علوم الأحياء والكائنات، كما قيل:
تدل على أنه الواحد
وفي كل شيء له آية
(9) الوحي التسخيري للجمادات:(19/222)
وهذا نوع آخر في الاستعمال القرآني لكلمة الوحي جاء به القرآن يقول العزيز الحكيم: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} 11، 12: فصلت، يقول البيضاوي [35] عند قوله سبحانه: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} : شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا، وقيل: أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه "اهـ. والذي نميل إليه هو الأول وهو أن الله سبحانه سخر السماوات بنظام قدره وأبدعها على النحو الذي أراده، وللغاية التي يريدها ويعلمها أي أمر لكل سماء بما قدره فكان كما أراده وقدره من أجرام وكواكب، وبما فيهن من خلق كريم كالملائكة، وما الله به أعلم.
ويقول سبحانه عن حالة الأرض يوم البعث: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 4، 5: الزلزلة، فالمتبادر من المعنى أنها تحدث أخبارها لأن الله {أَوْحَى لَهَا} أي أمرها وأذن لها بأن تحدث، ويفصل الزمخشري [36] القول فيقول: "معناه تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث، ويجوز أن يكون المعنى يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى بها، على أن تحديثها: "بأن ربك أوحى لها لا تحديث بأخبارها، ويجوز بأن يكون {بِأَنَّ رَبَّكَ} بدلا من أخبارها وكأنه قيل: تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها لأنك تقول حدثته كذا بكذا، أوحى لها: بمعنى إليها: وهو مجاز كقوله سبحانه: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 82: يس، وقوله: مجاز قضية لسنا بمجال الخوض [37] فيها الآن، وللزمخشري وجهته، ولكل وجهته..بيد أن الحمل على الحقيقة هنا هو الذي تجدد دلائله ناصعة.
(10) وحي الشيطان إلى أوليائهم:(19/223)
ويقول ربنا جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 112: الأنعام، وغنى عن القول أن وحي الشياطين هذا إلى أوليائهم ليصل إلا وسوسة شياطين الجن لبعض ولشياطين الإنس، فكل يمنى الآخر ويخدع نفسه وغيره، ويعولون جميعا على باطل منهار، وهذه الوسوسة المخادعة المخاتلة، وهذا الوحي الشيطاني لا صلة لهما بوحي الله إلا صلة الظلام الحالك بالنور الأسنى.. ويزداد هذا المعنى إيضاحا بتدبر قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 121: الأنعام، وهذا الوحي الشيطاني وسيلة إلى (الاستكثار) و (الاستمتاع) المشار إليهما في قوله عز من قائل {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 128، 129: الأنعام.
ثم أن حقيقة هذا الوحي هي الشقاء التعيس كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} 82، 84: مريم، وقانا الله سبيلهم، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها.
الوحي في الاصطلاح الشرعي(19/224)
المعنى الاصطلاحي: قد يكون تخصيصا للمعنى اللغوي: أو قصرا له على واحد من أفراده أو نقلا له إلى معنى جديد تربطه بالمعنى اللغوي رابطة معينة، وقد لا توجد هذه الرابطة أو تكون واهية.
وخير تعريف للوحي الشرعي هو أنه: " إعلام الله تعالى لأنبيائه - صلوات الله وسلامه عليهم - بما يريد بلاغه لحكم من شرع أو كتاب بالكيفية التي يريدها سبحانه" [38] .
اعتراض الشيخ محمد عبده على هذا التعريف:
وقد اعترض الشيخ عبده في رسالة التوحيد على هذا التعريف فقال [39] .. وقد عرفوه شرعا "بأنه إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه" أما نحن فنعرفه على رأينا "أنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول يكون بصوت يتمثل لسمعه [40] أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام، بأن الإلهام تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور"اهـ.
الموافقون للشيخ محمد عبده:
وقد تابعه الشيخ رشيد ونقل هذا الرأي دون تعقيب عليه في كتابه "الوحي المحمدي) [41] وتناقل هذا التعريف نقلا عن (الوحي المحمدي) علماء آخرون معاصرون فذكروه في مؤلفاتهم [42] .
المعارضون لهذا التعريف:(19/225)
ولقد نقل الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري في كتابه (الظاهرة القرآنية) هذا العريف للوحي عن كتاب (الوحي المحمدي) وتعقبه بقوله [43] : "..ولقد بقي هذا التعريف الذي أسهب الأستاذ الإمام في تحديده بعض الغموض فيما يتصل بتفسير اليقين عند النبي: والواقع أننا في الحالة التي لا يكون الوحي فيها منتقلا بطريقة محسة- مسموعة أو مرئية- سنقع في تعريف الوحي تعريفا ذاتيا مسموعة، إذ أن النبي في التحليل الأخير لا يدري بصفة موضوعية كيف جاءته المعرفة وهو يجدها في نفسه مع تيقنه بأنها من عند الله، إن في ذلك تناقضا واضحا يخلع على ظاهرة الوحي كل خصائص المكاشفة [44] ولكن هذه (أي المكاشفة) كما يجب أن نكرر- لا تنتج يقينا مؤسسا على إدراك، ذلك الذي يبدو أنه اليقين المقصود في الآيات التي ورد فيها ذكر الوحي، والتي تتصل بخاصة بإعداد (محمد) - صلى الله عليه وسلم- الشخصي لفهم طبيعة الظاهرة القرآنية" 1 هـ.
وكذلك فعل صاحب [45] "مباحث في علوم القرآن "حين قال: لذلك لا نتفق مع الإمام محمد عنده حين جعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس) .
موقفنا من الفريقين:
ونحن نؤثر التعريف الذي ذكرناه في مقدمة هذا الفصل ونأخذ على تعريف الشيخ محمد عبده ما أخذه عليه غيرنا ونضيف بأن الشيخ:
1- ساق تعريفا غير موضوعي باسم الموضوعية.
2- ساق تعريفا لا تشهد له نصوص القرآن والسنة ولا وقائع الوحي.
3- فرق كبير بين "إعلام الله لنبي من أنبيائه "وبين أن يكون الوحي.. عرفانا يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله، ففي هذا التعريف الأخير إيهام وغموض وفقدان للاتساق بين أوله وآخره.
4- استعمال كلمة (الشخص) في غير موضعها، لأن النبي ليس كأي شخص.
5- وصفه الإلهام بأنه وجدان تستيقنه النفس، ولا يقين في الإلهام وقد يلتبس على الإنسان الإلهام بوساوس الشياطين.(19/226)
6- شبه وجدان الإلهام بغرائز الجوع والعطش والحزن والسرور، وشتان بين الإلهام والغرائز.
إطلاقات الوحي الشرعي:
ويطلق الوحي في الشرع ويراد به المعنى المصدري، والمعنى الحاصل بالمصدر، أي على المصدر، وعلى متعلقه: وهو ما وقع به الوحي أي أسم المفعول [46] ، وبعبارة أخرى فإن اللفظ يطلق على: عملية نزول الوحي، وعلى الموحى به، فتطلق كلمة الوحي ويراد بها: جبريل، وما ينزل به جبريل.. والقرآن وحي: موحى به، والسنة وحي كذلك: وهناك الفروق بين الوحيين.
أنواع الوحي
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 51: الشورى.
ذكر المفسرون عند تفسير هذه الآية [47] سبب نزولها وهو أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا، كما كلمه موسى ونظر إليه؛ فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام لم ينظر إلى الله فنزلت في ذلك الآية..".
والمعنى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} : ما ينبغي لبشر، وما صح لإنسان..
{أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّه} : بحالة من الأحوال، ووجه من الوجوه.. {إِلاَّ وَحْياً} : إلا أن يكون الكلام وحيا، بأن ينفث في قلبه، ويلقى في روعه.. وقيل {إِلاَّ وَحْياً} رؤيا يراها في منامه وهو بعيد. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم الله موسى عليه السلام وحين سأل الله الرؤيا بعد التكليم لم يؤت سؤله {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} : أو يكلمه بإرسال رسول إليه من الملائكة وهو جبريل عليه السلام {فَيُوحِيَ} : الملك بإذن الله {مَا يَشَاءُ} الله إبلاغه لرسوله من البشر.(19/227)
وقيل [48] {إِلاَّ وَحْياً} بإرسال جبريل، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كما كلم موسى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} من البشر إلى الناس كافة، وقيل [49] : قوله تعالى: {وَحْياً} {أَوْ يُرْسِلَ} مصدران واقعان موقع الحال، وقوله تعالى {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ظرف واقع موقعهما، والتقدير: وما صح أن يكلم الله أحدا إلا: موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا رسولا.. وقرئ [50] {أو يرسلُ رسولا فيوحِي} برفع الفعلين على الاستئناف قرأ بذلك الزهري، وشيبة: ونافع، أي وهو يرسل على إضمار المبتدأ، وقرأ الباقون بالنصب {إِنَّهُ عَلِيٌّ} [51] متعال عن صفات المخلوقين لا يتأتى الكلام بينه سبحانه وبينهم إلا بواحد من الوجوه المذكورة.
{حَكِيمٌ} يجري أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بدونها..
تفصيل أنواع الوحي
كل حالة من هذه الحالات الثلاث السابقة تتشعب إلى حالات هي فروع من أصولها، على النحو التالي:
أولا: حالة الوحي القلبي:
وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} 51: الشورى تكون هذه الحالة على صورتين هما:
الأولى: النفث في الروع:
والروع [52] وضم الراء هو القلب، ومعنى النفث في الروع: إلقاء المعنى المراد في القلب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [53] : "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم ".
وهذا الإلقاء في القلب يكون من الله عز وجل أو من جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليقين القاطع بأن هذا من لدن الله سبحانه.
الثانية: الرؤيا الصادقة:(19/228)
عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم" وفي رواية مسلم "الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء" [54] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [55] : "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
وذهب بعض العلماء في تعليل هذه النسبة [56] مذهبا يحسن ذكره وهو: أن فترة الرؤيا الصادقة التي بدئ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ستة أشهر، كان الوحي فيها بالرؤية الصالحة، وأن مدة المرحلتين المكية والمدنية هي ثلاثة وعشرون عاما، فتكون نسبة الأشهر الستة إليها أو منها هي نسبة جزء من ستة وأربعين جزءا. وبعد هذه الفترة الأولى من الوحي أوحي إلى الرسول بمجيء الملك جبريل عليه السلام. وبالرؤى الصادقة [57] أيضا وذكر هذه الرؤى يضيق عنه هذا المجال، ولكنا نكتفي بذكر رؤيا صادقة مبشرة من رؤاه صلوات الله عليه وسلامه وهي رؤيا دخول المسجد الحرام التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} 27: الفتح.(19/229)
وكذلك رؤيا إبراهيم عليه السلام بذبح [58] ولده إسماعيل عليه السلام، هي من وحي الله سبحانه إليه، وقد ذكرها القرآن الكريم في قوله سبحانه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 99- 105: الصافات.
فهذه الرؤى الصادقة جميعا التي وقعت للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هي شعبة من شعب وحي.
ثانياَ: الوحي التكليمي:
وهو المذكور في قوله سبحانه: {ًأَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} والكلام يفترض أن يكون على صورتين:
الأولى: الكلام كفاحا: أي جهرة من غير حجاب
وهو لم يقع لأحد في هذه الدنيا على الراجح، ولقد سأله موسى عليه السلام ولم يجب إليه قال تعالى ذاكرا لنا ذاك في محكم كتابه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 143،144: الأعراف.(19/230)
وقد ذهب فريق من السلف والخلف مستدلين بفهم في نص إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وعلى هذا يكون كلام الله لنبيه قد تم جهرة: وفي الرؤية وكيفيتها ووقوعها [59] خلاف لسنا بصدد الخوض فيه. لأنه خارج نطاق هذا البحث، ويقول ابن قيم الجوزية [60] : "وهى مسألة خلاف بين السلف والخلف. وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة رضي الله عنها كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة"نقول ما كان لابن القيم وهو العالم المحقق أن يتابع الدارمي على هذه الدعوى بل هي كما ذكر: مسألة خلافية ندور فيها مع الدليل أينما دار.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وأنه كلم أباك كفاحا" وكان أبوه قد قتل يوم أحد، ولا صلة لهذا الحديث بمباحث الوحي. لأنه كما يقول ابن كثير [61] : "في عالم البرزخ والآية {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} .. إنما هي في الدار الدنيا ".
والتحقيق كما ذكرنا أن الكلام كفاحا لم يرد به نص قاطع يقول بوقوعه لأحد في الدنيا.
(2) الكلام من وِراء حجاب:
وقد كلم الله موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 144:الأعراف، وكما قال سبحانه: {وكلم الله موسى تكليما} 164:النساء، وورد النص أكثر عموما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات} 253: البقرة.(19/231)
وقد كلم الله سبحانه رسوله ليلة الإسراء، وفرض عليه وعلى أمته الصلاة وهذا متفق على صحته [62] ، بل هو مما لا يعذر أحد بجهله، ونجتزئ هنا بالعبارة الأخيرة من الحديث الذي رواه مالك بن صعصعة عن النبي صلوات الله وسلامه عليه من أحاديث الإسراء وهي [63] : "فنودي أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي عن الحسنة عشرا".
ثالثا: إرسال الملك:
وهو المذكور في قوله سبحانه {.. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 51: الشورى ويكون على ثلاث صور:
مجيء الملك في صورة بشرية:
كما كان جبريل عليه السلام يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة رجل من العرب هو (دحية الكلبي) فيعلم الرسول صلى الله عليه وسلم يقينا أنه جبريل، ويراه الصحابة الحاضرون مجلس الرسول ويسمعون قوله ولا يعرفون حقيقته، كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعن الساعة [64] وقد وصف عمر رضي الله عنه هيئة جبريل التي جاء إلى الرسول عليها فقال [65] : "بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه.. وفي آخر الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أتدري من السائل؟ " قال: الله ورسوله أعلم.. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".(19/232)
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحالة الإنسية للملك حين سأله الحارث بن هشام رضي الله عنه: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله، فقال: [66] "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" وقد ذكر لنا القرآن الكريم في قصص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن الملائكة كانت تتمثل لهم في صور البشر: فإبراهيم عليه السلام يظن أن ضيفه من الملائكة بشر، ويقدم لهم طعاما، ويتوجس منهم خوفا حين لم يقربوا الطعام، كما قال سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} 24- 28: الذاريات.
ولوط عليه السلام لا يعرف الملائكة المرسلين إليه، لأنهم على صورة بشر لا يعرفهم كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} 77: هود.. وفي ختام هذا المشهد يقول القرآن الكريم على لسان الملائكة يعرفون لوطا برسالتهم وما وكل إليهم في شأنه ومن يكونون: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 81: هود
وأما السيدة مريم عليها السلام فيقول سبحانه في شأن إرسال جبريل إليها {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} 17: مريم. وقوله سبحانه: (بشرا سويا) هو أقطع دليل بعد ما تقدم على ما ندلل عليه: ونستشهد له.
(2) مجيء الملك على صورته الملائكية الحقيقية:(19/233)
وفي هذه الحالة يأتي الملك وهو جبريل عليه السلام على صورته الأصلية، وهيئته الحقيقية الملائكية التي يراد الله عليها، ولم يأت جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة إلا مرتين هما المشار إليهما- على الأرجح [67] قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} 13- 15النجم، وقالت فيها السيدة [68] عائشة رضي الله عنها: "ولكنه رأى (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) جبريل عليه السلام في صورته مرتين "وكانت المرة الأولى في بداية الوحي بعد حراء وقد حدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [69] : "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه" وفي رواية مسلم "فجئت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض".(19/234)
وفي رواية أخرى لمسلم: "فأخذتني رجفة شديدة" قال علماء اللغة: "جئث الرجل إذا اشتد فزعه فهو مجؤوث ومجئوث أي مذعور"ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فرجعت إلى خديجة فقلت: زملوني "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} - فقوله صلى الله عليه وسلم: "فرعبت منه"يفيد أنه رآه على صورته الحقيقية، وهي صورة لفرط عظمتها تبعث على الروع. وكانت الرؤية الثانية ليلة الإسراء، ويروي عنها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأى جبريل له ستمائة جناح" [70] وعن مسروق قال [71] : كنت متكئا عند عائشة، فقالت:"يا أبا عائشة: ثلاث: من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن، قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني، ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} 22: التكوير، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 9: النجم، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من المساء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض.." وفي رواية أخرى للسيدة عائشة رضي الله عنها قالت [72] : "إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسد أفق السماء".
بقى سؤال عن الكيفية التي جاء بها الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حراء فقد يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه" قد يفهم البعض من هذه العبارة أنه جاء بحراء على صورته الملائكية، وإلا فكيف عرفه حين رآه جالسا؟.(19/235)
ويجاب على هذا: بأنه لو رآه جالسا على نفس الصورة التي رآه بها في الغار لما اعتراه الرعب حين رآه مرة أخرى فإن معاودة الرؤية على حالة واحدة تورث الألفة. وإنما عرف أنه الملك بملابسات الأحوال وقرائنها المحيطة به صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة.
(3) مجيء الملك على حالة غير مرئية تصحبها أمارات دالة:
ومن صفات الملائكة أو من أسمائهم أنهم جنة: وكلمة الجن كلمة دالة على ستر وخفاء [73] قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 158: الصافات، فالجنة في الآية الكريمة هم الملائكة، والمعنى أن المشركين جعلوا بين الله سبحانه وبين الملائكة نسبا بزعمهم أن الملائكة بنات اللًه والملائكة تعلم أن هؤلاء المشركين محضرون في العذاب [74] .
ولقد كان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا بحالته هذه المستترة فلا يراه أحد وتسمع له صلصلة ولمجيئه دوي، وقد وصف رسول الله [75] صلى الله عليه وسلم هذه الحالة حين سأله الحارث بن هشام رضي الله عنه: كيف يأتيكَ الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليا فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال".. وقد وصفت السيدة عائشة هذه الحالة بقولها [76] : "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا".. وسيأتيك مزيد من البيان لهذه الحالة في الفصل الآتي عن كيفية الوحي القرآني.
على أي صورة كان الوحي القرآني
والآن بعد طول التطواف نصل إلى إنسان عين البحث متسائلين: ككيف كان الوحي بالقرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
1- (أ) هل كان نفثا في الروع: وإلقاء للمعنى في النفس، وسلكا للفكرة في الفؤاد، كما هو الشأن في الوحي ببعض أقسام السنة [77] ؟(19/236)
(ب) أم هل كلان الوحي رؤى صادقة يرى فيها ما يرى فيصدق – حين يعبر منه القول، فيصير واقعا محققا كا ما دار بخلده مناما؟ وهذه وسابقتها هما معا الحالة الأولى [78] من حالات الوحي في أية الشورى كما أسلفنا القول.
2- أم كان الوحي القرآني كلاما من رب القوى والقدر إلى صفوة خلق الله وخيرة رسل الله صلى الله عليه وسلم كفاحا: أو من وراء حجاب؟
وهذه الحالة الثانية من حالات الوحي في آية الشورى.
3- أم وقع بالحالة الثالثة وهي الحالة الملائكية، وعلى أي صورها وقع؟ .. أبمجيء الملك متمثلا في صورة البشر؟ أم على صورته الملائكية الحقيقية التي رآه بها خاتم النبيين مرتين: نزلة في أوائل الفترة الملكية، وأخرى في أخرياتها ليلة المعراج؟
أن تنزل عليه النور من آيات ربه بوسيلة الملك على صورة هي لجلالها أصبحت من أبهى صور الجلال ولروعتها كان سيد البشر ينسلخ بها عن دنيا البشر؟(19/237)
والحقيقة التي تغبط راسيات الجبال ثباتها، وتنسخ آية سناها الشمس وضحاها: أنه ما من آية في القرآن تلقاها الرسول مناما، أو نفث في روعه معناها، وولا حاجة بنا أن نضرب في بيداء تيهاء وأمامنا سوى الصراط عليه الوى، وعلى جنباته المنائر فوق الذرى، يقول ربنا له الكبرياء في السموات والأرض وهو اصدق القائلين: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} 4- 5 النجم، فمعلم الوحي هو جبريل شديد القوى عليه السلام، ويقول جل ذكره: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 27 التكوير.. فالله سبحانه يصف جبريل فيما نحن بين يديه من آيات بأنه رسول كريم وضلالة إفكهم، ويبين صلوات الله عليه ليس ظنينا ولا متهما فيما يبلغ من أخبار الغيوب، وليس ضنينا على البشر في تبليغها وتعليمها..
ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 102: النحل،.. ويقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} 192- 196: الشعراء.
فكل هذه آيات بينات، وحجج قاطعات. وبراهين واضحات في نسبة شرع البلاغ؛ وعز وأمانة التبليغ إلى الروح الأمين عليه السلام.(19/238)
وإذ قد بلغنا هذه المرحلة من الطريق: وعلمنا أنه لم يكن وحي بالقرآن إلا وكان جبريل واسطة له وأمينا عليه فلننتقل إلى مرحلة أخرى نسائل فيها أنفسنا كيف كان يأتيه جبريل عليه السلام؟
الكيفيةْ التي جاء عليها الملك:
ولن نتجشم كبير عناء في هذه المرحلة فقد عبد لنا فيها الطريق الحارث بن هشام رضي الله عنه حين سأل [79] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس؛ وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول"، قالت عائشة رضى الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصمه عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا".
فهكذا الحديث الكريم يحدثنا بحالتين للوحي: يأتيه فلا يراه من حوله وإنما يسمعون لمجيئه دريا وصلصلة أو يتمثل له الملك بشرا سويا فيحدثه فيعي عنه كل ما قال.
حالة الرسول صلى الله عليه وسلم وقت إشرافات الوحي:
وهى حالة صورتها الإشارة ولم تستطع التعبير عن كنهها وإبراز صورتها للبشر صورة ولا عبارة، فصاصلة حول الوجه الكريم، وليس ثمة أجراس، ولا أجرام نواقيس، ودوى كدوى النحل وسعادة البنحل بتشبيه هو منه ببعيد.. وتأتي العبارات تصف وتعبر فقد رأت الآثار ولكن سنا الأنوار يأخذ بالأبصار، وليس من نفحته الأنوار [80] كمن هو غارق في لجج الأنوار. تقول أقرب الناس إلى من تنزل عليه الوحي: عائشة رضي الله عنها "كان يأتيه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"وتأتي عبارة الحديث الآخر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة " [81] .(19/239)
ويعبر العلماء كل بما أفاء الله عليه عن فهمه لهذه المعاني.. يقول الشيخ [82] عبد الرحمن ابن خلدون: "توجد لهم- أي للأنبياء عليهم السلام - في حال الوحي غيبةَ عن الحاضرين معهم. مع عطيط كأنها غثي أو إغماء رأين العين، وليست منها في شيء [83] وإنما هي في القيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني: بإدراكهم المنسب لهم في الخارج عن مدارك البشرية بالملكية.
أما العلامة الدكتور دراز رحمه الله فيقول [84] بعد نظرة فيما صح من الآثار: "وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم، في كل مرة حين ينزل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد مما ينظر إليه فكانوا يرونه قد احمر وجهه فجأة، وأخذته البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا، وثقل جسمه كان كاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جانبه، وحتى لو كان راكبا لبركت به راحلته، وكانوا يسمعون عند وجهه أصواتا مختلفة تشبه دوي النحل.. ثم لا يلبث أن تسرى عنه تلك الشدة، فإذا هو يتلو قرآنا جديدا وذكرا محدثا".. ثم يتحدث عن سر هذه الظاهرة قائلا: "وكذلك فليؤمنوا بأن نور القمر النبوي إنما كان شعاعا منعكسا على ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها. نعم إنهم لم يرونها بأعينهم طالعة في رابعة النهار، ولم يسمعوا صوتها بآذانهم جرسا مفهوما وكلاما يفقهه الناس، ولكنهم كانوا يرون قبسا منها في الجبين، وكانوا يسمعون حسيسها حول الوجه الكريم، وإن في ذلك لهدى للمهتدين".
هذه عبارات بعض العالمين من البشر وهي على وجهدها رنت إلى سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم.(19/240)
فلنعد إذا إلى طلب مزيد من علم حول "ظاهرة الوحي"متأدبين بأدب الملائكة مع رب العالمين، قائلين: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 32: البقرة، متسائلين: ما سر ما اصطلح العلماء على تسميته "ببرحاء الوحي"؟ ولماذا الدوي والأجراس؟ ولماذا المعاناة والشدة الموصوفة علة لسانه صلى الله عليه وسلم؟! ... السر يكمن في قوله جل ذكره: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} 5: المزمل، وتأمل مليا: فهو ثقيل في كل موازين الحق والعدل، والخير والبر، والعزة والأمن، ثقيل في موازين العقول الراشدة، والقلوب المستنيرة، ثقيل بأمى معاني الكلمة، ثقيل في غير عنت ولا إكراه.. ثقيل وهو ملء قلوب المؤمنين، وبيان ألسنة الموحدين، ونور عقول المتدبرين، وصدق رب العالمين: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} 31: الرعد، أي لو أن قرآنا كانت له هذه الصفات لكان هذا القرآن لعظمته الخالدة وإعجازه الذي بلغ المنتهى.
شوق الرسول وحرصه على انطباع الوحي في فؤاده:(19/241)
فأما الدلائل البينة على هذا الشوق الجارف فهي كثيرة وسنذكر بعضها إن شاء الله في بحث آخر عن "النزول وقضاياه"، ونذكر هنا من محكم الذكر الكريم ما يدل على كريم حرصه صلى الله عليه وسلم على أن يصبح قلبه الذكي كأنه صورة من صحائف اللوح المحفوظ، يقول ربنا جل ذكره: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 114: طه، ويقول سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 16- 19: القيامة، وقد أ، زل الله على فؤاده الكريم سكينة الذكر، وأمنه من مخافة النسيان، فأوحى إليه جل ذكره: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 6- 7: الأعلى.
والذي نخلص إليه من كل ما سبق: أنه من تكريم الله لكتابه بكل صنوف التكريم، وحفظه له بمختلف أنواع الحفظ، أن كان الوحي القرآني بهذه الصورة المشرقة الناصعة فلم يكن شيء من القرآن قط غلا وتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة من جبريل عليه السلام في حالة كان فؤاده الكريم يتلألأ يقظة ويشرق وعيا، أو قل كاد طبيعته البشرية حالة الوحي أن تأخذ صورة ملائكية، وكيف لا ونفسه الشريفة في الذروة العليا بين خلق الله جميعا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر ج 20 ص257 بعدها الطبعة المصورة لدار التأليف. وما بين الأقواس المعقولة هو من عبارتنا
[2] انظر لسان العرب جـ 20 ص 257-260
[3] انظر القاموس المحيط جـ 4 ص 401 ط: الحلبي
[4] المصباح المنير ص 1010ط: الأميرية.
[5] مختار الصحاح ص 730 ط الأميرية.(19/242)
[6] أساس البلاغة ص 1010 ط الشعب.
[7] انظر المفردات في غريب القرآن الكريم لأبي القاسم الحسين بن محمد الشهير بالأصفهاني ص 515، 516: ط الحلبي بالقاهرة، وقد أوعب الراغب وأوجزنا.
[8] انظر تفسير البيضاوي ص 399 وغيره ط: البهية المصرية.
[9] انظر ص 68.
[10] إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود) جـ 3 ص 57 ط: صبيح. الكشاف جـ 2 ص 126 ط: الحلبي.
[11] وهذا التحديد إن صحت نسبته للحسن لا دليا عليه..
[12] انظر البيضاوي ص 234.
[13] الكشاف جـ 2 ص 275.
[14] انظر تفسيره ص 299. ومعنى استبنأه: جعله نبيا.
[15] انظر تفسير الجلالين ص 281.
[16] انظر تفسير ابن كثير جـ 3 ص 113.
[17] انظر تفسير ابن كثير جـ 3 380.
[18] انظر تفسير أبي مسعود جـ 4 ص 147.
[19] انظر الكشاف جـ 2 ص 466
[20] انظر ص 375.
[21] انظر الجلالين ص 358.
[22] انظر الجامع لأحكام القرآن جـ 13 ص 250.
[23] انظر لسان العرب جـ 20 ص 258 ذلك انظر القرطبي جـ 13 ص 250
[24] وقيل: إن اسمها هو أيارخا أو أيارخت، وقيل يوخابز أو يوخابيل، وقيل غير ذلك.
[25] قيل بغير هذا في تفسير هذه الآية فمراجعة في مواضعه من كتب التفسير إن شئت.
[26] انظر الكشاف جـ2 ص 197.. وقوله "الميتة بالجهل"أي التي أهلكها الجهل في ليل الجاهلية
[27] انظر الجلالين ص 243 وانظر كذلك البيضاوي ص 262.
[28] انظر الكشاف جـ اص 490 والبيضاوي ص 136 وغيرها.
[29] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 2 ص 114.
[30] بل في كون الوحي إلى أم موسى وحي إلهام خلاف، ذكرنا منذ قليل تفصيله ورجحنا أنه وحي إعلام.(19/243)
[31] يقول المتحدثون: سلسلة الخزف: هي كلبي عن السدي عن ابن عباس.
[32] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 2 ص 575.
[33] انظر الكشاف جـ 2 ص 209.
[34] نيقتها: النيقة: بالكسر الاسم من تنيق في مطعمه وملبسه إذا تجود وبالغ فيه كتنوق، ورجل نيق ككيس وانتاق وانتقى والنيق بالكس: أرفع مودة ضع في الجبل.. وانظر القاموس المحيط جـ 3 ص 297.
[35] انظر أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي ص 458، وانظر كذلك الكشاف 3جـ ص 67.
زولها كانت عبارة البيضاوي في هذا الموضع أو في وأسهب فقد قدمناها في النقل وعرضناها للفحص.
[36] انظر الكشاف جـ 2 ص 353.
[37] يقول كاتب هذا البحث: توسع ابن جني فجعل اللغة كلها مجازا أو أكثرها، ووصف ابن القيم وفي الصواعق المرسلة جـ 2 من ص 2ـ106 وما بعدها في المجاز بأنه طاغوت ... ولقد اتخذت فرق وطوائف المجاز مطية لإبطال الحق. والتلبيس بالباطل. وهذا من سوء القصد وضلال الصنيع ومع هذا ففي قضية المجاز مباحث وسيعة لمن حسن قصده. واتسع فهمه. وسلك السبيل القاصدة.
[38] صغنا هذا التعريف بالصياغة التي وجدناها أنسب من غيرها وانظر في هذا (الوحي المحمدي) للشيخ رشيد رضا ص 35 ورسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 148ـ149 ط: الهلال. والظاهرة القرآنية للاستاذ مالك بن نبي ص 119-130 والمدخل لدراسة القرآن الكريم للشيخ أبي شهبة ص 74.
[39] ص 148، 149 من رسالة التوحيد.
[40] وتفسير ذلك كما ورد بهامش رسالة التوحيد "كصلصلة الجرس أو كلام الملك كما في الحديث الثاني من صحيح البخاري"اهـ من نسخة المؤلف.
[41] انظر ص 35 من الوحي المحمدي.
[42] انظر مثلا المدخل من لدراسة القرآن الكريم ص 74 للشيخ أبي شهبة: فعند تعريفه للمعنى.(19/244)
[43] الحاصل بالمصدر من الوحي الشرعي نقل بعض هذا التعريف.. انظر الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ترجمة دكتور عبد الصبور شاهين ص 120.
[44] كذلك فإن كلمة "المكاشفة"هذه اصطلاح لا وجود له ولا لمؤداه في الكتاب والسنة.
[45] انظر"مباحث في علوم القرآن "للدكتور صحبي الصالح ص 26.
[46] انظر "المدخل لدراسة القرآن"ص 74. "والوحي المحمدي"ص 35.
[47] انظر "الجامع لأحكام القرآن "للقرطبي جـ 16 ص 53. "تفسير القرآن العظيم "لابن كثير جـ 4 ص 121،122 و"الكشاف عن حقائق التنزيل "للزمخشري جـ3 ص 87،88 و"إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم "لأبي السعود جـ 5 ص 38،39.
[48] انظر "الجامع لأحكام القرآن "للقرطبي جـ 16 ص 53.
[49] تفسير ابن السعود جـ 5 ص 38 وغيره.
[50] انظر القرطبي وتفسير أبي السعود في تفسيرالآية كما سبق آنفا.
[51] قاله أبو السعود في الآية ص 5ـ38.
[52] قال الرازي في مختار الصحاح ص 282 الروع: بالفتح: الفزع، والروعة: الفزعة والروع: بالضم القلب والعقل. يقال وقع في روعي أي في خلدي وبالي.
[53] صحيح ابن حبان. وانظر تفسير ابن كثير جـ 4 ص 121.
[54] البخاري جـ اص 3 ط: الشعب. مسلم في صحيحه.
[55] البخاري: كباب التعبير: باب الرؤيا صالحة.
[56] نسبة الجزء إلى ستة وأربعين جزءا.
[57] فلا تنافي بين مجيء جبريل عليه السلام وبين الرؤى الصادقة.
[58] سقنا هذه الحادثة كدليل على أن رؤى الأنبياء صلوات الله عليهم من الوحي.
[59] التنازع حول تفسير قوله تعالى {ما كذب الفؤاد ما رأى} 11-14 النجم وحديث ابن عباس أنه رآه بعينه وهو موقوف وضعيف الإسناد وانظر النووي على مسلم جـ 3 و"الشفاء"للقاضي عياض، وشرح الطحاوية ص 213.
[60] زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم جـ اص 34.(19/245)
[61] تفسير ابن كثير جـ 4 ص 122.
[62] انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان. البخاري ومسلم جـ اص 39،42 وقل أن يخلو كتاب من كتب السنة والتفسير من أحاديث الإسراء.
[63] متفق عليه وأخرجه البخاري كتاب "بدئ الخلق"باب "ذكر الملائكة"وانظر اللؤلؤ جـ اص 42.
[64] انظر "البخاري "جـ اص 19. 20 كتاب "الإيمان"وانظر "اللؤلؤ والمرجان"ج 5 ص 2.
[65] انظر "صحيح مسلم بشرح النووي جـ اص 157. 160 وقد نقلنا من الحديث مواضع الاستشهاد فقط.
[66] انظر "صحيح البخاري"ص 3 جـ ا.
[67] وقلنا على الأرجح إعراضها عن خلاف كثير لا غناء لنا فيه.
[68] انظر صحيح البخاري جـ 6 ص 176.
[69] انظر صحيح البخاري جـ اص 4 وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 ص 206ـ208 نفلنا عن النووي بعد شرحه للحديث.
[70] انظر البخاري جـ 6 ص 176. وقد وصفت بعض الروايات هذه الأجنحة بما لا نر أنا في حاجة إليه وانظر ابن كثير جـ4 ص 8.
[71] صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 ص 8.
[72] نفسه ص 110.
[73] كلمة جن ومشتقاتها كثيرة تدل على هذا المعنى وانظر (معاجم من اللغة) للشيخ محمد رضا في هذه المادة. جن ومشتقاتها كثيرة تدل على هذا المعنى وانظر (معاجم من اللغة) للشيخ محمد رضا في هذه المادة.
[74] انظر في تفسير الآية تفسير أبي السعود جـ 4 ص278 والبيضاوي ص 434.
[75] انظر صحيح البخاري جـ اص 302.
[76] انظر صحيح البخاري جـ 1 ص 302.
[77] كما يعبر عن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي" الحديث.
[78] أي أن النفث في الروع والرؤية الصادقة صورتان يفسر بهما قوله تعالى: {إِلا َّ وَحْيا} 15: الشورى، وهما معا الحالة الأولى.(19/246)
[79] انظر صحيح البخاري جـ اص 302 وقد سبق لنا منذ قليل ذكر طرف من هذا الحديث وكررناه هنا لاعتبار آخر.
[80] المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون ص 73: التقدم.
[81] قوله "كلية "يحتاج إلى احتراز. فلأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين "بشر"وإن كانوا صفوة البشر. وهداة البشر.
[82] انظر النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز ص 63.
[83] سبق ذكر أسانيد بعض هذه الأحاديث وهي في الصحيحين وأبي داود والترمذي.
[84] ص 65 من النبأ العظيم.(19/247)
علم الجرح والتعديل
لفضيلة الدكتور/ عبد المنعم السيد نجم.
الأستاذ المشارك ورئيس قسم علوم الحديث بالجامعة الإسلامية.
علم الجرح والتعديل:
من المعلوم لدى المسلمين جميعاً أن السنة المشرفة هي مصدر دينهم بعد كتاب ربهم وهي مناط عزهم ولولاها ما راح مسلم ولا جاء.
وقد تكفلت ببيان القرآن وإبراز محتواه إلى الناس لأن الذي تحدث بها هو الذي جاء بالقرآن من عند الله وهو أدرى به، وعليه فالسنة هي الأصل الثاني للشريعة والقرآن هو الأصل الأول كما تقدم، ومنكر الأصل الثاني منكر للأصل الأول لأنه أمر بالأخذ بالثاني وبإنكاره يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
ولما كانت السنة بهذه الأهمية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظها وتبليغها على وجهها كما سمعت ونهى عن الكذب في الأخبار عنه وتوعد فاعله مقعداً في النار ولأن نسبة الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم شرع يعمل به وكذب عليه ليس ككذب على غيره، ومن هنا قام جماعة من الأئمة بحفظها في الصدور وتدوينها في السطور وقطعوا في سبيل ذلك الفيافي والقفار وواصلوا الليل بالنهار واعتبروا ذلك من أوجب الواجبات عليهم، وعلى قاعدة الحفظ والتبليغ مع الأمانة والصدق والبعد عن الكذب المشار إليها حرص العلماء على الوقوف على أحوال الرواة بالبحث عن مواليدهم وأسمائهم وكناهم وألقابهم وبلدانهم ورحلاتهم وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم وغير ذلك من كذب أو غفلة أو علة أو نسيان وما إلى ذلك ووضعوا كل واحد منهم مادام قد تصدى للرواية في سجل يجمع كل هذا حتى يعرف من كان من أهل الشأن من غيره.(19/248)
ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل أو علم فحص الرجال أو علم ميزان أو معيار الرواة.. وقام جماعة من الأئمة بهذه المهمة الجليلة التي سنها لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومشى عليها الصحابة عليهم الرضوان، وعلم الجرح والتعديل علم جليل القدر من أجل العلوم التي نشأت بنشأة حفظ السنة وتدوينها بعيدة عن الخلل والزيف. وهو علم لا نعرف له نظير في تاريخ الأمم الأخرى. واستطاع العلماء بهذا العلم الوقوف على أحوال الرواة وميزوا بين الصحيح وغيره من الأخبار، فجندوا أنفسهم لاختبار من يعاصرونهم من الرواة ولم يكتفوا بذلك بل ويسألونهم عن السابقين ممن لم يعاصروهم ويعلنوا رأيهم فيهم دون تحرج ومأثم إذ كان ذلك ذبا عن دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد قيل لأبي عبد الله البخاري إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ يقولون فيه اغتياب الناس فقال: "لا إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا وقد قال صلى اللَه عليه وسلم: "بئس أخو العشيرة".
تعريف علم الجرح والتعديل:
الجرح: بفتح الجيم مصدر جرح كمنع وهو في اللغة التأثير في الجسم بالسيف ونحوه، وأكثر ما يستعمل بالفتح في المعاني والأعراض باللسان.
وأما الجرح بالضم فهو الاسم وأكثر استعماله بالضم في الأبدان بالحديد ونحوه وهما في اللغة بمعنى واحد يقال فلان جرح فلانا أي سبه وشتمه وجرح الحاكم الشاهد أسقط عدالته وذلك مجاز ويقال: جرح الرجل، أصابته جراحه يقول مجد الدين بن الأثير: ومنه حديث بعض التابعين "كثرت هذه الأحاديث واستجرحت"أي فسدت وقل صلاحها وهو استفعل، من جرح الشاهد إذا طعن فيه ورد قوله، أراد أن الأحاديث كثرت حتى أحوجت أهل العلم بها إلى جرح بعض رواتها ورد روايته.. وجرح بتشديد الراء تجريحا أكثر ذلك فيه.(19/249)
والجرح في الاصطلاح: رد الحافظ المتقن رواية الراوي لعلة قادحة فيه أو في روايته من فسق أو تدليس أو كذب أو شذوذ أو نحوها.
ويلاحظ في التعريف أنه اشترط فيمن يرد رواية الراوي أن يكون حافظا متقنا وهنا يرد به على البعض الذين يقحمون أنفسهم في غير مجالهم وتخصصهم ويطعنون في بعض الرواة والروايات وإليك تحديد الحافظ الذي يملك حق الرد والجرح، قال جمال الدين المزي:- حينما سئل عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ قال: "أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب.."وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: "وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفهم من كل طبقة أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ".
وما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم: "كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء".
معنى الحفظ:
للعلماء اصطلاحات وألفاظ في معنى الحفظ.. قال عبد الرحمن بن مهدي: "الحفظ الإتقان.."وقال أبو زرعه: "الإتقان أكثر من حفظ السرد"، وقال غيره: "الحفظ المعرفة".
قدر الحافظ:(19/250)
عين أئمة الشأن قدرا من الأحاديث إذا حفظها الراوي صار حافظا ومما روي في قدر حفظ الحافظ قول أحمد بن حنبل: "انتقيت المسند من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث"وقال أبو زرعة الرازي: "كان أحمد ابن حنبل يحفظ ألف حديث قيل له وما يدريك قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.." ويقول يحي بن معين: "كتبت بيدي ألف ألف حديث". ويقول البخاري: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح.."ويقول مسلم بن الحجاج: "صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"ويقول أبو داود السجستاني: "كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن أربعة آلاف وثمانمائة حديث"وقال أبو زرعة: "أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد. وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.."وعن الشعبي قال: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته.."ويقول إسحاق بن راهويه: "أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب" وقال يزيد ابن هارون: "أحفظ خمسه وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر وأحفظ للشاميين عشرين ألف حديث".(19/251)
وهناك الكثير من الحفاظ غير ما ذكرت ممن يحفظون الكثير وبمثل هذا الحفظ يستطيع الراوي أن يعرف الأسانيد سواء كانت للشاميين أو للمصريين أو للبصريين أو المدنيين أو الخراسانيين وما إلى ذلك مهما اختلفت، ويميز طريق كل حديث عن غيره وتصبح الروايات والرواة مهما تباعدت البلدان في حفظه وبين يديه ويفرق بين الصحيح والسقيم منها ولا يستطيع دخيل أن يندس بين راوة الحديث لأنه يعرف الرواة بأعيانهم وأحوالهم ولا تخفى علة عليه، وعمل البخاري مع الذين آتوا بمائة حديث مع عشرة أشخاص مقلوبة السند والمتن ليختبروه فلما سمعها على الحالة المذكورة رد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى حديثه، وما ذلك إلا لحفظه وتمكنه ومعرفته بتركيب الأسانيد والمتون، أما ما يفعله البعض من الجهلة والزنادقة من التطاول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعدي على المصنفات الحديثية المعتمدة ونقدها من غير حفظ ولا اطلاع على فن الحديث وعلومه ففعلهم مرض في قلوبهم وحقد على مصدر الإسلام وبعد عن الدين واتباع للشيطان حيث قام على غير أساس، ولو سألت الواحد منهم كم يحفظ من الأحاديث بأسانيدها لأجابك بالنفي وفاقد الشيء لا يعطيه.(19/252)
والسبب في رد الحافظ المتقن رواية الراوي وهو ما كان فيه من علة قادحة فيه أو في روايته كما جاء في التعريف، والعلة عبارة عن سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أن ظاهره السلامة منه أي السبب الغامض، وبتعريف آخر نقول الحديث المعلل ما اطلع فيه الحافظ الخبير بالفن على علة تقدح في صحته مع ظهور السلامة عليه وتكون العلة في الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرا مع خفائها فيه، أما علامتها وكيفية معرفتها: فتعرف العلة بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تضاف إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن الذي أدمن الاطلاع فيه وسبر أهله على وهم وقع بإرسال الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف في قبوله.. قال علي بن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.."وبقية قيود التعريف سنذكرها إن شاء الله بعد تعريف التعديل.
التعديل: جاء من عدل الحكم أقامه، وعدل الرجل زكاه، والميزان سواه، وعليه فالتعديل التقويم والتسوية والتزكية، والعادل من الناس من يقضي بالحق والعدل من الأشياء ما قام في النفوس أنه مستقيم والمقبول والمرضى قوله وحكمه، وجائز الشهادة، وتقول امرأة عدل ونسوة عدل وقد يجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر فتقول امرأة عدالة.
والتعديل في الاصطلاح: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته..
زيادة إيضاح:
وأستطيع أن أعرفه بتعريف آخر مجمل فأقول: هو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة.. ومراتب تلك الألفاظ..
وهذا العلم من فروع علم رجال الحديث ولم تكثر الكتابة فيه مع أنه علم عظيم لأنه ميزان رجال الحديث ومعيار الحكم عليهم وهو الحارس للسنة من كل زيف ودخيل..(19/253)
والكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وجوز ذلك تورعا وصونا للشريعة لا طعن في الناس، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال.. فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك سيأتي بيان أول من عني بذلك من الأئمة.
الجرح وأحكامه
الجرح أجيز في الرواة باتفاق أئمة الشأن صيانة للشريعة الإسلامية من أن يدخل فيها ما ليس منها ونصيحة لله ورسوله عليه السلام والمسلمين ولا يقف على معرفة ذلك إلا المحدث الصادق المشهور بطلب الحديث التقى الورع.. روى الخطيب البغدادي في كفايته بسنده عن أحمد بن محمد البغدادي قال:- سمعت يحي بن معين يقول: "آلة الحديث الصدق والشهرة بطلبه وترك البدع واجتناب الكبائر".
البيان:
لما كانت السنة هي الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات وكانت البيان لكتاب الله والتشريع للناس في كل زمان ومكان كان لابد فيها من أن تكون واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق ثابت ومنسوبة إليه نسبة حقيقية، وقد أمر عليه السلام بتبليغها عنه ونهى عن الكذب فيها ونقل الصحابة عنه ذلك ومشوا عليه..(19/254)
روى الخطيب أيضا بسنده عن الأعمش عن خيثمة عن سويد قال: قال علي بن أبي طالب: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم..وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة.."ومن هنا احتاط الصحابة في الرواية والبعض منهم لم يكثر منها خوف أن يدخل في الحديث شيء لم يرد.. روى الخطيب بسنده عن جامع بن شداد قال سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث عن أبيه قال: "قلت لأبي الزبير مالي لا أراك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدث فلان وفلان وابن مسعود.."قال: والله يا بني ما فارقته منذ أسلمت ولكني سمعته يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده في النار.."ومعنى هذا والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون متعمدا.. ومعنى هذا أنه لا بد من الصدق في الرواية ويحرم الكذب فيها عمدا وغير عمد ولا يعذر غير اليقظ فيها.. قال الخطيب: "ومن سلم من الكذب وأتى شيئا من الكبائر فهو فاسق يجب رد خبره ومن أتى صغيرة فليس بفاسق، ومن تتابعت منه الصغائر وكثرت رد خبره.."وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الكبائر عدة أحاديث: "اجتنبوا السبع الموبقاتٍ" والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على غيره..والفسق به أظهر والوزر به أكبر.. وروى بن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل في تثبيت السنن بنقل الرواة لها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بنقل الأخبار عنه، روى بسنده قال أخبرني أبي نا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية قال حدثني أبو كبشة السلولي قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وروى بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم..ونحن سكوت لا نتحدث فقال: "ما يمنعكم من الحديث"قلنا سمعناك(19/255)
تقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار: "حدثوا عني ولا حرج.." وروى بسنده عن عباية بن رافع بن خديج عن رافع قال: مر بنا يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتحدث فقال "ما تتحدثون"قلنا نتحدث عنك يا رسول الله فقال: "حدثوا وليتبوأ من كذب علي مقعده من جهنم" وروى بسنده عن الحارث بن عمرو قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات ثم قال:"أيها الناس أي يوم هذا وأي شهر هذا قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم وشهركم وبلدكم اللهم هل بلغت فليبلغ الشاهد الغائب.."
بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن سنته ستنقل وتقبل:
وردت أخبار مفادها أن السنة ستنقل عن طريقة التحمل والأداة برواية العدول فقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم.." وروى بسنده أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع"منكم ورواه عنه بثلاث طرق مثله وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم: أن سنته ستشيع بين الناس وتنقل من إنسان لإنسان.
العدالة وأحكامها:(19/256)
أنشأ العلماء من سلف الأمة ومن تبعهم أمورا أو شروطا تعرف بها، منها ما رواد الخطيب البغدادي في كفايته بسنده عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: "إن أناسا كانوا يأخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما آخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة.."وروي أيضا بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته".
حد العدل:
حد العدل في المسلمين من لم يظهر به ريبة، أو للعدل بين المسلمين أو العدل في الشهادة الذي لم تظهر منه ريبة وسئل عبد الله بن المبارك عن العدل فقال: "من كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب، ولا تكون في دينه خربه، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء".
المقدار في تحقق العدالة:
روى الخطيب بسنده عن مالك بن أنس يقول سمعت الزهري يقول سمعت سعيد ابن المسيب يقول: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لابد ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"، وروى بسنده عن البويطى يقول قال الشافعي: "لا أعلم أحدا أعطى طاعة لله حتى لا يخلطها بمعصية إلا يحي بن زكريا عليه السلام، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعته، فإذا الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح".(19/257)
ومعنى آخر يحدد العدالة ويبين العدل: قال الخطيب حدثني أبو الفضل محمد بن عبيد الله المالكي أنه قرأ على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب قال: "والعدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه وسلامة مذهبه وسلامته من الفسق وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل للعدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها والواجب أن يقال في جميع صفات العدالة أنها اتباع أوامر الله تعالى والانتهاء عن ارتكاب ما نهى عنه مما يسقط العدالة.. وقد علم من ذلك أنه لا يكاد يسلم المكلف من البشر من كل ذنب ومن ترك بعض ما أمر به حتى يخرج لله من كل ما وجب عليه وأن ذلك يتعذر فيجب لذلك أن يقال إن العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقى ما نهى عنه وتجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه، وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقا وزادوا على هذا بعض الذنوب التي ليست من الكبائر، إما لأنها متهمة لصاحبها ومسقطة له ومانعة من ثقته، وأمانته أو لغير ذلك فإن العادة موضوعة على أن من احتملت أمانته سرقة بصله وتطفيف حبة احتملت الكذب، وأخذ الرشاوى على الشهادة ووضع الكذب في الحديث والاكتساب به فيجب أن تكون هذه الذنوب في إسقاطها للخبر والشهادة بمثابة ما اتفق على أنه فسق يستحق به العقاب.."إلى أن قال: "فهذه سبيله في أنه يجب كون الشاهد والمخبر سليما منه.."قال الخطيب: "والواجب عندنا أن لا يرد الخبر والشهادة إلا بعصيان قد اتفق على رد الخبر والشهادة به وما يغلب به ظن الحاكم والعلم أن مقترفه غير عدل ولا مأمون عليه الكذب في الشهادة والخبر ولو عمل العلماء والحكام على أن لا يقبلوا خبرا ولا شهادة إلا من مسلم بريء من كل كذب قل أو كثر لم يمكن قبول شهادة أحد(19/258)
ولا خبره لأن الله قد أخبر بوقوع الذنوب من كثير ولو لم يرد خبر صاحب ذلك شهادته بحال لوجب أن يقبل خبر الكافر والفاسق وشهادتهما وذلك خلاف الإجماع فوجب القول في جميع صفة العدل بما ذكر".
زيادة إيضاح:
وفسر العدل أيضا بأن يكون مسلما بالغا عاقلا فلا يقبل كافر ومجنون مطبق بالإجماع ومن تقطع جنونه وأثر في زمن إفاقته وإن لم يؤثر قبل ولا صغير على الأصح، وقيل يقبل المميز إن لم يجرب عليه الكذب وأن يكون سليما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، والمروءة بضم الميم والراء على وزن سهولة وهي آداب نفسانية تحمل مراعاتها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات ومعرفتها ترجع إلى العرف.
ما يستوي فيه المحدث والشاهد من الصفات وما يفترقان فيه جاء عن أبى بكر محمد ابن الطيب قال: لا خلاف في وجوب قبول خبر من اجتمع فيه جميع الصفات الشاهد في الحقوق من الإسلام والبلوغ والعقل والضبط والصدق والأمانة والعدالة إلى ما شاكل ذلك، ولا خلاف أيضا في وجوب اتفاق المخبر والشاهد في العقل والتيقظ فأما ما يفترقان فيه فوجوب كون الشاهد حرا وغير والد ولا مولود ولا قريب قرابة تؤدي إلى ظنه وغير صديق ملاطف وكونه رجلا إذا كان في بعض الشهادات وأن يكون اثنين في بعض الشهادات وأربعة في بعضها وكل ذلك غير معتبر في المخبر لأننا نقبل خبر العبد والمرأة والصديق وغيره، وإجمالا: الرواية والشهادة كلاهما خبر غير أن الرواية خبر عام قصد به تعريف دليل شرعي وأما الشهادة فهي خبر خاص قصد به ترتيب فصل القضاء عليه ويشترط عدم العداوة بين الشاهد والمشهود عليه.
تنبيه:(19/259)
قال الخطيب البغدادي: "فأما الحديث الذي أخبرناه القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي بسنده عن صالح بن حسان عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا العلم إلا عمن تجوز شهادته.."فإن صالح بن حسان تفرد بروايته وهو ممن اجتمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج به لسوء حفظه وقلة ضبطه، وكان يروي الحديث عن محمد بن كعب تارة متصلا، وأخري مرسل، ويرفعه تارة ويوقفه أخرى.. وساق كل طرقه"، ثم قال: "على أن هذا الحديث لو ثبت إسناده وصح رفعه، لكان محمولا على أن المراد به جواز الأمانة في الخبر بدليل الإجماع على أن خبر العبد العدل مقبول".(19/260)
روى ابن حبان بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فقال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له وفي رواية "غير فقيه" ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يضل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل والنصيحة لأولى الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تكون من ورائهم" [1] قال أبو حاتم: "الواجب على كل من ركب فيها آلة العلم، أن يرعى أوقاته على حفظ السنن رجاء اللحوق بمن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ الله جل وعلا أمر عباده باتباع سنته وعند التنازع الرجوع إلى ملته حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [2] ثم نفى الإيمان عمن لم يحكمه فيما شجر بينهم فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [3] ولم يقل حتى يحكموا فلانا وفلانا فيما شجر بينهم ولا قال حرجا مما قضى فلان وفلان، فالحكم بين الله عز وجل وبين خلقه رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا نحب لمن أشعر الإيمان قلبه أن يقصر في حفظ السنن بما قدر عليه حتى يكون رجوعه عند التنازع إلى قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم وقد تقدم حديث "بلغوا عني ولو آية.."والأحاديث الواردة في تغليظ الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كثيرة كما مر أيضا.
ثبوت السنة وترغيب النبي في طلبها من حاملها ووصيته بالمرتحلين فيها:(19/261)
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم له السبق في دفع الناس إلى طلب العلم والتعلم والترغيب فيه روى عبد الرحمن بن أبى حاتم بسنده عن أبي صلح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة.." وروى بسنده عن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال: "يا أبا الدرداء جئتك من المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله" قال: ولا جئت لحاجة؟ "قال: "لا"، قال: "ولا جئت لتجارة؟ " قال: "لا"، قال: "ولا جئت إلا لهذا الحديث؟ "قال نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله عز وجل به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالبي العلم.." وروى أيضا بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس لكم تبع" قال فكان إذا أتوه قال مرحبا بوصية رسول الله، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيأتيكم أناس من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا.." قال عبد الرحمن بن أبي حاتم:.. وقد روي عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عباس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وقيس بن عبادة، وخلق من التابعين وأتباعهم يطول ذكرهم في رحلة بعضهم في طلب العلم الآثار وترغيب بعضهم فيها، أمسكنا عن ذلكَ اكتفاء بما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.. ولما أوصى النبي بطالبي الآثار والمرتحلين فيها ونبه عن فضيلتهم علم أن في ذلك ثبوت الآثار بنقل الطالبين الناقلين لها ولو لم تثبت الأخبار بنقل الرواة لها لما كان في ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم معنى.. قال بن أبي حاتم مستدلا على ما تقدم بما جاء في أول كتابه: "بدأنا في ذكر ثبوت السنن بنقل الرواة لها بما(19/262)
حضرنا من الدلائل الواضحة من كتاب الله عز وجل وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم إذ كان قوم من أهل الزيغ والبدع زعموا أن الأخبار لا تصح بنقل الرواة لها وأن طريق صحتها إجماع العامة عليها فأتينا في ذلك وفي إبطال دعواهم ودحض حجتهم بما رأيناه كافيا".
الجرح والتعديل وبيان أحوال الرواة ونفى تهمة الكذب عن الصحابة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كل حديث اتصل إسناده بين من رواه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [4] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [5] وهذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به الخاص، وقيل هو وارد في الصحابة دون غيرهم، وقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [6] وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [7] وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [8] .. وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ(19/263)
تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [9] في آيات كثيرة يكثر إيرادها ويطول تعدادها، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك أطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم، فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى ما رواه مسلم بسنده عن عبيدة السلماني عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وروى بسنده عن عبيدة عن عبد الله قال: قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال: "قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة، قال ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وروى أيضاً عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فلا أدري في الثالثة أو في الربعة قال ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" كذلك عن أبي هريرة وعمران بن حصين بعدة روايات وفيها والله أعلم أذكر الثالث أم لا..(19/264)
ولكن رواية عائشة رضى الله عنها خلت من الشك في العدد قالت سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني والثالث" [10] وقد حفظه كذلك عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وبه رواه الخطيب البغدادي [11] قال النووي بعد ذكر اختلاف العلماء في تحديد مدة القرن: "والصحيح أن قرنه صلى الله عليه وسلم الصحابة والثاني التابعون والثالث تابعوهم..".
قال ابن القيم: "فقد اتفقت الأحاديث على قرنين بعد قرنه صلى الله عليه وسلم إلا حديث أبي هريرة فإنه شك فيه، وأما ذكر القرن الرابع فلم يذكر إلا في رواية في حديث عمران بن حصين لكن في الصحيحين له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزوا فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزوا فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم"فهذا فيه ذكر قرنين بعده كما في الأحاديث المتقدمة ورواه مسلم.. فذكر فيه ثلاثة بعده ولفظة يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون أنظر هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظروا هل ترون فيهم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله فيفتح لهم ثم يكون البعث الرابع فيقال أن انظروا هل ترون فيم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح له" [12] .
تحريم سب الصحابة(19/265)
سب الصحابة رضي الله عنهم من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها عليها وكلهم عدول ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون كما قلنا اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما اختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم، يقول النووي: "واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأن الحق معه لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه فكلهم معذورون رضي الله عنهم..".(19/266)
ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين وعن تحريم سبهم روى مسلم بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال، قال: رسول الله صلى عليه سلم: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهابا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه.." وروى بسنده عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه.."قال النووي: قال القاضي عياض: وسب الصحابة من المعاصي الكبائر ومذهبنا ومذهب جمهور أنه يعزر ولا يقتل وقال المالكية يقتل" [13] قال الخطابي: النصيف بمعنى النصف كما قالوا الثمين بمعنى الثمن والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم" [14] .(19/267)
قال القاضي عياض: "ويؤيد هذا ما جاء عن الجمهور من تفضيل الصحابة كلهم على جميع من بعدهم، وسبب تفضيلهم نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته، وذلك معدوم بعده وكذلك جهادهم وسائر طاعاتهم وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا..} الآية [15] هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع وإيثار الجهاد في الله حق جهاده وفضيلة الصحابة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". وروى الخطيب بسنده عن أبي زرعة يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق.. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وإنما أدي إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم, وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة" [16] .
لماذا لا نجرح الصحابة!
لأنهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة.
وجعلهم لنا أعلاما وقدوة. فحفظوا عنه ما بلغهم عن الله عز وجل، وما سن وما شرع وحكم وقضى، وندب وأمر ونهى وحظر وأدب.
فالصحابة رضي الله عنهم هم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى عليه وسلم وانظروا قضاءه وحكمه فيما اختلف الناس فيه، وشهدوا أخلاقه وآدابه، وأحواله وتصرفه في السلم والحرب والمعاهدات، وأمور الدنيا والآخرة، واستقى كل منهم بقدر استعداده من ينبوع الفيض الرباني.(19/268)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما رواه البخاري بسنده عن ابن الشهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن، سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطى، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.." وتسابق الصحابة في أخذ ما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده- بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتلقفهم منه واستنباطهم عنه.
فشرفهم الله بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة، فقال عز وجل في كتابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله: {وَسَطاً} قال: "عدلا.." فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة، وسندهم عال فليس بينهم وبين الله إلا واسطتان النبي وجبريل عليهما السلام.
وقد قال قائل: فكيف جرحتم من بعد الصحابة؟ كما ظهر ذلك من عناية أئمة الحديث بحفظ السنن على المسلمين وذب الكذب عن رسول رب العالمين، ولولاهم لتغبرت الأحكام عن سنتها حتى لا يعرف أحد صحيحها من سقيمها والملزق بالنبي صلى الله عليه وسلم والموضوع عليه مما روى عنه الثقاة والأئمة في الدين، فإن قال قائل: كيف جرحتم من دون الصحابة وأبيتم ذلك في الصحابة والسهو قد يقع منهم كما وجد فيمن بعدهم من المحدثين؟ يقال له: إن الله نزه أقدار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلب قادح، وصان أقدارهم عن وقيعة متنقص، وجعلهم كالنجوم يقتدى بهم.(19/269)
وقد قال الله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ثم قال: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} فمن أخبر الله أنه لا يخزيه يوم القيامة فقد شهد له باتباعه ملة إبراهيم حنيفا لا يجوز أن يجرح بالكذب، لأنه يستحيل أن يقول الله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" فيطلق النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب النار لمن أخبر الله أنه لا يخزيه يوم القيامة، بل الخطاب وقع على من بعد الصحابة.
وأما من شهد التنزيل، وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم فالثلب لهم غير حلال، والقدح فيهم ضد الإيمان والتنقيص لأحدهم نفس النفاق، لأنهم خير الناس قرنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
وأن من تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيداعهم ما ولاه الله بيانه للناس لا يجرح، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يودع أصحابه الرسالة وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب إلا وهم عنده صادقون جائزوا الشهادة، ولو لم يكونوا كذلك لم يأمرهم بتبليغ من بعدهم ما شهدوا منه، لأنه لو كان كذلك لكان فيه قدحا في الرسالة، وكفى بمن عد له رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا، وأن من بعد الصحابة ليسوا في مرتبهم.
والصحابة ندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم، والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [17] .(19/270)
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره".
وفي رواية زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه وبلغه غيره، فرب حامل فقه ليس بفقيه"، وفي رواية، "ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يضل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة فان دعوتهم تحيط من ورائهم"وغير ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه لعله أن يبلغه من هو أوعى له"وقال: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج".
وهذا وغيره مما أمر به الصحابة أولا، ثم أمروا إلى نقله إلى من بعدهم مع المحافظة على المنقول من الزيادة وطلب الوعي والضبط.
منع الرواية عن الضعفاء ... والتثبت في تحملها
يقصد بهذا العنوان تأكيد ما سبق ووضع قاعدة لمن تؤخذ عنهم الرواية ومن تطرح روايتهم أو يتوقف فيها حتى يبين أمرهم.. روى عبد الرحمن بن أبي حاتم بسنده عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا به أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم.." وروى أيضا بسنده عن شراحيل بن يزيد يقول: حدثني مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون آخر الزمان دجالون [18] كذابون يأتونكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلوكم ولا يفتنوكم..".(19/271)
قال عبد الرحمن: "لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذابين يكونون في آخر الزمان يكذبون عليه علم أن الأول وهم الصحابة خارجون من هذه الجملة وزائل عنهم التهمة" [19] ورواه مسلم بسنده عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في آخر الزمان أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم" وروى بسنده أيضا عن مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في الزمان دجالون كذابون به" وروي مسلم أيضا بسنده عن مجاهد قال بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع.. فقال ابن عباس: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب [20] والذلول لا نأخذ من الناس إلا ما نعرف". إلى غير هذه الروايات وهي كثيرة، وحاصلها أنه لا يقبل رواية المجهول وأنه يجب الاحتياط في أخذ الحديث، فلا يقبل إلا من أهله، وأنه لا ينبغي أن يروى عن الضعفاء، وسيأتي المراد بالضعف الذي تطرح الرواية بسببه.
بيان أن الأخبار من الدين والتحرز من التوقي فيها.
هنا بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقاة، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، وسيأتي زيادة في هذا.. روى عبد الرحمن بن أبي حاتم عن ابن سيرين قال: "إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونه".(19/272)
وروى أيضا بسنده عن محمد بن سيرين قال: "إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذونه ومرة يروى بلفظ أن هذا العلم دين به.."ويروى أيضا عن ابن سيرين بلفظ: "انظروا عمن تأخذون هذا الحديث فإنما هو دينكم.."وروى بسنده.. قال ابن شهاب: "إذا حدث لي بالإسناد ويقول: لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة".
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن بهز بن أسد يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح: "هذه شهادات العدول المرضيين بعضهم على بعض"، وإذا ذكر له الإسناد فيه قال: "هذا فيه عهدة"، ويقول: "لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم ثم جحده لم يستطع أخذها منه إلا بشاهدين عدلين، فدين الله عز وجل أحق أن يؤخذ فيه بالعدول". وروى مسلم بسنده عن عاصم الأحول عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
قال مسلم رحمه الله في مقدمة كتابه: "اعلم أن الواجب على أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقاة الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان من أهل التهم والمعاندين من أهل البدع".(19/273)
قال النووي: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق، وأما الذي لا يكفر بها فاختلفوا في روايته: فمنهم من ردها مطلقا لفسقه ولا ينفعه التأويل، ومنهم من قبلها مطلقا، إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية وهذا محكي عن الإمام الشافعي لقوله أهل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لكونهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ومنهم من قال: تقبل إذا لم يكن داعية لبدعته ولا تقبل إذا كان داعية وهذا مذهب كثيرين أو الأكثر من العلماء وهو الأعدل الصحيح وقال بعض أصحاب الشافعي: اختلف أصحاب الشافعي في غير الداعية واتفقوا على عدم قبول الداعية.. وقال أبو حاتم ابن حبان - بكسر الحاء -: "لا يجوز الاحتجاج بالداعية عند أئمتنا قاطبة لا خلاف بينهم في ذلك".
وأما المذهب الأول فضعيف جدا ففي الصحيحين وغيرهما من أصحاب السنن وأئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير الدعاة، ولم يزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاحتجاج بها والسماع منهم وإسماعهم من غير إنكار منهم، وروى مسلم بسنده في كون الإسناد من الدين عن سليمان بن موسى قال: "قلت لطاووس إ ن فلانا حدثني بكذا وكذا"، قال: "إن كان صاحبك مليا فخذ عنه".
(مليا) : يعنى ثقة ضابطا متقنا يوثق بدينه ومعرفته ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملي بالمال ثقة بذمته.. وروى مسلم بسنده أيضا عن أبي الزناد عن أبيه قال: "أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله".(19/274)
وروى بسنده عن مسعر قال: "سمعت سعد بن إبراهيم يقول لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقاة.." وروى بسنده عن عبد الله بن المبارك يقول: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". ويقول أيضا: "بيننا وبين القوم القوائم.." ومعنى هذا الكلام إن جاء بإسناد صحيح قبلنا حديثه وإلا تركناه فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير إسناد كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم..
زيادة إيضاح:
سبق لنا أن أشرنا إلى رأي بعض الأئمة حكم رواية المبتدع وبقي هنا أن نزيد هذه المسألة إيضاحا، جمع الخطيب البغدادي رحمه الله مذاهب العلماء عما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج بروايتهم.
فقال: اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء، كالقدرية والخوارج والروافض، وفي الاحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك؛ لعلة أنهم كفار- عند من ذهب إلى أكفار المتأولين، وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول.
وقال من ذهب إلى هذا المذهب: أن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند، والفاسق العامد فيجب ألا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة.
وممن قال بهذا القول من الفقهاء: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون شهادة بالزور لموافقهيم". ويحكى أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري.(19/275)
يقول الشيخ السبكي في طبقاته عند كلامه على شهادة المبتدع: "وقد تزايد الحال بالخطابية وهم المجسمة في زماننا هذا فصاروا يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة لا سيما القائم عليهم بكل ما يسوءه في نفسه وماله.. وبلغني أن كبيرهم استفتي في شافعي أيشهد عليه بالكذب فقال: ألست تعتقد أن دمه حلال؟ قال: نعم..قال: فما دون ذلك دون دمه، فاشهدوا دفع فساده عن المسلمين فهذه عقيدتهم ويرون أنهم المسلمون أنهم أهل السنة.." الخ
قال الخطيب البغدادي: "وقال كثير من العلماء: تقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، وممن ذهب إلى ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل".
وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين: أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة وإن كانوا كفارا وفساقا بالتأويل، فمن ذهب إلى منع قبول أخبارهم احتج بما قدمنا ذكره.
وساق الخطيب السند عن أبي سكينة بن مشاجع بن قطبة: قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في مسجد الكوفة يقول: "انظروا عمن تأخذون هذا العلم فإنما هو الدين"وأورد الروايات السابقة عن ابن سيرين وغيره في كون السند من الدين ... ومنها ما رواه الخطيب أيضا بسنده عن عاصم.. قال سمعت ابن سيرين يقول: "كانوا لا يسألون عن الإسناد، حتى كان بآخره، فكانوا يسألون عن الإسناد، لينظروا من كان صاحب سنة كتبوا عنه، ومن لم يكن صاحب سنة لم يكتبوا عنه".
وجاء عنه ما رواه بسنده عن علي بن حرب قال: "من قدر ألا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة، فإنهم يكذبون كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي.."وروى أيضا بسنده عن ابن لهيعة يذكر أنه سمع رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول: "انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه فإنا كنا إذا رأينا رأيا جعلناه حديثا.."وسيأتي مزيد بيان في هذا.(19/276)
وأما عن أدلة ما تقدم فقد ذكر الخطيب بعض المنقول عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع.. وأشار إلى ما قاله الشافعي في جواز قبول شهادة أهل الأهواء غير صنف من الرافضة خاصة..
وروى بسنده عن علي بن الجعد يقول سمعت أبا يوسف يقول: "أجيز شهادة أهل الأهواء - أهل الصدق منهم - إلا الخطابية، والقدرية، الذين يقولون إن الله لا يعلم الشيء".
وروى بسنده أيضا عن ابن المبارك يقول: س"أل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ "قال: "من كل عدل في هواء، إلا الشيعة فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعا، أما إني لا أقول أنهم يكذبونهم، أو يأمرونهم بما لا ينبغي، ولكن وطؤا لهم حتى انقادت العامة بهم فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين".
وأما من ترك الدعاة من أهل البدع أن يروى عنهم، وروى عمن لم يكن داعية أو أفتى بذلك.
يقول الخطيب: "فأخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: "من رأى رأيا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيا ودعى إليه فقد استحق الترك". وروى ابن معين ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وجماعة أنهم كانوا يروون عن غير الداعية ويتركون الرواية عن الداعية فعل ابن المبارك فقد تحدث عن هشام الدستوائي، وترك عمرو بن عبيد ولما سئل قال:"إن عمرو يدعو" [21] وذكر من مثل هذه العبارات الكثيرة كلها يوضح مذهب كل من العلماء فيما ذهب إليه من الرد والقبول.
الخبر الدال على طلب معرفة الضعفاء والوقوف على أحوالهم.(19/277)
وردت عدة أخبار تشير إلى الحث على معرفة الضعفاء حتى يقف الباحث على أمرهم. روى ابن حبان والمنذري: عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا: "أتينا العرباض بن سارية - وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين، وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.."قال المنذري: "وأخرجه الترمذي وابن ماجه وليس في حديثهما ذكر حجر ابن حجر، غير أن الترمذي أشار إليه تعليقا"وقال الترمذي: "حسن: صحيح"والخلفاءَ: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. وقال صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.. فخص اثنين- فإذا قال أحدهما قولا وخالفه فيه أحد من الصحابة كان المصير إلى قوله أولى.. ويقول الخطابي في معالم السنن أيضا: (والنواجذ) آخر الأضراس.. واحدها ناجذ.. وإنما أراد الجد في لزوم السنة، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعضو عليه، منعا له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء، إذا كان ما يمسكه بمقاديم فيه أقرب تناولا وأسهل انتزاعا.(19/278)
وقد يكون معناه أيضا: الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله، كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه.. وقوله: "كل محدثة بدعة" فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء على غير أصل من أصول الدين، وعلى غير عياره وقياسه.. وأما ما كان مبنيا على قواعد الأصول ومردود إليها فليصل ببدعة ولا ضلالة. [22] ..
وقال ابن حبان قال أبو حاتم: في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا فعليكم بسنتي.." "دليل صحيح على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أمته بمعرفة الضعفاء من الثقاة لأنه لا يتهيأ لزوم السنة مع ما خالطها من الكذب والأباطيل إلا بمعرفة الضعفاء من الثقاة وقد علم النبي عليه الصلاة والسلام بما يكون من ذلك في أمته إذ قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ... "
الأمر بجرح الضفعاء ونشوء هذا العلم.
تحت هذا الموضوع سنبين الأدلة المجوزة في جرح الضعفاء وأنه من الدين، وبيان الفرق بين الجرح والغيبة المنهي عنها..(19/279)
روى محمد بن حبان بسنده عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب بحسان ابن ثابت وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال حسان: "قد كنت أنشد فيه مع من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: "أنشدكَ الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان أجب عني.. اللهم أيده بروح القدس؟ " قال: "نعم" [23] ورواه مسلم في صحيحه [24] قال أبو حاتم: "في هذا ... كالدليل على الأمر بجرح الضعفاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت أجب عني، وإنما أمر أن يذب عنه ما كان يقول عليه المشركون فإذا كان في تقول المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يذب عنه، وإن لم يضر كذبهم المسلمين، ولا أحلوا به الحرام، ولا حرموا به الحلال، كان من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين الذي يحل الحرام ويحرم الحلال بروايتهم أحرى أن يؤمر بذب ذلك الكذب عنه صلى الله عليه وسلم".
وعقب أبو حاتم على حديث أبي هريرة: "يتقارب الزمان وينقص وتظهر الفتن ويكثر الهرج".(19/280)
قال: إن العلم ينقص عند تقارب الزمان، وفيه دليل على أن ضد العلم يزيد، وكل شيء زاد مما لم يكن مرجعه إلى الكتاب والسنة فهو ضد العلم، ولست أعلم العلوم كلها إلا في زيادة إلا هذا الجنس الواحد من العلم، وهو الذي لا يكون للإسلام قوام إلا به، إذ الله جل وعلا أمر باتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، وعند التنازع الرجوع إلى ملته وعند الحوادث حيث قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..} [25] ثم نفى الإيمان عمن لم يحكم رسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [26] فمن لم يحفظ سنن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحسن تمييز صحيحها من سقيمها ولا عرف الثقاة من المحدثين ولا الضعفاء والمتروكين ومن يجب قبول انفراد خبره ممن لا يجب قبول زيادة الألفاظ في روايته، ولم يحسن معاني الأخبار والجمع بين تضادها في الظواهر ولا الناسخ من المنسوخ، ولا اللفظ الخاص الذي يراد به العام، ولا اللفظ العام الذي يراد به الخاص.. ولا الأمر الذي هو فريضة وإيجاب، ولا الأمر الذي هو فضيلة وإرشاد، ولا النهي الذي هو حتم لا يجوز ارتكابه من النهي الذي هو ندب يباح استعماله، مع سائر فصول السنن، وأنواع أسباب الأخبار كيف يستحل أن يفتي، أو كيف يسوغ لنفسه تحريم الحلال، أو تحليل الحرام تقليد أمنه لمن يخطئ ويصيب رافضا قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن كيفية نقص العلم الذي ذكره في خبر أبي هريرة، وأن ذلك ليس برفع العلم نفسه، بل موت العلماء الذين يحسنون ذلك.
وهم وقع فيه البعض..(19/281)
بعض الناس وقعوا في وهم سببه أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين وصف الشخص بما يجرحه نصيحة ومصلحة للشريعة الغراء وبين الغيبة التي يقصد بها القدح والانتقاص بدون مصلحة تتعلق بالدين.
وقد عقد الخطيب البغدادي بابا في وجوب تعريف المزكي ما عنده من حال المسئول عنه.. ومهد له بما رواه بسنده عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار.."(19/282)
وقد أنكر قوم لم يتبحروا في العلوم قول الحافظ من أئمتنا، وأولى المعرفة من أسلافنا الراوي ضعيف، وفلانا غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام ورأوا في ذلك غيبة لمن قيل فيه، إن كان الأمر على ما ذكره القائل، وإن كان الأمر على خلافه فهو بهتان.. واحتجوا بالحديث الذي رواه الخطيب بسنده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول ففد بهته.." وروى محمد بن حبان بسنده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الغيبة؟ "الحديث.. قال أبو حاتم: "احتج بهذا ممن ليس الحديث صناعتهم، وزعموا أن قول أئمتنا فلان ليس بشيء، وفلان ضعيف، وما يشبه هذا من المقال غيبة إن كان فيهم ما قيل، وإلا فهو بهتان عظيم" [27] ثم قال: "إن هذا ليس بالغيبة المنهي عنها وذلك أن المسلمين قاطبة ليس بينهم خلاف أن الخبر لا يجب أن يسمع عند الاحتجاج إلا من الصدوق العاقل، فكان في إجماعهم هذا دليل على إباحة جرح من لم يكن يصدق في الرواية عن أن السنة تصرح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بضد ما انتحل مخالفونا فيه.."وعن ابن حبان الخبر الدال على صحة ما ذهب إليه.. قال حدثنا الحسن ابن سفيان الشيباني قال أنبانا روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت: أقبل رجل فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بئس أخو العشيرة، أو قال ابن العشيرة.."فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم كلمه وانبسط إليه فلما ولى قالت عائشة يا رسول الله: "لما رأيته قلت.. ولما جاء كلمته وانبسطت إليه"، فقال يا عائشة: "إن شر أمتي عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه"قال أبو حاتم: وفي هذا الخبر دليل على إخبار الرجل بما في الرجل على(19/283)
جنس الإبانة أو الديانة ليس بغيبة إذ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة"، ولو كان هذا غيبة لم يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أراد بقوله هذا أن يفتدي ترك الفحش، إلا أنه أراد ثلبه وإنما الغيبة ما يريد القائل القدح في المقول فيه، وأئمتنا رحمة الله عليهم إنما بينوا هذه الأشياء
وأطلقوا الجرح في غير العدول لئلا يحتج بأخبارهم لا أنهم أرادوا ثلبهم والوقيعة فيهم.
والإخبار عن الشيء لا يكون غيبة إذا أراد القائل به الثلب [28] وجاء في مختصر سنن أبي داوود للمنذري [29] عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره"قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
ومعنى هذا: أي قلت فيه البهتان وهو الباطل وقيل واجهته بما لم يفعل.
وقيل قلت فيه من الباطل ما حيرته به.. يقال بهت الرجل بفتح الباء وكسر الهاء إذا تحير وبهت بضم الهاء - مثله.. وأفصح منها بهت - بضم الباء وكسر الهاء -
قال الله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ..} [30] .
وقال بعضهم: الاغتياب حرام والغيبة ذكر الإنسان بما يكره في غيبته- والبهت وجهه، وكلاهما مذموم كان بحق أو بباطل، إلا أن يكون بوجه شرعي..
فيقول ذلك في وجهه على طريق الوعظ والنصيحة وله التعريض دون التصريح والحديث رواه مسلم بسنده عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به.
قال النووي: "باب تحريم الغيبة وفيه يقال بهته بفتح الهاء مخففة قلت فيه البهتان وهو الباطل؛ والغيبة: ذكر الإنسان في غيبته بما يكره وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه وهما حرامان لكن تباح لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب:(19/284)
(1) التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم لدى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول ظلمني فلان أو فعل بي كذا..
(2) الاستغاثة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فأزجره عني ونحو ذلك..
(3) الاستفتاء: بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه ورفع ظلمه عني ونحو ذلك فهذا جائز، والأجود أن يقول في رجل أو زوج أو والد وولد كان من أمره كذا ومع ذلكَ فالتعيين جائز لحديث هند وقولها: "إن أبا سفيان رجل شحيح".
(4) تحذير المسلمين من الشر وذلك من وجوه جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع، بل واجب صونا للشريعة.
ومنها الإخبار بعيبه عند المشاورة في مصاهرته، ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو عبدا سارقا أو زانيا أو شاربا أو نحو ذلك تذكره للمشتري إذا لم يلعمه نصيحة لا بقصد الإيذاء والإفساد، ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علما وخفت عليه ضرره فعليك نصيحته ببيان حاله قاصدا النصيحة.
ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل بها على حاله فلا يغتر به ويلزم الاستقامة.
(5) أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالخمر ومصادرة الناس وجباية المكوس وتولي الأمور الباطلة فيجوز بغيره إلا بسبب آخر.
(6) التعريف: فإذا كان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع والأحول والضال ونحوها جاز تعريفه به ويحرم ذكره به تنقصا.. ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى.(19/285)
أما عن حديث عائشة السابق في الرجل الذي تكلم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ذكره المنذري في مختصر السنن عن عروة، وهو ابن الزبير رضى الله عنهما عن عائشة رضى الله عنها قالت: استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: "بئس ابن العشيرة - أو بئس رجل العشيرة -"ثم قال: "أئذنوا له". فلما دخل ألان له القول، فقالت عائشة: "يا رسول الله ألنت له القول وقد قلت ما قلت؟ "قال: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من ودعه الناس- أو تركه - الناس اتقاء فحشه".
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
قال المنذري: "وهذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري".
وقيل: "هو مخرمة بن نوفل الزهري والد المسور بن مخرمة".
وعن أبي سلمة، وهو ابن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس أخو العشيرة.. فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلت: "يا رسول الله لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة فلما دخل انبسطت له؟ "
فقال: "يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش المتفحش.." [31]
قال الشيخ الخطابي: "أصل الفحش زيادة الشيء على مقداره ومن هذا قول الفقهاء "يصلى في الثوب الذي أصابه الدم إذا لم يكن فاحشا"أي كثيرا مجاوزا للقدر الذي يتعافاه الناس فيما بينهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: إن استقبال المرء صاحبه بعيوبه إفحاش والله لا يحب الفحش، ولكن الواجب أن يتأنى له، ويرفق به ويكني في القول، ويوري به ولا يصرح.(19/286)
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره بالعيب الذي عرف به قبل أن يدخل.. وهذا من النبي صلى اللَه علية وسلم لا يجري مجرى الغيبة، وإنما فيه تعريف الناس أمره، وزجرهم عن مثل مذهبه، ولعله تجاهر بسوء فعاله ومذهبه، ولا غيبة لمجاهر" [32] .
من ليست له غيبة:
عن أبي عبد الله الجشمي عن جندب - وهو ابن عبد الله البجلي رضى الله عنه - قال: "جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم دخل المسجد فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلقها.. ثم ركب ثم نادى "اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟ قالوا بلى".
أبو عبد اللَه - هذا هو عباس الجشمي، ذكره النسائي في كتاب الكنى وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه نحوا من حديث أبى وليس فيه الفصل الأخير..
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك.
قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى: (وإدخال أبي داود هذا الحديث هنا يريد به أن ذكر الرجل بما فيه في موضع الحاجة ليس بغيبة مثل هذا، ونظيره ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه "ائذنوا له فبئس أخو العشيرة" بوب عليه البخاري: "باب أهل الفساد والريب"وذكر في الباب عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا".
وفي الباب حديث فاطمة بنت قيس لما خطبها معاوية وأبو جهم.
فقال النبي صلى اللَه عليه وسلم: "أما معاوية: فصعلوك، وأما أبو جهم: فلا يضع العصا عن عاتقه".
وقالت هند للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان رجل شحيح".
وقال الأشعث بن قيس للنبي صلى الله عليه وسلم في خصمه: "إنه امرؤ فاجر".(19/287)
وقال الحضرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصمه: "إنه رجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء ... "رواه مسلم [33] .
رأي الخطيب البغدادي في الأمر بجرح غير الثقاة من الرواة.. روى بسنده عن محمد ابن الفضل بن العباس يقول: "كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو إذن يقرأ علينا كتاب (الجرح والتعديل) فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي فقال له: "يا أبا محمد ما هذا الذي تقرؤه على الناس؟ "قال: "كتاب صنفته في الجرح والتعديل"، قال: "وما الجرح والتعديل؟ "قال: "أظهر أحوال أهل العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة.." فقال له يوسف بن الحسين: "استحييت لك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض"، فبكى عبد الرحمن وقال: "يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب لما صنعته".
قال الخطيب: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به.
وفي ذلك دليل على جواز الجرح إن لم يكن صدوقا في روايته مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا.. وبضد قول من خالفنا.
وروى حديث عروة بن الزبير عن عائشة: "ائذنوا له فبئس أخو العشيرة".
قال: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: "بئس رجل العشيرة"، دليل أن أخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم من النصيحة للسائل ليس بغيبة. لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام بما ذكر فيه- والله اعلم- أن بئس للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش، فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه والثلب له.(19/288)
قال الخطيب: "وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل، لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر إذا كان على الوجه الذي ذكرنا، لا يكون غيبة".
يقول أيضا: ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي أخبرناه عبد الرحمن ابن عبيد الله الحرفي بسنده عن مالك بن أنس عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له.
فقال: "ليس لك عليه نفقة"، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: "إنها امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فانه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فأذيني"، قالت: "فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد"، قالت: "فكرهته"ثم قال: "انكحي أسامة ابن زيد" فنكحته فجعل الله فيه خيرا كثيرا واغتبطت به.
في هذا الخبر دلالة على أن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لتجنب الرواية عنهم وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له، عند مشورة استشير فيها لا تتعدى المستشير كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم، وكشفهم عليهم إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام.. وإلى الفساد في شريعة الإسلام أولى بالجواز وأحق بالإظهار.(19/289)
وأما الغيبة التي نهى الله عنها بقوله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [34] ،وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم".
فنهى عن ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والازدراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة، وإيجاب الديانة من التحذير عن ائتمان الخائن وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب، وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان على حسب اختلاف حال قائلها، في بعض الأحوال يأثم قائلها وفي حالة أخرى لا يأثم..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الجرح والتعديل لابن أبى حاتم قسم 1 ص 10 وأخرجه أبو داود، والترمذي، والبيهقي وهو حسن.
[2] سورة النساء آية (59) .
[3] سورة النساء آية (65) .
[4] سورة آل عمران آية (110)
[5] سورة البقرة آية (134)
[6] سورة الفتح آية (18)
[7] سورة التوبة آية (100)
[8] سورة آية الأنفال آية (64)
[9] سورة الحشر آية (8،9)
[10] صحيح مسلم بشرح النووي جـ ص 83،89
[11] الكفاية للخطيب (ص 94)
[12] صحيح مسلم بشرح النووي جـ 16 ص 84 وتهذيب السنن لابن القيم جـ 7 حديث 4491
[13] صحيح مسلم بشرح النووي جـ 16 ص 92
[14] مختصر المزني مع معالم السنن جـ 7 حديث 4493 ص 34
[15] الحديد آية 10
[16] الكفاية للخطيب البغدادي ص 97
[17] سورة النساء آية (115)
[18] الدجالون جمع دجال قال ثعلب: كل كذاب فهو دجال ويقال: الدجال المموه ودجل فلان إذا موه. ودجل بباطله إذا غطاه.
[19] مقدمات كتاب الجرح والتعديل ص 14(19/290)
[20] أصل الصعب. والذلول في الإبل، فالصعب العسر، المرغوب عنه. والذلول السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه. فالمعنى سلك الناس كل مسلك مما يحمد ويذم. لا يأذن أي لا يستمع ولا يصغي ومنه سميت الأذن.
[21] انظر: مختصر سنن أبي داود لمنذري جـ 7 ص 11/12. ك السنة /باب في لزوم السنة حد
[22] نفس المرجع السابق.
[23] أنظر المجروحين لابن حبان جـ 1/ص 10/ط 1
[24] المجروحين لابن حبان ص 11/جـ 1
[25] الحشر /7
[26] النساء /65
[27] كتاب المجروحين لابن حبان البستي جـ 1/ ص 17
[28] ابن حبان جـ 1/ ص 19
[29] مختصر المنذري للسنن جـ 7/ ص 112 باب في
[30] سورة البقرة آية (258)
[31] مختصر المنذري على سنن أبي داود جـ 7/ ص 169ـ170 كتاب الأدب حديث رقم /4624
[32] نفس المرجع ص 171
[33] مختصر المنذري جـ 7/ ص 217 حديث 4717
[34] سورة الحجرات آية (12)(19/291)
مفهوم الأسماء والصفات
(الحلقة الأولى)
فضيلة الشيخ سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية
أسلفت القول في أنني أهتم أعظم الاهتمام بقضايا العقيدة الإسلامية. وهكذا ينبغي أن يكون شأن كل مسلم- ذلك بأن العقيدة هي الركيزة التي يقوم عليها ديننا الإسلام، فمن أفسدها، أو جحدها، أو كفر بها، بطل عمله مهما أكثر منه وحسبه صالحا، وحتى لو كان قد أقر قبل بالشهادتين، فإن إقراره يعتبر منقوضا بما ارتكب مما ينافي مقتضاهما مثله كمثل المتوضئ الذي يحدث ثم يصلي، فإن صلاته تكون - لنقضه وضوءه - بلا ريب باطلة شاء أم أبى. فكذلك مفسد العقيدة، أو الجاحد لها، أو الكافر بها- بمسلكه الشركي أو الكفري - أعماله باطلة شاء أم أبى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام آية 88) ، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: آية 5) إن العقيدة بمثابة الروح للبدن، وهل تجد نبضة من حياة في بدن فاضت منه روحه؟.(19/292)
إننا إذا جلنا جولات خاطفة متبصرة في المجتمعات الإسلامية، لألفيناها- إلا من رحم الله وحمى منها- أبداناً وهياكل لا روح فيها، لا تقيم للعقيدة الصحيحة وزنا، ولا تتبين معاني التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، والحق والباطل، إذ اضطربت في أذهان أفرادها معالم الشريعة، ففقدوا بذلك الفرقان الذي يميز الخبيث من الطيب، ومن ثم لم يعنوا بالتعرف على الله، والتجرد له، واستهانوا بمراقبته وتقواه، وهل يوجد الفرقان في قلب المؤمن إلا بتقوى الله؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال آية 29) . وبهذا اختلت الموازين لدى من ينتسبون إلى الإسلام، فلم يميزوا بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، ولا بين عدوهم وبين حبيبهم، ولا بين من يقدم لهم طعاماً وبين من يجعلهم له طعاماً، وبين من يمد إليهم يده مصافحا، وبين من يمدها إليهم طاعناً، وأخذوا يسمعون لكل ناعق،.. ويجرون وراء كل داع، فعميت عليهم الأنباء، وأصبحوا في أمر مريج،.. وانتهى مطافهم إلى أن دب الخلاف فيما بينهم، وانكبوا على الدنيا وشهواتها يتنافسون..، فهزلت شخصياتهم..، وبهتت ألوانهم، وخفتت أصوات الحق فيهم- إلا من رحم الله ووفق-، ونظر إليهم أعداؤهم- أعداء الله - فوجدوهم هكذا غثاء كغثاء السيل، رغم بلوغ عددهم ما يقارب ألفا من الملايين، فما خشوا بأسهم واستهانوا بهم، وأخذوا يخططون لضرب وحدتهم أولا، فلما فرقوهم سهل عليهم التهامهم أمة تلو أمة ثانيا، ثم أخذ أعداء الله الدنيا بقوة، وأصلحوا فيها أمرهم، فبلغوا من التقدم ما حطوا به على سطح القمر وغيره من الكواكب- وصار ميزان العالم كفتين: كفة يشغلها ملاحدة شيوعيون، تقابلها كفة أخرى يشغلها صهاينة جشعون، يعاونهم صليبيون حاقدون. وكل من القوتين الباغيتين لا تحب الإسلام ولا ترضى عن المسلمين طالما أنهم مسلمون، وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ(19/293)
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة آية 120) ، ثم بين سبحانه طريق الحق وحذر من اتباع أهواء هؤلاء المتخبطين فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة آية 120) - والملاحدة الشيوعيون أولى أن لا يرضوا عن المسلمين حتى ينسلخوا من دينهم ويتبعوا إلحادهم - ولا ينبغي أن نغمض أعيننا عن واقع المسلمين، ونهيم في ملذات الحياة الدينا غافلين، إنما يجب علينا أن نرفع غشاوة أعيننا، ونشحدآذاننا، ونفتح مغاليق قلوبنا، ثم نتدبر ونفكر كيف نسير لصد هذا الموج الإجرامي العنيف. لنلق نظرةَ على إخواننا المسلمين في الفلبين، وبورما، وتايلاند، وأفغانستان، وفلسطين المحتلة، وإريتريا، والصومال- لنرى ما يمارسه العتاة المجرمون أعداء الله مع المسلمين في تلك الأمم من حرب الإبادة ابتغاء طمس معالم الإسلام فيها، ومحاولة تحويلها- لا قدر الله- إلى بلاد كفر وإلحاد.
ونشحذ آذاننا، ونفتح مغاليق قلوبنا، ثم نتدبر، ونفكر كيف نسير لصد هذا الموج الإجرامي العنيف. لنلق نظرة على إخواننا المسلمين الفلبين، وبورما، وتايلاند، وأفغانستان، وفلسطين، وأريتريا والصومال - لنرى ما يمارسه العتاة المجرمون أعداء الله مع المسلمين في تلك الأمم من حرب الإبادة ابتغاء طمس معالم الإسلام فيها، ومحاولة تحويلها - لا قدر الله - إلى بلاد كفر وغلحاد.
ألا تتقطع نياط القلوب المؤمنة حين تترامى تلك الأنباء المفجعة بمحاولات وغدر أولئك الباغين الذين قتلوا وشردوا إخوتنا في الله بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله؟.(19/294)
ألا تتمزق الصدور التي شرحها الله بالإسلام حين تحمل إذاعات العالم بيان ضاري المعارك التي يستميت فيها أبناء الإسلام المستضعفين في محاولة لحماية حماه؟ إن الدول الإسلامية مهما اختلفت مواقعها واتجاهاتها الخاصة إنما هي بحكم الله أمة واحدة فلماذا ندعها تتمزق وتتقطع أواصرها؟
أليس الله تعالى يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء آية 92) . فأين تطبيق هذا بين المسلمين؟، وأين تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (البخاري) ؟ وأين تطبيق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الصف آية 11) وأين الجهاد في سبيل الله لإنقاذ المسلمين الذين أحيط بهم؟ وسامهم المجرمون الغادرون ألوان العذاب؟ لا بالنفس نرى جهادا ولا بالمال- إلا من رحم الله- نجد بذلا؟ فلماذا؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ؟ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة آية 28، 29) {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ(19/295)
رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟} (طه: آية 86) . هل هذا التخاذل عن الجهاد بالنفس خشية القتل؟
أليس الله تعالى يقول؟ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؟ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (التوبة آية 51، 52) . فنتيجة الجهاد بالنفس: إما نصر يحمل الخير ويرفع كلمة الله، وإما استشهاد لا موت معه بل حياة به عند الله - وهل هذا التخاذل من الأكثرين عن الجهاد بالمال خشية نفاذه؟ أليس الله تعالى قد ضمن الرزق لكل من خلق. وأنت ممن خلق- فطمأنك وأكد لك وقال لك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (الذاريات آية 22، 23) - ثم زاد اطمئنانك فبين أن ما لديه غير قابل للنفاذ إطلاقا فقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - (ص آية 54) .
أين عدة المسلمين الموحدة التي أمرهم الله تعالى بإعدادها لدحر أعداء الإسلام بأي اسم كانوا وعلى أي أرض وجدوا؟ أين تنفيذ أمره تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم} (الأنفال آية 60) .(19/296)
لم هذا التباطؤ والانكباب على هذه الحياة المترفة التي حولت أغلب لبنات الأمم الإسلامية - إلا من رحم الله - إلى لبنات هشة ناعمة لا تقوى على مجابهات أعداء الله وصد شراستهم في تحركات غادرة بغية محو كيان المجتمع الإسلامي من خارطة العالم، وإذا في مجتمعاتهم الصارخة بالإلحاد والكفر- إن كل مؤمن يملأ قلبه أمل عريض، وضراعة إلى الله صادقة، أن يجمع شتات الأمم الإسلامية ويوحد فرقتها، ويبدد الخلافات بينها، ويجعلها أمة واحدة، معبودها رب واحد، وقدوتها إمام واحد، ونهجها كتاب واحد، ووجهتها قبلة واحدة، وغايتها- بإعلاء كلمة الله- واحدة.
إنه مما لا شك فيه أن اجتماع الأمم الإسلامية- وخاصة إذا دعمها الإيمان - يرهب أعداء الله، ويملأ قلوبهم رعبا وفزعا؛ ثم إن يد الله دائما على الجماعة المؤمنة، وهذا يستتبع نصره لها {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر آية 51) لما ينصرف أكثر المسلمين عن هدى الله ويصبحون إمَعات؟ إن أحسن الناس أحسنوا تقليدا غير بصير على نهجهم؟ وإن أساءوا أساءوا تقليدا غير بصير كذلك على دربهم؟
إنني أتصور أن الذي صرف أكثر هؤلاء المسلمين عن الله إنما هو جهلهم بالله، ومن جهل الله جهل ما قال، وكما يقال: "من جهل شيئا عاداه". ومن ثم لما جهلوا الله عادوه، ولجئوا إلى غيره فأشركوا فحبطت أعمالهم، ولما جهلوا قول الله تعالى عادوه كَذلكَ، ولجئوا إلى قول غيره، فضلوا وتخبطوا، واستشرى فسادهم، وعم شقاؤهم. وصدق الله جل وعلا حين قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا} (طه آية 124) .
فلابد إذن للمسلم أن يتعرف على الله تعالى حتى يعبد إلها يعرفه، فتسلم له عباداته- وقد ذكر بعض العلماء فوائد معرفة صفات الله وأسمائه، وأفعاله وتقديسه عن النقائص، ونجمل هذه الفوائد - لعظيم أهميتها- فيما يلي:(19/297)
1- أن معرفة الله تعالى هي من أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، إذ الاشتغال بفهمها والبحث التام عنها هو اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد هو من أشرف المواهب.
2- أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته، وخشيته، وخوفه، ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد. ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وفهم معانيها؛ وقد اشتمل القرآن الكريم من تفصيلها، وبيان تعرف الله بها إلى عباده، وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه ما لم يشتمل عليه غيره من بيان.
3- أن معرفة الله تعالى هي أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها، وليس الإيمان مجرد قوله: "آمنت بالله"من غير معرفته بربه، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف الرب الذي يؤمن به، بل ويجب عليه أن يبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفة العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقصت معرفته نقص إيمانه، وأقرب طريق يوصل إلى معرفة الله تعالى تدبر أسمائه وصفاته من نصوص القرآن والسنة، فإذا مر به اسم من أسماء الله تعالى أثبت له معناه، وما يتضمنه من صفات كمال مطلقة، ومع ذلك ينزهه سبحانه عما يضاد كماله.
4- أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، فيقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 36) ، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلا بد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم والحكمة من خلقهم، والاشتغال بمعرفته سبحانه هو اشتغال العبد بما خلق له، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم متوال من كل وجه، أن يكون جاهلا بربه، معرضا عن معرفته.(19/298)
5- أن معرفة الله تعالى هي أصل الأشياء كلها، حتى أن العارف به سبحانه حق المعرفة يستدل بما عرف من صفاته، وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من أحكام إلا حسب ما يقتضيه حمده وحكمته، وفضله وعدله. فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه كلها عدل وحكمة [1] .
مما سلف يتبين أن معرفة الله تعالى لها من الأهمية العظمى للعبد ما لا يتصور استغناؤه عنه، لأنها الركيزة التي يقوم عليها حكمة إيجاده وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
لهذا بدأت في محاولة لتنبيه من غفل من المسلمين إلى أهمية العقيدة الإسلامية- أساس هذا الدين- ليجعلوا منطلق أعمالهم منها، حتى تصح لهم بالبناء عليها جميع الأعمال، وعلى الله بعد ذلك في قبولها تنعقد الآمال.
ولقد تبلْور في فهمي ما أردت بيانه في بابين:
الباب الأول: باب (التعرف على الله تعالى) :
وهذا الباب يشمل بدوره قضيتين: إحداهما: (مفهوم الربوبية) وقد أسلفت بيانها تحت عنوان: (مفهوم الربوبية) في أربع حلقات مضَيْنَ.
وثانيهما: (مفهوم الأسماء والصفات) وهي موضوع حلقاتي التي تبدأ بحلقتنا هذه، وأسأل الله أن يريني الحق حقا ويرزقني اتباعه، وحسن بيانه للناس.
وهذا الباب يشمل بدوره قضيتين كذلك: إحداهما: (مفهوم الإلهية) .
وثانيتهما: (مفهوم التشريع) وذلك انطلاقا من قوله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف آية 40) حقا إن أكثر الناس لا يعلمون أن الحكم لله وحده، وأن العبادة كذلك لله وحده سبحانه.(19/299)
وإلى هذا المقام، أجدني قد اقتربت من مدخل الموضوع الذي أريد أن أعالجه، وهو القضية الثانية من باب (التعرف على الله تعالى) وهي:-
(مفهوم الأسماء والصفات)
نقسم هذا الموضوع إلى مبحثين:
المبحث الأول: أسماء الله تعالى.
المبحث الثاني: صفات الله تعالى.
أولا أسماء الله تعالى
(الأسماء الحسنى)
معنى الأسماءِ: أسماء جمع اسم، والاسم: معناه لغة هو ما يعرف به الشيء ويستدل عليه.
وعند النحاة: هو ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمن.
والاسم الأعظم: هو الاسم الجامع لمعاني صفات الله عز وجل.
واسم الجلالة: أو لفظ الجلالة: هو الله، وهو اسمه سبحانه وتعالى.
واصطلاحاَ: إذا قيل: أسماء الله تعالى، أو أسماء الله تعالى وصفاته، أو الأسماء والصفات، كان معنى الأسماء أسماء الله تعالى الحسنى التي تسمى بها سبحانه، واستأثر بها لنفسه جل وعلا.
لم سميت أسماء الله تعالى بالأسماء الحسنى؟
وردت تسمية الأسماء الحسنى في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) وفي قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طه آية 8) . وسميت الأسماء الحسنى، لأنها حسن في الأسماع والقلوب، وتدل على توحيده، وكرمه وجوده، ورحمته، وأفضاله [2] كما أنها تدل على أحسن مسمى، وأشرف مدلول.
وكل اسم يدل على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت أسماء الله تعالى جميعا حسنى، فهي ليست أعلاماً محضة، إذ لو كانت كذلك ولم تتضمن صفات الكمال لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صافات ليست بصفات كمال: كصفات نقص، أو صفات منقسمة إلى المدح.. والقدح لم تكن حسنى [3] .(19/300)
فكل اسم من أسمائه تعالى دال على جميع الصفة التي اشتق منها لجميع معناها، وذلك نحو اسم الدال (العليم) الدال على أن له علما محيطاً عاما لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
واسم (الرحيم) الدال عَلى أن له رحمة عظمية واسعة لكل شيء.
واسم (القدير) الدال على أن له قدرة عامة لا يعجزها شيء - ونحو ذلك.
ومن تمام كونها حسنى أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) [4] ..
ما سبب نزول آية {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ؟
قال مقاتل وغيره من المفسرين: "نزلت هذه الآية في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته: يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين فأنزل الله تعالى الآية" [5] .
هل حصرت الأسماء الحسنى بعدد معين؟(19/301)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" أخرجاه في الصحيحين، والبخاري، وأخرجه الترمذي عن شعيب فذكره بسنده مثله، وزاد بعد قوله: "يحب الوتر": "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور" ثم قال الترمذي: "هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه أبي هريرة، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث"، ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به [6] .
ومعنى إحصاء الأسماء الحسنى المشار إليه في الحديث عند قوله صلى الله عليه سلم: "من أحصاها دخل الجنة"؛ هو: عدها، وحفظها، وفهم معانيها، ودعاء الله بها دعاء عبادة ودعاء مسألة.(19/302)
والأسماء الحسنى ليست محصورة بعدد معين، ودليل ذلك: ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتكَ، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلْقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القران العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمًه، وأبدل مكانه فرجا"فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها". فقوله صلى الله عليه وسلم: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" دليل على أن الله تعالى سمى نفسه بأسماء لم ينزلها في كتابه، ولم يعلمها أحدا من خلقه، وإنما استأثر بها في علم الغيب عنده سبحانه، ومن ثم كان هذا دليلا على أن أسماء الله جل وعلا لم تحصر بعدد معين.
هل يجب الاقتصار على أسماء الله تعالى الواردة؟
لا شك أن أسماء الله تعالى توقيفية، بمعنى أنه ينبغي علينا أن نقف في تسمية الله تعالى
على ما ورد في الكتاب والسنة، لأننا لا نستطيع البتة أن نعرف الأسماء التي سمى الله بها نفسه بآرائنا، وباجتهاد من عند أنفسنا، لأن أسماءه تبارك وتعالى من الغيب الذي لا مجال لنا في بلوغه إلا أن يصلنا عن طريق الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بأي الأسماء ندعو الله تعالى؟
ذكرت آنفا أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) ويقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طه آية 8) .(19/303)
فلما تسمى الله جل شأنه بأسماء كلها حسنى، أمرنا جل وعلا أن ندعوه بها لأنه هو وحده سبحانه الذي يعلم ما يستحق أن يسمى به من الأسماء التي تليق بجلاله وعظمته، وبما ينبغي أن يدعى به سبحانه.
ولدقة هذا الأمر ذكر كثير من أهل العلم أن الداعي ينبغي عليه أن يدعو الله بالاسم الذي يناسب مسألته: فيقول مثلا: يا رحمن ارحمني، يا غفار اغفر لي، يا تواب تب علي، يا رزاق ارزقني، يا حفيظ احفظني، يا كريم أكرمني- وهكذا - ولا يصح أن يدعو باسم لا يناسب مسألته كأن يقول يا غفار ارزقني، أو يا رزاق اغفر لي، أو يا حفيظ تب علي، وهكذا.
بل ذكر البعض أنه لا ينبغي أن ندعو الله سبحانه بالأسماء التي تبدو في ظاهرها أنها تحمل معنى الإضرار فقط بالعبد مثل: المانع، والضار، والمذل، والقابض، والخافض، والمميت. وذلك حتى لا يتصور متصور- بإفراد هذه الأسماء - أن أسماء الله تعالى من شأنها: أنها تحمل الضرر فحسب. ومن ثم ينبغي إذا ذكرت هذه الأسماء أن تذكر مع الأسماء المقابلة لها، مثل أن يقال: المعطى المانع، النافع الضار، المعز المذل، الباسط القابض، الرافع الخافض، المحيي المميت- وهكذا. ويسمي العلماء هذه الأسماء (بالأسماء المزدوجة) . لأنه يذكر مع كل أسم منها ما يقابله في معناه مما يجعلهما زوجا.
الأسماء الحسنى تتضمن صفات الكمال العليا لله تعالى:
إن كل اسم من أسماء الله تعالى يتضمن صفة تناسبه بما يليق بجلال الله سبحانه وعظيم
شأنه. مثال ذلك: اسم (الرحمن) يتضمن ثبوت صفة الرحمة الذاتية لله سبحانه، واسم (الرحيم) يتضمن ثبوت صفة الرحمة الفعلية لله سبحانه، واسم (السميع) يتضمن ثبوت صفة السمع لله سبحانه، واسم (البصير) يتضمن ثبوت صفة البصر لله سبحانه، واسم (الرزاق) يتضمن ثبوت صفة الرزق لله سبحانه. وهكذا نجد أن كل الأسماء الحسنى تتضمن صفات الكمال العليا لله جل وعلا.(19/304)
ليست كل صفة من صفات الله تعالى تشتق منها أسماء له سبحانه:
من الأمور الخطيرة التي يجب أن ننتبه إليها أنه: ليست كل صفة لله تعالى يمكن أن نشتق منها اسما له سبحانه، ذلك لأن أسماء الله تعالى - كما سبق أن أسلفت - توقيفية يجب أن نقف عند ما ورد بها النص في الكتاب والسنة، ولا نزيد عليها باجتهاداتنا، لأن ذلك أمرَ من الغيب الذي لا مدخل لنا إليه.
وبيان ذلك أن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} (النساء آية 142) ويقول: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران آية 54) .
ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال أية 20) .
ويقول: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرا} (يونس آية 21) .
ويقول: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل آية.3) .
ويقول: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف} (يوسف آية 76) ويقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} (الطارق آية ك 15، 16) .
ويقول: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة آية 14، 15) .
ويقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد آية 22، 24) .(19/305)
ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة آية 159) . ويقول: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً} (النساء آية 46) ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (النساء آية 47) ، ويقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} (النساء آية 52) .
ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (المجادلة آية 14) .
ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} (الممتحنة آية 13) .
ويقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} (النساء آية 30) .
ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} (النساء آية 56) .
ويقول: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاء} (الأنعام آية 133) .
ويقول: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود آية 57) .
ويقول: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} (الأعراف آية 64) . ويقول: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} (الشعراء آية 66 والصافات آية 82) .
ويقول: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة آية 79) .(19/306)
ويقول: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (المائدة آية 80) .
ويقول: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} (الأعراف آية 51) .
ويقول: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة آية 67) .
ويقول: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُم} (السجدة آية 14) .
ويقول: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (الجاثية آية 34) .
ويقول: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف آية 137) .
ويقول: {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء آية 16) .
ويقول: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} (الشعراء آية172) ، ويقول: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل آية 51) ، ويقول: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد آية 10) .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " (متفق عليه) .
ويقول: "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض فلاة دوية مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنزل عنها فنام- وراحلته عند رأسه، فاستيقظ وقد ذهبت، فذهب في طلبها فلم يقدر عليها حتى أدركه الموت من العطش، فقال: والله لأرجعن فلأموتن حيث كان رحلي، فرجع فنام، فاستيقظ. فإذا راحلته عند رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" (رواه البخاري) .(19/307)
ويقول: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة" (متفق عليه) . في الآيات والأحاديث التي أوردتها، نجد أفعالا لربنا سبحانه وتعالى وهي: على حسب ترتيب الأحاديث كما يلي:
أفعال: الخداع، المكر، الكيد، الاستهزاء، الإصمام، والإعماء، اللعن، الغضب، الإصلاء، الاستخلاف، الإغراق، السخرية، السخط، النسيان، التدمير، النزول، الفرح، الضحك. فهل يمكن أن نشتق من هذه الأفعال- وأمثالها- أسماء لله تعالى فنسميه جل وعلا بالأسماء الآتية؟: الخادع أو المخادع، الماكر، الكايد، المستهزئ، المصم، المعمي، اللاعن، الغاضب، المُصْلي، المستخلف، المُغرق، الساخر، الساخط، الناسي، المدمر، النازل الفرح، الضاحك؟ لا ينبغي أن نسمي الله بهذه الأسماء، ونقرنها بالأسماء الحسنى كالرحمن، والرحيم، والغفور، والودود، واللطيف، والعلي، والكبير، والسميع، والبصير، ونحو ذلك مما سمى الله تعالى به نفسه من أسمى وأجل وأعظم الأسماء.
والسبب في أنه لا ينبغي ولا يشرع لنا أن نسمي الله سبحانه بمثل تلك الأسماء كالخادع وما ماثل ذلك أمران:
الأمر الأول: أنه لم يرد بها النص في الكتاب أو السنة.(19/308)
الأمر الثاني: أن من هذه الأسماء (كالخادع أو المخادع، والماكر، والكايد، والمستهزئ، والغاضب، والناسي، والمدمر وما ماثلها) ليست ممدوحة على إطلاقها، بل تمدح في مواضع، وتذم في مواضع أخرى [7] ، ومن ثم لا يجوز أن تطلق أفعالها على الله مطلقا، فلا ينبغي أن يقال بإطلاق: إن الله تعالى يخادع أو يستهزئ، أو يغضب؛ أو ينسى، أو يدبر، كما لا ينبغي أن يشتق منها أسماء يسمى بها سبحانه، وذلك لأن الله جل وعلا لم يصف نفسه بالخداع، والمكر، والكيد، والاستهزاء، والغضب، النسيان، والتدمير، وما ماثل ذلك، إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، أو استحق أن يجازى به بحق على فعله- والجزاء إنما يكون من جنس العمل، فمن خدع يستحق أن يخدع، ومن مكر يستحق أن يمكر به، ومن نسي الله يستحق أن ينساه الله، ومن فسق استحق أن يدمر، وهكذا لا يجازى الله جل وعلا إلا من يستحق المجازاة بالحق والعدل.(19/309)
إن المخادع حين يخادع بباطل وظلم، أو الماكر حين يمكر بباطل وظلم، أو الكايد حين يكيد بباطل وظلم، أو المستهزئ حين يستهزئ بباطل وظلم، والناسي حين ينسى بباطل وظلم، والفاسق حين يرتكب فسقه بباطل وظلم، يكون أكمل الحكمة من الله تعالى حين يخادعه، أو يمكر به، أو يكيده، أو يستهزئ به، أو ينساه، أو يدمره بالحق والعدل. ومن ثم فلا يشرع أن يوصف الله تعالى بتلك الأفعال المذكورة ولا أن يسمى بأسماء تشتق منها على وجه الإطلاق، لأن الله تعالى لم يصف بمثل أفعال الخداع، والمكر، والكيد، والاستهزاء، والنسيان، والتدمير، وما ماثل ذلك مطلقاً، ولا أدخل ذلك في أسمائه الحسنى. "ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه الماكر، المخادع، المستهزئ، الكائد، فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه. وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال، فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه كلها حسنى، فأدخلها في الأسماء الحسنى، وأدخلها وقرنها بالرحيم، الودود، الحكيم، الكريم - وهذا جهل عظيم- فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا، بل تمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقا، فلا يقال إنه تعالى يمكر ويخادع يستهزئ ويكيد، فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد، ولا المتكلم، ولا الفاعل، ولا الصانع، لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها كالحليم، والحكيم، والعزيز، والفعال لما يريد، فكيف يكون منها الماكر، المخادع، المستهزئ؟ ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى: الداعي، وآلاتي، والجائي، والذاهب، والقادم، والرائد، والناسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأسماء التي أطلقت على نفسه أفعالها في القرآن - وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل. والمقصود(19/310)
أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد، والمكر، والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه؟ " [8] وإني لأستحسن أن أسوق هنا المثل الذي ذكره الإمام ابن القيم في بيان كيف كاد الله تعالى ليوسف عليه السلام مجازاة لإخوته على ما فعلوه، وذلك في عباراته الآتية:- "إن جزاء المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، لهذا كاد سبحانه ليوسف (عليه السلام) حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه، حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه، فكان هذا من أعدل الكيد الذي قال فيه تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (يوسف آية 76) فإن إخوته فعلوا به مثل ذلك حتى فرقوا بينه وببن أبيه وادعوا أن الذئب أكله، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع، ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد حيث كان مقابلة ومجازاة، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده ... بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن، وإن كان طريقة ذلك مستهجنة، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به، وكان ذلك سببا إلى اتصاله بيوسف واختصاصه به، لم يكن في ذلك ضرر عليه، يبقى أن يقال: وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق، فأي مصلحة كانت ليعقوب (عليه السلام) في ذلك؟ فيقال: هذا من امتحان الله تعالى له، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي، والله تعالى لما أراد كرامته، كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق، وهذا من كمال إحسان الرب تعالى، أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها" [9] ثم قال: "فعلم أنه لا(19/311)
يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق، كما لا تمدح على الإطلاق، والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم، ولا من جهة القدرة، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال، وإنما يذم من جهة سوء القصد، وفساد الإرادة، وهو أن الماكر المخادع يجور، ويظلم بفعل ما ليس له فعله، أو ترك ما يجب عليه فعله" [10] .
وقال في موضع آخر: "والصواب أن معانيها- (أي معاني هذه الألفاظ) تنقسم إلى محمود، ومذموم، فالمذموم، منها: يرجع إلى الظلم والكذب، فما يذم منها إنما يذم لكونه متضمنا للكذب، أو الظلم، أوْ لَهماَ جميعاً. وهذا هو الذي ذمه الله تعالى كما في قوله سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} (البقرة آية 9) ، فإنه ذكر هذا عقيب قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة آية 8) . فكان هذا القول منهم كذبا وظلما في حق التوحيد والإيمان بالرسول واتباعه، وكذلك قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأََرْض} (النمل آية 45) ، وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (فاطر آية 43) ، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} (النمل آية 50، 51) .
ثم قال على هذه الألفاظ: "أنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود" [11] .
بيان الأسماء الحسنى التي وردت النصوص بها في الكتاب والسنة:
أولا: ما ورد في القرآن الكريم بحسب ترتيب السور [12] :
سورة الفاتحة:
وردت فيها الأسماء الآتية: الله- الرب- الرحمن- الرحيم- المالك.
الله:(19/312)
هو اسم الجلالة. وهو علم على الرب أي اسم للرب تبارك وتعالى- ويقال إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَّسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر آية 22، 23، 24) [13] .
وقد ورد ذكر اسم (الله) في القران الكريم في مواضع متفرقة ثمانين وتسعمائة مرة [14] .
وهذا التكرار العديد لهذا الاسم يدل على مدى عظمته وأهميته.
واختلف في: هل هو مشتق؟ أو غير مشتق؟ (أي جامد) ؟ : فقال البعض: إنه جامد لم يشتق من غيره، ذلك لأن اسمه تعالى أزلي، والأزلي في سبقه لم يؤخذ من غيره، ومن ثم فهو اسم علم محْض كسائر الأعلام المحْضة التي لا تتضمن صفات تقوم بمسمياتها.
وقال البعض: إنه مشتق: واختلفوا في اشتقاقه: فقال فريق: إنه مشتق من أله الذي مضارعها: يأله، ومصدرها: الآلهة، وألوهةَ، وألوهيةَ ومعنى أَله: عبد. وهذا الرأي هو الراجح. وقال فريق آخر: إنه مشتق من أَله الذي مضارعها: يأله، ومصدرها: أَلَهاً. ومعنى أله: تحير. وهذا الرأي مرجوح.
وقال القرطبي في تفسيره الجزء الأول ص 102: "روى سيبويه عن الخليل أن أصله (ألاَه) مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله: أناس. وقيل أصل الكلمة (لاه) وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه".(19/313)
وقال الشوكاني في تفسيره الجزء الأول ص 18: "أصل اسم (الله) إله: حذفت الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف فلزمت".
ومعنى اسم الجلالة (الله) :
أنه المعبود وحده، الذي لا يستحق العبادة بجميع أنواعها سواه، ولهذا كانت الحكمة في خلقه للثقلين أن يحققوا هذه العبادة مجردة له وحده سبحانه، وهذا ما أشار إليه في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 56) .
هل يشرع ذكر الله باسم الجلالة (الله) مفردا؟
وأجد من المناسب وأنا أتكلم عن اسم الجلالة، أن أشير إلى ما يلجأ إليه بعض الجاهلين من المسلمين من ذكر الله باسم الجلالة مفردا- ذلك أننا نرى البعض منهم يجعل له وردا يردد فيه اسم الجلالة (الله) مرات عديدة كألف مرة، أو ألفين أو أكثر أو أقل؛ بل وقد تجتمع مجموعة من الناس يرددون اسم الجلالة (الله) رافعين أصواتهم، ويبدءون بقولهم: الله، الله الله، وهم جالسون مغمضي أعينهم، أو هم واقفون يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار، ويقفزون بين الحين والآخر إلى أعلى، يتوسطهم قائد، يصفق بيديه، وبجواره أحيانا امرأة تتمايل كذلك تنشدهم أناشيد كفرية ماجنة، تدق على طبل بيدها، يلاصقها خليع يتمايل وهو يؤدى نغمات مزمار هي صفير يتسق مع الطبل والتصفيق، حتى يصير جو هذا الجمع كأنه ماخور حفته الشياطين من كل جانب، يتصاعد منه لهيب الإثم كأنما فتح على أبواب جهنم والعياذ بالله، ثم يدعى أولئك المخبولون أنهم بهذا الراقص الداعر، وهذه الوقاحة المتَردّية التي لا يليق صدورها من عاقل، وهذه الأصوات المنكرة التي لا تميز منها سوى (أه، أه، أه) - (حع، حع، حع) أو (هو، هو، هو) أنهم يذكرون الله.
فمن قال إن الله قد شرع أن يذكر باسمه مفردا؟
ومن قال إن من أسماء الله: أه..؟ أو حع..؟ أو هو..؟(19/314)
ومن قال إن الاختلاط بين الرجال والنساء الأجنبيات- فضلا عن التصاقهم بهن في تمايلهم الفاجر- قد شرعه الله؟
ومن قال إن الذكر جماعة له سند من الشرع الحنيف؟
ومن قال إن الذكر بهذه الأصوات المنكرة المزعجة قد جاءت به النصوص؟
ومن ثم فإنني أوجز بيان الحق في هذا الموضع كما جاءت به الأدلة الصحيحة فيما يلي:
أولا: أنه لم يشرع أن يذكر الله باسمه مفردا: فما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قط ربه باسمه مفردا، إذ لم يرد نص واحد يدل على أنه ذكر باسم (الله) أو (حي) أو (هو) أو (لطيف) أو (قدوس) ، بل إن كل ذكره صلى الله عليه وسلم كان جملا تفيد معاني كاملة، ومما ثبت عنه قوله: "خير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" بل ويعلمنا صلى الله عليه وسلم الذكر المشروع في مثل ما يأتي:
1- قوله: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمس، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه" أخرجه البخاري ومسلم.
2- وقوله: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" أخرجه البخاري ومسلم.
3- وقوله: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" أخرجه الصحيحان.
4- وقوله: "لأن أقول سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"أخرجه مسلم.
5- وقوله "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" أخرجه مسلم.(19/315)
6- وقوله: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه" أخرجه مسلم.
7- وقوله: "سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بكَ من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فأغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها حين يمسي فمات من ليلته، دخل الجنة، ومن قالها حين يصبح فمات من يومه، دخل الجنة" أخرجه البخاري.
8- وقوله: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث، لم يضره شيء" قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
9- وقوله: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن متَ من ليلتك مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول" متفق عليه.
1- وقوله: "دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" أخرجه الترمذي.
هذه أمثلة الذكر المشروع الذي أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكله جمل مفيدة، وليس هناك حديث واحد صحيح يفيد الذكر بالاسم المفرد. وإن لم يقبل الضائعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليأتوني بأثارة من علم تؤيد زعمهم إن كانوا صادقين.
ثانيا:(19/316)
أما أن يكون هناك أسماء لله تعالى هي (أه) أو (حع) أو (هو) ، فذلك ما لا يعقل، فضلا عن أنه لم يرد بمثل هذا أي نص، ولا يقر إنسان في رأسه ذرة من عقل أن هذه أسماء لله تعالى، ذلك بأن أسماءه كلها حسنى، ليس منها اسم قبيح أو ناب في لفظه أو في معناه. والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف آية 180)
ثالثا:
وأما الاختلاط بين الرجال والنساء الأجنبيات، فذلك ما لم يشرعه ديننا الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما خلا رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" فضلا عن أن ما ينتج من الاختلاط المحرم من التصاق وتمايل وخلاعة ومجون، وطبل وزمر ورقص باسم ذكر الله، كلها من المنكرات الفاحشة التي حرمها الإسلام، واعتبرها وسائل مؤدية إلى الزنا، وهو قد سد كل ذريعة توصل إلى محرم، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فعبر القرآن الكريم بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ولم يقل: "ولا تزنوا". وذلك لأن التعبير الأول يحرم الاقتراب من كل ذريعة تؤدي إلى الزنا من: نظر، واختلاط، والتصاق، ومجالسة، وكل ما يفضي إلى الزنا، وجعل كل ذريعة تفضي إلى المحرم محرمة.
رابعا:
وأما الذكر جماعة، فلم يرد نص إطلاقا على مشروعيته، ولذلك فإن الذكر بصورة جماعية إنما هو بدعة غير مشروعة، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون بعده مشروعا، لذلك وضع لنا الأساس في ذلك في قوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي قوله: "من أحدث في أمرنا ما هذا ما ليس منه فهو رد".
خامسا:(19/317)
وأما رفع الصوت بالذكر فلم ترد بها النصوص، بل إنها وردت بخلافه، فقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف آية 55) ، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف آية 205) .
ولما رفع بعض الصحابة أصواتهم بالذكر- ولا شك أنهم ما عرفوا سوى الذكر المشروع- وسمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"- متفق عليه- ومن ثم فإن ما تعارف عليه أولئك الجاهلون من الذكر المفرد والجماعي والجهري، إنما هو وحي الشيطان الذي أوقعهم به في شركه، بل وألقى هذا الرجيم في روع أوليائه أن الذكر بالألفاظ الأعجمية مثل: آهيا، شراهيا، أصباؤت آل شداى، آج أهوج، جلجلوت، إنما هو ذكر شرعي كذلك بزعم أن هذه الألفاظ هي أسماء الله تعالى باللغة العبرانية أو السوريانية [15] .
أليس في القران الكريم والسنة المشرفة وما ضماه من أسماء الله الحسنى وبيان الذكر المشروع بها غنية عما سواهما لأولئك الدجالين فيما يأفكون؟
ألا قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون، والذين يلحدون في أسماء الله تعالى، إنهم سيجزون ما كانوا يعملون.
احتجاج الجاهلين بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} على الذكر المفرد:
وقد يحتج بعض الجاهلين بقول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} في الآية رقم 91 من سورة الأنعام على مشروعية الذكر المفرد.(19/318)
وردا على هذا الاحتجاج أحيل أولئك الجاهلين على هذه الآية ليقرأوها كاملة، حتى يعلموا أن المراد بهذا الأمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليس أمرا بالذكر (بالاسم المفرد) كما يزعمون، وإنما هو جواب لمن أنكر أن الله لم ينزل وحيا على بشر. ولا أتركهم يبحثون عن الآية المذكورة، فلعلهم لا يهتدون إلى مكانها في المصحف فأضعها أمام ناظرهم ومن كان منهم يحمل في رأسه عقلا، فإنه سوف يدرك الحق فيها إن كان منصفا. أما الآية فهي قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام آية 91) .
ويبين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن الآية يوجز معناها فيما يلي:(19/319)
أن اليهود والمشركين نفوا الرسالة، وزعموا أن الله ما أنزل على بشر من شيء، أي من الرسالة، فمن قال هذا فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة امْتن الله بها على عباده وهي الرسالة التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة والكرامة والفلاح إلا بها، ولما بين الله حال هؤلاء المنكرين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كلمتين: الأولى سؤال: وهي: {قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟} والثانية: جواب: وهي {قُلِ: اللَّهُ} أي أن الله جلت حكمته هو الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام: ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك أولئك المكذبين يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [16] .
فأين إذن هذا الذكر بالاسم المفرد؟ الذكر يزعمه أولئك الذين أغرقهم أئمة الضلال، وباعدوا بينهم وبين الحق كما تباعد المشرق عن المغرب، حتى صار هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟
الرب:
هو اسم من أسماء الله تعالى، التي تضمنتها نصوص القرآن الكريم. ولا يقال في غيره إلا بالإضافة. وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف: "الرب المالك. ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن".
وقال القرطبي في تفسيره: والرب السيد ومنه قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} وفي الحديث "أن تلد الأمة ربتها.." والرب: المصلح، والمدبر، والجابر، والقائم. قال: والرب المعبود- ومنه قول الشاعر:
لقد هان من بالت عليه الثعالب [17] .
أربَ يبول الثعلبان برأسه(19/320)
وقد ذكر ابن كثير: أن الرب: هو المالك المتصرف. ولا يقال (الرب) معرفا بالألف واللام إلا لله تعالى، ولا يجوز استعمال كلمة الرب لغير الله إلا بالإضافة فنقول: رب الدار، ورب السيف. وأما الرب. فلا يقال إلا لله عز وجل [18] .
ومعنى كلمة الرب لغة: هو السيد المربي واصطلاحا: هو المالك، الخالق، البارئ، المصور، المعطي المانع، النافع الضار، الرافع الخافض، الباسط القابض، المحيي المميت، المدبر لأمر هذا الكون. (وهذا على ما فصلت القول فيه في حلقات (مفهوم الربوبية) بهذه المجلة في سنتها الحادية عشرة) [19] فليرجع إليها من شاء.
والرب هو المربي لجميع العالمين، وهم من سوى الله: بخلقه لهم، وتسخير ما يصلح لحياتهم، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة فمنه تعالى. وتربيته سبحانه لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه: وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر، ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب [20] ، فإن مطالبهم كلها تحت ربوبيتة الخاصة [21] .
وقد ورد ذكر هذا الاسم بصيغ مختلفة في القرآن الكريم تسعمائة مرة على النحو التالي:
رب: ذكرت أربعا وثمانين مرة. ربا: ذكرت مرة واحدة. ربك: ذكرت أربعين ومائتي مرة. ربكم: ذكرت ثماني عشرة ومائة مرة. ربكما: ذكرت ثلاثا وثلاثين مرة. ربنا: ذكرت إحدى عشرة ومائة مرة. ربه: ذكرت ستا وسبعين مرة. ربها: ذكرت تسع مرات. ربهم: ذكرت خمسا وعشرين ومائة مرة. ربهما: ذكرت ثلاث مرات. ربي: ذكرت مائة مرة [22] .
وتكرار هذا الاسم على هذا النحو المتعدد بصيغ مختلفة يدل على مدى عظمة وأهميته.(19/321)
الرحمن:
هو اسم الله تعالى مشتق من الرحمة على وجه المبالغة، وهو على وزن فعلان، (وفعلان تفيد الامتلاء) . والرحمن أشد مبالغة من الرحيم. والرحمن مشتق بخلاف من قال وزعم أنه غير مشتق: ودليل ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته". قال: "هذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق" [23] .
وهذا الاسم (الرحمن) يختص بالله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غيره. وقال بعض أهل التفسير: "الرحمن الذي رحم كافة خلقه، بأن خلقهم وأوسع عليهم في رزقهم" [24] .
واسم الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، فهو دال على أن الرحمة صفة ذات له سبحانه [25] .
وروى ابن جرير بسنده عن العزرمي يقول: " (الرحمن الرحيم) قال (الرحمن) لجميع الخلق، و (الرحيم) قال بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن} (الفرقان آية 59) ، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه آية 5) ، فذكر الاستواء باسمه (الرحمن) ليعم جميع خلقه برحمته. وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) فخصهم باسمه (الرحيم) . قالوا: فدل على أن (الرحمن) أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين" [26] .(19/322)
وقد ذكر البعض: أن (الرحمن) يرحم أهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) خاص بالمؤمنين يوم القيامة، إذ أن الله يرحم المؤمنين والكافرين في الدنيا على السواء وذلك من نواحي أمورهم المعيشية، وأسباب حياتهم، وما يكفل لهم حياتهم الدنيا، فرحمته هنا (أي رحمة الرحمن) عامة، وإذا لم تكن الرحمة هذه عامة، لا تتكامل أسباب التكليف من الإنعام عليهم بنعمة العقل الذي بواسطته يعرفون الحق من الباطل، ونعمة تسخير ما في الكون ليستفيد منها أهل الأرض من الإنس والجن {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} . فتكامل أسباب التكليف في الدنيا سيكون عليه في الآخرة مدار الحساب.
وأما ما جاء في الدعاء المأثور "يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها"فقوله: "رحيمها"محمول على معنى أنه يرحم المؤمنين في الدنيا فيما أطاعوه من الإيمان به، وتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، وتسهيل سبل ذلك لهم؛ ويرحمهم في الآخرة بإدخالهم الجنة جزاء ما أسلفوا من إيمان وطاعة، فطاعتهم له في الدنيا رحمة منه تعالى، وجزاؤهم بالجنة رحمة منه تعالى، وهذا معنى قوله ورحيمها والله أعلم [27] .
واسم (الرحمن) يختص به الله جل جلاله وحده، ولا ينبغي أن يتسمى به واحد من خلقه، شأن كل أسمائه الحسنى جميعا كما سبق أن أسلفنا، ولكن شخصا كان قد تسمى بالرحمن هو: مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب أبو ثمامة، من أهل اليمامة، لذا عرف برحمن اليمامة، وكان قد قوي أمره في اليمامة وظهر جدا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقارعه خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق وانتصر عليه.
وقد زعم لقومه أنه أشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يسجع لهم الأساجيع، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: (لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا) وأحل لهم الخمر، والزنى ووضع عنهم الصلاة. واجتمعت معه حنيفة على ذلك.(19/323)
وقد كتب إلى رسول الله كتابا يقول فيه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون؛ وحمل رسولان هذا الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: "فما تقولان أنتما" قالا: "نقول كما قال"فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" ثم كتب إلى مسيلمة "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". وكان ذلك في آخر سنة عشر من الهجرة [28] .
وقد بين الله جهل العرب لاسم الرحمن في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا؟ وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان آية 60) وقال المفسرون: "إنهم قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة؛ يعنون مسيلمة" [29] .
وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن رجلا من المسلمين كان يقول في صلاته: "يا رحمن يا رحيم" فقال له رجل من المشركين: "أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ "فأنزل الله تعالى {وَلِلَّهِ الأََسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) .
حكى ذلك القرطبي [30] وقد ذكر اسم (الرحمن) في القرآن الكريم في مواضع مختلفة سبعا وخمسين مرة [31] .
الرحيم:(19/324)
هو اسم لله مشتق من الرحمة كذلك، وهو على وزن فعيل وهو من صيغ المبالغة. وقد سبق أن ذكرنا أن اسم (الرحمن) لما يتضمنه من صفة الرحمة التي تعم كافة خلقه بأن خلقهم وأوسع عليهم في أرزاقهم، فإنه أشد مبالغة من اسم (الرحيم) الذي يتضمن صفة الرحمة التي تعم عباده المؤمنين فحسب بأن هداهم إلى الإيمان في الدنيا، وهو يثيبهم في الآخرة الثواب الدائم الذي لا ينقطع، إذ يقول سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) .
وقد قال الإمام ابن القيم: وأما الجمع بين الرحمن والرحيم، ففيه معنى بديع، وهو أن (الرحمن) دال على الصفة القائمة به سبحانه، و (الرحيم) دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفة (أي: صفة ذات له سبحانه، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته (أي: صفة فعل له سبحانه) وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة آية 117) ، ولم يجيء قط رحمة بهم، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، و (رحيم) هو الراحم برحمته [32] .
وقد نسب القرطبي إلى عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قوله: "الرحمن الرحيم اسمان رقيقان وأحدهما أرق من الآخر". وقد استشكل الخطابي هذا القول، ونقله عنه القرطبي في الجزء الأول ص 106، إذ قال الخطابي في استشكاله المذكور: "وهذا مشكل، لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله سبحانه".
وقال الحسين بن الفضل البجلي: "هذا وهم من الراوي لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما: هما اسمان رفيقات أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" [33] .
والحقيقة أنني أعجبت كثيرا بهذا الاستشكال، ولذلك ألفت إخواني المؤمنين إليه.(19/325)
وأما قرن الرحمن بالرحيم مع أن كلا منهما مشتق من الرحمة، فإنه يجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جاد ومجد [34] .
وقال القرطبي: "وصف نفسه تعالى بعد: رب العالمين بأنه: الرحمن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه: برب العالمين ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين: الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر آية 49، 50) ، وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} (غافر آية 2) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" [35] .
أسماء الله تعالى وصفاته منطلق لتوحيد ألهيته:
وبمناسبة كلامي على اقتران (الرحمن الرحيم) يهمني أن ألفت إخواني المؤمنين إلى أن الله تعالى جعل أسماءه الحسنى وصفته العليا دليلاً على توحيد إلاهيته، بمعنى أنه يجعل أسماءه وصفاته منطلقا إلى توحيد إلاهيته، وذلك على نحو ما ذكرنا في توحيد الربوبية الذي يجعله سبيلا إلى توحيد إلالهية [36] .
مثال ذلك:
قوله جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 163) فجعل اسميه الرحمن والرحيم اللذين يتضمنان صفة الرحمة العامة والخاصة دليلا على أنه الإله الواحد الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فالعبادة لا ينبغي أن تجرد إلا لمن كان كاملا على الإطلاق في أسمائه وصفاته، ومنزها عن كل نقص أو عيب.
ومثال ذلك أيضا: قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} (آل عمران آية 2) .(19/326)
فالاسمان: الحي، والقيوم، تضمنا صفتين لله تعالى: الأولى صفة الحياة، وهي تشمل جميع صفات كماله الذاتية، والثانية صفة القيومية وهي تشمل جميع صفات كماله الفعلية، حتى ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب هذان الاسمان جعلهما الله بما شملاه من هاتين الصفتين دليلا على توحيد الإلهيته، فقال قبلهما {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} .
والذي يستقرئ القرآن الكريم، يجد من الآيات التي يستدل فيها بتوحيد الأسماء والصفات على توحيد الإلهية.
وكذلك السنة المشرفة لا تخلوا من النصوص التي توضح ذلك. ولنا إن شاء الله تعالى في هذا المبحث فضل بيان في المكان الذي يناسبه.
المالك (والملك والمليك) :
وكلها أسماء الله جل وعلا. واسم (الملك) يدل على أن الله وحده يملك هذا الكون، إذ هو سبحانه الخالق له وحده. وإذا كان الناس يملكون في هذه الحياة شيئا من أعراضها، ثم هم ينسبون ملكيته إلى أنفسهم فيقول قائلهم: هذه داري، وهذا بستاني، وهؤلاء أولادي، وهذه أموالي، فما كل أولئك إلا ودائع استخلفهم الله تعالى مالكها الأصيل عليها فترة من الزمن لتعمر الأرض بذلك، ثم هم لا بد ملاقوا ربهم، وتاركوا كل ودائعهم التي استخلفهم الله تعالى عليها لمالكها الأصلي رب العالمين.(19/327)
لذا يقول تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران آية 180) ، ويقول تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (الحجر آية 23) ، ويقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (مريم آية 40) ويقول جل شأنه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص آية 58) ، ويقول عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الحديد آية 10) .
فلا بد من أن ترد الودائع وأهلها حتما لخالقها وخالق كل شيء سبحانه، وفي هذا يصدق قول من قال:
ولا بد يوما أن ترد الودائع
وما المال والأهلون إلا ودائع
والمالك: هو من اتصف بصفة الملك من آثارها أن يأمر، وينهى، ويثيب، ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأصناف الملك [37] .
وقد ورد اسم المالك سبحانه في سورة الفاتحة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (سورة الفاتحة آية 3)(19/328)
وقد قرىء مالك، وقرىء ملك، وكلا القراءتين صحيح متواتر في السبع، وليس تخصيص الملْك بيوم الدين الإخبار بأنه تعالى رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف اسم (مالك) إلى يوم الدين لأنه لا يدعى هناك أحد غيره، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} (النبأ آية 38) - قال الضحاك عن ابن عباس: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول لا يملك من أحد في ذلك اليوم كملكهم في الدنيا بأن يقول أحد - تجوّزَا - هذا ملكي، هذا مالي، أما يوم القيامة فليس لأحد ملك ولا مال" [38] .
وقد اختلف العلماء في أي الاسمين أبلغ: مالك أو ملك؟ فقال أبو عبيد والمبرد ورجح قولهما الزمخشرى: "إن (ملك) أعم وأبلغ من (مالك) إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً" ولأن أمر الملك نافذ في ملكه، فلا يستطيع أن يتصرف إلا بتدبير الملك.
وقال آخرون: إن (مالك) أبلغ من ملك، لأن (المالك) يكون مالكاً للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم.
وقال أبو حاتم: "إن (المالك) أبلغ في مدح الخالق من ملك، و (الملك) أبلغ في مدح المخلوقين من (المالك) ، لأن (المالك) من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً". وقد اختار هذا القول أبو بكر بن العربي.
وقال الإمام الشوكاني: "والحق: أن كل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر، (فالمالك) يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع، والهبة، والعتق، ونحوها؛ و (الملك) يقدر على ما لا يقدر عليه (المالك) من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته، ورعاية مصالح الرعية، (فالمالك) أقوى من (الملك) في بعض الأمور، و (الملك) أقوى من (المالك) في بعض الأمور.(19/329)
والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه: أن (الملك) صفة لذاته، و (المالك) صفة لفعله.." [39] وقد ورد اسم (المالك) في القرآن الكريم مرتين: في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة آية 4) ، وفي قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران آية 26) .
وقد ورد اسم (الملك) في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ} (الحشر آية 23) وقد جاء في معنى (الملك) : أنه المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة [40] . وقيل: إنه المالك لجميع الممالك، فالعالم العلوي والسفلي وأهله الجميع مماليك لله فقراء مدبرون [41] .
وقيل: إنه الله ملك الملوك، وهو مالك يوم الدين [42] .
وقد ورد اسم (ملك) في القرآن الكريم خمس مرات: في قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه آية 114) .
وفي قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (المؤمنون آيه116) وفي قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية 23) وفي قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة آية1) وفي قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ، النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ} [43] (الناس آية 1، 2) .
كما ورد اسم (المليك) في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [44] (القمر آية54، 55) وقد قيل في معنى (المليك) أنه الملك العظيم الخالق [45] .(19/330)
هذه الأسماء الخمسة السالف ذكرها - سوى الملك والمليك - هي أسماء الله تعالى التي وردت في سورة الفاتحة.
تعظيم شأن المساجد
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
ويقول:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .
ويقول:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص 10،11 بتصرف
[2] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جزء 7 ص 325
[3] الاسم الذي يدل على صفة تنقسم إلى مدح وقدح (أي ذم) مثل الماكر والخادع والكايد لهذا لم يسم الله تعالى نفسه بمثل هذه الأسماء ولم يجعلها وأمثالها من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى.
[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي جزء 3 ص 59،60.
[5] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جزء 7 ص 325.
[6] تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 151، 152.(19/331)
(وأقول في استطرادة مفيد إن شاء الله، بهذه المناسبة ألفت أخوتي المسلمين إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم بأمته حين سئل عن تعلم هذه التضرعات في دعاء إذهاب الحزن والهم: "بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها" فما أكثر ما يصيب الإنسان في حياته بين حين وآخر من الهم والحزن ما يملك عليه نفسه ويتمنى عجلا أن يزال ويبدل فرجا. فما أحوجنا جميعا إلى تعلم هذا الدعاء العظيم ودعاء الله تعالى به في ضراعة وإخلاص ليفرج الله عنا ما يلم بنا من أحزان وهموم) ..
[7] مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن القيم الجزء الثاني ص 32 وما بعدها
[8] مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة الجزء الثاني ص 34
[9] المرجع السابق ص 32،33
[10] المرجع السابق ص 33
[11] المرجع السابق ص 32،31
[12] تفسير أسماء الله الحسنى لأبي إسحاق الزجاج ص 10 وما بعدها بتصرف
[13] التيسير السابق ذكره المجلد الأول ص 12
[14] المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي.
[15] صيحة الحق للشيخ أبي الوفاء محمد درويش الطبعة السادسة ص 287،286 بتصرف
[16] تيسير الكريم الرحمن الجزء الثاني ص 201 تصرف.
[17] فتح القدير للشوكاني الجزء الأول ص 21.
[18] تيسير العلي القدير المذكور المجلد الأول ص 12.
[19] مجلة الجامعة الإسلامية السنة الحادية عشرة العدد الأول (حلقات مفهوم الربوبية لكاتبها: سعد ندا) .
[20] مجلة الجامعة المذكورة العدد الثاني.
[21] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي الجزء الأول ص 15،14
[22] المعجم المفهرس السابق ذكره.
[23] تيسير العلي القدير المذكور المجلد الأول ص 13.
[24] مرجع الزجاج السابق ذكره ص 28,
[25] بدائع الفوائد لابن القيم الجزء الأول ص 24.(19/332)
[26] تيسير العلي القدير السابق ذكره المجلد الأول ص 13.
[27] المرجع السابق المجلد الأول هامش ص 13.
[28] تهذيب سيرة ابن هشام طبعة ثالثة ص 67، 371،351،ومرجع الزجاج ص 29.
[29] فتح القدير الجزء الرابع ص 84.
[30] المرجع السابق الجزء الثاني ص 268.
[31] المعجم المفهرس السابق ذكره.
[32] مرجع الزجاج ص 28 وبدائع الفوائد لابن القيم الجزء الأول ص 24.
[33] مرجع الزجاج ص 28
[34] نفس المرجع السابق ص 28
[35] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 14 وفتح القدير الجزء الأول 21.
[36] راجع حلقات (مفهوم الربوبية) في أعداد هذه المجلة لسنتها الحادية عشرة لكاتبها سعد ندا.
[37] تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص 15.
[38] تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 14 بتصرف
[39] فتح القدير الجزء الأول ص 22 بتصرف قلت:"و (الملك) ليس صفة وإنما هو اسم الله تعالى يدل على صفة الملكية التي هي صفة لذاته سبحانه و (المالك) ليس صفة كذلك، وإنما هو اسم الله تعالى يدل على صفة الملكية التي هي صفة لفعله سبحانه".
[40] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 215.
[41] تيسير الكريم الرحمن الجزء الثامن ص 107
[42] مرجع الزجاج ص 30.
[43] المعجم المفهرس المذكور.
[44] المرجع السابق
[45] تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 149(19/333)
العدد 46
فهرس المحتويات
1- افتتاحية العدد: بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
2- كلمة التحرير - الفكر الشيوعي وكيف نقاومه؟ : د. عباس محجوب
3- آية العدد: لفضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري
4- وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها: لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
5- إنما الأعمال بالنيات: بقلم: أحمد محمد جمال
6- الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة: بقلم عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
7- مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثانية) : فضيلة الشيخ سعد ندا
8- تصديق القرآن الكريم للكتب السماوية وهيمنته عليها: د. إبراهيم عبد الحميد سلامة
9- أَضواء على القرآن الكريم - بلاغته وإعجازه: دكتور عبد الفتاح محمد سلامة
10- بيئات التربية الإسلامية: للدكتور عباس محجوب
11- تجارب حية في عملية التربية والتعليم: بقلم الشيخ محمد المجذوب
12- موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
13- ابن سبأ حقيقة لا خيال: للدكتور سعدي الهاشمي
14- في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
15- سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الدكتور أحمد ريّان
16 - تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام: الدكتور جمعة الخولي
17- التشبه بالنساء والرجال: لفضيلة الدكتور محمد محمد الشريف
18- فيمن تكون … أسوة المسلم؟ : بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
19- حقوق الإنسان في الإسلام: بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
20- دراسة في أصول الفقه: د. علي أحمد محمد با بكر
21- نظام الضرائب في الإسلام: د. أحمد حاج علي الأزرق
22- الدولة الإسلامية الأولى تأسيسها وعوامل نجاحها: د. محمد السيد الوكيل
23- كيف نجا المسلمون من عاصفة المغول والتتار المدمِّرة؟ : د. جاد محمد رمضان
24- نماذج أخرى من الدعاة الصالحين (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
25- الأدب والحياة: د. شوقي عبد الحليم حمادة
26- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
27- الطريقة المثلى لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: الدكتور محي الدين الألوائي
28- مختارات من التراث - نكبة دمشق: لأمير الشعراء أحمد شوقي
29- كيف يتفرق أهل الحق! : يوسف الهمذاني الشافعي
30- الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: لفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد
31- قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة بشأن منع الحمل وتحديد النسل أو تنظيمه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
32- خطورة سوء استعمال الأدوية: للدكتور حسين كامل طه
33- وقفة مع كرات الدم الحمراء: للدكتور فكري السيد عوض
34- من أعماق الكتب: محمد أمان بن علي الجامي
35- مختارات من الصحف
36-كيف دخلت الشيوعية في أفغانستان؟ : للأستاذ جلال الدين أحمد النوري
37- ماذا تعرف عن شعب أورومو؟ (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
38- إخوة فيليبنيون يهتدون إلى الإسلام: صحيفة المدينة المنورة
39- هل تعلم أن الكهرباء ثمرة؟ : أحمد حسن بركات / فني كهرباء بالجامعة
40- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(19/334)
افتتاحية العدد
بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن لي معك أيها القارئ الكريم كلمتين أما الأولى: فإن العالمَ مر به أحداث لا ينبغي أنْ تمر دون أن يستفيد منها الناس عبرة لحاضرهم ومستقبلهم. وذلك أن ما يحدث من كروب وبلاء إنما هو بإرادة وحكمة من ربنا عز وجل سببه الإنسان فحدث تأديبا له وتنبيها للآخرين، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وقال عز من قائل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
ولنذكر هنا بعضا النماذج فمن ذلك ما حدث من الزلازل الماحقة في كل من الجزائر - مدينة الأصنام- تم في جنوب إيطاليا ذهبت به ضحايا كثيرة من البشر وشرد به كثير من ديارهم وأموالهم. ويتمت أطفال وترملت نساء.
كذلك الحروب المدمرة التي تحدث بين الناس هنا وهناك وتأخذ الكثير من المحاربين ومن الأبرياء. كذلك تزايد صلف اليهود وعدوانهم في فلسطين وفي القدس وتجرؤهم على الآمنين والعزل وانتهاب أموالهم وأراضيهم بين حين وحين كذلك ما يحدث من مجازر بين المسلمين بأيدي الشيوعيين في أفغانستان،.... وإراقة الدماء في لبنان وما حول لبنان.
كل ذلك وغيره مما لم نذكره كثير هو من قبيل ما أشرنا إليه إلا أنني أحسب أن أكثر الناس لم يتعظوا ويأخذوا منه درسا يستفاد منه.(19/335)
ولعل مرد ذلك إلى الغفلة الجاثمة على النفوس الآبقة غفلة عن الله والدار الآخرة التي جرت إلى الغفلة عن مصالح الناس حتى في أمور معاشهم وصدق الله القائل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} .
هذا الأمر أردت الإلماح إليه في مطلع حديثي مع القراء الكرام لما له من أهمية بالغة في واقع الناسك ومستقبلهم ولعل الله يهدي قلوبنا ويصلح أعمالنا جميعا.
والكلمة الثانية فيما يخص هذه الجامعة فلعل من المفيد أن أنقل القارئ الكريم إلى رحابها ليعيش لحظات بين جنباتها لأنها مؤسسة تهمه باعتبارها جامعة لكل المسلمين كما قال صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى لهذه الجامعة وكما هو واقعها بالفعل.
إن للجامعة حاضرا هو ما تضمه من كلياتها الخمس ومعهد ثانوي ومعهد متوسط وشعبة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ودارين للحديث إحداهما بمكة المكرمة والثانية بالمدينة المنورة هذا إلى جانب قسم الدراسات العليا لكل التخصصات الموجودة في الكليات.
ويوجد فيها زيادة على ذلك المرافق المساندة كالمكتبة العامة والمكتبات الفرعية لكل وحدة والمطبعة المجهزة بأحدث ما وصل إليه علم الإنسان مما علمه الله إياه في هذا الفن، لطباعة الكتب والمراجع والدوريات إلى غير ذلك. وكذلك يوجد مجلس لشئون الدعوة، يهتم بكل ما يتصل بالدعوة إلى الله في حدود إمكاناته واختصاصاته المحددة في لائحته المقرة من المجلس الأعلى للجامعة؛ مما يهتم به توزيع الكتب لشتى أنحاء العالم وهناك مجلس علمي ملحق به مركز للبحث.
ويوجد أيضا عمادة لشئون الطلاب تهتم بخدمة الطالب والقيام على راحته، وعمادة لشئون القبول والتسجيل تبدأ مع الطالب أكاديميا من أول ورقة تقدم منه إلى آخر ورقة يأخذها من الجامعة.(19/336)
وقد بلغت ميزانية الجامعة لهذا العام 1400-1401هـ قرابة ثلثمائة مليون ريال وقد بدأت ميزانيتها بثلاثة ملايين عام 1381 هـ.
أما طلاب الجامعة في هذا العام فهم أكثر من ستة آلاف طالب كلهم يتلقى من الرعاية ما يمكنه من التحصيل العلمي والتربوي بيسر وسهولة؛ إذ يتقاضى الطالب مكافأة شهرية تبدأ بثلاثمائة ونيف وتنتهي بحوالي ألف ريال في الدراسات العليا إلى جانب البدلات للملابس والمراجع والترحيل من تأمين الوجبات الغذائية، والمواصلات من الجامعة إلى وسط المدينة والعكس يوميا والسكن المجهز بوسائل الراحة والرعاية الصحية المتواصلة؛ مع منح كل طالب تذكرة سفر جوية ذهابا وإيابا إلى بلده كل سنة خلال الإجازة الصيفية.. إلى غير ذلك من التسهيلات التي تقدمها الجامعة لطلابها.
هذا ما يخص حاضر الجامعة باختصار.
أما ما يتعلق بمستقبلها من الخير إن شاء الله فيشتمل على:
1- إقامة مشروعها العام وهو ما يسمى بالمدينة الجامعية المتكاملة بكلياتها ومعاهدها ومدارسها ومساكنها للأساتذة والطلاب والموظفين مع المرافق اللازمة لهذه المدينة.
والجامعة تتخذ الخطوات اللازمة للبدء في هذا المشروع، وأول هذه الخطوات العملية التصاميم والاتفاق مع المشرفين على التنفيذ. وهذه الخطوة تمضي بالجامعة الآن إلى الأمام للالنزام بها قريبا إن شاء الله تعالى.
2- إنشاء كليات جديدة تتطلبها حاجة المسلمين وسيعلن عنها في حينها وقد أنشئ في كلية الدعوة وأصول الدين هذا العام قسم للإعلام ستبدأ الدراسة فيه فور ما تستكمل متطلباته إن شاء الله تعالى.
3- ستسهم الجامعة بحول الله في تعليم الفتاة المسلمة في الدراسات الجامعية والأبحاث ماضية الآن في دراسة هذا المشروع ومتى أخذ حظّه من الدراسة رفع إلى المجلس ا! لأعلى للنظر في إقراره.
4- إنشاء الحاسب الآلي ليخدم أجهزة الجامعة فنيا وإداريا.(19/337)
5- وهناك تفكير جاد في دراسة إنشاء بعض التخصصات العملية كالطب والهندسة استجابة لحاجة الأقليات المسلمة ليجد الطالب المتخرج من الجامعة الإسلامية وسيلة عيش كريم وهو يسهم في أداء الدعوة إلى الله تعالى. ونسأل الله أن يقدر الذي هو خير.
وإذا ذكرنا الجامعة الإسلامية، فإنا نذكر الذي وراء تأسيس هذه الجامعة في ظروف كان المسلمون أشد ما يكونون حاجة إلى مثلها ففي نفس الوقت الذي صدر فيه الأمر بتأسيس الجامعة يصدر قرار من خارج المملكة بإضعاف مؤسسة ضخمة مماثلة فكأن الله تبارك وتعالى أراد أن يكون البديل الصالح هذه الجامعة في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمر جلالة الملك سعود رحمه الله بتأسيس الجامعة وتولى رعايتها جلالة الملك فيصل عليهما رحمة الله ومغفرته. وخلف بخير خلف والحمد لله جلالة الملك خالد وتوالى تعاهدهم لها بالرعاية والدعم وأكد هذه الرعاية الكريمة بأن أسند الرئاسة العليا فيها لصاحب السمو الملكي الأمير فهد ولي عهده حفظهما الله وبارك في جهودهما. وما زالت هذه الرعاية تتنامى وتزداد. ثم تكرم جلالته بتشريف أسرة الجامعة بالزيارة الكريمة الموعود بها يوم الأحد 29/1/1401 هـ على إثر تفضله بافتتاح مشروع التحلية الذي سيمد المدينة بالماء العذب بالرغم من كثرة مشاغله العديدة لفتة من جلالته إلى بالغ العناية بأهم مرفق تعليمي أسسته المملكة لأبناء العالم الإسلامي. أسأله تعالى أن يبارك في جهوده وجهود إخوانه وأعوانه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه بدأ ونهايةَْ.(19/338)
بيئات التربية الإسلامية
للدكتور عباس محجوب
يقصد بالبيئات الأمكنة التي تتم فيها العملية التربوية لما لتلك البيئات من وظائف تربوية تقوم بها مع التركيز على الصفة التربوية لهذه البيئات وتشمل هذه البيئات الأسرة والمسجد والمدرسة والمجتمع.
أولا: الأسرة
تعتبر الأسرة المكونة من الأبوين أقدم مؤسسة اجتماعية للتربية عرفها الإنسان إذ إنها كانت ولا تزال المؤسسة الوحيدة التي تعلم وتهذب الطفل وتنقل إليه عن طريق الأب خبرات الحياة ومهارتها المحدودة ومعارفها البسيطة وكانت القبيلة هي التي تساعد الآباء في عملية التربية وكثيرا ما كان الإبن وارثا لمهنة والده التي تعلمها ومارسها معه ولا زالت الأسرة في المجتمعات المختلفة هي مصادر التربية والمعرفة بالنسبة لأبنائها، وقد أدى تطور الحياة البشرية واستقرار الإنسان وبناء المجتمعات المدنية والقروية وزيادة الخبرات البشرية وتعدد أنواع المعرفة البشرية إلى إن تشارك مؤسسات أخرى الأسرة في واجب الرعاية والاهتمام والتربية والتوجيه وتخلت الأسرة عن بعض ما كانت تقوم به بالرغم من أنها ظلت المؤسسة الأولى في حياة المجتمع الحديث أيضا في التربية.
كانت الأسرة تقوم بواجب التربية من الناحية الصحية والجسمية فيوفر الأبوان لطفلهما الطعام والشراب والكساء والمأوى ثم تعليمه المهنة التي يعيش بها في المستقبل وغالبا ما تكون مهنة الوالد على حين تتعلم البنت أمور البيت وقد تساعد في أعمال الزراعة مع أمها، ولكن تطور الحياة جعل الأسرة تسعى إلى تعليم أبنائها وأصبحت المدرسة المؤسسة الثانية بعد الأسرة.(19/339)
وقد سبق أن تحدثنا عن بعض المهام التربوية التي تقع على عاتق الأسرة المسلمة وأهمها إيجاد الأم الصالحة للأبناء ورعاية الأمهات ثم اختيار الاسم الصالح للأبناء وتعهدهم بالرعاية والتربية الدينة والتوجيه إلى المثل العليا والتمسك بالفضائل وغيرها مما لا نود تكراره.
وأول الحاجات الضرورية التي يجب أن توفرها الأسرة هو حاجة الطفل إلى الحب والعطف والحنان ولا يمكن توفر ذلك في أسرة لا تقوم أساسا على المودة كما يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [1] لأن هذه المودة بين الوالدين تنتقل إلى الأولاد فتسود المحبة جو العائلة وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الطفل إذا أحس بفقد العطف والحنان والرعاية ترجم ذلك في تصرفات يريد بها إثارة الانتباه واستدرار عطف والديه ثم تنعكس هذه الآثار في مستقبل الطفل فيصبح قاسيا في سلوكه ساخطا على المجتمع.(19/340)
ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالأطفال وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا لما يجب أن تكون عليه العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء فقد كان يحنو على الحسن والحسين… يمتطيان ظهره الشريف فيحبو بهما ويخاطبهما وقد أطال الرسول صلى الله عليه وسلم السجود مرة فسئل عن ذلك فقال: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجل حتى يقضي حاجته" [2] وقد حدث أن كان عليه الصلاة والسلام يقبل الحسن وعنده أعرابي يتعجب من ذلك ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لي عشرة الأولاد ما قبلت أحدا منهم قط"فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يرحم" [3] وفي رواية: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ "، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر" [4] ، وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بالصبيان عامة يسلم عليهم إن رآهم ويتسابق معهم إن رآهم يتسابقون ويلتقي بصبيان أسرته إذا عاد من سفر ويركب على ناقته من يلقاه منهم.
وهذا النوع من التربية للأطفال يؤدي إلى نتيجتين أولاهما إشباع حاجة الطفل الغريزية للحب والعطف والحنان والرعاية وثانيهما انتقال هذه الصفات منه إلى الآخرين كبارا كانوا أم أطفالا.
إن الإسلام عندما وضع على عاتق الأم أعظم مهام الحياة وهي التربية للأجيال وبناء الإنسان كان ذلك من معرفة الإسلام بأن التربية الصحيحة لا تتوفر إلا في الأسرة التي تستطيع المرأة فيها أن تعطي وقتها لبيتها وزوجها وأطفالها وأن توفر لهم جميعا المأوى الدافئ والجو المليء بمعاني العطف والمودة والرحمة.(19/341)
إن المجتمعات الحديثة وقد خرجت فيها المرأة مع الرجل إلى العمل جعلت الأبوين منصرفين عن العناية والرعاية لأطفالهما لأنهما يعودان من العمل منهكين متعبين محتاجين إلى الراحة الجسدية مما يفقد أبناءهما عواطف المحبة والرحمة والنظر في مشاكلهم التربوية والتعليمية وحاجتهم إلى الحنان والرعاية ومثل هذه الأسرة لا تفقد أبناءها ما تقدم بل تجعلهم يتعلمون كثيرا من أنواع السلوك السيء والعادات الضارة من الشارع أو صحبة الأشرار أو الخدم في البيوت.(19/342)
إن واجب الأسرة في الإسلام توجيه الأطفال إلى الصلاة وعبادة الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ومراقبة تنفيذ هذا الأمر وأخذهم بشدة في سن العاشرة والتفريق بينهم في المضاجع والاستئذان في الأوقات التي حددها القرآن لأن الطفل لا بد أن ينشأ على السلوك الإسلامي الذي يخضع النظام الأسري فيها لتعاليم الإسلام ونظمه في المأكل والملبس والسلوك وكل شأن من شؤون الحياة، وعن دور الأسرة في تربية الأولاد يقول الغزالي: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة ... وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك… ورياضته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء.. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فإنه ينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه، وبشارة تدل على الأخلاق، وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، وإن الصبي إذا أهمل في بدء نشأته خرج في الأغلب رديء الأخلاق، كذابا حسودا، سروقا، نماما لحوحا، ذا فضول وضحك، وكيد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب ثم يشغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم ليغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ (بضم الياء وسكون الحاء وفتح الفاء) من الأخبار التى فيها ذكر العشق وأهله ... ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح ويمدح بين أظهر الناس فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة ينبغي(19/343)
أن يتغافل عنه وألا يهتك ستره ولا يكاشفه، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه وإن عاد ثانية ينبغي أن يعاتب سرا ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا فتفضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب النتائج ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن حافظا هيبة الكلام معه، فلا يوبخه إلا أحيانا، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح"ويقول أيضا: "وينبغي أن يعود ألا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل، ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة، ويمنع الحلف رأسا، صادقا كان أو كاذبا حتى لا يعتاد على ذلك من الصغر.
ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود ألا يتكلم إلا جوابا وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا وأن يقوم لمن فوقه، ويوسع له المكان، ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء ... وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أَكبر منه سنا من قريب وأجنبي ومهما بلغ من التمييز ألا يسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان.(19/344)
إن الأسرة التي تقوم بالواجبات التي سبق ذكرها والتي هي جماع لما يسمى الآن بالتربية الخلقية والجسمية والعقلية والاجتماعية، لهي أسرة مثالية قادرة على تخريج رجال نافعين لأنفسهم ولأمتهم، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم واجبات الأسرة نحو أبنائها فيما ذكرنا من الرحمة والشفقة والعطف عليهم لأن تلك الأمور تعطي الأطفال الاطمئنان النفسي والثقة بالذات… والنشأة السوية والاهتمام بالواجب كما دعا الإسلام إلى التعويد على الصلاة باعتبارها عماد الدين كما أن على الأسرة أن تملأ فراغ الأطفال باللعب وتعلم فنون القتال وما يقوي الأجسام والقراءة النافعة الموجهة وقفل أبواب الفساد والانحراف وذلك بالتوجيه لهم إلى الصحبة الطيبة وإبعادهم عن رفاق السوء ومراقبتهم الدائمة من غير مضايقة لهم أو إشعارهم بذلك، كما أن حسن معاملة الوالدين لبعضهما ولأولادهما هو خير طريقة لتربيتهما لأن المعاملة القاسية والإحباط الدائم بالتوبيخ والضرب والإهانة والسخرية تؤدي إلى نتائج سيئة أهمها فقدان الثقة بالنفس وحب العزلة عن الناس والخوف وعدم تحمل أي مسئولية في الحياة والاعتماد على الغير، وربما الاتجاه نحو الجريمة والانحراف والشذوذ، ولذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة والرفق ولين الجانب وعذوبة الألفاظ والتوجيه الحسن والعقوبة المعقولة فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الراحمين يرحمهم الرحمن وأن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على سواه ويقول: "إن أراد الله تعالى بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق، وإن الرفق لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا (بفتح الخاء) أحسن منه وإن العنف لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا أقبح منه".(19/345)
وأهم واجبات التربية الأسرية أيضا التربية الإيمانية للطفل وذلك بتوجيه عواطف الطفل نحو حب الله وحب رسوله وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه التي بين جنبيه وإلى جانب عاطفة الحب تكون عاطفة الخوف من الله لأن العاطفة الأولى تؤدي إلى طاعة الله والعمل بما أمر والثانية تؤدي إلى البعد عن المعاصي قولية أو فعلية ظاهرة أو باطنة والأطفال يستهويهم الحديث عن الله وحبه والجنة والنار ووسائل الوصول إليهما، وعلى الآباء إشعار أبنائهم بأن حبهم له ينشأ من حاجتهم الدائمة إليه هم وآباؤهم لأن كل شيء بيد الله، الإحياء والإماتة والشقاء والسعادة، والرزق والنعمة والهداية والضلال وهذه الحاجة هي التي جعلتنا نحبه أولا ونقوم بواجب الشكر ثانيا من اتباع ما أمر واجتناب ما نهى، ويمكن غرس هذه المعاني في الطفل ساعة وصوله إلى مرحلة الاستغناء عن أمه ونمو قواه الجسمية والعقلية بحيث يستطيع فهم التوجيهات القرآنية والنبوية في ذلك وبحيث يستقر في قلبه أن مصدر كل شيء في الوجود هو الله، وتوجيهه إلى بعض الأحاديث مثل الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجال واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"وكما روي الحديث.(19/346)
إن غرس الإيمان الحقيقي في نفوس الناشئة والإيمان المطلق بالله بصفاته الثابتة له وحبه والخضوع له والخوف منه والالتجاء إليه في كل أمر هو سر السعادة للأبناء والأسرة خاصة إذا أثبتت العقيدة بالطرق التربوية السليمة التي تقوم على العاطفة والعقل والعلم والحكمة حتى يكون الإيمان هو مصدر السلوك وموجه الإنسان في الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا التدرج في تربية الأولاد فيقول فيما رواه ابن عباس: "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله" ثم أمرهم بالصلاة في السابعة ثم تأديبهم على حب النبي وآل بيته وتلاوة القرآن وتعريفهم بالحلال والحرام ممارسة أمامهم وتلقينا وتوجيها لهم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ووعظا بتوصيلهم إلى بعض الأمور كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس.
إن الأسرة هي البيئة الأولى التي يتعلم فيها الطفل فإذا وجد الأبوين الصالحين اللذين يرعيان ويوجهان ويحسنان التربية نشأ الأطفال نافعين لأنفسهم ولأمتهم ومطيعين لربهم منجين لأنفسهم وأهليهم من عقاب الله وسخطه.
ثانيا: المسجد:(19/347)
أخذت الكلمة من أصلها الاشتقاقي وهو السجود لله سبحانه وتعالى فكان المكان الذي يخضع فيه الإنسان ويخشع لله هو المسجد، ومسجد قباء هو أول مسجد في الإسلام أسس على التقوى من أول يوم مما جعل المسجد على مر العصور رمزا لحضارة الإسلام وأماكن التربية والعبادة للمسلمين، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المهام التربوية التعبدية للمسجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [5] .. وقد وردت لفظة "مسجد"بالمفرد والجمع ثمان وعشرين مرة في القرآن كما وردت اللفظة كثيرا في السنة المطهرة مرتبطة بالبناء والتربية ورسالة المسجد، فالمسجد في الإسلام من أهم الأسس التي يقوم عليها تربية الفرد وبناء المجتمع ويمكننا أن نحدد المهام التربوية الوظيفية للمسجد من خلال القرآن والسنة فيما يلي:
1- المسجد مكان الصلاة والذكر والعبادة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [6] {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ويقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [7] والمسجد هو مكان العبادة الجماعية وصلاة الجماعة التي يحسن بالمسلم أن يحرص عليها ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" [8] .(19/348)
والمساجد مكان الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
2- المسجد مكان العلم والتعلم وأول ذلك دراسة القرآن الكريم يقول عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أبو هريرة "… وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" [9] .
ويقول عليه الصلاة والسلام: "أفلا يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد يتعلم أويقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل"، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [10] .(19/349)
3- المسجد مكان القضاء والحكم والشورى ومجمع للوزارات الإسلامية فقد كان المسجد هو مكان الحاكم والمدرسة التي تربى فيها الرعيل الأول من الصحابة إيمانيا وروحيا وخلقيا واجتماعيا وتفاعلت أرواحهم ونفوسهم بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وعطائه وقدوته، تعلموا فيه أمور الدين وعرفوا فيه الحلال والحرام كما تعلموا فيه علوم القرآن والسنة والشريعة واللغة وعلوم الحياة كلها، وتحققت فيه معاني الأخوة ممارسة وواقعا وتعاونوا على البر والتقوى واطمأنت فيه قلوبهم بذكر الله، وضربوا المثل النادر في التفاني والحب والإيثار والرحمة واختاروا فيه الخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكل خليفة يلقي بيان سياسته وأسس حكمه فيه ابتداء بأبي بكر الصديق، وفيه تقاضى المتنازعون ففيه أصدرت الأحكام بإقامة حدود الله، وفيه قاضى كعب بن مالك رجلا دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: "يا كعب ضع عن دينك هذا"فقال: قد فعلت يا رسول الله. فقال: "قم فاقضه" [11] وفي المسجد أقيمت بعض ألعاب الفروسية فقد روت عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولها: "دعاني رسول الله والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد فقال: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم فقلت: نعم فأقامني من ورائه فنظرت من وراء منكبيه"قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم يهود أن في ديننا فسحة" [12] ، وكان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا لإيواء الفقراء والغرباء الذين عرفوا بأهل الصفة بالمكان الذي خصص لهم، وكان فيه سبعون من الفقراء منهم أبو هريرة رضي الله عنه وفيه حبس بعض الأسرى وفيه كان الجرحى يداوون فقد روت عائشة فقالت: "أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل فضرب رسول الله خيمة في المسجد ليعودوه من قريب" [13] ومن المسجد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يدبرون شؤون الأمة والدولة والدعوة(19/350)
ويرسلون السفراء ويجهزون الجيوش ويضعون الاستراتيجيات ويخططون ويمارسون نظام الشورى وإذا جدّ أمر واستدعى قرارا سريعا ورأيا قاطعا نودي (الصلاة جامعة) فيجتمع الناس ويتشاورون، وفيها ينتخب العمال ويرسلون ويحاسبون وتوزع فيها أموال الزكاة والصدقات ويعقد فيها النكاح فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدفوف" [14] ومنه تعطى الشهادة بالنجاح مع الله للمسلم إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" [15] وبالتردد عليها يشهد للرجل بالإيمان فقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" [16] ، وهذا تأكيد لقول الله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} .
إن المسجد يمكن أن يؤدي دوره الأول في حياة المسلمين وتربية أبنائهم وتوجيههم في النواحي الروحية والأخلاقية والاجتماعية حيث يتعلم فيها ويستمع إلى الموعظة النافعة ويخطط فيها لرعاية الشباب وممارسة نشاطاته ويتعلم فيها النواحي الدينية وما يتعلق بمناهج الحياة وأمور التشريع، إن المسجد يمكنه ممارسة مهامه الأولى في التربية إذا كان للحاكم مكان فيه وإذا كان التخطيط للأمة المسلمة في ربوعه وإذا جعل المسجد مكانا لمناقشة الدراسات التي تقدمها اللجان المتخصصة في السياسة والتعليم والتربية والمال والشئون البلدية وما إليها.(19/351)
إننا نلحظ الآن لدى المسلمين اتجاهات إلى تحقيق رسالة المسجد الأولى ببناء المساجد والمدارس وقاعات المحاضرات والندوات والمستشفيات في مبنى واحد حتى يمكن للمسلمين أن يقضوا أمورهم كلها في ذلك المبنى، كما أننا نجد في كثير من البلاد اتجاه الشباب إلى جعل المسجد منارة للعلم ومكانا للمحاضرات ومجلسا شوريا للحي الواحد، وهذا يقضى أن يكون من يتولون الأمر على درجة من العلم والمعرفة بشؤون الدين والدنيا وأن يكون الخطباء في مستوى الإسلام وتعاليمه ومعارفه وفي مستوى الحياة ومشكلاتها وهمومها حتى يكون الخطيب إمام الناس حقا في أمور د ينهم ودنياهم.
إن المسجد عامل مهم من عوامل التربية وبناء الأفراد والأمم فيه يعلَّم النشء الحلال والحرام وأمور الدين والدنيا وأحوال المسلمين وتاريخهم وهمومهم ومشاكلهم وفيه تتحقق معاني التعاطف والمودة والرحمة والتعارف والتعاون وفيه يتدارس الناس القرآن وعلوم الدين وتصقل فيه المواهب وتقوى النواحي الروحية والجسمية والعقلية والوجدانية ففي كل خطوة إلى المسجد تحط خطيئة وتكتب حسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: طمن تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة".
ولا يمكن للناشئة أن يكونوا على صلة بالمساجد ما لم يكن الآباء قدوة لهم في ذلك ... يشجعونهم ويأخذونهم معهم ويربطونهم بدروسه ونشاطاته المختلفة حتى ينشأ الشباب في رحاب الله وفي بيت من بيوته.
المسجد ودوره في محو الأمية وتعليم الكبار:(19/352)
يقول العبدري في كتابه المدخل: "أفضل مواضع التدريس هو المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة أو تخمد به بدعة أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى والمسجد يحصل فيه هذا الغرض متوافرا، ولأنه موضع لاجتماع الناس رفيعهم ووضعيهم وعالمهم وجاهلهم" [17] وهو يقصد بهذا تعليم الكبار العلوم الدينية، ويرى الدكتور عبد الفتاح جلال: "أن المسجد كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مدرسة لتعليم الكبار كان عليه الصلاة والسلام المعلم والصحابة الكرام تلاميذها العباقرة الأفذاذ إذ تعلموا فيها كل أنواع العلم والمعرفة التي تفيد الإنسان في الدنيا والآخرة وتبني جميع جوانب شخصيته فيخرج منها متكامل الشخصية حقا" [18] ويرى هذا الباحث المتخصص في التعليم الوظيفي أن من احتياجات المجتمع المعاصر لبعض وظائف المسجد ما يلي:
1- إمكانية قيام المسجد بدوره في تعليم الأميين تعليما يربطهم بدينهم إذ بلغوا خمسين مليونا في البلاد العربية وحدها.
2- تعاون المسجد مع المؤسسات الاجتماعية في تقديم التعليم المفيد لنسبة كبيرة وقف تعليمها في المرحلة الابتدائية وتعاني نقصا في مهارات الكتابة والقراءة والثقافة العامة أو الدينية.
3- سد المسجد للثغرات الموجودة في مناهج التعليم فيما يخص التربية الدينية التي يغلب عليها في مدارسنا طابع التلقين والهامشية.
4- الاستعانة في المسجد بذوي الخبرات والمعرفة لتقديم المحاضرات لكبار المتعلمين الذين يحتاجون إلى مزيد من العلم في جوانب متعددة ومتنوعة وتساعدهم على أداء أعمالهم.
5- إقامة مكتبة مزودة بالكتب الدينية والعلمية والثقافية الهامة والمفيدة في المسجد لتحقيق الربط العضوي الفعلي بين العلم والدين.
6- مشاركة المسجد في تنمية المجتمع وتطويره وتقدمه وانتشاله من مظاهر التخلف الاجتماعي والاقتصادي.(19/353)
7- أن يشمل تعليم الكبار الرجال والنساء بدءا بالكتابة والقراءة إلى أعقد أمور التخصص وأرفع درجات المعرفة.
إن المسجد لا يمكن أن يقوم بدوره في المجتمع الحديث المعقد ما لم يستفد من الإمكانات المتاحة وما لم يتفاعل مع الناس ومشكلاتهم وحياتهم يقدم لهم الحلول والعلوم ويستفيد من العلماء الصالحين والمتخصصين في صفوف المعرفة ويزود بالمكتبات العلمية الضخمة والوسائل العلمية الحديثة في مجال التعليم والتربية.
ثالثا: المدرسة:
إن المدرسة مؤسسة اجتماعية حديثة العهد في العالم فكما ذكرنا فإن الأسرة ثم القبيلة هي الوسائل التي عرفتها البشرية لتربية الأولاد وإكسابهم المهارات التي يراد لهم تعلمها وبتطور الحياة أصبحت الحاجة ماسة إلى اتخاذ مكان يتعلم فيه الصغار وإلى أشخاص ينوبون عن المجتمع في أداء هذه المهمة، ولم يعرف المسلمون المدرسة بالصورة التي نعرفها إلا في القرن الخامس الهجري نسبة إلى ارتباط التربية والتعليم في الإسلام بالمسجد وكان للمسجد دوره الذي ذكرناه في تحمل مسؤولية نشر الثقافة الإسلامية والمعارف الإسلامية وكان كثير من العلماء يرون عدم تدريس الأولاد في المساجد لتزايد أعدادهم وما يحدثه وجودهم في المسجد من حركة وضجيج زيادة على كثرة المواد التي تدرس وما يترتب عليها من نقاش وحوار وجدل ومناظرة مما جعلهم ينشؤون المدارس مرتبطة بالمساجد ويخصصون فيها ما عرف بـ (الإيوان) قاعة المحاضرات وأمكنة لإيواء الطلاب والمدرسين وما يتبع ذلك من مرافق كالمطبخ وحجرة الطعام وغيرها [19] . ومع ذلك ظل المسجد الجامع في حياة المسلمين منارة العلم وإشعاع النور.(19/354)
وقد اختلفت نشأة المدرسة في تاريخ الإسلام عن نشأتها عند الأمم الأخرى لارتباط التعليم بتعاليم الإسلام ونظرته في اعتبار التعليم حقا وفريضة على كل مسلم وهو ما يسمونه الآن بديمقراطية التعليم فلم يكن التعليم في الإسلام مقتصرا على ما يسمى برجال الدين أو أبناء الحكام والطبقات الراقية.
إن المسلمين كان لهم الفضل باتصال الغرب بهم عن طريق الأندلس والمغرب والقسطنطينية وعن طريق إيطاليا والحروب الصليببية في توجيه الغرب إلى نقل التراث الإسلامي العربي وإنشاء الجامعات والمدارس التي اتخذت صفات كثيرة، ولكن المسلمين بعد نكستهم وتخليهم عن مناهج تربيتهم وتعليمهم اقتبسوا نظام المدارس في صورتها الراهنة من الغرب عن طريق الإرساليات وغيرها بعد أن جرد الغرب التعليم من الصفة الدينية وصبغه بصبغة علمانية بعيدة عن الدين.
إن المدرسة الإسلامية كما ذكرنا تجعل التعليم والتربية حقا لكل مسلم وليست امتيازا لطبقة أو فئة من الناس وإنَّ اتجاه الناس إلى التعليم يجعل المسؤوليات التربوية للمدرسة أكبر من المسجد إذ إن المدرسة قد انفصلت الآن كبيئة تربوية لا تكتفي بإعطاء المعلومات والمعارف بل هي أداة للتربية المتكاملة عقلية وجسدية وعاطفية ووجدانية ويمكننا أن نشير إلى بعض الوظائف التي يمكن للمدرسة بها أن تكون وسطا صالحا للتربية الإسلامية.
1- اختيار المنهج الدراسي الإسلامي:(19/355)
إذ إن المناهج الدراسية لدى المسلمين كانت تراعي عدة أمور من أهمها مراعاة ميول الأطفال ورغباتهم ومراعاة الفروق الفردية إذ إن الطفل يفهم ما بإمكانه أن يفهمه والاختلافات الفردية قد ترجع إلى طبيعة التربية أو البيئة أو السن أو مستوى الذكاء ولذلك طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من سيدنا عبد الله بن عباس أن لا يحدث الناس بما لا تحتمله عقولهم والشريعة الإسلامية تراعي الاستعداد الشخصي حتى في العبادات فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا" ويقول الغزالي في ذلك: "وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، كذلك المربي لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم وإنما ينبغي أن ينظر في مرض المريض وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته" [20] .(19/356)
والقرآن الكريم يقول مبينا هذه الفوارق في الاستعدادات: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [21] ، ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" [22] ، وفي أحاديث كثيرة يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلم ألا يذل نفسه بتعريضها لما لا تطيق من البلايا كما يطالب بالقصد في كل شيء.
2- مراعاة الطبيعة النفسية للبشر:
وهذا يتطلب من المدرسة أن تكون بعيدة عن العنف والقسوة ومكانا للرحمة والرفق والتوجيه بالوسائل الحسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة: "عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه" [23] ، والإسلام يهدف إلى إيجاد المسلم اللطيف الرقيق الرفيق الذي يكره العنف والقسوة والفظاظة والغلظة إذ أن العنف لا يلد إلا العنف ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" [24] .
3- الاستفادة من الخبرات الإنسانية:(19/357)
من المهام الأساسية للمدرسة نقل خبرات الأجيال السابقة لما بعدها وهذه الخبرات تراث إنساني يستفيد به المسلمون بالنافع منه والمتفق مع عقيدتهم ويتركون ما لا يتفق معهم بعد التعرف على جوانب السوء فيه، والإسلام دين متطور يدعو إلى التحرر من ربقة التقاليد والأفكار البالية لأن الحرص على المعتقدات الفاسدة بحجة المحافظة على التراث قد يقود إلى الضلال والكفر: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [25] ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
4- الحب للفضيلة والكراهية للرذيلة لذاتهما:(19/358)
إن التربية تهدف إلى جعل الأخلاق عادة في سلوك الإنسان وأن يكون اتجاه المسلم إلى الخير نابعا من الحب للخير واجتناب الشر نابعا من كراهية للشر لأنه شر في السر والعلانية وتحت كل الظروف والأحوال فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [26] … فمحك الفضيلة والكمال الخلقي أن يصدر العمل عن طبيعة ثابتة في حب الخير سرا وعلنا ولذلك وسع الإسلام في دائرة الخير فجعل كل فعل خير صادر من المسلم نحو المسلم صدقة حتى الإمساك عن الشر صدقة لمن لم يجد ما يفعله إيجابا بل إن فعل الخير نحو الحيوان صدقة لا تصدر إلا من طبع فطر على حب الخير وجبل عليه، وقد وصف القرآن الطبائع التي مارست حب الفضيلة في واقع الحياة فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [27] ، كما وصفهم بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [28] ، فالذي صبغ نفسه على حب الفضيلة يكره بداهة الرذيلة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أعينوا أولادكم على البر".(19/359)
إن المدرسة تستطيع تحقيق التربية الأخلاقية الكاملة كما ذكرنا عن طريقين: الأولى: الطريقة غير المباشرة بأن تكون المؤسسات الاجتماعية والمواد المدرسية وسلوك المعلمين ومن لهم صلة بالتعليم متمشية مع الأخلاق والسلوك الإسلامي والثانية تدريس علم الأخلاق كعلم مستقل بذاته.
إن المدرسة هي البيئة التي يتعلم فيها الطفل ويعبر فيها عن رغباته وميوله ويظهر فيها إمكاناته وقدراته وعلى المدرسة أن ترى ذلك كله وتوجه وتكمل رسالة البيت والمسجد لأن عمل كل واحد مكمل لعمل الآخر في تنمية شخصية الطفل وإعداده لحياته المقبلة ليكون على صلة بالله طيبة وبالمجتمع مفيدة وبالوطن مصدرا للخير والعطاء.
المعلم هو حجر الزاوية في العملية التربوية كما يقولون فالمدرسة تقوم بدورها بواسطة المعلم لذلك كان لا بد من إعداده لمهمته واختياره من النخبة الطيبة لذلك ركز علماء التربية قديما وحديثا على صفات لابد أن تتوفر في المعلم وقد حصر القدماء هذه الصفات في كلمات، فابن سينا يقول: "ينبغي أن يكون مؤدب الصبي عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا، غير كز ولا جامد، حلوا لبيبا ذا مروءة ونظافة ونزاهة" [29] ، ومن خلال تلك الآراء نستطيع أن نحدد الصفات الواجب توفرها في المعلم المسلم فيما يلي:
1- الورع وتقوى الله: وذلك بمراقبة الله سبحانه وتعالى في السلوك والأقوال فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" والمعلم أب لأولاده يوجههم إلى الخير ويلتزم به في سلوكه والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن أكرم الناس أتقاهم وأن أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق، ولا بد أن يكون المعلم ورعا يشعر بأن الله معه أينما كان، وأن مراقبة الله الدائمة هي الموجهة للسلوك والإرادة فإذا لم يكن المعلم تقيا ورعا نشأ أولاده على الفساد والتحلل وانعدام الضمير والرادع.(19/360)
2- الإخلاص في العمل: لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وكل عمل يبتغي به المرء وجه الله فهو عبادة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [30] ، ويقتضي الإخلاص أن يكون المعلم واسع العلم عالما بأمور الدين وتعاليم الإسلام وآرائه في الحياة والموت والكون ونظامه الاقتصادي والسياسي والتربوي والتشريعي زيادة على ما في الحياة من مبادئ ونظم وأفكار ثم التمكن من مادته التي تخصص فيها والتعرف على الجديد في العلم عن طريق البحث والاطلاع والصلة بالعلماء وما إلى ذلك، وقد أوصى هشام بن عبد الملك معلم ابنه بقوله: "إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وليتك تأديبه فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله إلخ" [31] .
3- الالتزام بالإسلام والعمل له: إن المسلم المعلم في حقيقة الأمر داعية إلى الله على بصيرة وإدراك وعليه أن ينقل هذا المفهوم لطلابه قولا وعملا وسلوكا وممارسة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فالربط بين الأقوال والأعمال دليل على الالتزام الأخلاقي بالإسلام وليس الالتزام الفكري فقط، وهذا يقتضي أن تتمثل الفضائل الأخلاقية كلها في سلوك المعلم لأنها مراقبة ومحسوبة عليه مثل الالتزام بالصدق والأمانة والتواضع والعفة في اللسان والجوارح والشجاعة والكرم والمروءة والحب والبغض في الله والرفعة والرقة واللين ودماثة الخلق وما إلى ذلك.
إن المدرسة تمثل نافذة الحياة بالنسبة للأطفال يعيش فيها الطفل وقتا كبيرا من يومه ليتزود بالمعارف والتعاليم والخبرات التي تجعله قادرا على اقتحام الحياة والتكيف معها وأداء رسالته فيها وتحقيق سر وجوده في الأرض وهو معرفة الله وعبادته.(19/361)
رابعا: المجتمع:
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [32] ، وهذه الآية توضح لنا أن التربية لا تتم إلا في إطار اجتماعي وداخل مجتمع مسلم نظيف لأن الطفل لا يمكن تربيته بعيدا عن المؤسسات الاجتماعية مثل البيت والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها لما لهذه المؤسسات من أثر تربوي فعال ولما للعادات والتقاليد والأخلاقيات الاجتماعية من تأثير على الطفل والسلوك الإنساني عبارة عن التفاعل بين الظروف الاجتماعية البيئية والطبيعة الإنسانية.
إن المجتمع المسلم يتميز عن المجتمعات الأخرى كما يتميز الفرد عن الأفراد غير المسلمين في عقيدته التي ينشأ منها سلوكه والمصدر الذي يلتقى منه سلوكه والأخلاق التي يتميز بها عن غيره والطرق التي يسلكها في حياته وفي تحقيق أهدافه والعبادة التي يمارسها والمؤسسات التي ينشأ فيها والقيم التي يوزن بها البشر.
وإن المجتمع المسلم قائم على نبذ العنصرية والوطنية الإقليمية وعلى الحرية المبنية على العبودية الكاملة لله وحده والتي تحقق له المحافظة على ماله وعرضه ونفسه وتطلب منه الالتزام بالحق والعدل، كما أنه مجتمع الأخوة والمساواة والكفاية والعدل بين المسلمين الذين يتساوون في الواجبات والحقوق: "المسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم…" فالمجتمع عامل تربوي فعال يحتاج إلى تضافر المؤسسات في تحقيقه لمسؤلياته التربوية التي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
1- التعاون على البر والتقوى:(19/362)
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [33] ، لأن التعاون على البر والتقوى هما وسيلتا المجتمع لنشر الفضية والخير ومحاربة الرذيلة والشر فوسائل التربية الحديثة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام كل منها معلم يملك أذواق البشر وأسماعهم وأبصارهم فإذا وجهت وجهتها الصحيحة كانت وسائل خير ورحمة وتعليم وتثقيف وإذا تركت على ما هي عليه من نشر السموم والأغاني المائعة والتمثيليات الهابطة والكذب الدائم والسخافات والأباطيل كانت وسائل دمار وهدم لجهود مؤسسات التربية الأخرى كالبيت والمدرسة والمسجد، فواجب الدول أن تطهر مؤسساتها من كل ما يعوق تربية أجيالها على الحق والفضيلة والبر والتقوى وأن تحارب هذه الأجهزة وتجعلها تتكيف مع طبيعة المجتمع وعقائده ونظمه، ولا يتم التعاون على محاربة الإثم والعدوان إلا بإغلاق مظاهر الفساد الاجتماعي وتوجيه الثقافة التي يتأثر بها الأطفال والكبار إلى الثقافة التي يبني المجتمع عليها وحماية الشباب من المؤثرات الثقافية الدافعة للفساد، والإسلام يوجه توجيهات كثيرة في هذه الناحية فالله سبحانه يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} [34] .(19/363)
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الرجل يرتكب عملا بالليل وينشره بالنهار وقد ستره الله لأن عمل الشر إثم ونشره عن طريق إذاعته إثم آخر لا يفعل ذلك إلا الماجن الذي لا يستحي وإذاعة الفاحشة مضر للمجتمع من الناحية التربوية فكيف به إذا تولته أجهزة في الدولة وبأموال المسلمين والله لا يحب الجهر بالسوء من القول أو الفعل فواجب المجتمع التعاون على إزالة الإثم الفواحش إلى درجة قتال المفسدين في الأرض وقتلهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [35] ، كما يحث الإسلام الفرد في النيابة عن المجتمع في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "من رأى منكم منكرا فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" [36] .
والمجتمع المسلم هو الذي يقوم على التقوى ويطالب أفراده بذلك والحض على التقوى كثير في القرآن باعتبار التقوى مصدرا لسلوك المسلم فردا وجماعة فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ويؤمنون بالآخرة وبالكتب المنزلة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرون في البأساء والضراء والمنفقون فيهما والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس المحسنون الذين يذكرون الله ليلا وسحرا والمستغفرون، فالتقوى هي وصية الله الدائمة لكل أمة على لسان الأنبياء وهي خير زاد للمسلم وخير لباس له والمتقون هم أولياء الله وهم سبب سعادة المجتمع وأساس بنائه وسبب الرزق والانفتاح الاقتصادي وسبب النجاة من كل ضعف والوصول إلى الجنة التي أعدت للمتقين.(19/364)
والمجتمع هو الذي تتعمق فيه بالممارسة معاني الود والرحمة والإيثار والتضحية فالمسلمون في توادهم وتراحمهم جسد واحد ألف الله بين أعضائه بنعمته بعد أن كانوا أعداء وقد ضرب المسلمون الأوائل أروع الأمثلة في ممارسة التكافل الاجتماعي والإيثار مع الحاجة والتضحية في سبيل الغير فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ترسل إليهم الأموال الكثيرة فيوزعونها على المحتاجين وينسون أنفسهم وهم أحوج ما يكونون إليها وكانوا رحماء فيما بينهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
إن المجتمع المسلم هو الذي يقوم بدوره في مساعدة الآباء على تربية أبنائهم على أخلاق الإسلام وتقاليده بحيث أنهم إن خرجوا إليه وجدوا فيه ما تعلموه من الوالدين فلا يسمع كلمة نابية أو لفظا جارحا ولا يرى مظهرا للغش أو الخداع وهو يبتاع ويتعامل في الخارج ويجد مدرسيه في حرص أبويه على المثل الإسلامية فلا يسمح له بالغش في الامتحان أو يعطى ما لا يستحقه إرضاء للمدير أو جنسيته.
المجتمع الذي لا يعج بمظاهر الفساد والتحلل والعري ويطلب من المراهق أن يكون عفيفا طاهرا…إن النشء المسلم يجب ألا يجد نوعا من التناقض بين تربية والديه والأخلاقيات الممارسة في المجتمع، فالمجتمع المسلم مجتمع متحرر من الانقياد لغير الله ونظيف طاهر تبنى فيه العلاقات على القاعدة القرآنية {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
إننا لا نستطيع تربية أطفال صالحين في بيئة اجتماعية فاسدة كما لا نستطيع أن نزرع أرضا دون تهيئة هذه الأرض لأن أدواء المجتمع كلها معدية تنتقل إليهم شاءوا أم أبوا.(19/365)
إن الدولة تستطيع توجيه الوسائل الاجتماعية كلها بدءا بالأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام في خدمة التربية وقد وجه الإسلام إلى تكوين جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مزودة بالخبرات والأساليب التربوية الصحيحة توجه المجتمع من داخله وتراقب ما يجد من انحراف في السلوك للأفراد أو المؤسسات أو الدولة نفسها ثم تعالج الأمور بحكمة وموعظة حسنة متعاونين مع أفراد المجتمع في ذلك {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} .
إن الدول تشرع كثيرا من القوانين لحماية ما يسمى بالنظم الاشتراكية والمكتسبات الثورية وما إلى ذلك فما الذي يمنع المجتمع المسلم من سن القوانين والنظم التي تكفل حماية المجتمع ونظمه وتقاليده ويوقف مظاهر الفساد والانحلال ويحمي النشء والأمة من كل ما يدنس أخلاقها أو ينحرف بها عن التوجيهات التربوية للإسلام وبالتالي تشجع الناس على الفضائل، ويزيل هذا الصراع المستمر بين التعاليم التربوية والإغراءات الخارجية، إن الإسلام يطالب الأسر بالتعاون فيما بينها بتعليم الأسر المتعلمة للأخرى حتى يتحقق التعاون على البر في واقع الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه علقمة عن أبيه قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة".(19/366)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن المجتمع يمكن أن يتخذ سلطته عن طريق القوانين التي تكفل سلامة المجتمع وتربيته وتعليمه حتى تتحقق الأهداف التربوية للمجتمع المسلم.
خامسا: الوراثة والبيئة:
أثبت العلم حديثا أن الأطفال يرثون الصفات الثابتة فيهم من أبويهم كما يرثون الصفات الشكلية فيهم، وأن الأطفال يحملون خصائص أصولهم وإن بعدت المسافة الزمنية بينهم وبين أصولهم وأثبتت قوانين الله في الكون أن الفرع يشبه أصله في الكائنات كلها، إن انتقال خصائص الآباء والأجداد للأبناء الذين يمثلون الفروع هو الذي يعرف بعلم الوراثة وهو علم لا يوجد من ينكره، ولكن الخلاف بين العلماء في الشيء الذي يورثه الآباء ومقداره ونوعه.
فالبشرية كلها تشترك في الصفات التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات وتورث هذه الصفات جيلا بعد آخر، ولكن هناك صفات خاصة إلى جانب الصفات العامة تتميز بها أمة ما في مكان ما عن الأمم الأخرى وهي التي تميز بها الإفريقي عن الآسيوي والشرقي عن الغربي ثم يتدرج هذا التمايز في الصفات إلى مستوى الأبوين اللذين يورثان ألوانهما وأشكال قامتهما وطبائعهما لأبنائهما وتختلف نسبة الصفات المورثة من الأب والأم والمقدار الذي يرثه من كل منهما، وقد لا يرث الأبناء صفات آبائهم الأقرباء ولكن تظهر هذه الصفات في الأجيال التالية ولذلك نجد الطب الحديث يبحث في الأمراض عما إذا كان المرض موجودا في العائلة أو قد وجد في جيل سابق كما أن العلم يقول إن الأبناء يرثون الاستعداد للشيء كالاستعداد للنبوغ أو الغباء أو الإصابة بأمراض معينة أو الانحرافات الخلقية وما إلى ذلك وهنا يظهر دور البيئة في نمو تلك الاستعدادات.(19/367)
والبيئة تطلق على ما يحيط بالإنسان من أناس وبحار وبلاد وأرض وأجواء، وكما أن النبات لا يعيش وينمو ويثمر إلا إذا وجد التربة الصالحة والماء والهواء والضوء فكذلك الإنسان في جانبه المادي يتأثر بالناحية الجغرافية في البيئة من بحار وأنهار وأجواء وطبيعة وجبال وهضاب وغيره ذلك كما يتأثر بذلك في جانبه العقلي أما بيئة الإنسان الخاصة فهي المنزل والمسجد والمدرسة ودينه ومعتقداته ولغته وتراثه وما إلى ذلك.
ما أثر ذلك كله في التربية بعامة والتربية الإسلامية بخاصة؟.
إن الإنسان إذا نشأ في بيئة صالحة، وأسرة متدينة ومدرسة راقية ورفقة صالحة وأمة خيرة ونظام سياسي عادل وتربية ممتازة كان الشخص المثالي الذي تهدف التربية إلى إيجاده، أما إذا وجد في بيئة سيئة، أسرة منحلة ورفقة سيئة وأمة شريرة ونظام سياسي جائر وحاكم طاغ متجبر وأنظمة بشرية فاشلة وتربية لا تقوم على أساس فإن النتائج أفراد فاشلون وذلك مصداق لقول الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [37] .(19/368)
وقد أثبت علماء الوراثة أن الصفات الجسمية والخلقية والعقلية والنفسية لدى الآباء تكون استعدادا لدى الأبناء بما في آبائهم والقرآن يحدثنا أن أبناء الزناة يحملون استعدادا وراثيا للزنا من آبائهم ولذلك عبر عنه القرآن بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [38] ، كما أن الأمراض الناشئة عن الزنا مثل السيلان والزهري قد تنتقل كاستعدادات وراثية لدى الأطفال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذرا المهاجرين من خمس خصال ذكر منها "ولم تظهر الفاحشة في قوم قط يعمل بها علانية إلا فشا فيهم الطاعون الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم" [39] ، وقد أثبتت الدراسات لحالات المجرمين في جرائم مختلفة علاقة بين المجرم ومن مارس في قرابته نفس الجريمة التي ارتكبها فلذلك يرى بعض العلماء أن الزواج بين أبناء السكيرين أو المصابين بالأمراض جريمة لأن الأبناء يرثون الاستعداد لذلك، وقد سبق أن ذكرنا استنكار بني إسرائيل للسيدة مريم ذات السلالة الطاهرة النقية كيف أنجبت سيدنا عيسى من الزنا بدعواهم {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [40] ، وبعض العلماء يرى أن الإجرام ليس وراثيا إنما هو أثر من آثار البيئة على الإنسان فإذا أخذ الأولاد من الآباء السيئين ونشأوا في بيئة طيبة نشأوا عكس آبائهم.(19/369)
إن أهمية البيئة والوراثة كوسائل تربوية وإن دراستهما ومعرفة حدودهما ومدى تأثيرهما في الإنسان يجعل التربية مبنية على أسس علمية باعتبار كل منهما عاملا مكونا للعقل والجسم والخلق مع الآخر بدرجة تجعل من الصعب إعطاء دور كل منهما كما يفعل البعض نسبة معينة ثابتة فإذا لم توجد البيئة الصالحة للعبقري فإن عبقريته تموت وتندثر، كما أن البيئة الراقية لا تلد العباقرة والفلاسفة وإنما يوجد العبقري في البيئة الصالحة يكون انتفاع الأمة بأبنائها والأبناء بإمكاناتهم ومواهبهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الروم 21.
[2] رواه أبو داود.
[3] رواه البخاري.
[4] رواه الترمذي.
[5] النور 37.
[6] النور 37.
[7] التوبة 109.
[8] رواه مسلم.
[9] رياض الصالحين ص424 عن رواية مسلم.
[10] رواه مسلم / رياض الصالحين 644.
[11] فتح الباري ج5 ص73.
[12] مسند الإمام أحمد.
[13] رواه البخاري ومسلم.
[14] رواه الترمذي.
[15] رواه أبو داود والترمذي.
[16] رواه الترمذي.
[17] نقلا عن الأبراشي عن التربية الإسلامية وفلاسفتها ص78-79.
[18] مجلة الفيصل العدد الثامن السنة الثانية ص80.
[19] راجع أحمد شلبي ـ تاريخ التربية الإسلامية ص114.
[20] الغزالي ـ إحياء علوم الدين ج أول.
[21] البقرة.
[22] رواه البخاري في كتاب العلم.
[23] رواه مسلم.
[24] رواه البخاري في كتاب العلم.
[25] الأعراف.
[26] الرعد 22.
[27] الحشر 9.
[28] الحجرات 7.
[29] الأبراشي ـ التربية الإسلامية وفلاسفتها ص225.
[30] البينة 5.
[31] راجع الأبراشي ـ التربية الإسلامية ص146.
[32] البقرة آية 286.
[33] المائدة 3.(19/370)
[34] الأعراف 33.
[35] المائدة 32.
[36] رواه مسلم في كتاب الإيمان.
[37] الأعراف 58.
[38] الإسراء 32.
[39] رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي.
[40] مريم 28.(19/371)
تجارب حية في عملية التربية والتعليم
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين
1- الطرق التي يقررها علماء التربية للتدريس كلها مستنبطة من التجارب العملية التي مارسها بعض المدرسين، ولا سيما أولئك الذين يمتازون بدقة الملاحظة والرغبة في الإفادة، والشعور بأهمية الرسالة، التي يحملونها ... هؤلاء لخصوا لنا خبراتهم وتجاربهم فصيغت منها القواعد التي يدرسها المؤهلون للتعليم، ليعملوا بها وليسيروا على ضوئها.
ولكن على المدرس اللبيب أن يتذكر أن هذه التجارب لم تبلغ بعد المرحلة النهائية بحيث يُظن إنها جامعة مانعة لا تقبل إضافة ولا تعديلا، بل الأمر على الضد من ذلك فليست هذه التجارب العملية سوى عينة محدودة لما يمكن للمدرس الحاذق أن يستخلصه من خلال تجاربه الشخصية اليومية.
فالمدرس الذي يستعمل عقله في أداء عمله يستطيع أن يستنبط كل يوم جديدا من الأساليب والطرق الأكثر فائدة ... وعليه أن يتذكر أن لكل بيئة خصائصها المميزة، فرب طريقة ناجحة في وسط تعجز عن النجاح في وسط آخر.. ولهذا كان للتجارب اليومية الحيّة في عمل المدرس النابه قيمتها المعتبرة.
2- ولنذكر على ذلك بعض الأمثلة:(19/372)
في إحدى المدارس وزعت الإدارة بالاتفاق مع مدرسي المواد المختلفة حصص النشاط فكان لكل مدرس مادةٍ حصصٌ معينة للقيام بالنشاط المتصل بها، كالجغرافية والتاريخ والحساب والعلوم وما إليها… إلا مادة التربية الإسلامية فلم تخصص بأية حصة، إذ كان مدرسها غائبا عن ذلك الاجتماع ولم يخطر في بال المدرسين الآخرين أن في مادة الدين أي مجال لنشاط ما، فلما حضر مدرسها وعلم بإغفال مادته من حصص النشاط أبدى استغرابه، وبدلا من أن يستريح إلى إعفائه من تلك الحصص التي ستشغل بعض أوقات راحته خارج مواعيد الدوام، أعلن احتجاجه على ذلك الإغفال، وأكد للإدارة أن مادة الدين أخصب مجال للنشاط المدرسي..وبالفعل لم يلبث أن برهن على صواب ما ذهب إليه، إذ استحدث لحلقته الدينية ألوانا من النشاط أدهشت زملاءه، واجتذبت الموجهين والمدرسين الآخرين لمشاهدتها…وهكذا أثبت هذا المدرس الكفء أن المدرس الصالح جدير بأن يبتدع من أساليب التربية ما يستحق أن يحتذى في سائر المدارس.
لقد أدرك هذا المدرس أن دروس الدين الإسلامي ليست قواعد جافة تقف عند تعريف المصطلحات وبيان الشروط والأركان، واستنباط الأحكام، ودراسة الألفاظ والمعاني…ولكنها إلى جانب هذا كله تربية خلقية تتحول إلى أعمال تتجلى في سلوك أصحابها.
ورأى أن أفضل الوسائل لإبراز هذه الحقائق أن يستعين بالتمثيل والخطابة والمحاورات..فراح يتخير من تاريخ الإسلام بعض المشاهد المؤثرة فيصوغها في تمثيليات قصيرة، يوزع أدوارها على عدد من التلاميذ، ويدربهم على أدائها أمام الجمهور…حتى إذا تمت الاستعدادات لذلك قام التلاميذ المدربون بعرض تمثيليتهم على مسرح المدرسة…فشاهد النظارة تلك الأخبار التاريخية، التي كانوا يقرؤونها في الكتب، أو يسمعون بها من الرواة، أحداثا متحركة أما أعينهم، فيتأثرون بها أكثر من قراءتها.(19/373)
فتمثيلية عن الزكاة، وأخرى عن الحج، وثالثة عن الوفاء، ورابعة عن الأمانة..وما إلى ذلك من الفضائل الإسلامية، التي من شأنها، إذا أدرك المسلمون معانيها وحققوها في سلوكهم، أن تجعل منهم كما جعلت من أسلافهم خير أمة أخرجت للناس…
وهكذا استفاد من الخطابة والحوار…يعرض بهما المعاني الإسلامية عرضا مؤثرا جعل الناظرين واثقين من أن مادة الدين أخصب مجالات النشاط المدرسي بالفعل.
وهذا المدرس الناجح إنما عمد إلى تلوين أساليبه من تمثيل إلى خطابة إلى حوار وغيره ابتعادا عن الجمود الممل، لأنه لو اكتفى بالتمثيل وحده لانتهى بتلاميذه ومشاهديهم إلى السأم، وكذلك الوقوف على لون واحد من الأساليب يفقده الحيوية والتشويق.
إذن فعلى المدرس أن يطور أساليبه في إعطاء الدرس، وفي النشاط المدرسي حتى لا تبعث على الملل…وبذلك يضمن انتباه تلاميذه وحبهم للدرس وتفاعلهم معه.
ولنستفد في هذا الصدد من حكمة أبي تمام القائلة:
لا يصلح النفس إن كانت مدبرة
إلا التنقل من حال إلى حال
3- والمدرس المسلم أحق المدرسين بالانتفاع من مثل هذا التجديد لأساليب التدريس والنشاط…ومراعاة الوسيلة الأنجع في إفادة التلاميذ وتربيتهم على روح الإسلام، ولينظر هذا المدرس إلى أساليب القرآن العظيم، والألوان المختلفة التي حملت معانيه يعلم أن التزام الصورة الواحدة، في التعبير والتعليم والسلوك، مخالف للأصلح والأنفع.(19/374)
فالتعبير القرآني قد سلك كل ألوان الأساليب العربية في إبلاغ مقاصده، فهناك الأسلوب القائم على السجع، والفواصل، هناك الأسلوب المرسل، وفيه الآية القصيرة التي لا تزيد على الكلمة، وفيه الطويلة التي تستوعب الصفحة…وفيه التمثيل والتشبيه والإيجاز والإطناب، والاستفهام والتقرير…إلى غير ذلك من الأساليب التي يستولي بها القرآن العظيم على الألباب، ويثير العواطف ويحرك الضمائر ويطلق الخيال، ويشغل كل ما تنطوي عليه النفس من الطاقات…
وكذلك القول في العبادات…ولنمثل كذلك بالصلوات المكتوبة فهي ما بين ركعتين وثلاث وأربع وبين جهري وسري…وقد اختلفت المسافة بين أوقاتها…ولعل بعض الحكم العجيبة في ذلك هو إبعاد هيئة العبادة عن تكرار الصورة الواحدة، الذي قد يؤدي بها إلى أن تصير عادة آلية فتفقد بذلك روح الجدة…والله أعلم.
4- ونظرة مماثلة إلى أساليب الرسول في التعليم…وهو المعلم الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، الذي أوتي الحكمة وجوامع الكلم والخلق العظيم.
لم يلتزم صلى الله عليه وسلم في تعليمه أسلوبا واحدا ولا هيئة واحدة…بل كان يعطي لكل مقام ما يناسبه من المقال والهيئة.
لقد أمر ونهى…وخطب…وقصّ…ومثّل…واستعمل وسائل الإيضاح، سأل مرة أصحابه ـ تلاميذه ـ: أتدرون من المفلس؟ …
وكان السؤال محركا لتفكيرهم، فأجابوا بما يعلمون من صفة الإفلاس، وهناك فاجأهم بما يقصد إليه من الإفلاس المعنوي، الذي يحشر صاحبه يوم القيامة وليس معه ما يفي بما عليه…ومن هذا وأمثاله من الأسئلة النبوية نتعلم كيف نستثير انتباه تلاميذنا وننشط أفكارهم للبحث…وفي حديث جبريل عليه السلام أسلوب تعليمي عجيب، ما أجدر المدرس المسلم أن يستنبط منه الحكم البالغة…(19/375)
وأذكر أن مدرسا فطنا استفاد من هذا الحديث في أحد الدروس إذ درّب فرَّاش المدرسة على أداء دور معيّن، وفي أثناء الدرس جاء هذا الفراش واستأذن المدرس ليسمح له بالاستماع إلى درسه، ثم أخذ يطرح عليه بعض الأسئلة المتصلة بصميم الدرس…فلم ينته الحوار حتى كان التلاميذ قد أحاطوا علما بكل تفاصيله…
وفي حديث "ما فعل النغير يا أبا عمير" إرشادات حكيمة توجه المدرس إلى أنجح الطرق في تعليم تلاميذه، إذ تحببهم، بمدرسهم لما يرونه من رعايته إياهم واهتمامه بمشكلاتهم.
أراد صلى الله عليه وسلم ذات مرة أن يعمق ارتباط تلاميذه رضي الله عنهم بالآخرة فصور لهم حياة الإنسان وما يحيط به من أحداث الدنيا أعجب تصوير، إذ رسم مربعا صغيرا رمز به إلى الأجل وجعل في وسطه خطا رمز به إلى الإنسان، ثم مدّ من هذا خطا خارجا من المربع وجعل خطوطا صغارا إلى الذي في الوسط، ثم فسر ذلك بأنه الإنسان يحيط به الأجل وينطلق منه الأمل، وفسر الخطوط الصغار بالأعراض ـ المصائب ـ تنهشه من هنا وهناك.
ومثل هذا التمثيل يعتبر من أرقى أساليب التعليم لاعتماده الرسم الإيضاحي المثبت للفكرة.
وكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم يعمد إلى القصة لإبلاغ ما يريد من الأفكار والإرشادات فتأتي غاية في البلاغة والتأثير…إذ تعرض الفكرة ممثلة في أشخاص بأعيانهم، فتستهوي القلوب والعقول، وتثير المخيلة لاستخلاص العبرة.
من ذلك قصة الملك والساحر والراهب ـ في صحيح مسلم ـ ثم قصة الثلاثة الذين تكلموا في المهد ـ للشيخين ـ ثم قصة أصحاب الغار الذين نجاهم الله بحسناتهم ـ لرزين والترمذي ـ وكذلك قصة الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل ـ للشيخين ـ.
ومن شأن أمثال هذه القصص أن تعلم المدرس كيف يستفيد من أسلوب القصة في إمتاع تلاميذه وإفادتهم.(19/376)
5- وجدير بالمدرس أن يتفطن إلى أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام، وكيف كان يؤدي معانيه في أناة تمكن السامع من الاستيعاب، حتى لو شاء لعد ألفاظه، وكذلك تكراره لعباراته حتى لا تغمض على السامعين.
والفائدة التي نقتبسها من هذه الطريقة ألا نعجل في خطاب تلاميذنا عند الشرح…وأن نتخذ كل الوسائل التي من شأنها تمكينهم من الفهم والاستيعاب والحفظ.
وطبيعي أن نهوض المدرس بمثل هذه الأعمال تقتضيه أن يكون ذا ثقافة حية واسعة، وهذا يعني أن عليه أن يكثر من الاطلاع على العلوم قديمها وحديثها، ولا يتوافر له ذلك إلا بالإكثار من المطالعة لتجديد عقله بالكتب النافعة، فإن معلومات الإنسان كالماء، إن لم يكن على اتصال دائم بالمنابع الصالحة انتهى إلى الفساد، وسعة معلومات المدرس تساعده على إفادة تلاميذه في كل ما يشكل عليهم، فلا يشعرون بعجزه، لأن عجز المدرس وقصور إدراكه يعرضانه لسخرية طلابه، وعليه أن يتعهد تغذية عقول تلاميذه بإرشادهم إلى الكتب الملائمة لمداركهم والنافعة لهم في دينهم ودنياهم، ولا يتأتى له هذا ما لم يكن على صلة بما ينشر ويكتب.
درس نموذجي في الحديث الشريف
على السبورة
(وما ينطق على الهوى)
مقرر اليوم من
الحديث النبوي
6/7/1400هـ
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، إذا ستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" رواه البخاري.
عمل المدرس في هذا النص:
1- تعريف موجز بالصحابي راوي الحديث، وبالبخاري مخرجه ومنزلة كتابه الجامع.
2- قراءته للحديث في أناة وتفصيل.(19/377)
3- تكليف بعض التلاميذ قراءته على طريقته.
4- تدريب التلاميذ على تحديد معاني المفردات بدعوة بعضهم إلى شرحها ثم الوصول إلى مرادها.
5- تكليف التلاميذ كتابة معاني هذه المفردات في كراسة خاصة ضمن الجدول ـ لزيادة معلوماتهم اللغوية ـ وذلك بعد كتابتها على جوانب السبورة أو على السبورة الإضافية.
مثلا على ذلك:
القائم:
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
حدود الله:
أوامره ونواهيه
الواقع فيها:
المتجرئ عليها
استهموا:
اقترعوا أي تقاسموا أمكنتهم بطريقة الاقتراع
الخرق:
النقب والكسر، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}
هلكوا:
تعرضوا للهلاك
نجّوا:
بالتشديد: سببوا النجاة لغيرهم
6- تطبيقات إعرابية: أين تعلق الجار والمجرور (كمثل) وما علاقته بأول الحديث (مثل القائم) ؟ كيف تعرب (أعلاها، وأسفلها) ؟ وأين تعلقهما) ؟.
كيف تعرب (وما أرادوا) ؟ ومن أي نوه هذه الواو السابقة (ما) .
7- شرح بعض العبارات: استهموا على سفينة ـ لو خرقنا في نصينا خرقا ـ وما معنى (لو) هنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا ـ أخذوا على أيديهم…
8- أسئلة حول النص:
1- ما الموضوع الذي يدور الحديث حوله؟ وما مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟.
2- هل للحديث علاقة بمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ؟ وكيف؟.
3- ما العنوان الذي يناسب هذا الحديث؟.
4- كيف توزّع القوم أمكنتهم في السفينة؟.
5- من الذي اقترح خرق السفينة؟، القوم كلهم أم بعضهم؟ وما دليلك؟.
6- بأي دافع حاول هؤلاء خرق السفينة؟ هل كان في نيتهم الإضرار؟ وما دليلك؟.
7- هل تم الخرق أو منعوا منه؟، وكيف علمت؟ مع العلم أن الحديث لم يشر إلى النتيجة؟.
8- لماذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الكلام على النتيجة التي انتهوا إليها؟.(19/378)
9- كم صنفا كان هؤلاء الركب؟..أغبياء..طيبون..سيئون؟..أجب بالتفصيل.
10- على أي شيء يحضنا هذا الحديث؟.
خلاصة الحديث من خلال الأجوبة:
تكتب على السبورة ويطلب إليهم إثباتها في كراساتهم مقرونة بعنوانها ومختومة بتاريخها.
أسئلة حول الأسلوب:
1- لقد عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الفكرة التي أرادها بأسلوب التمثيل والقصة، وكان بالإمكان عرضها بأسلوب آخر، فلماذا اختار هذا الأسلوب دون سواه؟.
2- تحدث عن جمال التشبيه بين الفريق بين الأول ـ القائم في الحدود والواقع فيها ـ والفريق الثاني القوم الذين استهموا على السفينة…
3- التشبيه في الحديث من النوع المركب، فمن يقابل القائمين في الحدود، ومن يقابل الواقعين فيها؟.
4- هل تجد في ألفاظ الحديث ما يمكن الاستغناء عنه؟، وهل ترى لفظة يحسن استبدالها؟.
5- كان رسول الله خير معلم للناس…وخير دال على الخير…فهل في الحديث دليل على هاتين الصفتين؟.
6- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"ـ رواه مسلم ـ فهل ترى من تشابه يسن موضوع هذا الحديث والحديث الآخر؟ … وكيف؟..
وكذلك يصف الله المؤمنين بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فهل هذا للحديث علاقة بهذا الوصف؟..أوضح ذلك.
ملاحظة: روعي في هذا التحضير مستوى السنة النهائية من القسم المتوسط، وإذا أردنا تخصيصه بما دون ذلك سهلنا من الأسئلة وخففناها، كذلك إذا شئنا توجيهه إلى القسم الثانوي زدنا عليه العناية بالكلام عن المجتمع وما ينبغي أن يقوم فيه من التعاون، وأشرنا إلى بعض الصور البيانية والتحاسين البديعية الواردة في الحديث بصورة موسعة.
أيها المعلمون(19/379)
ربوا على الإنصاف فتيان الحمى
تجدوهم كهف الحقوق كهولا
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة
جاءت على يده البصائر حولا
وإذا المعلم لم يكن عدلا مشى
روح العدالة في الشباب ضئيلا
وإذا أاتى الإرشاد من سبب الهوى
ومن الغرور فسمِّه التضليلا
أحمد شوقي(19/380)
موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
هذه أسطر سطرتها إجابة على سؤال حول ما يتعلق بموضوع زكاة الأراضي الزراعية والعمارات السكنية سميتها "موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان"فأقول وبالله التوفيق.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والشكر له على ما هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط مستقيم وعلى آله وصحبه الذين حفظوا لنا الكتاب والسنة نقلوا لنا معالم الطريق القويم ورضي الله عن التابعين الذي بينوا لنا ما كان خافيا وجمعوا لنا أطراف ما كان نائيا من تقييد مطلق وتخصيص عام وقعدوا قواعد وفرعوا فروعا كانت المنهج لمن جاء بعدهم، ونهج منهجهم، فسعد بسعادتهم.
أما بعد:
لقد شاءت حكمة العليم أن تكون قسمة المال بحسب مقتضيات الحال، وتسيير نظام الكون بمقتضيات اختلاف الأحوال، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
ولكي يربطهم في المال جعل تعالى الزكاة طهرة لمال الغني، وطعمة لجوعة المسكين، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
فهذه طهرة لمال الغني مما عساه خالطه من شبه خفية ولنفسه من الشح البغيض، وطهرة أيضا لنفس الفقير من حقد على الغني لغناه.
جاء في مستهل رسالة السائل أن المال مال الله يستخلف فيه من يشاء من عباده بالقدر الذي يتناسب وقابلياتهم وما وهبهم من أهليات وكفاءات.(19/381)
ولم ينس -وهو الرحيم العادل- أولئك الذين خلقهم معدومي القابليات أو ضعاف الأهلية، بل اقتضى عدله ورحمته أن يجعل لهم حصة معلومة في الأموال تغطي ضروراتهم وتسد نفقاتهم، وشرع ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
إن هذه المقدمة وإن كانت ليست من صلب الموضوع إلا أنه يدعوني أن أبدي رأيا عارضا وهو أن الاستخلاف في المال منه سبحانه ليس على قانون الأهليات وإنما على شرعة الابتلاء، فلم يعط الأذكياء لذكائهم، ولم يترك البلهاء لبلههم وعلى صدقات غيرهم كما قال تعالى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ} .
كما أنه أيضا ليس على مقياس الإيمان والكفر كما قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
وقد قيل في المعنى الأول:
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا
هلكن إذا من جهلهن البهائم
ولا بالقوة والضعف أيضا قال الأديب الشنقيطي:
قد تجوع الأسد في آجامها
والذئاب الفبس تعتام القتب
أي بعد قوله:
لا يزهدك أخي في العلم أن
غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا
صفر كف لم يساعده سبب
وتر الجاهل قد حاز الغنى
محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد… … ….
… … … … …. … ….
وقد جعل الله تعالى الغنى والفقر فتنة ليرى الغني أيشكر أم يبطر ويرى الفقير أيصبر أم يضجر.(19/382)
وعلى كل فقد أنزل لعباده من الأرزاق ما يكفيهم كما قال علي رضي الله عنه:
"لقد جعل الله في مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء وما اشتكى فقير قط إلا بقدر ما أمسك غني من زكاة"وهذا كله مسلم به والحمد لله.
وقد عقب السائل بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم شرحا وبيانا وتأكيدا للزكاة في الأموال: "أدوا زكاة أموالكم"، وذكر أن القرآن رغب وكذلك السنة في التصدق بكل ما زاد عن الحاجة الأصلية والشخصية: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى إن الصحابة رأوا أن لا حق لأحدهم في فضل… وحبب إليهم الإيثار على النفس، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية.
أما ما كان من الترغيب والحث على الإيثار ونحو ذلك فهو باب واسع لتهذيب النفوس وترابط وتعاطف الأمة وقد خرج الصديق من كل ماله، وهذا مجال المنافسة الحميدة والنفوس الكريمة.
أما العود بفضل الظهر والزاد… الخ فهذا كان في السفر وفي أمس ما يكون للمواساة… بل قد تفرض بعض الظروف عند نقص التموين وإعلان الطوارئ في المجموعات التي تتعرض لمثل ذلك كالمعسكرات والجيوش… الخ.
ولكن ما نحن بصدده وهو فرضية الزكاة فإن نصوصها قطعية الدلالة والثبوت ولكن جاءت النصوص لها بمقادير وحدود معلومة كما في قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} ، والمعلوم لا يكون مجهولا ولا مبهما ولا متروكا لعواطف الأغنياء وسجاياهم.
وكل فرض في الزكاة فهو معلوم المقدار من جانب المالك ومن جانب المسكين.
وقد جاء هذا ضمن رسالة السائل بما نصه: وقد وضحت السنة النبوية الشريفة كيفية تأدية الزكاة وحددت نسبا معينة تؤخذ من الأموال المختلفة، وعلى اختلاف هذه النسب فقد فرضت جميعها على الأموال عينا أو مقومة بنقدها وهذا مبدأ قويم سديد واضح.(19/383)
أما أنهم لم يستجيبوا لأبي ذر رضي الله عنه فلأنه رأي شخصي انفرد به عن جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف بأموال عثمان التي مول منها جيشا كاملا وغيره كثيرون ويكفي أننا وقفنا على أن الزكاة حق معلوم وليس كل المال وقد نوه جميع المفسرين على ذلك عند قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومما وصفهم به {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أن "من" للتبعيض أي من بعض ما رزقناهم، ولا يخفى أن البعض يتذرع بأبي ذر رضي الله عنه إلى الاشتراكية.
ثم قال السائل: فإذا كنا نفهم من لغتنا أن كلمة - أموالهم - وأموالكم - تعني جميع أموالهم وأموالكم فإننا نستطيع القول مستندين إلى الكتاب والسنة أن الإسلام لم يكتف بفرض الزكاة على جميع الأموال فحسب، بل إنه رغب المسلم في بذلها كلها في سبيل الله.
وهنا نقول كما أسلفنا إن كان المجال للترغيب فالمجال فسيح من شق التمرة إلى كل ما يملك كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وكما فعل الصديق.
أما الفرض والإلزام فكما قدمنا أيضا لا بد فيه من معلوم، والمعلوم لا بد أن يكون مقدرا، وهو ما عرف بالنصاب وبالنسبة المعينة.
ثم قال السائل: والأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء ويتحقق فيها الربح، سواء عن طريق مبادلة عروضها أو منافعها ويجب والحالة هذه فرض الزكاة عليها جميعا إلا ما استثني منها بنص.
أما القول بأن الأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء … إلا ما استثني منها بنص فإنه يرد عليه بيت السكنى ودكان المبيع وعبد الخدمة وفرس الحاجة ولعله ما أراده بالاستثناء.
أما الحكم بوجوب فرض الزكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص فإن لقائل أن يقلب المدعى ويقول لا زكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص والذي جاءت فيه النصوص معلوم.(19/384)
والنص جاء عاما في الكتاب، والسنة جاءت وخصصت وبينت الأموال المزكاة وكم مقدار الزكاة فلزم الالتزام بالنص، كما أنها بينت الفرض من التطوع.
وأما قول السائل: فليس من العدل - والإسلام كله عدل - أن تفرض الزكاة على مال ويعفى منها قسم آخر معرضين عن النص إلى الاجتهاد والقياس.
إذا كنا قد نفذنا نص الشريعة فيما بينت لنا في خصوص الأموال المزكاة فهذا غاية العدل ولا يصح لنا أن نتخطاها باجتهاد ولا بقياس.
والذي يريد أن يجعل نوعا من المال زكويا لم تجعله نصوص السنة التي فصلت الأموال وبينتها لم تجعلها زكوية لا يمكن أن يصل إلى ذلك إلا بالاجتهاد أو بالقياس، وهذا الذي ينهى السائل عنه علما بأن القياس نوع من الاجتهاد في تحقيق العلة كما لا يخفى وهي مجال واسع.
ولكن قسمة الأموال في مجالات متعددة لم تترك لاجتهاد يقع فيه اختلاف وجهات نظر لا لقياس تختلف فيه العلة كما قسم الزكاة نفسها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ …} الآية، والميراث، وكذلك الأموال المزكاة لما كانت الأموال متنوعة، جاءت السنة محددة.
ومعلوم أن القاعدة العامة في الزكاة في الإرفاق فمن جهة المزكي حين يمتلك النصاب ويحول عليه الحول إلا الزرع، ومن جهة آخذها فلسد حاجته.
وقول السائل - الافتراضي - عندما نقول بفرض الزكاة على الريع أو الربح فإننا نكون قد أخرجنا أصل المال من وعائها، وفتحنا بابا للتهرب منها وألزمنا بعض أصحاب الأموال من المسلمين بدفع الزكاة عن أموالهم حتى عند تعرضهم للخسارة، وأعفينا أموال البعض الآخر لا نأخذ الزكاة إلا من أرباحها.
وهنا السؤال: هل من العلماء المعلومين من قال لا زكاة إلا على الريع أو الربح؟.
إني لا أعلم أحدا قال بذلك، وإن قاله أحد فهو محجوج بالنصوص ولا يكون قوله حجة على النصوص.
ومعلوم للجميع أن الأموال المزكاة عند فقهاء الأمة وفي المذاهب الأربعة هي كالآتي:(19/385)
النقدان - أعمالها أو خزنها:
بهيمة الأنعام - نمت أو لم تنم ما دام النصاب موجودا.
الحبوب والثمار ـ ما دام قد حصل على نصاب.
عروض التجارة - في نهاية الحول ربحت أم لم تربح ما دام تقويمها بلغ النصاب ولو أنها ربحت فإن ربحها يضم إلى رأس المال ويعتبر الجميع مالا زكويا دون ما فرق بين أصل وربح.
حتى ذهب الفقهاء إلى أبعد من هذا وهو لو كان الربح في السلعة الواحدة بسبب غلاء السعر، وقد نص النووي في المجموع على أنه لو اشترى سلعة بمائتين للتجارة ومكثت إلى تمام الحول ولم تبع وأصبحت تساوي ثلاثمائة فإنه يزكي الثلاثمائة كاملة وهكذا في كل ربح متصل أو منفصل ناض أو غير ناض إذ العبرة على التقويم في نهاية الحول وتقوم بما هو أصلح للمساكين.
وعند الحنابلة نص في المغني على أن من اشترى أرضا للتجارة وفيها نخيل فأطلع وأبّره وبقيت الأرض حولا ولم يبعها واجتمع له من النخيل نصاب فإنه يزكي الأرض زكاة عروض ويزكي الثمار زكاة معشر كالثمار.
ورأي آخر يقول يقوم الجميع الأرض والثمار ويزكي زكاة عروض.
وبهذا يظهر أن الفقهاء لا يقصرون الزكاة على الريع أو الربح فقط إذا كان الأصل فيها التجارة.
أما إذا كان الأصل للقنية وحصل منه ريع أو ربح فهو كالآتي:
1- أرض زراعية.
2- عمارات سكنية.
3- مصانع إنتاجية.
وكلها إما لشخص وإما لشركاء كشركة مساهمة فعلا.
أما الأرض الزراعية ولشخص فإن النصوص جاءت في زكاة الزروع والثمار وفي مسميات الأجناس مخصوصة هي من الثمار التمر والزبيب والخلاف فيما عداهما من الثمار المجففة وكذلك في الزيتون أي فيما يعصر من زيته…الخ.(19/386)
وفي الحبوب كالبر والشعير والخلاف فيما لا يقتات من بقية الحبوب أما ما لا يجفف من الفواكه كالتفاح والسفرجل ونحوهما كذلك من الخضروات كالخيار والقثاء والبطيخ والقضب ونحوها فلا زكاة عليها عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ولكن على أثمانها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا كما روى مالك في الموطأ قوله:
"والسنة التي لا خلاف فيها عندنا، والتي سمعت من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه"، قال: "ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب".
ولم يقل أحد قط إن الأرض الزراعية تزكى عينها كما تزكى ثمرتها.
ومن المعلوم أن الأرض بذاتها ليست قابلة للنماء في نفسها وإنما نماؤها في ثمرتها اللهم إلا أن تكون للتجارة فإن نماءها قد يكون في ارتفاع سعرها، وهذا الارتفاع في السعر لا يعود على المقتني بشيء فسواء غلت الأرض أو رخصت فإن العائد عليه منها هو بيعها ما دام لن يبيعها، فليس من الإرفاق بالمالك أن يزكي عن الأرض بتقويمها كل سنة ويزكي غلتها من ثمار وزروع.
وقد نص أبو عبيد المتوفى سنة 224 على الإجماع على أن لا زكاة في الخضر عند علماء الحجاز والعراق والشام.
أما العمارات السكنية: فإن كانت لسكنى صاحبها فلا زكاة فيها إجماعا، ولو كانت فسيحة أو تزيد على حاجته لأن له حق التوسع والتوسعة على نفسه وعياله، وقد كان للصحابة الدور الكبار مثل قصر سعد بالعقيق وغيره ولم ينقل أنه كان يؤمر بتقويم مسكنه ويزكيه.
فإن كان للكراء: فقد نص مالك أيضا في الموطأ بقوله: "الأمر المجتمع عليه عندنا في إجارة العبيد وخراجهم وكراء المساكن وكتابة المكاتب أنه لا تجب في شيء من ذلك الزكاة قل أو كثرت حتى يحول عليه الحول من يوم قبض صاحبه".(19/387)
فهو ينص على أن السكن إذا كان للكراء أي للالستغلال والنماء فإن الزكاة في كرائه فقط وحتى يحول عليه الحول.
وكذلك نص غيره قال في المغني ما نصه: "ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها إذا حال عليه الحول"إلى أن قال: "ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان أو مؤجلا، وقال مالك وأبو حنيفة لا يزكيها حتى يقبضها ويحول عليها الحول بناء على أن الأجرة لا تستحق بالعقد وإنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة".
ثم قال: "وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: فيمن قبض من أجر عقاره نصابا يزكيه في الحال فقد ذكرناه في غير هذا الموضع وحملناه على أنه حال الحول قبل قبضه".
فهذه نصوص الفقهاء على كراء المساكن ومعلوم أن عين المسكن صغيرا كان أو كبيرا إنما هو مال مكتسب ومختص بمالكه ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئا بدون وجه مشروع، فمن ادعى المشروعية فيه فليبين دليل المشروعية وإلا بقي المال معصوما كعصمة دم صاحبه، كما في الحديث.
أما المصانع: فمعلوم أن كل مصنع أيا كان نوعه أنه لم ينشأ إلا لعمل تجاري وبقصد الاستفادة من إنتاجه وعليه فهو من أول وهلة مؤسس بمال للتجارة ويلزم اعتبار كل شيء فيه من عروض التجارة، إلا أنه ومواد صناعته وإنتاجه الصناعي يقوّم جميعه وتزكى القيمة، كل هذا في العمارات السكنية وفي المصانع الإنتاجية إذا كانت لشخص.
فإن كانت لشركاء كشركة مساهمة نظرنا: إن كانت الأراضي الزراعية أو العمارات السكنية أو المصانع اشتريت أو أنشئت لتباع فهي عروض تجارة لحساب المساهمين فإما أن تتولى إدارة تلك الشركة الزكاة عن الجميع: رأس المال والربح سواء في نهاية كل حول وإما أن يتولى المساهمون بأنفسهم زكاة أجزاء مشاركتهم أي أسهم مشاركتهم لمن بلغت أسهمه نصابا على ما هو معلوم.(19/388)
وإن كانت ابتنيت المساكن للقنية ولكل مساهم حصة مشاعة ولكن للتأجير لا للتجارة كانت أعيانها على أملاك المشتركين وكان ما حصل من أجرة يزكى إذا حال عليه الحول على الوجه المتقدم. لبقاء أعيان ذلك في ملكهم وإنما العائد عليهم منها هو الأجرة المتحصلة ومن كان عنده مال آخر يزكيه فإنه يضم حصته من الربح أو من الأجرة إلى رأس ماله الآخر ويزكيه مع سائر أمواله ولا يكون له حول مستقل.
وهذا أعتقد أنه وضح لا لبس فيه، وما كان عليه السلف فهو الذي ينبغي أن يسير عليه الخلف.
وما تجدد من شركات نقل أو أعمال سياحية فكلها على قاعدة التملك للقنية أو للتجارة فمن يوجد عنده سيارة كمن يوجد عنده بعير في السابق في أصل الاستخدام ومن عنده عشر سيارات كمن عنده عشر من الإبل.
ولم يقل أحد إن أصحاب الإبل التي كانت تنقل عروض التجارة على إبلهم في ذاتها زكاة، فكذلك اليوم وسائل النقل على اختلاف أنواعها لا زكاة في أعيانها وإنما الزكاة في أجورها.
وهذا أيضا أعتقد أنه واضح لا لبس فيه.
أما السببان اللذان ذكرهما السائل للالتباس على الرأي وهما في قوله:
أولا: أننا نواجه أموالا لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالعمارات والمصانع والشركات.(19/389)
فأعتقد أن هذا لا لبس فيه لأنها وإن كانت جديدة في أشكالها وصورها فليست جديدة في حقيقتها وأصلها لأن جنسها كان موجودا فالمساكن المؤجرة كانت موجودة وتقدم قول العلماء فيها وسواء أكانت صغيرة أو كبيرة فالكلام على الكيف لا على الكم، وكذلك المصانع فإن قضية حماس مع عمر رضي الله عنه لما رآه يحمل جلودا مصنعة بالدبغ ونحوها، فقال عمر رضي الله عنه: "أدِّ زكاة مالك"، فإذا كان الأصل في جلود الحيوانات كمادة خام وهي الأهب، فإذا دبغت صارت أدما وقد قال حماس: "ما لي مال إلا أدم أبيعها" فهذا معناه تصنيع لما فيه من تطوير المادة الخام، وكذلك ما جاء في حديث سمرة في البزّ والبزّ نسيج تطورت فيه مادته من قطن أو كتان أو مخلوط الحرير مع أحدهما.
فيكون مبدأ التصنيع وزكاة إنتاج الصناعة موجودا ولو بصورة بسيطة أو مبسطة، فيلحق بها كل ما وجد من جنسها من المصانع أيا كان حجمها أو نوع إنتاجها.
وأقوى من هذا من حيث الإسناد، ما رواه الإمام أحمد وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث عمر على الصدقة فجاء فقال منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا إنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها…الخ"، فهنا آلات الحرب مصنعة ظنوها عند خالد للتجارة فطالبوا بزكاتها.
ورد عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنها هي بنفسها مسبلة في سبيل الله فلا زكاة فيها أي لأنها هي زكاة أي صدقة فتصدق بها، ومفهومه لولا ذلك لزكاها وهي مال مصنع وجبت فيه الزكاة لولا أنها مسبلة عند خالد.(19/390)
أما السبب الثاني لوجود الالتباس على الرأي وهو قول السائل أننا نشأنا في بيئة رأسمالية أثرت في نفوسنا واستقرت في أعماقنا إلى جانب عقيدتنا الإسلامية فأصبحنا نحاول التوفيق من حيث لا نشعر بين إسلامنا وبين حرصنا على أن يبقى المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
فهنا يقال وبكل هدوء ما المراد بالبيئة الرأسمالية أهي على المفهوم الاقتصادي التمسك برأس المال أم المفهوم السياسي ما هو مقابلة الشيوعية؟.
وعلى كل إذا كنا نتفق بأننا نشأنا في بيئة مسلمة فإن أقرب الاعتبارات لمدلول هذا القول هو المفهوم الاقتصادي فينبغي أولا وقبل كل شيء أن لا نتأثر بهذه التيارات الحديثة ولو في مسمياتها حتى أننا نسمي النظام الإسلامي باسم مستورد له مدلول خاطئ في نظر الإسلام.
لأن الإسلام ليس رأسماليا ولا حتى اشتراكيا، بل هو الإسلام بنظامه ومنهجه راعي حرمة الملكية وطالب بمساعدة من لا ملك له.
ويحث على الكسب المشروع ويحرم أي كسب غير مشروع والكسب غير المشروع هو المعروف عند الاقتصاديين ما كان في غير مقابل كالربا والميسر والاعتداءات كالسرقة والغصب والغش…الخ.
وعليه فلا يتأتى بحال من الأحوال أن يلتبس النظام المالي في الإسلام بأي نظام مالي آخر.
وبالتالي فلا نحتاج إلى التوفيق من حيث نشعر أو لا نشعر بين عقيدتنا وبين إبقاء المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
ثم لماذا نحاول إبقاء المال بيد مالكه وهو بالفعل في يده؟ هذا هو الأصل وهذا ما يسمى في الأصول استصحاب الأصل.
ولكن القضية بالعكس نريد أن نحاول إخراجه من يده بتشريعات جديدة وإسلامية، وهذا محل البحث فهل بالبحث وجدت تشريعات إسلامية سوى ما كانت من قبل تخول إخراج المال من يد صاحبه؟.
وكلنا يعلم أن المال في يد صاحبه معصوم إلا بحقه والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه إلا بحقه.(19/391)
ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس، إذًا فأين التشريعات الإسلامية التي نحاول أن نجنب مال صاحب المال عنها؟.
أما قول السائل بأنه يخشى أن يكون قاسيا إذا قال إننا عندما نصدر حكما إسلاميا نقف على أرضية رأسمالية تؤثر في أحكامنا وآرائنا فأقول بدون خشية ولا تخوف إن من يكون مثل ما وصف السائل من حيث موقفه وتأثره لا يكون في قوله عليه قسوة، ومن كان بعيدا عن ذلك فهو بعيد عن أن تناله قسوته، والحق أحق أن يتبع.
ولكن يبدو أن في هذا الأسلوب وفي الإحساس بتلك القسوة ما يمكن أن يكون فيه تناقض إذا قلنا أحكاما إسلامية ونحن على أرض رأسمالية أي إنها أرض متأرجحة أو زلقة لا تثبت القدم عليها أو رأسمالية تتنافى مع الإسلام، فكيف نصدر أحكاما إسلامية من قاعدة غير إسلامية.
أعتقد أن الإحساس بالقسوة هو الذي ساق هذا التعبير.
وأما قول السائل إن بعض الكتاب المسلمين عند معالجتهم لهذا الموضوع بقولهم من أين يأتي صاحب العمارة بالزكاة إذا لم تؤجر أو ماذا يفعل صاحب المصنع إذا كانت زكاة مصنعه أو عمارته مقومة أكثر من ربحه أو بدل إيجار عمارته.
فيقال أولا: وأي عمارة الآن في أي قطر معطلة عن السكن لانعدام الساكن؟ وهل بنيت إلا استجابة لحاجة المجتمع إلى سكن؟.
أما كون ربح المصنع لا يفي بزكاة ما يقوم به فهذا بعينه يرد على مال التجارة فقد يخسر ولا يكسب شيئا ومع ذلك فإنه يقوم ما يوجد عنده لأنه مال زكوي والربح والخسارة أمور عارضة كمن عنده ذهب وفضة ولم يعملها في شيء يربح منه فإنه يزكيه من عينه ولو أدى إلى نقصانه كل سنة كما قالت عائشة رضي الله عنها: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
أما قول السائل مبديا رأيه بما نصه:(19/392)
أما عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي اليوم معظم مجموع مال الأمة من عمارات ومصانع وشركات وغيرها فإنني أرى أن الصحيح أن نطبق عليها حكم القرآن والسنة قبل أن نلجأ إلى الاجتهاد ـ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وجميعها أموال سواء أكانت منقولة أو غير منقولة وسواء أكان الاتجار بأعيانها أو منافعها، وقد جعل الله الحق العام فيها لا في أرباحها ولا في ريعها.
إن قول السائل عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بينا أنها كانت بأجناسها فليس في الأمر جديد من حيث الأصل.
وأما رأي السائل في تطبيق القرآن والسنة، فإن للآخرين أن يقولوا بالموجب المعروف عند الأصوليين وهو القول بموجب ما يقول السائل به فعلا.
ولكن وما هو حكم القرآن والسنة، وقد قدمنا أن قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} قيد الحق المطلوب بأنه معلوم ولا معلوم في التشريع إلا من جهة المشرع والسنة فسرت وأعلمت وليس لأحد حق في تشريع جديد، فنقول نعم إن العمارة والمصنع والأرض مال، ولكن عموم المال قد جاء تخصيصه وجاء بيان المخصوص منه وبيان المزكى منه وبيان الحق المطلوب فيه.
وقد درست هذه المسألة حديثا على مستوى المؤتمرات ومجامع البحوث واتفقت الكلمة على أن لا زكاة في أعيان العقارات ولا أعيان الأراضي الزراعية كما جاء في كتاب "التطبيق المعاصر للزكاة" للدكتور شوقي إسماعيل شحاته طبع سنة 1397هـ،1977م جاء في الباب السادس منه زكاة إيرادات الأموال العقارية. جاء في الفصل الثاني منه عنوان زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد، قال في مستهل كلامه منه ما نصه: "لا شك أن الدور والمباني إذا كانت للسكنى الخاصة فلا زكاة فيها لأنها مال يراد لحاجة أصلية".(19/393)
ثم يقول: "أما الآن وقد أصبحت الدور والمباني تشيد بقصد الاستثمار طلبا للفضل والنماء"إلى أن يقول: "لذلك يتعين إخضاعها لزكاة المال".
ثم يقول: "إنها لا تخضع لزكاة التجارة وإن مكانها بين الأموال العقارية ذات الإيراد شأنها شأن الأطيان الزراعية التي تؤخذ زكاة الزروع والثمار من غلتها".
ثم نقل رأي حلقة الدراسات الاجتماعية بدمشق سنة 1372هـ - 1952م وهو قياس زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد على زكاة الزروع والثمار حيث إن كلا منها يعتبر أصلا ثابتا يدر إيرادا.
ونقل أيضا رأي مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ وهو أن المؤتمرين قرروا أن لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
ثم ناقش ما يكون من زكاة أو 5 \ 2% أو 10%، كالزرع الخ، فهم يتفقون بخصوص العقارات أن لا زكاة في أعيانها.
وهذا الذي يهمنا في قراراتهم حيث إنها الموافقة للنصوص، وإن كنا نختلف معهم في كل ما ذكر من طائرات وسفن…الخ، وفي نسبة ما يكون فيها من الزكاة.
وأعتقد أن للشيخ محمد أبي زهرة رأيا كذلك في هذا بأن الأعيان لا زكاة فيها ولا حول في زكاة أجرتها، على رأي قدمناه عند الحنابلة وإن كان مرجوحا.
أما قول السائل بأن القول بأخذ الزكاة من أرباح المصانع وإيجار العمارات قد فتح أبوابا كثيرة كلها تريد التنصل من الزكاة، فهذا يقول بلزوم نفقات الزروع أولا وذلك يقول لا زكاة في المعلوفة من الأغنام، وآخر يقول لا زكاة في عروض التجارة وهناك من يقول لا زكاة في المجوهرات التي تتعدى أقيامها مئات الآلاف والتي تزين صالات الأغنياء وقصور المترفين، ومن قائل لا زكاة إلا في الذهب والفضة والحنطة والشعير والزبيب والغنم والإبل والبقر إلا آخر ما هنالك من آراء تخرج معظم الأموال من الزكاة.(19/394)
فأقول وبالله التوفيق إن من هذه الأقوال الصحيح والباطل، ومعلوم ما قاله مالك رحمه الله: "كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".
وإني لمورد إلمامة موجزة على هذه الأصناف بإذن الله.
1- أما المصانع والعمارات فقد قدمنا القول فيها.
2- وأما إخراج نفقات الزرع أولا فهذا تفريع لا تأصيل لأن زكاة الزروع متفق عليه وتقدير النفقات محل خلاف والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يوصي العامل بشيء عن النفقات.
3- أما زكاة المعلوفة: فإن الأصل في ذلك الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم الزكاة، فكان مفهوم الوصف الذي هو السوم أن لا زكاة في المعلوفة لانتفاء وصف السوم المذكور، ولكنا نقول إذا كانت المعلوفة معدة للتجارة ففيها زكاة التجارة وعلى نظام التجارة بالتقويم لا زكاة الغنم بالعدد.
4- أما عروض التجارة فالنصوص متضافرة في زكاتها ولم يخالف الجمهور فيها إلا داود ولم يؤثر ذلك في الوجوب ولا عبرة بمن خالف فيها..
5- أما المجوهرات: فما دمنا مقيدين بالنص كتابا وسنة، والأصل في الإسلام عصمة المال كعصمة الدم سواء بسواء لا يجوز شيء منهما إلا بحقه، وجاءت نصوص الزكاة عامة وخاصة أي عموم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} واتفقنا أن هذا العموم قد خصص بأصناف معينة…وقيد بقيود مميزة، وبينتها السنة بيانا شافيا.
فهل وجدت من النصوص ما يدخل الجواهر في الزكويات ولو عن الخلفاء الراشدين وبعد الفتوحات وأخذ الغنائم من كسرى وقيصر وبعد أن فتحت مصر والشام والبلدان المعروفة وغنم المسلمون من الجواهر الشيء الكثير كما هو معلوم، وكان للخلفاء الراشدين حق وضع السنن للناس فيما استجد لهم فهل يوجد عن أحد منهم نص في ذلك، وهذا نص أبي عبيد نحو هذا يقول:(19/395)
"وإنما اختلف الناس في العنبر واللؤلؤ فالأكثر من العلماء على أن لا شيء فيهما كما يروى عن ابن عباس وجابر وهو رأي سفيان ومالك جميعا.
ومع هذا إنه قد كان ما يخرج من البحر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تأتنا عنه فيه سنة علمناها ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصح فنراه مما عفا عنه كما عفا عن صدقة الخيل والرقيق".
فتراه هنا وهو إمام في هذا الباب وعاش في القرن الثاني وأدرك القرن الثالث أي أدرك القرون المشهود لها بالخير وآثار الفتوحات ينص على اللؤلؤ وهو من الجواهر الكريمة وإن كان بحريا فيكون مثله الجواهر البرية من الأحجار الكريمة.
وهذا هو عمل الأئمة رحمهم الله.
وقد يقال إن الوعيد في منع الزكاة جاء النص فيه على الذهب والفضة فقط {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم تأت في غيرهما من الحلي والجواهر، وقد يرشح لهذا قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} ، والذي هو صالح ليحمى عليه هو المعدن، وجاء في الحديث "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنببه…الخ"، وهو الذي يتناسب مع الذهب والفضة ولا يتأتى صفائح من الأحجار الكريمة وجاء النص على بقية الأموال الزكوية من إبل وبقر وغنم…الخ.
وجهة نظر: ولي وجهة نظر أعرضها للمناقشة وهي:(19/396)
إنه من المعلوم أن الذهب والفضة هما قيم الأشياء وأثمانها ويقولون إن فرض الزكاة فيها يمنع كنزها وتجميدها ويدفع بصاحبها إلى دفعها في الأسواق وتعميلها فيسهم في إنعاش اقتصاد الأمة، أقول وبالتالي فإن الجواهر عنصر جامد وظيفته النقدية أي بعبارة أخرى الذهب والفضة مال سيال والجواهر مال جامد، بل إنه لا نماء فيه فالأرض والعقار وعروض التجارة مال جامد صامت لكنها كلها مال نام متحرك، وبذلك فقد غايرت الجواهر جميع أصناف المال من هذه الناحية.
بقي ما أشار إليه السائل من أنها تساوي الملايين ويزين بها القصور ونحو ذلك، فيقال إن فُعِل ذلك للزينة فقط فلا بأس وله دليل من قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} .
وإن كان فُعِل ذلك تهربا من الزكاة وإذا مضى الحول حولها إلى مال نام يستغله فإنها حيلة لا تصح ولا تعفيه من المسئولية.
وأعتقد أن في هذا الكفاية من هذا الوجه والله أعلم.
ومما يستأنس به ما نص عليه ابن حزم أنه لا زكاة في المجوهرات مطلقا وقال: "لأنه مال مسلم محترم لا يؤخذ إلا بنص صحيح صريح".
أما مناقشة السائل للحاصل الزراعي وأنه ليس ربحا محضا فتقدم الكلام عليه بما لا يحتاج إلى إعادة.
ولكن في قوله: الذي أعتقده بخصوص الأرض أن المزارع كان يملك أرضه التي يزرعها بنفسه وهي في هذه الحال مال غير نام مشغول بالحاجة الأصلية كحانوت البائع أو محل التاجر، وآلة الزراعة يومها لا تعدو أن تكون محراثا…الخ وعلى هذا الأساس فإن كل ما يملك المزارع وقت الحصاد من مال هو حاصله الزراعي، وأخذ الزكاة من الحاصل يعني أخذها من المال وليس من الربح أو النماء.(19/397)
أقول إن المتأمل في هذا القول يجد شبه تخالف لأن تلك الأرض التي كان يزرعها المزارع والتي هي مشغولة بالحاجة هي التي جاء فيها {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهي التي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فيها العشر أو نصفه، فهي إذا زائدة عن شغل الحاجة وليس في عينها زكاة.
أما أنها كانت لا قيمة لها فهذا باب آخر أطال الكلام فيه الأستاذ أبو الأعلى المودودي بما لم يقله إمام من الأئمة وليس عليه عمل من سلف الأمة فلا حاجة إلى نقاشه.
أما قول السائل بأن الأرض كانت تملك بطريق التصرف أي الإحياء وليست مالا، فإنكم لو أعيد النظر لوجد أن الأرض في ذلك الوقت هي عين المال، ألم يشتر النبي صلى الله عليه وسلم أرض المسجد أول قدومه المدينة.
ألم تكن الأرض موضع الغرس، وغرس النخل أطول الأشجار عمرا؟.
إن الأرض التي تملك بالتصرف هي الأرض الميتة التي لم تكن محياة لا بزرع ولا بنيان ولا غير ذلك، وقد كان الإمام يقطع ما شاء منها لمن شاء وإلا لما كان للإقطاع من الإمام محل إذا كانت الأرض ليست مالا وتملك بالتصرف، وعليه يقال: كانت الأرض موجودة والزكاة مفروضة ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاتها فعدم الفعل مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على عدم الوجوب.
أما اعتقاد السائل مرة أخرى أن حولان الحول يتحقق على الحاصل الزراعي وقت الحصاد لاستغراق الموسم الزراعي حولا ابتداء بالحراثة والبذر ونحوه، فهذا يغاير طبيعة الزراعة لأن أطول الزراعة عمرا في الأرض هو القمح ومدته لا تتجاوز ستة أشهر، أما الذرة فلا يصل ثلاثة أشهر وفيه مع ذلك مغايرة لما عليه جمهور المسلمين.(19/398)
أما مشروعية زكاة البقر: فجاء في رسالة السائل أن أبا بكر رضي الله عنه أخذ الزكاة عن الإبل والغنم ولم يعلم وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على البقر زكاة لأن بلاد نجد والحجاز بلاد غنم وإبل إلا أن معاذا رضي الله عنه عندما ذهب إلى اليمن وجد فيها البقر تجارة نامية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوجوب الزكاة فيها وروى ذلك عنه.
الواقع أن زكاة البقر مشروعة قبل أن يذهب معاذ إلى اليمن وقد جاء في خطاب عمرو بن حزم الأنصاري الذي فيه أنصباء الزكاة وفي نص حديث بعث معاذ نفسه عن ابن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، قالوا: فالأوقاص قال ما أمرني فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: ليس فيها شيء.
وبهذا لم يكن تشريع زكاة البقر نتيجة تجدد العلم بوجود هذا النوع من المال ولم يكن يعلم عنه من قبل حتى نجعله قاعدة لاجتهاد جديد.
بل إن النصوص تربط زكاة البقر بزكاة الإبل لمشاكلتها بها وفي الحديث الطويل: "ما من صاحب كنز…الخ، ولا صاحب بقر لا يؤدي زكاتها …الخ"، راجع نيل الأوطار.
زكاة الخيل: وقال السائل وكذلك فعل سيدنا عمر عندما أخذ الزكاة عن الخيول وقد أصبحت في عهده أموالا وتجارة رغم أن رسول الله لم يأخذ الزكاة فيها.
وأود أن أذكر أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يأخذ الزكاة في الخيل ولم يأخذ ما أخذه ابتداء من نفسه.
ولم يطالب أهل الخيل بشيء فيها وإنما حقيقة الأمر كالآتي:(19/399)
أولا: عدم وجوب الزكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه"، ولما ذكر صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد في مانع الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم قالوا والخيل يا رسول الله قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير"، وذكر أقسامها الثلاثة: أجر وستر ووزر، وبين أن الأول المحتبسة في سبيل الله والثانية المستغني بها صاحبها والثالثة التي ربطها صاحبها بطرا…الخ، وذكر ولم ينس حق الله في ظهورها وفسر بمعان عديدة، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم فيها زكاة قط.
هذا هو الأصل وكذلك كان الحال في خلافة الصديق رضي الله عنه أما عمر فلم يخرج عن هذا الأصل، والأصل في أخذه فيها هو ما رواه أحمد رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جاءه ناس من أهل الشام فقالوا: "إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور"، قال: "ما فعله صاحباي قبلي فأفعله"، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي: "حسن إن لم تكن جزية راتبة يأخذون بها من بعدك"فتراه هنا يعرض عن أخذ الزكاة محتجا بعدم أخذ صاحبيه من قبله.
ونرى عليا رضي الله عنه يحسن أخذها ما لم تكن جزية يأخذون بها من بعد عمر رضي الله عنه.
فأين فرضية الزكاة في الخيل في فعل عمر، أم تكون جزية يأخذون بها اليوم.
ثم إن القائلين بزكاة الخيل وهم الأحناف فقط مختلفون في كيفية زكاتها.
هل على كل رأس دينار أو تقوم أم ماذا لعدم النص في ذلك؟.
هذا كله إذا كانت الخيل للنماء وأما التي كعروض تجارية فهي مزكاة زكاة التجارة بإجماع.
أما ما نواجهه اليوم من شركات الدواجن للحم والبيض ورؤوس أموالها بالملايين فهل يتركها الإسلام بلا زكاة.
ويقول السائل إنكم تعتقدون أن الكتاب والسنة من جهة والعدل في فرض التكاليف من جهة أخرى كلها تقضي بفرض الزكاة على الأموال.(19/400)
أقول وبالله التوفيق إن اعتقاد السائل هذا صحيح ما دامت تلك الشركات تشغل وتستثمر الملايين وهي أعمال نامية سواء في دواجن أو أسماك ما دامت للتجارة وإن كان أصل السمك لا زكاة فيه فإذا أدخل في التجارة بالصيد والبيع أو التصنيع فإنه حينئذ يزكى كل المال الذي يعمل لذلك.
وأما قول السائل إن مجال الاجتهاد واسع في ميادين أخرى.
فهذا حق ومحل الاجتهاد في باب الزكاة اليوم هو إلحاق المسكوت عنه الذي استجد بنظيره المنصوص عليه كجميع أنواع الأعمال التجارية بل مثل شركات الإنشاء وعمل المقاولات فإن على ذلك كله زكاة فيما يعمل ويسهم في الاستثمار نزكي الآليات والمواد المستخدمة كلها مع ما تحصل عليه الشركة من أرباح تقدر الآليات وتضاف قيمتها إلى ربح العملية ويزكى الجميع، وهذا هو الاجتهاد بأوسع معانيه.
أما الضرائب التصاعدية أو غير التصاعدية: فإنها تؤخذ باسم الدولة لمصلحة خزينة الدولة وتغطية نفقات رسمية لا صلة لها بالمساكين ولا مصارف الزكاة.
فهي وإن كانت لمصالح الدولة وقد تضطر الدولة التي لا موارد لها إلى أن تفرض مثل ذلك على الأموال لسد حاجاتها بل ولتجهيز جيوشها على ما هو معلوم إلا أن فيها من الظلم ما لا يخفى في جعلها تصاعدية حتى تصل إلى 90% أحيانا.
ولهذا مضاره على الفرد وعلى الجماعة معا من تساهل في الإنتاج وتحايل على الدولة نفسها ومحاولة توسيع النفقات وقد حدثني شخص حاج عن رحلات بعض المواطنين إلى أوروبا وتبذير الأموال بأن من دوافع ذلك تصعيد حساب النفقات باسم التجارة حتى لا تذهب الأرباح في الضريبة التصاعدية.
وسبق أن نشرت بعض المجلات عن ذلك في السابق عن البرلمان البريطاني تكلم وزير الخزينة وقال: "رفعنا من نسبة الضريبة ولم ترتفع نسبة الدخل إلى الخزينة". فأجابه عضو البرلمان قائلا: "بقدر ما ترفعون من الضريبة بقدر ما يحتالون على مفتش الضرائب".(19/401)
ولعل بهذه المناسبة يظهر لنا فضل ونبل ورفعة مكانة الزكاة في الإسلام إذ يشعر المزكي أنه يخرجها في سبيل الله وينتظر العوض من الله أضعافا مضاعفة وقد جاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن عامله أتى على صاحب إبل بضواحي المدينة (الحناكية) فوجد عليه بنت مخاض فقال صاحب الإبل: "هذه صغيرة لا ظهر لها فيركب ولا ضرع فيحلب ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله"فتشاح هو والعامل، العامل لا يريد التعدي بأكثر مما يجب والمالك لا يرضى بالصغيرة في سبيل الله، صورة نزاع لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وأخيرا قال العامل له: "إن كان ولا بد فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخذها وادفعها له أنت بنفسك". فذهب بها وسأله صلى الله عليه وسلم: "طيبة بها نفسك؟ "فقال: "نعم".
فقال للعامل: "خذها ودعا لصاحبها بالبركة في ماله". فكان في زمن معاوية يخرج عددا من الإبل زكاة ماله.
فأنت ترى خلفيات نظام الضرائب من نتائج عكسية في الاقتصاد والنماء وغضاضة في النفس.
بينما إيجابيات نظام الزكاة زيادة في النماء وانتعاش في الاقتصاد وطيبة في العطاء وطهرة للجانبين معا.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(19/402)
ابن سبأ حقيقة لا خيال
للدكتور سعدي الهاشمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
إن الحمد لله نحمده ونستيعنه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فلقد اتفق المحدثون وأهل الجرح والتعديل والمؤرخون وأصحاب كتب الفرق، والملل والنحل والطبقات والأدب، والكتب الخاصة في بعض فنون العلم على وجود شخصية خبيثة يهودية، تلك هي شخصية عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء الذي قام بدور خطير، وبذر الشر المستطير بين المنافقين والشعوبيين ومن في نفسه أهواء وأغراض، أظهر الإسلام في عهد عثمان رضي الله عنه، وأظهر الصلاح والتقرب من علي رضي الله عنه ومحبته، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة فبدأ بالحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة، ثم دخل دمشق فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه فذهب إلى مصر واستقر بها، وأخذ يراسل ويكاتب بعض المنافقين والحاقدين الناقمين على خليفة المسلمين، وجمع حوله الأعوان، ونظمهم وأخذ يبث بينهم معتقده الخبيث، ودربهم على روح التمرد والإنكار حتى تجرؤوا على قتل ثالث الخلفاء وصهر المصطفى صلى الله عليه وسلم جامع القرآن عثمان بن عفان شهيد الدار رضي الله عنه وأرضاه.. ولم يرعوا حرمة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبالوا بتلاوته للقرآن ولا الشهر الحرام.(19/403)
ولم ينكر هذا من له حظ من علم، ومسكة من عقل إلى في العصر الحاضر من هذا القرن، وهم نفر قليل ما بين مستشرق حاقد ومتابع لهم ومتقرب الزلفى لمدارسهم وفكرهم من أبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، ومسلم جاهل أو منكر مكابر من بعض شيعة اليوم، وهؤلاء جميعا جانبوا الحق الصريح وتمسكوا بأقوال متنافضة هي أوهى من بيت العنكبوت.
موقف المستشرقين
أما المستشرقون فأنكروه وقالوا إنه شخصية وهمية تخيلها محدثوا القرن الثاني ومن هؤلاء المستشرقين الذين أنكروه اليهودي الإنكليزي الدكتور برنارد لويس LEWIS,B. [1] ، ويوليوس فلهوزن WELLHAUSEN,J [2] اليهودي الألماني الذي بدأ دراسته باللاهوت، وفرييد لاندر FERIEDLAENDER [3] الأمريكي، والأمير كايتاني CAETANI LEONE [4] الإيطالي.
ومن المعلوم عند العقلاء المنصفين أن ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وما يتعلق بتراثنا لا يمكن أن نعتمد فيه على تقولات ودراسات هؤلاء الحاقدين الذين ينضوون تحت راية الحروب الصليبية بمنهج وأسلوب فكري، لا أسلوب السيف والبارود ولو كانوا أصحاب نوايا صادقة لشرح الله صدورهم بالإيمان لما أطلعوا على صفاء الإسلام ونقاء ثوبه، ولكنهم كرسوا جهودهم وأفنوا حياتهم في إلقاء الشبهات والشكوك والضلال والريب بكل ما يتعلق بالقرآن والسنة والعقائد والنظم الإسلامية والتاريخ الإسلامي، ومعظم هؤلاء المستشرقين من القسس واليهود، وأعمالهم ومناهجهم تنظم ما بين الكنيسة ودوائر المخابرات ووزارات الخارجية إلا أفرادا هوايتهم العلم والبحث وهم قلة قليلة.
أتباع المستشرقين
أما أتباع المستشرقين الذين خدعوا بهم وغرهم منهجهم العلمي المزعوم فيرددون ما يطرحون من أفكار ودراسات ويدندنون حول معتقداتهم لينالوا الزلفى منهم وعلى رأسهم الدكتور طه حسين [5] ، الذي غذى حجيرات مخه بفكر المستشرقين حتى كان يقول: "إنني أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية" [6] .(19/404)
ويكفيه خزيا أنه كان مطية لليهود، فدعاة الشيوعية في مصر في مطلع هذا العصر كانوا يهودا وهم "هنري كوريل، وراؤول كوريل، وريمون أجيون"وكانوا هؤلاء وغيرهم يمولون الحركات الشيوعية بالمال وقيل بالجنس أيضا، وقد تعاقدوا مع الدكتور طه حسين على إصدار مجلة الكاتب المصري، وكان الدكتور طه حسين قد أعلن تأييده لمفهوم اليهودية التلمودية باكرا حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل وكذب القرآن والتوراة ولم يكن يُعرف في هذا الوقت الباكر أن ذلك تمهيد لتحقيق أهداف الصهيونية [7] وغير ذلك من الأفكار والضلالات التي لم يجرؤ حتى المستشرقون بالإفصاح والإعلان عنها [8] .
أضواء على طه حسين
ومن المعلوم عن طه حسين أن أباه جاء إلى صعيد مصر - مدير المنيا - من بلد غير معلوم من المغرب وكان يعمل وزّانا في شركة يهودية للسكر، وطه حسين هو الذي تبنى إصدار قرار بتعيين الحاخام اليهودي (حاييم ناحوم أفندي) حينذاك عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة ليكون عينا على المفكرين ورجال اللغة، كما أنه عين عددا من الأساتذة الأجانب في كلية الآداب استوردهم وبعضهم يهود وكلهم كانوا يحاربون الإسلام أو يشككون فيه، وأول دكتوراه منحتها (كلية الآداب) في جامعة القاهرة تحت إشراف الدكتور طه حسين كانت بعنوان (القبائل اليهودية في البلاد العربية) تقدم بها (إسرائيل ولفنسون) عميد جامعة هاداسا في تل أبيب الآن [9] .
بعد هذه الأضواء التي تظهر لنا بوضوح ولاء الدكتور طه حسين لليهود لا نستغرب من إفكاره لابن سبأ، يقول طه حسين: إن أمر السبإية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا قد اختُرع بأضَرَة فحين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم… الخ كلامه [10] .
أدلة الدكتور طه حسين(19/405)
ويستدل على ما ذهب إليه أن البلاذري لم يذكر شيئا عن ابن السوداء ولا أصحابه في أمر عثمان.
ثم يستغرب الدكتور طه حسين كيف أن حادثة تحريق عليّ للذين ألهوه والتي ذكرها الطبري كيف لم يذكرها بعض المؤرخين ولم يؤقتها، وإنما أهملوها إهمالا تاما [11] .
الرد عليه
أما عدم ذكر البلاذري لابن سبأ فلا يعني أسطورة وجوده، لأنه قد يذكر بعض المؤرخين ما لا يذكره البعض الآخر منهم، ثم هل التزم البلاذري بذكر كل الوقائع والأحداث؟ وربما لو ذكر البلاذري أخبار ابن سبأ وأصحابه لقال البلاذري لا يعتمد على أخباره لأنه غير متفق على توثيقه [12] .
أما حادثة تحريق علي رضي الله عنه للذي ألهوه فسنذكرها في موقف الإمام علي من عبد الله بن سبأ وأصحابه، حيث ذُكرت في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهذه الروايات تغني عن الروايات التاريخية، إضافة إلى ذلك فقد ذكرت في الكتب الموثقة عند الشيعة.
الدكتور محمد كامل حسين
واعتبر الدكتور محمد كامل حسين قصة ابن سبأ أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر [13] ، متابعا في ذلك الدكتور طه حسين، ولم يذكر أي دليل لما يراه.
الدكتور حامد حفني داود
وكذلك يرى الدكتور حامد حفني داود رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس أن ابن سبأ من أعظم الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام الباحثين وغمّ عليهم أمرها فلم يفقهوها ويفطنوا إليها، هذه المفرتيات التي افتروها على الشيعة حتى لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه واعتبروها مغمزا يغمزون به عليهم [14] .
الرد عليهم(19/406)
والدكتور حامد هذا أحد المخدوعين بفكرة التقريب، بل أحد الدعاة إليها، فلا يستغرب منه هذا الكلام ما دام يتقرب من المشككين بكتاب الله والطاعنين في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين ينالون من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أمثال مرتضى العسكري صاحب كتاب (خمسون ومائة صحابي مختلق) وكتاب (أحاديث أم المؤمنين عائشة) .
الشيعة الذين ينكرون ابن سبأ
أما الشيعة في العصر الحاضر فينكرون وجود ابن سبأ، والسبب الحقيقي لإنكارهم إياه عقيدته، التي بثها وتسربت إلى فرق الشيعة حتى المتأخرة منها، وسنذكر أقوال وآراء المنكرين ثم نثبت وجوده وعقيدته من المصادر المعتمدة عند الشيعة.
محمد جواد مغنية وابن سبأ
عبد الله بن سبأ في نظر الشيخ محمد جواد مغنية هو البطل الأسطوري الذي اعتمد عليه كل من نسب إلى الشيعة ما ليس له به علم وتكلم عنهم جهلا وخطأ أو نفاقا وافتراء [15] .
مرتضى العسكري وابن سبأ
وزعم مرتضى العسكري أنه ناقش جميع من ذهبوا إلى وجود عبد الله بن سبأ وخرج بنتيجة هي أن ابن سبأ (شخصية وهمية خرافية ابتدعها واختلقها سيف بن عمر) [16] وصنف كتابا خاصا بابن سبأ بعنوان (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى) .
الدكتور علي الوردي وابن سبأ
وأما الدكتور علي الوردي صاحب (وعاظ السلاطين) فيرى أن ابن سبأ هو نفسه عمار بن ياسر ويستدل على ذلك بما يلي:
1- أن ابن سبأ كان يكنى بابن السوداء ومثله في ذلك عمار بن ياسر.
2- كان عمار من أب يماني، ومعنى هذا أنه كان من أبناء سبأ فكل يماني يصح أن يقال عنه أنه ابن سبأ.
3- وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي بن أبي طالب يدعو له ويحرض الناس على بيعته في كل سبيل.
4- وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلى مصر وأخذ يحرِّض الناس هناك على عثمان فضج الوالي منه وهم بالبطش به.(19/407)
5- وينسب إلى ابن سبأ قوله: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وإن صاحبها الشرعي هو علي بن أبي طالب.
6، 7- قضايا تتعلق بدور عمار في حرب الجمل، وفي علاقته مع أبي ذر الغفاري، ويستخلص الوردي أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فقد كانت قريش تعتبر عمارا رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ في أول الأمر أن تصرح باسمه، فرمزت عنه بابن سبأ أو ابن السوداء، وتناقل الرواة هذا الرمز غافلين وهم لا يعرفون ماذا كان يجري وراء الستار [17] .
ويقول الدكتور: ويبدو أن هذه الشخصية العجيبة اختُرعت اختراعا وقد اخترعها أولئك الأغنياء الذين كانت الثورة موجهة ضدهم [18] .
الدكتور كامل الشيبي وابن سبأ
ثم يأتي بعد الوردي كاتب آخر هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي الذي تابع الوردي في أوهامه وخبطه العشوائي وحاول أن يعزّز ما ذهب إليه بإيراد نصوص تثبت القضايا التي وردت في محتوياته، وتابع كذلك الدكتور طه حسين في حرق الإمام علي رضي الله عنه للسبئية فيقول: أما قضية إحراق علي المزعوم للسبئية فإنه خبر مختلق من أساسه ولم يرد على صورة فيها ثقة في كتاب معتبر من كتب التاريخ.
ولعل أصل هذا الحادث يتصل بإحراق خالد بن عبد الله القسري بيانا وخمسة عشر من أتباعه الغلاة، ثم لما تقدم بها الزمن زحزحت الحادثة إلى الأمام قليلا حتى اتصلت بعلي [19] .
الرد على الوردي والشيبي
أما ما ذهب إليه الوردي وتابعه الشيبي وغيره بأن عبد الله بن سبأ هو نفسه عمار بن ياسر فكُتُب الجرح والتعديل والرجال الموثقة عند الشيعة ترد على هذا القول وذلك أن كتبهم ذكرت ترجمة عمار بن ياسر في أصحاب الإمام علي رضي الله عنه والرواة عنه، وتعده من الأركان الأربعة [20] ، وذكرت ترجمة عبد الله بن سبأ وتذكر اللعنة عليه، وتمدح عمارا فكيف نجمع بين هاتين الترجمتين [21] .(19/408)
وأما تحريق السبئية فسوف نذكر الأدلة الصحيحة في موقف الإمام منهم.
الدكتور عبد الله فياض وابن سبأ
وكذلك أنكره الدكتور عبد الله فياض في كتابه تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، وهو كتاب مطعم بآراء المستشرقين، وكان المشرف عليه الدكتور قسطنطين زريق أحد أساتذة دائرة التاريخ بالجامعة الإمريكية ببيروت.
يقول الدكتور فياض: يبدو أن ابن سبأ كان شخصية إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأن دوره - إن كان له دور - قد بولغ فيه إلى درجة كبيرة لأسباب دينية وسياسية، والأدلة على ضعف قصة ابن السوداء كثيرة [22] . ويستدل بما ذهب إليه مرتضى العسكري من اتهام سيف بن عمر البرجمي (ت170هـ) باختلاق هذه الشخصية، ويزعم التناقض والمبالغة في الروايات، ويعزز موقفع برأي الوردي، ومتابعة الشيبي.
طالب الرفاعي وابن سبأ
ويظهر بعد هؤلاء المدعو طالب الحسيني الرفاعي فيقول في حاشيته على مقدمة محمد باقر لكتاب تاريخ الإمامية والتي طبعها تاجر الكتب الخانجي بالقاهرة سنة 1397هـ/1977م باسم (التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية) على أنه لو كان ابن سبأ هذا حقيقة تاريخية ثابتة فعلا، فإنه - كما سنذكره مفصلا في مبحث خاص به - لا صلة إطلاقا بين أفكاره وبين ما اشتملت عليه عقيدة الشيعة من الوصية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لأنها قائمة على روايات في صحاح الفريقين من السنة والشيعة، كما هي موجودة أيضا في كتب الفريقين في التفسير والتاريخ وأصول الاعتقاد. ومن ثم فالقول بأن التشيع نتيجة من نتائج الفكرة السبئية - كما يدعى - رأي باطل" [23] .
ولا يستغرب هذا الكلام من هذا الرجل الذي زعم أن أول من قال بالرجعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال:"إن الرسول صلى الله عليه وسلم: لم يمت ولن يموت"، إضافة إلى افتراءاته وضلالاته وتزييفه للحقائق الثابتة الصحيحة.(19/409)
الرد على الأقوال وعرض لمصادر ترجمة ابن سبأ
هذه أقوال بعض شيعة العصر الحاضر، وكأنهم لم ينظروا في كتب عقائدهم وفرقهم، ومروياتهم ورجالهم وكتب الجرح والتعديل عندهم.
وهذه طائفة من الكتب الموثقة عند الشيعة التي ذكرت عبد الله بن سبأ ومزاعمه وعقيدته والتي حملت الإمام عليا رضي الله عنه وأهل بيته الطاهرين على تكذيب ابن سبأ والتبرؤ منه ومن أصحابه السبئية وما نسبه إلى أهل البيت.
أول هذه المصادر المهمة النادرة التي ذكر فيها ابن سبأ (رسالة الإرجاء) للحسن بن محمد بن الحنفية الفقيه الموثق الذي كان يقول: "من خلع أبا بكر وعمر فقد خلع السنة"، المتوفى سنة خمس وتسعين للهجرة [24] والتي رواها عنه الثقات من الرجال عند الشيعة.
ثانيا: كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفى سنة 301 هـ وهو مطبوع في طهران سنة 1963م.
ثالثا: فرق الشيعة لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث الهجري طبعة كاظم الكتبي في النجف عدة طبعات وكذا طبعة المستشرق ريتر في استانبول /1931م.
رابعا: رجال الكشي لأبي عمرو محمد بن عبد العزيز الكشي وهو معاصر لابن قولويه المتوفى سنة 369هـ ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء.
خامسا: رجال الطوسي لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ ط الأولى النجف 1381هـ/1967م نشر محمد كاظم الكتبي.
سادسا: شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة لعز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي المتوفى سنة 656هـ ط الأولى الميمنية 1326هـ وغيرها.
سابعا: الرجال للحسن بن يوسف الحلي المتوفى سنة 726هـ طبعة طهران 1311هـ/ وطبعة النجف 1961م.
ثامنا: روضات الجنات لمحمد باقر الخوانساري المتوفى سنة 1315هـ طبعة إيران 1307هـ.(19/410)
تاسعا: تنقيح المقال في أحوال الرجال للشيخ عبد الله المامقاني المتوفى سنة 1350هـ، طبعة النجف 1350هـ في المطبعة المرتضوية.
عاشرا: قاموس الرجال لمحمد تقي التستري منشورات مركز نشر الكتاب طهران 1382هـ.
حادي عشر: روضة الصفا تاريخ عند الشيعة معتمد بالفارسية ج2/ص292 طبعة إيران.
ثاني عشر: دائرة المعارف المسماة بمقتبس الأثر ومجدد ما دثر لمحمد حسين الأعلمي الحائري ط 1388هـ/1868م في المطبعة العلمية بقم.
هذا ما تيسر لنا من كتب القوم التي اطلعنا عليها وهناك عدد كبير من كتبهم المخطوطة والمطبوعة فيها ذكر ابن سبأ والسبئية منها: (حل المشكل) لأحمد بن طاووس المتوفى سنة 673هـ، و (الرجال) لابن داود المؤلف سنة 707هـ، و (التحرير الطاووسي) للحسن بن زيد الدين العاملي المتوفى سنة 1011هـ، و (مجمع الرجال) للقهبائي المؤلف سنة 1016هـ، و (نقد الرجال) للتفرشي الذي ألفه سنة 1015هـ، و (جامع الرواة) للأردبيلي المؤلف سنة 1100هـ، و (موسوعة البحار) للمجلسي المتوفى سنة 1110هـ، وابن شهر آشوب المتوفى سنة 588هـ.
عقيدة ابن سبأ وضلالاته
بعد أن ذكرنا طائفة من كتب الشيعة الموثقة والمعتمدة عندهم نذكر أهم الأمور التي اعتقدها ابن سبأ وحمل أتباعه على الاعتقاد بها والدعوة إليها، وهكذا تسربت هذه الأفكار الضالة إلى فرق الشيعة، والسبب في استدلالنا في بيان معتقد هذا اليهودي من كتبهم ومن رواياتهم عن المعصومين عندهم.
لأنهم يقولون: "إن الاعتقاد بعصمة الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الحال عند أهل السنة" [25] .
ويقولون أيضا: "ولما كان الإمام معصوما عند الإمامية فلا مجال للشك فيما يقول" [26] ، ويقول المامقاني: "إن أحاديثنا كلها قطعية الصدور عن المعصوم" [27] .(19/411)
وكتاب المامقاني من أهم كتب الجرح والتعديل عندهم.
بعد هذه الأقوال التي تُلزم القوم في قبول الأخبار المروية في مصنفاتهم نذكر أهم الضلالات التي نادى بها ابن سبأ وهي:
1- القول بالوصية: وهو أول من قال بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، وأنه خليفته على أمته من بعده بالنص.
2- أول من أظهر البراءة من أعداء علي رضي الله عنه - بزعمه - وكاشف مخالفيه وحكم بكفرهم.
والدليل على مقالته هذه ليس من تاريخ الطبري، ولا من طريق سيف بن عمر بل ما رواه النوبختي والكشي والمامقاني والتستري وغيرهم من مؤرخي الشيعة.
يقول النوبختي: "وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ بعد موسى على نبينا وآله وعليهما السلام بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام بمثل ذلك وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه - يقول النوبختي - فمن هنا قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود" [28] ، وفي هذا المقام نشير إلى أن فكرة الوصية التي اعتمد عليها ابن سبأ ذكرت في التوراة في إصحاح (18) من سفر (تثنية الاشتراع) وفيه أنه لم يخلُ الزمان أبدا من نبي يخلف موسى ومن نوعه ولكل نبي خليفته إلى جانبه يعيش أثناء حياته.
ويقول النوبختي عند ذكره السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن عليا عليه السلام أمره بذلك [29] .
3- كان أول من قال بألوهية وربوبية علي رضي الله عنه.
4- كان أول من ادعى النبوة من فرق الشيعة الغلاة.(19/412)
والدليل على ذلك ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن قولويه القمي قال حدثني سعد بن عبد الله ابن أبي خلف القسي قال حدثني محمد بن عثمان العبدي عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان قال حدثني أبي عن أبي جعفر (ع) أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة وزعم أن أمير المؤمنين (ع) هو الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (ع) فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبي فقال له أمير المؤمنين (ع) ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار - والصواب أنه نفاه إلى المدائن بعد أن شُفع له على ما سنبينه في موقف الإمام منه - وقال - أي الإمام - إن الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك [30] .
وروى الكشي بسنده أيضا عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال حدثني يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: "إنه لما ادعى ذلك استتابه أمير المؤمنين (ع) فأبى أن يتوب وأحرقه بالنار" [31] .
5- كان ابن سبأ أول من أحدث القول برجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا بعد موته وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه في مصر فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب برجوع محمد وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى فقبل ذلك منه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها [32] .(19/413)
فإن لم يرض القوم برواية ابن عساكر الثقة التي رواها في تاريخه وكذا غيره فاسمع إلى ما قالته السبئية لمن أخبرهم بمقتل سيدنا علي رضي الله عنه ونعاه، قالوا: "كذبت يا عدو الله لو جئتنا - والله - بدماغه ضربةً فأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض…الخ" [33] ، وهذا الخبر ذكره سعد بن عبد الله الأشعري القمي صاحب كتاب المقالات والفرق الذي هو موضع ثقة عند الشيعة، ونقل النوبختي في فرق الشيعة مقالة السبئية وهي: "أن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلماوجورا" [34] .
بقي علينا في هذا المقام أن نعرف مفهوم عقيدة الرجعة عند الشيعة يقول محمد رضا المظفر: "إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ثم يصيّرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يسنحقونه من الثواب أو العقاب كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلَحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [35] .(19/414)
والتفسير الصحيح لهذه الآية ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "هي مثل التي في البقرة: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت"، أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه [36] .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كنتم أمواتا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة فهما ميتتان وحياتان فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} " [37] .
6- ادعى ابن سبأ اليهودي أن عليا رضي الله عنه هو دابة الأرض وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق.
قال ابن عساكر: روى الصادق عن آبائه الطاهرين عن جابر قال: "لما بويع علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: "أنت دابة الأرض"، فقال له: "اتق الله"، فقال له: "أنت الملك"، فقال له: "اتق الله"، فقال له: "أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق"فأمر بقتله فاجتمعت الرافضة فقالت: "دعه وانفه إلى ساباط المدائن.." [38] .
وروى الكليني في أصول الكافي بسنده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "ولقد أعطيت الست علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب، وإني لصاحب الكّرات - أي الرجعات إلى الدنيا - ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس" [39] .(19/415)
وروى عن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي؟، فقال: هذه الآية - أي {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} (81) من سورة النمل - فأية دابة الأرض هذه"؟ قال عمار: "والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها"فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (ع) وهو يأكل تمرا وزبدا فقال: "يا أبا اليقظان هلم"، فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: "سبحان الله حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها"قال عمار: "أريتكها إن كنت تعقل" [40] .
7- وقالت السبئية: إنهم لا يموتون وإنما يطيرون بعد مماتهم وسموا بـ (الطيارة) يقول طاهر المقدسي: "وأما السبئية فإنهم يقال لهم الطيارة يزعمون أنهم لا يموتون وإنما موتهم طيران نفوسهم في الغلس" [41] .
ولقد استخدم أئمة الجرح والتعديل من الشيعة هذه التسمية وهي من ألفاظهم في تجريح الرواة.
يقول الطوسي: وهو أحد الأئمة الأثبات عند الشيعة في ترجمة نصر بن صباح يكنى أبا القاسم من أهل بلخ - وبلخ في أفغانستان - لقي جلة من كان في عصره من المشايخ والعلماء، وروى عنهم إلا أنه قيل كان من (الطيارة) غالٍ [42] .
8- وقال قوم من السبئية بانتقال روح القدس في الأئمة وقالوا (بتناسخ الأرواح) ، يقول ابن طاهر المقدسي: "ومن الطيارة (أي السبئية) قوم يزعمون أن روح القدس كانت في النبي كما كانت في عيسى ثم انتقلت إلى عليّ ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم كذلك في الأئمة، وعامة هؤلاء يقولون بالتناسخ والرجعة" [43] ، ولعل كتاب الحسن بن موسى النبوختي المسمى بـ (الرد على أصحاب التناسخ) صنفه النوبختي في الرد عليهم [44] .(19/416)
9- وقالت السبئية: "هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي عنهم".
10- وقالوا: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشار الوحي"، ولقد رد على مقالتهم هذه أحد أئمة أهل البيت وهو الحسن بن محمد بن الحنفية في رسالته التي سماها بـ (الإرجاء) والتي رواها عنه الرجال الثقات عند الشيعة فيقول: و"من قول هذه السبئية: "هُدينا لوحي ضل عنه الناس، وعلم خفي عنهم"، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كتم تسعة أعشار الوحي، ولو كتم صلى الله عليه وسلم وآله شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك…} " [45] ، وقال الحافظ الجوزجاني (ت259هـ) عن ابن سبأ: "زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنهاه عليّ بعدما همّ به". [46]
11- وقالوا: إن عليا في السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين [47] ، ولقد أشار إلى معتقدهم هذا اسحاق بن سويد العدوي في قصيدة له برئ فيها من الخوارج والروافض والقدرية، منها:
برئت من الخوارج لست منهم
من الغَزَّالِ منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليا
يردُّون السلام على السَّحاب [48]
وعقب الشيخ محي الدين عبد الحميد - رحمه الله - على هذا المعتقد بقوله: "ولا زلت أرى أطفال القاهرة يجرون وقت هطول الأمطار، ويصيحون في جريهم (يا بركة عليّ زود) " [49] .
موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته من ابن سبأ وأتباعه
قال علي رضي الله عنه: "سيهلك فيّ صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة" [50] .(19/417)
وهكذا شاء الله أن ينقسم الناس في علي رضي الله عنه إلى ثلاثة أقسام القسم الأول مبغض مفرط وهؤلاء الذين تكلموا فيه بل غالى بعضهم فقالوا بكفره كالخوارج.
والقسم الثاني أفرط في حبه وذهب به الإفراط إلى الغلو حتى جعلوه بمنزلة النبي بل ازدادوا في غيهم فقالوا بألوهيته.
وأما السواد الأعظم فهم أهل السنة والجماعة من السلف الصالح حتى الوقت الحاضر فهم الذين أحبوا عليا وآل بيته المحبة الشرعية، أحبوهم لمكانتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد جابه علي رضي الله عنه القسم الأول فقاتلهم بعد أن ناظرهم وأخباره معهم معروفة مسرودة في كتب التاريخ، ونريد أن نرى موقفه هو وأهل بيته من ابن سبأ وأتباعه.
لما أعلن ابن سبأ إسلامه وأخذ يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكسب قلوب فريق من الناس إليه أخذ يتقرب من علي بن أبي طالب ويظهر محبته له فلما اطمأن لذلك أخذ يكذب ويفتري على علي بن أبي طالب نفسه الكذب، قال عامر الشعبي - وهو أحد كبار التابعين توفي 103هـ -:"أول من كذب عبد الله بن سبأ وكان ابن السوداء يكذب على الله ورسوله وكان علي يقول: ما لي ولهذا الحميت الأسود" (والحميت هو المتين من كل شيء) [51] ، يعني ابن سبأ وكان يقع في أبي بكر وعمر [52]
وروى ابن عساكر أيضا أنه لما بلغ علي بن أبي طالب أن ابن السوداء ينتقض أبا بكر وعمر دعا به، ودعا بالسيف وهمّ بقتله، فشفع فيه أناس فقال: "والله لا يساكنني في بلد أنا فيه"، فسيره إلى المدائن [53] .(19/418)
وقال ابن عساكر أيضا: روى الصادق - وهو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ولد سنة 83هـ، في المدينة المنورة وتوفي فيها سنة 148هـ، وهو الإمام السادس المعصوم عند الشيعة - روى عن آبائه الطاهرين عن جابر قال: لما بويع علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: "أنت دابة الأرض" [54] فقال له: "اتق الله"، فقال له: "أنت الملك"، فقال: "اتق الله"، فقال له: "أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق"فأمر بقتله فاجتمعت الرافضة فقالت: "دعه وانفه إلى ساباط المدائن فإنك إن قتلته بالمدينة - يعني الكوفة - خرج أصحابه علينا وشيعته"فنفاه إلى ساباط المدائن فثمّ القرامطة والرافضة - أي كانت بعد ذلك وبجهود ابن سبأ مركزا يجتمعون فيه قال - أي جابر - ثم قامت إليه طائفة وهم السبئية وكانوا أحد عشر رجلا فقال: "ارجعوا فإني علي بن أبي طالب مشهور وأمي مشهورة وأنا ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم"، فقالوا: "لا نرجع دع داعيك"، فأحرقهم في النار وقبورهم في صحراء أحد عشر مشهورة، فقال: "من بقي ممن لم يكشف رأسه منهم علينا أنه إله"، واحتجوا بقول ابن عباس لا يعذب بالنار إلا خالقها [55] .
هذا موقف الإمام علي رضي الله عنه في ابن سبأ وأتباعه، نفاه إلى المدائن وأحرق طائفة من أتباعه، ومن لم يقتنع بهذه الروايات والتي بعضها رواها أحد المعصومين عند القوم وأبى إلا المكابرة والعناد، نذكر له ما ورد في حرق هؤلاء في الروايات الصحيحة عند أهل السنة والجماعة وبعدها روايات القوم.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد/باب لا يعذب بعذاب الله بسنده إلى عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".(19/419)
وروى البخاري في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم بسنده إلى عكرمة نحوه وفيه قال: "أُتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم" [56] .
ورواه كذلك أبو داود في سننه في كتاب الحدود / باب الحكم فيمن ارتد الحديث الأول بسنده إلى عكرمة بفلظ آخر وفي آخره فبلغ ذلك عليا فقال: "ويح ابن عباس"ورواه كذلك النسائي في سننه [57] نحوه، ورواه الترمذي في الجامع في كتاب الله الحدود / باب ما جاء في المرتد وفي آخره، فبلغ ذلك عليا فقال: "صدق ابن عباس"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد [58] .
وروى البخاري أيضا في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم بسنده إلى عكرمة نحوه، وفيه قال: "أُتي علي رضي الله عنه [59] بزنادقة فأحرقهم".
وروى الطبراني في المعجم الأوسط من طريق سويد بن غفلة "أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال: "صدق الله ورسوله.." [60] .(19/420)
وفي الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: "إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم"فدعاهم فقال لهم: "ويلكم ما تقولون؟ "قالوا: "أنت ربنا وخالقنا ورازقنا"، فقال: "ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا الله وارجعوا"فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: "قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام"، فقال: "أدخلهم" فقالوا كذلك فلما كان الثالث قال: "لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة" فأبوا إلا ذلك، فقال: "يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدّ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر"، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض"وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: "إني طارحكم فيها أو ترجعوا"، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وقال ابن حجر: هذا سند حسن [61] .
إضافة إلى هذه الروايات، فقد روى الكليني في كتابه الكافي - الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عند القوم - روى في كتاب الحدود في باب المرتد بسنده من طريقين عن أبي عبد الله أنه قال: أتى قوم أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: "السلام عليك يا ربنا"فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى ما بينهما فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى نارا حتى ماتوا" [62] .ويبدو أن عليا رضي الله عنه قد كرر عقابه لغير هؤلاء أيضا وهم الزط، فقد روى النسائي في سننه (المجتبى) عن أنس أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم، قال ابن عباس: "إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" [63] .(19/421)
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق قتادة (أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم) وحكم ابن حجر على هذا الحديث بالانقطاع ثم قال: فإن ثبت حمل على قصة أخرى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا من طريق أيوب بن النعمان أنه قال: "شهدت عليا في الرحبة فجاءه رجل فقال: "إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه"فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا بمثال رجل قال فألهب عليهم الدار" [64] .
وروى الكشي في كتابه معرفة أخبار الرجال بعد ترجمة عبد الله بن سبأ تحت عنوان (في سبعين رجلا من الزط الذين ادعوا الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام) ، بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: "إن عليا عليه السلام لما فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلا من الزط فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم، وقال لهم: "إني لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق"، قال: فأبوا عليه وقالوا له: "أنت أنت هو"، فقال لهم: "لئن لم ترجعوا عما قلتم في وتتوبوا إلى الله تعالى لأقتلنكم"، قال: فأبوا أن يرجعوا أو يتوبوا، فأمر أن يحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها إلى بعض ثم قذفهم فيها ثم طم رؤوسها ثم ألهب النار في بئر منها ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتوا [65] .(19/422)
ومن المناسب ما دمنا نتكلم عن تحريق علي بن أبي طالب لأصحاب ابن سبأ والزنادقة أن نذكر حادثة أخرى ذكرها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، يقول ابن أبي الحديد: "وروى أبو العباس أحمد بن عبيد بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين، وروى أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته (أن عليا عليه السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال: "أسفر أم مرضى"، قالوا: "لا ولا واحدة منها"، قال: "فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية"، قالوا: "لا"، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان، فقاموا إليه فقالوا: "أنت أنت"يومئون إلى ربوبيته، فنزل عليه السلام عن فرسه فألصق خده بالأرض، وقال: "ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام"فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم وقال: "شدوهم وثاقا وعلي بالفعلة والنار والحطب"ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحا وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقي عليهم فأحرقوا فقال الشاعر:
لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشنا حطبا بنار ...
فذاك الموت نقدا غير دين
فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمما [66] .
هذه الروايات التي وقفنا عليها في الأحاديث الصحيحة والحسنة والروايات التاريخية وكذلك من كتب القوم المتعلقة بالأصول والفقه والرجال والتاريخ التي تدل بكل وضوح على أن عليا رضي الله عنه قد حرق الزنادقة ومن اعتقد فيه الربوبية ومنهم أصحاب ابن سبأ الملعون، أما هو فكما تذكر الروايات - سواء روايات أهل السنة والجماعة وروايات الشيعة - أن عليا رضي الله عنه اكتفى بنفيه إلى المدائن بعد أن شفع له الرافضة.(19/423)
قال النوبختي في كتابه الشيعة في ترجمة ابن سبأ: "وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال إن عليا عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس عليه "يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك، والبراءة من أعدائك"فصيره إلى المدائن" [67] .
ابن سبأ يدعو الناس في المدائن لدعوته
إن عبد الله بن سبأ وجد بعد نفيه مكانا مناسبا لبث أفكاره وضلالاته بعد أن ابتعد من سيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأخذ ينظم أتباعه وينشر أفكاره بين جيش الإمام المرابط في المدائن، ولما جاءهم خبر استشهاد علي رضي الله عنه كذبه هو وأصحابه، ولنستمع للخبر كما يرويه الخطيب البغدادي بسنده إلى زحر بن قيس الجعفي الذي قال عنه علي رضي الله عنه: "من سره أن ينظر إلى الشهيد الحي فلينظر إلى هذا"- يقول زحر: "بعثني علي على أربعمائة من أهل العراق وأمرنا أن ننزل المدائن رابطة، قال: "فوالله إنا لجلوس عند غروب الشمس على الطريق إذا جاءنا رجل قد أعرق دابته قال فقلنا: "من أين أقبلت؟ "قال: "من الكوفة"، فقلنا: "متى خرجت؟ "قال: "اليوم"، قلنا: "فما الخبر؟ "، قال: "خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة صلاة الفجر فابتدره ابن بجرة وابن ملجم فضربه أحدهما ضربة إن الرجل ليعيش مما هو أشد منها، ويموت مما هو أهون منها"، قال: "ثم ذهب"فقال عبد الله بن وهب السبائي ـ ورفع يده إلى السماء ـ: "الله أكبر، الله أكبر"قال: قلت له: "ما شأنك؟ "قال: "لو أخبرنا هذا أنه نظر إلى دماغه قد خرج عرفت أن أمير المؤمنين لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه"ـ وفي رواية الجاحظ في البيان والتبيين: "لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه" [68]ـ نعود لرواية الخطيب قال ـ أي زحر ـ: "فوالله ما مكثنا إلا تلك اليلة حتى جاءنا كتاب الحسن بن علي: من عبد الله حسن أمير(19/424)
المؤمنين إلى زحر بن قيس أما بعد: فخذ البيعة على من قبلك"، قال: فقلنا: "أين ما قلت؟ "قال: "ما كنت أراه يموت" [69] .
وقال الحسن بن موسى النوبختي: "ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلا لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض" [70] .
رواية عبد الجبار الهمداني في موقف ابن سبأ
قال عبد الجبار الهمداني المعتزلي المتوفى سنة 415هـ عند كلامه عن موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ابن سبأ والسبئية: "واستتابهم أمير المؤمنين فما تابوا فأحرقهم، وكانوا نفرا يسيرا، ونفى عبد الله بن سبأ عن الكوفة إلى المدائن، فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام قيل لابن سبأ: "قد قتل ومات ودفن، فأين ما كنت تقول من مصيره إلى الشام؟ "فقال: "سمعته يقول: لا أموت حتى أركل برجلي من رحاب الكوفة فأستخرج منها السلاح وأصير إلى دمشق فأهدم مسجدها حجرا حجرا، وأفعل وأفعل فلو جئتمونا بدماغه مسرودا لما صدقنا أنه قد مات"، ولما افتضح بهت، وادعى على أمير المؤمنين ما لم يقله، والشيعة الذين يقولون بقوله الآن بالكوفة كثير، وفي سوادها والعراق كله يقولون: "أمير المؤمنين كان راضيا بقوله وبقول الذين حرقهم، وإنما أحرقهم لأنهم أظهروا السر، ثم أحياهم بعد ذلك"، قالوا: "وإلا فقولوا لنا لِمَ لَمْ يحرق عبد الله بن سبأ؟ "قلنا: عبد الله ما أقر عنده بما أقر أولئك، وإنما اتهمه فنفاه، ولو حرقه لما نفع ذلك معكم شيئا، ولقلتم إنما حرقه لأنه أظهر السر" [71] .
موقف أتباع عبد الله بن سبأ لما سمعوا بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
أما أتباع ابن سبأ فلم يكتفوا بالتكذيب بل ذهبوا إلى الكوفة معلنين ضلالات معلمهم وقائدهم ابن سبأ.(19/425)
فقد روى سعد بن عبد الله القمي صاحب المقالات والفرق وهو ثقة عند القوم: "أن السبئية قالوا للذي نعاه: "كذبت يا عدو الله لو جئتنا - والله - بدماغه ضربة فأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل وإنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض". ثم مضوا من يومهم حتى أناخوا بباب علي فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحايته الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهله وأصحابه وولده: "سبحان الله، ما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد؟ " قالوا: "إنا لنعلم أنه لم يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفه كما قادهم بحجته وبرهانه وإنه ليسمع النجوى ويعرف تحت الدثار القيل ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام" [72] .
وكان من هؤلاء رجل يقال له رشيد الهجري الذي صرح بمعتقده أمام عامر الشعبي قال الشعبي: "دخلت عليه يوما فقال: خرجت حاجا فقلت: لأعهدن بأمير المؤمنين عهدا فأتيت بيت علي عليه السلام فقلت لإنسان: "استأذن لي على أمير المؤمنين"قال: "أوليس قد مات؟ "قلت: "قد مات فيكم والله إنه ليتنفس الآن تنفس الحي"، فقال: "أما إذ عرفت سر آل محمد فادخل"قال: "فدخلت على أمير المؤمنين وأنبأني بأشياء تكون"فقال له الشعبي: "إن كنت كاذبا فلعنك الله"، وبلغ الخبر زيادا ـ فبعث إلى رشيد الهجري فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث" [73] .
وذكر الحافظ الذهبي هذا الخبر في تذكرة الحفاظ وفيه: "فقلت لإنسان: "استأذن لي على سيد المرسلين"، فقال: "هو نائم وهو يظن أني أعني الحسن"، فقلت: "لست أعني الحسن إنما أعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين"، قال: "أوليس قد مات؟ "فقلت: "أما والله إنه ليتنفس الآن بنفس حي ويعرف من الدثار الثقيل" [74] . ولذلك كان عامر الشعبي يقول: "ما كذب على أحد في هذه الأمة ما كذب على علي" [75] ، ورشيد هذا قال عنه ابن حبان: كان يؤمن بالرجعة [76] .(19/426)
وذكره الطوسي في ضمن أصحاب علي رضي الله عنه وسماه رشيد الهجري الرياش بن عدي الطائي [77] ، ويعتبر رشيد من أبواب الأئمة، كان بابا للحسين بن علي رضي الله عنهما [78] .
موقف أهل بيت النبي الكريم من ابن سبأ
وتصدى أهل بيت النبي الكريم لعبد الله بن سبأ كما تصدى له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فكذبوه وتبرؤوا من مقالاته وضلاله.
فقد روى الكشي بسنده عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن فضالة بن أيوب الأزدي عن أبان بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين عبد الله طائعا، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم" [79] .
وروى الكشي بسنده أيضا عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه والحسين بن سعد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي قال قال علي بن الحسين (ع) : "لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي لقد ادعى أمرا عظيما ماله لعنه الله كان علي عبدا لله صالحا، أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرامة إلا بطاعة الله" [80] .(19/427)
وروى أيضا الكشي بسنده عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي نجران عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله (ع) : "إنا أهل بيت صديقون لا نخلوا من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بذكبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه وكان أمير المؤمنين أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله" [81] .
هذه روايات الكشي عن أئمة أهل البيت، ومن المعلوم أن كتاب الكشي المسمى بـ (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) عمد إليه إمام الشيعة الثقة الثبت عدهم (الطوسي) الذي يلقبونه بشيخ الطائفة المتوفى سنة 460هـ عمد إلى كتاب الكشي فهذبه وجرده من الزيادات والأغلاط وسماه بـ (اختيار الرجال) وأملاه على تلاميذه في المشهد الغروي، وكان بدء إملائه يوم الثلاثاء 26 صفر سنة 456هـ، نص على ذلك السيد رضي الدين علي بن طاووس في (فرج المهموم) نقلا عن نسخة بخط الشيخ الطوسي المصرح فيها بأنها اختصار رجال كتاب الرجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي واختياره، فالموجود في هذه الأزمنة من المخطوط منه والمطبوع سنة 1317هـ في بمبئ بل وفي زمان العلامة الحلي إنما هو اختيار الشيخ الطوسي لا رجال الكشي الأصل فإنه لم يوجد له أي أثر حتى اليوم [82] .
وبهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي ومن طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين عندهم في هذا اليهودي (ابن سبأ) ولا يجوز ولا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول، وكذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم.(19/428)
هذا ما تيسر لنا في إثبات هذه الشخصية، أما الكلام عن دوره في مقتل عثمان رضي الله عنه، ودوره في عهد علي رضي الله عنه، وأثره في فرق الشيعة، ورواة الأخبار فيحتاج إلى كتابة أخرى.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: أصول الإسماعيليين والإسماعيلية، تعريب خليل جلو وجاسم الرجب ص86-87.
[2] انظر الخوارج والشيعة ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي.
[3] انظر: عبد الله بن سبأ والشيعة نشرة المجلة الأشورية 1909-1910.
[4] انظر: أصول الإسماعيلية لبرنارد لويس.
[5] انظر: علي وبنوه ص98-100 والفتنة الكبرى.
[6] انظر: طه حسين للأستاذ أنور الجندي ص43-44.
[7] انظر: المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي للأستاذ أنور الجندي ص80 ط2/1977م.
[8] انظر: طه حسين للأستاذ أنور الجندي.
[9] انظر: مع رجال الفكر في القاهرة لمرتضى العسكري ص166 ط الأولى / 1394 هـ / 1974 م القاهرة.
[10] انظر: علي وبنوه لطه حسين ص98- 100.
[11] انظر: المصدر السابق.
[12] انظر ترجمة أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المتوفى سنة 279هـ في معجم الأدباء لياقوت الحموي ج5/92.
لسان الميزان ج1/322- 323، تهذيب تاريخ دمشق ج2/109، البداية والنهاية لابن كثير ج11/65- 66، النجوم الزاخرة ج3/83.
[13] أدب مصر الفاطمية ص7.(19/429)
[14] انظر: التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ص18، وكتاب مع رجال الفكر في القاهرة لمرتضى العسكري ص93.
[15] انظر التشيع ص18.
[16] انظر التشيع: ص18-19.
[17] انظر: وعاظ السلاطين للدكتور علي الوردي ص274- 278.
[18] انظر المصدر السابق ص151.
[19] انظر: الصلة بين التصوف والتشيع ص41- 45.
[20] الأركان الأربعة هم: عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وجندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ، فرق الشيعة ص36- 37 و40 ط1969م الرابعة.
[21] انظر بعض كتبهم مثلا: رجال الطوسي ص46، وص51، رجال الحلي ص255 وص469، أحوال الرجال للكشي، وقاموس الرجال للتستري، وتنقيح المقال للمامقاني وغير ذلك.
[22] انظر: تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ص92- 100 ط 1975مؤسسة الأعلمي.
[23] انظر: التشيع ظاهرة طبيعية ص20.
[24] انظر خلاصة تهذيب الكمال ج1/220 ط 1392هـ/1972م القاهرة.
[25] انظر: تاريخ الإمامية ص158.
[26] انظر: تاريخ الإمامية ص140.
[27] انظر: تنقيح المقال ج1/177.
[28] انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44، ورجال الكشي 101 ط مؤسسة الأعلمي بكربلاء، وتنقيح المقال في أحوال الرجال للمامقاني ط المرتضوية في النجف 1350هـ، وقاموس الرجال ج5/462.
[29] انظر: فرق الشيعة ص44.
[30] انظر: رجال الكشي ص98 ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء، وقاموس الرجال ج5/461، وتنقيح المقال في أحوال الرجال للمامقاني ط المرتضوية في النجف 1350هـ ج2/183-184.
[31] انظر المصدر السابق ص99-100 وج2/183-184.
[32] انظر: تاريخ دمشق مخطوط نسخة مصورة منه في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية رقم (602تاريخ) في ترجمة عبد الله بن سبأ، وكذا في تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران ج7/428 وهذا النص في تاريخ الطبري أيضا.(19/430)
[33] انظر: المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي ت301هـ، ص21 ط طهران 1963 تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور.
[34] انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44 ط النجف، وانظر: قاموس الرجال ج5/463.
[35] انظر: عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر ط2 1381هـ ص67-68، والآية رقم (11) من سورة المؤمن.
[36] انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج5/347.
وانظر كذلك: تفسير ابن كثير ج4/73 ط عيسى الحلبي، وروح المعاني للآلوسي ج24/51 ط المنيرية.
[37] انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج5/347.
وانظر كذلك: تفسير ابن كثير ج4/73 ط عيسى الحلبي، وروح المعاني للآلوسي ج24/51 ط المنيرية.
[38] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر مخطوط نسخة من مصورة في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية رقم (602تاريخ) وتهذيب تاريخ دمشق ج7/430.
[39] انظر الكافي في الأصول ج1/198 ط إيران.
[40] انظر مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء الإمامية في القرن السادس ج4/234 ط العرفان صيدا 1355هـ/1916م.
[41] انظر: البدء والتاريخ ج5/129 ط 1969م.
[42] انظر: رجال الطوسي ص515.
[43] انظر: البدء والتاريخ ج5/129 ط 1969م.
[44] انظر مقدمة فرق الشيعة للنوبختي ص17 من الطبعة 1969م.
[45] انظر: شرح ابن أبي الحديد ج2/309 الطبعة الميمنية 1326هـ والآية 5 من سورة التحريم.
[46] ميزان الاعتدال ج2/624.
[47] انظر: الفرق بين الفرق ص234، وذكر هذا المعتقد ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج2/309.
[48] انظر: الفرق بين الفرق ص234، والكامل في الأدب للمبرد ج2/124.
[49] انظر مقالات الإسلاميين ص85.
[50] انظر: شرح نهج البلاغة ج2/306.
[51] انظر القاموس المحيط ج1/152 ط 1952 القاهرة.(19/431)
[52] انظر: تاريخ دمشق النسخة المخطوطة المصورة في معهد المخطوطات رقم (602 تاريخ) في ترجمة عبد الله بن سبأ وانظر تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/430.
[53] انظر المصدر السابق.
[54] يشر إلى الآية الكريمة.
[55] تاريخ دمشق لابن عساكر المخطوط وانظر: تهذيب تاريخ ابن عساكر ج7/430-431.
[56] انظر صحيح البخاري مع فتح الباري ط السلفية ج6/151.
[57] انظر: سنن النسائي (المجتبى) ج7/96.
[58] انظر جامع الترمذي ج4/59 ط مصطفى الحلبي 1395هـ/1975م.
[59] انظر صحيح البخاري مع فتح الباري ط السلفية ج12/267.
[60] انظر: فتح الباري ج12/270.
[61] انظر: المصدر السابق.
[62] انظر: الكافي للكليني ج7/257-259.
[63] انظر سنن النسائي (المجتبى) ج7/97.
[64] انظر: فتح الباري ج12/270.
[65] انظر: معرفة أخبار الرجال لأبي عمرو الكشي ص71-72 ط سنة 1317 هـ بمبى الهند.
وكذلك رواها الكيليني في الكافي ج7/259- 260.
[66] انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2/308- 309.
[67] انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44 وقاموس الرجال ج5/463.
[68] انظر البيان والتبيين للجاحظ ج3/81 ط 3/1968 القاهرة.
[69] انظر: تاريخ بغداد ج8/488.
[70] انظر: فرق الشيعة للنوبختي ط النجف ص43، وقاموس الرجال ج5/463.
[71] انظر: تثبيب دلائل النبوة ج2/539-550.
[72] انظر: المقالات والفرق لسعد بن عبد الله القمي ت 301هـ، ط طهران 1963م تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور.
[73] انظر المجروحين لابن السبتي ج1/298، وانظر: ميزان الاعتدال ج2/52.
[74] انظر: تذكرة الحفاظ ج1/84 ط إحياء التراث.
[75] انظر: تذكرة الحفاظ ج1/82.
[76] انظر: المجروحين ج1/298، وميزان الاعتدال ج2/53.
[77] انظر: رجال الطوسي ص41.(19/432)
[78] انظر: العلويون فدائيو الشيعة المجهولون لعلي عزيز العلوي ص31 الطبعة الأولى 1972م، والباب هو حلقة الوصل بين الشيعة والإمام.
[79] انظر: رجال كشي ص100 مؤسسة الأعلمي كربلاء، وتنقيح الرجال في أحوال الرجال للمامقاني ج2/183-184 ط المرتضوية 1350هـ، وقاموس الرجال ج5/461.
[80] انظر: المصادر السابقة.
[81] انظر: المصادر السابقة وقاموس الرجال ج5/462.
[82] انظر: رجال الطوسي ص62 /الأولى النجف 1381هـ/1961م.(19/433)
في المشارق والمغارب
فضيلة الشيخ/عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
إلى ديترويت:
وفي يوم الخميس 1/8/1398هـ سافرنا من إنديانا بلس إلى ديترويت إذ أقلعت بنا الطائرة في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة عشرة صباحا، وهبطت بنا في مطار ديترويت بعد ساعة تقريبا.
إلى فندق بلازا:
التقينا أنا والأخ الشيخ عبد الغفور البركاني في قاعة تسليم الأثاث، ويستطيع الصديق أو القريب في الغرب أن يستقبلك عندما تخرج من النفق الصناعي المتصل بالطائرة وقاعة المطار أو يودعك هناك.
ليس مثل مطارات البلدان الشرقية التي يحرم على الصديق أو القريب أن يودع أو يستقبل صديقه إلا في القاعات الخارجية في المطار، لذلك يراك صديقك وأنت تعاني من حمل أمتعتك الثقيلة أو الكثيرة فلا يقدر على مساعدتك حتى تخرج إليه والحكمة في نفس صاحبها.
نقلنا الأخ عبد الغفور بسيارته إلى فندق بلازا الذي يقع على النهر الصغير المتفرع عن بحيرة ديترويت الكبيرة، العذبة، وهذا النهر يفصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين كندا وهذا الفندق يقع على شاطئ النهر الشمالي، والعمارات الكندية في المدينة المجاورة تقع على الشاطئ الجنوبي منه، وفي الجهة الغربية يربط أحد الجسور الحديدية بين البلدين، إذ تعبر عليه السيارات وبعد أن تم استقرارنا في الفندق المذكور في الدور (29) ودعنا الأخ عبد الغفور على أن يعود إلينا بعد الساعة السابعة مساء قبل المغرب بساعتين ونصف تقريبا، وكان النهار في ديترويت في ذلك الوقت يبلغ طولع سبع عشرة ساعة من طلوع الشمس تقريبا.
مناظرة ممتعة وأخرى مؤذية:(19/434)
جاءنا الأخ عبد الغفور في الموعد، وكان بجانب الفندق برج عال وفي أعلاه مظلة تدور بالزائرين ليتمكنوا من رؤية كل ما حول البرج من المدينة والنهر والمدينة الكندية وغير ذلك فصعدنا إلى ذلك المكان الذي لا بد أن يتناول فيه الزائر شيئا ما: طعاما أو شرابا حلالا أو حراما فتناولنا بعض المرطبات اللائقة بنا وقعدنا ننتظر دورة الأرض المصغرة التي لا خلاف في دورانها ونحن نتمتع بجمال تلك المناظر العجيبة: قصور عالية وشوارع مستقيمة، وأخرى ملتوية، ونهر جار، ومراكب بحرية كبيرة وصغيرة، وطائرات هليكوبتر تحلق فوق النهر حتى تكاد تلمس ماءه ولم يسؤنا إلا مناظر الحيوانات البشرية التي مهما حاولت أن تغض بصرك لا تقدر إلا إذا وضعت على عينيك ستارة مثل الستارة التي توضع على أعين أسرى الحرب في بعض الحالات ولكن الذي كان يهون الأمر علينا أننا كنا نحس أن أمامنا حيوانات منتنة، ونساء مترجلات لا توجد بهن إلا خشونة الرجال الوقحين، ثم لا بد من أن نختبر أنفسنا في هذا الجو السيء والله وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن حلاوة الإيمان الحق لا يذوقها الإنسان إلا حيث يكره نفسه على ما لا تحب "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
والذي جعل المنظر أمامنا جميلا هو ما ذكرت أولا يضاف إليه أننا ننظر إلى أراضي دولتين في وقت واحد.
وبعد ساعة تقريبا اصطحبنا الأخ عبد الغفور في جولة حول المدينة على ضفاف البحيرة، وكنا نريد أن ننزل في مكان لنتمتع بجمال البحيرة وجمال البساتين القريبة منها ولكن الأماكن التي مررنا بها كلها لا تليق بنا أن ننزل فيها لما فيها من العري الشديد والاختلاط الفاحش، فعدنا أدراجنا إلى الفندق.
وبعد تناول طعام العشاء ودعنا الأخ عبد الغفور على أن يأتينا غدا الجمعة حيث أصرّ على أن أقوم بخطبة الجمعة لأن الناس يجتمعون في المسجد أكثر من بقية أيام الأسبوع.
صلاة الجمعة:(19/435)
وفي 2/8/1398هـ جاء الأخ عبد الغفور فنقلنا إلى المسجد الجامع الذي يقيم فيه الجمعة والجماعة ويدرس الناس فيه كما يدرس بعض الأولاد، فانتظرنا في مكتبه الذي بجانب المسجد واستقبلنا فيه بعض أعضاء الجمعية المشرفة على المسجد بتحيات حارة لمسنا فيها العاطفة المتطلعة إلى زيارات العلماء لتلك البلاد.
وعندما حان الوقت أذن المؤذن في مكبر الصوت، وهذا أمر غير مألوف في بقية المساجد في الغرب، وذكر عبد الغفور أن بعض الناس قد أبدوا استياءهم من ذلك ولكن التصميم الحاصل من أعضاء الجمعية جعلهم يرفعون اسم الله عاليا في بلاد الكفر وقد لا يسمح لهم بالاستمرار في ذلك إذا طلب الجيران تدخل السلطات الحكومية.
وهنا تذكرت أن بعض الناس في بعض البلدان الإسلامية يحاولون أن يحدوا من رفع كلمة لا إله إلا الله في مكبرات الصوت وقت الآذان استجابة لرغبات من يغيظهم صوت الحق فقلت للهم يسر سبل إعلاء كلمتك على أرضك كلها على رغم أعداء دينك من الكفرة وأذنابهم.
وكنت أفكر في موضوع الخطبة، ولم أهتد إلى ذلك إلا قبيل صعودي المنبر، إذا ارتسم في ذهني الكلام على سورة العصر، وكنت علمت أن المسجد يحضره العمال والمثقفون من أطباء وغيرهم، وعندما يكون الحاضرون خليطا من المثقفين والعوام فإن مهمة الخطيب تكون صعبة، لأنه لا بد أن براعي هؤلاء وهؤلاء في أسلوب واحد لا يحس أحد الصنفين بمطبات وقد حاولت ذلك ما استطعت.
كأننا في أحد مساجد بلادنا المعمورة:
ولقد ازدحم المسجد بالمصلين حتى صلى كثير منهم في قاعته السفلى، وما كنت أظن أن أجد إلا صفا واحدا، ومع ذلك فإني كنت أحس أن الكلمة التي تخرج تجد لها قلوبا مفتوحة، لاحظت ذلك في وجوه المصلين وكأن على رأسهم الطير.
لا بد أن أسير مع ركاب القطار:(19/436)
وبعد أن صلينا قدمت لنا جنازة أحد المسلمين للصلاة عليها، وقد وضع في صندوق كما يعمل أهل تلك البلاد، وعندما سألت لماذا يعمل المسلمون هذا ذكروا أنه لا يسمح بدفن أحد بدون ذلك فذكرني هذا بما يردده المجاهدون من أن المسلم لا يقدر أن يعيش حتى في حياته الشخصية ولا يطبق في أموره الخاصة أحكام دينه إلا إذا كان نظام دينه هو الحاكم وإلا فسيكون ترسا في عجلة دولاب النظام الذي يعيش تحت ظله.
وبعد ذلك أعلن الأخ عبد الغفور أننا سنلقي دروسا بعد المعرب من كل يوم ابتداء من مغرب هذا اليوم.
وطلبنا من الأخ عبد الغفور أن نتبع جنازة هذا الميت حتى يتم دفنه، وعندما خرجنا من المسجد وجدنا أن قافلة السيارات التي تتبعه إلى المقبرة تحمل كلها بيارق صغيرة عليها علامة الصليب، فاستكبرت ذلك فقالوا أيضا لا يسمح لسيارة بالدخول إلا بهذا الشعار فقلت وهذه أطم من التي قبلها، فركبنا في سيارة الأخ عبد الغفور وليس عيها ذلك البيرق فذهبنا قبل الموكب ودخلنا المقبرة دون أن يتعرض لنا أحد وهناك انتظرنا حتى جاء الموكب وقد غطى القبر بالقماش الجوخ وفرشت جوانبه بالسجاد، وقائد الحراسة الذي يهيل التراب في القبر ينتظر، وهناك وجدنا نصبا على القبور كتب عليها اسم الميت وتاريخ دفنه، وبعض القبور عليها قطعة من البلاط كتب عليها ذلك، وليست القبور مرتفعة عن الأرض، والمسلم هناك يدفن بجانب النصراني.
وذكر الأخ عبد الغفور أن الميت يلبس بدلة جديدة شبيهة ببدلة الزفاف وأن الناس يغالون في ذلك، والمسلمون يعملون نفس ما يعمله الكفار، طردا للميزان الغربي المادي عند الغربيين، ولو كان عندهم علم عن عذاب القبر ونعيمه وسؤال منكر ونكير، وأن الإنسان لا يبقى معه في قبره إلا عمله لما احتاجوا إلى هذا التكلف.(19/437)
وجاء الموكب وحمل التابوت الثقيل حتى وضع على فم القبر وقد ربطت على القبر حبال ربطا خاصا يوضع عليها التابوت ثم جاء المختصون وأخذوا يرخون الحبال شيئا فشيئا حتى نزل التابوت في مكانه وأهال الحاضرون شيئا من التراب عملا بالطريقة الإسلامية في الدفن ثم ابتعدوا وأخذ قائد الحراثة يجرف التراب في القبر حتى انتهى…
وقال الأخ عبد الغفور: الآن لا بد أن نتقدم للدعاء للميت حسب السنة، وإلا فسيتقدم بعض المخرفين لقراءة التلقين المعتاد وهو مخالف للسنة، فقلت له: تقدم وافعل ففعل وعزينا أقرباء الميت، وحاولوا معنا أن نذهب معهم لتناول طعام الغذاء إذ جرت عادتهم أن يفعلوا ذلك فاعتذرنا ورجعنا إلى الفندق.
جولة في الجزيرة:
وبعد العصر جاءنا الأخ عبد الغفور فذهب بنا إلى الجزيرة الواقعة شرق الفندق والتي ذكر أن الولايات المتحدة اشترتها من كندا (الظاهر أنها اشترت قسط كندا منها) وعندما وصلنا إلى الجزيرة وتجولنا فيها رجعنا إلى طرف النهر الشمالي فوجدنا مكانا خاليا من الناس فمكثنا هناك حتى جاء الوقت وذهبنا إلى المسجد حيث أدركنا الناس وهم يصلون فصلينا معهم.
الدرس الأول:
وبعد صلاة المغرب أعلن للناس الأخ عبد الغفور عن افتتاح الدروس فبدأنا الدرس الذي كان يدور حول الإيمان بالملائكة وأدلته والحكمة من خلق الجن والإنس، ثم فتح المجال للأسئلة الكثيرة إلى أن أذن لصلاة العشاء فصلينا وذهبنا إلى مطعم عربي لبناني تناولنا فيه طعام العشاء ولكن بعد فحص شديد كفحصنا لمطاعم الغربيين لعدم الفرق بينهما، لأن العرب المسؤولين عن المطعم نصارى أيضا، إلا أن صنع طعامهم شرقي.(19/438)
وعدنا إلى الفندق، وفي هذا اليوم قص لنا الأخ عبد الغفور مشاكله مع بعض الجاليات الإسلامية التي قد سمعنا عنها من قبل وكنا نود أن نصلح بينه وبينهم، بل كنت أقول لزميلي الدكتور محمد بيلو: لو لم يكن في رحلتنا هذه إلا الإصلاح بين هؤلاء القوم لكفانا.
حالقة الدين:
لذلك عرضنا على الأخ عبد الغفور استعدادنا للصلح بينه وبين خصومه وكان يائسا هو من ذلك. وحاول أن يدخل اليأس في نفوسنا، ولكننا ألححنا عليه، وذكرناه بالنصوص الواردة في الخلاف وذمه وفي مدح الاعتصام والاتفاق ووجوب تحقيق الأخوة الإسلامية، وبعد مناقشة طويلة وافق على تدخلنا في الموضوع قائلا سوف لا تجدون قبولا لذلك عند الآخرين وكنا اتصلنا بالأخ عمر الصوباني الأردني الذي يسكن في مدينة من مدن ولاية ديترويت وطلبنا منه الحضور ليشاركنا في الإصلاح، لأنه قد بلغنا أن القاضي يحيى بن لطف الغسيل اليمني رئيس مكتب التوجيه والإرشاد في صنعاء قد زار المنطقة وحاول الإصلاح كذلك، ومن ضمن ما عمله عندما لم ينجح في مهمته أن شكل لجنة للإصلاح من ضمنهم الأخ عمر المذكور، والأخ الليبي علي رمضان أبو زعكوك وهو طالب في إحدى الجامعات في الولاية أيضا، ولكن هذا الأخير لم نجده.
أما الأخ عمر فقد جاء جزاه الله خيرا وبقي معنا يومين في محاولة جادة مع الطرفين، وقد تلمسنا الأخبار أولا من بعيد فتأكد لنا عن عبد الغفور ما يلي: -
- عندما ابتعثته دار الإفتاء، جاء إلى ديترويت، وكان أول من أعانه ووقف بجانبه الحاج فوزي مرعي الفلسطيني ضد رئيس الجمعية السابق وهو فلسطيني أيضا ولكنه هو وجماعته كانوا يبيحون قاعة المسجد السفلى لاحتفالات الجاليات في الأعياد ومناسبة الزواج وغير ذلك، ويحصل في ذلك ما يحصل من المنكر، تكشف النساء واختلاط الرجال بهن، مع الرقص واستعمال آلات الملاهي، وأن المسجد لم يكن يفتح للصلاة إلا نادرا لعدم وجود إمام متفرغ فيه.(19/439)
أمر بالمعروف فحورب:
وكان الأخ عبد الغفور ينكر عليهم ذلك بشدة ويقول لهم إن المساجد لله، وبنيت لذكره، فلا يجوز استعمالها فيما هو محرم في غيرها، ولكن القوم ألفوا ذلك ودأبوا عليه فلم يسمعوا له قولا، فوقف فوزي بجانب عبد الغفور، وانتهى الأمر بانتخاب جديد لأعضاء الجمعية فكان فوزي هو الرئيس في هذه الدورة، ومضى الأخوان في تعاون ووفاق.
واعتزل الجمعية من لم يرض بما حصل، وكان المسجد يفتح في جميع الأوقات وذكر بعض أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين أنه حضر المسجد في بعض الأوقات العادية التي هي في أيام عطل وليست في أيام إجازة فوجد وراء الإمام ثلاثة صفوف وذلك نادر في مساجد الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن هذا المسجد الذي كان يعتبر مهجورا.
أما في أيام الجمع فإن المسجد لا يتسع للمصلين، لذلك وسعوه من جهة القبلة وهذا خير كثير إذا ما قورن بالمساجد التي تعتبر معمورة ولها من يقوم عليها وينفق الأموال الكثيرة.
ثم دب الخلاف بعد ذلك بين الأخ عبد الغفور والأخ فوزي واتسع الخرق على الراقع، فبلغ الأمر إلى أن دعا عبد الغفور إلى انتخابات جديدة حضرها بعض الأعضاء وغاب عنها بعضهم، ولما كان اليمنيون هم الأغلب وقد رأوا في عبد الغفور ما يجمعهم ويبصرهم فقد تم انتخابه رئيسا للجمعية المذكورة عند ذلك طلب من فوزي تسليم الأموال التي بيده، بل التي أودعها في البنك باسم رئيس الجمعية وأن يحاسب المسؤولون الجدد بما تم في الأموال المصروفة، فرفض ذلك، واشتد النزاع وتفاقم أمره.(19/440)
ودخل الشيطان بين الإخوة فتفخ في كل واحد منهم ليسد الباب أمام الصلح، بل زاد أمره حتى كذب بعض الخصوم على خصمه واتهمه بتهم كاذبة، إذ كتب خصوم عبد الغفور للمسؤولين في المملكة العربية السعودية - بسبب أنه مبعوث من قبل بعض مؤسساتها - بأن عبد الغفور يتعاون مع الشيوعيين ولعلهم اتهموه بأنه شيوعي هو نفسه، ويقال إن راتبه قد أوقف وشكلت لجنة لتقصي الحقيقة فوجدوا أن الدعوى كانت كاذبة باعتراف خصومه، وذكر الأخ عبد الغفور أن راتبه أعيد بعد ذلك.
الدرس الثاني:
وقد دخلنا مع كل من الطرفين في نقاش طويل نحن والأخ عمر الصوباني أما عبد الغفور فكنا معه باستمرار في سيارته، وفي الفندق وفي المسجد، لأنه هو الذي تولى مرافقتنا من أول وصولنا.
وأما فوزي مرعي فقد سهرنا معه ليلة كاملة، كما سيأتي الكلام عنها وبعد مغرب يوم السبت الموافق 3/8/1398هـ تم إلقاء الدرس الثاني وكان كله يدورحول جواب على سؤال بعض الحاضرين الذي وجهه على الوجه التالي: ما سبب عدم التزام المسلمين بواجبات دينهم، وترك ما حرم الله عليهم مع علمهم بذلك، ثم فتح المجال كالمعتاد لأسئلة أخرى للإجابة عليها شارك في بعضها زميلي الدكتور بيلو.
صلح المسلم رفض وحكم الكافر طلب:
وبعد صلاة العشاء من هذا اليوم جاءنا الأخ فوزي مرعي إلى الفندق واستمرت محاولتنا معه من أول ما دخل إلى أن صلينا الفجر ليرضى بالصلح بينه وبين عبد الغفور ولكن دون جدوى إذ صمم أنه لا صلح مع عبد الغفور إلا تسفيره من أمريكا، والرجل حاد الطبع سريع الغضب بطيء الفيء أيضا يطلق لسانه دون أن يفكر فيما يقول، فقد نال من خصمه مما لا يجوز له كما حرض عليه آخرين وأغراهم بالاتصال بنا شخصيا أو عن طريق الهاتف ليؤكدوا ذم عبد الغفور والشكوى منه، ظنا منهم أننا جئنا للتحقيق في القضية ونحن قد نفينا ذلك في المسجد.(19/441)
ولو كانوا شكوا شكوى عادية لهان الأمر ولبقينا من أجل المصلحة ولكن كلامهم كله كان كلام سب وشتم ودعاوى واضحة البطلان فقد اتصل بعضهم بي شخصيا في الهاتف وأخذ يحدثني عن عبد الغفور الشيوعي وأخذ يسبه لمدة لا تقل عن ساعة، وأنا لا أزيد على السماع إلا إذا خشيت ظنه أني قفلت الهاتف فأقول له: نعم. وكان ذلك ثقيلا على نفسي، وجاء آخر بنفسه وأخذ يفتح ملفات الإجرام الصادرة من عبد الغفور التي لم أر فيها إلا وقوفه ضد المنكر الذي ألفه الناس واستنكروا وجود المعروف كما قال من قبلهم: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ، وبقي هذا الرجل عندنا أكثر من ثلاث ساعات ونحن لا نزيد على السماع منه، ثم نصحناه في الأخير بتقوى الله وودعنا غير راضي بذلك الزمن فيما يبدو.
وقد حضر الخصمان وبعض أعوانهما ومحامي كل منهما إلى أحد قضاة البلدة وعندما عرف القاضي - وهو نصراني - أنهما مسلمان قال لهما: ألا تشعران بالخجل إذ تخرجان من بيت من بيوت الله دون أن تحكماه بينكما وتصطلحا بالحق لصاحبه، وتأتيا إليّ أنا العبد الضعيف لأحكم بينكما، وقد أخبرنا كل الخصمين بهذا عبد الغفور أخبرنا مباشرة وفوزي أخبرنا عن طريق الهاتف فكانت موعظة من عدو للإسلام ولكنها لم تقبل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وخشينا أن تحدث فتنة، فتشاورنا أنا وزميلي وقررنا السفر يوم الثلاثاء فحجزنا واتصلنا بأخينا في الله الشيخ محمد نور السوداني الذي يعمل مع البلاليين على نفقة وزارة الأوقاف الكويتية ليرتب لنا منهج زيارة نافع في شيكاغو كما سيأتي.
دفاع المنتصر:(19/442)
وفي يوم الإثنين 5/8/1398هـ تجولنا في بعض أسواق المدينة وفي طريقنا إلى بعض العمائر الضخمة التي يوجد فيها كل الأغراض المطلوبة، كل صنف من البضاعة يوجد في طابق منها تناولنا طعام الغذاء في أحد الفنادق الفخمة وهنا حصلت قصة طريفة، لا زلت كلما تذكرتها أضحك من أجلها: كنت لابسا لباسي العربي، وكان الناس يكثرون الالتفات نحوي لغرابة اللباس هناك ولكن التفاتهم - في الغالب - يكون خلسة ومسارقة، وسمعت من الأخ عبد الغفور أن الالتفات إلى شخص ما يعتبر غير لائق عند الأمريكيين، فإذا صوب أحد نظره إليك والتفت أنت نحوه فإنه يشعر بالخجل ويعتبر التفاتك إليه نوعا من الاحتجاج والعقاب، ولقد أخذت هذا السلاح فكنت إذا رأيت من يلتفت إلي التفت نحوه فيصرف نظره بسرعة، وكأنه لم يكن ينظر إلي وفي هذه المرة كنا على طاولة الطعام فمر شيخ عجوز فنظر إلي فنظرت أنا إليه ومن شدة محاولته إخفاء التفاته صرف نظره بسرعة وهو يمشي فتعرقلت رجله بأحد المقاعد فوقع على الأرض ثم تجلد فوثب قائما وأخذ يسعى بعيدا عنا، فأخبرت الأخوين: زميلي الدكتور بيلو والأخ عبد الغفور فأخذا يشاركانني الضحك.
الآلة والبطالة:
ثم صعدنا إلى الطابق الأول في الفندق فوقفنا في قاعة صغيرة نسبيا لنرى القطار - أو المترو - واقفا، فخرج الركاب منه، ودخلنا نحن، وعندما أخذنا مقاعدنا نظرنا إلى مقدمة هذا المركب المعلق جسره في الهواء بين الفندق وبين العمارة التجارية التي نريد الذهاب إليها، نظرنا لنرى القائد فلم نر أحدا، وعندما سألنا عن ذلك - وكنا نظنه يختفي في مكان ما منه - قال الأخ عبد الغفور أنه يسير ذهابا وإيابا بنفسه عن طريق الكهرباء، ويتقابل هو وزميله في منتصف لبطريق دائما، هذا ذاهب وهذا عائد.(19/443)
قلنا في نفوسنا: نركب مع الناس، وهذا المركب قد جرب، وقد آمنه الناس على أنفسهم لمدة طويلة، فما يظن به أنه يخرج عن طريقه، أو يتجاوز موقفه وذكرنا اسم الله الذي سخره لنا وسخر عقول بعض خلقه كذلك.
وهنا استحضرت ثلاث ملحوظات:
الملحوظة الأولى: أن أهل الغرب اتعبوا أنفسهم وكدوا عقولهم لاستخدام ما سخره الله تعالى لهم في هذا الكون، وسلكوا السبيل المطلوب لهذه الاستفادة فكانت النتيجة أن تحقق لهم كثير مما أرادوا.
لذلك ترى صاحب الآلة نائما وهي تخدمه طول الوقت، هذا في الأمور المادية البحتة.
الملحوظة الثانية: أن الآلة حلت محل الإنسان في كثير من الأعمال فتعطل كثير من الناس عن العمل، ولذلك ارتفعت الشكاوي من البطالة لأن هناك مجالات أخرى غير هذا المركب كالمصانع التي يكفي شخص واحد ليدير ألفا عن طريق جهاز الكمبيوتر والمراقبة ويكفي أن يضغط شاب على زر لتشغيل المصنع بكامله، بل إنك تستطيع أن تتعامل مع الآلات في صرف نقودك، فتدخل النقود الورقية في الآلة فتضغط على أحد الأزرة فتخرج لك عدد القروش المماثلة دون زيادة أو نقص، تصور لو كان ذلك عن طريق الناس كم كان يحتاج من الوقت ليعد لك ولغيرك تلك النقود المعدنية، وكم يحتاج من البشر ليكفي عشرات الناس في الدقيقة الواحدة؟.
وتتعامل مع الآلة في شراء بطاقات دخول القطار فتذهب إلى الآلة وترمي لها النقد المعدني ثم تضغط على الزر فإن كان النقد هو المطلوب رمت لك البطاقة في محفظة سفلى، وإن كان أكثر من المطلوب ردت لك الباقي وأعطتك البطاقة، وإن كان أقل منه انتظرت حتى تكمل.
وتتعامل مع الآلة في شراء أنواع الأشربة، إذ توجد بها العلب وعلى كل نوع كتبت قيمته، فما عليك إلا أن ترمي النقد المطلوب ثم تضغط على الزر المختص فيرمي لك العلبة التي أردت.
وهكذا إن شئت قهوة بسكر أو بغير سكر قليل ساخنة أو بادرة فإن الآلة تتعامل معك في أسرع وقت وبدون خصام.(19/444)
بل ذكرنا، وهذا لم نره، أن بعض الآلات تتعامل عك في الطعام الساخن والبارد وهكذا.
بل إن البنوك تتعامل معك في أيام العمل وأيام الإجازات في الليل والنهار إذ تأتي إلى فتحة صغيرة فترمي فيها بطاقتك وتذهب الآلة تسأل أخواتها إن كان بقي لك شيء يكفي للمبلغ المطلوب فإن كان موجودا فإنه يأتيك في أسرع وقت وإلا رجعت لك بطاقتك بعد الاعتذار لها.
إنني عندما رأيت بعض هذه الأمور وعلمت عن بعضها وسمعت غير ذلك مما يدهش العقل ورأيت الناس كيف يعملون في الحسابات وغيرها خرجت بنتيجة أن هؤلاء الذين يستخدمون هذه الآلات قد أصبحت عقولهم آلات عدا أولئك الذين يفكرون بعقولهم ويبتكرون ويخترعون فإن أمرهم مختلف، قل لي بربك ألا تكون النتيجة هي الشكوى من البطاقة.
الملحوظة الثالثة: إن مجال هؤلاء العاطلين هو الدول المتأخرة، والتي يسمونها بالنامية. لذلك ترى الآلاف من الغربيين يؤمون هذه البلدان بطلب منها في مجالات مختلفة منها الخطير ومنها الحقير.
وهكذا كان صاحبنا القطار الصغير، إلا أنه لم يعلم أخذ النقود، بل يتقدم دون مقابل، ولكن لا يخدمك إلا لإيصالك إلى المتجر وإعادتك وهناك في هذا المتجر الضخم لا يرجع هذا الراكب إلا بعد أن يشتري شيئا ما، ليس عن طريق الإجبار والترهيب ولكن عن طريق الإغراء فلكل واحد ما يعجبه في هذا المتجر إن لم يكن في هذا الطابق ففي الذي يليه، لهذا فلا حاجة لهم إلى دفع قرش أو قرشين فستدفع ما يكفي وزيادة.
ومن فوائده لهم أن المتجر لا يدخله الناس إلا عن هذا الطريق الذي يسهل عليهم المراقبة، وهناك أجهزة مراقبة في المتاجر الكبيرة يكون الإنسان فيها مكشوفا في شاشة التلفزيون الخاص تصوره الكمرة على ما هو عليه.(19/445)
ومما لوحظ في هذا المتجر وغيره أن الأجهزة السلكية واللاسلكية الموجودة في أمريكا أغلبها من صنع اليابان، وذكر الأخ عبد الغفور وغيره كذلك أن أجهزة الراديو المصنوعة بأمريكا لا يسمع فيها إلا الإذاعات المحلية ما عدا أجهزة قليلة جدا ليس في استطاعة كل واحد اقتناؤها لغلائها تسمع بها الإذاعات الخارجية، أما الأجهزة المصنوعة في اليابان فإن أكثرها تسمع منها الإذاعات الخارجية، وهكذا وجد أن المسجلات الجيدة يابانية ...
وسيأتي، الحديث عن اليابان في حينه إن شاء الله.
وبعد تجول طويل في المتجر وأخذ بعض الأشياء الخفيفة تسلية للقطار الذي لا نريد أن يرانا خالي الوفاض من داره، رجعنا إليه فنقلنا إلى مكاننا الأول، وتركناه يتعامل مع غيرنا، وذهبنا إلى سيارة الأخ عبد الغفور وطلبنا منه أن يقودها، ولا يتركها تسير بنفسها، لأنها لم تدخل المدرسة التي تخرج فيها ذلك القطار.
رجعنا إلى الفندق لنرتاح لأنا غدا مسافرون إلى شيكاغو ولقد كنا في غاية من الرغبة في البقاء في ديترويت من أجل الجمع الغفير الذي يجتمع في المسجد ومن أجل الرغبة التي كنا نلمسها في الحاضرين، حتى لقد بكى بعضهم وناشدونا البقاء لمدة أطول وأن نبلغ المسئولين في المملكة العربية السعودية بأن يتعهدوهم بالمرشدين وأن يبعثوا لهم عددا من المدرسين لتدريس أولادهم مبادئ اللغة العربية والمبادئ الإسلامية حتى لا يضيعوا في المجتمع الأمريكي، غير أن الوضع الذي شرحته سالفا رجح لنا السفر ...
إلى شيكاغو
من ديترويت إلى شيكاغو:
وفي يوم الثلاثاء 6/8/1398 هـ أقلعت بنا الطائرة من مطار ديترويت في تمام الساعة العاشرة صباحا ووصلنا إلى مطار شيكاغو.
حنين وتسلية:(19/446)
قابلنا الأخ محمد نور السوداني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت أيامها مسئولا عن شئون الطلاب وكان محمد نورمن الطاقات العاملة في النشاط الطلابي إذ شارك في الرحلات والندوات والجماعات المختلفة، لذلك كان لقاؤنا معيدا لتلك الذكريات الطيبة وكان قد سجل في جامعة الملك عبد العزيز بجدة في الدراسات العليا - الماجستير- ولكن لظروف طارئة غادر مكة المكرمة إلى الكويت، وابتعثته وزارة الأوقاف الكويتية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل مع البلاليين هناك، ولا يزال يحن إلى الكعبة الشريفة التي جاورها لمدة سنتين حنين الأم إلى ولدها، وكذلك المسجد النبوي الذي لم يغادره طيلة أربع سنوات عندما كان في الجامعة الإسلامية إلا نادرا ولكن ينبغي أن يتسلى هو وغيره بالعمل والدعوة إلى الله في أي مكان بقول عبد الله بن المبارك:
يا عباد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تعلب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
سائق مخيف:(19/447)
استأجرنا سيارة صغيرة لتوصلنا إلى الفندق الذي تم الحجز فيه عن طريق الأخ محمد نور في وسط المدينة، وكان السائق زنجيا عنيفا في قيادته، إنه يكاد ثيب بسيارته على سيارات الناس التي أمامه، على خلاف عادات السائقين في الغرب ويخاتل السائقين فيسبق هذا ثم يستعد لسبق الآخر، لقد كدت أطلب من الأخ محمد نور أن يوقفه ولكن خشينا إن علم أننا متضايقون من قيادته أن ترتفع درجة الحرارة عنده، لقد كان شبه مجنون ولا أستبعد أيكون ثملا من آثار الشرب أو الحشيش ولكن الله سلم فوصلنا بسلامة الله وحفظه إلى الفندق الثاني في رحلتنا، تذكر أن الفندق الأول هو فندق "لندن".
فندق روزفليت
فرق بعيد أما أول فندق نزلنا به في مدينة شيكاغو فهو فندق روزفيلت ولهذا الفندق قصة أخرى مغايرة تماما لقصة فندق لندن من – وجهين -:
الوجه الأول: أن اختيار فندق لندن كان من قبل قوم غشاشين.
الوجه الثاني: أن هدفهم أن يحتالوا على أكبر عدد ممكن لسرقة أموالهم بأسلوب ظاهره شرعي أما فندق روزفليت فقد اختاره لنا أخ حبيب وصديق حميم لا نشك في أنه يحب لنا ما يحب لنفسه وما أراد إلا راحتنا، ولكن ما قصة الفندق وكيف كان؟.
الأخ محمد نور قريب العهد بسكنى مدينة شيكاغو، ورجل حيي قنوع ليس عنده وسيلة للمواصلات، وفي نفس الوقت مشغول بأداء عمله الذي نرجو أن يكون يؤديه بإخلاص وتفان في سبيل الله وحده، لهذا لم يتمكن من معرفة البلدة، لأنه لم يتجول فيها ونحن عندما اتصلنا به كان تصورنا غير ذلك، كنا نظن أنه على علم بالبلدة وعنده وسيلة مواصلات، وأخطأ ظننا، كما أنه لحيائه وعفته لم يستعن بأحد من الذين لهم خبرة في البلد، فقابلنا وحده في المطار.
خداع العناوين:
وعندما أراد الحجز لنا في فندق أخذ يقلب دليل الفنادق ويستعرض الأسماء فعثر على هذا الكنز الثمين: فندق روزفليت وهل يمكن أن يكون فندق سمي باسم هذا الزعيم الكبير غير مريح؟.(19/448)
لذلك اتصل بمدير الفندق وطلب منه حجز غرفة بسريرين كما طلبنا وعندما وصلنا إلى الفندق ودخلنا مكان الاستقبال همست لزميلي خلسة من الأخ محمد نور: ألا تظن أن هذا الفندق هو الثاني؟ فرد هامسا أيضا: سننظر.
ودخل علينا زنجي كبير السن يتخبط في مشيه، فاغرا فاه، ولسانه شبه معول، وهو يمد يده على أكتاف الناس فاتضح أنه سكران ورأينا أشباهه في الشارع أمام الفندق، وكنت أقول في نفسي اللهم سلمنا من هذا الفندق كما سلمتنا من فندق لندن.
المصعد والعصا:
وبعد الإجراءات اللازمة دخل معنا الفرَّاش في المصعد الذي يفتح ويقفل بيد شبيهة بيد الباب. وبيد الفراش عصا لا ندري لماذا يحملها ولكن قلت في نفسي: إما أن يكون بعض نزلاء الفندق يفقدون وعيهم من السكر ويعتدون عليه أو على النزلاء الآخرين فيحاول أن يدافع بعصاه، أو يكون في الفندق ثعابين وعقارب لكثرة أوساخه ومداخله القديمة المتداعية، وكلا الأمرين بلاء، وإذا أراد أن يوقف المصعد فإنه يبدأ بمعالجته في الدور السابق للدور الذي يريد إيقافه فيه.
أسف وتسلية:
أوقفنا عند باب حجرتنا المطلة على الشارع وأخذ يدفع الباب الخشبي القوي فانفتح ودخلنا الحجرة وأخذنا ننظر في أرجائها نظرة نفور واشمئزاز وأحس ذلك أخونا محمد نور الذي أبدى أسفه لنا وذكر قصة الاختيار وسببه فطمأناه بأن الأمر سهل وأن فندق لندن قد سبق فندق روزفليت، ويمكننا أن ننتقل منه غدا بإذن الله وهذا فندق تاريخي يحمل اسم زعيم كبير.
ثم قلت له بعد ذلك: أن إبليس هو قدوة هؤلاء القوم فقد وصف العصيان وثماره السيئة بأوصاف مغرية فقال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} وإضافة إلى ذلك فإن زعماء الكفر لا يمكن أن يأتينا منهم خير، فأراد الله أن يثبت ذلك حتى في أسمائهم لئلا نركن إليهم أي ركون، كانت نكات لطيفة.(19/449)
ودخلنا بيت الماء فإذا بابه لا يغلق، وإنما يرد فقط فظننت أنه يحتاج إلى دفع كما دفع الفراش باب الغرفة فدفعته قليلا خشية إزعاج الآخرين الزميل والصديق، وإذا هو مثل مرحاض فندق لندن ولكن زميلي اكتشف شيئا آخر فيه ظهر أنه فاق مرحاض فندق لندن في السوء.
ولماذا السلالم؟ !
ونظرنا إلى الشارع فوجدنا النافذة فرأينا أن سلالم من الخشب مبنية في جدار الفندق متصلة من أسفله إلى حجرتنا، فقلنا: وهذه مصيبة أخرى، ماذا يجري لو صعد إلينا سرب من السكارى؟ فأغلقنا النافذة وتوكلنا على الله.
إلى زعيم البلاليين:
كان الأخ محمد نور قد أخبر زعيم البلاليين، وهو ابن اليجا محمد ذي الأفكار الهدامة التي أخذها من المسيحية واليهودية والقاديانية، ونسبها إلى الإسلام، بل إنه ادعى الرسالة، ولكن ابنه المدعو عند قومه ولس دين، ويدعوه العرب، وارث الدين أظهر بعد وفاة أبيه بمدة محاولة إصلاحية في مفاهيم أبيه، فبدأ يقيم بأتباعه الصلاة ويصحح بعض الأفكار كما قرأنا ذلك قبل أن نلتقي به في بعض المجلات الإسلامية، فطلب من الأخ محمد نور أن يحضرنا إليه ليلتقي بنا فذهبا إلى المسجد الذي فيه جميع مكاتبه الإدارية، وعندما أردنا الدخول طلب منا أن نمر في الممر الذي وضع به جهاز كشف السلاح مثل الأجهزة التي توضع في المطار، والأماكن التي يخشى فيها من المسلحين فدخلنا، وكان غائبا عن المسجد فانتظرنا قليلا، وعندما أذن المؤذن وأقيمت الصلاة صلى بنا الأخ السوري: محمد مازن علوان الذي يدرس في نفس المسجد مع محمد نور وهو على نفقة رابطة العالم الإسلامي، واختصاصه في الطب، ولكن له اطلاع جيد ودرس على بعض العلماء في سوريا في صغره، وفي وقت طلبه للعلم في المدارس النظامية وهو شاب صالح أيضا.
وبعد الصلاة قابلنا الأخ محمد مازن وتعرف علينا وحدثنا عن عمله مع البلاليين وبصرنا ببعض الأمور التي تهمنا.
ترحيب وشكر:(19/450)
وبعد نصف ساعة تقريبا جاء ولس دين الذي يدعوه أتباعه بالإمام، فرحب بنا وقدم لنا بعض المرطبات وتعارفنا، وأبدينا له سرورنا بما سمعناه عنه من أنه بدأ يصحح المفاهيم التي كان والده يعتقدها ويلقيها لأتباعه، وطلبنا منه أن يستمر في هذا التصحيح، لأن الإسلام يجب فهمه من كتاب الله وسنة رسوله لا من بنيات أفكار الناس.
طلب لا يرد:
وطلب مني أن ألقي حديثا في اتباعه بعد عصر هذا اليوم الثلاثاء الذي اعتاد أن يجتمع فيه أتباعه في قاعة المحاضرات العامة بجوار المسجد فلبينا رغبته، وكانت الكلمة تدور حول المعاني التالية:
- الهدف الذي خلق الله الخلق للسعي إليه، وهو رضا الله بعبادته.
- والوسيلة إلى ذلك، وهي العلم والعمل الصالح المبني على الإخلاص لله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- وبيان أن الناس انقسموا تجاه هذا الهدف وتلك الوسيلة إلى قسمين: كفار أو منافقون، وهم الذين خرجوا عن القانون الإلهي ويعيشون معيشة ضنك في الدنيا والآخرة، ومسلمون وهم الذين استقاموا على دين الله ودعوة الناس إليه وصبروا على أذاهم وأن يجازى كل قسم يوم القيامة بما قدم.
- أن الناس لا يتفاضلون إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فلا فرق بين عربي وعجمي ولا بين صاحب لون وصاحب لون آخر.
- إيضاح أنه لا يوجد اليوم في الأرض دين حق سوى دين الإسلام وأن على جميع الناس أن يدخلوا في هذا الدين وكان الزميل الدكتور محمد بيلو قد عرف الحاضرين بمهمتنا والبلدان التي زرناها وسنزورها بعد.(19/451)
ثم ألقى إمام البلاليين كلمة رحب بنا فيها وأشاد بالدعوة الإسلامية التي انطلقت في مكة المكرمة وقويت شوكتها في المدينة المنورة التي أصبحت عاصمة الإسلام الأولى والتي كان لأهلها السبق في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيواء أصحابه أي المهاجرين، وكانت عواطف الحاضرين ملتهبة عبروا عنها بالتكبير الذي ارتجت به جنبات القاعة وقد اعتادوا الاجتماع لسماع الدرس الذي يطلقون عليه درس الثلاثاء، حقق الله لهم من يقودهم بدرس الثلاثاء إلى الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، واستأذنا لنذهب مع الأخ محمد نور الذي دعانا لتناول طعام الغذاء في بيته، ونحن لبينا الدعوة لنرتاح من معارك الطعام التي استمرت معنا من وقت نزولنا في أول دولة غربية وهي بريطانيا إلى هذا اليوم فقد كان زميلي في نقاش دائم مع المضيفين في الطائرات، ومع الخدم في المطاعم في كل وجبة من وجبات طعامنا، وقد تمر ثلاثون دقيقة أو أكثر وهو يتفاهم معهم عن نوع الزيوت، واللحوم والسوائل [1] ، وقد يبدون أنهم فهموا المراد ثم يأتون بما يدل على عدم فهمهم، على الرغم من أنهم يصغون إلى لكنته الإنجليزية بعناية، بل ويستعذبونها حتى يكادوا يتركون خدمتهم ويجلسون بجانبه ليمتعوا بلهجته، وهو يستفسر عن كثير من كلماتهم السريعة الدارجة، وفي إجابة دعوة الأخ محمد إرضاء له وراحة لنفوسنا من الشكوك في أطعمة المطاعم، وأجازة لزميلي محمد بيلو من عناء الأخذ والرد مع المضيفين.
ولقد كان الطعام لذيذا غاية اللذة، لأنه قدم لنا في بلد ما كنا نظن أن نراه فيها فجزى الله الأخ محمد نور خيرا هو وأهله.
وبعد الغذاء شربنا الشاهي السوداني الذي انتشى بشربه زميلي أكثر منا وأخذ فيه النسبة التي يريد من السكر دون أن يقال له: أغلق المطعم؟ كما قال له المضيف في رحلتنا من لندن إلى نيويورك.(19/452)
وفرش لنا الأخ محمد نور في غرفة الاستقبال فاستلقينا ونمنا نومة مريحة إلى أن حان وقت صلاة العصر فصلينا وعدنا إلى مسجد البلاليين حيث ألقيت الكلمة في قاعة المحاضرات التي غصت بالحاضرين ثم عدنا إلى فندق روزفليت لنكمل المشوار الطويل معه.
صحبنا الأخ محمد نور إلى الفندق ورجع بعد ذلك إلى أهله فأخذنا نقارن بين الفندق لندن وفندق روزفليت في الأسباب والأهداف والمرافق.
انقلاب ومصالحة:
ولقد نزعت الغطاء الذي كان على سريري والمخدة ـ ورميتها بعيدا لعدم قدرتي على النوم عليهما، وأخذت بعض ثيابي ففرشتها وبعضها جعلتها بدل المخدة، ونمت متقززا، كأن تحت جنبي شوك السعدان، وقلت لزميلي ما رأيك لو صعد إلينا بهذه السلالم الموجودة بجانب الفندق أحد السكرى أو طائفة منهم؟. فقال: سنعمل جهدنا إن شاء الله فلا تخف وأغلقنا الشباك الذي يخشى من دخول أحد منه.
وبسط زميلي عمامته السودانية الطويلة على فراشه ومخدته ونام عليها دون أن ينزع فراشا أو مخدة تحديا لفندق روزفليت وكنت أن حظه أحسن حالا من حظي، فربما كان فراشه نظيفا وكذلك أكياس وسائده ولكنه فضل المصالحة وفضلت الثورة.
ليل طويل:
وعندما استيقظنا لصلاة الفجر، وكان هو الذي أيقظني بدا على وجهه علامة الاشمئزاز والتضجر، وهو يحك في جسمه وسألته ما بك يا دكتور؟ فقال: لقد كانت هذه الليلة طويلة عليّ، وكنت أظن أنه سيتمثل ببيت امرئ القيس:
أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح عنك بأمثل
ولكنه كاد ولم يفعل.(19/453)
قلت ماذا جرى؟ قال: لقد باتت الروائح الكريهة الموجودة في هذه البسط والوسائد تقلقني، كما باتت بعض الحشرات الصغيرة تأكل جسمي ولم أذق طعم النوم طول الليل، ثم أخذ يقلب الوسائد والفرش ففوجئ بأسباب الروائح في الوسائد، فرجوته أن يغطي ذلك وسليته بأن وقت خروجنا من هذا الفندق قد اقترب، كما اكتشف الدكتور في جدران بيت الماء ما هو أسوأ من ذلك.
ولقد ظهر لنا بعد ذلك أنه لا ينزل في هذا الفندق إلا المعدومون الذين لا يفيقون من السكر إلا نادرا، كما ظهر لنا سبب وجود العصا بيد الفراش وهو خوفه من النزلاء المشار إليهم.
استعجال لا بد منه:
وبعد أن صلينا مباشرة حزمنا حقائبنا لنغادر مكان القلق الذي كان المفروض أن يكون مكان راحة، كان ذلك في يوم الأربعاء 8/8/1398هـ.
ضغطنا على زر المصعد وانتظرنا حتى جاء حاملا صاحب العصا وأدخلنا حقائبنا فيه ونزلنا إلى قاعة إدارة الفندق ننتظر أخانا محمد نور الذي كان قد حجز لنا في فندق على جانب الشارع الآخر من جهة الشرق ولكن موعد تسلم الحجرة كان متأخرا ونحن لا زلنا مبكرين وانتظرنا طويلا في القاعة ونحن نرى النزلاء يدخلون ويخرجون أشباه مجانين ومنهم القاعدون على الكراسي يتحدثون ويضحكون وأغلبهم من كبار السن، وعندما طال الانتظار قال لي زميلي: أليس من الأفضل أن نشرب شيئا؟ فقلت له: اشرب ما تشاء أما أنا فلا أريد شيئا وحقا ما كنت أقدر على تناول طعام أو شراب في هذا المكان القذر وهذه عادتي: أصبر على الجوع والعطش إذا رأيت مناظر قذرة مؤذية أو شممت روائح سيئة إلا عند الاضطرار الذي لا أقدر على تجاوزه وفي جوانب الشارع المقابل كنا نرى أسرابا من الزنوج المتسكعين الذين يميل بعضهم على بعض أو يبادل بعضهم بعضا الصياح والضحك والبؤس باد على وجوههم ويظهر من تسكعهم أنهم بدون عمل مثل إخوانهم في هارلم.(19/454)
ولشدة تضايقنا من الجلوس في هذا المكان وسوء المناظر البشرية المؤذية اتصلنا بالأخ محمد نور نطلب منه سرعة التوجه إلينا، وفعلا جاء الأخ محمد نور ومعه السيارة التي كنا طلبنا اسئجارها لتبقى معنا مدة بقائنا في شيكاغو يقودها أحد الشاب البلاليين، لا أذكر اسمه الآن ولكنه طبيب.
يطبق النظام بدون خصام:
نقلنا أثاثنا إلى الفندق الجديد وتركناه لنذهب إلى إدارة المرور لنأخذ تصريحا بالقيادة في مدينة شيكاغو، وفي الطريق إلى مسجد البلاليين الذي كنا نريد أن نلتقي فيه بالأخ صلاح الدين الذي يتولى قيادة السيارة بدلا من أخينا الطبيب، وقبل أن نصل إلى المسجد حصل مخالفة مرورية غير مقصودة من قائدنا فقد كانت الإشارة خضراء وهو بعيد فأسرع ليسبق الإشارة الحمراء، ولكنها سبقته هي فناداه ضابط المرور عن طريق مكبر الصوت فوقف.
ونزل القائد والضابط ولم يدر بينهما حوار كما يدور بين ضابط المرور والسائقين في بلدان الشرق، بل يسأل الضابط تعترف بأنك أخطأت؟ فإن اعترف فعليه أن يدفع الغرامة الجزائية وإن قال له لا لم يكلمه وإنما يعطيه قسيمة فيها نوع المخالفة وموعد المحاكمة ويذهب كل منهما في سبيله، وإذا جاء يوم المحاكمة حضر محامي السائق، وفي الغالب يكون محامي جمعية أو شركة ينتمي إليها السائق، وحضر محامي إدارة المرور مع السائق والضابط وهناك يبت في الأمر في صالح أحدهما وينتهي الأمر.
وأنا عندما أذكر مثل هذه الحادثة أريد من ورائها التنبيه على احترام الإنسان لأخيه الإنسان، ولا سيما إذا كانا مسلمين.(19/455)
فإن جندي المرور في بعض البلدان في الشرق يشتم السائق ويهدده وسرعان ما يرافقه إذا خالف ليسلمه إلى المسئولين في المرور للتحقيق والتوقيف أو السجن، وما الداعي لهذا، وفي الإمكان أن يسجل المخالفة مع رقم السيارة ورقم الرخصة، والاستمارة وعندما تجدد الرخصة أو في أي وقت يحدد الجزاء المناسب ماليا كان أو سحب رخصة القيادة إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
وليس في هذا الأمر صعوبة وقد وجدت أجهزة الخازن الكاشف (الكمبيوتر) الذي يمكن من جمع المعلومات عن كل شخص وإظهارها في وقتها المناسب دون تحيز.
أخذ قائدنا البطاقة ومضينا إلى المسجد وهناك تسلم الأخ صلاح الدين الشاب المرح السيارة وذهب إلى إدارة المرور للاستفسار عن إمكان حملنا ترخيصا بالقيادة على ضوء رخصنا المحلية.
في إدارة المرور:
وصلنا إلى إدارة المرور، وبدأ الأخ صلاح يسأل الموظفين الذين لا يجيبون بنعم أولا إلا إذا كانوا على علم بذلك، فترددوا في الأمر بين من يظن الإمكان ومن يظن عدمه، فاستدعوا امرأة تعتبر مستشارة قانونية فسألوها فأجابتهم: إن في إمكانهم ذلك لو كانت الرخصة مترجمة باللغة الإنجليزية مختوما عليها بختم جهة معتمدة.
نتائج:
وخرجنا من مقر الدورة بثلاث نتائج:
- النتيجة الأولى: أن أبواب الدعوة إلى الله مفتوحة على مصراعيها في بلاد الغرب بحرية كاملة قد لا توجد في كثير من بلدان المسلمين، فالكلية المستأجرة للدورة مسيحية، والمسئولون عنها مثقفون لا يخفى عليهم مفارقة الدين الإسلامي للدين المسيحي المحرف الذي يدينون به، ومع ذلك فقد أجروا مباني كليتهم بعقد رسمي من مسئولين رسميين لإقامة دورة لأئمة مساجد المسلمين وخطبائها في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه النتيجة بديهية جدا في كل المواقف المشابهة ولا تحتاج إلى تدليل.(19/456)
- النتيجة الثانية: أن هؤلاء الأئمة والخطباء الذين يعتبرون أحسن شيء في الباب، كما يقال لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه لأن المسئولين في الدورة عندما عرفوا ذلك بدؤا يعلمونهم مبادئ الإسلام الأولية وسورة الفاتحة وقصار السور التي ما كانوا يستطيعون نطق كلماتها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الجهل المطبق بدين الإسلام.
والمؤسف أن رخصنا ملئ جانبها العربي وأهمل جانبها الإنجليزي والذي خرجنا به من هذه الإدارة أمران: الأول: اهتمام الموظفين بأداء الخدمة على وجه يرضي صاحب المعاملة، وإظهار الأسف له إذا لم يمكن ذلك نظاما، والثاني: حسن سير العمل والنظام الذي مهما كثر فيه المراجعون لا تجد فيه الصياح والمدافعة اللذين يوجدان في أغلب إداراتنا ومؤسساتنا، ولذلك تتسهل المعاملات وتنتهي مع كثرة المراجعين.
وبعد أن اعتذروا لنا وخرجنا قال الأخ صلاح الدين: (نوبروبلم) أي ليس في الأمر إشكال فأنا سأقود لكم السيارة حتى تغادروا شيكاغو فشكرناه على ذلك وعدنا مرة أخرى لتناول طعام الغذاء في بيت الأخ محمد نور وبعد ذلك عدنا إلى الفندق لنرتاح وعاد كل من الأخوين إلى منزله، ولقد ارتحنا فعلا في فندقنا الجديد إذ كان بمنزلة الصحة بعد المرض فالحمد لله رب العالمين.
دورة تدريب الأئمة:
وفي يوم الخميس 9/8/1398هـ صباحا كنا مع موعد مع الأخوين محمد نور وصلاح الدين لزيارة دورة تدريب الأئمة والخطباء التي قامت بها بعض المؤسسات في المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومقرها يبعد سبعين ميلا تقريبا من مدينة شيكاغو حيث تم استئجار مباني كلية هناك بمرافقها.(19/457)
وهناك التقينا بالإخوة د. محمد العروسي عميد شئون الطلبة بشطر جامعة الملك عبد العزيز في مكة، وهو رئيس الدورة والأخ الشيخ إسماعيل بن عتيق والدكتور علي جريشة أحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والمنتدب من قبل الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأخ الشيخ صهيب بن حسن زميلي في الدراسة ومبعوث الرئاسة العامة للدعوة في لندن والمشترك في الدورة وغيرهم من الأساتذة وبعد جلسة قصيرة مع المذكورين صلينا الظهر والعصر جمع تقديم واستأذنا للعودة إلى شيكاغو.
- النتيجة الثالثة: أن إقامة مثل هذه الدورة أنفع من بعث وعاظ ومرشدين يمرون بالمساجد والتجمعات لإلقاء محاضرات ثم العودة بتقارير مفصلة عما قاموا به وعن حالة الناس وتقديم الاقتراحات، إلا إذا كان الهدف منها جمع المعلومات للاستفادة منها في التخطيط للدعوة مستقبلا فذاك أمر مهم جدا.
أحب العمل إلى الله أدومه:
وأنفع من ذلك كله فتح مدارس في المدن التي يوجد بها تجمعات إسلامية لتعليم المسلمين أمور دينهم ضمن مناهج معدة لأهداف محددة، وعلى المؤسسات الإسلامية التي نصبت نفسها للدعوة إلى الله أن تفكر في هذا الأمر، ولست أغض من بعض الدعاة والمرشدين وإقامة دورات مماثلة لإقامة الحجة وأداء المستطاع ولكني أذكر ما هو أنفع وأدوم، وأحب لعمل الله أدومه وإن قل، عدنا إلى الفندق وعاد الأخوان إلى منزليهما.
صلاة الجمعة في مسجد السلام:(19/458)
وفي صباح يوم الجمعة الموافق 10/8/1398هـ ذهبنا إلى مسجد السلام في شيكاغو الذي يجتمع فيه السوريون والفلسطنيون لأداء الصلوات جماعة، لا سيما يوم الجمعة ويومي الإجازة الرسمية: السبت والأحد، وهو عبارة عن قاعة واسعة نسبيا في الدور الثاني من العمارة يوجد في مؤخرتها ستارة يصلي وراءها النساء وعندما دخلنا المسجد وجدنا شيخا مصريا أزهريا يتحدث إلى الحاضرين أحاديث دينية قبل صلاة الجمعة فجلسنا نسمع حديثه وكان باللغة العربية.
وعندما حان وقت الصلاة أذن المؤذن وخطب أخونا الأزهر باللغة الإنجليزية وصلى بنا، وبعد الصلاة طلب منا أن نقدم أنفسنا للمصلين وأن نقدم لهم نصيحة فقام زميلي الدكتور بيلو وعرف الناس بنا وبمهمتنا ثم طلب الأخ الأزهري مني أن ألقي كلمة في الحاضرين، فقلت إذا أمكن أن يحصل اجتماع بعد المغرب هنا لإلقاء درس فقد يكون أفضل حتى لا يمل الناس إذ قد سمعوا درسا قبل الصلاة ثم خطبتي الجمعة والوقت وقت غداء وراحة فألح أخونا الأزهري على إلقاء نصيحة الآن فاستعنت بالله وألقيت كلمة مختصرة تضمنت تهنئة المصلين بحرصهم على أداء الواجبات والفرائض والحث على الاستمرار في ذلك والابتعاد عن المفاسد والمحرمات وأن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وأن هذه المكاره وهذه الشهوات ماثلة في هذا البلد أكثر من بلادنا ولذلك فعلينا أن نضاعف جهودنا للتمسك بديننا في هذه الأجواء الخانقة بالنسبة للمسلم.
وبعد الفراغ من ذلك تعارفنا مع الإخوة الحاضرين وعرفنا الأخ الأزهري بنفسه واسمه أحمد زكي حماد وهو مبعوث من وزارة الأوقاف المصرية للعمل مع مسلمي شيكاغو.
وكان يعمل مع الشيخ محمد الغزالي في وزارة الأوقاف المصرية قبل ذلك، ولقد وجدنا في الأخ أحمد زكي الرجل المؤمن الصادق ذا العلم والخلق الفاضل والتحمس للدعوة إلى الله.(19/459)
مضت له سنتان ودخل في السنة الثالثة في هذه المدينة وهو الذي ترجم حدثي إلى اللغة الإنجليزية للحاضرين ولم يكن قبل يتكلم اللغة الإنجليزية وإنما تعلمها في هذه المدة وهو يمارس الدعوة إلى الله واتضح لنا أن له نشاطا في الدعوة.
وعدنا الأخ أحمد زكي أن يزورنا في الفندق هو وبعض المسلمين الذين يعمل معهم فودعناه وودعنا الإخوة الآخرين وعدنا إلى الفندق.
مسجد:
وفي يوم السبت 10/8/98 زرنا مسجدا آخر يشرف عليه بعض المسلمين الباكستانيين المقيمين في شيكاغو، ويعتبر مأوى لجماعة التبليغ الذين يفدون إلى شيكاغو والتقينا ببعضهم وهم على وشك السفر إلى جهة أخرى، وتوجد في المسجد مكتبة صغيرة للمطالعة وفيها كتب للبيع باللغة العربية والإنجليزية والأردية ولم نجد المسئولين عن المسجد فصلينا مع الحاضرين الظهر وحصلت مناقشات خفيفة مع بعضهم ثم عدنا إلى الفندق.
جماعة دار الأرقم:
وفي المساء زارنا الأخ أحمد زكي مع بعض المسلمين السود الذين فارقوا جماعة ولس الدين وتجمعوا في مقر خاص بهم سموه دار الأرقم، وهم ينشدون الحق ويريدون تطبيق الكتاب والسنة وينتقدون أفكار اليجا محمد وأفكار ولده ولس الدين التي يرون أنها تخالف تعاليم الإسلام، وكانت أسئلتهم تدور حول موضوع الجماعات الإسلامية والموقف الذي يجب على المؤمن تجاهها.
وأجيبوا بأن الميزان هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فأي جماعة تهتدي بهما وجبت موالاتها وأي جماعة خالفتهما فليس لها علينا إلا أن ندعو لها بالتوفيق والهداية وأن ندعوها إلى تصحيح أفكارها على ضوء ذلك.
كما حثوا على طلب العلم والجد فيه لا سيما تعلم اللغة العربية التي تعتبر المفتاح الأساسي لفهم الإسلام من مصدريه العظيمين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(19/460)
وبين لهم بعض مبادئ الإسلام الأساسية، كالشهادتين وما تضمنتاه من استسلام لله واتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم.
عمل مثمر:
وظهر لنا من الحديث معهم أثر تعليم الأخ محمد زكي لهم فقد كان بعضهم يحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم مع إجادة تلاوته وطلبوا منا أن نبلغ المسئولين في الجامعة الإسلامية رجاءهم تخصيص ثلاث منح أو أربع فوعدناهم بذلك وقد بلغنا فعلا.
كما أبدى الأخ أحمد زكي حاجته إلى إمداده ببعض المراجع الإسلامية في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة للرجوع إليها عند الحاجة لعدم وجود مكتبة عامة في شيكاغو بل لا توجد مكتبات خاصة مزودة بمثل هذه المراجع الضرورية، وهكذا أبدى غيره من العلماء الذين وجدناهم رغبتهم في وجود مراجع يستفيدون منها.
وعلى الجامعات السعودية والرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ورابطة العالم الإسلامي ووزارات الأوقاف والشئون الإسلامية في العالم الإسلامي أن تمد هؤلاء الدعاة بالمراجع المفيدة لا سيما وزارة الأوقاف الكويتية والأزهر وغيرها، فالذي لا يغزو بنفسه عليه أن يجهز الغازين في سبيل الله.
أعلى عمارة في العالم:
وفي هذا اليوم كنا صعدنا إلى آخر دور يصل إليه الزوار في أعلى عمارة في العالم في هذه المدينة والعمارة الثانية كانت في نيويورك كما مضى أشرفنا على المدينة كلها ورأينا بجانب العمارة المذكورة مبنى كبيرا تمتلكه أسرة روزفليت (ولم أدخل هذا المبنى لأقارن بينه وبين فندق روزفليت إلا أن مظهره يوحي بالبون الشاسع بينهما) وذكروا أن الأسرة المذكورة شيدت هذا المبنى من أرباح الخمر الذي كان في ذلك الوقت ممنوعا قانونيا وكانت الأسرة تتاجر به بطريق غير مشروع فاكتسبت أموالا كثيرة بسبب ذلك وشيدت هذا المبنى ـ ولعلها اشترت بها المجد الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
الحبر اليهودي في مسجد البلاليين:(19/461)
وفي يوم الأحد 11/8/1398هـ لم يتمكن الأخ صلاح الدين من المجيء إلينا لمشاركته في اجتماع البلاليين في مسجدهم الذي حضره أحد أحبار اليهود وألقى فيهم محاضرة ضمنها وحدة الأديان الثلاثة ودعا أهلها إلى الإخاء والتعاون، ونبذ العداوة والشحناء (ولعله بذلك يرد على كلمتي التي ألقيتها في البلاليين وكان مما تضمنته نفي صحة أي دين سوى دين الإسلام) .
رحلة نهرية:
وجاءنا الأخ محمد نور مساء لنقوم بجولة في بحيرة شيكاغو على أحد المراكب النهرية السياحية فذهبنا إلى مكتب إحدى الشركات التي تتولى القيام بذلك.
قارب صغير ترتفع له جميع الجسور:
وبينما كنا ننتظر دورنا سمعنا صفارات إنذار ورأينا الجسر القريب منا الذي تعبر عليه السيارات والمشاة يرتفع فأخذنا ننظر يمينا وشمالا في النهر حيث كنا نتوقع أن تمر سفينة كبيرة لا تتمكن من العبور إلا برفع الجسر كما رأينا بقية الجسور ترتفع واحدا بعد الآخر ولم نر ما كنا نتوقع أن نراه فسألنا: لماذا رفعت هذه الجسور إلى قارب صغير جدا كان يمر بجانبنا قالوا لأجل هذا القارب فدهشنا لذلك: يتوقف سير الناس وسير السيارات وترتفع هذه الجسور كلها من أجل هذا القارب؟ وكان السبب أن عمود شراعه (وهو كالعصا الكبيرة) طويل بالنسبة للجسور وليس في القارب إلا سائقه؟.
قالوا: نعم إن هذا الرجال أحد أبناء الشعب يدفع ضريبة كغيره، وقاربه يحمل رخصة قانونية فمن حقه أن يعبر وأن يقف الناس والسيارات وترفع الجسور من أجل عموده.(19/462)
قلت في نفسي: لو كان في بعض بلدان الشرق لألزموه بقطع المسافة الزائدة في عمود شراعه التي تسببت في كل هذه المشاكل، أو لأهمل وضويق حتى يفعل ذلك بنفسه، وجاء دورنا فصعدنا على المركب الذي أخذ قائده يدور به في الأنهر المتفرعة عن بحيرة شيكاغو، وفي أطراف البحيرة نفسها، ورأينا ناسا كثيرين يقفون على الميناء وسفنا كبيرة نسبيا واقفة كذلك، ذكر أنها ستبحر بهؤلاء الناس إلى المحيط الأطلسي ومن ثم إلى الهند، وبعض تلك البواخر هندية.
نظام وفوضى:
وفي مركبنا رأينا مالا نرضاه من بعض الحيوانات البشرية التي كنا رأيناها عند صعودنا المركب ملنزمة بنظام الطابور وكأنها مؤدبة، لقد رأيناها وهي في أحط درجات الفوضى وهكذا طبيعة أهل الغرب ترى مظاهر منظمة مرتبة وترى معاملاتهم القانونية سريعة ومهذبة ولكنك في نفس الوقت تراهم يتصرفون في العلاقات بين الجنسين تصرف المجانين والحيوانات بدون أيما خجل واحترام لأنفسهم أو لغيرهم.
وبعد ساعة من إقلاع المركب بنا عدنا إلى المكان الذي انطلقنا منه وكان ذلك في تمام الساعة السادسة مساء.(19/463)
عدنا إلى الفندق مشيا على الأقدام، والمسافة كانت طويلة لنرى الأسواق، لأننا لم نكن نتمكن من التجول فيها لضيق الوقت، وكان يوم عطلة، وفي واجهة بعض الدكاكين رأى الأخ محمد نور إعلانا دينيا فقرأه وإذا الرف المجاور مملوء بأعداد من مجلة نصرانية ذات ورق صقيل ناعم وطباعة أنيقة بحروف واضحة توزع مجانا وفيها الدعوة إلى النصرانية وبيان محاسنها، وأخبار عالمية عن الدين المسيحي وغير ذلك، وكان الأخ محمد نور قد أخذ أعدادا سابقة فأخذ أيضا من الأعداد المذكورة، وذكر أنها تتحدث عن الإسلام ومزاحمة المسيحية وتدعو إلى الجد والحذر، ولكن عامة الناس غير القسس والرهبان والمهتمين بالأديان مشغولون بالدولار ومستلزماته، ولا يعد الدين المسيحي يستحوذ على قلوبهم وإنما المتحمس له يكتفي بالانتساب إليه وبحضور الكنيسة دقائق يوم الأحد.
وسيأتي حديث عن إخفاق بعض الكنائس إن شاء الله.
إلى لوس أنجلس
من شيكاغو إلى لوس أنجلس:
وفي يوم الاثنين الموافق 12/8/1398 هـ غادرنا مدينة شيكاغو إلى المطار، وكان الأخ أحمد زكي هو الذي جاء إلينا في الفندق وأوصلنا إلى المطار.
وكالعادة وجدنا في باب مبنى المطار الموظف المختص الذي أخذ حقائبنا دون أن نتعب في إيصالها إلى داخل القاعة، وبعد الإنهاء الخاص بالتذاكر ودعنا الأخ أحمد زكي ودخلنا إلى الطائرة فأخذنا مقاعدنا، وكان الإقلاع في الساعة الواحدة والدقيقة العاشرة بعد الظهر وسط سحاب كثيف ورذاذ من الماء.
عمل دؤب لاستصلاح الأراضي البور:(19/464)
وبعد أن قطعنا مسافة صحا الجو وأخذت أنظر كعادتي إلى الأرض فرأيتها خضراء كما رأيتها كذلك من أنديانا إلى ديترويت، ثم من ديترويت إلى شيكاغو وبها أنهار جارية، إلا أنها في الجهة الغربية بدأت تظهر أرض جرداء يتخللها قطع بدأ استصلاحها، ورأيت آلات زراعية في كثير من الأماكن وبقربها قطع من الأراضي خضراء تحيط بها أراضي شاسعة غبراء، والظاهر أن الأمركيين عازمون على جعل بلادهم كلها مزرعة حتى تلك الأماكن القاحلة.
وكنت انظر إلى هذا الجد في العمل وأتمنى أن أرى في بلاد المسلمين التي بدأ العمل في قطع أشجار بساتيننا القديمة فضلا عن أراضيها الواسعة الصالحة للزراعة التي أهملت وكانت لو استطاعت ستدر أرزاقا على أهل البلاد وستصدر الزائد للبلاد المجاورة، مع وفرة المياه وخصوبة التربة في كثير منها، كالسودان ومصر وغيرها.
وقلت في نفسي: الإمكانيات المادية متوفرة في بعض بلداننا كالمملكة العربية السعودية ودول الخليج والإمكانيات البشرية متوفرة في بعضها كمصر، والأراضي الخصبة كالمياه ذات المياه المتدفقة متوفرة كذلك، كما في مصر والسودان والعراق وغيره، فلماذا لا يحصل تنسيق بين هذه البلدان لجعل أراضيها زراعية تكفي أهلها - على الأقل - وتغنيهم عن الاستيراد؟
وهل ترغبون في لحم الكلاب:
وعندما مرت المضيفة المختصة على الركاب لمعرفة ما يرغبون من الطعام أخذ زميلي يتفاهم معها وبين لها الأطعمة التي لا نرغبها ومنها: لحم الخنزير فقالت له: وهل ترغبون لحم الكلاب فرد عليها مستنكرا مبينا أنه لا فرق بين كلب وخنزير عندنا لأننا مسلمون فقلت للزميل: لعلها تمزح فقال بل هي جادة وهذه بطاقة الطعام مسجل عليها فيها من ضمن اللحوم لحم الكلاب.
وبعد أخذ ورد حصلنا على مطلوبنا، وكان السبب في ذلك أنه لم يتم التنبيه على الشركة في وقت مبكر بالنسبة للطعام.(19/465)
وهبطت بنا الطائرة في مطار مدينة لوس أنجلس في تمام الساعة الخامسة والدقيقة العاشرة بتوقيت شيكاغو، أي أن مدة الطيران كانت أربع ساعات.
ذكر المدينة هز قلوب المسلمين رجالا ونساء:
وعند خروجنا من ممر العبور الذي يصل بين الطائرة وقاعة المطار مباشرة قابلنا الأخ الشيخ تاج الدين شعيب الغاني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من كلية الدعوة وأصول الدين قبل ثلاث سنوات، وهو مبعوث من قبل الرئاسة العامة لإدارات البحوث الإسلامية والإفتاء والدعوة والإرشاد وكان من الطلبة الذين تلقوا تعليمهم على يدي في المعهد المتوسط والثانوي في الجامعة في العقيدة والتفسير والفقه، كما كان من طلبة القسم الداخلي الذين أشرفت عليهم عندما كنت مسئولا عن شئون الطلاب في الجامعة، وهو من الطلبة النشطين في دراستهم في الجامعة.
وكان في الأصل يعمل مع البلاليين في مركزهم الرئيسي في شيكاغو ولكن زعيمهم طلب منه أن ينتقل إلى مركزهم في لوس أنجلس ففعل وكان معه في استقبالنا بعض أعضاء البلاليين ومعهم نساء وأطفال اشتاقوا للقائنا عندما علموا أننا من المدينة المنورة وللمدينة في نفوس المسلمين شأن كبير وعواطفهم نحوها ملتهبة فعلى أهل المدينة أن يؤدوا واجبهم في استغلال عواطفهم للسير بها إلى الله قدوة وتعليما ودعوة.
الفندق في هوليود ومفاتيحه أرقام سرية:
وكان الأخ تاج الدين قد حجز لنا في فندق في أنظف منطقة وأقذرها كذلك: أنظف منطقة من حيث الشوارع والهدوء وغيرها وأقذر منطقة، لأنها في هوليود الشهيرة التي تضم الممثلين والممثلات الذين يصدرون من هنا أسوأ التمثيليات وأقذرها ولقد رأينا ذلك في التلفزيون وفي الصور المعلنة في الشوارع عن الأفلام السينمائية التي تعرض.(19/466)
وصلنا إلى الفندق وبعد الإجراءات اللازمة وهي سهلة وسريعة طلب منا مدير الفندق أن نختار رقما سريا نفتح به باب حجرتنا عوضا عن مفاتيح اليد العادية فاخترت رقما وسجله الخازن الآلي (كمبيوتر) وعندما صعدنا إلى الحجرة وجدنا بها أرقاما سرية شبيهة بأرقام الحقائب اليدوية ففتحنا الباب بالرقم السري المتفق عليه فانفتح.
وذهب الأخ تاج الدين إلى منزله ليعود علينا صباح غد الثلاثاء ومعه السيارة التي تم استئجارها لنا من بعض الشركات.
فن وضجة:
وفي يوم الثلاثاء 13/8/1398هـ جاء إلينا الأخ تاج الدين مبكرا للقيام بجولة في المدينة، وكنا سمعنا ضجة حول طالب من بعض البلدان الإسلامية ذوي الثراء اشترى مقصورة كبيرة في أغنى أحياء المدينة بثلاثة ملايين دولار، وأن على جدار حائط المقصورة تماثيل ذكور وإناث، وأن الطالب المذكور أبرم عقدا مع بعض الفنيين بالقيام بتجميل التماثيل المذكورة بالدهون وأسوأ ما عمله هو تجسيم أعضاء الذكورة والأنوثة وأنه عمل معه مقابلة في التلفزيون وسئل عن ذلك فقال إن ذلك فن إسلامي، وفي الإسلام فن كغيره وأن المسيحيين استنكروا ذلك، وأخذ اليهود ينشرون ذلك في جميع أنحاء أجهزة الإعلام التي يسيطرون عليها.(19/467)
سألنا الأخ تاج الدين شعيب عن ذلك فقال: نعم ذلك حصل وإذا شئتم أن تروا بأنفسكم العمارة فلنذهب الآن فذهبنا ونزلنا عند المقصورة فرأينا لوحة على بابها الرئيسي كتب عليها اسم المشتري باللغة العربية وكتبت الآية الكريمة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} وأخذنا نتجول حول الحائط الخارجي فوجدت بعض الناس وهم يصورون العمارة والتماثيل، والتماثيل نصبت على جدار داخلي غير الجدار الخارجي وهي كما ذكر، ولقد أفزعنا ذلك المنظر الذي جعل الناس يفدون ليروه ويصوروه وينشروه وأخذت أجهزة الإعلام كذلك تكرره على أسماع الناس وأبصارهم وتعلق عليه، مما جعل المسلمين ولا سيما العرب منهم يطأطئون رؤوسهم خجلا مما حصل، وعندنا رقم المقصورة واسم صاحبها ولو كان الأمر مستورا لما أشرت إليه أصلا ولكنه معروف مشهور ويعتبر حديث الناس، ومعروف أن التماثيل محرمة في الدين الإسلامي الحنيف، فكيف إذا كانت هذه التماثيل تحمل مناظر خلقية سيئة.
أليس كان الأجدر بطلبة الشعوب الإسلامية أن يكونوا قدوة للناس يدعونهم إلى الإسلام بسلوكهم بدلا من تنفيرهم بالسلوك السيء، أليس الأجدر بهؤلاء أن ينفقوا أموالهم الفائضة على بعض المراكز والمدارس الإسلامية التي تضطر إلى الإعانات المالية لنشر الإسلام فلا تجدها؟.
ألا فيلتق الله كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وليربأ بنفسه عن سلوك ينفر الناس من الإسلام، وليراقب المسئولون عن الشعوب الإسلامية أبناء شعوبهم في الداخل والخارج فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
وعمل الفرد في بلاد الغرب لا ينسب إليه وحده، ولا إلى شعبه وحده ولا إلى جنسه وحده، وإنما ينسب أول ما ينسب إلى دينه، وكم كان فرح اليهود وسرورهم بهذا الأمر وكم عملوا له من تمثيليات ولم يبق فرد يقرأ ويسمع الإذاعة أو يشاهد التلفزيون إلا عرف ذلك.(19/468)
ولقد شكا الأخ تاج الدين من تأخر الرواتب من جهة ومن قلة الراتب بالنسبة للحالة الاقتصادية في البلاد من جهة أخرى.
فالراتب ثمانمائة دولار منه أجرة المنزل وتكاليف الكهرباء والهاتف والنقل والملابس، وهناك لا بد من التأمين الصحي وإلا فإن الفرد لا يقدر على تحمل مصاريف الاستشفاء إذا أصيب بمرض، وإني لأهيب بالمؤسسات الإسلامية المعنية بالدعوة أن تنظر في هذا الأمر وأن تراعي الحالة المعيشية في بلاد الغرب وفي اليابان أيضا وتحدد للداعية إلى الله ماهية تكفيه ولا تجعله يظهر أمام من يدعوهم محتاجا إليهم فإن ذلك يقلل من شأنه عندهم.
على الجانب الشرقي للمحيط الهادي:
وبعد جولة في المدينة عدنا إلى الفندق وعاد الأخ تاج الدين إلى منزله وفي صباح يوم الأربعاء 14/8/1398 هـ جاء الأخ تاج الدين مبكرا حسب طلبنا إذ رغبنا أن نذهب لنقف على ضفة المحيط الهادي الشرقية في غرب مدينة لوس أنجلس ولهذا المحيط في نفسي اشتياق لأراه من الضفتين الشرقية في غرب أمريكا والغربية في شرق اليابان ولأحلق فوقه بالطائرة أو أخوضه بالباخرة.
ذهبنا إلى المحيط الهادي ووقفنا على جانبه الشرقي ورأينا أمواجه الهادرة التي تثب كل واحدة على أختها بتتابع عجيب وكان اشتياقي لهذا المحيط وإعجابي به قديما منذ الصغر عندما كنت طالبا في معهد سامطة العلمي قبل ما يزيد عن ثلاث وعشرين سنة في دروس الجغرافيا التي لم تكفني الخريطة العالمية المسطحة، بل ذهبت إلى أستاذ الجغرافيا في منزله ليطلعني على صورة الكرة الأرضية التي لم يكن حينها يجرؤ على إحضارها في الفصل خشية من بعض المتشددين من الطلبة الذين لم يكونوا يرضون أن توصف الأرض بأنها كروية.(19/469)
وعندما رأيت الكرة وتأملت في موقع المحيط الهادي منها قلت للأستاذ إن المحيط يقع في أسفل الأرض وكيف يبقى هكذا دون أن ينكفئ؟ فضحك الأستاذ وقال: لو ذهبت إلى المحيط الهادي لرأيته فوق سطح الأرض وظننت أن موقعنا نحن في أسفل الأرض، فالعلو والسفل أمر نسبي، وفهمت هذا المعنى بعد ذلك من الرسالة العرشية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
إذن المحيط الهادي ذكريات خيالية قديمة في نفسي، وأراد الله أن يحقق ذلك فعلا فله الحمد والمنة، وسيأتي الحوار الذي جرى بيني وبينه شعرا.
حقوق الإنسان والمناظر الثلاثة
وبعد تأمل طويل في أمواج المحيط وفي سعته التي نراها وتخيل لسعته الحقيقية رأينا ثلاثة مناظر كل منظر منها جعلني أتساءل عن حقوق الإنسان التي ينادي بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن وكثير من دول العالم، وأتذكر كيف طبقها الولاة المسلمون فعلا في جميع المجالات.
المنظر الأول:
نظرت عن يساري فوجدت شخصين نائمين تحت مظلة مراقبة على جانب البحر يفترشان الرمل وثيابهما ممزقة متسخة وحالتهما سيئة فقلت للأخوين الزميل وتاج الدين شعيب: لنبعد عن هذين النائمين خشية إزعاجهما من جهة وخشية أن يكونا سكرانين أو حراميين فيعتديان علينا من جهة أخرى فابتعدنا عنهما.
المنظر الثاني:(19/470)
نظرنا إلى اليمين فرأينا شيخا كبيرا وامرأة كبيرة أيضا لا يقل عمرهما عن سبعين سنة وهما يتحسسان بجانب البحر في الأرض كل منهما في يده عصا وفي أسفلها آلة وفي أذن كل منهما سماعة مرتبطة بالآلة وهما جادان في البحث يتحسس أحدهما ثم يأخذ يبحث في الأرض فيأخذ شيئا ويضعه في جيبه، وكان الرجل أنشط من المرأة فقلت: ماذا يفعل هذان؟ فقال زميلي الدكتور: لا ندري ولكن يمكن أن نقترب من الرجل ونسأله فاقترب الدكتور والأخ تاج الدين منه وسألاه عماذا يفعل فوقف وأجابهما بهدوء إننا نبحث عن النقود المعدنية التي يرميها البحر ونذهب بها إلى البنك لنأخذ قيمتها ونقتات بها ولنا مدة طويلة ونحن نفعل ذلك واتضح أن في أسفل العصا آلة تشير إلى وجود الحديد.
المنظر الثالث:
رأينا شابا أسودا لا يزيد عمره عن عشرين سنة وهو يحمل فراشه تحت إبطه ويمر بأوعية القمامة التي يرمي الناس فيها فضلات أكلهم أو علب شرابهم وكان يضع فراشه عند كل وعاء ويدخل يده ويحرك ما في داخل الوعاء ويأخذ منه أشياء ويضعها في كيس معه. ورأيناه يرفع يده أيضا إلى فيه والظاهر أنه كان يضع بعض الفضلات في كيسه وبعضها في فمه يفطر بها.
والظاهر أنه يفعل ذلك يوميا، ينام على جانب المحيط ليلا وإذا أصبح ذهب يلتمس رزقه من القمامة، لأن سيره كان عاديا جدا ووقوفه عند كل وعاء عادي كذلك وكيفية تفتيشه في القمامة.
وقصة الزوجين العجوزين بالذات ذكرتني بقصة اليهودي العجوز الذي رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتكفف لينفق على نفسه فأمر بإجراء رزقه وقال: أخذنا منه الجزية في حال قوته وتركناه في حال ضعفه فلو كانت حقوق الإنسان المنادى بها في تلك البلاد مطبقة لأمن رزقهما إما بيت مال الدولة دون مقابل عمل لضعفهما وإما بإيجاد عمل خفيف يناسب شيخوختهما.(19/471)
وذلك الشاب الزنجي القادر على العمل دون شك كان يجب أن يعنى به في بعض مراكز التدريب المهني حتى يؤهل لعمل ويوظف في العمل المناسب، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله وهو قوي، إذ أمره أن يحتطب ويبيع ففعل واكتفى عن المسألة.
ولكن الذي يرى الزنوج في حي هارلم وفي بعض المدن الأمريكية لا يستغرب ذلك، بل يعده أمرا طبيعيا عند قوم ربيت نفوسهم على الأنانية الرأسمالية الجشعة والأثرة الفردية المسماة بالحرية التي حطمت الصلات الإنسانية العادلة ثم أخذنا جولة طويلة في المدينة.
في معهد الدراسات الإسلامية:
عدنا بعدها إلى زيارة معهد الدراسات الإسلامية الذي تم إنشاؤه عام 1976م وهو يتكون الآن من مدرستين: مدرسة قرطبة وهي تعنى بتعليم أولاد المسلمين هناك المواد الإسلامية، وبجانبها المواد التي تعتبر رسمية في المدارس الأخرى، ليكون الطالب مؤهلا لدخول الجامعات الأمريكية.
وهي تشمل الروضة والابتدائي والإعدادي.
ثم مركز تعليم اللغة الإنجليزية الذي يعنى بتعليم الطالبات المسلمات الوافدات اللغة الإنجليزية مع الحفاظ على سلوكهن الإسلامي، وتدير المركز امرأة مسلمة، كما أن المعلمات مسلمات أيضا.
ولمدرسة قرطبة مبنى مستقل، وللمركز مبنى مستقل كذلك وهما ضيقان لا يتسعان ولكنهم مضطرون للبقاء فيهما لعدم الإمكانات المادية، ويظهر من التعريف الرسمي بالمعهد أن المركز ذو شعبتين شعبة للإناث وشعبة للذكور.
ويشارك بالتدريس بمدرسة قرطبة بعض الطلبة المسلمين حيث يلقون بعض الدروس في أوقات فراغهم.
وقد اجتمعنا بأعضاء المعهد وعلى رأسهم رئيس مجلس الإدارة الأستاذ سعد الدين الغزاوي وهو عراقي الجنسية وهو شاب صالح يتوقد حماسا للدعوة حريص على هداية الناس.(19/472)
وقد صلينا في المدرسة الظهر مع المدرسين والطلبة وبعد ذلك شرح لنا حال المعهد والصعوبات التي تواجهه فهو قائم على تبرعات المحسنين من خارج أمريكا ومن داخلها ويسهم في المساعدة اتحاد الطلبة المسلمين.
وأهم ما يعترضهم عدم اتساع المباني للطلبة والمكاتب الإدارية لذلك حاولوا شراء مبنى كبير يتسع للمشروعات التي ينوون إقامتها وهي حسب المخطط: إعدادي، ابتدائي، مدارس صيفية رياض أطفال معهد اللغة الإنجليزية، الكلية الإسلامية وهي ذات شعبتين: الدراسات الإسلامية، الدراسات العربية.
وقد وجد مبنى كبير جدا وأصله كنيسة كسدت بضاعتها فاضطر المسئولون عنها إلى بيعها وإنها لفرصة في وسط المدينة يرفع فيها ذكر الله الحق العليم والأذان، وقيمة المبنى زهيدة جدا إنها ثلاثة ملايين دولار فقط وهم الآن في مساومة مع أصحاب المبنى وقد وعدوا ببعض المساعدات ولكن إلى الآن لم يتلقوا شيئا يذكر.
ولقد سَرَّنا ما يقومون به من تعليم أبناء المسلمين علما وعملا في جو كفر مظلم ومثل هذه المشاريع هي الجديرة بالمساعدة لأنها ثابتة ونفعها واضح وقد وعدوا بمساعدة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيرها وسمحت لهم وزارة الداخلية في المملكة بجمع تبرعات. ونرى أن المعهد من المؤسسات التي تتحقق بها بعض أهداف الجامعة الإسلامية ومثيلاتها فمساعدة الجامعة له أمر مطلوب وتركهم بدون مساعدة قد يقضي على نشاطهم وهم على ضآلة إمكاناتهم جادون في التعليم بكل الوسائل عن طريق التدريس في الفصل والكتاب المبسط والشريط المسجل وغير ذلك.
وقد أرفق بالتقرير المقدم إلى الجامعة الإسلامية بعض الوثائق المتعلقة بهذا المعهد ومشاريعه [2] .(19/473)
وعلى من يريد أن يضع ماله في سبيل الله أن يسهم في مساعدة هذا المعهد وأمثاله، وعلى من يريد أن يسهم في رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله بدلا من ألوهية المسيح والتثليث الإشراكي أن يسهم في شراء ذلك المبنى ليتحول إلى بيت من بيوت الله في تلك البلاد الكافرة.
وقد زرنا المركز الإسلامي في لوس أنجلس، ووجدنا بعض المسئولين في المركز من الجزائر ومصر وغيرها، وهو يتكون من مسجد ومكتبة، ومكاتب إدارية، فاستقبلنا أحد موظفي المكتب وهو جزائري، وبمجرد وصولنا وضع يديه على جانبي رأسه يشكو بشدة من شدة التعب الذي يعانيه من خدمة الإسلام والمسلمين وفصل تلك الخدمة ببعض الأمور، وأهمها دفن الموتى المسلمين ومتابعة إجراءاتهم، وكثرة اتصال المسلمين به للسؤال عن مواعيد الصلاة، وتعيين أول شهر رمضان وكل من عيد الفطر وعيد الأضحى، وليلة النصف من شعبان والسابع والعشرين من شهر رجب واتضح لنا أن ذلك لتهويل العمل الذي يقوم به وإشعار الزائرين من الشرق أن المركز جاد في عمله للإسلام لينقل ذلك إلى الجهات المسؤولة من المؤسسات الإسلامية، أو حكام الشعوب الإسلامية للحصول على المساعدات المالية.
وبعد الخروج من المركز المذكور بين لنا بعض الإخوة الذين نثق فيهم أن أعضاء هذا المركز يعملون مع المنظمة الماسونية علناً دون خجل وأنه في الاحتفالات التي تقام في مسجد المركز يختلط الشبان بالشابات وهن شبه عرايا، وأن المسجد المذكور يعتبر من أماكن اللقاءات السيئة، كما ذكروا أن رئيس المركز السابق كان يفتي علنا بأنه ما دام الشاب بعيدا عن أهله ووطنه ولا يقدر على الزواج فلا ضير عليه في الإسلام أن يصادق شابة في بلاد الغربة.
لذلك حملنا الإخوة المسئولية في التحذير من هذا المركز وعدم مد يد العون له لأن إعانته تعتبر إعانة لقوم يهدمون الإسلام باسم الإسلام.
في القبة السماوية:(19/474)
وفي يوم الخميس 15/8/1398هـ زرنا القبة السماوية التي تحتوي على أفلام عن الكواكب السماوية والأرض، وعلى مكبرات النظر المباشر إلى ما يمكن رؤيته بوضوح من الكواكب.
وكان الفيلم الذي عرض في تلك الليلة عن نظريات بعض كتاب الغرب عن الحياة، مثل نظرية دارون وغيره، كما احتوى على عرض لبعض الصور للنجوم والكواكب، وكان الشارح يعلق على كل نظرية وأنها مجرد تكهنات قابلة للبحث، هكذا ترجم لي الأخ تاج الدين شعيب.
وكان تعليقي على الموضع بما يلي:
نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى من يشرح لنا معنى الحياة ولا كيفية نشأتها فقد وصلنا إليها بسهولة ومن مصدر لا يوجد غيره مطلقا في هذا الباب.
فقد علمنا أن الله هو الخالق سبحانه فهو خالق كل شيء ولا خالق سواه وعلمنا أنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون وأنه خلق أبانا آدم من تراب، وخلق منه زوجه حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء والكون كله خلقه وملكه خلقه بإحكام لا خلل فيه.
ومصدرنا في ذلك هو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بلغناه رسل الله عليهم الصلاة والسلام من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا زال غيرنا ممن لا يؤمن بالوحي يتخبطون في ظلام دامس كلما أظهروا للناس نظرية أبطلوها بنظرية تالية هذا من جهة ومن جهة أخرى وقد أعجبني موقف المذيع الذي كان يشرح للناس تلك النظريات ويذكر أنها ليست نهائية وإنما قابلة للبحث وهو لا يحكي وجهة نظره، وإنما يحكي وجهة نظر علماء الغرب في هذه الأيام فهم يذكرون نظرياتهم ولكنهم يتواضعون – نسبيا - فلا يجزمون بأنها علمية نهائية غير قابلة للبحث.
ومع ذلك فإن أذيال أولئك الغربيين من أنصاف متعلمينا وأرباعهم يعلمون أبناء المسلمين في مدارسنا أن تلك النظريات علمية غير قابلة للبحث، ولا زالت نظرية دارون تسود بها صفحات بعض الكتب المقررة في بعض البلدان الإسلامية إلى الآن.(19/475)
وهذا يذكرني بقول الشاعر الصوفي:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتمى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فقد تحمس أرباع متعلمينا لنظريات أسيادهم أكثر من أولئك السادة.
في مسجد البلاليين:
وبعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم المذكور ذهبنا إلى مسجد البلاليين الذي يعمل به الأخ تاج الدين شعيب، وكنا على موعد معهم لإلقاء حديث فيهم ثم الإجابة على أسئلتهم.
وكان اجتماعهم قبل صلاة المغرب بساعة تقريبا تم فيه تعريف تاج الدين بنا للحاضرين. أعقب ذلك تعريف الدكتور محمد بيلو الحاضرين بمهمتنا ومشاعرنا نحو المسلمين في البلدان التي زرت ثم إلقاء الحديث الرئيسي الذي تضمن شرح معنى الإسلام العام وأنه دين الأنبياء والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معنى الخلافة التي خلق الله البشر من أجلها، وكيف تم تحقيقها في الأرض في تاريخ البشرية الطويل.
تم إيضاح معنى الإسلام بمعناه الخاص وهو دين الله الأخير بتفاصيله التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في آخر كتاب نزل مهيمنا على كل ما عداه، وانقسام الناس حول هذا الدين وواجب الأمة الإسلامية التي أخرجها الله للناس لتهديهم إلى صراط الله مستقيم، وأن فهم هذا الدين لا يكون إلا عن طريق العلم به من كتاب الله وسنة رسوله وعلى أيدي علماء متخصصين فيه بذلوا جهدهم في تحصيله، وليس كل وليس كل من ادعى فهم هذا الدين بصادق في دعواه ما لم يأخذه عن طريق السلف الصالح.
وأن أقرب الناس إلى فهمه هم الذين أخذوه كذلك باللغة العربية التي هي المفتاح الأساسي لفهم الوحيين العربيين.(19/476)
وأن الاكتفاء بنتف الترجمة ليس هو السبيل للفهم الصحيح للإسلام، وحان موعد صلاة المغرب فقطع الحديث وأقيمت الصلاة، كما شرح لهم بعد ذلك أن الناس سواسية كلهم لآدم لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى: إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وضربت لهم أمثلة موضحة لذلك بأن الإنسان لم يختر أباه ولا أمه ولم يختر الأرض التي ولد عليها، ولا اللون الذي خلق عليه ولذلك فلا فضل له في شيء من ذلك حتى يفتخر به على سواه من بني البشر، وإنما اختار العقيدة التي آمن بها والسلوك الذي صار عليه فهو الذي يجدر به أن يعتز به لا بسواه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وغير ذلك من المعاني التي اقتضاها المقام ويسرها الله سبحانه: ومنها الحث على موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والحذر من كيد أهل الكتاب وطوائف الكفر كالقاديانية وغيرها ثم فتح باب الأسئلة الذي استغرق وقتا أخرت من أجل صلاة العشاء عن الوقت المعتاد وكان الأخ تاج الدين شعيب هو الذي يترجم هذه الأحاديث جزاه الله خيرا.
أذن بعد ذلك للصلاة وأقيمت صلاة العشاء وبعد الصلاة ودعنا الحاضرون بعاطفة أخوية وأظهروا تلهفهم لسماع مثل هذه الأحاديث ومحبة زيارة علماء المسلمين لهم.
نحن من المسجد وهم من المسرح:
ذهبنا بعد ذلك نلتمس بعض المطاعم لتناول طعام العشاء وكان الوقت متأخرا فوجدنا أكثر المطاعم التي يعرفها الأخ تاج الدين مقفلة، ولكن هناك مطاعم تفتح أبوابها للناس ليلا ونهارا فذهبنا إلى أحدها وطلب منا الأخ تاج الدين أن نبقى في السيارة ريثما يحجز لنا مقاعد تناسبنا لأن دخول هذا المطعم وأمثاله بالترتيب لعدم اتساعه لكل الناس لكثرتهم.(19/477)
وبعد أن حجز لنا مقاعدنا في مكان يحظر فيه التدخين دخلنا هذا المطعم ورأينا كثرة الناس في هذا الوقت المتأخر من الليل فسألت الأخ تاج الدين: أهؤلاء كلهم زوار مثلنا؟ فقال: بل هؤلاء من أهل المدينة بالذات، وهكذا هم دائما أسرا وأفرادا، إنهم يخرجون في هذا الوقت من المسارح والمراقص ودور السينما والبارات.
غرباء في بلادهم:
ويذهبون مثلنا يلتمسون طعام العشاء، وكثير من الأسر الأمريكية لا يأكلون في بيوتهم، بل بعض الأسر وبعض الأفراد لا منازل لهم فمنهم من يأوي إلى الفنادق، ومنهم من ينام في سيارته التي تعتبر منزله ووسيلة نقله، وأكثرهم مرهقون بالدين للبنوك التي تسيطر على مصادر رزقهم وتعطيهم بطاقات يعيشون بها وهم مهددون بسحبها في كل وقت إذا لم يدفعوا للبنك الأقساط المشروطة عليهم.
وأضاف الأخ تاج الدين أن الزوج وزوجته ليقعدان على طاولة الطعام في المطعم ويطلب كل منهما ما يناسبه، ويدفع الحساب من جيبه عن نفسه ولا يدفع الزوج عن زوجته ولا الزوجة عن زوجها وكذلك الآباء والأبناء والأمهات والإخوان والأخوات.
بل كثير ممن تراهم وتظن أنهم أسرة واحدة تجدهم من ذوي العلاقات غير الشرعية.
قلت عندئذ: الله أكبر إن أكبر دولة مادية في العالم لفي طريقها إلى الانهيار وفقد المعاني الإنسانية بين الأقرباء فضلا عمن سواهم وذكرت للأخوين تاج الدين وزميلي الدكتور ما هو معروف من تماسك الأسرة في الشرق على الرغم من الفساد الذي بدأ يدب فيها، وذكرت لهم ما علمته من أحد الطلبة الأفارقة السنغاليين الذين تخرجوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث ذكر لي أن عدد أفراد أسرته ما بين جد وجدة وأب وأم وخال وخالة وعم وعمة وأخ وبنت يبلغ مائة وعشرين صغارا وكبارا وأنهم كلهم يجتمعون على مائدة طعام واحدة في كل الوجبات الغذائية اليومية وأن لذلك أمثلة أخرى متشابهة…(19/478)
وعلقت على ذلك أيضا فقلت: إن ما تراه من الأمور الطيبة من تيسير المعاملات وبعض مظاهر العدالة والتقدم الإداري والتقدم الصناعي تعتبر مثل بالون الأطفال الذي ينفخ فيكبر ويعجبهم منظره ثم ينفجر في أيديهم فإذا هو مزق ترمى في القمامة وهكذا حضارة هؤلاء القوم، ولولا أن من سنن الله الكونية أن يجعل أزمَّة أمور الدنيا في أيدي من يبذلون الأسباب لأخذها ولما أبقى هؤلاء الناس لحظة واحدة، ولكن لا بد من أمة أخرى تستلم قيادة البشرية أكثر تعميرا للأرض وأقل فسادا فإذا وجدت هذه الأمة فستنتهي الحضارة المادة الغربية العفنة، وإني لأرجو أن تكون هي الأمة الإسلامية التي لا يخاف أهل الغرب غيرها من الأمم كما يخافونها وهذا المعنى هو مضمون رسالة الأستاذ المودودي المسماة: الصلاح والفساد.
صلاة الجمعة في مسجد البلاليين:
وفي يوم الجمعة 16/8/1398هـ أخذنا الأخ تاج الدين إلى مسجد البلاليين لأداء صلاة الجمعة فيه.
وبعد الأذان تقدم شاب في الثلاثين من عمره تقريبا، وهو طبيب وبيده أوراق فيها ترجمة بعض المعاني لسور قصيرة من القرآن الكريم وأخذ يقرأ وينفعل والناس ينفعلون معه، ويتكلمون بعض الكلمات التي كنت أفسرها بأنها للتعجب حيث يكبرون في بعض الأوقات.
وتارة يضحكون وبعد الصلاة ذكرت للأخ تاج الدين أن ذلك مما يجب التنبيه عليه، لأنه يجب السكوت في خطبة الجمعة فوعد أنه ينبه على ذلك في أقرب فرصة.
ولقد كان الإمام لا يقدر على إخراج الحروف م مخارجها، بل إنه اختصر سورة الفلق في قراءته لعدم تمكنه من حفظها، وساءنا ذلك وكلمت الأخ تاج الدين وقلت له: الأفضل أن تتولى أنت خطبة الجمعة والإمامة حتى تعلم من يجيد ذلك ويصلح للخطابة والإمامة.
فأجاب بما مضمونه أن القوم يرغبون أن يتولوا ذلك بأنفسهم وإن كانوا مقصرين.(19/479)
ولقد ظهر لي هذا الأمر في كثير من المسلمين هناك، وهو أنهم لا يحبون أن يعترفوا بالنقص في العلم، وإذا أخذوا العلم عن غيرهم فإنما يأخذونه اضطرارا مع عدم إظهار الحاجة، على عكس ما هو موجود في بلاد الشرق لا سيما الهند وباكستان وأندونيسيا وغيرها، وهذا داء يجب أن يعالج.
وعلى من يريد ان يعلم القوم هناك أن يعرف هذا المعنى ويدخل عليهم من الباب الحكيم الذي يراه مناسبا.
مع طلابنا المبتعثين:
وبعد صلاة الجمعة التقينا بالأخ أحمد داود المزجاجي أحد الطلبة السعوديين المبتعثين من جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو يحضر الدكتوراة في الإدارة، وهو من الشباب الصالح الذين يعتبرون نادرين في تلك البلاد (ولا أزكي على الله أحدا) .
ولقد قابلنا بحرارة، كانت كلمته التي افتتح بها كلامه بعد السلام أتلبس هذا اللباس ونحن هنا نلبس لباس الإفرنج؟ ثم طلب منا زيارته في منزله، وعندما حاولنا أن نجلس معه في المسجد أو يذهب معنا إلى الفندق أصر على زيارته فذهبنا معه إلى شقته الصغيرة التي وجدنا فيها أثاثه قد ربط استعدادا للسفر إلى بلاده في إجازته التي توافق آخر شهر شعبان وشهر رمضان المبارك.
وكانت علامة سروره للسفر إلى بلاده بادية على وجهه، وكان معه بعض الطلبة من زملائه من بعض البلدان العربية وهم مثله صالحون، وأخذنا نتبادل الحديث عن الشرق والغرب، وكان الحديث يدور حول البلاء الذي انتشر في البلدان الإسلامية بسبب الأفكار الهدامة الغربية على الأمة الإسلامية في العقيدة والسلوك والتشريع والسياسة والاجتماع وغير ذلك، وإن قسطا كبيرا من هذا البلاء يحمله المبتعثون إلى الدول الغربية الذين يعودون إلى بلدانهم بأدمغة تحمل عفن التفكير الغربي في المجالات المذكورة، مع الجهل بكثير من العلوم النافعة المفيدة التي توجد في الغرب والتي ابتعثوا - أصلا - من أجلها.(19/480)
والسبب في ذلك أن أساتذة الغرب يسعون جادين في غسل مخ هؤلاء المبتعثين من كل فكر يمت إلى الإسلام بصلة ثم ملء هذه الأدمغة بالأفكار المضادة، كما أنهم يزينون لهم سبل الفساد والشر فينطلقون في إشباع شهواتهم انطلاقا لا حدود له، ومع عدم خشية الله في نفوسهم لا يوجد رقيب من البشر، ولذلك يعود الطالب ممسوخا في تخصصه حاملا أقذار الفكر الغربي وسوء سلوك الغربيين وذكر الإخوة أن أعدادا هائلة من هذا الشباب يوجدون الآن في أمريكا يرتبطون بأحزاب سياسية يسارية ويمينية هدفها الأساسي تحطيم ما بقي في البلدان الإسلامية بالإضافة إلى الفوضى الخلقية التي يكتسبونها من المجتمع الأمريكي الوبيء.
وذكر الأخ داود أن أعدادا كبيرة توجد في الجامعات لا يصلي منهم إلا النزر اليسير، وبعض الذين يصلون في الأوقات العادية يتركون الصلاة لحضور بعض الحفلات التي تقام في وقت الصلاة.
كما أرانا لافتات عملها للدعوة إلى الإسلام في الجامعة، وعندما رآه المسئولون في الجامعة سألوه عن ذلك فأخبرهم أنه يدعو إلى الإسلام.
والنشاط في الجامعات يسمح به للجمعيات فطلبوا منه أن يسجل جمعية ليأخذوا إذنا بذلك فحاول مع الطلبة المسلمين الموجودين في الجامعة ليكوِّنوا جمعية فلم يستجب له أحد فاضطر إلى أخذ لافتاته ووضعها في منزله، مع أن كثيرا من هؤلاء الطلبة الذين لم يرضوا بالانضمام إليه في تسجيل أسمائهم مرتبطون برابطة الطلبة العرب ويدعونه هو نفسه للانضمام إليهم بإلحاح.
ورأينا صورة خطاب بعث به معالي وزير التعليم العالي في الممكلة العربية السعودية يصف له حالة المبتعثين ويطلب فيه العمل على تلافي الأمر والحد من الابتعاث والحلول التي يراها للإشراف على المبتعثين وأن صور الخطاب أرسلت إلى مدير الجامعات بالمملكة العربية السعودية [3] .(19/481)
وقد أعطاني صورة من الخطاب، كما أعطاني صورة من رده على الطلبة الذين ألحوا عليه في أن ينضم لرابطتهم [4] .
الواقع أيد أصوات الإنذار:
بعد ذلك قلت للأخوين الحاضرين: لقد ارتفعت أصوات المنذرين من العلماء والكتاب من زمن طويل، وعند المسئولين علم ذلك وهناك محاولات للحد من الابتعاث إلا لضرورة ولكن الأمر يحتاج إلى سرعة البت فيه واتخاذ الوسائل اللازمة.
ولقد شاركت في الإنذار قبل عشر سنوات عندما كتبت بحثا تحت عنوان المسئولية في الإسلام [5] كان محوره الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، في مسئولية الأب عن أبنائه ومسئولية وزارة التربية والتعليم، وقد نشر البحث تباعا في مجلة الجامعة الإسلامية، والذي يتعلق بموضوع الابتعاث نشر في العدد الرابع من أعداد السنة الثالثة 1391هـ، والعدد الرابع من أعداد السنة الرابعة لعام 1391هـ أيضا وذكرت المضار التي تحصل من جراء الابتعاث، كما ذكرت وجهة نظري في الحل.
ولقد كانت تلك الأضرار واضحة في الشعوب الإسلامية، ولكنها تجسمت الآن أكثر وظهرت أضرارا أخرى غيرها.
وإذا استمرت الحال على ما هي عليه الآن فإن الخطر المتوقع لا يعلم مداه إلا الله سبحانه.
وما حوادث الانقلابات الدموية المتوالية في بعض الشعوب الإسلامية وما التقلبات السياسية السريعة، وما الفوضى وعدم الاستقرار واختلال الأمن، وما المناهج التعليمية المشوهة وما البرامج الإعلامية السيئة، إذاعية وتلفازية وصحفية وسينمائية وما كل بلاء وشر وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر إلا ثمار طبيعية لهذه الجيوش الزاحفة إلى كراسي الحكم والإدارة والتوجيه الذين أغلبهم من المبتعثين إلى البلدان الأجنبية [6] .
فهل يذكر قومي ويفيقون قبل أن يندموا ولات ساعة مندم أم سيبقى الأمر كما هو عليه ويأتي الله بما يشاء؟.
أرجو أن تكون الأولى والله المستعان.(19/482)
إخفاق الكنيسة في الغرب رغم كل المحاولات:
وانتقل الحديث مع الإخوة إلى وضع الميسيحة في الغرب وحالة الكنائس فذكر الإخوة أن الكنيسة أفلست وأن كثيرا من الكنائس أغلقت وخسرت وأنها معروضة للبيع، ومن ضمن ذلك كنيسة كبيرة في مدينة لوس أنجلس، وهي غير الكنيسة التي أراد شراؤها المسئولون عن معهد الدراسات الإسلامية وقد مضى الحديث عنها، قال الأح أحمد داود: إنه كتب للرابطة وغيرها يقترح شراء هذه الكنيسة لتكون مركزا ومسجدا للشباب الصالحين يصلون فيها جماعة ويقومون بنشاط الدعوة إلى الله فيها، ويمكن أن تنشأ فيها مدرسة لتعليم أبناء المسلمين ولكن لم يحصل شيء من ذلك.
كما ذكر الإخوة أن أسلوبا جديدا ظهر سيئا جدا للحفاظ على الكنيسة فقد أنشئت كنيسة باسم الكنيسة اللوطية، وأن أعضاءها - فعلا - هم من أهل الخلق السيء وأن ذلك لم يجد شيئا فكسدت هذه الكنيسة أيضا وهي معروضة للبيع.
الكلب أكرم من الإنسان في بلاد حقوق الإنسان:
ومن الشكاوي المرة التي ذكرها الإخوة أنه لا يوجد للمسلمين مقابر مميزة، بل يدفنون في مقابر مسيحية وأن كثيرا من شعائر المسيحيين تطبق على الموتى المسلمين، مع أن الكلاب في أمريكا لها مقابر خاصة، والكلام على الكلاب طويل، فلها مستشفيات خاصة، وبعض الناس يموت فلا يجد العلاج، وتوقف عليها الملايين وبعض الناس لا يجد قيمة ملبسه ولا مأكله، ولها أَسرَّة خاصة مفروشة وبعض الناس بلا مأوى ولها أطعمة خاصة - رأينا الإعلان عنها في التلفاز - وبعض الناس يتمنى لقمة مما تأكل فلا يجد.
والكلب عند المرأة الغربية أحب إليها من الزوج والولد وكم من مرة رأينا بين الرجل في السيارة كلبا مثل أحدهما في الضخامة أو أكبر بدلا عن الولد.
نكتة يهودية!(19/483)
انتقل الحديث بعد ذلك إلى الأمور الإيجابية في الغرب والتي تمنينا جميعا أن تطبق في بلادنا الشرقية، كأنظمة المرور الخاصة بتنظيم الشوارع التي تسهل السير على الرغم من كثرة السيارات والقطارات، والاستفادة من تخطيطها وكذلك سرعة إنجاز المعاملة في الإداراتن ووجود الأجهزة المفيدة في ذلك مثل الكمبيوتر، ونظافة الشوارع والممرات وتعاون المواطنين مع الأجهزة الإدارية في ذلك كله إلى غير ذلك.
وبمناسبة الكلام على النظافة وعدم إلقاء القاذورات في الشوارع والممرات ذكر أحد الحاضرين، وهو عراقي الأصل أمريكي الجنسية يجيد مع اللغة العربية: الكردية والإنجليزية واليونانية والعبرية والسنسكرتية يكنى بأبي الفداء، ذكر نكتة يهودية زعم أنها واقعية: قال: إن أحد اليهود خرج مع بعض أصدقائه في سيارة للنزهة، وكانا يقعدان في إحدى الحدائق يتحدثان، ثم إن اليهودي شعر بالحاجة إلى قضاء الحاجة، ولكنه لا يوجد بجانبه بيت ماء، ورأى أن الجندي قريب منهما في الشارع وهو مضطر لقضاء حاجته فقال لصاحبه سائق السيارة اذهب إلى مكان أشار إليه وقف لي هناك، فإذا جئتك فأسرع بقيادة السيارة.(19/484)
ثم حفر حفرة صغيرة وقعد فقضى حاجته فاستراب منه الجندي وتحرك يمشي إليه، فأسرع هو وأخذ طاقيته الصغيرة السوداء ووضعها على فضيحته وانحنى عليها ماسكا بأطراف الطاقية ضاغطا عليها، ولما جاء الجندي سأله: ماذا تفعل؟ فقال: إن طائرا لي تحت الطاقية هذه أخشى إن رفعتها أن يطير وأنا في حاجة إلى الوصول إلى زميلي وراء تلك الأشجار وأعود لأخذ الطير فقال له الجندي كم مدة يستغرق ذهابك؟ فقال: أقل من عشر دقائق، فقال: دعه أنا أمسك لك الطاقية حتى تعود، فانحنى الجندي ضاغطا على الطاقية وذهب اليهودي مع صاحبه ووقفا في مكان يرونه وهو لا يراهم (مثل الشيطان وقبيله) وكان الرجل يلتفت هنا وهناك يظن أن الرائحة من جهة أخرى وبعد أن يئس من رجوع اليهودي وشك في الأمر وقبض بالطاقية وما تحتها فوجد الفضيحة اليهودية وذهب ليغسل أثار العدوان اليهودي، وعلق أبو الفداء على القصة بقوله: إنهم يهود، قلت: إي والله إنهم يهود، وهذه النكتة، صحت أو لم تصح، يطبقها اليهود على كل المستويات، تطبقها قمتهم على القمم وتطبقها قاعدتهم على القواعد، ويعلم هذا كل مهتم بمكر القوم وخداعهم.
فتوى مضحكة مبكية:
وفي يوم السبت الموافق 17/8/1398هـ كنا نتناول طعام الغذاء في أحد المطاعم، وكان أحد الخدم في المطعم شابا فارسيا يدرس في إحدى الجامعات والطلبة هناك يقومون ببعض الأعمال من أجل الحصول على بعض المال للإنفاق على أنفسهم إذا لم تكن لهم منح، أو منح لا تكفيهم، وغالب الطلبة هناك محتاجون للعمل فعلا، ويمتاز الطلبة السعوديون عن غيرهم في أن مكافآتهم تكفيهم وزيادة، وربما طلاب بعض دول الخليج العربي كذلك، وهذه نعمة يجب أن يشكروها وأن يضعوها في مكانها.(19/485)
جاء إلينا الطالب المذكور ونحن نتناول الطعام، وكنت طلبت سمكا، فقال لي: أنت مسلم؟ قلت: نعمن فقال هذا الذي تأكله حرام ففزعت وتوقفت عن الأكل وقلت للأخ تاج الدين سله ماذا يعني، فقال: هذا حيوان البحر وهو حرام، قلت له: لعله يريد أن السمك مقلي بزيت خنزير أو اختلط به شيء من ذلك فكرر عليه السؤال فأصر أن السمك نفسه حرام في الإسلام.
فقلت له: أنت مسلم؟ فقال: نعم، قلت: من أين لك هذا التحريم؟ فقال: هذا معروف والعلماء يقولون به.
عند ذلك قلت: إذن يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي ونصحت الشاب ألا يستمر في هذا الاعتقاد، ولا يقوله للناس وأخبرته بحكم حيوان البحر حيا وميتا، ولكنه وإن لم يصرح يظهر أنه لم يقتنع بذلك، وهكذا وجدنا من يفتي بتحريم السمك على المسلمين من الطلبة المسلمين الوافدين من بلدان إسلامية.
مع جماعة مسجد المؤمن:
وفي مساء هذا اليوم كنا على موعد مع جماعة مسجد المؤمن وهم من المسلمين السود الذين تركوا جماعة اليجا محمد بسبب أفكاره الخارجة عن الإسلام، وهم كذلك يعتقدون أن ابنه "ولس الدين"لا زال يعتقد ما كان يعتقده أبوه إلا أنه يدلس على الناس، هكذا يعتقدون فيه.
وكان إمام المسجد غائبا ونائبه موجود، ومسجدهم غرفة واسعة نسبيا وهم متحمسون للإسلام حريصون على تطبيق ما يعلمون في واقع حياتهم.
يلبس غالبهم الثوب العربي وعمامة سوداء، وبعضهم يلبس الطاقية بدل العمامة.
ورأيتهم في صلاتهم يحاولون تطبيق صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغني أنهم ساخطون على المجتمعات الإسلامية، وعندهم فكرة التكفير المعروفة - أصلا - عند الخوارج وأنهم مصممون على تطبيق أحكام الحدود والقصاص على أعضائهم وأنهم طبقوا - فعلا - حد الشرب على أحدهم وأنه ارتد عن الإسلام بسبب ذلك.(19/486)
صلينا معهم المغرب، وصلى بنا نائب الإمام، وكانت قراءته غير مستقيمة مع شدة حرصه وتكلفه لتكون مستقيمة، وهذه ظاهرة وجدناها في بعض المسلمين هناك يحرص الإنسان أن يؤم الناس ولو كان في المصلين من هو أفضل منه بل ولو كانت قراءته هو غير مستقيمة، وكان من بين المصلين بعض الطلبة العرب وهم يجيدون التلاوة ولكن الإمام الذي نصب إماما حرصا على الإمامة والإمرة لا يقدم غيره.
وبعد أداء الصلاة طلبنا من الإمام إجراء التعارف وخيرناهم بين أن يسمعوا حديثا أو فتح المجال للأسئلة والمناقشة، فاختار الثاني، ولم يجر التعارف المطلوب، وشعرنا بشيء من الجفوة في الجماعة، إذ لم يصافحنا إلا الإمام لقربه منا، ولا أذكر إن كان هو الذي مد يده أولا أم نحن؟.
وبدأ الرجل الحديث فحمد الله وأثنى عليه ثم أن الواجب هو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأن العلماء يجب أن يبينوا الحق للناس دون لبس، وفتح الكتاب الذي فيه ترجمة بعض معاني القرآن الكريم واستدل على قوله ببعض المعاني المترجمة، ثم قال للحاضرين من عنده سؤال فليتقدم به.
إعداد مسبق:
فبدأ الجميع يتحفزون وظهر لنا أن بعضهم كانوا قد أعدوا أسئلة في أوراق، وكانوا ينظرون في الورق ويسألون، ولذلك كان سؤال الواحد منهم، عبارة عن رأي مسبق يصوغه في حديث ثم يسأل عن الرأي فيه، وكانوا إذا شعروا بأن سؤال أحدهم غير كامل أو كانت الإجابة مقنعة للسائل انبرى آخر لشرح وجهة نظر السائل ليشكك السائل والحاضرين بأن الإجابة غير كافية.
وكانوا يظهرون الاعتداد بأنفسهم وقناعتهم بما عندهم ويحاولون تيئيسنا من إقناعهم بغير ما عندهم، وأن ما توصلوا إليه من أفكار يعتبر نهائيا فليسوا في حاجة إلى غير ما علموه، وهكذا شعرنا من مناقشاتهم وضايقنا ذلك كثيرا، وكانوا يقاطعوننا في الحديث.
أمران لا بد منهما:(19/487)
وعندما شعرت بأن الفوضى تخيم على الاجتماع والرأي عندهم جاهز وهم إنما يستعدون لمساعدة بعضهم بعضا لتثبيت هذا الرأي الجاهز طلبت من الإمام، أمرين: الأمر الأول: ضبط الاجتماع إداريا بحيث لا يتكلم أحد إلا بعد أن يستأذن منه، الأمر الثاني: وهو ألا يقطع أحد حديث أخيه امتثالا للأدب النبوي وأمرا ثالثا: وهو ألا نخرج من نقطة النقاش إلى غيرها حتى تنتهي مناقشتها.
وبدأت المناقشة بعد ذلك تدور بنظام أحسن من ذي قبل وكأني بالقارئ يتطلع إلى موضوعات النقاش التي حصل فيها هذا الصراع وأقول: عد إلى مطلع الحديث عن جماعة المؤمن فالموضوعات هي التي ذكرت أنها بلغتني عنهم قبل أن ألتقي بهم.
موضوعات الحوار:
وخلاصة ما دار النقاش حوله ما يلي:
سألونا عن رأينا في البلاليين أهم مسلمون أم كفار وأخذوا يذكرون هم الأدلة على كفرهم، فكان الجواب أننا لم نختلط بهم كثيرا وعلمنا عن اليجا محمد أنه تبنى أفكارا يكفر معتقدها أما ابنه فبلغنا أنه بدأ بتصحيح أفكار أبيه لأتباعه ونرجو أن يستمر في هذا التصحيح وقد صارحناه بذلك عندما اجتمعنا به.
أما أتباعه فلا يحكم عليهم دون معرفة ما عندهم ومناقشتهم وتفهيمهم الحق، فلم يرقهم الجواب وأخذوا يتعاونون في ذكر مساوئ إمام البلاليين وبعض أفكاره التي لا تزال موجودة إلى الآن.
فقلت لهم: نحن يجب أن نجمع المعلومات عنهم من مصادرها ولا نحكم عليهم إلا بعد علم ما عندهم وذكرنا لهم الآية الكريمة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .(19/488)
كما ذكرنا لهم أن اقتناعهم هم بأمر لوجود أدلة كافية عندهم لا يقتضي اقتناعنا نحن إلا بعد تمحيص وأخذنا في هذا الموضوع مدة طويلة وهم يحاولون إقناعي بأنه لا يلزم البحث والتفصيل لهذا الحكم بل يكفي ما سمعناه منهم عن البلاليين، فناقشناهم حتى ظننا أنهم فهموا رأينا وطلبنا أن ننتقل إلى موضوع آخر ولكنهم لم يرضوا بترك هذا الموضوع وقصدهم أن يفهمونا أنه لا يجوز الاغترار بما نقل من أن ولس الدين صحح أفكار والده فعلا وأن نقنع مَنْ ورائنا في المملكة وغيرها بألا يغتروا بهذا الرجل فأخبرتهم أننا لسنا مغترين ولكن نريد التثبت في الحكم على الناس ووعدتهم بنقل رغبتهم في عدم الاغترار بالرجل.
نصيحة وسخط:
ثم قدمت لهم نصيحة تتضمن أمرين:
الأمر الأول: أن يجتهدوا في تلقي العلم ممن يوثق به من العلماء، وأن يتعلموا اللغة العربية بجد حتى يفهموا كتاب الله وسنة رسوله عن طريقها لا عن طريق الترجمة التي تكثر أخطاؤها ولا تفي بترجمة معاني كتاب الله وألا يظنوا أن ما قد حصلوا عليه من علم كاف في عبادة الله أو الدعوة إلى الله.
الأمر الثاني: أن يطبقوا ما علموه في أعمالهم وفي أعضائهم وأن يصححوا الأفكار المخالفة بالعلم مع الهدوء ولا يجعلوا همهم الوحيد هو محاربة فئة معينة، لأن ذلك سيأخذ وقتهم في الخصام والنزاع ويصرفهم عن التعلم الذي هم في حاجة إليه.
وهنا ثارت ثائرتهم فأخذ كل واحد منهم يتحفز فتكلموا وكان كلامهم يدور حول إشعارنا بأنهم ليسوا جهالا وأن الذي يقدرون عليه قد علموه ولا زالوا يتعلمون ولكنهم لا يقولون شيئا إلا وهم على علم به وأن لهم الحق أن يحاربوا جماعة ضالة تدعي الإسلام.(19/489)
وهنا بدأ بعض النساء يشاركن في النقاش فقد استأذنت امرأة من وراء ستارة أن تتكلم فأذنوا لها وكان خلاصة كلامها أن الذي يدعي الإسلام ويضل الناس أولى بالجهاد من غيره، وتسأل: ألا يجب علينا أن نترك العمل ونتفرغ للعبادة والجهاد؟.
وأجبتها بأن الجهاد واجب ولكن قبل جهاد الناس نجاهد أنفسنا في التعليم والعمل ثم لا بد من أسلوب نافع في الدعوة إلى الله.
أما ترك العمل فهذا غير مطلوب شرعا من المسلم إلا إذا كان تفريغ أشخاص بأعيانهم للقيام بالدعوة إلى الله للحاجة إليهم، ولكن لا يتركون ما لأنفسهم أو غيرهم من حقوق، وذكرت لها قصة الصحابة الذين أرادوا الانقطاع للعبادة وترك العمل فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقلت للجماعة لكم الحق أن تبينوا للناس الضلال بل يجب عليكم ولكن بشرط أن تكونوا عالمين بأن هذا حق وهذا باطل وهذا أمر ليس سهلا في كل أمر من الأمور.
وبعد نقاش طويل في هذا الموضوع وغيره وبعد أن ترجح لي أني وضَّحت ما يجب توضيحه قلت لهم: لقد أخذتم وقتا طويلا في إبداء ما تريدون من أسئلة وتوضيحات لآرائكم، أما الآن فأرجو أن تعطوننا فرصة لأسألكم أنا، قالوا: لا بأس.
هجوم:(19/490)
فقلت: أحقا أنكم تقيمون أحكام الحدود والقصاص على جماعتكم؟. فقال إمامهم: نعم لنا الحق في ذلك، قلت: هل فعلتم هذا عن علم سبقتم به غيركم؟ قالوا: إن كتاب الله وسنة رسوله فيهما الكفاية، ولسنا في حاجة إلى أقوال الناس، قلت: ولكن التطبيق العملي للكتاب والسنة يجب الرجوع فيه إلى الكتاب والسنة فهل وجدتم فيهما أن لكل فئة من المسلمين الحق في إقامة الأحكام المذكورة؟ والمعروف أن ذلك يرجع للحاكم المسيطر بقوة على شئون المسلمين، وأنتم عددكم قليل فإما أن تعتبروا أنفسكم جماعة دعوة تأمرون الناس بالمعروف وتنهون عن المنكر وتبينون الحلال والحرام للناس وقدرتكم قاصرة على الأخذ بالقوة، وإما أن تعتبروا أنفسكم دولة إسلامية لها أن تتصرف تصرف حكومة، وهذا ليس في مقدوركم.
وبلغني أنكم أقمتم حد الخمر على أحد الأعضاء بالقوة وأنه ارتد عن الإسلام وهذا ما يتوقع أن يحصل: انفضاض أعضائكم عنكم وارتداد بعضهم ونفور الناس من الدخول في الإسلام.
والأجدر بكم أن تعودوا إلى تفاسير العلماء وشروح السنة وكتب السلف لتعلموا أأنتم سائرون على سنن السلف أم محدثون مالم يحدثه غيركم.
وهنا برز طالب مصري هو أساس أفكارهم يحاول إنقاذهم وكانت فرصة لمناقشته أمامهم حتى استسلم وطلبت منه أن يتقي الله ويصحح للقوم أفكارهم فذكر أنهم يقرأون في سبل السلام قلت له ستجد بحث هذا الموضوع فيه فارجع إليه.
آخر الدواء الكي:(19/491)
ولعلمي أن القوم مغرورون بما عندهم من علم مشوش رأيت أن أصارحهم أكثر فقلت لهم: أنتم هنا أعاجم، والمراجع الإسلامية ليست متوفرة لديكم والموجود بعض الكتب المترجمة التي لا تؤدى المعنى بتمامه بصرف النظر عن أخطائها، وأنا من الجزيرة العربية عربي الأصل والمنشأ واللغة، ولي ما يزيد عن ثلاثين سنة في طلب العلم والذين تلقيت العلم عنهم عرب وعندي مكتبة مملؤة بالمراجع الإسلامية في مختلف العلوم، ومع ذلك إذا قرأت القرآن أو كتب السنة لا أزال إلى الآن يشكل علي الكثير الذي احتاج أن أسأل عنه بعض العلماء أو أراجع وأتعب في الحصول إلى فهمه.
أفيليق بكم أنتم أن تظنوا أنكم بلغتم مبلغا لا تحتاجون فيه إلى تصحيح أفكاركم.
وكان هذا الكلام هو الذي أسكتهم وجعلهم يفكرون في الأمر حتى قال زميلي الدكتور محمد بيلو لقد ترك بعضهم النقاش وحفظ أوراقه التي كان يستعد لإلقاء ما كتب بها.
ولقد كاد زميلي الدكتور يخرج ويتركهم لشدة غضبه من تعنتهم ولكني كنت أقول في نفسي هذه فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى فيجب أن نعمل ما نقدر عليه ونصبر، وإنا كنا في حاجة إلى الرجوع إلى الفندق لترتيب أثاثنا لأننا سنسافر صباح غد مبكرين ولم نصل إلى هذه النتيجة إلا في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولكنا حمدنا الله على ما حصل فإن هؤلاء الإخوة يظهر عليهم إرادة الحق ولكن الجهل هو الذي حال بينهم وبين الاستجابة السريعة، وكان الجهل مركبا ولو كان بسيطا لما طال النقاش إلى الوقت والحمد لله رب العالمين.
تآلف:
وبعد الانتهاء من هذا النقاش ودعناهم وكانت عاطفتهم معنا أفضل من اللقاء الأول ورجونا أن نزورهم مرة أخرى كما طلبوا منا إبلاغ المسلمين العلماء الذين يزورون أمريكا ألا يكتفوا بزيارة الجامعات الإسلامية المشهورة ويتركوا بقية الجماعات التي قد تكون أولى من غيرها بالزيارة فوعدناهم بتحقيق هذه الرغبة حيث أمكن.(19/492)
ذهبنا بعد ذلك إلى أحد المطاعم لتناول طعام العشاء ثم عدنا إلى الفندق وذهب الأخ تاج الدين إلى منزله على أن يعود إلينا صباح غد لإيصالنا إلى المطار للسفر إلى اليابان..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر الملحق الرابع.
[2] انظر الملحق الأول.
[3] انظر الملحق الأول.
[4] تبين لي فيما بعد أن هناك جمعتين: جمعية تضم الطلبة العرب المنحلين الذين يقفون موقف العداء السافر من الإسلام، وأغلب هؤلاء شيوعيون، والجمعية الثانية تسمى رابطة الطلبة العرب المسلمين، وهؤلاء شباب فيهم خير وصلاح وعلى وعي جديد بالإسلام، والظاهر أن الخلاف بينهم وبين الأخ أحمد في التسمية فقط، كما ظهر لي من رد الأخ أحمد عليهم في خطابه ومثل هؤلاء أرى ألا تحول التسمية بينهم وبين الصالحين من الشباب في تلك البلاد.
ولهذا لا أرى داعيا لإقامة جمعية جديدة ما دامت هذه الجمعية موجودة، كما أن اتحاد الطلبة المسلمين له نشاط في أغلب المدن الأمريكية والتعاون معه خير من إيجاد جمعيات متفرقة، جمع الله الكلمة وحقق الإخاء فيه.
[5] رتب هذا البحث وأعد لطبع في أواخر هذا العام 1399هـ.
[6] والعجيب في الأمر أن الفوضى التي يصدرها لنا الغرب، وبخاصة الفوضى السياسية والعسكرية ـ بذت كل المحاولات في الغرب للوقاية منها وعدم تمكنها في شعوبهم…؟(19/493)
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء
(الحلقة الثالثة)
لفضيلة الدكتور أحمد ريّان
أستاذ مساعد بكلية الحديث
الخصلة الثالثة عشرة: إعفاء اللحية:
واللحى: بكسر اللام وحكي ضمها بالقصر والمد - جمع لحية - بكسر اللام فقط.
وهي اسم لما ينبت من الشعر على الذقن والعارضتين [1] .
واللَّحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي. ويقال التحى الرجل: صار ذا لحية وكرهه بعضهم، قال ابن سيده النسب إلى ذي اللحية: لحوي، ويقال رجل لحيان: إذا كان طويل اللحية [2] .
وقد جاء الأمر بإعفاء اللحية في أحاديث كثيرة صحيحة، منها ما جاء بلفظ الإعفاء كحديث ابن عمر عند البخاري: "انهكوا الشوارب واعفوا اللحى" [3] ، وعند مسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى" [4] ، وحديثه أيضا عند مسلم بلفظ: "أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية" [5] ،وكذلك حديث عائشة عند مسلم "عشر من الفطرة" ,منها: إعفاء اللحية [6] .
ةةة ة
كذلك قد جاء الأمر بالإعفاء في بعض الأحاديث بلفظ "أوفوا اللحى" كما هو عند مسلم من حديث ابن عمر [7] ، وبلفظ "وفروا اللحى" كما هو من حديثه عند البخاري [8] .
وقال النووي: "وكل هذه الروايات بمعنى واحد". وبيان ذلك:
أن الإعفاء معناه الترك، وترك التعرض للحية بقص أو حلق يترتب عليه تكثيرها فهو من إقامة السبب مقام المسبب.
وذهب البعض: إلى أنها بمعنى: وفروا وكثروا، وصوبه صاحب الفتح ومعنى أرخوا اللحى: يعني أطيلوها.
ومعنى أرجوا وأرجئوا: أي لا تحلقوا بل أخروا حلقها.
وأما معنى وفروا اللحى: فهو من التوفير، وهو الإبقاء، أي اتركوها وافرة.
أما رواية أوفوا: فمعناها: اتركوها وافية.
ما تحقق به سنة اللحية:(19/494)
وقد اختلف أهل العلم فيما تتحقق به سنة اللحية؛ فذهب فريق منهم إلى أنها لا تتحقق إلا إذا تركت وشأنها بحيث لا يؤخذ منها شيء أصلا إلا في حج أو عمرة.
وقد استند هذا الفريق إلى ما يلي:
أ – الأحاديث الصحيحة التي جاءت في طلبها بلفظ الإعفاء وما في معناه، وبصيغة الأمر.
ب - ما أخرجه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب"، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه" [9] .
وبما أن ابن عمر هو راوي الحديث؛ فتصرفه يعتبر بيانا للمعنى المراد من الحديث، وعلى هذا فلا يجوز الأخذ من اللحية أبدا بل تترك على حالها إلا في حج أو عمرة.
ج ـ ما أخرجه أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفي السّبال إلا في حج أو عمرة" [10] ، والسبال: جمع سَبَلة - بفتحتين - وهي ما طال من شعر اللحية، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري.
وقد ذهب إلى هذا الرأي من التابعين: الحسن وقتادة؛ حيث قالا: يتركها عافية لقوله صلى الله عليه وسلم: "واعفوا اللحى" [11] .
وقد نسب العراقي هذا الرأي للجمهور، وقال إنه مذهب الشافعي وأصحابه [12] .
وذهب فريق آخر إلى جواز الأخذ منها بشرط ألا ينقص طولها عن قبضة اليد بمعنى أنه يجوز له أخذ ما زاد على قبضة اليد أما إذا كانت أقل من قبضة فلا يجوز الأخذ منها، وقد استدل هذا الفريق بما يلي:
أ - ثر ابن عمر السابق وفيه: "كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه"، قال الحافظ في كيفية الاستدلال لهذا الفريق بهذا الأثر: "لذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التقصير بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه" [13] .(19/495)
وقد نقل بدر الدين العيني عن الإمام الطبري قوله: "فإن قُلْتَ: ما وجه قوله: "اعفوا اللحى"؛ وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعا منه لظاهر قوله: "اعفوا اللحى"؛ فيتفاحش طولا وعرضا ويسمج حتى يصير للناس حديثا ومثلا.
ثم قال:
"قد ثبتت الحجة عن ر سول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاءها وواجب قصها على اختلاف من السلف في مقدار ذلك وحدِّه. فقال بعضهم: حدُّ ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولا وأن ينتشر عرضا فيقبح.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا ترك لحيته حتى كبرت فأخذ يجذبها ثم قال: "ائتوني بحلمتين ثم أمر رجلا فجز ما تحت يده"، ثم قال له: "اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع".
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل وعن ابن عمر مثله" [14] .
وممن استحسن هذا الرأي: الشعبي وابن سيرين [15] .
أما الفريق الثالث: عطاء فإنه يرى جواز الأخذ منها طولا وعرضا بغير حد مقدر ما لم يفحش الأخذ وينتهي إلى تقصيصها كما كانت تفعله الأعاجم.
ومن هذا الفريق: عطاء فقد نقل عنه قوله: "لا بأس بأن يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا كبرت"وعلته: كراهة الشهرة وفيه تعريض نفسه لمن يسخر به واستدل بحديث عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" قال الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث: "هذا حديث غريب". ثم قال بعد ذلك: "وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث لا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث…ولا نعرفه إلا من حديث ابن هارون ورأيته حسن الرأي في عمر بن هارون" [16] ..(19/496)
ونقل عن القاضي عياض قوله: "يكره حلقها وقصها وتحذيفها.."، قال: "وأما الأخذ من طولها فحسن"وقال: "تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره قصها..وجزها.."وقال: "وكره مالك طولها جدا" [17] .
وسئل مالك عن اللحية إذا طالت جدا قال: "أرى أن يؤخذ منها ويقص" [18] .
وفي المذهب المالكي قولان في مقدار الأخذ: المعروف منهما: أنه لا حد للأخذ فيقتصر على ما تحسن به الهيئة، ومقابله: يأخذ ما يزيد على القبضة [19] .
تعليق عام على الآراء السابقة وأدلتها:
الناظر في الأدلة السابقة التي استندت إليه الطائفة الأولى: يرى أنها أقوى سندا وأصرح دلالة من أدلة الفريقين الأخيرين اللذين يريان جواز الأخذ من اللحية مع اختلافهما في المقدار الذي يجوز الأخذ عنده.
كما أن إرسال اللحية - إلى حد معلوم - يكسب المرء وقارا في مسته وثباتا في عواطفه، كما أن في اللحية عصمة للشباب والكهول إذ يصبح المرء ذا اللحية أكبر من سنه، وأجل مقاما من درجته، وأكثر احتراما بين أترابه.
ولكن ما يحتاج إلى تأمل هو: هل المعاني التي تدل على عليها ألفاظ الإعفاء والتوفير والإبقاء ونحوها من الألفاظ التي جاءت في أحاديث طلب اللحية: مرادة على إطلاقها، وبتعبير آخر: هل المطلوب من كل مسلم ترك الأخذ من لحيته مدى حياته إلا إذا ذهب مرة أو مرات إلى الحج؟ ومن يذهب إلى الحج قليل إلى مجموع المسلمين، فمعنى ذلك أن غالبية المسلمين يجب عليهم ترك لحاهم تطول إلى ما شاء الله.
ما يتبادر إلى فهمي - والله أعلم - أن التوفير أو الإعفاء المأمور به، مقيد بما إذا لم تطل اللحية طولا فاحشا بحيث يشوه سمت صاحبه ويجعله هدفا لأعين الناس وأضحوكة في أفواه السفهاء، أو بحيث تصير اللحية علامة مميزة له دون الناس لا يعرف إلا بها.(19/497)
لذلك نرى أن فعل عمر رضي الله عنه مع الرجل الذي ترك لحيته تطول دون حد، ثم عدم إنكار الصحابة على عمر في هذا التصرف؛ دلالة على أن المعنى الذي تدل عليه هذه الألفاظ ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما إذا لم يفحش، كما أن توفيرها إلى هذا الحد تتحقق فيه العلة التي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحية لأجلها، وهي مخالفة أهل الكتاب والمشركين الذين يحلقون لحاهم أو يقصرونها، ونستبعد عدم وصول شيء من هذه الأحاديث إلى عمر كما نستبعد نسيانه لها.
من جهة أخرى فقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة، أنهما كانا يأخذان من لحيتهما ما يزيد على القبضة مع أنهما قد رويا أحاديث الأمر بالإعفاء مما يدل على أن الأمر ليس على إطلاقه.
قد يقال: إن الثابت عن ابن عمر: أنه كان يأخذ ما يزيد على قبضته في الحج أوالعمرة. نقول: فمن أين أخذ ابن عمر جواز الأخذ في النسك مع أن الأحاديث التي جاءت في الإعفاء مطلقة لم تستثن حالة النسك، والنسك قد نص فيه على الأخذ من شعر الرأس حلقا أو تقصيرا.
وعلى ذلك نقول: إن التحديد بالقبضة أو ما يقاربها زيادة أو نقصا، هو المعيار الذي ينبغي أن يصار إليه، مع عدم الإنكار على من يزيد على ذلك بشرط ألا يفحش وإلا أمر بالأخذ منها لأن هذا يتنافى مع الأمر بالزينة التي أمر الله الناس بالأخذ في أسبابها في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية [20] .(19/498)
وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث طويل لقيس بن بشر التغلبي عن أبيه: "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جُمّته وإسبال إزاره"، فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرته فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه"، وفيه أيضا: "إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش" أخرجه أبو داود وسكت عنه [21] ، والفحش كل ما يشتد قبحه من ذنوب ومعاصي، ويكثر وروده في الزنا، وكل خصلة قبيحة فاحشة من الأقوال والأفعال.
والتفحش هو تكلف الفحش وتعمده في الهيئة الرديئة والحالة الكثيفة داخلة أيضا تحت التفحش والتفحش وإن الله جميل يحب الجمال [22] .
الخصال المكروهة في اللحية:
ذكر الإمام النووي في المجموع عددا من الخصال المكروهة في اللحية نقلا عن الإحياء للغزالي الذي كان قد نقلها بدوره عن قوت القلوب لأبي طالب المكي، وفيما يلي بيان لهذه الخصال مع بيان سبب كراهتها وموقف العلماء منها إن وجد.
الخصلة الأولى: خضاب اللحية بالسواد، والأصل في كراهة الخضاب بالسواد ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة" [23] .
وعند أحمد من حديث قصة إسلام أبي قحافة: "…فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروهما وجنبوه السواد" [24] .
لذلك قال أكثر العلماء بكراهة الخضاب بالسواد…وقال النووي: "والصحيح بل الصواب: أنه حرام". ثم حكى عن مذهب الشافعية عدم التفرقة في المنع بين الرجال والنساء، وحكى عن إسحاق بن راهوية أنه رخص فيه للمرأة: أن تتزين به لزوجها [25] .(19/499)
وقد رخص في الخضاب بالسواد طائفة من السلف، منهم سعد بن أبى وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم من كتاب الخضاب له، وأجاب عن حديث ابن عباس السابق؛ بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم، وعن حديث جابر السابق في قصة إسلام أبى قحافة؛ بأن ذلك في حق من صار شيب رأسه مستبشعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد [26] .
وقد رخص فيه بعض العلماء إذا كان المرء مجاهدا، لما فيه من إدخال الرهبة في نفوس الأعداء بإظهار الشباب وما ينطوي عليه ذلك من مظهر القوة [27] .
الخصلة الثانية: تبييض اللحية بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة، وإظهارا للعلو في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم، أو لقبول حديثه وإيهام اللقاء بالمشايخ.
الخصلة الثالثة: خضابها بحمرة أو صفرة تشبها بالصالحين ومتبعي السنة وعلة الكراهة هنا هي النية السيئة أما الأصل في الخضاب بالتحمير أو التصفير فهو محمود وقد حث عليه صلى الله عليه وسلم فقد نقل أحمد في المسند بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: "يا معشر الأنصار: حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب" [28] .
الخصلة الرابعة: نتفها من أول طلوعها وتحفيفها بالموسى إيثارا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه، وتعتبر هذه الخصلة أقبح الخصال المكروهة في اللحية.
الخامسة: نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم عند أبي داود: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يصيب شيبة في الإسلام - قال عن سفيان: إلا كانت له نورا يوم القيامة وقال في حديث يحيى: إلا كتب الله له بها حسنة وحط بها عنه خطيئة" [29] .
وعن الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب وقال إنه نور المسلم" وقال: هذا حديث حسن [30] .(19/500)
قال ابن العربي: "وإنما نهى عن النتف دون الخضب لأن النتف فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه" [31] .
السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن.
السابعة: الزيادة فيها والنقص منها، قال الغزالي: تكره الزيادة في اللحية والنقص منها وهو أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه أوينزل فيحلق بعض العذارين [32] .
الثامنة: تسريحها تصنعا ورياء لأجل الناس.
أقول:اعتبار التسريح من الخصال المكروهة إذا كانت تصحبه نية الرياء وحب الثناء والتظاهر بمظهر العجب والخيلاء، أما التسريح لأجل النظافة وتحسين الهيئة فهو أمر محمود، فقد أخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده أن أخرج كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان" [33] ، والثائر: الشعث: بعيد العهد بالدهن والترجل.
وكذلك حديث أبي قتادة الأنصاري الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "إن لي جمة أفأرجلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونعم وأكرمها" [34] ، الحديث رجال إسناده رجال الصحيح [35] .
وأيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له شعر فليكرمه" قال في الفتح: وإسناده حسن وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات.
قال الشوكاني بعد ذكره لحديث أبي هريرة وما قاله الحافظ بشأنه: فيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح [36] .(20/1)
الخصلة التاسعة: ترك اللحية شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، وأيضا كانت هذه الخصلة من الخصال المكروهة لأجل النية السيئة، أما من شغل عنها بعمل أو مرض أو غير ذلك حتى تشعثت فأرجو ألا يكون عليه بأس.
الخصلة العاشرة: النظر إلى اللحية إعجابا وخيلاء غرة بالشباب أو فخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب [37] .
حكم اتخاذ اللحية:
فيما تقدم عرفنا أن اتخاذ اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد هنا بيان موقع هذه السنة من الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة لدى أكثر الفقهاء: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة.
وإنما قلت أكثر الفقهاء: لأن بعضهم يعتبر الأحكام التكليفية ستة، باعتبار السنة من بين الأحكام ليست مندرجة في الوجوب أو الندب، وبعضهم يعتبرها سبعة: الفرض، والوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والكراهة التحريمية، والكراهة التنزيهية، والإباحة.
فهل إطلاق لفظ السنة على اللحية، يقصد به معنى السنة عند الفقهاء، وهي ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، أو ما طلبه الشارع طلبا غير جازم أو الأمر الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر فيه بعزيمة، حسب اصطلاح كل منهم في بيان السنة.
أو أن هذا الإطلاق: باعتبار أن مشروعية السنة إنما ثبتت بواسطة السنة؟
واضح من استعراضنا للأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة وما انطوت عليه من الأوامر المشددة؛ إن إطلاق السنة على اللحية: هو أن مشروعيتها ثبتت بالسنة، وأن حكم اتخاذها واجب وأن إزالتها نهائيا بالموسى أو بالنورة أو بأي مزيل آخر حرام.
وقد شدد بعض العلماء النكير على فاعل ذلك: قال أبو شامة: "وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس: إنهم كانوا يقصونها" [38] .(20/2)
وإني لأعجب من قول القاضي عياض: "يكره حلقها وقصها وتحريقها" [39] : إذ سوى بين إزالتها وبين تقصيرها، وقد ثبت التقصير - على الأقل- من بعض الصحابة؛ لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يحلق لحيته ولو مرة واحدة.
كما أعجب لبعض أهل العلم الذين يحلقون لحاهم ويدّعون أن سنة اللحية كانت خاصة بسكان الجزيرة العربية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه من المسلم فقها وأصولا أن فعله صلى الله عليه وسلم الأصل فيه التشريع إلا لقرينة دالة على الخصوصية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن طلب اللحية جاء بألفاظ الأمر الصريحة المقتضية للوجوب، والتي لا يمكن تأويلها أو ليّها إلى مثل هذه الدعوى، كما أننا لم نعثر على أي قرينة يمكن أن تكون صارفة لهذه الأوامر عن ظاهرها.
وأما ذكر إعفاء اللحية مع سنن الفطرة؛ فقد قلنا: إن المراد من لفظ السنة في الحديث، هو الطريقة وليس هو المعنى الذي قصده الفقهاء من السنة: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه..الخ.
وقد صرح علماء المالكية بحرمة الحلق قولا واحدا حيث قال العدوي: "إن حلق اللحية بدعة محرمة" [40] إلا أنهم قد اختلفوا في حكم تقصيرها والمختار عندهم أنه يستحب تقصيرها إن طالت جدا، فإن لم تطل أو طالت قليلا وحدثت مبالغة في القص بحيث صار الشخص مثلة - عند أهل الاعتبار- فإن القص يحرم في هذه الحالة وإن لم يحصل تجاوز في القص ولم تحصل به مثلة فإنه خلاف الأولى [41] .
الحكم فيما إذا نبتت للمرأة لحية:
اختلف الفقهاء فيما إذا نبتت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فحكي عن الإمام الطبري: أنه لا يجوز لها حلق شيء من ذلك ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص [42] .
وحكى النووي عن مذهب الشافعية أنه يستحب لها حلق ذلك [43] .
وقال العدوي المالكي: ويجب على المرأة إزالة ما في إزالته جمال ولو شعر اللحية إن نبتت لها لحية [44] .(20/3)
الحكمة من مشروعية إعفاء اللحية:
تنطوي مشروعية إعفاء اللحية على كثير من الحكم الجليلة والمعاني العظيمة وقد أشرنا إليها فيما سبق ويمكن تلخيص هذه الحكم فيما يلي:
1- تعتبر اللحية عنوانا بارزا على رجولة الرجل ومروءته وشجاعته.
2- اللحية تكسب الرجل ثباتا في عواطفه ورزانة في مواقفه وحكمة في تصرفاته مع أهله وغيرهم.
3- تعتبر اللحية حارسا أمينا على نزعات القلب وخلجات الشيطان فإذا ما وسوس الشيطان وزيّن للمرء الاقتراب من معصية تذكر هيئته موقف الناس منه.
4- اللحية شعار المسلمين فمن حافظ عليها فقد حافظ على شعار هام من شعارات الإسلام.
5- في إرسال اللحية مخالفة لأهل الكتاب والمجوس وغيرهم من ملل الكفر.
الخصلة الرابعة عشرة: فرق شعر الرأس:
الفرق - بإسكان الراء - تفريق بين الشيئين حين يتفرقا، والفرق: الفصل بين الشيئين، وقوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} [45] ، قال ثعلب: هي الملائكة تُزَيّل بين الحلال والحرام، وقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [46] ، أي فصلناه وأحكمناه.
ورّق الشعر بالمشط: يَفرُقه، يفرِقه فرقا، وفرَّقه: سرحه، والفرق: موضع المفرق من الرأس، وفرق الرأس: ما بين الجبين إلى الدائرة.. ومفرَقه كذلك وسط الرأس.
وقولهم للمفرق: مفارق: كأنهم جعلوا كل موضع منه فرقا فجمعوه على ذلك، ومنه قول عائشة رضي الله عنها عند البخاري: "كأني أنظر إلى وبيصة الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم…الحديث" [47] .
ونقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض قوله: "الفرق هو فرق شعر الرأس بعضه عن بعض وكشفه عن الجبين، والسدل هو إرسال اشعر وعدم ضم جوانبه" [48] .(20/4)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام يخالف ما كان عليه المشركون من العوائد وكانوا يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل فيه وحي؛ على اعتبار أنهم أهل دين في الجملة، وقيل: كان يوافقهم فيما لم ينزل فيه شيء؛ رغبة في استئلافهم وميلهم إليه واتباعهم لشريعته، وكانوا يسدلون شعورهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسدل شعره أولا مخالفة للكفار وموافقة لأهل الكتاب، فلما انتشر الإسلام وأسلم المشركون وظل أهل الكتاب على ما هم عليه وكفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم جحدا وعنادا خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سدلهم الشعر وكان يفرقه ويأمر زوجاته أن يفعلن ذلك به؛ ففي حديث ابن عباس عند البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد" [49] .
وفي الموطأ سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ما شاء الله ثم فرق بعد ذلك" [50] .
حكم الفرق:
حكى الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض: أن الفرق سنة واستند إلى أنه هو الذي استقر عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويفهم مما حكاه الحافظ عن بعض العلماء، أن الفرق واجب وأنه قد نسخ به السدل، ووجهه: أنه قد جاء في حديث ابن عباس: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"، فالظاهر أنه فرق بأمر من الله، وقد حكى عن عمر بن عبد العزيز، كما جزم بذلك الحازمي.
أقول إن الظاهر الذي حكاه الحافظ قد صرح به في رواية معمر إذ جاءت بلفظ: "ثم أمر بالفرق"ومعلوم أن الأمر إذا أطلق يستفاد منه الوجوب.(20/5)
وقد عقب القرطبي على هذا القول بقوله: "الظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب بقصد الاستئلاف فلما لم يؤثر فيهم ذلك، أحب مخالفتهم ففرق، وحينئذ يكون الفرق مستحبا، وما جاء في الحديث بلفظ الأمر؛ لا يبعد عن ذلك لأن الأمر يشمل الواجب والمندوب".
كما أن دعوى النسخ ليست واردة إذ لو كان السدل منسوخا لتركه الصحابة رضي الله عنهم أو أكثرهم، لكن المنقول عنهم أن بعضهم كان يفرق والبعض الآخر كان يسدل شعره ولم يعب بعضهم على بعض.
لذلك قال الجمهور باستحباب الفرق اتباعا لما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو المختار.
وقد حكى الحافظ ابن حجر رأي النووي بقوله: قال النووي: الصحيح جواز السدل والفرق [51] .
ولكن الموجود في المجموع له: قوله: يستحب فرق شعر الرأس لحديث ابن عباس وذكر الحديث [52] .
ولعله أطلق الجواز لما هو أعم من المباح المستوي الطرفين؛ فقد يطلق الجواز على ما يقابل الحرام حيث يراد به ما يشمل المكروه والمندوب والمباح، أو كان يرى أولا الجواز الذي يراد به المباح المستوي الطرفين، ثم تبين له بعد ذلك أنه مستحب فصرح به في المجموع وهو من آخر أعماله رحمه الله.
الخصلة الخامسة عشرة: الختان:
الختان - بكسر الخاء- من الختن وهو موضع القطع من الذكر والأنثى ومنه الحديث: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
ويطلق الختان على الذكر والأنثى، وقيل الختْن للرجال والخفاض للإناث، ويقال لقطعهما: الإعذار والخفض.
والختانة: صناعة الخاتن، والختن: فعل الخاتن الغلام [53] .
وقد عرفه بعض العلماء بأنه: قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص [54] ، والمراد به بالنسبة للرجل: هو قطع الجلدة التي تغطى الحشفة بحيث تنكشف الحشفة كلها، وقيل: يكفي قطع شيء من القلفة وإن قلّ بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وصحح القول الأول [55] .(20/6)
وبالنسبة للمرأة قطع جزء من الجلدة التي توجد فوق مخرج البول وتشبه عرف الديك [56] .
وقد استحب العلماء في ختان الرجل: العمل على استئصال الجلدة التي تغطى الحشفة بحيث يكون القطع من عند أول الحشفة، أما في المرأة فينبغي الاقتصار على أخذ جزء يسير ولا يبالغ في القطع، أخذا بحديث أم عطية رضي الله عنها: أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل" ولا تنهكي: بفتح التاء والهاء، أي لا تبالغي في القطع وفي رواية: "أشمي ولا تنهكي"شبه القطع اليسير بإشمام الرائحة والنهك المبالغة فيه.
والحديث أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي [57] قال الحافظ ابن حجر: وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي [58] .
وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت له فلقته أي اتسعت فصار كالمختون، وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على الموضع من غير قطع امتثالا للأمر.
وحكى ابن الحاج المالكي قولين في المسألة: القول السابق عن الشافعية وقول آخر لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأن هذه مؤنة كفانا الله إياها فلا حاجة تدعو إلى فعلها ولأن كشف العورة من كبير أو صغير لا يباح إلا لضرورة شرعية والضرورة معدومة في هذه الحالة [59] .
وقال ابن الحاج: واختلف في حق النساء: هل يخفضن مطلقا أم يفرق بين نساء أهل المشرق ونساء أهل المغرب، فنساء أهل المشرق يؤمرن به لوجود الفضلة عندهن من أصل الخلقة ونساء أهل المغرب لا يؤمرن به لعدمها عندهن وذلك راجع إلى مقتضى التعليل فيمن ولد مختونا، فكذلك: سواء بسواء، يقصد أنه يجري في هذه المسألة القولان السابقان فيمن ولد مختونا [60] .(20/7)
أقول: قد قطع الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة المقيس عليها: حيث قال: لو ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان؛ لا إيجابا ولا استحبابا..
ثم قال: فإن كان من القلفة التي تغطي الحشفة شيء موجود وجب قطعه، كما لو ختن ختانا غير كامل فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يَبِين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان [61] .
حكم الختان:
نظرا لعدم ورود نصوص صريحة - ثابتة- من الشارع توضح مدى مشروعية الختان، فقد اختلفت آراء الفقهاء فيه اختلافا كبيرا حسب ما وصل إلى كل منهم من الأخبار الدالة على مدى هذه المشروعية، ونشير فيما يلي - بإيجاز- إلى أهم الآراء في حكم الختان ثم نذكر أدلة كل منهم إن شاء الله تعالى.
ذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أن الختان واجب للرجال والنساء، وروي هذا القول عن عطاء إذ نقل عنه قوله: لو أسلم الكبير لا يتم إسلامه حتى يختتن، كما نقل هذا الرأي أيضا عن سحنون من المالكية.
وروي عن أبى حنيفة قولان: أحدهما: بأنه واجب وليس بفرض.
ثانيهما: بأنه سنة يأثم تاركه.
وذهب مالك وأكثر العلماء إلى أنه سنة في حق الرجال والنساء، وفي كتب كثير من المالكية: بأنه سنة في حق الرجال مستحب في حق النساء، ونقل هذا الرأي عن بعض الشافعية وعن أبي حنيفة.
وذهب أحمد بن حنبل إلى أنه واجب في حق الرجال سنة في حق النساء.
كما أن هناك وجها عند الشافعية يذهب إلى أنه ليس بواجب في حق النساء [62] .
وبالجملة فقد انحصرت الأقوال في ثلاثة آراء.
الأول: واجب في حق الرجال والنساء.
الثاني: واجب في حق الرجال سنة في حق النساء.
الثالث: سنة في حق الرجال والنساء.
مستند كل رأي من هذه الآراء الثلاثة:
استند من يقول بالوجوب مطلقا إلى عدد من الأدلة من أهمها ما يلي:(20/8)
الأول: قال تعالى: {… أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [63] وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث إبراهيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" [64] .
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة، ومنها: الختان، والابتلاء: إنما يقع غالبا بما يكون واجبا.
وقد نوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يتم الاستدلال بهذا الحديث إلا إن كان إبراهيم عليه السلام قد فعله على سبيل الوجوب؛ إذ من الجائز أن يكون قد فعله على سبيل الندب، فيحصل الامتثال باتباعه على وفق ما فعل فيكون مندوبا، وقد قال تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [65] ، وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، كما أن باقي الكلمات العشر ليست واجبة.
وقد أجيب عن هذه المناقشة: بأن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله.. وقد نقل الحافظ ابن حجر عن أبي الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه "أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة، فعجل واختتن بالقدوم، فاشتد عليه الوجع فدعا ربه، فأوحى الله إليه: إنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك ... "ثم قال بعد ذلك.. والاستدلال متوقف على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا.. فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق [66] .
الثاني: ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألق عنك شعر الكفر واختتن" أخرجه أبو داود، قال الحافظ ابن حجر سنده ضعيف، وقد قال ابن المنذر لا يثبت فيه شيء [67] .(20/9)
الثالث: جواز كشف العورة من المختون، وجواز نظر الخاتن إليها وكلاهما محرم في الأصل، فلو لم يجب الختن لما أبيح ذلك [68] .
وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل القاضي عياض: بأن كشف العورة مباح لمصلحة الجسم. والنظر إليها مباح للمداواة، وليس ذلك واجب إجماعا، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى، بل قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الإنصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية وكترك القيام في الصلاة لسجود التلاوة، ومن أمثال ذلك كثير [69] .
الرابع: احتج الخطابي بأنه من شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين، صلي عليه ودفن في مقابر المسلمين.
وقد نوقش هذا الاستدلال بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة، ما ادعاه في المقتول مردود لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة [70] .
الخامس: أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة بفمه.
وقد أجيب عن هذا بأن الفم في حكم الظاهر بدليل أن وضع المأكول فيه لا يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب البصري بأنه عذر مغتفر عند الشافعية.
هذه هي أهم الأدلة التي استند إليها من أوجب الختان للرجال والنساء، وقد ذكرنا عقب كل دليل ما نوقش به ليتبين مدى صلابة كل دليل وقوته على الاحتجاج به.
أما الرأي الثاني الذي يذهب إلى وجوبه على الرجال دون النساء فيمكن تقويته بالأدلة التي استند إليها الفريق الأول:
أما احتجاجه على أنه سنة للنساء فقد استدل له بحديث شداد بن أوس رفعه: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد فيه الحجاج بن أرطاة ولا يحتج به.
وأخرجه الطبراني في مسند الشافعي عن طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، وسعيد بن بشر مختلف فيه.(20/10)
وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس، كما أخرجه أيضا البيهقي من حديث أبي أيوب.
ونقل عن ابن عبد البر في التمهيد: هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطاة وليس ممن يحتج به [71] .
وجه الدلالة عند من استدل به: أن التفرقة قد وقعت في الحديث بين ختان الرجال والنساء، فدل ذلك على افتراق الحكم وبما أنه قد ثبت بالفعل بالأدلة السابقة وجوب الختان في حق الرجال، فيقابله: أنه سنة في حق النساء.
وقد أجيب عن ذلك بمنع أن السنة هي التي تقابل الواجب فقد يكون المقابل هو المندوب.
ومن جهة أخرى: فالسنة في الحديث: هي الطريق، وليست بمعنى السنة عند الفقهاء.
يضاف إلى ذلك ما قيل في ضعف الحديث.
أما الفريق الثالث فقد استدل له بحديث: "الفطرة خمس" وهو حديث صحيح، وقد ذكر الختان من الخمس.
وجه الدلالة فيه: أنه قد اتفق أكثر الفقهاء على أن ما ذكر من الختان من السنن، وبما أن الختان قد ذكر معها فيكون سنة.
وقد نوقش هذا الاستدلال بأنه بالاقتران وهو ضعيف.
وقد جاء في الجوهر النقي نقلا عن شرح العمدة: الاستدلال بالاقتران في هذا المكان قوي لأن لفظ الفطرة لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة فلو فرقت في الحكم أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب وفي بعضها لإفادة الندب لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين.. وإنما يضعف دلالة الاقتران إذا استعملت (الجمل في الكلام) [72] ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين كما جاء في الحديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة"فاستدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه [73] .(20/11)
وقد أجيب بأنه لا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [74] فإيتاء الحق واجب والأكل مباح.
وقد ردت هذه الإجابة: بأن هناك فرق بين الأية والحديث:
إذ أن الحديث تضمن لفظة واحدة استعملت في الجميع فتعين أن يحمل على أحد أمرين: الوجوب أو الندب بخلاف الآية فإن صيغة الأمر تكررت فيها والظاهر الوجوب فصرف في أحد الأمرين بدليل وبقي الآخر على الأصل،
وقد عقب الحافظ ابن حجر على هذا الرد بقوله: "إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يجيزه كالشافعية فلا يرد عليهم" [75] .
كما استدل أيضا لهذا الفريق بالحديث السابق "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء"وقد تقدم بيان وجه الدلالة منه وما ورد عليه من مناقشة [76] .
كما أنه يمكن أن يستدل له ثالثا: بحديث اختتان إبراهيم عليه السلام المتقدم.
وجه الدلالة فيه: ثبوت اختتان إبراهيم عليه السلام ويزيده ثبوتا ما جاء في الموطأ "كان إبراهيم أول الناس ضيّف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص الشارب" [77] .
والحديث وإن ذكره مالك موقوفا على سعيد بن المسيب، فقد قال الحافظ السيوطي: وصله ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة مرفوعا [78] .
وبما أنه لم يثبت الاستدلال بهذا الحديث على الوجوب فأقل ما يستفاد منه أنه سنة نظرا لأننا قد أمرنا باتباع ما كان يفعله إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} .
قال الشوكاني: والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنية كما في حديث (خمس من الفطرة) ونحوه والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه [79] .(20/12)
وهذا القول هو المختار؛ إلا أني أعتقد أن الختان في حق النساء أقل تأكيدا منه في حق الرجال؛ لما حكاه ابن عبد البر في التمهيد بقوله: "والذي أجمع عليه المسلمون أن الختان للرجال" [80] .
ولضعف الحديث الوارد في حقهن، ولأن المشاهد أن حاجة النساء إلى الختان أقل بكثير من حاجة الرجال إليه والله أعلم.
وقد توسع ابن القيم في هذا الموضوع فمن أراد المزيد فعليه الرجوع إليه [81] .
وقت الختان:
لم يرد في السنة - فيما أعلم - حديث ثابت في تحديد وقت للختان، لذلك حاول بعض الفقهاء أن يضع تحديدا؛ إما لأنه وجد حديثا ضعيفا فحاول أن يستند إليه - من باب: شيء خير من لا شيء - أو كان مراعاة لمصلحة المختون وسنوجز القول في بيان آراء هؤلاء العلماء ومستند كل فريق فيما يلي:
ذهب الشافعية إلى أن الختان له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، أما الوجوب فيبدأ من وقت البلوغ على الفور، أما وقت الاستحباب فيبدأ منذ الصغر، فإن لم يختن يوم السابع فيوم الأربعين، فإن كان لا يحتمل أُخّر للسنة السابعة فإن لم يختتن حتى بلغ وجب حينئذ الختان في حقه إلا أن يكون ضعيفا وعلم أن الختان يتلفه: فإن الوجوب يسقط..
وهل يحسب يوما الولادة من السبعة أيام؟ وجهان:
قال أبو علي بن أبي هريرة يحسب، وقال الأكثرون لا يحسب؛ فيختن في السابع بعد يوم الولادة.
وذكر النووي: أن ختان الصبي في وقت الصغر مستحب وليس بواجب، وقال: هو المذهب الصحيح المشهور في المسألة [82] .
وعند الشافعية وجهان آخران: أحدهما: أنه يجب على الولي ختانه في الصغر لأنه من مصالحه [83] ، وقد فسر أبو الفرج السرخسي العلة في ذلك بقوله: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك [84] .(20/13)
والوجه الثاني: أنه يحرم ختانه قبل عشر سنين لأن ألمه فوق ألم الضرب ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين، وقد ضعف النووي هذا الوجه، وقال عنه ليس بشيء وهو كالمخالف للإجماع [85] .
ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود.
وقال مالك: يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه وذلك يكون في السبع سنين وما حولها.
وسئل مالك عن حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أيام"، فقال: لا أدري ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي [86] .
ونقل النووي عنه: عامة من رأيت: الختان ببلدنا إذا أثغر الصبي، كما نقل عن الليث بن سعد: يستحب بابن سبع سنين إلى عشر سنين، ونقل عن أحمد قوله: لم أسمع فيه شيئا [87] .
من هنا نتبين أنه لم يرد حديث صحيح في توقيت الختان، وأن القول بوجوبه وقت البلوغ ليس عليه دليل وربما كان متمسك هذا الفريق حديث سعيد بن جبير عند البخاري.. قال: "سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" أي يبلغ [88] .
وليس فيه دلالة على الوجوب: إذ كل ما يدل عليه أن عادتهم كانت كذلك. على أنه قد اختلف في سنه يوم وفاته صلى الله عليه وسلم من عشر سنين إلى ثلاث عشرة سنة إلى خمس عشرة سنة وقد صوب أحمد بن حنبل أنه كان ابن خمس عشرة سنة وقال ابن القيم: "والذي عليه أكثر أهل السير والأخبار أن سنه كان يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة.. ثم قال: وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ بحيث يبلغ مختونا فإن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به [89] .
والمختار ما قال به ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع ولا سنة تتبع والأشياء على الإباحة [90] .(20/14)
وزاد ابن القيم نقلا عن ابن المنذر: ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة ولا نعلم مع منع أن يختتن الصبي لسبعة أيام حجة [91] .
قال ابن الحاج: قد مضت عادة السلف أنهم كانوا يختنون أولادهم حين يراهقون البلوغ. لكن قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع أو نحوه، والأمر في ذلك قريب، فأي شيء فعله المكلف كان ممتثلا، وذلك راجع إلى مقتضى التعليل لأن الصغير ليس بمكلف والقطع منه قبل تكليفه: فيه إيلام له بما لا يلزمه في الوقت، وأما ختانه حين المراهقة فهو متعين لأن كشف عورته بعد البلوغ محرم لكن يدخل عليه في ذلك الألم الشديد والبطء في البرء بخلاف الصغير فإن ألمه خفيف وبرأه قريب [92] .
مقتضى ما تقدم: أنه يراعى في وقت الختان مصلحة الصبي ومصلحته تتطلب ختانه وهو صغير قبل أن يكبر وتكبر الآلام معه.
على أنه يراعى في التوقيت كذلك حماية الصبي من حيث الصحة وحالة والديه من جهة إمكانهما القيام على رعايته أثناء الختان وبعده حتى يبرأ.
ختان الخنثى المشكل:
قال بعض علماء الشافعية: إن الخنثى المشكل يجب ختانه في فرجيه جميعا، لأن أحدهما واجب ولا يتوصل إليه إلا بختناهما.
وقال بعض آخر بعدم ختان الخنثى المشكل؛ لأنه يترتب عليه أن يُجرح على الإشكال وهو لا يجوز واستظهر النووي القول الثاني وقال إنه المختار [93] .
وأقول إن الخنثى يعطى حكم غيره في الختان لعموم الأدلة. إذ ليس فيها مخصص لمولود دون غيره. على أنه يختن في فرجيه جميعا إن تساويا في النمو وإلا بأن كان أحدهما ناميا دون الآخر فإنه يختن في النامي لأن هذا النمو غلّب انتماءه إلى أحد الجنسين والله أعلم.
وقد صرح المالكية بأن الشخص إذا لم يختن قبل بلوغه فإنه يؤمر بختن نفسه بعد البلوغ ولو كان خنثى مشكلا [94] .
إظهار ختان الذكر وإخفاء الأنثى:(20/15)
قال ابن الحاج يستحب في ختان الذكر إظهاره وفي ختان الأنثى إخفاؤه، وأما الدعوة إلى الختان، فقد صرح بعض العلماء باستحبابها كما تندب الإجابة لها، وقد حكى هذا القول عن أحمد والشافعي وأبى حنيفة وأصحابه.
وقال العنبري تجب إجابة كل دعوة لعموم الأمر به فإن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" أخرجه أبو داود [95] ونسب ابن حزم الوجوب إلى جمهور الصحابة والتابعين مستدلا بالحديث السابق وبما ورد في معناه [96] .
والمختار الاستحباب؛ لأن الأمر ورد بجوب إجابة الوليمة إذا كان لعرس: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" رواه ابن ماجه [97] ، وقال عثمان بن أبي العاص: "كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى إليه" [98] .
أجرة الختان:
أجرة ختان الطفل في ماله؛ فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته [99] .
الحكمة من كون الختان من سنن الفطرة:
الختان إلى جانب كونه سنة من أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثنا عليها فإنه يشتمل على معان سامية وحكم جليلة نجمل بعضها فيما يلي:
1- في الختان فائدة صحية هامة فقد ثبت أن القلفة إذا لم تقطع في الوقت المناسب: فإنه يتكون يتكون تحتها خلايا (ميكروبية 9) تتكاثر باستمرار وتسبب أضرارا بالغة الشدة والخطورة على الشخص ولذلك يكون العلاج الطبي من المختصين هو الأمر بإزالة القلفة فورا..
2- عند التبول تتسلل بعض قطرات البول إلى التجويف الموجود بين القلفة وبين رأس الذكر، وهذه القطرات إلى جانب كونها مرتعا خصبا للجراثيم في هذه المنطقة، فإنها كثيرا ما يخرج بعضها بعد التطهر فتصيب النجاسة الثوب والبدن كما أنها تسبب كثيرا من الوسوسة لدى الشخص إذ يظن أنها خارجة من الذكر فيعيد وضوءه المرة بعد الأخرى.(20/16)
3- إزالة القلفة لها تأثير طيب على المعاشرة الزوجية.
4- هذا كله إلى جانب كون الختان شعارا هاما من شعارات الإسلام إذ به يفرق بين المسلم وغيره، لأن الغالب؛ أنه لا يحافظ على الختان إلا المسلمون، والله اعلم.
وبعد؛ فبجهد المقل وما أتيح من مراجع وما أمكن اقتناصه من الوقت حاولت جاهدا تجلية ما تضمنته هذه السنن النبوية الكريمة من آداب وأحكام وتشريعات؛ فأرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه كما أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتقبله مني وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، كما أتوجه إليه تعالى برجاء المغفرة لما يكون قد وقع فيه - عن غير قصد - من زلل أو خطأ؛ إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فتح الباري جزء 12ص471، ولسان العرب جزء:20 ص108 مادة لحا.
[2] لسان العرب ج20 ص108، ص109 مادة لحا.
[3] فتح الباري ج12 ص473.
[4] صحيح مسلم ج1 ص153.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] صحيح مسلم ج1ص153.
[8] صحيح البخاري ج12 ص471 فتح الباري.
[9] فتح الباري ج12 ص471.
[10] عون المعبود ج1 ص255.
[11] المجموع ج1 ص349 مطبعة العاصمة.
[12] طرح التثريب ج2 ص83.
[13] فتح الباري ج12 ص471.
[14] عمدة القاري ج22 ص47.
[15] المجموع ج1 ص349.
[16] تحفة الأحوذي ج8 ص44، عمدة القاري ج22 ص47.
[17] طرح التثريب ج2 ص83.
[18] شرح الزرقاني على الموطأ ج4 ص334.
[19] العدوي علي أبي الحسن ج2 ص346.
[20] سورة الأعراف الآية رقم 31.
[21] عون المعبود ج11 ص149.
[22] عون المعبود ج11 ص149.
[23] عون المعبود ج11 ص266.
[24] نيل الأوطار ج1 ص141.(20/17)
[25] المجموع ج1 ص352 مطبعة العاصمة.
[26] عون المعبود ج11 ص267 بإيجاز.
[27] المجموع 1 ص350 مطبعة العاصمة.
[28] عون المعبود ج11 ص267.
[29] عون المعبود ج11 ص256.
[30] تحفة الأحوذي ج8 ص108.
[31] عون المعبود ج11 ص256.
[32] المجموع ج1 ص350 مطبعة العاصمة.
[33] الموطأ ج4 ص338 من شرح الزرقاني.
[34] المرجع السابق.
[35] نيل الأوطار ج1 ص148.
[36] نيل الأوطار ج1 ص146.
[37] طرح التثريب ج2 ص83، والمجموع ط ص35.
[38] فتح الباري ج2 ص472.
[39] هذه اللفظة وجدت هكذا في كثير من النسخ ووجدت في بعضها بلفظ: تحذيفها، فعلى الأول: تكون بمعنى التقصير وعلى الثاني تكون بمعنى أخذ جوانبها بالموسى، ولا أدري أي المعنيين أراد القاضي عياض.
[40] العدوي على أبي الحسن ج2 ص345.
[41] العدوي على أبي الحسن ج2 ص346.
[42] المجموع ج1 ص349 العاصمة.
[43] المرجع السابق.
[44] العدوي على أبي حسن ج2 ص345.
[45] سورة المرسلات الآية رقم: 4.
[46] سورة الإسراء الآية رقم: 106.
[47] عمدة القارئ ج22 ص56، لسان العرب ج12 ص176 مادة فرق.
[48] فتح الباري ج12 ص484.
[49] فتح الباري ج12 ص483.
[50] الموطأ ج2 ص232.
[51] فتح الباري ج12 ص484.
[52] المجموع ج1 ص353.
[53] لسان العرب ج16 ص295 مادة ختن.
[54] تحفة الأحوذي ج8 ص34.
[55] المجموع ج1 ص356 مطبعة العاصمة.
[56] المرجع السابق.
[57] عون المعبود ج14 ص183،ص184.
[58] فتح الباري ج12 ص460.
[59] المدخل ج3 ص296 الطبعة الثانية دار الفكر.
[60] المرجع السابق.
[61] المجموع ج1 ص359.
[62] المجموع ج1 ص256 فتح الباري ج12 ص460 طرح التثريب ج2 ص75.
[63] سورة النحل الآية رقم133.
[64] صحيح البخاري ج8 ص81.(20/18)
[65] سورة الأعراف الآية رقم 158.
[66] فتح الباري ج12 ص463، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص326.
[67] فتح الباري ج12 ص463، والسنن الكبرى ج8 ص324.
[68] المرجع السابق ج12 ص463.
[69] طرح الترثيب ج2 ص75، فتح الباري ج12 ص462.
[70] فتح الباري ج12 ص462.
[71] فتح الباري ج12 ص461، وعون المعبود ج14 ص186، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص325.
[72] هكذا والمعنى غير واضح ولعل الأصح: في جملة من الكلام.
[73] الجوهر النقي للعلامة علاء الدين بن علي بن عثمان المرديني الشهير بابن التركماني على حاشية كتاب السنن الكبر ى للبيهقي ج8 ص323.
[74] سورة الأنعام الآية رقم 141.
[75] فتح الباري ج12 ص461.
[76] السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص325 ونيل الأوطار ج1 ص135.
[77] تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج2 ص219 الطبعة الأخيرة.
[78] تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج2 ص219.
[79] نيل الأوطار ج1 ص435.
[80] عون المعبود ج14 ص190.
[81] تحفة المودود بأحكام المولود طبعة دار الكتب العلمية لبنان من ص127-إلى 141.
[82] المجموع ج1 ص357.
[83] المجموع ج1 ص357.
[84] فتح الباري ج12 ص463.
[85] المجموع ج1 ص357.
[86] فتح الباري ج12 ص461.
[87] المجموع ج1 ص359.
[88] نيل الأوطار ج1 ص136، وصحيح البخاري ج8 ص81 طبعة صبيح بالقاهرة.
[89] تحفة المودود ص142.
[90] الجوهر النقي، انظر حاشية السنن الكبرى ج8 ص327.
[91] تحفة المودود ص145.
[92] المدخل ج3 ص296.
[93] المجموع ج1 ص358.
[94] العدوي على أبي الحسن ج2 ص345.
[95] عون المعبود ج10 ص204.
[96] المحلى ج1 ص22، ص204. دار الاتحاد العربي للطباعة - القاهرة.
[97] سنن ابن ماجه ج1 ص591 الطبعة الثانية دار الفكر.
[98] المغني ج7 ص286.(20/19)
[99] المجموع ج1 ص358.(20/20)
تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام
الدكتور جمعة الخولي
الأستاذ بكلية الدعوة بالجامعة
الزواج سنة الإسلام، شرعه الله ليعف الإنسان نفسه، ويحافظ على بقاء نسله وليكون طريقا للتواصل والبر والرحمة، وسكنا يثوي إليه الزوجان، فيلقيان عنده أعباء الحياة الخارجية إلى حين.
والإسلام يرفع من مكانة الزواج وأهميته، ويسمو بحكمته حتى يجعله من أقوى أسباب التواد بين الغرباء، والتقارب بين البعداء، وتوثيق أواصر القربى بين الأسر بعضها وبعض قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [1] .
ولقد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى أن الزواج واجب يأثم من تثاقل عنه ما دام قادرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم" [2] . كما قال عليه الصلاة والسلام: "من كان منكم ذا طول فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا فالصوم له وجاء" [3] .. وقد أحاط الإسلام الزواج بما يحفظ عليه استمراره واستقراره، ويبقي على آثاره الطيبة، وغاياته النبيلة.
فكان أن شرع من ما شرع، رخصة تعدد الزوجات إلى أربع إذا اقتضته الضرورة وألجأت إليه الظروف، واشترط على الأزواج العدل والتسوية بينهن في السكن والرزق، وأن تكون لديهم القدرة على الحياة الزوجية.. قال سبحانه: {.. فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4] .(20/21)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" [5] ، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا" [6] .
وإن أعداء الإسلام ومثيري الشغب ضده، اتخذوا من ذلك التشريع الحكيم ذريعة للطعن في نظام الإسلام… والحط من قيمة المرأة، ليشككوا في صلاحية هذا الدين ومقومات خلوده وبقائه على امتداد العصور… وقبل الحديث عن التعدد وحكمته وواقعيته في الإسلام، أحب أن أسأل أولا… هل الإسلام هو الذي أنشأ التعدد وابتدعه وأطلقه حتى يؤاخذ به، أم هو الذي قيده وضبطه حتى يحمد له…
إن الذين كتبوا عن تاريخ الزواج على اختلاف النظم الإنسانية بينوا أن التعدد كان معروفا في جميع البيئات قبل الإسلام، يهودية ومسيحية، عربية وغير عربية.. أباحته اليهودية دون حد، وكان ذلك شائعا في ملوكها وأنبيائها، ولا توجد في أسفار العهد القديم نصوص تحرم التعدد أوتمنعه عن الآباء والأنبياء ولمن دونهم من الخاصة والعامة [7] .
كما كان التعدد فاشيا في العالم المسيحي بين العامة ورجال الدين، إذ أن أسفار العهد القديم وهي - مقدسة لدى النصارى - تبيحه ولا تمنعه.. ثم أنه لم يرد في النصوص الأولى للمسيحية التي تحكيها أناجيلهم المتداولة نص صريح يمنع تعدد الزوجات بل إنه يوجد في رسالة بولس إلى "تيموثاوس"ما يفيد أن التعدد جائز، فقد جاء فيها "يلزم أن يكون الأسقف بعل امراة واحدة" [8] ، [9] … وفي ذلك ما يدل على ان الزيادة على الواحدة لغير الأسقف جائزة، وإن منع تجدد الزوجات قاصر على رجال الدين، ومن يعدد منهم ينخرط في سلك العامة، ويمنع من الانخراط في سلك الكهنوت.(20/22)
كما ثبت تاريخيا ان بين المسيحيين الأقدمين من كان يتزوج أكثر من واحدة، وفي أباء الكنيسة الأقدمين من كان له كثير من الزوجات، يذكر الأستاذ عباس العقاد أن "وسترمارك"العالم في تاريخ الزواج قال: "إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلىالقرن السابع عشر وكان يتكرر كثيرا في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة" [10] .
ويقول الشيخ رشيد رضا: "وقد فشا التعدد في الرومان فعلا لا قانونا حتى حظره جوستنيان في قوانينه، ولكنه ظل فاشيا بالفعل، وأباحه ببعض البابوات لبعض الملوك بعد الإسلام كشرلمان ملك فرنسا الذي كان معاصرا للخليفتين المهدي والرشيد من العباسيين [11] ويقول المستشرق الفرنسي: "إتيين دينيه"الذي أسلم وسمى نفسه "ناصر الدين"هؤلاء ملوك فرنسا دع عنك الأفراد الذين كانت لهم الزوجات المتعددات والنساء الكثيرات وفي الوقت نفسه كان لهم من الكنيسة كل تعظيم وإكرام [12] .
وهكذا لو ترك أتباع الكنيسة الأمر على عهوده الأولى لكان التعدد جائزا عندهم، لكن الكنيسة خضوعا لمؤثرات أجنبية بعيدة عن تعاليم المسيحية ذاتها هي التي ابتدعت القول بمنع تعدد الزوجات، وأخذ رؤساؤهم الدينيون يؤولون في آيات الزواج كما أولوا في غيرها حتى أصبح التزوج بأكثر من واحدة حراما عندهم كما هو معروف.. وحتى قبل المسيحية واليهودية كان التعدد مباحا مأثورا عن الأنبياء أنفسهم فإبراهيم عليه السلام تزوج سارة وهاجر، ويعقوب تزوج ليئة وراحيل، وفي العهد القديم ما يدل على أن موسى كانت له زوجة أخرى مع ابنة الرجل الصالح [13] ، وأن كثيرا من أنبياء بني إسرائيل كانوا يعددون ومعروف أن داود وسليمان عليهما السلام كان لهما زوجات كثيرة، ولقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان عليه السلام كان له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من الجواري [14] ، [15] .(20/23)
فالإسلام لم يبتدع التعدد، وإنما جاء فوجده منتشرا في جميع الطبقات يمارسه اليهود والعرب وغيرهم على أوسع نطاق، دون التقيد بأي اعتبار، قال الطبري: "كان الرجل في الجاهلية يتزوج عشرة من النساء والأكثر والأقل" [16] .
فكان لا بد أن يتدخل الإسلام لعلاج هذه الظاهرة التي وصلت إلى حد الفوضى في كثير من الأحيان، وأصبح لا دافع من ورائها إلا التلذذ الحيواني، والتنقل بين الزوجات كما ينتقل الخليل بين الخليلات.. فكيف كان علاج الإسلام لها..ذلك ما نبينه في الفقرات التالية:
أولا: بعد أن كان الزواج مطلقا دون حد، متروكا للهوى دون قيد، من شاء فليستكثر ومن شاء فليقلل، قيد الإسلام ذلك بأربع نساء فقط، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [17] .. وعلى إثر نزول هذه الآية قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمر من كان معه أكثر من أربع أن يمسك منهن أربعا، ويسرح الباقي… روى ابن ماجه أن غيلان بن مسلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا" [18] وروى أيضا أن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اختر مهن أربعا" [19] .
وعن نوفل بن معاوية الرملي قال أيضا: "أسملت وعندي خمس نسوة"فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارق واحدة وامسك أربعا، فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها" [20] .
وهكذا ضبط الإسلام نظام التعدد وحدده بما لا يزيد عن أربعة، بعد أن كان مطلقا بدون حد، منطلقا دون قيد.(20/24)
ثانيا: إذا كان الإسلام حدد الزواج بما لا يزيد عن أربعة إلا أنه جعل لذلك شرطا هو إمكان القدرة على النفقة والقيام بأعباء الزوجية كاملة، وقيدا، هو ضرورة العدل بينهن في المعيشة والمعاشرة، وإلا {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [21] ، وبذلك الشرط والقيد تصان الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال، ومن الجور والظلم … وتحفظ كرامة المرأة حتى لا تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل.. والعدل المشروط هنا هو العدل المادي في المعاشرة والمعاملة، وفي النفقة والمعاشرة، وفي كل ما يمكن تحقيق العدل فيه ويدخل تحت طاقة الإنسان وإرادته بحيث لا تبخس زوجة حقها، ولا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء.. أما فيما يتعلق بمشاعر القلوب وأحاسيس النفوس، فذلك خارج عن إرادة الإنسان، واستطاعته، ولا يطالب بالعدل فيه أحد، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة في قول الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [22] .
ومع أن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه كأرفع ما يكون وأنبل ما يكون إلا أنه مع ذلك كان يقول: "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" [23] ، ذلك أن القلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، ولا سلطان لبشر عليها.(20/25)
ثالثا: التعدد علاج يقدمه الإسلام لما قد يطرأ على حياة الأسرة من علل وأدواء.. وهذا العلاج محكوم عليه بحكم الحاجة، وبحسب الحالة الطارئة الواقعة، فمن خرج به عن هذه الملابسات فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود الله، والإسلام في تشريعه هذا قائم على أساس أنه دين البشرية العام بمختلف أجناسها وبيئاتها وقد ضمنه الله عز وجل من الشرائع والأحكام ما يجعله صالحا وافيا بحاجات البشرية إلى قيام الساعة، وقد رخص في موضوع التعدد لمواجهة حالات واقعة في الحياة البشرية لا يمكن أن يقف حيالها مكتوف الأيدي، وإلا كان قاصرا عن مواجهة ظروف الحياة، وحاشا لشرع الله الكامل أن يكون كذلك.. ومن الحالات التي راعاها الإسلام، ورخص في التعدد إزاءها ما يلي:
1- إذا عقمت المرأة، أو ثبت أنها عاقر لا تلد، ووجدت لدى الزوج الرغبة الفطرية في النسل والإنجاب، أو إذا مرضت الزوجة مرضا مزمنا يطول برؤه أو يستعصي على العلاج، وقد لا يتمكن الزوج معه أن يعاشرها معاشرة الأزواج، وقد لا تستطيع هي الأخرى بإزائه أن تقوم بواجباتها كزوجة.. إن المرأة في هاتين الحالتين تكون أمام أحد أمرين.. إما أن يطلقها الزوج ويتزوج بأخرى تستطيع القيام بحقوق الزوجية وتحملها، وقد لا يكون هذا من الوفاء مع زوجة أعطته خدمتها وإخلاصها، وإما أن يبقي عليها مع زواجه بأخرى، وهذا حل قد ترتاح له المرأة العاقلة وتفضله على الطلاق، لأنه بالنسبة لحالة المرض تكون المرأة بحاجة إلى من يقف بجوارها ويتولى شئون علاجها، وفي حالة العقم نجد أن المرأة في كثير من االأحيان هي التي تقوم بعرض الزواج على الرجل وترغبه فيه، وقد تقوم هي بالخطبة له، وتعيش مع غيرها كعيشة الأختين، وقد كان ذلك أمرا عاديا في صدر الإسلام عندما كان النسوة متدينات مسلمات، يعرفن حق الله والزوج، فلما ساد الجهل بالإسلام، وفسدت التربية الصحيحة به أصبح الزواج بثانية مثار بغض بين العشائر وخلاف بين الأزواج.(20/26)
2- يوجد لدى بعض الرجال شبق [24] . لا يستطيعون معه التحكم في غرائزهم. ولا تكفى المرأة الواحدة لإحصانهم إما لعزوف المرأة عن ذلك الشيء لضعفها العام، أو لكبر سنها، أو أنها ذات طبع لا ينشط لتلبية رغبات الزوج كثيرا، فهل يكبت الرجل شهوته - والحالة هذه - أو يطلق لنفسه العنان فيخادن من يشاء من النساء؟ إن هذا وذاك لا يقبله شرع ولا دين، فلم يبق إلا أن يرخص له في الزواج بأخرى مع الإبقاء على الأولى، خاصة وأنه قد توجد لديها الرغبة الأكيدة في استدامة العشرة وعدم الانفصال بعضهما عن بعض.
3- هناك حالات يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال، ويظهر ذلك واضحا في أعقاب الحروب التي تأتي على كثير من الشباب، فماذا يكون الوضع والحالة هذه… إننا إذا منعنا التعدد، وقلنا لا بد من الاقتصار على نظام الزوجة الواحدة كنا أمام احتمالات ثلاث أمام ذلك العدد الزائد من النساء:
أ- إما أن تظل البنت حبيسة في بيت أبيها بدون زواج، وتقضي حياتها هكذا، لا تعرف الرجال، ولا يعرفها الرجال، وهذا حل لا ترضاه المرأة لنفسها لأنه يناقض فطرتها وطبيعة تكوينها مهما كابر المكابرون وادعوا أنه من الممكن أن تستغني المرأة عن الرجل بالكسب والعمل فتلك مثالية صعبة التطبيق والتحقيق وجهل بنفسية المرأة وطبيعة تكوينها الجسدي والغريزي وحاجتها إلى السكن والأُنس بالعشير.
ب- وإما أن تتخذ المرأة الرجل خدنا أو خليلا في الحرام، وتتصل به اتصالا غير شريف في الظلام ... وهذا الحل لا ترضاه امرأة شريفة لنفسها، فهو ضد كرامتها ومكانتها الإنسانية.
ج- فلم يبق إلا الحل الثالث وهو الزواج من رجل متزوج من قبل، يصونها ويحميها من التبذل والضياع..(20/27)
وهذا الحل هو الذي يقول به الإسلام كرخصة لعلاج حالة واقعية مقيدا ذلك بالعدل والقدرة على الإنفاق والإحصان، وهو حل ترضاه المرأة نفسها عن طيب خاطر إزاء تلك الظروف الطارئة وتشجعه، وقد تطالب به، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عندما طالبت نساء ألمانيا أنفسهن بتعدد الزوجات لذهاب كثير من رجالها وشبابها وقودا للحروب، ورغبة في حماية المرأة من احتراف البغاء وما يتأدى عنه من أولاد غير شرعيين، ففي عام 1948 أوصى مؤتمر الشباب العالمي في ميونخ بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلا لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية [25] ، وتقول إحدى الألمانيات: "إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو إباحة تعدد الزوجات" [26] فالتعدد- على ما به - رحمة بالمرأة، فحياة برجل، أفضل للمرأة من حياة بلا رجل وهي تعلم ذلك جيدا ومن يعرف نفسية المرأة يجد أنها - حتى في غير أوقات الحروب - قد تختار التزوج برجل معه امرأة أخرى عن رضا واختيار، تقول أستاذة ألمانية: "إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه، إن هذا ليس رأيي وحدي، بل هو رأي كل نساء ألمانيا" [27] .. وأخيرا.. فنحن لا ننكر أن الزواج الثاني شديد على نفسية الأولى، وبغيض إليها، ولكن ماذا نفعل أمام ضرورات هذه أمثلة لها، لا بد أن تتجرع الزوجة الكأس مع ما فيها من مرارة فذلك أخف الضررين.
4- المتمعن في موضوع التعدد في الإسلام يجد أن الفقهاء وكلوا الرضا به والرفض إلى المرأة، فمن الممكن أن تقبله ومن الممكن ألا تقبله دون إكراه…كيف؟ المرأة يؤخذ رأيها أولا في موضوع الزواج كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها"قال: "أن تسكت" [28] وفي رواية " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها" [29] .(20/28)
ولما شكت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم موضوع إقدام والدها على تزويجها من ابن عمها على غير رغبة منها وكل عليه السلام ذلك الأمر إليها إن شاءت قبلته، وإن شاءت رفضته دون إرغام، روى النسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن فتاة دخلت عليها فقالت: "إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا كارهة"، فقلت: "اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: "يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم أَللِنِّساء من الأمر شيء" [30] .
وعن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها [31] .
فالرأي في موضوع الزواج - تعدادا أو ابتداء - موكول إلى المرأة، تقبل منه ما ترى فيه السكن والمودة، وتنتظر ورائه الخير والأمان، أو ترى فيه ضرورة أخف من غيرها، وترفض منه ما تتوقع من ورائه القلق والمتاعب.
وبعد فإن الشريعة الإسلامية في إباحتها للتعدد إنما اعتبرته نوافذ ضيقة لحالات استثنائية اضطرارية، وأدوية محدودة لحالات قائمة، وقد سلكت فيه مسلكا سائغا ومقبولا لا غلو فيه ولا إفراط، ولعل فيما هو منتشر الآن في البلاد التي لا تسمح نظمها بالتعدد وتحتم على أتباعها الاقتصار على واحدة مهما كانت الظروف والأسباب، أقول: لعل فيما هو منتشر الآن في تلك البلاد من الفوضى الجنسية واستباحة الأعراض والتفسخ الأخلاقي والتخالل السري والعلني، والتحايل على النظم ونقضها بشتى الحيل، أن في بعض ذلك ما يكفي كدليل قاطع على سمو التشريع الإسلامي وحكمته التي يلتقي فيها مع الإنسان في فطرته وواقعه، ويتوافق مع شئونه وملابسات حياته لأنه ينظر إليها من جميع زواياها القريبة والبعيدة.(20/29)
يقول "اتيين دينيه"إن نظرية التوحيد في الزوجة، وهي النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهرا تنطوى تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء، تلك هي الدعارة والعوانس من النساء، والأبناء غير الشرعيين، وأن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف في البلاد التي طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق، وإنما دخلتها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية [32] .
إن الغرب إذا كان قد عالج موضوع التعدد، بالإغضاء عن الزنا وتيسير سبله للراغبين فيه والراغبات، وبالاعتراف بالخنا والعلاقات المحرمة، والاعتراف باللقطاء وأولاد الزنا الذين امتلأت بهم دور الحضانات وغيرها، إذا كان الغرب رضي لنفسه هذا، فإن الإسلام لا يرضى لرجاله هذا السقوط والتحلل من قيود العفة والتسلل من حين لآخر إلى بؤر الفسق وأماكن الشيطان.. وإنما ينشد لهم مجتمعا نظيفا طاهرا، يحوطه العفاف والشرف، وتجمله المروءة والتقوى.(20/30)
يقول جوستاف لوبون: "إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوربة" [33] .. وهذه امرأة غربية تقول عن بني جنسها من النساء: "لقد كثرت الشاردات من بناتنا وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذا كنت امرأة تراني انظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنا، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني، وإن شاركني فيه الناس أجمعون، لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة، وهو الإباحة للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال" [34] وتقول: "..أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلا وعارا وعالة على المجتمع فلو كان تعدد الزوجات مباحا لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون ولسلم عرضهن وعرض أولادهن، إن إباحة تعدد الزوجات يجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين" [35] .
ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهور: "إنه من العبث الجدال في أمر تعدد الزوجات مادام منتشرا بيننا لا ينقصه إلا قانون ونظام" [36] .. وهو يقصد تعدد الزوجات بصورة غير مشروعة.
وأريد أن أختم الحديث في هذا الموضع بما يأتي:
إن الواقع يشهد والإحصائيات تدل على أن التعدد بين المسلمين يعتبر في حكم الشاذ، وأن الذين يعددون قلة في المجتمع الإسلامي، أما الذين يقتصرون على واحدة فهم الكثرة الساحقة في المجتمعات الإسلامية، ذلك أن ارتفاع النفقات وتكاليف المعيشة، وما يترتب على التعدد من مشاكل أسرية وخلافات مستمرة، كل ذلك جعل الرجل يفكر أكثر من مرة في الإقدام على مثل هذا العمل.(20/31)
فالتعدد ليس منتشرا بالصورة التي تزعج المرأة، أو تقلق المفكرين، إن نسبته لا تزيد في معظم بلاد المسلمين عن 2% فهل من أجل هذه النسبة الضئيلة تصرخ النسوة ويتقول المتقولون على الإسلام، وهي ما جاءت إلا لظروف مقرونة بقيودها.. مع أننا لم نسمع لهؤلاء صوتا بكلمة استنكار واحدة لما ينتشر في بلاد العرب والمسلمين من عادات الغرب في الفسق والفجور واتخاذ الخليلات وسهولة بذل الأعراض فأي المسلكين أولى بحملات التنديد والاستنكار؟؟.
استطراد في تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
قلما يتعرض خصوم الإسلام لموضع تعدد الزوجات فيه دون أن يتناولوا موضوع تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليتخذوا منه مادة انتقاد وغمز لنبي الإسلام وإظهاره لأتباعهم بصورة لا تناسب شرف النبوة ومقامها.
وقد ناقش كثير من علماء المسلمين هذا الموضوع، وردوا على هؤلاء بردود وجيهة أذكر منها في إيجاز:
أنه كان من وراء ذلك الأغراض التشريعية والإنسانية والتعليمية وغير ذلك مما يتعلق بمصلحة الدعوة وتبليغ الرسالة، توخى في بعضها عليه الصلاة والسلم توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل، واستطاع عن طريق ذلك أن يصل إلى قلوب زعماء الشرك وأن يصاهرهم فيصهر ما في قلوبهم من حقد على الإسلام، كما حدث عندما تزوج بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق التي كان من آثاره إسلام جميع قبيلتها، وكزواجه صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان وصفية بنت حيي بن أخطب.. وتوخى في بعضها الآخر تكريم أرامل الشهداء الذين ماتوا في الحبشة، أو استشهدوا من أجل الدعوة في سبيل الله. وتركوا أرامل لا يقدرون على تحمل أثقال الحياة وأعبائها الجمة مثل هند أم سلمة المخزومية، وزينب بنت خزيمة، وسودة بنت زمعة.(20/32)
وكان في بعضها الآخر زواجا تشريعيا كزواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش لهدم نظام التبني عند العرب، والذي كان يحرم على الرجل أن يتزوج امرأة ابنه المتبنى ولذلك كان وقع ذلك الزواج شديدا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سوف يطيل عليه الألسنة، ويفتح أفواه المنافقين بالقيل والقال.. ولمثل هذه الأمور التي كانت تجول في نفس النبي عليه الصلاة والسلام نزل القرآن الكريم يعاتبه {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [37] .. وفي الخطاب بزوجناكها بيان أن التزويج من الله، وليس للنبي أي دخل فيه، ومنها توثيق أواصر الترابط بينه وبين صاحبيه الجليلين أبى بكر وعمر وتكريمهما بشرف المصاهرة به عليه الصلاة والسلام لجهادهما الصادق، وإخلاصهما العميق في سبيل الدعوة، وذلك ظاهر في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر رضي الله عنهم.(20/33)
وأمر آخر يصح أن يزاد.. وهو أن الدعوة كانت بحاجة إلى من يبلغ أحكامها الشرعية الخاصة بالنساء وهي كثيرة، وإذا كنا في موضوع الشهادة العادية في الديون والأقضية مثلا تقبل شهادة امرأتين مع رجل إذا لم يوجد رجلان، فما بالنا بالأحكام الأخرى المتنوعة التي تتعلق بالنساء خاصة وما أكثرها، إن زوجة واحدة لا تستطيع القيام بهذا العبء وحدها، فالأمر أكبر بكثير من ذلك، إذ أنه لا يقتصر على أمور الطهارة والحيض فقط، كما قد يتصور البعض وإنما كل ما يتعلق بأحكام الزوجية، وآداب البيت، وشئون المرأة عبادة ومعاملة وأخلاقا، خاصة تلك الأمور التي كان صلى الله عليه وسلم يستحي أن يصارح بها النساء، أو يستحين أنفسهن من أن يسألنه فيها من أحكام الجنابة والطهارة وغيرها.. من أمثلة ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، تم قال: "خذي فرصة ممسكة فتطهري بها"قالت: "كيف أتطهر بها؟ "قال: "سبحان الله تطهري بها"قالت عائشة ـ وكأنها تخفي ذلك –: "تتبعي بها أثر الدم" [38] ثم إنه صلى الله عليه وسلم استحيا أو استتر بثوب كما في رواية الترمذي، أي منعه الحياء بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيبة بالمسك في المكان الذي كان يخرج منه الدم إتماما للطهارة، فأخذتها السيدة عائشة وأفهمتها المراد، هكذا كانت أمهات المؤمنين خير مبلغ لمثل هذه الأمور النسائية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كن فيها وفي غيرها من رواية الحديث والاستفتاء خير مرجع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.. يقول السيد رشيد رضا: "كان الرجال يرجعون بعده عليه الصلاة والسلام إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين، ولاسيما الزوجية، فمن كان له قرابة منهن، كان يسألها دون غيرها، فكان أكثر الرواة عن عائشة أختها أم كلثوم، وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث، وابن أخيها القاسم وعبد الله(20/34)
ابنا محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتا أخيها عبد الرحمن، وعبد الله وعروة ابنا عبد الله بن الزبير من أختها أسماء وروى عنها غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين. وهم كثيرون جدا.
كذلك كان أكثر الرواة عن حفصة أخوها عبد الله بن عمر، وابنه حمزة وزوجه صفية بنت عبيد، وأم بشر الأنصارية.. الخ.
وأكثر الرواة عن ميمونة بنت الحارث أبناء أخوتها، ولا سيما أعلمهم، وأشهرهم عبد الله بن عباس، وأشهر الرواة عن رملة بنت أبي سفيان ابنتها حبيبة وأخواها معاوية وعتبة وابنا أخيها وأختها.
وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها من علم الدين كثير من أولي قرباها، ومن النساء والرجال الآخرين..، ولعل أكثر ما سمعه النساء منهن لم يصل إلى الذين دونوا أحاديثهن.
إن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفي عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها في ما لم يعلمه غيرهن من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحكم نبوية" [39] .(20/35)
أجل لقد ساهمت أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن مساهمة فعالة في نقل السنة النبوية - وهي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله - بأمانة وضبط إلى الأمة الإسلامية وناهيك بهؤلاء النسوة اللاتي ما خفيت عنهن صغيرة ولا كبيرة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكن جميعا في إذن عام بأن يخبرن الناس ما دار في ظلام الليل قولا سمعنه، أو فعلا رأينه من صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، ولقد ذكر رواة السنة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم روين عنه عليه الصلاة والسلام أكثر من ثلاثة آلاف حديث، كان للسيدة عائشة فيه النصيب الأكبر، فقد روت ألفين ومائتين وعشر أحاديث [40] .. ثم تلتها السيدة أم سلمة حيث روت حوالي ثلاثمائة وثمانية وسبعين [41] وتتابع الباقي يروين ما بين خمسة وستين مثل أم حبيبة رملة بنت أيى سفيان [42] ، وستين كحفصة بنت عمر [43] ، وستة وأربعين كميمونة بنت الحارث [44] ، وأحد عشر كزينب بنت جحش، [45] وغير ذلك، رضي الله عنهن جميعا..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الروم – 21.
[2] ابن ماجه: كتاب النكاح ج1/592 ط1395هـ 1975.
[3] النسائي ج6/57 كتاب النكاح ط دار الفكر ببيروت 1398/1978.
[4] سورة النساء – 3.
[5] النسائي ج7/63 كتاب عشرة النساء، وكذا رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة.
[6] مسلم كتاب الإمارة.
[7] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للأستاذ عباس العقاد ط الهلال /177.
[8] رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس/الإصحاح الثالث-2.(20/36)
[9] (إن الاستشهاد بنصوص العهد القديم أو الجديد ليست إقرارا منا بصحة هذه النصوص والاعتراف بأنها نصوص الوحي الذي تنزل من عند الله، إذ أن نصوص التوراة التي أوحاها الله تعالى على موسى عليه السلام، وكذلك نصوص الإنجيل التي أوحاها على عيسى عليه السلام قد حرفت جيمعا فلا يعتمد على النصوص التي بأيدي الناس اليوم ـ المجلة) .
[10] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه /178 ط الهلال.
[11] حقوق النساء في الإسلام أو نداء إلى الجنس اللطيف ط المكتب الإسلامي 1395،1975 ص61.
[12] كتاب محمد رسول الله تأليف "اتيين دينيه"سليمان إبراهيم ص394 هامش ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم محمود، ط ثانية سنة 1958 نهضة مصر.
[13] أحكام الأسرة في الإسلام د. محمد سلام مدكور ج1 ص177 ط ثانية 1389 –1969.
[14] الإصحاح الحادي عشر – 1.
[15] انظر تعليق المجلة السابق.
[16] تفسير الطبري ج4/232 ط ثانية 1973-1954.
[17] سورة النساء 3.
[18] ابن ماجه، باب النكاح ج1/628، ومسند الشافعي ج2/16 كتاب النكاح.
[19] ابن ماجه باب النكاح ج1/628.
[20] أخرجه الشافعي ج2/19 كتاب النكاح ط سنة 1369- 1950.
[21] سورة النساء – 3.
[22] سورة النساء –129.
[23] النسائي ج7/64 كتاب عشرة النساء.
[24] الشبق: شدة الشهوة، كما في لسان العرب.
[25] محاضرات في الثقافة الإسلامية، أحمد محمد جمال /160ط الثالثة دار الشعب بالقاهرة.
[26] المرجع السابق.
[27] المرجع السابق نقلا عن الأخبار المصرية.
[28] البخاري كتاب النكاح ج7/23 ط الحلبي سنة 1345.
[29] مسلم كتاب النكاح ج2/1037 ط الحلبي.
[30] النسائي ج6/86 كتاب النكاح، وابن ماجه كتاب النكاح ج1/602 واللفظ للنسائي.
[31] البخاري كتاب النكاح ج7/23 ط الحلبي.(20/37)
[32] كتاب "محمد رسول الله"تأليف "إيتين دينيه"وسليمان إبراهيم ص395… ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم ط ثانية سنة 1958 نهضة مصر.
[33] حضارة العرب – 397 ترجمة عادل زعيتر ط الرابعة.
[34] حقوق النساء في الإسلام للشيخ رشيد رضا ص75 نقلا عن جريدة لندن تروت بقلم إحدى الإنجليزيات.
[35] المرجع السابق.
[36] الإسلام روح المدينة للشيخ مصطفى الفلابني ص226 ط بيروت 1380- 1960.
[37] سورة الأحزاب – 37.
[38] رواه البخاري ومسلم وابن داود وابن ماجه ـ كتاب الحيض.
[39] حقوق النساء في الإسلام 87، 88.
[40] اتفق الشيخان منها على مائة حديث وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين، انظر مقدمة ابن الصلاح تحقيق د/ بنت الشاطئ ص798، 799، دار الكتب سنة 1974.
[41] مقدمة ابن الصلاح ص766 تحقيق د/ بنت الشاطئ، ط دار الكتب اتفق الشيخان على ثلاثة عشر منها.
[42] مقدمة ابن الصلاح ص790 تحقيق د/ بنت الشاطئ، دار الكتب.
[43] المرجع السابق ص791.
[44] المرجع السابق ص804.
[45] المرجع السابق 795.(20/38)
التشبه بالنساء والرجال
لفضيلة الدكتور محمد محمد الشريف
أستاذ مساعد بكلية الحديث
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" [1] .
إن خلق الذكر والأنثى من آيات الله العظام الدالة على كمال علمه وحكمته وقدرته وعظمته، فكل منهما يميل إلى الآخر ويشعر في جواره بالسكن والمودة والرحمة، وبهذا تستمر الحياة ويسعد الأحياء، ولا يستطيع ذكر مهما بلغ من جاه أو مال أو شرف أن يستغني عن الأنثى، ولن تستطيع الأنثى كذلك أن تستغني عن الذكر، ولذلك ربط الله بينهما بالرابطة القوية وهي الزواج. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [2] .
وقد تعالت حكمة الله تعالى فخصص لكل نوع وظيفة هامة لا يقوم بها غيره وهيأ لكل من الأسباب والوسائل ما يمكنه من النهوض بهذه الوظيفة وبهذا يكون التكامل البشري في أرقى صوره، فوظيفة الرجل الخلافة في الأرض وتعميرها والمشي في مناكبها لابتغاء فضل الله ورزقه. وقد أعطاه الله من القوة والتحمل والصبر والجلد ما يهيئه لهذا، وسخر له الكون وأعطاه من العقل والحكمة ما يحسن به تدبير أموره وما يصلح به شأنه، ولذلك كان الرجل جلدا قويا متعقلا مفطورا على الكدح والسعي!.
وأما المرأة فوظيفتها الأولى إنجاب الذرية، وحملها، ووضعها، وإرضاعها، وتعهدها، ورعايتها، وتربيتها، والقيام عليها، بينما يشغل الرجل بواجباته.(20/39)
وما أجل هذه الوظيفة التي تتميز بها المرأة، ولقد فطرها الله وهيأها للقيام بهذه الرسالة. فجعل نفسها مليئة بالعطف والرحمة والحنان، وجعلها تحن إلى الصغار وتميل إلى تعهدهم منذ نعومة أظافرها، ولذا فإنها تحب العرائس من اللعب لتستعد بفطرتها لوظيفتها، كما أنها تحب القرار في البيوت وتنفر من الخروج منها لغير ما حاجة، وقد أعطيت من الصبر على الحمل والوضع والإرضاع والتربية ما يسهل عليها هذه المهمة الشاقة، كما أنها تخضع بذاتها لزوجها وتنقاد لأمره.
ولقد جعل الله تكوينها البدني والنفسي مهيئا لهذه العمليات التي لا يقوم بها إلا المرأة. بل إن تكوين المرأة كله يدور في محيط هذه الوظيفة ولذلك كانت المرأة القرار المكين الذي تتجلى فيه آيات الله الباهرة في تكوين الجنين في أطواره المختلفة فتبارك الله أحسن الخالقين.. ووظيفة هذا شأنها وهذه منزلتها جديرة بأن تتفرغ لها المرأة وتوفر جهدها عليها، وجدير بالمجتمع أن يقدر لها قدرها وأن يرعاها أحسن رعاية.
ولا ننسى أن المرأة تساعد الرجل على القيام بوظيفته خير قيام فتعينه على التعفف والاستقامة، وتتعهد حاجياته الضرورية من مطعم ومشرب وملبس ومسكن وتتعهد أولاده، فيكون فارغ البال لعمله هادئ النفس، وعلى هذا فطرت المرأة منذ نعومة أظافرها فتشعر أن هذه الوظيفة من أجمل أمانيها وأحلى آمالها مهما بلغت من الدنيا!.. وإذا قام كل من الرجل والمرأة بما هو مفطور عليه استقامت الأمور، وسعد الناس، وعاشوا عيشة راضية، لاستقامتهم على الفطرة التي فطرهم الله عليها.(20/40)
ولقد أراد الله سبحانه - وله الحكمة البالغة - أن يجعل الذكر أفضل من الأنثى، وأن يكون له السيادة والقوامة عليها، وهي قوامة وسيادة قائمة على الفطرة السليمة التي خلق عليها كل من الذكر والأنثى، وهي كذلك قائمة على التبصر والحكمة والقدرة على تحصيل مطالب الحياة قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [3] ، مع أنهما يستويان في الحقوق والواجبات، فلكل منهما حق على الآخر، فكما أن على الرجل أن يسعى، فعلى المرأة أن تقوم بالإعفاف والخدمة، وكذلك يستويان في الأمر بالعمل الصالح وجزائه، ولكن الله سبحانه قد كلف الأنثى بما يناسب فطرتها فأعفاها من الصلاة والصيام عند الحيض والنفاس، وجعل صلاتها في بيتها أكرم من صلاتها في المسجد وجعلها لا تتطوع بالصيام إلا بإذن زوجها.. قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [4] ، وليست القوامة قائمة على التحكم والتسلط والعدوان، ولذلك كان أعظم الناس حقا على الرجل أمه وعلى المرأة زوجها والله سبحانه عزيز لا يغلب، حكيم لا يفعل شيئا عبثا، عليم بما يصلح الكون ويسعد البشر، وقد اقتضت حكمته هذا الصنع المتقن البديع، وإن من نعم الله على الرجل أن يختاره الله هكذا رجلا له القوامة والسيادة قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [5] فعليه أن يقدر النعمة ويصونها ويجعلها شكرا للمنعم حتى تدوم له ويزيده منها قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [6] ، وقال تعال: ى {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ(20/41)
الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [7] ولقد كان جديرا بالرجل والمرأة أن يرضى كل منهما بما كلف به من مهام ليعيش حميدا سعيدا، لكن الشيطان الرجيم - وقد قعد للناس يصدهم عن الصراط المستقيم - جعل البعض يعترضون على أمر الله فيهم ويتركون مهامهم المنوطة بهم، ولذا نرى بعض الرجال لا يقدر نعمة الرجولة، ويقوم بكل عمل ممكن ليكون شبيها بالأنثى في هيئتها وزينتها وسلوكها، وكذلك نرى بعض الإناث يتأبين على الفطرة ويحاولن الظهور بمظهر الرجال والتساوي بهم، وهذا انتكاس بالإنسانية وتمرد على الفطرة الربانية لا يجني منه المجتمع إلا الشر المستطير والخطر الكبير، ولقد حذر الله تعالى الإنسان من تمني ما ليس من شأنه، فلا يتمنى الذكر أن يكون أنثى أو كالأنثى، ولا تتمنى الأنثى أن تكون ذكرا أو كالذكر، قال تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما} [8] ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من الانتكاس بالفطرة وتغيير صنع الله البديع المحكم، ومن الاستجابة لكيد الشيطان اللعين الذي تهدد بني آدم بالإغواء والإضلال، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه قد أشتد غضبه على قوم رغبوا عن خلقه وتشبهوا بالنساء [9] .(20/42)
وفي الحديث المصدر به البحث يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم"واللعن هو الطرد، فقد دعا رسوله الله صلى الله عليه وسلم على من فعل ذلك بالطرد وهو البعد عن رحمة الله تعالى، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك فقد أحل بنفسه الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، هذا واللعن الصادر منه صلى الله عليه وسلم على ضربين: أحدهما يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه، وهو مخوف فإن اللعن من علامات الكبائر، والآخر يقع في حال الحرج وذلك غير مخوف بل هو رحمة في حق من لعنه بشرط أن لا يكون الذي لعنه مستحقا لذلك فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني اتخذت عندك عهدا لا تخلفنيه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" [10] ، وفي حديث أنس رضي الله عنه "إنني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" [11] ولقد كان صلى الله عليه وسلم في نهاية الشفقة والرحمة بأمته. ومعنى كونه "ليس لها بأهل"أي في حقيقة الأمر عند الله تعالى ولكنه في ظاهره مستوجب لذلك بأمارة شرعية، وهو صلى الله عليه وسلم يحكم بما ظهر له والله يتولى السرائر.
وقيل إن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من ذلك ليس مقصودا، بل هو مما جرت به العادة وسبق به اللسان، ولا يراد حقيقة الدعاء فخاف أن يصادف شيئا من ذلك إجابة فسأل الله أن يجعل ذلك خيرا لصاحبه، ولم يكن يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك إلا نادرا لسعة حلمه وعفوه، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا، بل كان رفيقا حليما يحب الرفق في الأمر كله.(20/43)
ولا ريب أن المتشبه بالمرأة والمتشبهة بالرجل يستحقان اللعن والطرد من رحمة الله إن لم يتوبا، والسر في هذا أن في التشبه تمردا على فطرة الله تعالى، واستجابة لكيد الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم تكبرا فطرد من رحمة الله تعال، فأراد لبني آدم أن يكونوا مثله في ذلك، فأتاهم من كل سبيل ليضلهم ويغويهم ولقد تجاسر الشيطان الرجيم وأبان عن وظيفته الخبيثة فقال {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [12] وفي هذا ضلال مبين، إذ أنه لا يرضى بصنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا يروقه حسن الصنعة، وعظمة الصانع القادر، وهو سبحانه ما خلق كل شيء إلا بالحق، ولم يخلق شيئا عبثا ولا باطلا! ولكن الإنسان لضعفه أمام الشيطان وغروره ومكره يرضخ له ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولذلك فإن التشبه من الكبائر، لاستحقاق فاعله لعنة الله تعالى كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: شبهت الشيء بالشيء أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما، وأشبه الولد أباه وشابهه إذا شاركه في شيء من صفاته والصفة المشترك فيها قد تكون ذاتية، كما يقال هذا الدرهم كهذا الدرهم، وقد تكون معنوية، نحو زيد كعمرو أي في استقامته وورعه مثلا، ويقال تشابه الرجلان إذا تساويا.(20/44)
فالتشبه إذن هو تكلف المشاركة والاتفاق في معنى من المعاني، وتشبه الرجل بالمرأة أن يتصنع أن يكون مثلها في خاصية من خواصها وفي مظهر من مظاهرها، ولقد فطرت المرأة على حب التزين والتجمل لتكون محببة إلى الرجل، وقد أحل الشارع الحكيم لها أن تلبس الحرير، وأن تتحلى بالذهب، ومنع من ذلك الرجل، كما أن المرأة تحب الألوان الزاهية والبراقة لما فيها من زينة ظاهرة تلائم فطرتها، كما أن العرف على أن للمرأة ثيابها الخاصة بها في صفتها وهيئتها. ولقد فطر الله المرأة على الحسن والجمال غالبا، وسوى لها أعضاءها على أتم ما تكون حسنا وجاذبية، وزودها بالشعر الغزير في رأسها ليزيدها جمالا وحسنا، في حين أنها فطرت على أنه لا شعر لها في وجهها وفي بعض أعضائها، لأن ذلك حسن يلائمها.. وقد أباح الشارع الحكيم لها أن تتجمل بكل ذلك التجمل الفطري الشرعي، وللمرأة صوتها العذب الرقيق وبدنها الضعيف.
إن هذه الأمور ونحوها خاصة بالنساء تلائم فطرتهن، فإذا تكلف الرجل شيئا منها وعمد إلى الاتصاف بها فقد تشبه بالمرأة، واستحق اللعنة، فإذا بالغ في التزين والتجمل وجعل كل همه الاعتناء الزائد بالزينة فقد تشبه بالمرأة، وإذا لبس الحرير أو تحلق بالذهب في أصبعه أو وضعه على صدره فقد تشبه بها.(20/45)
وإذا اختار الألوان البراقة لثيابه أو لبس نعلا يشابه نعلها فقد تشبه بها، وإذا ترك شعر رأسه لينمو ويكثر وصنع به كما تصنع بشعرها، فقد تشبه بها.. وإذا أزال ما في وجهه من شعر اللحية فقد تشبه بها، وإذا حاول التثني والتكسر في كلامه وهيئته ومشيته فقد تشبه بها، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على ضعف الدين وضعف الرجولة وضعف الذات وفقد الغيرة والنخوة والمروءة والشهامة، وعلى الميل إلى مظاهر الخسة والدناءة، وهذا هو التخنث المقيت الذي لعن صاحبه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: "أخرجوهم من بيوتكم"، قال: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانا" [13] ، والمخنث هو المؤنث من الرجال وهو من يتشبه بالنساء في هيئاتهن وحركاتهن وثيابهم وفي كلامهن وأخلاقهن، وإنما يذم من تكلف وتصنع، وأمَّا من كان من أصل خلقته مشبها للمرأة في رقة الصوت وتكسره وفي هيئته وحركته، فلا ذم ولا لوم، لأن الذم واللوم لمن تكلف وتعمد وتصنع، كما يفهم ذلك من لفظ "المتشبهين"وغيره لم يتعمد وليس في وسعه وطاقته غير هذا، ومن كان مشبها للمرأة من أصل الخلقة يؤمر بتكلف تركه ومعالجة نفسه، ومداواة قصورها شيئا فشيئا حتى يصير رجلا سويا، فإن فعل هذا ولم يقدر على العودة إلى أصل الرجولة ولم يوفق لترك ما هو من خصائص المرأة، فلا لوم عليه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ومن لم يعالج نفسه بل تركها وشأنها وتمادى في ذلك فهو مذموم، لا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، قال النووي: "فمن خلق كذلك ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن بل هو خلقه الله عليها فهذا لا ذم عليه ولا عتب ولا إثم ولا عقوبة لأنه معذور لا صنع له في ذلك" ... وقال: "ومن لم يكن ذلك له خلقة بل يتكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيئاتهن وكلامهن ويتزيا بزيهن، فهذا هو المذموم الذي جاء في(20/46)
الأحاديث الصحيحة لعنه" [14] .
ولقد شاع تشبه الرجل بالمرأة لدى الكفرة الذين ضلوا عن دينهم وأصبح دينهم هو الشهوات يبحثون عنها ويستمتعون بها بكل وسيلة، وقد فقدوا رجولتهم وكرامتهم، فصاروا عبيدا للشيطان وللنساء، وهم بفعلهم هذا يرغبون في التقرب إلى المرأة ويطلبون ودها، ويوقعونها في حبائل الهوى لينالوا منها لذتهم.
وأما المسلمون فلهم من دينهم ورجولتهم ومروءتهم وأنفتهم ما يمنعهم من هذا التدني والسقوط.
ولقد شذ البعض فتشبه بهن، ونسي هؤلاء أن المرأة لا تريد من هو مثلها ومن يخضع ويركع لها، إن المرأة لا تميل إلى الرجل الذي هو كالمرأة، وإنما تريد رجلا كامل الرجولة يعطيها ما تفقده من نفسها ومن بنات جنسها، وترى فيه السيد المطاع والآمر الحازم والرجل الشهم، إنها تريد رجلا قوي الدين قوي الشخصية يغار عليها ويدافع عنها ويوفر لها كل ما تريد، وهى بفطرتها تميل إلى الخضوع له والاستسلام لأمره، وإن الكفرة وقد ضلوا السبيل يريدون بنا أن نصير مثلهم، وبعد أن أفسدوا الضعيفات من النساء يحاولون إفساد شباب الإسلام والقضاء على ما لديهم من بقية من رجولة وحمية، ولكي نقضي على هذه الظاهرة الشاذة يجب أن نعود بالشباب إلى دين ربهم، حيث العفة والطهارة والإباء والرجولة، وما أكرم هذا الشباب الذي ينشأ على عبادة ربه، إنه يتأبى على كل هذه الإنحرافات ولا يأبه لها.(20/47)
وأما المرأة المترجلة فهي التي تتشبه بالرجال وتحاول أن تظهر بمظهرهم، فالرجل له ثيابه الخاصة به في هيئتها، وقد خلق الرجل للعمل والسعي والمشي في مناكب الأرض طلبا للرزق وابتغاء من فضل الله، فإذا لبست ثياب الرجل فقد تشبهت به واستحقت اللعنة، ولا ريب أن هذا الثوب تجعله بصورة تزيد في زينتها، وتزيد الرجال فتنة بها، وكثيرا ما يكون ضيقا ملتصقا بالجسم، فيبرز محاسنها ويصور أعضاءها تماما، وهذا يزيد الفتنة اشتعالا، ويزيد الرجال ضعفا وعجزا عن مقاومة إغراء المرأة، هذا وقد تقص شعرها من غير حاجة كما يقص الرجل، وقد تذهب في ذلك إلى الرجل يقصه ويصففه لها، وفي ذلك جرائم خلقية شتى لا يرضى بها صاحب مروءة وغيرة ... والمرأة شأنها القرار في البيوت والقيام بمصالح الرجال فيها، من تربية أولاد وإعداد طعام وتنظيف مسكن وثياب ... فإذا تركت بيتها كما يفعل الرجل وفرَّت إلى الشوارع والأسواق لغير ما حاجة، فقد تشبهت بالرجل، وإذا زاحمت الرجال بمنكبيها وتركت حياءها الفطري وراءها ظهريا سعيا وراء المال فقد تشبهت بالرجل، وهي بذلك تفر من مملكتها الكريمة، ومن عرشها المصون، وتترك البيت والأولاد للخدم والشوارع ودور الحضانة أو للأقارب والجيران، ولا ريب أن ذلك يؤدي إلى سوء أخلاق النشء، وفساد طباعهم لأنهم فقدوا حنان الأمومة الحقيقية ورعايتها وتربيتها، ولم تجن الأمة من جراء ذلك إلا الشر والضياع والانحلال والضعف، والحق أن أكرم شيء للمرأة أن تلزم بيتها وأن تقوم بحق زوجها وحق أولادها، فهذه المرأة هي العاملة الناجحة التي تؤدي لأمتها دورا جليلا لا يقوم به غيرها، وحسن قيام المرأة بهذه الواجبات يعدل ما للرجل من أعمال البر كالحج بعد الحج والجهاد والجمعة والجماعة، فهي تقوم بأقدس الأعمال وأشرفها وأنفعها، إذ توفر للرجل كل ما يعينه على أمور دينه ودنياه، وتربي للأمة الأجيال الصالحة، ومثل هذه المهمة جليلة وسامية، وهي تستغرق كل وقتها، ولا(20/48)
تجد فراغا لتستريح فيه من هذا العناء، فحق على الأمة أن تكافئ مثل هذه المرأة وأن تقدر لها جهدها، فإذا فقدت المرأة عائلها، وجب على الأمة أن تتعهدها وترعاها، وإذا لم تجد من يقوم بحاجتها، فلا بأس بأن تسعى على معاشها متأدبة بآداب الشريعة الغراء، من تصوُّن، وتستّر، وعدم اختلاط، أو اختلاء بالرجال، وأما خروجها لطلب المال من غير ما حاجة، فهو في الحقيقة ضار بالمرأة، وبالأسرة، وبالأمة، وإن العرف يسميها بالعاملة، وهي في الحقيقة هاربة عاطلة، لأنها تركت واجبها الملزمة به، لتجلس على المكتب، أو تبيع أو تأخذ ثمن ما يباع، لقد جعلوها سلعة تستهوي أنظار الرجال ليتعاملوا معها فتروج التجارة.
وهذا لا يليق وكرامة المرأة، كما أنها لا تقوى على تحمل أعباء العمل ومشاقه، لأن فطرتها غير مهيأة لذلك، وكثيرا ما تعجز عن عملها وتكله إلى غيرها من الرجال، لتشغل نفسها بما يخف عليها من طعام وشراب وقراءة مسلية ونحو ذلك، كما أنها لا تسلم من الرجال ولا يسلم الرجال منها وإن كانت غير متبرجة، ومروءة الرجل وغيرته لا تسمح له بأن تجلس زوجه بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها، وتتحدث إليهم ويتحدثون إليها!(20/49)
أضف إلى ذلك هذه الأموال الطائلة التي تقتطعها من أموال الأمة، وهي تنفق في غير ما حاجة أو مصلحة، إنما تبدد على أحدث ما في العصر من ثياب وزينة ومظاهر براقة، ولا تستفيد الأسرة من ذلك بقليل ولا كثير، ولقد كان الأولى بها أن تستقر في بيتها لتصلح من شأنه وتوفر ما تأخذ ليعطى للرجال الذين ينفقون على النساء والأولاد، ويكون ذلك سببا في خفة حدة كثير من مشاكل وسائل المواصلات وارتفاع الأسعار. ومن الإنصاف أن نقول: إن المرأة وظيفتها في بيتها، ومهما جمعت من مال، ومهما بلغت من منصب وجاه، فإنها تحن إلى عش الزوجية وإلى حياة الأمومة وإلى تربية الأطفال، ولا يصرف بالها عن ذلك أي صارف، ومن الإنصاف أن نقول أيضا أن عمل المرأة خارج البيت يفقدها كثيرا من خصائص الأنوثة التي تجذب الرجال إليها، فالصوت تذهب رقته، والحياء يقل أو ينعدم - والحياء مفتاح الطهر والعفة والشرف للمرأة - ويجعلها تنظر إلى غير زوجها ممن يفوقه مالا أو جاها أو حسنا.
ولضعف المرأة فقد قلدت الرجل وتشبهت به في كل شيء، حتى فيما يضر بالصحة ويذهب بالمال ويؤدي إلى نفرة الناس وكراهيتهم، ولقد رأينا بعض النساء من أهل الترف والغناء والتمثيل يشربن الدخان كما يشرب الرجال، ويعددن هذا من مظاهر المدنية الرقي، وما هو إلا انحطاط وهوى، وما أعظم المضار التي تترتب على الدخان حتى عده الكثير من العلماء حراما، وما أشد ندامة صاحبه عند الكبر ويوم القيامة، ولقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل" [15] .(20/50)
ولم يكتف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزجر المتشبهين بالنساء ولبيان أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى إن لم يتوبوا، بل أمر بإخراجهم من البيوت، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم" قال: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانا" [16] .
وقد أخرج صلى الله عليه وسلم أنجشة - وهو العبد الحبشي الأسود - وكان غلاما لنبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الصوت وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم، وقد روى أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث خضب يديه ورجليه، فقيل: "يا رسول الله إن هذا يتشبه بالنساء"، فنفاه إلى النقيع فقيل: "ألا نقتله"فقال: "إني نهيت عن قتل المصلين" [17] وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وفي البيت مخنث فقال لعبد الله أخي أم سلمة: "يا عبد الله إن فتح لكم غدا الطائف فإني أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن هؤلاء عليكن" [18] .(20/51)
وكان هذا المخنث يدخل على نسائه صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة لأنه كان يعتقد أنه من غير أولي الإربة، أي ممن لا حاجة له في النساء، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة" [19] ، وإنما أبيح دخول من لا إربة له في النساء لأنه ليس كامل الذكورة وفيه نوع من الأنوثة، فلا يشتهي النساء إذا دخل عليهن، فلما سمع منه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام الدقيق في وصف محاسن النساء، علم أنه من أولي الإربة وأصحاب الميل إلى النساء، ولكنه يتستر ويخادع، ولقد وصف محاسن المرأة وعورتها بحضرة الرجال، وقد نهي أن تصف المرأة المرأة لزوجها خشية افتتانه بها فكيف إذا وصفها الرجل للرجل.(20/52)
ولقد ظهر أن هذا المخنث كان يطلع على ما لا يطلع عليه كثير من النساء من عوراتهن ومحاسنهن ولقد روي أنه وصف منها ما يستهجن ذكره ويفحش الاطلاع عليه، ولذلك منعه صلى الله عليه وسلم من الدخول على نسائه، ومنع نساءه من الظهور عليه لأنه له حكم الفحول من الرجال الراغبين في النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل هؤلاء عليكن" والداخل كان واحدا، وهو المخنث، وإنما جمع إشارة إلى جميع المخنثين لما رأى من وصفه للنساء، ومعرفته ما يعرفه الرجال منهن، ويمنع كذلك حرصا على حرمة البيوت وصيانة لها، وحفاظا على العفة والفضيلة وحتى لا يروا النساء في زينتهن، فتحصل الفتنة والشهوة، ومنعا لمن يتظاهر بأنه لا إربة له في النساء وقد يكون في الحقيقة غير ذلك ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل أمر بإخراجهم من المدينة، وعزلهم عن الناس ونفيهم بعيدا عن النساء وقد ذكر العلماء أن اسم هذا المخنث "هِيْت"بكسر الهاء وسكون الياء وبالتاء، وقيل "هنب"بالنون والباء وهو الأحمق، وقيل "ماتع"مولى فاختة المخزومية، وقيل "مانع"والمحفوظ أنه "هيت"، ولقد نفاه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى موضع بالبيداء يسمى الحمى، وكان يدخل كل يوم جمعة إلى المدينة يستطعم الناس، ثم يعود إلى منفاه، وقد روي أن سعدا خطب امرأة بمكة فقال هيت:"أنا أنعتها لك"، وكان يدخل على سودة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أراه إلا منكرا" فمنعه، ولما قدم المدينة سيره إلى خاخ، ولعل هذا تكرر منه فنفاه صلى الله عليه وسلم مرات وقد أخرج عمر رضي الله عنه من المدينة من كان كذلك، فلقد سمع قوما يقولون أبو ذؤيب أحسن أهل المدينة، فدعا به، فقال: "أنت لعمري"، فأخرج عن المدينة فقال: "إن كنت تخرجني فإلى البصرة حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج"، وكان نصر هذا يتغنى به بعض النساء ليلا، فسأل عنه ونفاه من المدينة حتى لا يفسد النساء على الرجال، وجعدة السلمي كان يخرج وراء بعض النساء(20/53)
إلى البقيع ويتحدث إليهن، فكتب بعض الرجال إلى عمر يشكون ذلك فأخرجه، وقد يصل الأمر ببعض المخنثين إلى أن يفقد رجولته حتى يؤتى، وقد ينتهي الأمر بالمسترجلة إلى أن تتعاطى السحاق بغيرها من النساء، ومن فعل ذلك من الرجال كان حكمه حكم الزاني وللمرأة من الذم والعقوبة القاسية، ما يكون عبرة وعظة وردعا وزجرا.
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج هؤلاء من المخنثين من المدينة قطعا لدابر الرذيلة ووأدا لها في مهدها، وحتى لا تؤدي بصاحبها إلى ما هو أفحش وأشنع، وحتى لا يراه غيره ولا يسمع به، فلا يكون الأثر المذموم، وكذلك إيصادا لباب الشهوة والفتنة، قال المهلب: "إنما حجبه عن الدخول على النساء، لما سمعه يصف المرأة بهذه الصفة التي تهيج قلوب الرجال، فمنعه لئلا يصف الأزواج للناس فيسقط معنى الحجاب"اهـ. ويستفاد من الحديث أنه يجب حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وأنه يجب إبعاد من يستراب به في أمر من الأمور لا سيما في أمر النساء، وفي الحديث تعزير من يتشبه بالنساء بالإخراج من البيوت والنفي، إذا تعين ذلك طريقا لردعه، وظاهر الأمر وجوب ذلك، وقد اتفق العلماء على أن تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء من قاصد مختار، حرام.
وظاهر الحديث أن المرأة المسترجلة المتشبهة تنفى كذلك، وإنما يكون ذلك إذا كان النفي إلى مكان أمين، وكان معها محرم لها وحيث تؤمن الفتنة بها، فإن لم يتيسر ذلك فلتعزر، ولتحبس، ولتمنع من المخالطة تأديبا وزجرا حتى تتوب إلى ر بها.. والمعروف أن عمر أخرج رجالا ولم يذكر العلماء من أخرجهن عمر من النساء، وأكثر الروايات "وأخرج عمر فلانا"بالتذكير، ورواية أبي ذر للبخاري "فلانة"بالتأنيث ووقع ذلك أيضا في شرح ابن بطال، وأما رواية الباقين فبالتذكير وكذا عند الإمام أحمد [20] والاعتماد على رواية التذكير ونسخ البخاري التي في أيدينا بالتذكير، والله أعلم.(20/54)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري ج4 ص26.
[2] الروم 21.
[3] النساء 34.
[4] آل عمران 195.
[5] آل عمران 6.
[6] الكهف 37.
[7] الانفطار 6،7،8.
[8] النساء 32.
[9] المستغفري.
[10] مسلم ج16 ص152.
[11] المرجع السابق.
[12] النساء 118،119.
[13] البخاري ج 4 ص26.
[14] شرح مسلم ج14 ص164.
[15] أبو داود ج2 ص381.
[16] البخاري ج4 ص26.
[17] أبو داود ج2 ص850.
[18] البخاري ج4 ص26.
[19] مسلم ج14 ص164.
[20] انظر فتح الباري ج10 ص357.(20/55)
فيمن تكون … أسوة المسلم؟
بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث المدنية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى ورسول الخير، من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ...
أما بعد فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم داعيا إلى الله راسماً الطريق إلى رضوان الله ومحبته، رافعا علم التوحيد موضحا معالم العبودية لذي الجلال والإكرام. عاش الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه حياته الطيبة المباركة مجاهدا أعظم ما يكون الجهاد، عابدا أكمل ما تكون العبادة والإنابة والخشوع والخوف من الله تعالى.
عاش صلوات الله وسلامه عليه يبلغ رسالة ربه في رحمة، ويرسم الطريق إلى الله في رفق وحكمة وتؤدة، داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فكان المثل الأعلى في الأسوة الكاملة.
كان المثل الأعلى في عظمة الأخلاق في كل ناحية من النواحي وفي كل ميدان من الميادين أدَّبه ربُنا تبارك وتعالى فأحسن تأديبه وأثنى عليه سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .(20/56)
وكان صلى الله عليه وسلم الأسوة الكريمة والقدوة الحسنة، ومثلا أعلى للمؤمنين الذين صفت أرواحهم، وزكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، واطمأنت أفئدتهم واستنارت ألبابهم، فعاشوا في دنياهم يريدون الله والدار والآخرة، ويجمعون الزاد لدار البقاء برجاء أن يجعلهم مع أطيب رفقة، رفقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وقد أمر الله المؤمنين بقوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
عاش صلوات الله وسلامه عليه حياته المباركة، فملأ الدنيا نورا ورحمة وخيرا وبركة، وبرا وعدلا، ملأها أمنا وإيمانا، وسلما وإسلاما، وروحا وريحانا، ثم ودعها راحلا إلى الله يلقى وجه الله الكريم بعد أن أدى الأمانة كاملة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
بلغ الرسالة أعظم ما يكون التبليغ، وأدى الأمانة أكمل ما يكون الأداء وترك الدنيا وفيها نور التوحيد الصادق وعبير الإيمان وكمال الأخلاق، وعطر المحبة، والأخوة في الله ولله، والرحمة الشاملة المباركة في كل ناحية من نواحي الحياة، والعدالة في أسمى صورها ومحاسنها وأكمل معانيها، والأمانة مع أجمل ثمارها وأعظم بركاتها وفوائدها.
وبذلك تمت نعمة الله تبارك وتعالى على المؤمنين فقال عز شأنه في آخر ما نزل من القرآن: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .
فارق الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذه الدنيا بعد أن بيّن للمسلمين طريق العزة والمجد والسؤدد والسيادة.(20/57)
بيّن لهم أن القرآن المصباح المعجز الإلهي المبارك، والكتاب المعجز بتشريعاته، وبلاغته، وقصصه، وأخباره، وحكمه، وهدايته، وما أوضح من حقائق كونية، إنه هداية الباري جل وعلا قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
وكلما تقدم العلم والكشف والاختراع والابتكار تأكد صدق هذه الآيات البينات التي أنزلها الله جل جلاله.
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .
فما بالنا نرى المسلمين اليوم وقد تخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم والمجد والعزة؟.
تخلفوا عن قيادة وتوجيه الإنسانية.
تفرقت كلمتهم، وتمزقت وحدتهم، وضاعت مقدساتهم، واعتدي على بلادهم ذلك لأنهم لم يستضيئوا بنور قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} .
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
وقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ما بالنا نرى المسلمين اليوم وقد تفشت فيهم الأمراض الاجتماعية الفتاكة؟.
تركوا الحكم بكتاب الله فحرموا نعمة الهدوء والعيش الآمن الوارف الظلال الطيب الثمار.
احتكموا لغير ما أنزل الله واستبدلوا بتشريع الله القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر فحرموا نعمة الاستقرار وعاشوا في شقاء وفوضى واضطراب.(20/58)
خرجت المرأة عن مبادئ العز والشرف والحياء والفضيلة، فاضطربت الحياة المنزلية، واهتزت السعادة الزوجية، وأصيبت حياة الأسرة بالفشل والشقاق، والنزاع، وحل الخصام محل الوئام، وضاع الأطفال الأبرياء.
انحرف الشباب فجنح إلى التقليد الأعمى للأجانب، فضَّل الصراط المستقيم، وفقد درب البطولة والشجاعة، بعد أن تردّى في هوة الغزو الفكري والاستعمار الثقافي.
وتعامل المسلمون بالربا فزاد فقرهم، وكثر شقاؤهم، واننزعت البركة من أموالهم وأصبحوا يتعاملون بالقروض الأجنبية، وهيهات أن يكون فيها خير أو أن يكون فيها بركة، بعد أن أعلنوا الحرب على الله تعالى ورسوله وبعد أن لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهداه".
إن أكل المال الحلال الطيب الطاهر تستجاب به الدعوات، وتنال به البركات والخيرات والحسنات، ويتنزل النصر من السموات.
ما بالنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم عميت أبصارهم فضلوا عن سواء السبيل؟ لقد حددوا النسل تارة، وحددوا الملكية تارة أخرى.
وكانت ثالثة الأثافي في أن حددوا عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام.
إن تحديد النسل افتراء على الله وسوء ظن بالرزاق القادر على كل شيء، وليتهم حافظوا على أموال الله الذي آتاهم، ولم يبعثروها في أوجه الفساد إن هذه الأموال تنفق تارة في إعانة الداعرين؛ وتارة أخرى في استيراد الدخان والخمور؛ وثالثة في أوجه الكماليات للنساء، فأخرجوهن عن الفطرة السليمة التي فطر الله المرأة عليها.
وتحديد ملكية الأفراد أكل أموال الناس بالباطل، وظلم شنيع للأسر الكريمة، واعتداء شنيع على الحرمات.(20/59)
لقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم ذلك وأكّده في خطبته المباركة في حجة الوداع تلك الخطبة التي هي منهج السعادة الحقة فقال صلوات الله وسلامه عليه:
"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
أخرجه مسلم من حديث جابر.
إن أكل أموال الناس بالباطل ظلم وعدوان جزاؤه نار جهنم وبئس المصير!!
وأما تحديد عدد الحجاج فهو صد عن سبيل الله، وعمل غير صالح..
إن في الحج والعمرة الخير والبركة، ومغفرة الذنوب، وإبعاد للفقر، إذ فيهما يلجأ الإنسان إلى مولاه ويتعرض لنفحات ربه سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
سبحانه هو الغني ونحن الفقراء إلى الله جل شأنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وقال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب".
وكان مما عظمت مصيبته أن خدع بعض المسلمين بالأفكار الضالة، الغارقة في الفساد فتسربت إليهم سمومها.
خدعوا بالاشتراكية والشيوعية، والوجودية، والماسونية، والعلمانية، والقومية فضلوا سواء السبيل…
إن الاشتراكية ضلال ومروق، إن أصولها خبيثة؛
إن نباتها سام؛
إنها شجرة الزقوم؛
إن الاشتراكية سراب خادع يحسبه الظمآن ماء!!
إنها بيت العنكبوت.
إنها ظلمات بعضها فوق بعض.
هكذا أثبتت التجارب، وهكذا أثبت الواقع، وإن الإسلام دين الرحمة والأخوة والسماحة والوفاء.
إن الإسلام دين الإيثار، والمحبة لله ورجاء رضوان الله تبارك وتعالى.(20/60)
والمسلم الحق يتحلى بالأخلاق الكريمة فينفق في سخاء، ويتصدق عن رضا ومحبة، يعمل ويكدح يبتغي من رزق الله ولا يرضى لنفسه الخسّة والدناءة، همته عالية، وإيمانه قوي، فهو رجل الحياة بحق، أما الشيوعيون وأذنابهم ومن على شاكلتهم فهم حيوانات سائمة، فقدوا إنسانيتهم وفقدوا كرامتهم فهم عبيد مسخرون لعبادة أشخاص، أصحاب مبادئ ضالة أردتهم أسوأ نهاية، ثم لهم عاقبة السوء.
أما أجهزة الإعلام في كثير من البلاد الإسلامية، فقد انحرفت عن رسالتها وأصبحت أداة لنشر الأغاني الخليعة التي تتغنى بالمرأة ومفاتنها، وتشيع الفساد الخلقي، بالإضافة إلى نشر الآراء الإلحادية المتعفنة، التي خلفها الاستعمار، فانحرف كثير من الشباب!! وانحط المستوى الخلقي لكثير من الأفراد والجماعات والشعوب.
وما ذاك إلا بسبب ترك المسلمين مصادر النور والخير والسعادة والهداية والشرف والفضيلة ... مصادر النور التي تتمثل في:
أ- كتاب الله العزيز القرآن الكريم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ب - وتتمثل أيضا في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سراجا منيرا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
ج – وتتمثل فيما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، الذين كانوا السفر الميامين، والنجوم الزاهرة، والنماذج الصادقة.
إن العلاج لتخلف المسلمين وضعفهم وتفرق كلمتهم وهزائمهم الفادحة إنما هو بالعودة سريعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(20/61)
وفي هذا العصر الحديث؛ بزغ نجم جديد في سماء الأمة الإسلامية، نجم قوي لامع: هو نجم الجامعة الإسلامية التي قامت لتؤدي دورا عظيما للعالم الإسلامي تؤدي دورها الإيجابي البناء في إعادة مجد الإسلام وعزة المسلمين.
وقد سعدت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة منذ تأسيسها في هذا العهد السعودي الميمون برعاية كريمة من قبل ولاة الأمور في المملكة العربية السعودية، حيث وفروا لها كل أسباب التدعيم المادي والمعنوي حتى أصبحت صرحا عظيما ومصدرا لا ينضب معينه من مصادر علوم الشريعة الإسلامية في غضون أعوام قليلة.
يفد إليها أبناء المسلمين من كل مكان على وجه البسيطة، فيجدون العناية والرعاية في رحابها وينهلون من العلوم والمعارف، ويتفقهوا في الدين ثم يعودون إلى أهلهم وديارهم ينشرون علوم الشريعة ويدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
فيا أبناء الجامعة الإسلامية:
الميدان أمامكم فسيح، فتقدموا في إيمان وقوة وعزم وكفاح لحمل راية الجهاد المبارك في نشر رسالة الإسلام؛
بلغوا أمانة العلم التي تحملتموها، وكان لكم شرف الانتساب إليها.
تزودوا من العلم إلى أبعد الحدود، وجدوا ليلا ونهارا في الارتشاف من رحيقه، واحرصوا على إجادة كتاب الله إجادة تامة فهو الخير والهدى والفلاح، واقرأوا دائما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه المباركة وسيرة صحابته الكرام تنالوا شرف الأسوة الطيبة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
إنكم ستجدون في كثير من البلاد الإسلامية تركة مثقلة خلّفها الاستعمار وأعداء الله في عصور ضعف المسلمين.(20/62)
للحيلولة بين المسلمين وبين التفقه في دينهم فحاربوا كتاب الله وحاربوا اللغة العربية لغة القرآن، واضطهدوا العلماء الأجلاء، ونشروا الفسق والفجور، والخمور، وجردوا المرأة من الحياء والشرف والفضيلة، وجعلوا الكنائس أوكارا للتبشير والصليبية، ونشروا الإلحاد والكفر والزندقة ودنسوا المعاملات المالية بالربا، وحكموا بالقوانين الوضعية، وحولوا أجهزة الإعلام لنشر الفساد الخلقي.
فيا أبناء الجامعة الإسلامية.. أنتم حملة مشاعل الهداية المحمدية، فتقدموا لشرف الجهاد، واعتصموا بحبل الله جميعا، وجاهدوا كما جاهد العلماء الأبرار، واسلكوا طريق الهداة الراشدين المرشدين في العناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان العلماء في عصورهم الزاهية - ولا زالوا - ينتشرون في أنحاء البلاد ينيرون للناس السبيل إلى الله، ويبصرونهم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتاريخ السلف الصالح في أخلاقهم وخوفهم من الله..وفي بطولاتهم وشجاعتهم، وفي حبهم لما عند الله، وإنابتهم إلى الله ومجافاتهم لهذه الدار الفانية.
لقد كان العلماء يبلغون الرسالة في أمانة، وخوف، وخشية من الله، ذي الجلال والإكرام، وحب للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، واقتداء به في جهاده في تبليغ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، تنظر إليهم فترى في وجوههم نور القرآن وجمال العلم وأدب الإسلام وشعار الفضيلة، فسعد بهم العالم وعرف الناس عن طريقهم هداية القرآن وما جاء به المبعوث رحمة للعالمين.
تمثلت المجتمعات الإسلامية المبادئ الإنسانية السامية ووضح لها الحلال الطيب من الحرام الخبيث، فكان هناك الأمن الشامل والسعادة الوارفة الظلال الطيبة الثمار، فعمَّ الهدوء، وساد الإخاء وأثمرت المحبة والتعاطف، والمودة، والعفة، والورع، والحياء، والفضيلة، وحب الخير، والإيثار، والتعاون على البر والتقوى.(20/63)
اللهم اكتب للمسلمين عودة كريمة إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح رضوان عليهم، حتى تعود إليهم العزة والمنعة، وصدق الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .(20/64)
حقوق الإنسان في الإسلام
بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
محاضر بكلية الحديث
الباب الثالث
موضوع هذه الحلقة هو الحديث عن المواد الآتية من إعلان حقوق الإنسان كما رتبناها حسب تقاربها واتجاهها لغرض واحد، وهي المواد: 3 و 5 و 9 و 12، وهذه نصوصها.
المادة الثالثة: لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.
المادة الخامسة: لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة.
المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسُّفاً.
المادة الثانية عشرة: لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات.
ونبدأ الحديث في هذا الباب بتقديم خمس آيات قصيرات تمثل أول واقعة تتم على الأرض يعتدي فيها على الحياة والحرية والسلامة الشخصية حسب التعبير اللفظي للمادة الأولى في هذا الباب والثالثة في إعلان حقوق الإنسان، ثم بعد ذكر الآيات نقوم بتفصيل معناها لنرى ما هو الحق الذي تقرر من خالق الإنسان لصون حياة الإنسان من أن تكون في مهب أعاصير الهوى والميل، تُقتل وتُباد حيثما يقصد بها ويراد، ولنذكر الآيات ثم نتعرض لها بالتحليل إن شاء الله تعالى.(20/65)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} .(20/66)
فالأمر في أول كلمة من هذه القصة من منزِّل هذا الكلام سبحانه، على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم مكلفا إياه أن يبلغها للناس {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} ، أي بلّغ للعلم والفائدة، وليس للإخبار والإحاطة {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} ، والإنباء تعبير بوصول بالنبوءة التي هي من شأن الأنبياء لما يلقى إليهم من نبأ كان غيبا وأظهرهم الله عليه لينقلوه إلى عباده ليأخذوا عظته ويدركوا عظمه.. {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} ولهذا لم يقل: واتل عليهم خبر ابني آدم، لأن الخبر مجرد إعلام بشيء ترك أثرا أو لم يترك، وابني آدم هما بالتواتر والأرجح قابيل وهابيل، فقابيل هو أول من مثل الشر على الأرض، وكان بذلك أول جندي لإبليس نفذ به أول برنامج سوئه لما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فالشطر الأول من تعبير إبليس كان قابيل رمزه، والشطر الثاني كان هابيل رمزه أيضا، {بِالْحَقِّ} أي بالحق الذي وقع وبالحق الذي يجب أن يؤخذ من قصتهما. {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} والكلام عن القربان تحدث فيه المفسرون كثيرا، وربما تسللت إليه خرافات الإسرائيليات، ولكن مبلغ اجتهادنا عن الأصح من الكثير الذي قيل، أن الله جعل حواء تنجب توأما ذكرا وأنثى في كل ولادة، وأنه كان تشريع ابتدائي أن يتزوج الذكر بالأنثى من كل توأم، حتى يكثر النوع البشري ثم ينسخ ذلك ويحرم كما حدث في العصر التالي مباشرة فلم يكن في البداية غير أولاد آدم ينتظر منهم الجنس الإنساني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} ، لكن زميلة قابيل لم تكن بالجمال التي عليه زميلة هابيل، فحقد على أخيه وطلب منه مبادلته، - وذلك مبدأ مؤلم صارت به الشهوة من أشد الدوافع إلى(20/67)
التوحش الإنساني - لكن أخاه أخبره بأن هذا تنظيم الله ولا بد أن يتجه إليه ليسمح أو يمنع. وأن على كل منهما أن يقرب إلى الله قربانا، وأن قبول القربان من أحدهما دليل على قضاء مأربه، فكان أن تقبل الله من هابيل ولم يتقبل من أخيه {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} ، وقالوا عن أن الذي جعله لم يتقبل منه، هو وقوع أسباب عدة، منها أنه استجاب للشهوة ولم يستجب لإيثار الأخوة، وأنه بسؤال أخيه ما هو من نصيبه المقسوم له من الله، اعتراض على هذه القسمة وعدم رضا بعدل الله وحكمه، وزادوا أنه لما احتكما إلى الله بالقربان، قرب هو أردأ ما عنده، بيننما هابيل قرب خير ما عنده، وهذا أيضا مبدأ صحيح أقره القرآن بقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ، لكن الجندي الأول لإبليس أبى إلا أن ينفد أمر الشر كاملا، فازداد حقده على أخيه رافضا حكم الله في القضية، حتى وصل به الأمر إلى قرار بقتله، ليسجل على نفسه أنه أول قاتل على الأرض بلا أسباب ولا حيثيات، سوى تطوعه ليكون أسبق ممثل لإبليس في الاعتداء على (حقوق الإنسان) ، ولو كان هذا الإنسان أخاه، وهذا الأمر كان وما زال يقع، إلى أن يعص الناس الشيطان ويطيعوا الرحمن فيما أحق لهم لخيرهم وأمنهم، {قال لأقتلنك} وتأكيد الفعل هنا عزم على إتيانه بلا تردد ولا رجوع، وليجعل بداية ما تستقبل الأرض هو الدم الأحمر القاني يختلط بثراها، يتفجر من جسم المظلوم هابيل، بيد قابيل ابن أمه وأبيه، من هنا كان الشر في هذه الدنيا هو السائد، واعتداء الإنسان على الحقوق هو القائد، واستحق أن يكون ظلوما جهولا، لما لم يكن مع عهد الله من الأوفياء، ولا على أمانته من الأمناء، لكن الطرف الثاني الممثل للخير وهو هابيل، كان عند شموخ الخير وثبوته، فلم يستثره شر أخيه إلى هجر الخير ليخط إلى شر مثله، فذكره بشيء فتح به الباب إلى الله عسى أن يكون الأخ الأواب،(20/68)
فقال له ردا على عزمه القتل {إنما يتقبل الله من المتقين} ، أي تلك قاعدة القبول فلما اتقيته تقبل مني، فارجع إليه بالتقوى يرجع إليك بالقبول، ولكن أنى له ذلك وهو كما قلت أول مجند لطاعة إبليس، فقال له هابيل {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} ، وبذلك استمر هابيل في تمسكه بحبل الخير من جهة، ومن جهة أخرى بالقول الطيب ليرد أخاه عن غيه، فالأخ القتيل ذكر أخاه بربه وخوفه منه، لما ذكر له أولا أنه لن يرد سيّء العمل بمثله {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} السبب، {إني أخاف الله رب العالمين} ، أي أنا خفته مع أني أقوى منك - كما ذكر المفسرون - فعليك أن تخاف مثلي منه، وألا تفعل ما يغضبه، لكن ذلك لم يحرك في قابيل نحو أخيه شعرة من حنان أو ترفق، ولم يؤثر شيئا في نفسه التي توحشت، ومع هذا لم يقطع هابيل الأمل في ردع أخيه عما ينتويه، واستمر يخوفه قائلا: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين} تتحمل إثمي عندما تقتلني، وإثمك لما عصيت الله بعدم رضاك عن قسمته وحكمته، إذاً فالتلوي في النار جزاؤك، لما ظلمت وقتلت بغير حق، وذلك أبدا الجزاء الذي لا بد أن يحيق بكل ظالم غشوم.
بعد ذلك كله لم يفعل إلا التقدم نحو ضحيته البريئة. عابدا لشيطانه بأسرع ما تكون العبادة. ولنفسه بأخسّ ما تطاع النفس، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} ، وقتل من؟ تقول الآية في عجب {قتل أخيه} وبهذا قضي عليه بالخسران الذي لا ينتهي بأوان {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، بها أول الخاسرين بعد شيطانه اللعين.(20/69)
بدأ عذابه بحمل جثة أخيه على ظهره، متنقلا بها هنا وهناك لا يدري ما يفعل بها، ورائحتها التي تعفنت لازمته ليستنشقها في ليله ونهاره، وظل هكذا زمنا طويلا أوصله بعض المفسرين إلى سنة، وهو يحمل وزره على ظهره حزينا وحسيرا، ولما أخذ من هذا العذاب المؤقت إلى أن يبلغ العذاب المؤبد، أراد الله أن تصان كرامة الميت وأن تحفظ حرمته، خاصة الصالحين من أمثال هابيل، فعلم طريقة مواراة الأموات وإلى يوم القيامة، وذلك بواسطة غراب قتل زميله تم نبش بمنقاره ورجليه قبرا له ودفنه فيه، واختيار الغراب لهذا الأمر لعله - والله أعلم- لسببين: أولهما أن الغراب من أكثر الطيور غدرا وقتلا خاصة للطيور الأضعف منه، ولهذا كان من الخمس الفواسق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقتلها في حديث صحيح، وثاني السببين أن الغراب حيوان وليس في عقل الإنسان، ولكنه عرف كيف يخفي جريمته على الفور، والإنسان فُضح بجريمته أولا ثم تعلم بعد ذلك من الغراب، {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} ، من النادمين على قتل أخيه من غير ذنب ارتكبه، ومن النادمين على عدم دفنها كما فعل الغراب عقب القتل، حيث شقي بحملها ورائحتها طويلا، وفوق أن الندم نفعه منعدم، فهو يقطع الأوصال ويطحن عزائم الرجال، ويصبحهم ويمسيهم في هموم تطاردهم العمر كله، ولعذاب الآخرة أخزى بعدئذ.
وكان أن ترتب على هذه الحادثة البشعة، أن يجعل الله من أحق حقوق الإنسان أن تصان نفسه من طيش اللئام ونزق الإجرام، فلم يكتف سبحانه بأن تراق دماء القاتل مقابل ما أراق من دماء، وإنما اعتبره من حيث قدر الجرم كأنه قتل عباده أجمعين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ليضخم هذا الأمر ويجعله من الهوى ما يرعب به الكواسر القتلة من بني الإنسان.(20/70)
ولكن الإنسان لما هانت عليه الحقوق التي فرضها الله لصونه وأمنه، راح يلتمس حقوقا كانت في تضييعها أهون عليه، فما توقف القتل والاعتداء والسطو على الحقوق في البلاد والعباد، والقرصنة وقطع الطرق، وفي سبيل ذلك تزهق أرواح وتمزق أشلاء، كل هذا يحدث على مستوى الأفراد والجماعات والحكومات..
فأيهما أنفع للإنسان لو انتفع به، حقوقه التي وضعها الله له، أم التي وضعها لنفسه، ثم لم يُبق هذه ولا تلك فقط لأنه إنسان، وأشقى نوعه ما قال عنه خالقه {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
ولزيادة الإفادة لدى القارئ نقدم مجموعة من الأدلة والشواهد من غير تعليق ليعيها ويقتنيها، نقدمها بلفظها من غير تعليق:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الآيتان 8 و9 من سورة الممتحنة.
"من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة" رواه البخاري.
"من قتل قتيلا من أهل الذمة، حرم الله عليه الجنة" رواه النسائي.
روى هشام بن حكيم أنه مرّ بالشام على أناس من الأنباط وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت. فقال: ما هذا؟
قيل: يعذبون في الخراج، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" رواه مسلم.(20/71)
حدث زيد بن سعنه - وهو حبر يهودي - أنه أقرض النبي صلى الله عليه وسلم قرضا كان قد احتاج إليه ليسد به خللا في شؤون نفر من المؤلفة قلوبهم، ثم رأى أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بقرضه، قال ابن سعنه: أتيته - يعني النبي صلوات الله عليه- فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت له: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فو الله ما علمتكم بني المطلب إلا قوم مطل- متراخين في الأداء - ولقد كان لي بمخالطتكم علم، ونظر إليَّ عمر وعيناه تدوران في وجهه كما يدور الفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته - رضا الله ورسوله - لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه متئدا، فقال: "يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، تأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فأعطه، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك" رواه الطبراني.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره قبل أن يؤذن له، فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه، ولو أن رجلا فقأ عينيه - عندئذ – لهُدرت" رواه أحمد.
"لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" رواه مسلم.
"من جرد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان" رواه الطبراني.
"ظهر المسلم حِمًى إلا بحقه" رواه الطبراني.
"لا تروعوا المسلم، فإن روعة المسلم ظلم عظيم" رواه البزار.
"لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" رواه أبو داود.
"لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار" رواه البخاري.(20/72)
وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوما أمام الكعبة فقال: "ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك، ماله، ودمه" رواه ابن ماجه.
خطب صلى الله عليه وسلم فقال: "أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال أليست البلدة مكة؟ قلنا بلى، قال فإن دماءكم وأموالكم - أحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شركم هذا في بلدكم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم" من حجة الوداع للبخاري.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه" رواه الطبراني.
"من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزول الأقدام" رواه الأصبهاني بسنده.
وغيره كثير في ديننا ولكن ما الحيلة وقد ترك هذا الذي ينفع إلى غيره الذي يضر، ولكن صبرا، فالله غالب على أمره.
الباب الرابع
ويشمل الحديث عن المواد الآتية من ميثاق حقوق الإنسان في (هيئة الأمم المختلفة) 4-6-18-19-20-21.
المادة الرابعة: لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها.
المادة السادسة: لكل إنسان أينما وجد أن يعترف بشخصيته القانونية.
المادة الثامنة عشرة: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا أو مع الجماعة.(20/73)
المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل ذلك حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل؟ واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.
المادة العشرون: (أ) لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية (ب) لا يجوز إرغام أحد على جماعة ما.
المادة الحادية والعشرون: (أ) لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده. إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا.
(ب) لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد.
(ج) إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري، وعلى قدم المساواة بين الجميع، أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
ونبدأ بقصة الاسترقاق سائلين بقوة التحدي، هل في كتابنا أو في سنة نبينا أمر بأن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، وإنما الذي في قرآننا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كل بني آدم، والذي في سنة نبينا "الناس سواسية كأسنان المشط" كل الناس.
إذا مصيبة الاسترقاق من أين أتت؟ فليتدبر القارئ ما يأتي:
هل كان الإسلام موجودا لما انتشرت تجارة الرق حتى بيع نبي كريم مرتين، وهو يوسف عليه السلام، الأولى عند الجب الذي ألقي فيه، وبأي ثمن بيع هذا الرسول، نعم، وإن لم يكن قد أرسل يومها ولكن أوحى الله إليه بها وهو في ظلمات البئر {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} بيع بما ذكرت الآية {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ، والمرة الثانية التي بيع فيها هذا النبي العزيز، لما بيع لعزيز مصر الذي اشتراه من إخوته {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} .(20/74)
وهل كان الإسلام موجودا لما انتشر في عهد الدولة الرومانية بناء على قانون آمِرٍ بالاسترقاق لكل من يقترض ويعجز عن قضاء دينه، ليصبح الذل ذلين، ذل الفقر وذل الاستعباد.
وهل كان الإسلام موجودا لما كان اليهود يجعلون الرق شيئا مأمورا به واجب التنفيذ، لما سجلوه على النحو التالي في كتبهم، في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج 2-12 ما نصه (إذا اشتريت عبدا عبرانيا، فست سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حرا مجانا، إن دخل وحده، لوحده يخرج، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه، وإن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات، فالمرأة وأولادها يكونون للسيد، وهو يخرج وحده ولكن إذا قال العبد: أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حرا، يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد) ، (هذا عن استعباد العبراني) أما عن غير العبراني فاسمع العجب الذي قالوه:
إن حام بن نوح - وهو أبو كنعان - كان قد أغضب أباه، لأن نوحا سكر يوما - هكذا جعل اليهود نوحا عليه السلام سكيرا - ثم تعرى وهو نائم في خبائه، فأبصر حام ذلك، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب، ولعن نسله الذين هم كنعان، وقال في سفر التكوين إصحاح 9: 25 و26: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم، وفي الإصحاح نفسه: 27: ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم.
وها أنت لاحظت أيها القارئ الأوامر المشددة التي قرأتها بتنفيذ الاستعباد بأبشع وجه وأفحش صورة.
وهل كان الإسلام موجودا لما جاءت النصارى بعد اليهود ليأمر ملكهم بولس بما تسمع وتعجب:(20/75)
أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح، عاملين بمشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس، عاملين أنه مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا، وأوصى بطرس بمثل هذه الوصية وأوجبها آباء الكنيسة.
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (لاروس) ما يلي: (لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن ثواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته) وفي قاموس الكتاب المقدس: (إن المسيحية لا تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرص (المؤمنين) أي بالمسيحية - على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية.
واسمع عن المسيحية التي استعمرت أفريقيا قرابة خمسة قرون أخيرا:(20/76)
تقول دائرة المعارف البريطانية ج2 ص779: إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرى، حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من الوسائل، ويموت في أثناء الشحن 4.5% و12% أثناء الرحلة، وهكذا فعل الأسبانيون والبرتغاليون وبقية دول أوربا التي أذلت هذه القارة دهورا طويلة، إلى أن قالت دائرة المعارف: وبلغ من استعبد في هذه المدة من 1680: 86م أكثر من مليوني عبد، وكانت الملكة (اليزابث الأولى) من أكبر المتاجرين في العبيد، وكان المورّد لها أكبر نخاس في العالم يسمى (جون هونكز) وقد أهدت إليه الملكة شعارا من تمثال لعبد موصدا بالسلاسل والأغلال، أما أمريكا فقد بلغ عدد العبيد فيها قرابة عشرين مليونا يوما ما، وكانت هذه الصورة البشعة بناء على فتوى من أحبار ورهبان اليهود والمسيحيين بأن استعباد السود واجب، وعللوا الفتوى بأنهم من سلالة يافث بن نوح، وظلوا على هذه العقيدة حتى قرن الحضارة الحالي، القرن العشرين، ويرجع تاريخ هذه الفتوى التي أخذت شكل القانون الواجب تطبيقه إلى عام 1685، وكان من ضمن بنوده وإن كانت قد خفت حدته في السنوات الأخيرة (من اعتدى على السادة من العبيد بأقل اعتداء قتل، وإذا سرق عوقب أشد العقاب، وإذا أبق العبد قطعت أذناه ورجلاه وكوي بالحديد المحمّى، وإذا أبق للمرة الثانية قتل.
وفي عهد لويس الرابع عشر الفرنسي صدر قانون ينص على (احتقار الجنس الأسود مهما كانت منزلته، ولا يعطون مميزات الجنس الأبيض بأي حال) ، وأنذر من لم يخرج من البلاد قبل يناير سنة 1860م سيباع في المزاد العلني.(20/77)
فهل هذا كله في تعاليم الإسلام أو فعله المسلمون، أم كان كما ذكرنا وهو قليل من كثير اكتفينا بما أوردنا تحاشيا للتطويل، ومثل يكفي عن أمثال، وهكذا فعله غيرنا، وهذا الغير هو عدونا فعله ونسبه إلينا، على طريقة (ضربني وبكى، وسبقني واشتكى) و (رمتني بدائها وانسلت) ، ليشفوا ما بصدورهم من عداوة الديانة، وضغينة العقيدة.
فماذا فعل الإسلام لما جاء، ووجد هذا الوباء قد هيمن على الأرض في كل الأرجاء، كان من الحكمة ومن جمال التنظيم الإلهي لملكوته، ألا يلغيه سبحانه بمجرد جملة وحي ينزلها، وإنما درجها على طريقة ما فعل تعالى في أمر الخمر، فملأ قرآنه بتشريعات جعل الشرط الأول في كفارتها عتق الرقاب وحرية هؤلاء الأدلاء، فقتل الخطأ بأنواعه الثلاثة، قتل مطلق ولو كان ذا قربى، وقتل عداوة الخصومة والمقتول مؤمن، وقتل المترابطين بميثاق ولو غير مؤمن، يلزم فاعل الحالات الثلاثة بعتق رقبة، ولا يقبل غيرها ما دام يملكها.
الإفطار العمد في رمضان، كذلك.
كفارة الظهار، كذلك.
كفارة اليمين، كذلك.
وبغير كل ما مر جعل الإسلام أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه عتق الرقاب، ولنقدم نماذج رائعة ليعرف الكل كيف كنا مع هذا التوجيه السماوي الرفيع، بادئا بأقوال من رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم بمن دونه.
"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره" رواه البخاري.
"ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا – أي يقضيها بعد فواتها- ورجل اعتبد محرره" رواه أبو داود.
"عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني" رواه البخاري.(20/78)
روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة، فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حُلة، وكسوته ثوبا غيره، فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه" رواه البخاري.
"من قذف مملوكه بريئا مما قال، أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال" رواه البخاري.
وروى عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضرب مملوكه ظلما، قيد منه يوم القيامة" رواه الطبراني.
عن ابن عمر أنه أعتق مملوكا له ثم أخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله يقول: "من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه" رواه مسلم وأبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عبد أطاع الله وأطاع مواليه، أدخله الله الجنة قبل مواليه بسبعين خريفا، فيقول السيد: رب هذا كان عبدي في الدنيا، قال: جازيته بعمله، وجازيتك بعملك"من تيسير الوصول.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه" رواه البخاري.
وعنه صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامه، عظما من عظام محرره، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها، عظما من عظام محررتها من النار" رواه أبو داود.
أسر في بدر أبو عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقال: كانوا إذا قدموا غداء أوعشاء خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية الله إياهم بنا.(20/79)
وروي أن عليا رضي الله عنه أعطى غلاما دراهم ليشتري بها ثوبين متفاوتي القيمة، فلما أحضرهما أعطاه أرقهما نسيجا وأغلاهما قيمة، وحفظ لنفسه الآخر، وقال له: "أنت أحق مني بأجودهما، لأنك شاب تميل نفسك للتجميل، أما أنا فيكفيني هذا".
روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعك أذن عبد له على ذنب فعله، ثم قال له عثمان بعد ذلك: "تقدم واقرص أذني" فامتنع العبد، فألح عثمان عليه، فبدأ يقرص بخفة، فقال له عثمان: "أقرص جيدا فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة"، فقال العبد: "وكذلك يا سيدي، اليوم الذي تخشاه أخشاه أنا أيضا".
رفع عبد لزين العابدين شاة وكسر رجلها، فسأله الإمام: "لماذا فعلت هذا؟ "فقال العبد: "لأثير غضبك"، فرد عليه، "وأنا سأغضب من علّمك وهو إبليس، اذهب فأنت حر لوجه الله".
دخل رجل على سلمان الفارسي رضي الله عنه فوجده يعجن، فقال له: "يا أبا عبد الله، ما هذا؟ "فقال: "بعثنا الخادم في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين".
هذا وقد أمر الإسلام الحاكم أن يرصد ثُمُنَ الزكاة لفك الرقاب، أبعد هذا نتهم ونحن المدافعون، ويُبرَّأ غيرنا وهم الدافعون؟ أيدان البرآء ويبرؤ المجرمون؟ ولكن هكذا الإسلام، كتب عليه أن يظل في المعترك طالما الدنيا قائمة، وعندما تبيد بباطلها لن تكذب العين ناظرها، عندما ترى لمن انعقد النصر والعز أبد الآبدين.(20/80)
أما عن مواد هذا الباب (الباب الرابع) التي تحدثت عن حق كل إنسان في تولي الوظائف رئاسية كانت أو مرؤوسية، ونحن لا نتركها منفلتة مطلقة، وإنما نشترط في ذلك الاستقامة على أمر الله والاشهاد بالأمانة والحرص على قضاء مصالح المسلمين، وسنكتفي بآيتين نفصلهما تفصيلا مسهبا إن شاء الله يستبين منهما القارئ ما وضعه الإسلام من ركيزة راسخة الغور، تقوم عليها ولاية الأعمال في الدولة لتخدم غيرها وليس لتخدم هي، والآية الأولى تتصل برأس الدولة، والثانية بأعضائها الذين يتكون منهما جسم هذه الدولة.
فعن الأولى يقول عز من قائل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، والتمكين في الأرض هو بأعلى ما يتولى الإنسان من شؤون يصبح بها سيد قومه المطاع، وقد أشير بذلك في أكثر من آية، كقوله سبحانه عن ذي القرنين {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، فقد آتاه سبحانه من القوة والسلطان ما ذكرت الآية بعد ذلك، وكقوله تعالى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ، وكقوله تعالى {ولقد مكناهم فيما إن مكنَّاكم فيه} أي القوة والجاه والسلطان.(20/81)
{أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أي أساس التمكين أن يقوم الممكَّن بما يجعل من نفسه نموذجا طيبا يُتَّبع الذين سادهم وتولى أمرهم، وأساس هذا الذي يجعل منهم أهلا إلى أن يهابوا ويُتبعوا، هو أن يتبّعوا ما أمر به من الله جل علاه، ومستحيل أن يكون ذلك بغير الصلاة والزكاة، واكتفت الآية بهما لأنهما قمة العبادات وأحبها إلى الله، وإتيانهما بصدق يلزم المعتز بهما أن يجعل بقية العبادات في نفس الدرجة من حيث الحرص والأداء، ولو كانت سننا ومستحبات {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . فهو بعد أن يأخذ نفسه أولا حتى يرى من رعيته على الحال الجميل الذي أسلفنا، فتأتي النظرية المأثورة سلسلة سهلة (الناس على دين ملوكهم) ، لكنه لم يقف عند تأثر الناس بمسلكه، بل راح يبحث ويراقب من حاد عن هذا المسلك، وبذلك أصبح آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بما كرمته به الآية، ولأن الله شد ملكه ومكن سلطانه، لا يكتفي بالأمر بالمعروف والنهي على طريقة الوعاظ الذين لا يملكون إلا الكلمات يحركون بها اللسان، ثم ينفلتون تاركين الخيار لمن استمعوا إليهم طاعة أو معصية، ولكن الحاكم القائم بأمر الله يملك اللسان والسنان معا، ويعطي لكلٍّ من معينه حتى يلتقي النوعان معه على وجه، هو ثم وجه الله {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، فإن كان أمر الحاكمين والمحكومين على إيداع ما ذكرت الآية، فلن يكون هناؤهم وعزهم في الدينا فقط بسبب ما أطاعوا به الله، وإنما في العاقبة الكبرى لهم شيء آخر ما خطر على البال {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي في الدنيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي سيكون جزاء الآخرة أحسن من ذلك الذي استحسنوه في الدنيا، وإن كان الأمر على غير ما ذكرت الآية، فالعاقبة أيضا في انتظار وصولهم إليها، ولكن شتان، على صورة ما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربا(20/82)
شتان بين مشرق ومغرب
والآية الثانية التي قلنا إننا سسنتناولها بالتحليل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
{وَعَدَ اللَّهُ} ولو قلنا وعد غيره لما اطمأنت النفس على تنفيذ الوعج إلا إذا وقع وتم، لأن غيره قد يملك أسباب الوفاء وقد لا يملك، وقد يكون ساعة الوعد صادق النية أو عكس ذلك، وحتى لو كان صادقها ويملك أسباب الوفاء فقد يطرأ له ما لم يحتسبه فريغم على عدم الوفاء أو يتأخر زمنا ما حتى تتوفر له ظروف الوفاء، لكن لما نسمع هذه الجملة {وَعَدَ اللَّهُ} فيقفز إلى الذهن حالا أن الذي يملك أسباب الوفاء كاملة، هو الأقدر من كل ما عداه على أن يفي بما وعد، وقد سأل سبحانه متحديا {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ثم وعد {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ذلك لأن الإمكانات كلها هو آخذ بناصيتها، وبالتالي فلن يثنيه أحد عن إتمام الوعد والموعد، لأن كل من عداه مخلوق له يلازمه ضعف الخلقة العاجزة، المحتاجة إلى عون موجدها.(20/83)
{الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالوعد بالخير لا يعطى إلا لمن قدَّم له، وعكسه له الوعيد وليس الوعد، فأصحاب الوعد هم المذكورون بصفتهم الموضحة في الآية - آمنوا وعملوا الصالحات - ذلك لأن الكثير يدعي الإيمان، ولكن الدورة الإيمانية في القلب أضعف من أن تحرك آلات الجسم بالعمل الصالح، ومن هنا فحظه في وعد الله بعيد المنال، أما إذا كانت قوة الدفع في القلب تجعل الدورة دفاقة إلى جميع البدن، فستجعله ينحني راكعان ويمد يده مزكيا، ويلجم نفسه صائما، ويجعل من الحلال والحرام جنديين يقظين يوقفانه عند حدود الله، ومن أصبح منتجا للخير يفيض منه على نفسه وغيره، فكان أن أردفت الآية ترفع شأنه لتجعله أهلا للظفر بالوعد الصدق وهو:
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، والاستخلاف نوعان: نوع خاص، وهو الخلافة والإمارة فيصبح جليلا مهابا يرهب منه ويرغب فيه، ونوع عام وهو الاستخلاف في تولي الأعمال بجميع أنواعها والاستيلاء بالوصايا والهدايا والتوارث ونحو ذلك، فيصبح المجتمع كله نعم الخليفة لله في أرضه، وفي الآخرة هم سعداء خلقه {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة} {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَر} ، هكذا مجتمع المعرفة بالله، من قبل ومن بعد، ثم تستمر الآية التي نحن بصددها والتي أعطت حق العمل الجليل المستمر من السفح إلى الذُّرى قائلة:(20/84)
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} إذ لا عمل ولا هناء بعمل ولا استقرار به من الفرد إلى المجموع إلى الحاكم إلا بالدين الذي ارتضى لهم، وليس سواه البتة {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ، يمكنه الله لهم يجعلهم يعيشون في عز أحكامه ونور تنفيذه، يعبدون به ويحكمون به ويسوسون بأوامره ونواهيه، ويقاتلون به ومن أجله، وينشرونه ويمكنون مكانه في البلاد والعباد، وهل إذ أصبح قوم هذا شأنهم يخوفهم الله من أحد سواه؟ {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فلا قوة كفار أفرادا كانوا أو دولا يستطيعون تخويفهم أو كسر شوكتهم، أليس الله بكاف عبده؟ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِه} ، ثم تستمر آياتنا قائلة:
{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ثناء من الله عليهم أولا، وسبب لما أصبحوا فيه ثانيا، وهل يكون العابد الموحد، والمعتمد على قهر القاهر فوق عباده، وعلى القائل عن نفسه {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنّ} هل يكون هذا النوع من الذين أدركوا الحقيقة، إلا أن يمكن لهم في الدنيا وفي الآخرة من مالكهما وحده علا وعز.
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فبعد أن علم وفهم، ثم أنكر وراح يكفر، فهل بأقل من الفسق يوصف، وما من وصف هو أدنأ من الفسق، فهو لمعصيته المتمردة على كل معقول ومنقول مقبول، فهو متمرد على نفسه وظالم لها مبين، وكتمرد على كل ناصح أمين، ونهاية الأمر أن ذلك أوصله إلى التمرد على رب العالمين، فهل يبقى هملا ويترك عبثا، أم هو هذا الاستفهام الإنذاري التحقيري {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} .(20/85)
ذلك - بعد تحليل هاتين الآيتين - هو حقيقة العمل للصغير والكبير والمحكوم والحاكم، بشروطه الرائعة التي وضعتها الآيتين، وميزته الفذة الفريدة، أنه عمل مُسعد لأهله حالا مآلا، وليس على طريقة حقوق الإنسان التي وضعها لنفسه، فهي مادة صرفة تنتهي بنهاية مادة الدنيا، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
ثم كعاتنا نقدم من عاطر ما سلف من أيامنا نماذج نصِّية لا تعليق معها.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ - أي توكل إليّ بعض عملا - فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام، يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحد محاباه، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم" رواه الحاكم وصححه.
جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى تقوم الساعة؟ فقال له: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة" رواه البخاري.
عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" رواه البخاري.(20/86)
جمع أبو بكر رضي الله عنه كبار الصحابة في مرض وفاته وقال لهم: "إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميتا، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"، لكنهم لم يجمعوا على واحد منهم وتركوا الأمر لأبي بكر، فاستشار وتم بذلك أن اختار عمر ثم وافقوا عليه، وبعد ذلك دخل عليه أحدهم قبل الوفاة وقال له: "ما أنت بقائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته، وهو إذا وُلِّي كان أفظ وأغلظ"، فرد أبو بكر قائلا: "أبالله تخوفني؟ خاف من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك".
لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له وهو بين الموت والحياة: "أوص يا أمير المؤمنين، إستخلف"، قال: أأتحمل أمركم حيا وميتا…! وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - أي أبو بكر - وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني - أي النبي صلى الله عليه وسلم –"ثم ذكر أسماء ستة من الصحابة هم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأضاف إليهم ابنه عبد الله مخبرا إياه أن يبدي الرأي ولا يقبل الخلافة، حتى اختاروا بمحض إرادتهم عثمان رضي الله عنه.
قال المغيرة بن شعبة لعمر يوما وهو في عافيته: "استخلف ابنك عبد الله على المسلمين"، فقال له: "لا أَرَبَ لنا في أموركم، وما حمدتها لأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن وكان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد".
ذهب بعض الصحابة إلى علي في بيته بعد مقتل عثمان ليبايعوه في بيته، فقال رضي الله عنه: "في المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا من رضا المسلمين"، ولما طعن في نهاية خلافته أقبل بعضهم وقالوا: "إن فقدناك، ولا نفقدك، أفنبايع الحسن؟ "، فقال لهم: "ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر".(20/87)
تحدث عمر رضي الله عنه مع الناس يوما فقال: "أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، كنت قضيت ما عليّ"، قالوا: "نعم"، فقال: "لا حتى أنظر عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟ … أيما عامل لي ظلم أحدا بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته"، وقد ظلم أحد الولاة رجلا من الرعية في أرضه فشكاه إلى عمر فبعث إليه يقول: "أنصف فلانا من نفسك، وإلا فأقبل، والسلام"، فسارع الوالي بردّ الأرض إلى صاحبها، وفي خطاب له إلى أحد الولاة يقول: "إفتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقل منهم حملا".
وكتب رضي الله عنه إلى عامله أبي موسى الأشعري: "قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون مثل البهيمة التي مرت بواد خصب، فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن للعامل مردا إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته".
وبلغه رضي الله عنه أن أميره على الكوفة قد بنى لنفسه منزلا فخما، وجعل عليه حاجبا، فأرسل محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأمره أن يأخذ زيتا وحطبا ويحرق القصر، وأعطاه رسالة ليبلغها له "بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، وجعلت بينك وبين الناس بابا، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، لا تجعل على منزلك بابا يمنع الناس من دخوله، وتنفيهم به عن حقوقهم".
كتب إلى عمرو بن العاص واليه على مصر يقول له: "بلغني أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلست فكن كسائر الناس".
وقوله رضي الله عنه: "أنا في مال المسلمين كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف".
ونختم بهذا الحديث وإن لم يأت في ترتيبه مع الأحاديث "من استعمل رجلا على عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" رواه الحاكم وصححه.(20/88)
وحسبنا ذلك من كثير {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُون}
أما عن حرية الفكر فيما يدعى بإعلان حقوق الإنسان، فمن في العالمين طُرًّا يضاهيها في هذا؟ لقد زخر كتابنا الأعظم في الحصن على إطلاق الفكر بآيات عديدة، وليست باثنتين أو ثلاثة، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم} {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} وكثير غيرها.
والتفكر عندنا ذو غايتين، نفكر في هذا الصنع الملكوتي الهائل، سواء ما ثبت منه كالسماء وما فيها من شمس وقمر وكواكب، والأرض وما فيها من هواء وفضاء وجبال ورمال، أو ما يتقلب فيها من عوارض إنسانية وحيوانية وزرعية، أو ما لا حصر له من عجائب هذه الصنعة الكونية المهيبة، فمن شأن الفكر في هذا أن يصلنا بغير انقطاع بالقوي الأعظم الذي صنع فأبدع، فنزداد به إيمانا وعليه اعتمادا وبه وثوقا، فنأمن في جنابه وننأى عن عذابه، لما فنينا في طاعته وتسابقنا إلى مرضاته، نتيجة للتفكر في ملكوته زيادة على تصديقنا برسالاته.
والغاية الثانية من التفكر لننتج بها فجاجا من أصول شريعتنا ومعين سنتنا، بما نسميه (الاجتهاد) ، تلك الفجاج التي نأخذ نورها من نور الله الذي أنزله الله على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليكفي به العالمين ضياء مثناء، فيستمر هذا النور بالاجتهاد وهاجا لا يخبو ما بقيت أيام الدنيا، فلا إثم يقع علينا ولا كبت يئد فكرنا.
أما عن الذين جاؤوا ليضعوا لنا في آخر الزمان حقوق الإنسان، فاسمع عنهم أيها القارئ ما ظنوه جهل لدينا.(20/89)
لقد عاقبت أوربا مفكريها في أحقاب متقاربة بالموت عددا بلغ في مجموعه ثلاثمائة ألف، قتلوا منهم إحراقا بالنار وهم أحياء اثنين وثلاثين ألفا، منهم الباحثان الشهيدان (برونو) و (غاليليو) ، والأخير لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس - سواء كان ذلك خطأ أو صوابا - فما كانت هناك ضرورة لقتله، ولما قال (دي رومنس) إن (قوس قزح) يظهر من انعكاس ضوء الشمس في ماء السحاب، وليس قوسا حربيا في يد الله ينتقم بها من عباده كما يقول الرهبان الكنسيون ليرهبوا الناس، فكان أن سجن حتى مات، ثم حاكموا جثته فألقيت في النار، وأحرقوا (جيوفث) و (فأيتي) شيا على النار لأفكار قد لا تستحق عندنا التعزير من الإمام، إن لم يكن لها قدر واحترام، ونحن المسلمين ماذا كنا وقتئذ؟ لو تحدثنا عن أنفسنا لقيل إنه شيء طبيعي أن يقول الشخص عن نفسه ما يزين به وينكر ما يشين، لهذا سنقدم إليك أيها القارئ العزيز ما قاله مفكر منهم في كتاب ألفه بعنوان (خلاصة تاريخ العرب) وهو الوزير الفرنسي (سيدو) يقول فيه:
لقد أتى محمد فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارها إلى مقصد واحد أعلى شأنها، حتى امتدت سلطنها من نهر التاج المار بإسبانيا والبرتغال، إلى نهر الكونج وهو أعظم أنهار الهند، وانتشر نور العلم والتمدن بالشرق والغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في ظلمة القرون المتوسطة وجهالتها، وكأنهم نسوا نسيانا تاما ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان أسلافهم الأقدمين، واجتهد العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون بالقاهرة، في تقديم الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية، فاقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في أرجاء ممالكهم.(20/90)
واستطرد (سيدو) يقول في كتابه: وكان لهم من الصنائع والمعلومات والاستكشافات ما استفاده منهم نصارى أسبانيا حين تم طردهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم، ولا نزال إلى الآن نرى آثار التمدن العربي حين نبحث عن مبادئ ما نحن فيه من المعلومات الأوروبية، فإن العرب في نهاية القرن الثامن بعد الميلاد فقدوا الحمية الحربية وشغفوا بحوز المعارف، حتى أخذت مدائن قرطبة وطليطلة والقاهرة وفاس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند همتهم في الاشغال بجمع ما ابتكرته الأفهام البشرية من العلوم والفنون، واشتهروا في غالب البلاد خصوصا البلاد النصرانية من أوروبا بابتكارات تدل على أنهم أئمتنا في المعارف.
ويستمر (المسيو: سيدو) في كتابه قائلا:
ولنا شاهد صدق على علو شأنهم الذي تجهله الفرنج من أزمان بعيدة.
الأول: ما أثر عنهم من تاريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والأسفار وقواميس ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثير من الفنون الفاخرة.
الثاني: ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والمباني المتأنقة والاستكشافات المهمة في الفنون، وما وسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم الأخرى التي مارسوها بغاية النشاط.
ونختم ما نكتفى به من قول هذا الوزير الفرنسي المفكر: المسيو (سيدو) بتقوله: لقد كان المسلمون متفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة، فنشروه حيث وطئت أقدامهم، وكانوا هم السبب في خروج أوروبا من الظلمات إلى النور.
وحسبنا هذا فقد شهد شاهد من أهله، وأي شاهد، فهو من ساستهم وسادتهم ومفكريهم.(20/91)
إن حرية الفكر عندنا لا تسامى في كل مبادئ الدنيا وقوانينها، حيث وضعها بنفسه سبحانه في أقدس وأخلد كتاب نزل لما قال {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ثم بعد ذلك {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا} وعندئذ يعرف من أحسن الفكر ومن أساءه، فليس كل من فكَّر قدر.
لقد قلت إن الاجتهاد في شريعتنا فتحٌ واسع ٌلا يوصد بابه، ولقد استعمله رجالنا العظام في أرشد عصور الإسلام، فقد رفض علي رضي الله عنه الخلافة بكل عظمتها وصولجانها عقب وفاة عمر رضي الله عنه لما عرضت عليه مشروطة تحد من فكره ومن اجتهاده، فقد جمع عبد الرحمن بن عوف المسلمين في المسجد.. ثم نادى عليا، وكان عبد الرحمن قد فوض لاختيار الخليفة بعد أن اعتذر هو عنها، على أن يتبعه المسلمون في بيعة من يبايعه.
ووضع عبد الرحمن يده في يد علي قائلا نبايعك على أن تعمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد الشيخين - يقصد أبا بكر وعمر- فلم يوافق عليّ على اجتهاد الشيخين وقال: بل أجتهد رأيي، فدفع عبد الرحمن يده ونادى عثمان رضي الله عنه فقبل اجتهاد الشيخين وإن كان قد حدث بعد ذلك ما حدث.
وموقف علي أيضا مع الخوارج مشهور، لما أرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ليناظرهم، فرجع إلى علي منهم أربعة آلاف وبقي أربعة آلاف حيث هم، فأرسل إليهم علي يقول: كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا، وألا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب.(20/92)
ولما سئل رضي الله عنه عن حال الذين شقوا عليه عصا الطاعة وقاتلوه وهم معاوية ومن تبعه أكفار هم؟ قال: لا، أمشركون هم قال: لا، قالوا ما حالهم إذا؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فسلام عليه وعلى كل من صنعهم الإسلام في العالمين.(20/93)
كلمة التحرير
الفكر الشيوعي وكيف نقاومه؟
د. عباس محجوب
الشيوعية عقيدة مبنية على أسس فلسفية وعلى فكر له تصوره الواضح في ميادين الاقتصاد والسياسة والتاريخ والاجتماع.
وقد فتنت هذه العقيدة المنحرفة كثيراً من الناس في إيمانهم بالله سبحانه وتعالى، وما يترتب على هذا الإيمان من خضوع لله واستسلام له وتنفيذ لشرعه في الحياة وإعلاء لكلمته في الأرض، وقد استطاعت هذه العقيدة المنحرفة أن تضلل كثيرا من المسلمين وغير المسلمين وأن تنفذ إلى كثير من البلاد في دساتيرها ومناهجها التعليمية، ووسائلها الإعلامية، وإلى أن يحتل مكانة في بعض الجامعات حتى أصبحت من نظريات الحياة التي تدرس والتي يروج لها في أوساط السذج والبسطاء من طلبة العلم ومدعيه، وأنصاف المتعلمين وتجمعات العمال والاتحادات النسائية والطلابية.
مثل هذه االعقيدة الفاسدة لا تواجه أبدا بإجراءات سياسية أو اقتصادية أو تربوية ولكنها تواجه من البداية بعقيدة صحيحة مبنية على فكر سليم وتصور كامل يشمل جوانب الحياة كلها في الاقتصاد والسياسة والتربية والاجتماع والتاريخ، وحين نقول عقيدة صحيحة نقصد أن العقائد المنحرفة والمنسوبة للإسلام، والتصورات الناقصة للفكر الإسلامي لا تستطيع أن تقف أمام الفكر الشيوعي. بل إن العقائد المنحرفة تمهد السبيل لانتشار الشيوعية، كما أن المواقف المتعنتة والعواطف الجامحة تؤدي إلى نتائج عكسية يكتسب من ورائها دعاة الشيوعية، والدليل على أن العقائد المنحرفة تعجز أمام الفكر الشيوعي أن أكبر االأحزاب الشيوعية في أوربا متمركزة في معقل المسيحية ومقر البابا، بل إن الحزب الشيوعي الإيطالي كان قاب قوسين أو أدنى من حكم إيطاليا بالرغم من الدعم الأمريكي والصلوات الموجهة من الكاثوليك في العالم.(20/94)
إن الفكر الإسلامي الذي يمكنه مواجهة الشيوعية هو الفكر الذي يشمل حياة المجتمع الإسلامي، ويوجهه فيما أراد الله له.
إن الفكر الشيوعي يقوم أساسًا على تقديم المذهب المادي بديلا عن الدين، وعلى التسليم بحقائق يبنى عليها هذا الفكر. وأهمها عدم الاعتراف بغير المادة، فلا موجود إلا المادة. وإن هذه المادة لها صفة الأزلية والقدم، فهي غير مخلوقة ولا يلحقها العدم، وإن هذه الحياة الدنيا وجدت عن طريق الحركة العشوائية لهذه المادة، والتسليم بهذه الأفكار يقتضي عدم الإيمان بما هو غيبي لأنه لا يخضع للمشاهدة والفكر، فالله غير موجود وكذلك الجن والملائكة وهذا بدوره يقتضي بطلان الأديان التي جاءت بما يعتقد المذهب الشيوعي أنه أوهام أملت الناس في حياة أخرى، وفي البعث والحساب والجزاء وبالتالي فإن الإنسانية لا تستمد تشريعها في مجالات الحياة المختلفة من مصادر خارجة عنه فالإنسان هو الذي يشرع لنفسه وهو المسئول عن نفسه ومصيره. ولأن هذا المذهب لا يؤمن إلا بما هو مادي فهو يعتبر ما يسمى بالروح والعقل والنفس شكلا من أشكال المادة، وأن هذه المادة في حركتها واضطرابها تفسر على أساس القوانين الطبيعية التي أوجدت نفسها بنفسها.
هذه الأفكار التي يقوم عليها الفكر المادي الملحد قد تعرضت لمناقشات واسعة دحضت آراءه وأفكاره، بل إن حركة التاريخ والحياة نفسها أثبتت زيف كثير من هذه الأفكار.(20/95)
لقد تحطمت نظرية عدم وجود غير المادة أمام وجود الفكر والمشاعر والعقل وأمام الماديات التي يتعامل معها العلماء ولا ترى بالحواس. مثل الذرة وجزئياتها، كما أثبت العلم أن المادة ليست أزلية لأن تاريخها معروف. وأن المادة في أصغر ذراتها وتحللها وعناصرها الدقيقة اعتمدت وتعتمد في وجودها على غيرها، والأزلي هو الذي لا يعتمد في وجوده أو استمراره على غيره، والذي يعتمد في بقائه على شروط معينة أو ظروف معينة لا يمكن أن يكون أزليا. كالمادة التي أثبت العلماء أنها حادثة ومتحولة ومعتمدة على غيرها أما أن الحياة وجدت عن طريق المصادفة فهو افتراض يتعارض مع ما يدعيه الشيوعيون من قيام مذهبهم على العلم. ولم يعد عقل في الحياة مهما كان صغيرا أن يقبل تكون الحياة والكائنات من ذرات سابحة في الفضاء. وأكبر دليل على بطلان ذلك ما نراه في الحياة من تناسق وتنظيم وخضوع لقوانين معينة فالخالق المدبر وراء كل شيء نراه أو نعلمه في الحياة التي لا مجال فيها للمصادفة والعشوائية وإلا لما كان لكل كائن عناصره وقوانينه الدقيقة.
إن الإيمان بوجود خالق لهذا الكون ومدبر يقتضي الإيمان بالملائكة والجن. فالذي خلق من المادة إنسانا نراه ونسمعه يخلق منها ملائكة وجنا لا نراهم ولا نسمعهم. فالنار والنور ماديان وليست المادة وقفًا على ما تدركه حواسنا فقط، فالله وحده هو الذي ليس لوجوده صفة مادية لا واقعا ولا موضوعا فهو منزه عن الشبيه والمماثلة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وما عدا الله فهو الذي يماثل غيره تماثلا نسبيا.(20/96)
والإيمان بالله خالقا يقتضي الإيمان بالبعث والحساب والجنة والنار وهذه من البديهيات {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وكيف لا يؤمن بالبعث من يعترف بالخلق والوجود الأول أن الإيمان بوجود الله وأزليته وخلقه للحياة وما فيها يترتب عليه حتمية خضوع الإنسانية لخالقها في مجال التشريع لشؤون الحياة كلها سياسية واجتماعية واقتصادية، فالإنسان ليس سيد نفسه لأنه محكوم بقوى تتحكم في ذاته ومصيره ووجوده، وله احتياجه الفطري إلى قوة يستند إليها ويؤمن بها ويحتمي بها ويؤمل فيها، وإلا ما كان للحياة معنى ولا للعمل هدف، فالإنسان محكوم بسنن الله الكونية يجب أن يخضع لها ومحكوم بقوانين بيولوجية يرضخ لها رغما عنه، وبالتالي فإنه لا بد من أن يخضع في نظام حياته إلى ما يشرعه له خالقه. والإنسان مرتبط بقانون في الحياة هو قانون المحافظة على الحياة. والإيمان بالله في قمة هذا كله لأنه الذي يحقق مصالح الإنسان ويمنح الطمأنينة والأمن والاستقرار وازدهار الحياة وسيادة المثل والقيم الإنسانية.
هذه لمحات عن الفكر المادي الذي لم يثبت أمام المنطق والعقل والعلم والواقع، واعتراف الماديين بمخالفة مذهبهم لما سبق جعلهم يغيرون ويبدلون في فكرهم وفلسفتهم وأسلوبهم، ويمكننا أن نواجههم بعدة وسائل منها.(20/97)
1- تغيير واقع المجتمعات الإسلامية التي تمثل الآن المناخ الطيب لانتشار بذور الشيوعية ونمائها. فالشيوعية لم تدخل إلا البلاد التي تعاني مجتمعاتها من اضطراب في الأوضاع وتغير في النظم السياسية وفقدان للشخصية. وقد كان (كارل ماركس) يظن أن الظروف مواتية لقيام الثورة الاشتراكية في انجلترا إلا أن الأوضاع السيئة لحكم القياصرة في روسيا هو الذي عجل بالثورة هناك بحثا عن البديل فيها، ثم تكرر الأمر أخيرا في فيتنام والحبشة واليمن والصومال وليبيا، وبعض البلاد حيث استطاع الشيوعيون أن يدخلوا عناصر منهم في أماكن يستطيعون منها إحداث تغيير لصالحهم متى وصلت الأوضاع في سوئها إلى اللحظة التي تجعل الأمة في قناعة بأي نوع من التغيير حتى ولو كان ماركسيا كما حدث وسيحدث في كثير من البلاد.
ولا يمكن تغيير حال الأمم الإسلامية إلا باتخاذ إجراءات أهمها التخلي عن التخبط بين الأنظمة المختلفة من اشتراكية ورأسمالية، وعلمانية، وقومية، وأن ترجع إلى النظام الذي يتناسب مع طبيعتها وفطرتها الإنسانية والمرتبطة بعقيدة هذه الأمم وتاريخها وحقيقتها وهو الإسلام.
2- توحيد الولاء، فالدول الإسلامية تتعدد ولاءاتها، وتتنوع انتماءاتها بين دول مرتبطة بنفوذ السوفييت، تدور في فلكهم وتجعل ولاءها لهم فوق ولائها للعقيدة، وتظن أنها بذلك تحمي نظامها من الإمبريالية واليهودية وغيرها، بينما دول تسير في ركب النفوذ الأمريكي، وترى في أمريكا حامية للعالم محققة للعدالة وقائدة في محاربة الشيوعية، كما أن النفوذ اليهودي بدأ يدخل مباشرة في اللعبة، وارتفعت الأصوات باتخاذ حزام ضد الشيوعية مع دولة اليهود.
إن القوى كلها تتصارع في منطقة العالم الإسلامي خوفا من الإسلام أولا، ثم محاولة لاحتكار مقدرات الأمم الإسلامية الاقتصادية النامية الواسعة، ثم استغلال قوتها البشرية الضخمة لتكون مخلب قط للجبهة التي تسخرها وتسيطر عليها.(20/98)
إن تدخل روسيا في أفغانستان ظنَّه كثير من السذّج مفاجأة لأمريكا التي أظهرت ذلك، بينما تمسح طائرات التجسس الأمريكية العالم كله بأجهزة دقيقة تصور بالليل وبالنهار ومن مسافات بعيدة كل حركة ظاهرة في العالم خاصة في المعسكر الاشتراكي، والمسألة لا تتعدى مسألة اقتسام الأدوار وتحديد مناطق النفوذ، وإلا فبماذا نفسر إطلاق يد أمريكا في الشرق الأوسط، بينما يسكت الأمريكان عن تحرك الروس في القرن الأفريقي؟ إن الخلاف لا ينشب بين القوى العظمى على مناطق النفوذ بل ينشب على التعديات من جانب على نصيب الجانب الآخر، وفيما اتفقا عليه والسذاجة السياسية هي التي تحرك دولا في جانب وأخرى في جانب آخر إلى جانب المصالح.
إن الأمم الإسلامية لكي توقف الخطر الشيوعي لابد لها أولا من توحيد ولائها بحيث يكون لله ورسوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة 55- 56.
ويقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ ... } إلخ الآية.(20/99)
3- معالجة الواقع الاقتصادي للأمم الإسلامية. فأغلب الدول الإسلامية تتميز مجتماعتها بطبقة متميزة وطبقات فقيرة، ولا توزع فيها الثروة القومية توزيعا عادلا. وطبقة الفقراء والمعوزين والمعدمين هي الغالبة، وليس هناك مناخ أفضل للشيوعية من هذا فحقد الفقراء على الأغنياء وأصحاب الجاه والنفوذ كبير وهو المدخل الذي تتغلغل الشيوعية منه إلى طبقة (البلوريتاريا) وطلاب المدارس وتجمعات المزارعين وغيرهم. ولو قامت هذه المجتمعات على أساس النظام الإسلامي في الاقتصاد والذي يوفر العمل والمسكن والدخل القائم على الجهد ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب واختفت مظاهر الرشوة والمحسوبية والتعامل بالأنظمة الربوية في الدول والبنوك والتجارة - لو وجد كل ذلك لما كانت المعاناة الاقتصادية التي تعني منها الدول الإسلامية. ولما كان للشيوعية الفرصة في استغلال هذه الأوضاع السيئة لبث الاضطراب والفوضى في الشعوب المسلمة وحدها.
إن مقاومة الشيوعية كما ذكرنا لا تكون بقرارات وسياسات، ولكن بمعرفة المذهب الشيوعي المادي، وتفنيد ادعاءاته بالعقل والعلم والمنطق، وهذا لا يتأتى إلا بتغيير الظروف ومعرفة تامة بالإسلام والأخذ به نظاما شاملا للحياة في كل جوانبها.
د. عباس محجوب
عضو التحرير(20/100)
دراسة في أصول الفقه
د. علي أحمد محمد با بكر
أستاذ مساعد
1 - أهميّة علم الأصول وخصوبته..
الحياة البشرية على الأرض بثقلها ومسؤولية الحفاظ على توازنها ليس هينة العبء ولا سهلة القياد، وذلك لما تتضمنه من عمق وتشعّب ودقة، وما تزدحم به من رغبات تتفق وتختلف، ومصالح تتعارض وتصطلح، ومطامح تلتقي وتفترق، وأمزجة تصفو وتتكدر، وأصناف من السلوك، وأنواع من الظروف، وبما فيها من شعوب تتباين استعداداتها وأهدافها، وقبائل تتنوع مساعيها، وبما يعتريها من أحداث الزمن وتقلبات الأيام وصروف الدهر، وبما يلابسها من لمسات الخير ووخزات الشر، وما ينتظمها من حركة لا تتوقف، وبما تتطلبه من علاقة بمبدع الوجود وعلائق بالمخلوقات عموما وبين البشر على وجه الخصوص.
هذه الحياة لا بد لها من ميزان تنضبط به أمورها وترجع إليه مبهماتها وتوزن به اختلافاتها، وتقاس به جميع حالاتها.
ولقد وهب الخالق سبحانه وتعالى للإنسان العقل ليميز به ويزن به الأمور، ولكنه لم يترك هذا العقل يتخبط وحده في متاهات الحياة، والعقل عرضة للتأثر باضطرابات النفوس واعتلال الأجسام ومؤثرات البيئة الخ، فجاء عونه تعالى للعقل البشري ببيان مرتكزات مصالح البشر التي تشمل مصالحهم في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، فبيّن للناس أصول النظم التي يسيِّرون بها الحياة ويبصرون بها الطريق حتى يحقق الإنسان معنى خلافته في الأرض.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [1] .
وحتى يستطيع الاهتداء والسير بلا عثرات، وحتى يطمئن للغايات الصالحة.(20/101)
كان هذا العون الإلهي للعقل البشري عن طريق وحيه تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام وعصمته له، فتجلت في القرآن الكريم والسنة الشريفة أصول الأحكام الفقهية ومرتكزاتها، فقد فصل لنا هذان المصدران ما فصّلا من الأحكام وتضمّنا من المبادئ والقواعد والتوجيهات العامة ما يقود العقول إلى سواء السبيل.
وبمجهودات الصحابة رضوان الله عليهم وما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من شرح وتوضيح وتوجيه، وبمجهودات أئمة الأجيال التي أعقبت الصحابة رضوان الله عليهم جاء البيان لهذه المصادر واتضحت المناهج التي يمكن اتباعها لاستمداد الأحكام التي يعتمد عليها الناس في مسارهم، وبذلك تكوّن علمٌ ذو شأن خطير وأهمية بالغة هو علم أصول الفقه الإسلامي.
ومن المعلوم أن الفقه الإسلامي الذي يقوم على هذه الأصول هو ميدان فسيح يشتمل على إجابات لجميع شؤون الناس وحاجتهم، ومن هنا يمكن للناظر إدراك أهمية علم الأصول وخطورته والمكانة الرفيعة التي يحتلها بين العلوم، لأنه الأساس للأحكام التي تحدد مسار الخلق وترسم طريقهم الموصل لبلوغ مصالحهم قبل الممات وبعد الممات.
وكما يتوصل بعلم الأصول لمدارك الأحكام ومسالكها كذلك يتوصل به لمقاصد الأحكام وأهداف الشريعة وروحها مما يطمئن القلوب والعقول.
ولعله مما يفيد في هذا المقام أن ننقل ما أورده الإمام الأسنوي [2] في كتابه التمهيد حيث قال:(20/102)
"وبعد فإن أصول الفقه علم عظم نفعه وقدره، وعلا شرفه وفخره، إذ هو مثار الأحكام الشرعية ومثار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشا ومعادا. ثم إنه العمدة في الاجتهاد، وأهم ما يتوقف عليه من المواد كما نص عليه العلماء ووصف به الأئمة الفضلاء، وقد أوضحه الإمام [3] في المحصول فقال: "يشترط فيه - أي علم الأصول – أمور هي: أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام، ويعرف المسائل المجمع عليها، والمنسوخ منها، وحال الرواية، لأن الجهل بهذه الأمور قد يوقع المجتهد في الخطأ. وأن يعرف اللغة إفرادا وتركيبا لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية. وأن يعرف شرائط القياس لأن الاجتهاد متوقف عليه، وكيفية النظر وهو ترتيب المقدمات.. .. .. وأما شرائط القياس وهو الكلام في شرائط الأصل والفرع وشرائط العلة وأقسامها ومبطلاتها، وتقديم بعضها على بعض عند التعارض فهو باب واسع يتفاوت فيه العلماء تفاوتا كبيرا، ومنه يحصل الاختلاف غالبا مع كونه بعض أصول الفقه".
فثبت بذلك ما قاله الإمام أن الركن الأعظم والأمر الأهم في الاجتهاد إنما هو علم أصول الفقه" [4] .
الخصوبة في علم الأصول:
من أبرز خصائص علم الأصول أنه علم يتمتع بخصوبة ودسامة تميزه عن غيره من العلوم، فهو غزير في مادته بعيد عن الجفاف يشبع نهم المقبلين – بجانب أهميته ومكانته الرفيعة – فإذا أدرك الدارس أبعاد هذا العلم يجده متصلا بجميع العلوم الشرعية ومتصلا بأكثر – إن لم يكن كل – بقية العلوم التي تسمى بالعلوم الإنسانية.
فهو بتركيبته الخاصة يأخذ دارسه إلى ميادين تلك العلوم المختلفة فلا يتمكن منه إلا بولوجه أبوابا مختلفة وفنونا متنوعة يسبر أغوارها ويخوض غمارها.(20/103)
فعلم الأصول - كما أشرنا من قبل – هو الأساس للنظام المتكامل لحياة الإنسان. فبعلم الأصول تتضح المنابع وتعرف المناهج التي تقود إلى الوصول للأحكام التي تنظم حياة الأفراد والجماعات في جميع صورها وجميع مراتبها. وعلم هذا شأنه لا بد من ترابطه مع علوم كثيرة تعالج حياة البشر من جوانبها المختلفة.
فدراسة منابع الأحكام تتطلب أول ما تتطلب دراسة القرآن الكريم، المنبع الأول للأحكام: حقيقة شموله لأحكام تفصيلية وقواعد عامة تندرج تحتها بقية الأحكام غير المنفصلة نصا، ومعانيه، والناسخ والمنسوخ منه، وألفاظه مما يقود إلى دراسة اللغة العربية، ولا معنى لدراسة القرآن الكريم كأصل من أصول الفقه إلا فهم حقيقته هذا الكتاب وفهم دلالاته والتعمق في دراسته.
وتتطلب دراسة منابع الأحكام الشرعية وأصولها،، ثانيا: دراسة السنة النبوية، بأنواعها وأقسامها ومصطلحاتها لتكون تفسيرا للقرآن الكريم ومفصلة له.
وتتطلب دراسة منابع الفقه ومصادره دراسة مكان العقل البشري الذي حددته الشريعة الإسلامية من هذه الأصول، ومجالات اللجوء إليه، وكيفية استخدامه، وحدود ذلك، وهذا بدوره يسوق لدراسة منطقية وعقلية تدور حول قضية القياس وما يرتبط به من مصادر عقلية للأحكام، وإلى دراسة المقاصد الشرعية في الخلق والأهداف العامة والخاصة.
وهذا بدوره يقود لدراسة النظريات والفلسفات الوضعية وتوضيح أهدافها ومقاصدها لمقارنتها وبيان أوجه النقص فيها.
وتتطلب دراسة علم الأصول دراسة للمجتمع الإنساني، دراسة تكشف عن عادات الناس فيه واختلافات بيئاتهم وتأثير ذلك في تصرفاتهم، ومدى صلاح تلك التصرفات أو فسادها بمقياس الإسلام ومبادئه، وهذه الدراسة الاجتماعية يقدم عليها أصل من الأصول الفقهية التي اعتمدتها بعض المذاهب السنية وهو "العرف".(20/104)
ولعلنا ندرك أن إدراك علم الأصول كما كان في الماضي ضرورة لكل فقيه يُنَصَّب للفتوى أو القضاء، وكان الفقهاء الملمون بالأصول مقدمين على غيرهم خاصة في منصب القضاء، ويفضل من بين هؤلاء العارفون بحياة الناس الاجتماعية وعاداتهم.
ونورد هنا القصة التي رواها الفقيه ابن عرفة (717- 803 هـ) :
في هذا المضمار، قال: "إن ابن عبد السلام [5] كان على وشك أن يعيّن قاضيا ولكن معاصريه من العلماء طعنوا فيه بأنه رجل حاد الطبع، فبلغ النبأ ابن عبد السلام فذهب إلى الوالي وزكّى نفسه بأنه يعرف حياة الناس الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم أكثر من غيره، "وهو يشير إلى معرفته بالعرف"وعندما تأكد الوالي من صدق دعواه عينه قاضيا ولم يلتفت لطعن الطاعنين" [6] .
وتتطلب دراسة منابع الفقه الإسلامي دراسة تاريخ التشريع في الإسلام وهو يشتمل على تاريخ الأصول والفقه، ودراسة الظروف التاريخية التي أحاطت بالفقه وأصوله وهذه دراسة تقود للإلمام بالتاريخ عموما من أوسع أبوابه ولا يقتصر على دراسة تاريخ الأصول والفقه وحده، وبذلك يكون الأصولي على علم بكل الظروف التي مرّ بها العلم.
ودراسة منابع الفقه تتطلب دراسة دقيقة وافية مستوعبة لتفاصيل علم الفقه الإسلامي ومذاهبه واختلافات الأئمة والمنصوص عليه وغير المنصوص عليه وأماكن الإجماع الخ، حتى يمكنه معرفة الأصول معرفة نظرية وتطبيقية عملية ولا يقتصر على المعرفة النظرية المجردة.
ولعله من الأكمل لدارس الأصول الإلمام بأصول ومنابع القوانين الوضعية وذلك لإدراك مصادر تلك القوانين وكيفية استخراجها حتى ينجلي عنده سمو الشريعة الإسلامية ويستطيع - كما أشرنا من قبل - بيان نقائص القوانين الوضعية.(20/105)
بجانب ما تقدم من علوم تتطلبها دراسة علم الأصول فهنالك علوم أخرى لها أهمية بالنسبة لدارس الأصول مثل علم الكلام أو العقيدة التي هي من مقدمات علم الأصول، ليتوصل بذلك إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه [7] وكذلك فإن قضايا متعددة خلال أبواب الأصول تحتاج إلى زاد من العقيدة مثل قضايا التعليل، وصفات الأفعال العقلية واتفاق أو عدم اتفاق الشرع معها، وغير ذلك من القضايا التي تتطلب التسلح بسلاح العقيدة ليكون بحثها على بينة من الأمر.
من هنا يتبين لنا كيف أن علم أصول الفقه هو من أكثر العلوم خصوبة ودسامة، وأن دراسته وتعمقه غاية في الإمتاع وإشباع النهم العلمي هذا بجانب أهميته وخطورته التي أوضحناها سالفا وهي أنه تحقيق لمصادر وقواعد استخراج الأحكام التي تضمنتها شريعة الله للخلق.
ولا غرابة أن تتطلب دراسة علم أصول الفقه الإسلامي ولوج أبواب هذه العلوم المختلفة، وكيف تكون هنالك غرابة بينما تتطلب دراسة القوانين الوضعية - وهي محصورة الفائدة في هذه الدنيا - دراسة العديد من العلوم، ولنستمع إلى أحد كتاب الفقه القانوني الوضعي وهو اللورد "راد كليف" يقول في كتابه (القانون ومحيطه) يقول ما ترجمته:
"أرجو أن لا تخطئ فهمي أو تظن أنني أقلل من أهمية واحد من أعظم الدراسات الإنسانية إذا قلت: إننا لا نستطيع أن نفهم القانون بتعلمنا للقانون، فالقانون أكبر من هذه المصطلحات التي ندرسها بمقدار عظيم، فهو جزء من التاريخ، وجزء من الاقتصاد، وجزء من الاجتماع، وجزء من علم الأخلاق وفلسفة الحياة" [8] .(20/106)
فإذا كان هذا هو حال القانون الوضعي ومصادره - وهو محدود الدائرة - وإذا احتاج القانون الوضعي لدراسة كل هذه العلوم وسبر أغوارها، فكيف بالشريعة الإسلامية وأصولها وهي غير منحصرة في هذه الحياة الحاضرة بل تتعداها لتضمن مصلحة الحياة الآخرة أيضا، لا شك أنها أوسع نطاقا وأشمل بحيث تشمل النظرة إلى مصادرها العلوم الأساسية التي تستمد منها صيانة المصلحة في هذه الحياة ثم تنفرد بالعلوم الأخرى وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية التي هي أساس فهم القرآن الكريم.
فعلم أصول الفقه ليس كما يتصوره البعض، علما محصورا في تعريفات ومناقشات لفظية، وعلما جافا غير أخاذ بحيث لا يتسع ليشبع نهم النفوس، فهو عكس ذلك تماما كما حاولنا توضيح ذلك في الفقرات الفائتة، وكما يدرك ذلك علماء الأصول الذين عاشوا تجربة دراسته وتدريسه.
أسباب عدم وضوح الرؤية:
كثير من الدارسين لعلم الأصول تتعسر عليهم الرؤية الواضحة لحقيقة هذا العلم ولخصوبته، وعليه فهم يعتبرونه - كما أشرنا أعلاه - علما يتسم بالجفاف والتعقيد والانحصار في مناقشات لفظية أو منطقية ثم ردود على المناقشات وردود على الردود وهلم جرا، ثم بعد ذلك تكون الحصيلة ضئيلة، وهذا المفهوم يبعث في نفوسهم مللا من دراسة الأصول ونفورا منه، وربما مر بنا هذا الإحساس في عهد الطلب، وبذلك ينصرف الدارسون عن هذا العلم العظيم الغزير المليء بالفوائد والتي تتجلى فيه مناهج بحث وضعها علماؤنا السابقون لم يسبق لها مثيل، ونادرا ما تجد أحدا يقبل على هذا العلم إلا مضطرا لأداء امتحان مثلا، ثم لا تجده بعد ذلك يتناول مرجعا من مراجع الأصول ليطلع فيه طائعا مختارا مستسيغا له متعمقا في معانيه.
هذا الشعور الذي ينتاب المبتدئ في دراسة هذا العلم، وغالبا ما يظل معه خلال حياته العلمية، له أسباب نذكر منها بعضا في الفقرات التالية:(20/107)
لعلنا نستطيع القول بأن الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذا الإحساس وهذا المفهوم تنقسم إلى مجموعتين:
(1) المجموعة الأولى ترجع إلى الاضطراب في التكوين الثقافي والفكري والبيئي للنشء في المجتمع الإسلامي.
(2) والمجوعة الثانية ترجع إلى كتب الأصول نفسها.
أما فيما يختص بالمجموعة الأولى من الأسباب، وهي التي ترجع إلى التكوين البيئي للنشء فهي تتمثل في تأثير أساليب الثقافات الأجنبية ومصطلحاتها وعباراتها في التكوين الثقافي لأبناء المسلمين، حدث ذلك منذ أن هجمت تلك الثقافات مع موجة الاستعمار لبلاد المسلمين وطفقت تنشئ أجيالا هي أقرب إلى ثقافات الأجنبية منها إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة والعلوم الإسلامية في مصادرها الأولية، فأصبح بذلك الناشئون بعيدين عن المصطلحات العلمية العربية والإسلامية وعن الألفاظ والعبارات التي تزخر بها كتب العلوم الإسلامية، ومن بينها كتب الأصول.
كذلك فإن الأجيال الإسلامية في العصور الحديثة تأثرت إلى حد كبير بالحملة المغرضة التي واجهتها كتب التراث في كثير من البلدان الإسلامية، تلك الحملة التي وصمت هذه الكتب بالجمود والتحجر، فعزف شباب المسلمين عن جهل عن تناول تلك الكتب وعن الاجتهاد في إدراك مضامينها، يضاف إلى ذلك ضعف اللغة العربية في جميع البلاد العربية والإسلامية، وعلم الأصول يتطلب في مقدمة ما يتطلب إدراك اللغة العربية إدراكا تاما ومعرفة أسرارها، كما أوضحنا من قبل.
كل ذلك ساعد على خمول كثير من الشباب وإحجامهم عن اقتحام هذه العلوم وسبر أغوارها، وتركوا ذلك إلى قلة متخصصة في فروع هذه العلوم، فأصبح من العسير عليهم -إن هم أرادوا العودة إلى كتب التراث - أن يتبينوا أساليب تلك الكتب.(20/108)
أما المجموعة الثانية من أسباب النفور من علم الأصول، والتي ترجع إلى كتب الأصول نفسها، فهي تتلخص في أن كتب الأصول القديمة غالبا ما تركز على المصطلحات اللغوية واللفظية والمنطقية، وعلى مناقشة القول ورد المناقشة الخ - كما أشرنا - مما يبعد بالطالب عن المعنى المقصود أو يجعل من الصعب الخروج بنتيجة واضحة بينة.
كذلك فإن كتب الأصول كثيرا ما تقلل من إيراد الأمثلة التطبيقية للقواعد التي تناقشها، فمثلا تورد أحيانا مثالا واحدا لقضية أو قاعدة يكون الكتاب قد ناقشها طويلا، وربما لا تورد في بعض الأوقات أي مثال عقب مناقشة طويلة لبعض القواعد، وبذلك يفقد الدارس الجانب التطبيقي للعلم ويصعب عليه الربط بين القواعد الأصولية التي يقرؤها وبين الفقه التفصيلي فيفقد الهدف الرئيسي من علم الأصول.
فلو أن كتب الأصول زخرت بالأمثلة لكل قاعدة وبالتطبيق على المسائل الفقهية باستفاضة لساعد ذلك على جعل هذه المادة أكثر تشويقا، ولو أن الأستاذ الذي يقوم بتدريس علم الأصول في الجامعات والمعاهد يقوم بتوسيع الجانب التطبيقي وعرضه ومناقشته مع الدارسين لساعد ذلك أيضا على إيضاح خصوبة هذا العلم ودسامته.
إن أمنيتنا هي أن تميل الكتابات المعاصرة في علم الأصول إلى استجلاء عمق هذه المادة وغزارتها وأن يكثّف العمل في هذا الطريق حتى يدرك طلاب العلوم والمعرفة حقيقة علم الأصول ويكون الإقبال عليه كبيرا كما يكون طوعا واختيارا، وبذلك يعطى هذا العلم حقه من الاهتمام، وكما هو معلوم فإنه لا سبيل إلى الاجتهاد إلا بإدراك تام لهذا العلم.
إقبال العلماء في الماضي بمختلف تخصصاتهم على علم أصول الفقه:(20/109)
ظل علم أصول الفقه وكذلك علم الفقه محط اهتمام المسلمين في الماضي على مر العصور، وظلا في مقدمة العلوم التي يندفع الدارسون لتلقيها وتدريسها، ولأن مجموع العلمين هو الذي يسترشد به الفرد والمجتمع في التصرفات والمسار وبه تبين أحكام أفعال البشر في دنياهم.
وكان عالم الأصول والفقه مقدما على غيره من العلماء لخطورة وأهمية ما يحمله، وهو الذي يولّى أخطر مناصب الدولة وهو القضاء وهو الذي يهرع إليه الناس في الفتوى لحل مشكلاتهم الفقهية التي تتعلق بدنياهم وأخراهم فهو في الحقيقة الموجه للمجتمع المسلم. ومن هنا كان الحادبون على صلاح المجتمع المسلم يحرصون على دخول ميدان الفقه وأصوله حتى يتمكنوا من القيام بدور في توجيه، المجتمع، خاصة قد كان الذي لا يعرف الفقه وأصوله لا يعتبر من ذوي العلم مهما بلغ من المعرفة في كثير من العلوم الأخرى.
ولنستمع إلى الإمام الجليل ابن الجوزي (سنة 597هـ) وهو يتحدث عمّن يشتغلون بعلوم غير علوم الشريعة ثم يقتصرون عليها وهم يفخرون بتلك المعرفة، ونحن لا ننقل كلام ابن الجوزي للتقليل من العلوم الأخرى، ولكن لنوضح وجهة نظر الماضين، خاصة علماؤهم، فيمن يفرط في إدراك الشريعة وأصولها التي على رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية، يقول ابن الجوزي:(20/110)
"قد لبَّس (يعني إبليس) على جمهورهم (يعني أهل اللغة والأدب المقتصرين عليهما) فشغلهم بعلوم النحو واللغة من غير المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفس وصلاح القلوب وما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه. فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها، فإن الإنسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مرادة لغيرها، فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل، ولا من الفقه ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس أنهم من علماء الإسلام، لأن النحو واللغة من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن العزيز.
ولعمري إن هذا لا ينكر، ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان، وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب وهو أمر لا زم، وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه، وإنفاق الزمان مع تحصيل هذا الفاضل، وليس بمهم، مع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا، ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل" [9] .
من حديث هذا الإمام الجليل نلاحظ كيف أن المسلمين بما فيهم العلماء، كانوا في العصور السالفة لا يعتدون كثيرا بمن لا يحمل علم الشريعة من العلماء إلا إذا كان ما يحمله من علم في خدمة علوم الشريعة - وهذا حق - وجماع علوم الشرعية وخلاصتها هو الفقه وأصوله.
فالعالم الجليل في اللغة مثلا، في الماضي، كان لا بد له من التزود بالعلوم الشرعية وإلا فإن الاعتداد بعلمه سيكون ضعيفا، وكذلك عالم التاريخ، والكلام، والمنطق الخ الخ.
وبناء على هذه الروح السائدة، وبناء على اهتمام المسلمين عموما بعلوم الشريعة، أراد العلماء المتخصصون في غير الشريعة أن يدخلوا ميدان الشريعة ويدلوا بدلوهم.(20/111)
ونحن لا نريد أن يفهم من هذا أن هؤلاء الذين أرادوا أن يلجوا ميدان الشريعة كانت دوافعهم دنيوية، فقد كانت دوافعهم كما هو واضح من أحاديثهم وسيرهم دينية، فهم يريدون خدمة العلم وتقديم ما يحملون من علم للناس، وهم لا يستطيعون تقديم شيء للناس إذا كان الناس لا يعتدون ببضاعتهم.
وقد دخل بناء على ذلك كثير من علماء اللغة وعلماء الكلام ميدان الشريعة، ووجدوا أن أوسع أبواب دخولهم هو علم الأصول، لأن علم الأصول يوضح كيف تفهم ألفاظ القرآن والحديث وعباراتهما، وعمومهما وخصوصهما، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، ودلالات الألفاظ، وإشارات النصوص، والناسخ والمنسوخ، إلى غير ذلك من القضايا التي ترتبط بفهم اللغة ارتباطا تاما.
وكذلك فإن علم الأصول هو الذي يبين فلسفة التشريع، وأهداف الشريعة وأغراضها وعللها ومبادئها، ومكان العقل البشري من الشريعة إجمالا ما يوجب الثواب والعقاب عن أفعال العباد.
ويبين الدليل والبرهان والحد والرسم والقياس، ويبين أساس تشريع الأحكام ومدخل حسن الأفعال وقبحها العقليين في ذلك، وغير ذلك من القضايا المتعددة التي ترتبط بعلم الكلام والمنطق والعقيدة.
لهذا فقد وجدنا كثيرا من علماء اللغة والكلام والمنطق قد ولجوا علم الأصول وألفوا فيه كتبا وأبرزوا فيه قدراتهم اللغوية والمنطقية والعقلية.
ومن هنا برزت قضايا الكلام واللغة بصورة واضحة في بعض المؤلفات مما دعا بعض كتاب الأصول المعاصرين إلى القول: إن بعض القضايا الكلامية وردت في كتب الأصول من غير حاجة إلى إيرادها غير رغبة علماء الكلام في إبرازها ليمارسوا قدراتهم الكلامية.
ومن غير علماء اللغة والكلام فقد كان هنالك علماء في ميادين أخرى دخلوا ميدان علوم الشريعة وكان مدخلهم هو علم أصول الفقه لأنهم وجدوه يتصل بعلومهم التي أتقنوها ووجدوه علما خصبا.(20/112)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البقرة 30.
[2] جمال الدين عبد الرحمن الأسنوي (704- 777 هـ) .
[3] يقصد الإمام الرازي الشافعي- صاحب المحصول في علم الأصول.
[4] التمهيد ص3 الطبعة الثانية سنة 1387 هـ.
[5] عاش في القرن الثامن الهجري.
[6] انظر المرير، الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية، ج1 ص62- 63.
[7] انظر التفتازاني ـ التلويح ج1 ص20.
[8] انظر اللورد كيف القانون ومحيطه (بالإنجليزية) ص92- 93 الخ.
وانظر اللورد لويد (مقدمة لفقه القانون) ص1- 2 إلخ.
[9] ابن الجوزي تلبيس إبليس ص126.(20/113)
نظام الضرائب في الإسلام
د. أحمد حاج علي الأزرق
أستاذ مشارك بكلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن مما عنيت به الشريعة الإسلامية عناية كبيرة الشئون المالية، حيث وضعت لها سياسة رشيدة عادلة راعت فيها تحقيق العدالة في كل من جمع المال من أربابه، وصرفه في مصارفه، وإن الباحث ليجد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفيما خلفه لنا الأئمة المجتهدون الثروة الفقهية الغنية أصدق شاهد على عدالة تلك السياسة المالية.
أساس وضع الضريبة في الإسلام:
الضريبة فعيلة بمعنى مفعولة وهي: ما يقرره السيد على عبده في كل يوم أن يعطيه، وقد ترجم لذلك الإمام البخاري في صحيحه بقوله: ضريبة العبد وتعاهد ضرائب الإماء ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه قال: "حجم أبو طيبة النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع أو صاعين فكلم مواليه فخفف عن غلته أو ضريبته" [1] .
وفي القاموس المحيط الضريبة: واحدة الضرائب التي تؤخذ في الجزية ونحوها وغلة العبد.
أما أساس وضع الضريبة في الشريعة الإسلامية فيتضح لنا من استقراء حكمة تشريع الموارد المالية التي نطق بها القرآن الكريم، وحدثتنا عنها السنة النبوية وجرت على ألسنة الأئمة المجتهدين.
والذي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة ووجهة النظر التي أبانها كبار الصحابة في اجتهادهم أن الأساس الذي بنيت عليه الموارد المالية هو توفير ما تتطلبه المصالح العامة من النفقات، وتأمين أرباب الأموال على أنفسهم، وأموالهم، وتحقيق التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع.
فالضرائب إذا في نظر الشارع الحكيم هي واجبات ألزم بها الأفراد في مقابل تمتعهم بالحقوق، وتتمثل الضرائب الإسلامية فيما يأتي:(20/114)
1- ضريبة الأموال المنقولة وهي تشمل: زكاة النقدين - الذهب والفضة - وزكاة عروض التجارة، وزكاة السائمة من بهيمة الأنعام.
2- ضريبة الأرض الزراعية وهي تشمل العشر، ونصف العشر، والخراج.
3- ضريبة الأشخاص التي تؤخذ من أهل الذمة وهي الجزية، ويمكن أن تلحق زكاة الفطر بهذا الباب.
4- ضريبة العشور وهي الرسوم الجمركية التي تؤخذ على الصادر من البلاد الإسلامية والوارد إليها.
5- خمس الغنائم.
6 - خمس ما يعثر عليه من المعادن والركاز في باطن الأرض.
وهذه الضرائب كما ذكرنا هي واجبات ألزم بها الأفراد نظير تمتعهم بالحقوق، ففي الزكاة يقول الحق سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [2] .
ويقول جل شأنه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [3] .
فالزكاة فيها تطهير للنفوس من دنس الشح والبخل، وفيها تنمية وغرس للفضائل والأخلاق الكريمة في النفوس، وفيها أيضا حماية لأرباب الأموال على أنفسهم وأمولهم من حقد المعوزين وأطماعهم.
وفي صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية التي بينها الله تعالى في كتابه الكريم ما يوحي بالهدف الأسمى الذي توخاه الشارع الحكيم من فرض هذه الفريضة العظيمة.(20/115)
والآية الكريمة التي حددت مصارف الزكاة بدأت بذكر الفقراء والمساكين، وتقديمهما في الذكر يدل على عناية الإسلام بهما، لأن هذا الصنف من الناس قلما يخلو منه مجتمع من المجتمعات وهو كثيرا ما يهدد بحاجته المجتمع في أمنه واستقراره فإن ثورة الفقر عارمة، فبالزكاة تسد حاجة هذا الصنف، ويطهر قلبه من الحقد والحسد فيعيش متعاونا مع إخوانه الأغنياء الذين شعر منهم بالعطف والرحمة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [4] .
ومن مصارف الزكاة العاملون عليها وهم: السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذها من أربابها وجمعها وحفظها ونقلها ومن يعينهم في ذلك ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، ويدخل فيهم الكاتب والحارس والقاسم.
وقد حرص الإسلام على أن يقوم العامل بعمله مقابل أجر يتناسب والعمل الذي قام به وبهذا يتحقق الحافز المادي الذي يجعل العامل يخلص في عمله ويجتهد فيه ويؤديه علي أكمل الوجوه وأحسنها ومن هنا يظهر لنا أن الشريعة الإسلامية كان لها فضل السبق في تقرير هذا المبدأ العظيم.
وفي صرف الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم رجاء تأييدهم، واتقاء كيدهم، وإلى الغزاة في سبيل الله المقاتلين للأعداء الذائدين عن الدين والوطن ما يوحي بأن من أغراض الزكاة تمكين ولاة الأمر من القيام بما عهد إليهم من الدفاع عن العقيدة، والدعوة إليها بالترغيب في الإسلام من طريق نشر محاسنه، ودحض المفتريات والشبه التي يثيرها أعداء الإسلام.(20/116)
ومما ينبغي الوقوف عنده والإشادة به اهتمام الإسلام بمحاربة تلك المشكلة التي كانت ظاهرة متفشية في المجمعات السابقة للإسلام لا سيما في جزيرة العرب ألا وهي مشكلة الرق، وقد بدأ الإسلام بمعالجة هذه المشكلة بوسائل شتى منها: أنه خصص من ميزانية الزكاة لتحرير الرقاب. وذلك بأن يشترى من السهم المخصص لفك الرقاب عبيدا ويعتقون، ويعان منه المكاتبون، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أول دولة حاربت الرق، وحسبها أنها خصصت جزءا من الزكاة لفك الرقاب.
وفي قضاء دين المدين العاجز عن الوفاء من الزكاة إبقاء للثقة بين الناس، وتنمية لروح التعاون والتضامن بين الأفراد.
أما الجزية فقد وجبت على غير المسلمين كما وجبت على المسلمين الزكاة في مقابل تمتعهم بحقوقهم، وأمانهم على أنفسهم وأموالهم، لأن أهل الكتاب - اليهود والنصارى - ينتفعون بمرافق الدولة العامة كما ينتفع المسلمون، ثم هم لا تجب عليهم الزكاة الواجبة على المسلمين، لأنها وجبت على وجه العبادة وهم ليسوا أهلا لها لعدم الإسلام، فأوجب الله عليهم الجزية بدلا من الزكاة، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [5] .
فهي كسائر الضرائب الإسلامية واجب في نظير حق.(20/117)
وأما ضريبة الخراج، فقد وضعت على الأرض التي أقر عليها أهلها من غير المسلمين وتركت بيدهم يستغلونها وينتفعون بها، وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته عندما استولى المسلمون على سواد العراق عنوة، وكتب قائد جيش المسلمين في موقعة القادسية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بذلك مستشيرا إياه في أمر سواد العراق، وكانت تعتبر في ذلك الوقت من أخصب بلاد الدنيا، وكان سعد بعد أن أتم الله النصر للمسلمين قام بقسمة الغنائم بين المجاهدين ما عدا الأرض فإنه توقف في قسمتها، وكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب طالبا رأيه في ذلكن وبعد أن وصل الكتاب إلى عمر رضي الله عنه استشار في ذلك كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبعد حوار طويل استقر رأي عمر ووافقه مجلس شوراه الذي كونه لذلك على ترك الأراضي بيد أهلها، وفرض عليهم فيها الخراج ووضع على رقابهم الجزية [6] .
ولم تكن ضريبة الخراج معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خليفته الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعمر رضي الله عنه هو أول من اجتهد في فرضه، قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "وإنما كان الخراج في عهد عمر رضي الله عنه" [7] .
وروى أبو يوسف عن عامر الشعبي رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه مسح السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب، وأنه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة دراهم، ووضع على الرجل - يعني في رقبته - اثني عشر درهما، وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما [8] .
وقد راعى عمر رضي الله عنه في وضع الجزية درجة يسار كل شخص، فجعلها على ثلاث درجات:
وقد راعى عمر رضي الله عنه في وضع الجزية درجة يسار كل شخص، فجعلها على ثلاث درجات:
1- غني موسر عليه ثمانية وأربعين درهما في العام.(20/118)
2- ومتوسط في حالته عليه أربعة وعشرون.
3- وفقير يعمل عليه اثنا عشر درهما.
كما أنه راعى في وضع الخراج على الأرض ما تحتمله ويطيقه أهلها.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل بأرض الشام حين فتحت مثل ما فعل بأرض العراق وكذلك فعل بمصر.
يقول العلامة السرخسي: "واعتمد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما صنع بسواد العراق على السنة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منعت العراق درهما وقفيزها ومنعت الشام مُديها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، قالها ثلاثا" [9] .
قال أبو عبيد: "معنى هذا الحديث والله أعلم أن هذا كائن وأنه سيمنع بعد في آخر الزمان". قال: "وفي هذا الحديث تقوية وحجة لعمر فيما فرضه على أهل العراق من الدرهم والقفيز". قال: "فاسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الدرهم والقفيز كما فعل عمر بالسواد وهذا هو التثبت" [10] .
وقال الإمام الخطابي: "معنى هذا أن ذلك كائن وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين ويوضع عليها الخراج شيئا مقدرا بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض السواد فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا" [11] .
وهذا الحديث من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيكون من ملك المسلمين لهذه الأقاليم ووضعهم الجزية والخراج عليها، كما يقول الإمام الشوكاني [12] .(20/119)
وكما أن المسلم يجب عليه العشر أو نصفه في الخارج من أرضه فالكتابي يجب عليه الخراج فيما تنتجه أرضه، وكلا من الزكاة والخراج إنما وجب بصفة المؤنة للأرض؛ لأن بقاء الأرض يأيدي ملاكها يستغلونها وينتفعون بها موقوف على جهود كبيرة تبذل شق الأنهار، وتعبيد الطرق، وبناء الجسور، ثم إن أربابها لا ينتفعون بما تخرجه إذا لم تعين الدولة من يأخذ على أيدي المعتدين، ويحفظ الأمن ويصون النظام، وبما أن هذه الأعمال التي تقوم بها الدولة لمنفعة أرباب الأملاك، وجب أن تكون نفقة من يقومون بها في غلات الأرض وخراجها.
وأما العشور التي تؤخذ في البلاد الإسلامية على عروض التجارة الواردة إليها، والصادرة منها، فأساسها تبادل المعاملة بالمثل بين البلاد الإسلامية وغيرها من البلدان.
وسمى الفقهاء العامل الذي يقوم بأخذ العشور: العاشر، لأن ما يأخذه يدور على العشر، فإنه من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر إن لم يعلم ما يأخذون منا.
ومما ينبغي في العمال الذين ينصبون لجباية العشور أن يكونوا أولي بأس ومنعة، ليؤمنوا التجار من اللصوص وقطاع الطرق ويحمونهم منهم، وفي مقابل تلك الحماية ساغ لهم جباية رسوم على ما يمر به التجار من أموال ظاهرة أو باطنة تختلف في صفتها، وقدرها تبعا لاختلاف الشخص المار بها، فهي من المسلم زكاة ومن الذمي جزية، ومن الحربي جزاء الحماية.
وأما ما يؤخذ غنيمة بالقتال فقد فرض خمسة لمصالح عامة بينتها آية الأنفال.
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [13] .
وفي تخصيص هذا الخمس لمن سمى الله تعالى رعاية للمصلحة العامة، وتزكية لنصيب الغانمين حتى لا يحقد عليهم الضعفاء والمحتاجون.(20/120)
أما الخمس الذي يؤخذ من المعادن والركاز فإنه يصرف في مصارف الزكاة التي مرجعها إلى المصلحة العامة.
وهكذا نرى أن الأساس في هذه الضرائب الإسلامية هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها.
شرائط الضريبة العادلة:
لا شك أن جباية الضريبة من الأفراد فيها استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رخص فيه لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، ومن القواعد المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها، فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعى في وضعها وطرق تحصيلها مما يخفف وقعها.
وقد وضع بعض علماء الاقتصاد في العصور الحديثة قواعد ثابتة لجباية الضرائب [14] وتقديرها، وطرق تحصيلها، وموعد جبايتها، وأصبحت هذه القواعد المقياس الذي تقاس به صلاحية الضريبة، وسلامة النظام المالي كله، وأولى هذه القواعد:
قاعدة العدالة:
والمقصود بها: أن يكون اشتراك كل مكلف في نفقات الدولة متناسبا مع قدرته ويساره؛ أي أن يكون اشتراكه بنسبة الدخل الذي يتمتع به في ظل الدولة.
القاعدة الثانية ـ اليقين: ومعناها: أن الضريبة التي تفرض على كل فرد يجب أن تكون واضحة معلومة من حيث موعد الدفع، وكيفيته ومقدارها يدفع بحيث لا يتطرق إلى ذلك أي شك.
القاعدة الثالثة ـ الملاءمة: ويقصد بها أن تكون جباية الضريبة في أكثر الأوقات ملاءمة للمكلف، وبالكيفية المتيسرة له أكثر من غيرها.
القاعدة الرابعة ـ الاقتصاد: ومعناها: الاقتصاد في نفقات الجباية فتفضل الضرائب التي تقل نفقات جبايتها على الضرائب التي تكثر نفقات جبايتها، حتى يكون الفرق بين ما يخرج من خزائن المكلفين وما يدخل في خزائن الدولة أقل فرق مستطاع.(20/121)
وإلى هذه القواعد الأربعة أضاف بعض علماء الاقتصاد قواعد أخرى بعضها متفرع عنها، وبعضها مكمل لها، وأهم هذه القواعد: أن كل ضريبة يجب أن لا تقع إلا على الدخل لا على رأس المال، وعلى صافي الدخل لا على جملة الناتج لتكون الضريبة من ثمرة المال، ولا يكون من عوامل نقص أصله، وأن الضرائب يجب أن لا تمس الدخل الضروري لحياة المكلف، فالحد الأدنى للمعيشة يجب أن يعفى من كل تكليف.
هذه هي القواعد والشروط التي التزمها علماء المالية في شأن الضرائب.
وإذا نظرنا في الضرائب الإسلامية وعن مدى موافقتها لهذه القواعد وجدنا أن الضرائب الإسلامية تجاري أحدث الأنظمة المالية في العصر الحديث.
فالعدالة التي هي أولى القواعد مطلب الشارع الحكيم، وهذه القاعدة مراعاة في جميع الضرائب التي فرضها الإسلام.
ففي الزكاة يجب العشر أو نصفه، وهو مقدار نسبي ولا فرق في هذا بين مال ومال ولا بين شخص وشخص، وهذا خلاف ما كانت تسير عليه التشريعات الغربية القديمة التي كانت تعفي من الضريبة طبقة النبلاء ورجال الدين.
وحدد التشريع الإسلامي في الزكاة نصابا معينا فإن بلغه المال أخذ منه فالواجب بنسبة محددة، وإلا فهو عفو.
وضريبة الجزية لا يطالب بها إلا الغني القادر، ولا يؤخذ من أحد إلا ما يناسب ماليته ودرجة يساره، وبذلك صدر أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته في مختلف أقاليم الدولة، وجعلها على ثلاث درجات: ثمانية وأربعين درهما، وأربعة وعشرين، واثني عشر درهما على قدر إقلال الرجل وإكثاره [15] .(20/122)
وكذلك ضريبة الخراج التي فرضها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأراضي التي فتحت في عهده ورأى عمر إبقاءها بيد أهلها، راعى في وضع الخراج عليها منتهى العدل والرفق بأهل الأرض كل على قدر طاقته، وما تحتمله الأرض من جودة يزكو بها زرعها، أو رداءة يقل بها انتاجها، وفي هذا يحدثنا القاضي أبو يوسف رحمه الله فيقول: "بعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه، فأتياه فسألهما كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون، فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف ولو شئت لأخذته، فقال عمر عند ذلك: والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون لأمير بعدي" [16] .
أما قاعدة اليقين فإنا نراها ماثلة في جميع الضرائب الإسلامية.
فمقدار الواجب، وموعد الدفع، وكيفيته كل ذلك معلوم علما يقينيا في كل الضرائب.
فموعد أداء الواجب حين يحول الحول على المال في الزكاة والخراج، وعلى الشخص في الجزية، ويوم الحصاد في العشر ونصف العشر.
وجعل الشارع أداء الحق موكولا إلى رب المال في الأموال الباطنة؛ لأن في عدها على صاحبها حرجا وإضرارا به، والستر على الناس من محاسن الشريعة الإسلامية فوكل إلى رب المال الباطن أن يؤدي الواجب الذي عليه بوازع من دينه.
وطلب إلى ولاة الأمور أن يراعوا في تحصيل الأموال من أربابها وصرفها في مصارفها ما يقضي به العدل والرفق.(20/123)
وقد حرص القاضي أبو يوسف رحمه الله أن يؤكد هذا المعنى لأمير المؤمنين هارون الرشيد ويشير به عليه يقول يوسف مخاطبا لهارون الرشيد في شأن من يوليه جباية الخراج: "وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا، أو يحملوا ما لا يجب عليهم، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه ووجهه حتى يكون القريب والبعيد، والشريف والوضيع عنده في الحق سواء [17] .
وأما قاعدة الملاءمة والاقتصاد فتقضيهما المصلحة العامة التي يترسمها الشارع أينما وجدت، فقد روعي في تحصيل الضرائب الإسلامية وموعد جبايتها أكثر الأوقات ملاءمة للدافعين تيسيرا لهم ورحمة بهم.
وكانت الضرائب الإسلامية لا تكلف الدولة في النفقات على جبايتها إلا الشيء القليل، الأمر الذي يختلف عما تسير عليه كثير من الدول في العصر الحاضر حيث تعين لجمع الضرائب عددا من الكتبة، والمحصلين، والمراجعين وغيرهم ممن يمكن الاستغناء عن بعضهم وليس هناك حاجة لبقائهم.
والشروط التكميلية التي أضافها بعض علماء المالية نجدها أيضا متحققة فيما جاء به التشريع الإسلامي، فاشترط أن تكون الضريبة في صافي الدخل لا في أصول المال هذا الشرط مراعى في كل الضرائب الإسلامية.(20/124)
فمن شروط الزكاة أن يكون المال الذي تجب فيه ناميا، وأن يحول عليه الحول الذي هو مظنة إنتاجه وإثماره، ومظنة لأن يكون أداء الزكاة منه من الثمرة لا من الأصل والخراج لا يؤخذ إلا من أرض أمكن زرعها، بل يروى عن الإمام مالك رحمه الله أنه لا يجبى إلا من أرض مزروعة بالفعل، أما إذا ترك ربها زرعها ولو مختارا فلا يؤخذ منها الخراج، وإنما شرط زرعها، أو إمكان زرعها لتكون الضريبة من ثمرتها ونمائها والعشر، ونصف العشر في الزكاة إنما يؤخذان من الثمر والزرع بعد بدوّ صلاحه واشتداده.
فمبادئ العدالة والاقتصاد، واليقين، والملاءمة، وغير ذلك مما ذكره علماء المالية والاقتصاد كل ذلك متحقق في النظام الضريبي في الإسلام، مما يدل على أنه نظام بلغ الغاية في الدقة، وتوخى العدالة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} .
وقد سبق التشريع الإسلامي إلى تقرير مبدأ يعتبر من المبادئ الأساسية في علم الضرائب وهو مبدأ عدم تعدد الضرائب، وشرح فقهاء الإسلام حدود هذا المبدأ فقالوا: لا يجوز إيجاب زكاتين في حول واحد، وبسبب واحد.
ومما يلاحظ في أمر الضرائب الإسلامية، أن الإسلام لم يكتف ببيان أحكام الضريبة، بل حرص على التدقيق في اختيار رجال الضرائب الذين يقومون بجمعها ممن تجب عليهم، لأن العدالة في نظر الإسلام ليست في سَنِّ التشريع فقط بل هي مراعاة في حسن تطبيقه، ولذلك نرى القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج"يولي عناية كبيرة لمتولي جباية الخراج، ويدقق في أمر من يختار لهذه الوظيفة.(20/125)
يقول أبو يوسف مخاطبا لهارون الرشيد الذي طلب منه وضع كتاب يسير على هديه في السياسة المالية للدولة يقول: "ورأيت يا أمير المؤمنين أن تتخذ قوما من أهل الصلاح والدين، والأمانة، فتوليهم الخراج، ومن وليت منهم فليكن عالما مشاورا لأهل الرأي، عفيفا لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم، ما حفظ من حق وأدى من أمانة احتسب به الجنة، وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت…"إلى أن قال: "وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم، ولكن ليلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم" [18] .
هذا وإن العدل في الضرائب الإسلامية، وإحاطتها بالشرائط الاقتصادية كان من أقوى الأسباب التي ساعدت المسلمين على فتح البلدان، وتثبيت أقدامهم والتفاف أهل البلاد المفتوحة حولهم، وحبهم لهم، لا سيما البلاد التي كانت تقع تحت سيطرة الرومان والفرس، فقد كان أهل تلك البلاد يئنون من وطأة الضرائب الفادحة، والمعاملة القاسية التي كانوا يعيشون فيها.
وأصدق شاهد على ذلك ما روى البلاذري: أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة "اليرموك"ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: "قد شغلنا عن نصركم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ونهض اليهود فقالوا: "والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد"، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من اليهود والنصارى [19] .
فالرومان والفرس كانوا قد أرهقوهم بالضرائب، وحملوهم مالا يطيقون، ولم يرحموا أحدا، ولم ينقذ الناس من ظلمهم إلا الفتح الإسلامي الذي كان عدلا ورحمة لجميع الناس.(20/126)
وهذه الضرائب الإسلامية التي تحدثنا عنها من زكاة، وجزية، وغنائم، وخراج، وعشور، كانت تمثل أهم موارد بيت المال المسلمين (خزانة الدولة الإسلامية) مضافا إليها ما يعثر عليه من معادن وركاز والتركات التي لا وارث لها، ومال الضوائع وكل مال لا يعرف له مالك فمآله إلى بيت مال المسلمين.
وقد يسأل بعض الناس قائلا: إذا كان دخل الخزانة العامة للدولة الإسلامية منحصرا في هذه الموارد، فهل تجيز الشريعة الإسلامية فرض ضرائب أخرى إذا لم تف هذه الموارد بحاجة الدولة الإسلامية؟ والجواب على ذلك: نص كثير من علماء الإسلام على أنه لا مانع من فرض ضرائب عادلة إذا دعت لذلك ضرورة ملحة، وليس في بيت المال ما يكفي لسدها.
وقد ذكر ابن العربي المالكي والقرطبي اتفاق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها، ونقلا عن الإمام مالك - رحمه الله - قوله يجب على الناس فداء أسرهم وإن استغرق ذلك أموالهم [20] .
ونص الإمام الغزالي والشاطبي على أنه إذا خلى بيت مال المسلمين من المال جاز للإمام - ولي الأمر - أن يفرض على الأغنياء ما يراه كافيا.
يقول الشاطبي في الاعتصام: "إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم - أي الجند - في المال إلى أن يظهر مال بيت المال".(20/127)
ثم يبين الإمام الشاطبي أن هذا الأمر لم ينقل عن أهل الصدر الأول، لأن ما في بيت المال كافيا لسد نفقات الدولة، لكثرة الإيرادات، والقصد في المصروفات فكانت رواتب العمال والولاة لا تتجاوز حد الكفاية، والجند يكفيهم القليل والخلفاء أنفسهم كانوا متعففين عن أموال المسلمين، وكان ولاتهم على الأمصار والأقاليم متمسكين بدينهم يحذرون الإسراف في مال الدولة، ولا يضيعون مال الجباية في غير المصالح العامة، ولذلك حسنت حالة الدولة المالية، ولم تكن بها حاجة إلى فرض ضرائب يقول الشاطبي: "وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين، لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه المصالح هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين يحذرون الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلا عن اليسير منها، فإذا عوض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم، يأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد".
ونفس هذا المعنى ذكره الإمام الغزالي في كتابيه شفاء العليل والمستصفى [21] .
ويقول ابن حزم في كتابه المحلى: "إنه يجب على أغنياء كل بلدة أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر، والصيف، وعيون المارة" [22] .(20/128)
هذا وإن ما ذكرته من بعض أوجه الشبه بين النظام الضريبي في الإسلام والنظم الضريبية في عصرنا الحاضر لم أقصد منه عقد مقارنة بين ما جاء به الإسلام وما عرف في العصر الحديث، فإن هذا الباب واسع، وإنما أردت أن أبيّن أن الإسلام بتعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، كان له فضل السبق في كثير مما يظنه الناس أنه وليد الحضارة الحديثة.
وقد كانت السياسة المالية التي انتهجها الإسلام سياسة رشيدة عادلة حققت الخير الكثير للمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، ولمن كانوا يعيشون في ظله الوارف من غير المسلمين.
وما أحوج المسلمين اليوم في أن يعودوا إلى تعاليم دينهم ليتمسكوا بها حتى يكونوا كما وصفهم الله جل شأنه بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر ج5 من صحيح البخاري مع شرحه للقسطلاني ص654 ط دار الطباعة العامرة مصر.
[2] التوبة الآية 103.
[3] سورة المعارج الآية: 24/25.
[4] التوبة الآية: 60.
[5] سورة التوبة الآية: 29.
[6] انظر ما جرى بين عمر ومجلس الشورى من حوار في كتاب الخراج لأبي يوسف ص29/31/ ط السلفية.
[7] انظر كتاب الاستخراج في أحكام الخراج لابن رجب الحنبلي ص/7 ط أولى.
[8] انظر الخراج لأبي يوسف ص42.
[9] الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبو داود انظر ج4 من معالم السنن للخطابي بذيل مختصر السنن للمنذري ص248.
[10] انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص71/72 ط امبابي بالقاهرة.
[11] انظر ج5 من معالم السنن للخطابي ص/248.
[12] انظر ج8 من نيل الأوطار للشوكاني ص/17 ط الحلبي.(20/129)
[13] انظر سورة الأنفال الآية: 41.
[14] تنسب هذه المبادئ إلى أحد كتاب القرن الثامن عشر وهو آدم سميث، ويرجعها بعضهم إلى غيره وفات هؤلاء أن الإسلام وضع هذه المبادئ والتزامها فيما فرضه من الضرائب.
[15] انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص43 ط السلفية.
[16] المصدر السابق ص43/44.
[17] انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص127/128 المطبعة الحلبية.
[18] انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص127/128 وط السلفية.
[19] أنظر فتوح البلدان للبلاذري ص143/44/ط الأولى.
[20] انظر ج1 من أحكام القرآن لابن العربي ص59/60 وج2 من تفسير القرطبي ص223 ط الأولى دار الكتب.
[21] انظر شفاء الغليل للإمام الغزالي ص236/37/ط بغداد تحقيق د. الكبيسي وج1 من المستصفى ص303.
[22] انظر ج6 من كتاب المحلى لابن حزم ص156 ط منير.(20/130)
الدولة الإسلامية الأولى تأسيسها وعوامل نجاحها
د. محمد السيد الوكيل وكيل كلية الحديث.
1- الهجرة:
أمعن أهل مكة في اضطهاد المؤمنين، وزادوا في تعذيبهم، وسدوا المسالك في وجوههم، فلم يعد أمامهم سبيل إلى النجاة إلا بترك بلادهم وأموالهم وعزم المسلمون المعذبون على أن يشتروا عقيدتهم بما يملكون من متاع الدنيا، وأن يضحوا في سبيلها بكل شيء، ولو كان ذلك الشيء هو الوطن الغالي على النفوس ولو كان هذا الشيء هو الأهل الذين هم أعز شيء في الدنيا على الإنسان، ذلك لأن الأرض، والناس الذين يعيشون عليها لم تعد وطن المؤمن، ولا سكانها أهله فقد جعل الإسلام معالم جديدة للوطن والأهل، وتركزت تلك المعالم في قلوب المؤمنين.
لقد أصبح وطن المؤمن هو العقيدة التي يؤمن بها، وأصبح أهل المؤمن وإخوانه هم أولئك الذين يعتنقون تلك العقيدة، ويشاركونه سراءه وضراءه، إن عقيدة المؤمن أعز عليه من الأرض والأهل، وما الأرض؟؟ إنه يستطيع أن يجدها في كل مكان يحل فيه، وما الأهل؟ إنه سيجد في إخوانه المسلمين عوضا عمن فارق من الأهل، ولكنه لن يجد عوضا عن عقيدته إذا فقدها.
من أجل هذا ضحى المسلمون بالوطن والأهل والمال والولد فرارا بدينهم وعقيدتهم ولكن إلى أين يتجهون؟ فليذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يضام من نزل بجواره وكانت الحبشة هي وجهة القوم، وهناك وجدوا الأمن والسلام، وراحة الجسم وهدوء البال، ولكنهم مع ذلك لم يجدوا بغيتهم، فليست الغاية من الهجرة الخلود إلى الراحة واقتناص فرص الأمن والطمأننية، وإنما هي خطوة إيجابية لنشر الدعوة، وتثبيت العقيدة، وإقامة الدولة التي هي أمل المؤمنين، وليست أرض الحبشة ميدانا لهذا العمل الجليل، لقد خبروها بأنفسهم، وعاشوا فيها بطاقاتهم، فلم يجدوا فيها من الدلائل ما يبشر باستعدادها لتحتضن تلك الدولة، وتمنحها فرص الحياة.(20/131)
لقد ثار أهلها على النجاشي لما سمعوا منه ما يدل على تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم فكيف يسمحون بنشر الدعوة وإقامة الدولة؟؟ لا بد من البحث عن مكان صالح يلجأ إليه المهاجرون.
وكان موسم الحج، وكان لقاء العقبة، وسنحت يومئذ الفرصة فاهتبلها المسلمون، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع أهل يثرب يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، وفتحت يثرب ذراعيها للوافدين من المؤمنين.
2- عقبات في الطريق:
لم يرض أهل مكة أن يخرج المسلمون منها إلى أي مكان ولو تركوا أموالهم وديارهم، لذلك وضعوا العقبات في طريق المهاجرين، وحالوا بينهم وبين ما يريدون، واستعملوا في منعهم شتى الحيل.
فعندما أراد صهيب بن سنان الهجرة تصدوا له، وقالوا: "أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك"، فقال لهم صهيب: "أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ " قالوا: "نعم"، قال: "فإني جعلت لكم مالي".
وهذا عياش بن أبي ربيعة، هاجر، وبلغ المدينة، ولكن أهله لم يسكتوا على ذلك، فخرج في إثره أبو جهل ابن هشام، وأخوه الحارث بن هشام - وكان عياش ابن عمهما وأخوهما لأمهما - فلما قدما المدينة احتالا عليه، وقالا: "إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك"، فانخدع عياش بحيلتهما رغم نصيحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له وسار معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق أوثقاه وربطاه، وعادا به إلى مكة وفتناه، ودخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: "يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا".
ولما أراد أبو سلمة أن يهاجر رحل بعيره، وحمل عليه زوجته ومعها ابنها سلمة وهم بالخروج فرآه قوم أم سلمة، فقالوا له: "هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ ".(20/132)
ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا منه زوجه، فلما رأى قوم أبي سلمة ذلك قالوا: "لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا"، وتجاذبوا الصبي حتى خلعوا يده، وانطلق به رهط أبي سلمة.
وهكذا تشتت الأسرة، قوم أم سلمة حبسوها عندهم، ومنعوها من الخروج مع زوجها، وقوم أبي سلمة أخذوا الصبي الصغير عندهم نكالا في أم سلمة، وأبو سلمة ذهب وحده مهاجرا إلى المدينة [1] .
وإننا لنرى في هذه الأمثلة محاولات مستميتة لصد المؤمنين عن الهجرة، لا حبا لهم، ولا إشفاقا عليهم من وحشة الغربة وآلامها، ولكن لفتنتهم وصدهم عن سبيل الله، ولكن هيهات، فقد صمم المؤمنون على الفرار بدينهم، والتضحية بكل غال وعزيز لديهم حتى يبلغوا غايتهم.
وصل المهاجرون إلى المدينة تباعا، وهاجروا جامعات وفرادى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم في مكة ينتظر أمر ربه، وحين أذن له في الهجرة اصطحب أبا بكر رضي الله عنه وودعا مكة، وسارا إلى المدينة، ودخلاها في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى [2] وبدت الشمس في كبد السماء [3] .
واستقبل الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه ومن قبلهما المهاجرين من المسلمين بالحفاوة والتكريم، وأحلوهم من أنفسهم محل التبجيل والتوقير، وآثروهم على أنفسهم، وقاسموهم لقمة العيش، وعوضوهم عما فقدوا برا ومحبة وإخلاصا.
3- اسم جديد ليثرب:
سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وكانت تعرف عند العرب بيثرب، ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، وكأنه لمح فيه معنى التثريب - وهو اللوم والتوبيخ - فغير اسمها وسماها المدينة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد".(20/133)
والمعروف عند المؤرخين المسلمين أن يثرب ليس اسما للمدينة، وإنما هو اسم لقرية كانت تقع في الشمال الشرقي لجبل سلع بينه وبين وادي قناة، وهي المنطقة التي كان يسكنها جماعات من العرب العماليق قبل مجيء اليهود.
يقول السمهودي: "ونزل جمهورهم - أي اليهود - بمكان يقال له يثرب بمجتمع الأسيال مما يلي زغابة" [4] .
ويقول ابن النجار: "يثرب اسم أرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها" [5] ، ويروي عن ابن زبالة أنه قال: "لو كانت يثرب أم قرى المدينة ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين المال الذي يقال له البرناوي إلى زبالة" [6] .
ولعل إطلاق اسم يثرب على المدينة تغليبا للاسم لأنه كان اسم أكبر قرية في المنطقة كما نقل ابن زبالة.
والذي يظهر لي أن اسم المدينة ليس اسما جديدا على يثرب، وإنما هو اسم أطلق عليها من قديم الزمان، يقول الدكتور جواد علي: "وعرفت بالمدينة كذلك من كلمة (مدينتا) الإرمية التي تعني (مدينة) في عربيتنا"، ثم يقول: "ويظهر أنها عرفت بمدينة يثرب، على نحو ما وجدنا في كتاب (اصطيفان البيزنطي) ثم اختصرت فقيل لها (مدينتا) أي (المدينة) ولما نزل بها الرسول عرفت بمدينة الرسول في الإسلام" [7] .
ويزعم صاحب الرحلة الحجازية أن اسم يثرب تحريف عن الاسم المصري القديم (أثربيس) كما أن (طيبة) أطلق على المدينة نقلا عن طيبة المصرية والذي دعاه إلى ذلك هو اعتقاده بأن اليهود هم الذين أطلقوا عليها الاسمين، وهم نقلوهما من مصر عند خروجهم منها في زمن موسى عليه السلام.
والتحقيق الذي ذكرته لاسم يثرب يتعارض مع ذلك، لأن اليهود قدموا الحجاز والبلدة معروفة باسم يثرب، كما أن اسم طيبة لم يعرف إلا بعد تسمية الرسول لها بذلك الاسم، ولهذا لم يطلق اسم طيبة عليها في المصادر القديمة التي ذكرتها قبل الهجرة.(20/134)
وحيث ثبت بالتحقيق العلمي أن البلدة عرفت من قديم الزمان باسم يثرب، كما عرفت باسم المدينة فيما نقله الدكتور جواد عن اصطيفان البيزنطي فإن معنى هذا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون قد نهى عن تسميتها يثرب لما فيه من معنى التوبيخ واللوم، وأقر تسميتها المدينة على ما كانت عليه، وزاد على ذلك فسمى سكانها الأنصار، وسماها طيبة وطابة [8] .
4- عوامل نجاح الدعوة في المدينة:
لم تأخذ الدعوة الإسلامية وضعها الطبيعي في مكة، ولم تهيأ لها الظروف التي تستطيع فيها أن تأخذ طريقها إلى قلوب الناس، وذلك لأن أهل مكة حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه من فضله، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [9] ودفعهم هذا الحسد إلى الوقوف في وجه الدعوة وصرف الناس عنها بالإيذاء والتعذيب تارة، وبافتراء التهم والأكاذيب تارة أخرى.
وعاش المسلمون في مكة أصعب فترة في حياتهم، عاشوا مهددين في أرواحهم محرومين من حقوقهم، يتوقعون نزول الموت أكثر مما يأملون من الحياة، وكان هذا الموقف من المشركين من أكبر العوامل على توقف تيار الدعوة في مكة، وأعظم مؤثر في صد الناس عنها، حتى كانت القبائل ترد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يعرض عليها الإسلام بقولها: "أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك" [10] .
وعلى العكس من موقف أهل مكة كان موقف أهل المدينة من الدعوة الجديدة، فقد تهيأت في المدينة الظروف، واستعدت النفوس لقبول الدعوة وتوفرت الدواعي التي مهدت لاستقرار الدين في القلوب. فلم يكد رسول الله يعرض نفسه ويشرح دعوته للنفر الذين قدموا من المدينة حتى اشرأبت له الأعناق، وتطلعت إليه القلوب، وأقبل عليه أهل المدينة مخافة أن يسبقهم إليه اليهود.
وتتلخص عوامل نجاح الدعوة في المدينة فيما يأتي:
أ- تهيؤ الأذهان لاستقبال الدين الجديد:(20/135)
كان وجود اليهود في المدينة سببا من أسباب تهيئة الجو، وإعداد النفوس لتقبل الدين الجديد، فقد كانوا أهل كتاب، وكانوا ينشرون تعاليم دينهم، ويعيبون الوثنية وأهلها، ويخوفون الناس من يوم تشتد فيه الأهوال، وكانوا كلما توترت الأوضاع بينهم وبين العرب يتوعدونهم بظهور نبي آخر الزمان، وأنه سيبعث بدين سماوي يوافق دينهم، ويكسر الأصنام، ويحارب من يعبدها.
كذلك كانت الخصومة بين اليهود وبين الأوس والخزرج سببا آخر من أسباب استعداد العرب للدخول في هذا الدين حيث اليهود يهددون العرب بأنهم سينضمون إلى هذا النبي عند ظهوره، وسيقتلونهم معه قتل عاد وإرم [11] .
لا شك أن تعاليم الدين اليهودي، وترديد ذكر يوم القيامة وما فيه من حساب وعقاب وجنة ونار. والتنديد بالأصنام، والاعتراف بوجود إله واحد لا شريك له، كل ذلك كان تهيئة للنفوس، وشحذا للعقول، ومقدمة جيدة لاستقبال تعاليم الدين الجديد، لأن الذي سيلقى عليها من تعاليمه لا يخرج عن ذلك، فتكون النفوس قد سمعته وألفته.
كما كانت الخصومة بين العرب واليهود سببا من أسباب حرص العرب على الدخول في الإسلام فلم يكد رسول الله يعرض الإسلام على النفر الذين قدموا من المدينة للحج، ويدعوهم إلى الإسلام حتى قال بعضهم لبعض: "يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي تهددكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه"فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام [12] .
ب- سيطرة الأوس والخزرج على المدينة:
كان الأوس والخزرج قبل الإسلام قد سيطروا على الأوضاع الداخلية في المدينة، حيث تغلبوا على اليهود، وأخضعوهم لسلطانهم ورضي اليهود بالعيش معهم كموال لهم، وبذلك أصبح موقف الأوس والخزرج في المدينة موقف السيد المسيطر، فهم لا يخافون أحدا، بل ولا يحسبون لأحد حسابا إذا عزموا على فعل شيء.(20/136)
وكان نجاح الأوس والخزرج السياسي، وتسلطهم على مقاليد الأمور في يثرب سببا قويا من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية فيها حيث دخلها الإسلام على أيد قوية، تملك التصرف في شئونها، وتستطيع أن تقرر مصيرها دون أن ترجع إلى غيرها في ذلك، وبقبول الأوس والخزرح واستجابتهم لما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون الإسلام قد دخل المدينة من باب واسع، لا يزاحمه فيه شيء، ولا يستطيع أحد أن يعترض على دخوله إليها، أو يقف في طريق المؤمنين به.
وبذلك تكون الفرصة قد تهيأت لأن يستمع الناس للدين الجديد، وأن يتدبروه بعقول حرة لم تكبل بأغلال الظالمين الصادين عن سبيل الله، وكانت نتيجة ذلك أن أقبل الناس على الإسلام، واعتنقه السادة من القوم ودخل فيه المنصفون حتى من اليهود أنفسهم كعبد الله بن سلام ومخيريق.
جـ - حرب يوم بعاث:
دامت الحرب بين الأوس والحزرج زمنا طويلا، بدأت بحرب سمير وانتهت بحرب يوم بعاث، وقدر بعض المؤرخين الفترة التي دامت فيها تلك الحروب بمائة وعشرين عاما [13] .
هذه الحروب أكلت قوة القوم، وذهبت بالكثير من رؤسائهم حتى لم يبق من الحيين سوى أفراد لم تكن لهم منزلة الزعماء السابقين ومكانتهم في قومهم، فقد كان هؤلاء الزعماء الذين أهلكتهم الحرب معتزين بشخصياتهم، كما كانوا موضع احترام وإجلال من أفراد قبائلهم، وكانت لهم الكلمة العليا في البلاد لا ينازعهم الرأي أحد ولا يتطلع إلى السيادة دونهم إنسان.(20/137)
ولقد كان من المحتمل أن يكون هؤلاء الزعماء عقبة في الطريق إسلام قومهم كما كان زعماء مكة حين صدوا المستضعفين عن الدخول في الإسلام، وليس أدل على ذلك من موقف أبي الحيسر أنس بن رافع أحد زعماء الأوس، فإنه قد ذهب إلى مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج، ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم وكلمهم، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ: "أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له"، عندئذ أخذ أبو الحيسر حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: "دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا" [14] .
هذا موقف لأحد زعماء الأوس، أعرض فيه عن الإسلام، ومنع غيره من الحديث عنه، ولا شك أن غيره لن يكون أقل منه صدودا وإعراضا، لأنهم كانوا يحرصون على المحافظة على مراكزهم القيادية بين قبائلهم، ويرفضون أن ينازعهم فيها أحد.
وموقف آخر لزعيم من زعماء الخزرج - عبد الله بن أبي بن سلول - يحرض قومه على طرد المسلمين من المدينة، فيقول: "هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم".
وبلغ رسول الله ما قال ابن أبي، فغضب وسار بالقوم في وقت ليس من عادته أن يسير فيه، فكلمه أسيد بن حضير في ذلك، فقص عليه مقالة ابن أبي، فقال أسيد: "يا رسول الله، أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا" [15] .
إن حرب بعاث قد قضت على هؤلاء الزعماء من الفريقين؛ ولم يبق هناك سوى زعماء من الطبقة الثانية، وهؤلاء قد اصطلوا بنار الحرب، وذاقوا ويلاتها، وسئموها وإنهم ليفكرون في الانتظام تحت قيادة رجل منهم، ولم يكن هناك غير عبد الله بن أبي وقد عزموا على أن يتوجوه، ويجتمعوا عليه.(20/138)
بالقضاء على هؤلاء الزعماء، تمهد الطريق للإسلام، وبتبرم النفوس من حياة الحرب والخوف والقلق، وتطلعها إلى حياة آمنة مستقرة كان كل شيء قد تهيأ ليستقبل الإسلام والمسلمين.
د - الإيمان العميق:
ويتوج هذه الأسباب كلها ذلك الإيمان العميق الذي ملأ قلوب المهاجرين والأنصار على حد سواء، فقد كانوا واثقين بوعد الله لهم، وكانت المحنة التي عاشها المهاجرون تضاعف الإيمان في قلوبهم، لأنهم يعلمون أن هذا الطريق لا يمكن أن يكون ممهدا سهلا، فحياة الأنبياء كلها مشقات، حياة المصلحين كلها عقبات، وما داموا قد عزموا على السير في طريقهم، فلا بد لهم أن يتحملوا مثل تحملهم حتى تكون العاقبة لهم.
بهذا الإيمان العميق هاجر المسلمون من مكة، وبمثل هذا الإيمان استقبلهم الأنصار في المدينة، وبهذه العقيدة الراسخة ودعوا بلادهم وضحوا بالأموال والأولاد وبمثل هذه العقيدة الراسخة عوضهم الأنصار كل ما فقدوا فآثروهم بالأموال، وهيأوا لهم حياة الأمن والاطمئنان.
وكانت الأوضاع في المدينة قد تهيأت لقبول الدين الذي حمله إليهم المهاجرون، إن الإيمان العميق والعقيدة الراسخة يجعلان صاحبهما أقدر على تحمل التبعات والنهوض بأعباء الرسالة التي آمن بها، إنهم بالإيمان صبروا على أذى المشركين في مكة، وبالإيمان شقوا طريقهم في المدينة، وتحملوا لأواءها حتى قامت على أكتافهم دولة الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن هشام (1/468-469) .
[2] مختصر السيرة (173) .
[3] ابن هشام (1/492) .
[4] وفاء الوفا (1/161) .
[5] أخبار مدينة الرسول ص12.
[6] نفسه.
[7] المفصل (4/130) .
[8] مسلم بشرح النووي (9/155- 156) .
[9] الزخرف الآية: 31.
[10] مختصر السيرة ص149.
[11] ابن هشام (1/429) .(20/139)
[12] ابن هشام (1/429) .
[13] وفاء الوفاء (1/250) .
[14] ابن هشام (1/427-428) .
[15] نفسه (2/291-292) .(20/140)
كيف نجا المسلمون من عاصفة المغول والتتار المدمِّرة؟
د. جاد محمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
الحمد لله العلي القدير والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله البشير النذير، أما بعد: فإن الذي يتتبع أحداث التاريخ يجد أن المسلمين تعرضوا لأخطار جسيمة وأحداث أليمة وأن هذه الأخطار وتلك الأحداث كانت تعتريهم إذا ما ابتعدوا عن دينهم وتفرقت كلمتهم واختلفت أهواؤهم، فإذ عادوا إلى دينهم واتفقت كلمتهم وتوحدت آراؤهم نجاهم الله من الخطر ومنحهم النصر والأمن وهيأ لهم أسباب الرخاء والسعادة.
ومن الأخطار التي تعرض لها المسلمون غارة المغول والتتار على بلادهم في القرن السادس الهجري.
من هم المغول والتتار:
المغول والتتار قبائل من الترك البدو كانوا يسكنون الجزء الشرقي من بلاد التركستان وما يليها شرقا من بلاد الصين في العصور الوسطى، ويذكر مؤرخوا الترك ونسابوهم أن ألنجة خان أحد ملوك الترك ولد له في الأزمنة القديمة ولدان توأمان هما مغول خان وتتار خان وقد تفرعت منهما قبائل المغول والتتار.
وقد عاش أولادهم في صفاء مدة طويلة ثم حدث نزاع بينهما تغلب فيه التتار أولا وصارت لهم السيادة مدة طويلة ثم اتحدت قبائل المغول وحاربت التتار وهزمتهم وانتزعت منهم السيادة وظل الملك متوارثا فيهم إلى عهد بيسوكا بهادر والد جنكيز خان.
وقد ولد جنكيز خان سنة 549 هـ ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره توفي أبوه وانفض أكثر قبائل المغول من حوله لصغر سنه فلما بلغ مبلغ الرجال ظهرت مواهبه السياسية والعسكرية فجمع قبائل المغول حوله وسنّ لهم قانونا يسيرون على هديه ويحكمون بمقتضاه ووحد صفوفهم واستعان بهم على توسيع ملكه.
أسباب غزو المغول للبلاد الإسلامية:(20/141)
ذكر المؤرخون أسبابا متعددة لغزو المغول للبلاد الإسلامية وقيل إن من بين هذه الأسباب أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (575-622هـ) كتب إلى جنكيز خان يستنجد به على خوارزم شاه علاء الدين محمد سلطان الدولة الخوارزمية الذي اتجه بجيوشه إلى بغداد يريد فرض سيطرته عليها بالقوة [1] .
ونحن نستيعد ذلك لأن خليفة المسلمين لا يستعين بوثني على مسلم مهما كان الأمر.
أما السبب المباشر لاجتياح المغول الوثنيين مملكة خوارزم شاه فهو طمع والي أحد ثغورها على نهر سيحون في أموال جماعة من التجار المغول كانوا قد جاءوا إلى هذا الثغر سنة 615هـ ومعهم أموال طائلة.
وقد تذرع الوالي للاستيلاء على أموال هؤلاء التجار باتهامهم بالتجسس لحساب جينكيزخان وكتب إلى شاه خوارزم بذلك فأمره بقتلهم وكانوا نحو أربعمائة كما أمره بالاستيلاء على ما معهم من التجارة وكان شيئا كثيرا فنفذ أمر الشاه واستولى على تلك التجارة وباعها لتجار بخارى وسمرقند وقبض ثمنها.
ولما بلغ ذلك جينكيزخان استشاط غضبا وأرسل رسولا إلى خوارزم شاه يطلب إليه تسليم هذا الوالي ليقتص منه فارتكب خوارزم شاه غلطة أخرى وقتل رسول خان المغول [2] .
وبذلك أتاح لجنكيزخان فرصة مهاجمة أملاكه ودفعه الغرور إلى البدء بالعدوان فجمع جيشه وهاجم حدود التركستان الغربية مما يلي مملكته، ولم يكن على حدود بلاد المغول حامية قوية لأن جينكيزخان وجيشه كانوا في مهمة داخل الأمبراطورية، ولم يكن على الحدود سوى عدد قليل من النساء والأطفال ومع ذلك لم يتمكن ذلك المغرور من التغلب عليهم وعاد بخفّي حنين [3] .(20/142)
أدرك خوارزم شاه خطأه وأحس أنه عرَّض دولته لخطر الغزو المغولي وأتاح لجينكيزخان الطامع في التوسع فرصة أخرى لاجتياح مملكته واستولى عليه الفزع فأمر سكان المدن القريبة من الحدود بالجلاء عنها خوفا من بطش المغول وكانت هذه المدن من أخصب بلاد الدولة وأكثرها حدائق وبساتين فهجرها سكانها وتركوها قفرا موحشة ولم يدر أنه بعمله هذا قد أخلى الطريق أمام الغزاة ومهد لهم سبيل الوصول إلى داخل مملكته.
ولما بلغ جينكيزخان خبر هجوم خوارزم شاه على أطراف أمبراطوريته عاد على رأس جيشه مسرعا إلى حدود الدولة الخوارزمية وأعد العدة لغزوها في أواخر سنة 616هـ وعبر نهر سيحون واجتاز الحدود بسهولة وواصل سيره نحو الغرب حتى وصل إلى أبواب مدينة بخارى وكانت حاميتها عشرين ألفا فلم تقو على الصمود في وجهه وولت مدبرة فدخلت جموع المغول المدينة وأسلمتها للنهب وفرّ من أمكنه الفرار من أهلها ومن لم يتمكن من الفرار ضرب عنقه.
وقد اتخذ جينكيزخان من مساجد بخارى التي كانت عامرة بالتقى والعلم والأدب مرابض لخيله ووصف نفسه بأنه لعنة الله سلطها على خلقه عقوبة لهم على خطاياهم [4] .
واصلت جيوش المغول سيرها نحو سمرقند في المحرم 617هـ وأنزلت بها ما نزل ببخارى وكان خوارزم شاه معسكرا غربي نهر جيحون يستعد للدفاع عن بلاده وصد تلك العاصفة المدمرة التي هبت عليها من الشرق فأرسل جينكيزخان عشرين ألفا من جيشه في طلبه فلما اقتربت تلك الفرقة من معسكر خوارزم شاه فرّ نحو الغرب يقصد نيسابور فتبعه إليها فغادرها إلى مازندران فطارت وراءه وما زال ينتقل من مكان إلى مكان وهي في أثره حتى لجأ إلى قلعة له على جزيرة بحر الخزر فتحصن بها هو وأتباعه وتوفي بعد ذلك بفترة قصيرة [5] .
ولما رأى المغول حصانة القلعة يئسوا من اقتحامها وعادوا إلى مدينة مازندران فاستولوا عليها ثم سقطت في أيديهم مدن الري وهمذان ومرو وغيرها من المدن.(20/143)
أما جينكيزخان فإنه أقام بمدينة سمرقند بعد فتحها وأرسل جيشا تحت إمرة أحد أبنائه إلى مقاطعة خراسان فاستولى على جميع مدنها بسهولة ولم يتعرض لأهلها بسوء غير أنه كان يأخذ الرجال ليسخرهم في خدمة الجيش.
ولم يمض سوى فترة قصيرة حتى بسط المغول سيطرتهم على بلاد فارس وكان جينكيزخان أرسل جيشا آخر إلى بلاد القفجاق فدانت له في أسرع وقت [6] .
وتوفي جينكيزخان سنة 624 بعد أن اتسعت امبراطوريته اتساعا عظيما ولما أحس بدنو أجله قسم إمبراطوريته بين أبنائه الأربعة والذي يعنينا منهم تولوي خان الابن الرابع لجنكيزخان الذي خصه أبوه بحكم خراسان وما يؤمل فتحه من ديار بكر والعراق.
المغول يطرقون أبواب العراق:
تمكن تولوي خان من بسط نفوذه على بقية الإمارات الفارسية حتى وصل إلى حدود العراق وتوفي سنة 654هـ فخلفه ابنه هولاكوخان الذي طمع في توسيع رقعة ملكه على حساب الدولة العباسية وأخذ يتلمس الأسباب لتحقيق غرضه فأرسل إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله (640-656هـ) يدعوه لمساعدته على حرب الحشاشين [7] ، ولكن الخليفة لم يلب الطلب فاتخذها هولاكوخان ذريعة لمهاجمة بغداد وأرسل إليه إنذارا سنة 655هـ يطلب منه هدم حصون بغداد وردم الخنادق التي حولها وأن يسلم البلاد لابنه ويحضر لمقابلته أو يرسل من ينوب عنه فإن أجاب إلى ذلك نال رضى خان المغول وأبقى على دولته وجيشه ورعيته وإن لم يصغ للنصح فليستعد للحرب [8] .(20/144)
أعاد الخليفة رسل المغول الذين حملوا إنذار سلطانهم إليه بعد أن زودهم بالهدايا والتحف وبعث معهم وفدا على رأسه شرف الدين بن الجوزي يحمل رده على السلطان المغولي، فاتجه الوفد ومعه رسل المغول إلى همذان حيث كان السلطان يعسكر هناك فلما ترجم لهولاكوخان ردّ الخليفة الذي كان ينطوي على التهديد المشفوع بالرغبة في المسالمة أغضبه ما فيه من تهديد [9] وحمّل رسل الخليفة إنذارا ثانيا بمهاجمة بغداد فسلم الرسل الإنذار إلى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي الذي سلمه بدوره إلى الخليفة فاستشاره الخليفة فيما ينبغي أن يفعله لدرء هذا الخطر فأشار عليه الوزير بإرسال مبلغ كبير من المال وكثير من الهدايا والتحف إلى هولاكو مع الاعتذار عما ورد في رده عليه من عبارات التهديد والموافقة على الدعاء له في خطبة الجمعة ونقش اسمه في السكة [10] .
ونحن نشك كثيرا في الجزء الأخير من هذه المشورة إذ كيف يطلب الوزير المسلم من الخليفة الدعاء لهولاكو على المنابر ونقش اسمه على السكة وهو وثني باعتراف رشيد الدين نفسه الذي يذكر عنه في نفس مؤلفه ص337 أنه بنى معابد للأصنام في مدينة (خوى) مما يجعلنا نستبعد أن يكون ذلك من بين ما أشار به وزير الخليفة إلا إذا كان ذلك من قبيل التقية والتحايل للخروج من المأزق بإرضاء هولاكو ليصرفه عن غزو بغداد ولو مؤقتا حتى تتهيأ للخليفة أسباب القوة ويتمكن من الصمود له وحماية رعيته من بطشه.
وقد مال الخليفة إلى الأخذ برأي وزيره ولكن منافسي الوزير اتهموه بممالأة المغول فعدل الخليفة عن العمل بمشورته وأرسل إليه رسالة جاء فيها: "فقو قلبك ولا تخافن تهديد المغول ووعيدهم فإنهم رغم كونهم أرباب دولة وأصحاب شوكة إلا أنهم لا يملكون سوى الهوس في رؤوسهم والريح في أكفهم"فاضطرب الوزير لعدم فهم الخليفة للموقف وأيقن أن دولة العباسيين قاب قوسين أو أدنى من الزوال [11] .(20/145)
اجتمع الوزير وقادة الجند وأعيان بغداد وأخذوا يعدون الجيوش للدفاع عنها أما الخليفة فإنه أرسل هدية بسيطة مع أحد القضاة إلى هولاكو وحمله رسالة جاء فيها: "لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال إذ إن كل ملك - حتى هذا العهد - قصد أسرة بني العباس ودار السلام بغداد كانت عاقبته وخيمة ومهما قصدهم ذووا السطوة من الملوك وأصحاب الشوكة من السلاطين فإن بناء هذا البيت محكم للغاية وسيبقى إلى يوم القيامة.
استشاط هولاكو غضبا من رسالة الخليفة وصمم على مهاجمة بغداد.
وفي المحرم سنة 656هـ حاصر هولاكو بغداد فدافع جيش الخليفة عنها ولكنه لم يقو على الصمود لجيش المغول فسقطت المدينة في أديهم آخر الشهر.
وقد أجمل ابن طباطبا ما نزل بأهل بغداد في قوله: "فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة فما الظن بتفصيله".
وكان ما كان ما لست أذكره
فظن ظنا ولا تسأل عن الخبر [12]
وأصبحت بغداد التي كانت مضرب الأمثال في سعة العمران وتقدم الحضارة قفرا موحشة وتراكمت جثث القتلى في شوارعها فغيرت رائحتها وحدث بسبب هذا التغير وباء شديد راح ضحيته خلق كثير.
وفرّ بنفسه من أمكنه الفرار من أهل المدينة إلى بلاد الشام أما الخليفة ومعظم أفراد أسرته فقد خرجوا إلى هولاكو ولكنه أمر بقتلهم بعد أيام ولم يترك سوى الابن الأصغر الذي يقال إنه تزوج بعد ذلك من امرأة مغولية وأنجب منها ولدين [13] .(20/146)
ويتهم كثير من المؤرخين ابن العلقمي الشيعي بتحريض هولاكو على غزو بغداد انتقاما من العباسيين الذين أساءوا معاملة الشيعة خصوصا في الأيام الأخيرة لحكم المستعصم عندما هاجم أهل السنة بتحريض من أبي بكر بن الخليفة حيّ الكرخ الذي كان يسكنه الشيعة ونهبوه وقتلوا كثيرا من أهله [14] ، ولكن ابن طباطبا العلوي يتنفي تلك التهمة عن ابن العلقمي مستدلا بأن هولاكو أبقاه في منصبه ولو كان خائنا ما وثق به [15] .
ومع أن ابن طباطبا قد يتهم بالتحيز لأنه شيعي مثل ابن العلقمي إلا أن حجته قد يؤيدها الواقع لأن العاعدة جرت بأن من ارتكب الخيانة من أجله هو أول من يحذر الخائن ويفقد الثقة به ويزدريه اللهم إلا أن يقال إنه أبقاه لينتفع بخبرته مع حذره منه ومراقبته له ومات ابن العلقمي بعد ثلاثة أشهر فخلفه ابنه ولكنه لحق بأبيه بعد قليل.
ومهما يكن من أمر فقد كانت هذه هي نهاية الدولة العباسية بعد أن حكمت معظم بلاد العالم الإسلامي خمسة قرون وربع قرن تقريبا وازدهرت في عصرها الحضارة الإسلامية ازدهارا ظل حتى اليوم مضرب الأمثال في الشرق والغرب.
المماليك يحمون البلاد الإسلامية من غارات المغول:
أرسل هولاكو بعد استيلائه على بغداد كتائب من جيشه استولت على بقية مدن العراق ثم اتجه على رأس جيشه لفتح بلاد الشام وكانت مقسمة إلى إمارات يحكمها أمراء من الأيوبيين وحاصر مدينة حلب وفتحها سنة 657هـ وأباحها لجنده سبعة أيام يقتلون وينهبون أما القلعة فإنها قاومت أربعين يوما وأسر المغول كثيرا من مهرة الصناع ونقلوهم إلى عاصمة ملكهم لينتفعوا بفنهم ويستفيدوا من خبرتهم [16] .(20/147)
ثم اتجه هولاكو على رأس جيشه إلى مدينة حارم الواقعة في الجنوب الغربي لمدينة حلب وحاصرها وطلب من أهلها تسليمها فأبوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فاستدعاه هولاكو وسلموها إليه ولكن هولاكو غضب من ذلك وأمر بقتلهم فقتلوا جميعا وسبيت نساؤهم [17] .
ولما سمع أهل دمشق بما حلّ بإخوانهم من أهل حلب وحارم أرسلوا وفدا من الأعيان إلى هولاكو يعلنون الخضوع والولاء وتسليم المدينة فأمنهم على حياتهم ثم اضطر بعد ذلك إلى العودة إلى فارس حيث بلغه موت أخيه وغادر الشام في جمادى الآخرة سنة 658هـ وترك جيشه تحت قيادة الأمير كيتوبوغا نويان ليحمي بلاد الشام ويتم فتح ما بقي من مدنها ثم يتجه إلى مصر.
وكان يحكم مصر إذ ذاك السلطان المنصور علي بن معز الدين أيبك أول سلاطين دولة المماليك البحرية وكان المنصور علي في الخامسة عشرة من عمره فجمع نائب السلطنة الأمير سيف الدين قطز مجلسا من الأمراء والعلماء وأعيان الدولة في أواخر سنة 657هـ للنظر في أمر السلطنة وجمع المال اللازم للتجهيز لصد تيار المغول عن مصر واتفقت الكلمة على خلع المنصور علي لصغر سنه وتولية سيف الدين قطز السلطنة والاستعداد لصد موجة المغول عن مصر [18] .
وكان الملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب قد أرسل إلى مصر الصاحب كمال الدين المعروف بابن العديم يستنجد بها لصد تيار المغول المدمر فوصل إليها في أواخر أيام المنصور علي وحضر المجلس الذي قرر عزله ولما استقر لسيف الدين قطز ردّ على رسالة الملك الناصر بأنه سيصل إلى الشام على جناح السرعة لنجدته وعاد ابن العديم يحمل رد السلطان المظفر قطز [19] .(20/148)
أخذ السلطان يجمع الرجال والأموال والسلاح ويستعد لصد المغول وأدرك أن مهمته على جانب كبير من الخطورة فالشعب الذي سيواجه به المغول قد استولت عليه الرهبة واستبد به الخوف من هول ما سمعه عن فظائع المغول ووحشيتهم وسفكهم للدماء وتخريبهم للديار فضعف روحه المعنوي عن الجرأة على الوقوف في مهب هذا الإعصار المهلك.
ولم يوهن من عزم قطز أو يضعف من تصميمه على الخروج لمنازلة المغول ما سمعه من أقوال المرجفين ولم يأبه بما احتج به الداعون إلى الانتظار داخل الحدود المصرية حتى يدخل إليها المغول ونادى بالنفير العام للجهاد في سبيل الله ودرب المتطوعين على فنون القتال في وقت قصير جدا ولم يكد ينتهي من مهمته حتى اقترب المغول بقيادة كيوبوغانيان من حدود مصر [20] .
موقعة عين جالوت الفاصلة:
اتجه السلطان قطز على رأس جيش كثير العدد إلى بلاد الشام في أوائل رمضان سنة 658هـ وكانت الخطة التي رسمها هي أن يقابل المغول في أرض الشام وألا ينتظر قدومهم إلى مصر وكان يهدف من وراء ذلك إلى أمرين:
الأول: انتهاز فرصة البدء بالقتال التي كان المغول يحرصون على انتهازها أولا ليضعفوا الروح المعنوي في نفوس أعدائهم.
الثاني: لقاء المغول خارج أرض مصر حتى لا تكون ميدانا للحروب وعرضة للتدمير والتخريب.
وقد أرسل السلطان أمام قواته طليعة من الفرسان بقيادة ركن الدين بيبرس وعند بلدة الصالحية [21] انضمت الكتائب الشامية التي كانت قد جاءت إلى مصر فارة من وجه المغول إلى الجيوش المصرية.(20/149)
وصلت طلائع الجيوش المصرية إلى غزة وأرغمت المغول على التخلي عنها ودخلها الأمير بيبرس على رأس فرسانه، ولم يكن المغول يتوقعون أن يصل المصريون إليهم بهذه السرعة فلما رأوا الجحافل الإسلامية قد ملأت السهول والأودية اضطروا إلى إخلاء جنوب الشام وأشار بعض ضباطهم على قائدهم كيتوبوغا نويان بطلب النجدة من السلطان هولاكو ولكنه اغتر بقوته وخدع بانتصاراته السابقة ولم يعمل بمشورتهم.
سارت الجيوش الإسلامية من غزة متجهة إلى الشمال ومحاذية ساحل البحر الأبيض ومرت بيافا وقيسارية إلى جبل الكرمل جنوب حيفا وعند قرية ((عين جالوت)) الواقعة بين بيسان ونابلس دارت المعركة الفاصلة بين الجيش الإسلامي وجيش المغول في 25 من رمضان سنة 658هـ.
بدأت المعركة بهجوم عنيف من المغول فتراجعت ميْسَرَة الجيش الإسلامي وإذا بنداء يدوّي في ساحة المعركة ((وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه)) فاتجهت الأنظار إلى مصدر الصوت فإذا المنادي هو السلطان نفسه فالتهب حماس الجيش وعادت الميسرة إلى مكانها الأول وحمل الجيش الإسلامي حملة صادقة على جيش المغول حتى هزمهم هزيمة ساحقة ومزقهم شرّ ممزق وخرّ قائدهم كيتوبوغا صريعا في الميدان واعتصمت طائفة منهم بالتل المجاور لمكان الموقعة فأحدقت بهم العساكر المسلمة وصابروهم على القتال حتى قتلوا معظمهم وفرّ الباقون لا يلوون على شيء وقتل الأهالي الموتورون من المغول من وقع في أيديهم من هؤلاء الفارين [22] .
وبعد انتهاء الموقعة اتجه السلطان قطز إلى دمشق فقوبل بحفاوة بالغة من أهلها لأنه صدّ هذه الموجة العاتية التي اجتاحت بلادهم وأنزلت بهم صنوف البلايا وقد أمر السلطان بشنق الذين تعاونوا مع المغول وعيّن حاكما على دمشق من قبله [23] .(20/150)
أما بيبرس فإنه تعقب المنهزمين من المغول حتى كاد أن يلحق بهم على مقربة من مدينة حلب ولكنهم أطلقوا من كان في أيجديهم من الأسرى وتركوا أولادهم وأسرعوا خفافا حتى لا يلحق بهم فتخطف الناس أولادهم ودانت حلب بالطاعة لسلطان مصر.
نتيجة الموقعة:
لو قدر للمغول أن ينتصروا في موقعة ((عين جالوت)) لانسابوا في مصر كالسيل الجارف ولامتدت موجتهم إلى السودان وبلاد المغرب وعبرت إلى الأندلس واجتاحت أوربا وقضت على الحضارة الإسلامية والمسيحية على السواء لذلك تعتبر هذه الموقعة من أهم المواقع الفاصلة في التاريخ لأنها أنقذت العالم الإسلامي من شر مستطير وأطفأت هذه الصاعقة المهلكة التي كادت أن تقضي على حضارة العالم ومدنيته.
علاقة المغول بالمماليك بعد موقعة عين جالوت:
كانت علاقة المغول بالمماليك بعد موقعة عين جالوت عدائية تارة وودية تارة أخرى وكان أشد خطر هددت به مصر من جانب المغول في عهد سلطانهم تيمور لنك الذي نظم جموع المغول واتجه على رأسها نحو الغرب وأعاد سيطرة المغول على بغداد 795هـ.
وفي 803هـ انقض على بلاد الشام انقضاض الصاعقة واستباح مدينة حلب ثلاثة أيام وقتل من سكانها نحو عشرين ألفا وخرّب مساجدها ثم اجتاح مدن حماه وحمص وبعلبك وعاث فيها فسادا.
وصلت أخبار هذه الطائفة المغولية المدمرة إلى القاهرة فخرج السلطان الناصر فرج بن برقوق منها على رأس جيشه متجها نحو الشام ووصل إلى دمشق في جمادى الأولى من السنة نفسها واشتبك الجيش الإسلامي مع جيش المغول في معارك حزئية ثبت فيها الجيش الإسلامي أمام هجمات المغول الشديدة وبرهن على مقدرته الحربية.(20/151)
ثم بدأت مفاروضات الصلح بين الطرفين غير أن السلطان فرج اضطر إلى مغادرة الشام لإحباط مؤامرة في مصر دبرت لخلعه فرأى علماء دمشق وفقهاؤها ومعهم ابن خلدون المؤرخ العربي المشهور رأوا أنه لامناص من التماس الأمان والصلح مع تيمور لنك فتظاهر بإجابة ملتمسهم ولكنه غدر بهم وأسلم المدينة للنيران [24] .
وبعد أن عاد الناصر فرج إلى القاهرة أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى إلى تيمور لنك يخبره فيها أنه عائد إلى الشام ليطرده منها وأنه لم يترك الميدان خوفا منه ولا ضعفا عن منازلته ولكن أمورا داخلية اضطرته إلى الرجوع إلى عاصمة ملكه وأنه سوف يعود إلى ميدان القتال بمجرد انتهاء مهمته في القاهرة.
وقد أشعلت هذه الرسالة نار الحقد في نفس تيمور لنك فصمم على الانتقام.
ولكنه غادر الشام قبل أن ينفذ ما صمم عليه، ولا يستبعد المستشرق الألماني ((بروكلمان)) أن يكون تيمورلنك قد تذكر بطولة جيش مصر في مقاومة جيش هولاكو وسحقه فأراد أن لا يعرض جيشه لما تعرض له جيش المغول على عهد هولاكو [25] .
وقبل أن يغادر تيمورلنك دمشق نقل صفوة علمائها ونخبة من صناعها وأهل الفن فيها إلى عاصمته ((سمرقند)) فبدأت الصناعات الدقيقة والفنون الجميلة تزدهر هناك وانحطت الصناعة في دمشق، وندرت الفنون الجميلة.
ولم يقدر لتيمورلنك أن يعود إلى بلاد الشام مرة أخرى فقد أمضى العامين التاليين في غزو آسيا الصغرى وتمكن من هزيمة السلطان العثماني با يزيد الأول وأسره وشغل بذلك عن مهاجمة الشام ولم تمهله المنية حتى يحقق هذه الأمنية حيث توفي سنة 807هـ وبعد موته ضعف جانب المغول ولم يعد يخشى على البلاد الإسلامية منهم بل هدى الله سبحانه وتعالى الأجيال التالية منهم إلى الإسلام وجعلهم أنصارا له.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .(20/152)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج3 ص136.
[2] ابن الأثير: الكامل ج12 ص150.
[3] الخضري: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية ج2 ص471.
[4] ابن الأثير: الكامل ج12 ص151.
[5] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج3 ص127.
[6] الخضري: محاضرات في تاريخ الدول الإسلاميةج28 ص474.
[7] الحشاشون جماعة من الباطنية سموا بذلك لاستعمالهم مادة الحشيش المخدرة في التأثير على بسطاء العقول حتى يطيعوهم طاعة عمياء، ومؤسس هذه الجماعة الحسن بن الصباح الذي يرجح أنه من أصل فارسي رحل إلى مصر في شبابه أثناء حكم الفاطميين لها وتلقى فيها تعاليم الباطنية ثم عاد إلى وطنه لنشرها هناك، وتمكن سنة 483هـ من الاستيلاء على قلعة الموت القريبة من بحر قزوين واتخذها وكرا له ولأتباعه ثم اتخذت هذه الجماعة أوكارا لها في بلاد الشام فيما بعد.
[8] رشيد الدين المهداني: تاريخ المغول (الترجمة العربية) مجلد 2 ج1 ص267-269.
[9] ابن طباطبا: الفخر الرازي في الآداب السلطانية ص216.
[10] رشيد الدين: تاريخ المغول (الترجمة العربية) مجلد 2 ج1 ص272.
[11] رشيد الدين: تاريخ المغول مجلد2 ج1 ص272.
[12] الفخري في الآداب السلطانية ص247.
والمعروف أن الشطر الثاني فظن خيرا ولا تسأل عن السبب.
فتصرف فيه ابن طباطبا بما يناسب الغرض الذي ساق البيت من أجله حيث لا مجال لظن الخير في هذا الموقف.
[13] رشيد الدين: تاج المغول مجلد 2 ج1 ص294.
[14] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج3 ص193،194.
[15] الفخري ص249.
[16] رشيد الدين: تاريخ المغول مجلد 2 ج1 ص305-307.
[17] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج3 ص203.
[18] ابن إياس: بدائع الزهور وروائع الدهور ج2 ص94-95.(20/153)
[19] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج3 ص199.
[20] أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ج7 ص77 و78.
[21] الصالحية: إحدى قرى مركز فاقوس بمحافظة الشرقية بالوجه البحري بمصر أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب 644هـ.
[22] أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ج7 ص79،80.
[23] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر ج2 ص206-207.
[24] ابن عرب شاه: عجائب المقدور في أخبار تيمور ص102 وما يليها.
[25] تاريخ الشعوب الإسلامية (الترجمة العربية) ج3 ص30.(20/154)
نماذج أخرى من الدعاة الصالحين
(الحلقة الثالثة)
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
أبو بكر الصديق
إن عرضنا لهؤلاء النماذج من الدعاة الصالحين لم يكن المقصود منه استيفاء كل كمال كانوا عليه، في حياتهم فإن ذلك يتطلب منا وقتا وجهدا في حين أن الجانب المهم فيما نتوخاه من حياة هؤلاء النماذج الصالحين هو جانب الدعوة إلى الله تعالى، فنعنى بإبرازه ليكون قدوة لنا ومثالا صالحا نحتذيه وننسج على منواله، عسى الله تعالى أن يهبنا بعض ما وهبهم من الإخلاص له في الدعوة لله تعالى والصدق فيها والجد الذي لا يعرف الهزل والعمل الذي لا يعرف الكلل ولا الملل.
لقد كانت النماذج الأولى التي استعرضنا جوانب حياة الدعوة فيها هي أعاظم الرسل من أولي العزم عليهم الصلاة والسلام وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
أما المجموعة الثانية من نماذج الدعاة الصالحين فهي الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
ولنبدأ استعراضنا بأبي بكر الصديق، فمن هو أبو بكر الصديق؟ إنه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي.
كني أبي بكر ولقب بالعتيق، والصديق وهما لقبا شرف وكمال فالأول من العتاقة التي هي الحسن والجمال في الوجه، والثاني من الصديقية التي هي أسمى ألقاب الصالحين في الحياة وكأن ذلك لصدقه وتصديقه، فهو أول من آمن من الرجال بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما جاء به وقد قال صلى الله عليه وسلم - ما معناه -: "ما من أحد عرضت عليه الإسلام إلا وكانت له كبوة إلا أبا بكر رضي الله عنه".
هذا أبو بكر الصديق بن أبي قحافة من حيث اسمه وكنيته ولقبه ونسبه.(20/155)
أما أبو بكر من حيث كمالاته النفسية والخلقية، والتي هي مدار الأسوة للدعاة الناشئين فنستعرض طرفا منها فنقول: إن فضل أبي بكر نتركه للرسول صلى الله عليه وسلم وجده يذكره لنا ويقف بنا عليه، فما هناك من هو أصدق من رسول الله، ولا أعرف بأبي بكر منه فلنستمع إلى أعظم بيان في هذا الشأن روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله، أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام".
إن هذا الخبر الصادق يعلن عن سمو أبي بكر وعلو شأنه بحيث لا ينبغي لأحد أن يطمع في درجة أبي بكر بحال من الأحوال، ولو اكتفينا بذكر هذا الخبر في بيان فضل أبي بكر لكان كافيا، غير أن حبنا للصديق يأبى علينا أن لا نذكر المزيد من فضائله.
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا، قال فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر أنا، قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر أنا، قال فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم".
عفته:
ومن كمالات الصديق النفسية والخلقية التي اشتهر بها بين قومه في الجاهلية قبل الإسلام أنه لم يشرب خمرا قط ولم يقل شعرا، وقد روى ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح قالت: "والله ما قال أبو بكر شعرا قط في جاهليته ولا في إسلامه، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية".(20/156)
وهذا دال على كمال الرجل العقلي ومدى ما كان عليه من مروءة تأبى عليه أن يسف في قول أو عمل يتنزه عنهما عظماء الرجال، وهذا الكمال هو الذي رشح أبا بكر الصديق للدعوة إلى الإسلام فدعا أخيار قريش في الجاهلية إلى الإسلام فأجابوه طواعية واختيارا وهم من كانوا من كبار الصحابة وخيارهم فيما بعد كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وغيرهم من رجالات الإسلام بمكة. ذكر ابن عساكر الرواية التالية وأنها مع غرابة سندها لا تتعارض مع حياة الصديق وتطلعاته إلى الكمال حتى في عهد الجاهلية قبل الإسلام قال فيها ابن عساكر: قيل لأبي بكر الصديق في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شربت الخمر في الجاهلية؟ "فقال: "أعوذ بالله"، فقيل له: "ولم؟ "قال: "كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي فإن من شرب الخمر لم يحفظ عرضه وأضاع مروءته وكيف يحفظ مروءته أو يصون عرضه من يفسد عقله فيصبح في حالة سكر لا فرق بينه وبين المجانين إذ قد يقول الهجر ويأتي العهر وهو لا يرى ما قال ولا ما فعل، والعياذ بالله".
كمال عقله:
إن كمال العقل في المرء مصدر شرفه وينبوع كمالاته ومن أوتي كمال العقل تأهل للعبادة بين الناس وشرف فيهم والسلطان عليهم وإن حظ الصديق من كمال العقل كان وافرا كبيرا، ولنورد تدليلا على ذلك بعض مظاهر ذلك لنشاهد من خلالها كمال عقل الصديق رضي الله عنه فنقول:
1 – إسلامه المبكر الذي لم يسبقه فيه أحد من رجال قريش أبدا بشهادة الكثيرين كعلي بن أبي طالب وزيد بن أرقم وابن عباس وغيرهم وفي ذلك يقول حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية رضي الله عنه:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أبا بكر بما فعلا
خير البريئة أتقاها وأعدلها
إلا النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا(20/157)
2 – ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم في غير موطن من مواطن الشرف والكمال أخرجه البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركون لي أصحابي؟ إني قلت أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت!!!! وقال أبو بكر: صدقت!!!! ".
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كا فأناه إلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه بها الله يوم القيامة وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر"
ولننه الحديث عن كمال عقل أبي بكر الصديق بالإشارة إلى أحداث جسام تجلى فيها عقل أبي بكر ورجحانه بما لا تزيد عليه.
الأولى: ثباته يوم وفاة الرسول حيث ذهلت العقول، وطاشت الأحلام، وقال عمر ما قال [1] فقام أبو بكر يخطب الناس ويهدئ روعهم، ويسكن من نفوسهم، ويقول: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وقرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
الثانية: لما قبض رسول الله ونجم الشر وارتد من العرب وقالوا: نصلي ولا نزكي، أتى عمر رضي الله عنه أبا بكر وقال له: "يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق بهم وإنهم بمنزلة الوحش"فقال أبو بكر: "رجوت نصرك، وجئتني بخذلانك، وجئتني بخذلانك، جبارا في الجاهلية خوارا في الإسلام؟ بماذا عسيت أن أتألفهم بشعر مفتعل أو بسحر مفترى هيهات هيهات، مضى النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي، والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي، وإن منعوني عقالا".(20/158)
والثالثة: هي استخلافه عمر بن الخطاب على المسلمين ذلك الاستخلاف الذي لم تر الدنيا خيرا منه قط إلا ما كان من استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه، ذلك الاستخلاف الذي بدأه باستشارة خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا واحدا، فقد استشار عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد أسيد بن حضر في أناس من المهاجرين والأنصار وذلك لما ثقل في مرضه الذي توفي فيه…وقد قال له بعضهم: "ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا وقد ترى غلظته؟ ". وقال أبو بكر: "بالله تخوفوني؟ أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك". ثم دعا عثمان فقال: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوما، فبايع الناس ورضوا به.
فكان في هذه الخلافة من عز الإسلام وامتداد سلطانه، ونصرة المسلمين وصلاح حالهم ما لم يكن يخطر على بال أحد، فدلت هذه وسابقتاها على ما أوتي أبو بكر من رجاحة العقل، وكماله وكمال العقل ورجاحته من ضروريات الداعي الناجح ومن أخص صفاته الكمالية.
شجاعته:(20/159)
إن الشجاعة القلبية لا تقل أهمية عن الشجاعة العقلية بالنسبة لدعاة الحق والخير من رجال الدعوات بين الناس، وإذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مضرب الأمثال في رجحان العقل وكماله وقد وقفنا على مظاهر ذلك في الكلمة السابقة فإن الصديق كان في باب الشجاعة القلبية مضرب المثل أيضا، ولنكتف في التدليل على ذلك وإثباته ببعض الوقائع فقط إذ لا يخامرنا شك في شجاعة أبي بكر الصديق ولنترك للبزار يذكر لنا في مسنده الحديث الطريف التالي: قال علي رضي الله عنه: "أخبروني من أشجع الناس؟ "قالوا: "أنت"، فقال: "أما أنا ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني من أشجع الناس؟ ". قالوا: "لا نعلم، فمن؟ "قال: "أبو بكر الصديق؛ إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا سيفه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فهو أشجعنا".
إن شهادة بطل كعلي طبقت شهرة شجاعته الآفاق لأكبر دليل على شجاعة أبي بكر الصديق وها هو ذا علي مرة أخرى يذكر من شجاعة أبي بكر ما يبهر العقل ويقرر تفوق أبي بكر الصديق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشجاعتين العقلية والقلبية قال علي رضي الله عنه: "ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش، هذا يجبأه (يبغته) وهذا يتلتله (يحركه ويزلزله) وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا قال علي: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، فكان يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله".(20/160)
وأخيرا فقد أخرج البخاري عن عروة بن الزبير قال: "سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟؟ "إن تقدم أبي بكر لدفع عقبة بن أبي معيط وتخليص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاه ودفع ذلك الشقي عليه لعائن الله على مرأى ومسمع من رجالات قريش المتواطئة على الجريمة بما صنع أخوهم لموقف بطولي ينم عن شجاعة نادرة لمن قام به وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
جوده وكرمه:
إن الجود والكرم من صفات الكمال في الإنسان، وما زالت البشرية منذ أن كانت تقدس هذين الوصفين في الإنسان وتعتبرهما من مظاهر الكمال النفسي في الإنسان.
بيد أن أصحاب الدعوات والذين يوقفون حياتهم على نصر دعوتهم، لا مناص من أن يتكلفوا الجود والكرم ويوطنوا له النفس على ذلك حتى يصبح الجود والكرم من أخص صفاتهم إذ الجود والسخاء والكرم وهي صفات ثلاث وإن اختلفت لفظا فإنها متحدة معنى وهي بذل المعروف وتقديم الإحسان والمبالغة في ذلك إلى حد الإيثار على الأهل والولد والنفس، وبذلك يملك الداعي النفوس، ويجذبها إلى محيط دعوته، كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
إن أبا بكر الصديق وهو أحد نماذج الدعاة الصالحين من غير النبيين قد كان مع عفته وكمال عقله وعظم شجاعته جوادا كريما يبذل في سبيل الله، وينفق على نصرة دينه ورسوله ما لا يبذله غيره، وذلك ثابت في السنن.(20/161)
وحسبنا من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم المتقدم: "إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا غير ربي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام". وأصرح من هذا في بذل أبي بكر في سبيل نصرة رسول الله ودين الله تعالى رواية أحمد عن أبي هريرة إذ فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر رضي الله عنه" ولما سمع هذا الثناء العطر من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدر كأنه حب الغمام على قلب ظمآن، بكى رضي الله عنه وقال: "هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله! ".
وأقوى من هذا أيضا رواية الترمذي عن أبي هريرة وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر فإن له يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر! ".
وتقول الآثار وهي متوافرة بين رجال السلف ونسائهم إن أبا بكر الصديق أسلم وعنده أربعون ألف دينار من ذهب فأنفقها كلها في سبيل الله نصرة لرسول الله وإنقاذا للمعذبين من المماليك المؤمنين كبلال وغيره، وفيه جرى قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى, الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى, وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى, إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى, وَلَسَوْفَ يَرْضَى}
ولا ننسى إن نسينا ما قال أبو قحافة لما هاجر أبو بكر وما صنعت معه حفيدته أسماء بنت الصديق، إذ لو ترك أبو بكر لأهله مالا لما وضعت أسماء الحجارة في كوة المنزل ووضعت عليها منديلا وقالت للشيخ تطمئنه، وتبدد من مخاوفه: "ضع يدك يا جدي على هذا فإنه قد ترك لنا أبو بكر فلم نرزأ في ماله إن رزئنا في نفسه".(20/162)
وما دمنا نورد هذه الشواهد لا لندلل بها على كرم أبي بكر فحسب بل لنحيي في نفوسنا ونحن نتهيأ لحمل رسالة دعوة الإسلام هذا الخلق الكريم خلق الجود والسخاء والكرم لضرورة الدعوة والداعي إليه، فإننا سنعرض مسابقة عمر وأبي بكر في هذا المضمار كما رواها أبو داوود والترمذي علنا نخرج منها وقد أشبعت أرواحنا بمعاني البذل في سبيل الله وتهيأت نفوسنا لذلك وأصبحنا بحمد الله نضرب في هذا السبيل بسهم غير قصير ولا قليل.
وهذا عرض المسابقة قال عمر رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر - إن سبقته يوما - فجئت بنصف مالي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله.
وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما أبقيت أهلك؟ " قال: "أبقيت لهم الله ورسوله"، فقلت: لا أسبقه في شيء أبدا".
انتهت المسابقة كما هو ظاهر بفوز الصديق وسبقه وفضل السبق يظهر في كون المسبوق عمر بن الخطاب أزهد الناس في الدنيا، وأقوى الناس على فعل الحق وقوله والسؤال هو ما نصيبنا نحن من هذا الخلق الضروري للداعي، إنه بإجراء الخاطر على مثل هذه الأمثال لأعاظم الرجال لا نعدم روح الجود ولا نفقد نفسية الكرم وما أنصح به الداعي الناشئ أن يمرن نفسه ويروضها شيئا فشيئا على اكتساب هذه الخلال والاتصاف بهذه المعاني الروحية الكريمة، وأنه لا بد آخذ منها بنصيب غير قليل لا سيما عبد هيأه الله تعالى لدعوة عباده إليه فسوف يمده بكل ما يؤهله لذلك وإنا والحمد لله لواجدون من ذلك أثرا في نفوسنا وإن كان يقل أحيانا ويكثر أخرى.
علم أبي بكر رضي الله عنه:
ومن جود أبي بكر إلى علمه وفقهه رضي الله عنه.(20/163)
إن الجانب العلمي في حياة الداعي يعتبر من أهم جوانب حياته، إذ بدون العلم بدعوة الله تعالى والفقه في أسرارها والبصيرة في شرائعها وأحكامها، لا يتأتى للمرء مهما كان صادقا مخلصا أن يدعو إلى الله تعالى، ويفيد الناس بدعوته إن من لا يعرف الله تعالى ولا يعرف الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى، ليس من حقه ولا من شأنه الدعوة إليه إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
ولما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحد نماذج الدعاة الصالحين كان لا بد من الكشف عن جانب حياته العلمية والفقهية ليقتدي به في ذلك ويؤتسى، إذ الغرض من دراسة هذه الشخصيات التي لمعت أسماؤها في دنيا الدعوة وازدهرت بدعوتها الحياة هو الاقتداء بهم وتقمص حياتهم، ليكون المقتدي بهم خلفا لهم في دعوتهم، يبلغها كما بلغوها، ويبينها للناس كما بينوها وبذلك تتصل حلقات الدعوة ويستمر هدى الله في الناس.
إن أبا بكر الصديق على جانب كبير من العلم والفقه، إذ كان كبار علماء الصحابة يعترفون له بذلك ويعدونه أعلمهم وأفقههم في دين الله تعالى، ولنذكر شواهد ذلك براهين على علم أبي بكر وكماله فيه وعلى فقهه في شرع الله وتفوقه فيه ولما عسانا أن نكتسب من علم أبي بكر وفقهه.
1 – روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "إن الله خير عبدا يبن الدنيا، وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله تعالى". فبكى أبو بكر، وقال: "نفديك بآبائنا وأمهاتنا"، وقال أبو سعيد: "فعجبنا لبكاء أبي بكر وقلنا يخير الله عبدا من عباده بين الدنيا وبين ما عنده فيختار ما عنده فيبكي أبو بكر، ولكن لم يلبث حتى عرفنا أن المخيّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان نعيا لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فعرفنا أن أبا بكر كان أعلمنا".(20/164)
2- قوله رضي الله عنه في أهل الردة كما في الصحيح: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه". هذا القول منه رضي الله عنه دل على طول باع أبي بكر في العلم وعلى سعة آفاقه في فهم نصوص الشريعة ومعرفة أسرارها. وكيفية وجه الاستنباط منها إذ قال: "الزكاة أخت الصلاة فو الله لأقاتلن من فرق بينهما". واندهش الصحابة لموقف أبى بكر وعلى رأسهم عمر ولكن لم يلبثوا إلا قليلا حتى ظهر لهم الحق واستصوبوا رأي أبي بكر في المسألة وقاتلوا أهل الردة حتى خضعوا للإسلام.
2- موقفه رضي الله عنه من صلح الحديبية ورضاه به وسكون نفسه إليه في حين اضطرب عمر رضي الله عنه وقال ما لا ينبغي أن يقال إزاء قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه الأمر الذي جعل عمر يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة لكلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا".
وبيان الحادثة كما في البخاري وسيرة ابن هشام أنه لما التأم الأمر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر رضي الله عنه فأتى أبا بكر رضي الله عنه وقال: "يا أبا بكر أليس برسول الله؟ "قال أبو بكر: "بلى"، قال: "أو لسنا بالمسلمين؟ "قال: "بلى"، قال: "أو ليسوا بالمشركين؟ " قال: "بلى"، قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ "قال أبو بكر: "يا عمر الزم غرزه، فإني أشهد إنه رسول الله"، قال عمر: "أنا أشهد أنه رسول الله"، ثم أتى رسول الله فقال: "يا رسول الله ألست برسول الله؟ "قال: "بلى"، قال: "أو لسنا بالمسلمين؟ "قال: "بلى"، قال: "أو ليسوا بالمشركين"؟ قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ "قال: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني".(20/165)
لقد قارن أهل العلم بين موقف أبي بكر من هذه القضية وبين موقف عمر رضي الله عنهما فخرجوا بنتيجة حاسمة ألا وهو فقه أبي بكر وسعة علمه، وأنه أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.
وهناك مظاهر كثيرة تجلى فيها فقهه وعلمه رضي الله عنه.
حسبنا منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وقوله في رواية الترمذي: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره".
حلمه وتواضعه:
وبما أن الحلم والتواضع من مكارم الأخلاق والداعي الصادق في دعوته لا غنى له عنهما بحال من الأحوال، إذ ضد الحلم السفه والطيش ومقابل التواضع الكبر، والعياذ بالله، فمن هنا نذكر بعض مظاهر هاتين الخلتين الكريمتين في أبي بكر الصديق وهو أحد نماذج الدعاة الصالحين بعد الأنبياء المرسلين. فنقول ذكر السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء الراشدين أن ابن عساكر رحمه الله تعالى أخرج في كتابه أن أنيسة قالت: "نزلت بفناء أبي بكر ثلاث سنين قبل أن يستخلف وسنة بعد ما استخلف، فكان جواري الحي يأتينه بغنمهن فيحلبهن لهن"، إن عملا هكذا أبو بكر الوزير والصاحب الأول والصديق الأوفى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هو خليفة المسلمين كافة يتنازل في تواضع لا نظير له عند أمثاله في دنيا الناس أبدا فيحلب لجواري الحي أغنامهن، إنها لمثل في التواضع لا يسامى فيه أبو بكر ولا يدانى بحال من الأحوال.
وأخرج ابن عساكر أيضا عن أبي صالح القفاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعهد عجوزا كبيرة من النساء عمياء في بعض أطراف المدينة يسقي لها ويقوم ببعض أمرها وذلك من الليل، فكان يأتيها أحيانا فيجد غيره قد سبقه إليها فسقى وقضى حاجتها فحاول عمر أن لا يسبقه فوجده أبا بكر الصديق، والعجب في ذلك أنه كان يفعل ذلك أيام خلافته رضي الله عنه فقال عمر لما تبين له أنه أبا بكر أنت هو لعمري! .(20/166)
فهذه كالتي سبقت من مظاهر التواضع الفذ النادر الذي لم يعرف به أحد غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخرى فقد روي عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا مُدح يقول: "اللهم أنت أعلم مني أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون".
هذا عن تواضع أبي بكر رضي الله عنه أما حلمه فالحديث عنه يطول ومن أحلم من أبي بكر؟ أخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: "جاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أبي بكر وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انزل عن مجلس أبي فقال: صدقت: إنه مجلس أبيك وأجلسه في حجره وبكى، فقال علي رضي الله عنه: والله ما هذا عن أمري، فقال أبو بكر: صدقت، والله ما أتهمك".
إن هذه الحادثة إن تمت على وجهها كما رويت تكشف عن مدى حلم أبي بكر الصديق وتجعله بحق مضرب المثل في الحلم وضبط النفس ورباطة الجأش، وصدق القول وسلامة الصدر ولنستعرض جزئيات الحادثة مفصلة ليتبين لنا وجه الكمال النفسي فيها، ونظهر حقيقة الحلم الذي كان خلق أبي بكر رضي الله عنه.(20/167)
يجلس أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خليفته في أمته بإشارته صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة عليه، فيأتيه من يقول له: انزل من على منبرنا فإنه مجلس أبينا وجدنا فلا يتردد أبو بكر في اعترافه بالحق فيقول: نعم إنه مجلس أبيك ولا يكتفي بدل الغضب بالاعتراف الصريح بل يرفع الغلام المنحني له العاتب عليه في حجره ويبكي وما أبكته كلمة الحسن وإنما أبكاه فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتفطن أبو الحسن لتصرف ولده الصغير الذي آلمه فقد جده الذي كان يجلس على منبره فيأتيه فيجلسه معه عليه فيقول لأبي بكر: انزل عن مجلس أبي وهي كلمة مثيرة للغاية ولو كانت من صبي صغير لا يعقل، إذ قد يظن أن الغلام مدفوع لأن يقول هذا وهو ما جعل أبا الحسن رضي الله عنهما يقول لأبي بكر مقسما له بالله تعالى أن هذا ما صدر عن أمره، وإنما هو من تصرف الحسن فقط، وعرف أبو بكر نفسية ابن عم رسول الله وخاف أن يظن به غير رحابة الصدر وسلامة النية وطيب الطوية فبادر بتصديقه، ونفي التهمة عليه بقوله: صدقت وو الله ما أتهمك.
ولنكتف في الاستشهاد على حلم أبي بكر وتواضعه بهذا الذي أسلفنا ونحن نعلم أن كمال أبي بكر النفسي الذي نظمه في سلك الدعاة الصالحين ولا يأتي عليه قول ولا تتسع له الصفحات مهما كبرت وطالت.
حسن سياسته:(20/168)
إن الكمال النفسي الناجم عن الإيمان الكامل والعلم الواسع والتقوى العامة، يؤهل صاحبه لحسن السياسة وسلامة الحكم وقوة القيادة والحكمة فيها وهذا الذي تم لصديق بحذافيره وبرز فيه وكان مثال الحاكم العادل، والسياسي البارع والقائد المظفر الرشيد ويكفينا شاهدا على كمال أبي بكر في رشده وحسن سياسته، وعظمة قيادته، من عشرات الشواهد والتي من أبرزها إعلان الحرب على المرتدين وقتالهم إلى أن أخضعهم للإسلام وعادوا إليه، وتسيير جيش أسامة الذي عبأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال دون تحريكه وخروجه إلى بلاد الشام مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وفاته فإن أبا بكر - والفتنة قائمة والمسلمون في أحرج المواقف وأصعب الأحوال - قد أنفذ جيش أسامة كما أراد الله ورسوله فكان في ذلك من الخير والنصرة للإسلام والعزة ما لا يقدر قدره.
أقول يكفينا شاهدا خطبته التي خطبها بعد أن تمت بيعته خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فقد رسم في تلك الخطبة التاريخية الشهيرة سياسته في الحرب والسلم وفي الحكم والقضاء كما في القيادة والتدبير فقال: "يا أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله تعالى والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله تعالى، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله تعالى بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله".(20/169)
ففي هذه الخطبة الموجزة الفصيحة البليغة قرر أبو بكر بيعة المسلمين له، في تواضع كامل، حيث قال: "قد وليت عليكم ولست بخيركم"وقابل فيها الإحسان وطالب مبايعيه بإعانته في حال إحسانه في حكمهم وإدارة شؤونهم، وبتقويمه وتسديده في حال خطئه وإساءته كما أعلمهم أن القوي والضعيف أمام الحق متساويان، وأنه لابد من إنصاف القوي من الضعيف مهما كانت قوة القوي وضعف الضعيف وأعلن مبدأ الجهاد وقرره ودعا إلى القيام به، وحذر من الخيانة والفساد والشر، وختم خطابه بتقرير مبدأ البقاء للأصلح بقوله: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، فاشتمل خطابه على دعائم سياسته وخطط حكمها فضرب بذلك المثل واستلم من يومئذ القيادة وساس الأمة بما رسم من خطط فكان أشبه بنبي في أمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
وفاته رضي الله عنه:
ولم تكتمل الثلاث سنوات التي تولى فيها أبو بكر الصديق المسلمين حتى وافاه أجله فتوفي في بيته نتيجة مرض لازمه قرابة نصف شهر ودفن بجوار نبيه وحبيبه ولحقت روحه بالرفيق الأعلى فسلام الله عليه ومغفرته ورضوانه.
أخرج الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة". فرضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه.
عمر بن الخطاب
إن كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه الأول في سلسلة الدعاة الصالحين في هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم فإن عمر بن الخطاب يكون حلقة الثانية من تلك السلسلة فهو أفضل هذه الأمة وأكرمها على ربه تعالى بعد أبي بكر الصديق، ولا نزاع، فمن هو عمر يا ترى؟ وما هي مظاهر كماله التي يقتدى به فيها، وهو أنموذج من الدعاة الصالحين؟.(20/170)
وفي الجواب نقول: إن عمر بن الخطاب هو الفاروق ثاني الخلفاء الراشدين، والده نفيل بن عبد العزى بن رباح بن فرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي العدوي القرشي، يكنى أبا حفص، ولقبه الفاروق لأن الله تعالى فرق بإسلامه بين الحق والباطل من السابقين الأولين ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة وأسلم في السنة السادسة من البعثة المحمدية تقدم إسلامه فلم يسلم قبله إلا أربعون رجلا وإحدى عشرة امرأة ومن مميزاته أنه قرشي شغل سفارة قريش في الجاهلية، أعز الله تعالى الإسلام بإسلامه، وبشر بالجنة وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وصاهر رسول الله حيث زوجه ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وكان ثاني الخلفاء الراشدين الأربعة، وله أوليات سما عن غيره وفاز بها دون سواه منها:
أنه أول من سمي بأمير المؤمنين وأول من وضع التاريخ الهجري وأول من اتخذ بيت المال وأول من سن قيام شهر رمضان وأول من عس وأول من عاقب على الهجاء وأول من جلد في الخمر ثمانين جلدة، وأول من اتخذ الدرة وكانت أهيب من سيف، وأول من فتح الفتوح، ومصر الأمصار وبرد البريد، وله أوليات غير هذه فحسبنا منها ما ذكرنا.
ومن مظاهر كمالات عمر التي يقتدي به فيها ما يلي:
1 – شجاعته:
إن عمر كان مضرب المثل في الشجاعة القلبية والعقلية معا، والأحداث التالية تجلي لنا حقيقة شجاعة عمر وتظهرها كما هي آية في بابها لا يشك فيها ولا يرتاب.(20/171)
إعلان إسلامه: فقد روى أنه لما أراد الله إسلامه خرج إلى المسجد الحرام ليلا وقد ضرب أخته المخاض فدخل في أستار الكعبة لعله يدعو الله تبارك وتعالى أن يخفف عن أخته ويسهل أمر ولادتها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم انصرف، قال عمر فسمعت يعني من قراءة رسول الله شيئا لم أسمع مثله، فخرج قال: فاتبعته، فقال: من هذا؟ فقلت: عمر، فقال: "يا عمر، ما تدعني لا ليلا ولا نهارا"فحسبت أن يدعو علي فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقال: يا عمر أسره يعني أمر إعلان شهادته وإسلامه، فقلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك. فهذه الرواية وهي إحدى الروايات وردت في إسلام عمر رضي الله عنه تدل على شجاعة عمر القلبية والعقلية معا فقد أقسم أن يجاهر بعقيدته الإسلامية ولا يبالي بمن يؤذيه من أجلها.
1- إعلان عن هجرته:
فقد روي أن المؤمنين لما كانوا يهاجرون من مكة يخرجون منها متسللين مختفين خشية أن يعلم بهم المشركون فيردوهم إلا عمر لما أراد الهجرة فإنه أعلن عن هجرته.
أخرج ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: "ما علمت أحدا هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هاجر هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده [2] وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد.
2 - شهوده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد الحربية كلها فلم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وكان ممن ثبت معه يوم أحد فدل على شجاعة عمر التي هي مضرب الأمثال، ومناط قدوة للرجال والأبطال.
2- زهده:(20/172)
إن الزهد في الدنيا والإعراض عن طلب زينتها، والعزوف عن شهواتها دلالة على كمال إيمان المرء ورجاحة عقله إذ الدنيا حقيرة، وزينتها خداع وشهواتها آلام تدفع بآلام أشد منها وفي الحديث: "لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها جرعة ماء".
وفي القرآن الكريم: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ, وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
ومن هنا كان أكمل الناس إيمانا وأرجحهم عقلا من عزف عن الدنيا، وترفع عنها، واستهان بشهواتها وتخلى عنها إلا ما كان بلاغا لا بد منه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان مثلا ناطقا في هذا الباب، وباستعراضنا لمواقفه التالية تتأكد هذه الحقيقة عندنا، ويثبت زهد عمر لدينا.
ذكر السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء الراشدين أن ابن سعد أخرج أن حفصة وعبد الله ابني عمر وغيرهما كلموا عمر فقالوا: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق؟ قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم، قال: قد علمت نصحكم، ولكني تركت صاحبي على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل.
وذكر القرطبي في تفسيره عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة، قال: ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله، قال: هذا لنا؟ فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير! .(20/173)
فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة. فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة، فلقد باينونا بونا بعيدا.
وذكر ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه. وذكر ابن سعد أيضا أن عثمان النهدي قال: رأيت على عمر إزارا مرقوعا بأدم. وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: حججت مع عمر فما ضرب فسطاطا ولا خباء كان يلقي الكساء على الشجرة ويستظل تحته، وقال: قال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء.
والذي ينبغي أن يذكر هنا ونحن نستعرض زهد عمر من خلال ذكريات حياته الخالدة في عالم الفضائل والكمالات أن زهد عمر قد تلقاه دروسا علمية من سيد الزاهدين كلهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهذا مسلم يروي لنا الرواية التالية فيقول: إن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه، قال فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا إهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: استغفر لي، فقال: "اللهم اغفر له فبمثل هذا الدرس النبوي تشبعت روح عمر بمعاني الكمال وأصبح عمر في ذلك نعم المثال.
3 - عدله:(20/174)
إن عدل عمر قد طبقت لشهرته الآفاق، وما هناك من المسلمين من يذكر لديه عمر ولم يذكر عدله في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم استخلف عليها حتى كان لفظ العدل مقرونا في ذهن كل مؤمن يا ابن الخطاب رضي الله عنه وكعدله شدته في الحق وعدم تساهله في شيء منه ولنذكر بعض مظاهر عدل عمر وشدته في الحق، ذكر ابن سعد عن الأحنف بن قيس قال: "كنا جلوسا بباب عمر رضي الله عنه فمرت جارية فقالوا: "هذه سرية أمير المؤمنين"، فقال عمر: "ما هي لأمير المؤمنين سرية، ولا تحل له، إنها من مال الله تعال"ى، فقلنا: "ماذا يحل له من مال الله تعالى"، قال: "ألا لا يحل لعمر من مال الله تعالى إلا حلتين: حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به واعتمر، وقوتي وقت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين" وقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له واشترط عليه أن لا يركب برذونا ولا يأكل فقيا ولا يلبس رقيقا ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة".
وروى ابن جرير قال: أخبرني من أصدقه أن عمر بينما هو يطوف عاسّا متفقدا أحوال الناس ليلا سمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه
وأرّقني أن لا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله تخشى عواقبه
لزحزح من هذا السرير جوانبه
فقال عمر: "مالك؟ "قالت: "أغزيت زوجي منذ أشهر، وقد اشتقت إليه"، قال: "أردت سوءا؟ "قالت: "معاذ الله"، فقال: "فأملكي عليك نفسك فإنما هو البريد إليه".
فبعث إليه: ثم دخل على حفصة فقال: "إني سائلك عن أمر أهمني فأفرجيه عني، كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ " فخفضت حفصة رأسها واستحت، فقال لها عمر: "إن الله لا يستحيي من الحق"، فأشارت بيدها ثلاثة أشهر وإلا فأربعة أشهر، فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر.(20/175)
وروي أن أبا موسى الأشعري كان عاملا لعمر رضي الله عنهما، وأنه أعطى يوما رجلا من رجاله بعض سهمه فرفض أن يقبله فجلده أبو موسى عشرين سوطا وجز شعره عقوبة له فأخذ الرجل شعره وأتى عمر فشكا إليه ما لقي من عامله أبي موسى رضي الله عنه فكتب عمر إلى أبي موسى: "سلام عليك أما بعد فإن فلانا أخبرني بكذا وكذا فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لقعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس"فقدم الرجل على أبي موسى وتعاظم الناس الأمر وقالوا له اعف عنه فقال الرجل: "لا والله لا أدع حقي لرجاء أحد من الناس"فلما قعد أبو موسى للقصاص رفع الرجل رأسه إلى السماء، ثم قال: "اللهم إني قد عفوت".
ومثل هذه الحادثة وهي من أكبر مظاهر العدل في الحكم حادثة المصري الذي سابق ابنا لعمرو بن العاص والي مصر على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد شكا المصري إلى عمر وقال له: "إن الوالي أجرى الخيل وسابقني ابنه فسبقته، فغضب ابنه محمد بن عمرو ووثب علي يضربني بالسوط ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين"، فبعث عمر إلى عمرو وابنه محمد فقدما إليه من مصر فأجلسهما عمر في مجلس القصاص، ونادى عمر قائلا: "أين المصري" وأعطاه الدرة وقال له: "اضرب ابن الأكرمين"فضربه المصري حتى أخذ حقه منه، ثم قال عمر ابن الخطاب: "اجعلها على صلعة عمرو، فو الله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه"، فقال المصري: "يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني"، فقال عمر: "أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه"، ثم التفت إلى عمرو قائلا في غضب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ".(20/176)
ومن مظاهر العدل الشورى، وقد عرف عمر رضي الله عنه بما لا مجال للشك فيه أنه كان يستشير أصحابه ويعرض عليهم كل ما يهمه من أمر المسلمين إذا التبس عليه، ويسترشد بآرائهم، ويأخذ بما يراه أقرب إلى الحق والصواب في كل ما يشتبه عليه من الأمور ويختلط.
والرواية التالية تمثل نموذجا لما يراه عمر في الشورى ويؤمن به، روي أنه قال لأصحابه يوما: "دلوني على رجل أستعمله على أمر أهمني"، قالوا: "فلان"، قال: "لا حاجة لنا فيه"، قالوا: "فمن تريد؟ "قال: "أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم"، قالوا: "ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي"، قال: "صدقتم"، فولاه.
وروي أن أهل الكوفة قدموا يوما يشكون أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: "من يعذرني من أهل الكوفة إن وليتهم التقي ضعفوه [3] وإن وليتهم القوي فجروه [4] " فقال المغيرة بن شعبة: "يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقواه ولك ضعفه وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره، قال: "صدقت، أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم".
علمه:
إن علم ابن الخطاب كان مسلما به بين علماء الصحابة رضوان الله عليهم ولو اكتفينا بقول علي رضي الله عنه فيه: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر"، أخرجه الطبراني في الأوسط لكفانا دليلا على علم عمر ولو طلبنا الشهادة على علم عمر لكفتنا شهادة عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان إذ قال الأول: "لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم"ولقد كانوا يرون أنه ذهب تسعة أعشار العلم، أخرجه الطبراني في الكبير.
وقال الثاني أي حذيفة رضي الله عنه: "كان علم الناس مدسوسا في حجر عمر".(20/177)
وليس أدل على علم عمر رضي الله عنه من موافقاته للقرآن الكريم تلك الموافقات التي يرى فيها عمر الرأي فينزل القرآن بموافقته فيما رآه وتقريره ومن ذلك أسرى بدر إذ رأى قتلهم، ورأى غيره فداهم فنزل قول الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومنه رأيه في احتجاب نساء الرسول حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن"فنزلت آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .
ومنه رأيه الصلاة خلف المقام وإشارته بذلك فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} .
ومنه قوله لما تمالأ بعض نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لغيرتهن فاعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك والملائكة وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك فأنزل الله تعالى قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنّ} الآيتين.
والذي عرف إيمان عمر وتقواه لم يشك في علمه أبدا لأن العلم نور يقذفه الله في قلوب عباده المؤمنين المتقين، فليس هو بكثرة الرواية ولا بكثرة الدرس والتحصيل كما بقولون وتلك الفراسة القوية التي أوتيها عمر وشهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لو كان في أمتي محدثون لكان منهم عمر"، وشهد بها ابنه عبد الله حيث قال: "ما قال أبي في شيء أظنه كذا، إلا كان كما ظن، ما هي إلا من نور علمه وصفاء روحه، وقوة يقينه".
فعن هذه الثلاث مكتملة تتولد الفراسة ويعظم الفرقان فيصبح صاحبها يقول فلا يخطئ ويظن فلا يكذب، وما أحوج الداعي إلى الله تعالى إلى مثل علم عمر وإيمانه وقوة يقينه ليحظى بالفرقان ويظفر بالفراسة فينجح في دعوته، ويصل إلى أقصى ما يريده لها من الذيوع والانتشار.
تواضعه:(20/178)
إن تواضع عمر رضي الله عنه ليس مقصورا على خدمة الأرامل، وضعفة المسلمين، ولا على أكله الخشن ولباسه الخشن، فإن وراء ذلك ما هو أعظم إنه معرفة الحق والخضوع له وقبوله ممن يقوله ويدعوه إليه ولنكتف في ذلك بالرواية التالية: خطب عمر الناس يوما فنهى في خطابه عن التغالي في المهور فقامت امرأة فقالت: "يا عمر أنصدقك أم نصدق قول الله تعالى- وفي لفظ أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر- يقول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} "فقال عمر: "صدق الله وكذب عمر وأصابت المرأة وأخطأ عمر"، وفي رواية كل الناس أفقه منك يا عمر.
سياسته وقضاؤه:
إن سياسة عمر الرشيدة السديدة التي كان من آثارها الفتوحات العظيمة إذ تم على عهد حكمه فتح العراق وفارس والشام وفلسطين ومصر وازدهرت على عهده البلاد الإسلامية ازدهارا لم تزدهر قبله ولا بعده مثله أبدا فعز الإسلام والمسلمون ونعمت أمة الإسلام بالأمن والرخاء في كل ديارها ومن هنا لم تصبح بنا حاجة إلى ذكر نماذج من أوجه سياسته لأمة الإسلام، التي حكمها بإذن الله عمر رضي الله عنه.
أما قضاؤه فحسبنا أن نستعرض له كتابه إلى أبي موسى الأشعري حيث جمع فيه أصول القضاء وقواعده، وأتى فيه بما لم يعرفه القضاء في أي عصر من عصور الأمة الإسلامية خلا عهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا نص الكتاب فلنقرأ متملينه متأملين فيه فإنه لوحة مشرفة في القضاء ونظام خالد للقضاة في دنيا المسلمين قال رضي الله عنه: "أما بعد ...(20/179)
فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر فافهم إذا أدلى إليك الرجل بالحجة، فاقض إذا فهمت وأمض إذا قضيت فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، وحرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطه حقه وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تولى منكم السرائر وادرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر عند الخصومات فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأمر ويحسن به الذكر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شأنه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام".
وفاته رضي الله عنه:(20/180)
إن وفاة عمر قد يستغربها المرء إلى حد الإنكار لولا أن أمرها أصبح بين المسلمين من الضروريات التي لا يختلف فيها الإنسان مع الإنسان وذلك للتواتر العظيم الذي تم لها، ووجه الغرابة فيها أن عمر الخليفة العادل والإمام الراشد والأمير الصالح الذي أحبه كل المسلمين، ولم يبغضه حتى الكافرون يموت قتيلا في عاصمة الإسلام بل في محراب الصلاة والمسلمون يصلون وراءه وهم مئات أو ألوف.
ولكن الذي تبلغه دعوة عمر لنفسه بأن يموت شهيدا بالمدينة النبوية ويعلم استجابة الله دعاء أوليائه يبطل استغرابه وينتهي إنكاره فقد صح عنه رضي الله عنه أنه كان يسأل الله تعالى فيقول: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ووفاة في بلد نبيك".
واستجاب الله لعمر دعوته وحقق له أمنيته ففي يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة طعن عمر رضي الله عنه وهو يصلي في المحراب طعنه أبو لؤلؤة المجوسي غلام للمغيرة بن شعبة وبقي يعالج تلك الطعنة حتى توفاه الله ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين هجرية في مثواه الأخير في حجرة عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصاحب والصديق أبي بكر رضي الله عنه.(20/181)
وكان لوفاة عمر من الآثار السيئة على الإسلام والمسلمين ما يعجز المرء عن ذكره والقلم عن حصره، إذ كانت حياة عمر بابا مغلقا دون الفتن وبموت عمر انكسر الباب وماجت الفتن فلم تزل بالمسلمين إلى يومنا هذا كما جاء ذلك في صحيح البخاري إذ جاء فيه قول عمر: "أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة"قال حذيفة: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قال: "ليس عن هذا أسألك ولكن التي تموج كموج البحر"، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال عمر: "أيكسر الباب أم يفتح؟ "قال: "بل يكسر"، قال عمر: "إذا لا يغلق أبدا"، قلت: "أجل"وسئل حذيفة: "هل كان عمر يعلم أنه الباب؟ "قال: "نعم، كما أن دون غد ليلة".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قول عمر رضي الله عنه كما رواه أبو هريرة: "إن رجالا من المنافقين يدعون أن رسول الله مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله مات".
[2] يتم من باب ضرب وعلم.
[3] ضعفوه: جعلوه ضعيفا بالاحتيال عليه والخروج عن طاعته أو نسبوه إلى الضعف فيكون كاستضعفوه أي نسبوه إلى الضعف وهو العجز.
[4] فجروه نسبوه إلى الفجور وهي ارتكاب المعاصي وأصله الميل عن القصد والعدول عن الحق.(20/182)
الأدب والحياة
د. شوقي عبد الحليم حمادة
أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إن رقي الأمم وتقدمها لا يقاس في الحقيقة بما تشيده من مبان فخمة ولا بما تستعمله من وسائل الحضارة الحديثة، فهذا أمر من الأمور الميسورة التي لا تكلف شيئا إلا المال.
إنما يقاس رقيها بما تنتجه من عطاء في مجال الفكر أو العلم وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الذين أخلصوا للحقيقة ولخدمة الإنسانية كل الإخلاص، ولهذا تعنى الأمم الحية الراقية بأدبائها ومفكريها وعلمائها أشد العناية، لأن هذه الفئة يمكنها أن تساهم في توعية الناس وتعميق إدراكهم وفهمهم للحياة وجعلها سهلة سعيدة، وهذه أشياء تسعى إليها البشرية عبر تاريخها الطويل.
والأمة العربية - بحمد الله- لها تراث قديم يعتبر ركنا من أركان الحضارة الإنسانية الحديثة، إلا أن العطاء الفكري والعلمي يتفاوت بين فرد وفرد وأمة وأمة حسب الطاقات والإمكانيات.
ولهذا رأينا بعض الأمم الراقية تدعو كتابها ومفكريها بمهندسي الحياة، وهذه التسمية تعني أن تلك الأمم تقدر أدباءها ومفكريها حق التقدير وتفهمهم حق الفهم، كمنا أنها تعني أن أولئك الكتاب والمفكرين لم يستحقوا هذه المنزلة العظيمة إلا لأنهم شاركوا في صنع الحياة.
فائدة الأدب:
الحقيقة أن الأدب ليس للعبث والمتعة الشخصية فحسب، بل لا بد له من هدف وغاية يرنو إليها وينادي بها، لأنه التعبير الحر عن واقع الأمة في آمالها الكبيرة ومثلها من وراء التصوير الصادق لواقعها فيما يشف عنه من إمكانيات أو يوحى بها.(20/183)
والأديب هو لسان الحياة والمجتمع وعليه توضيح ما في هذه الحياة وما في هذا المجتمع من عقائد ومبادئ ومشكلات لأنه ابن لهذه الحياة وفرد من ذلك المجتمع، بل هو أعظم مسئولية لأن عنده الأداة التي يستطيع بها المشاركة وليست مع غيره هذه الأداة، ولأن معه أدبا وفنا ليسا لدى سواه يستطيع بهما وصف الحياة بصدق وتوضيح العقيدة بإخلاص وتوجيه المجتمع إلى ربه الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
فلا بد إذن من التزامه بواجبه تجاه عقيدته ومجتمعه، وليس الالتزام شيئا مناقضا للحرية بل هو منظم لها، والحرية بدون التزام فوضى.
فالإنسان المفكر والأديب مثلا لم يكن له الاختيار في وجوده في هذا العالم وليس سببا مباشرا في أوضاعه الراهنة، لكنه ملزم بأن يتخذ موقفا من هذه الأوضاع وفي نفس الوقت تتأكد حريته في اختيار الوسائل في كل موقف، وفي نوعية الموقف ذاته وفي اختياره للجماعة التي يعمل معها وللجماعة التي يعمل ضدها، ووسائل المناصرة أو النضال هي أيضا تدخل في إطار مفروض عليه ولكنها متفتحة على أنواع كثيرة من الاختيارات.
فالحرية المطلقة بالنسبة للأديب إذن شيء وهمي والالتزام في الوقت نفسه دون حرية عبودية وغباء، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه أي أنه مسئول لأنه حر وملتزم لأنه يتحمل مسئولية حريته وهذا شيء لا بد أن يضعه الأديب نصب عينيه.
والأديب الإسلامي المسلم خاصة لا بد أن يأتي إنتاجه الفكري متأثرا بأوضاعه التاريخية لأن شخصيته تستمد جذورها من الإسلام.(20/184)
إن الأدب العربي كان خير مصور لحياة العرب السياسية والاجتماعية والخلقية، وأودع للزمن صحائف حياته مسجلة تتداولها الأجيال، وقد نظمت تلك الصفحات من الصفات التي اعتز بها العرب كالشجاعة وحماية الجار والكرم الذي لا يبقي على شيء رغبة في الفوز بالذكر والشكر، ولم تزل أمثال العرب تذكر حاتما الطائي رأس الكرماء ولم يزل لومه لماويّة زوجته حين تأخذ عليه إسرافه فيقول لها:
أماويّ إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ولم يزل يذكر شعر زهير وهو يرن في سمع الأجيال بمدح هرم به سنان والحارث بن عوف حين تحملا من مالهما الخاص ديات القتلى من عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي مكثت أربعين سنة أكلت خلالها شباب القبيلتين وذلك ما يصوره زهير في مدحهما بقوله:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
((منشم هذه: امرأة ضرب بعطرها المثل في الشؤم فقيل: أشأم من عطر منشم)) .
ويطول بنا الحديث لو تتبعنا ذلك في كل العصور الأدبية.
وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن نجمل ثمرة الأدب في هذه الأمور:
1- تسجيل الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية.
2- تسجيل الشعر لأسماء الأماكن التي لم يسجلها التاريخ.
3- تسجيل الآراء والنزعات والاتجاهات للفرق والطوائف الدينية وغيرها.
4- نقل التجارب الإنسانية عبر الأجيال لإفادة البشرية.
5- إذكاء روح التوثب والتقدم والوصول إلى الأفضل بصفة مستمرة.
6- توفير الوقت والجهد للآخرين سواء أكانوا معاصرين أو تالين.
7- التعبير عن مشاعر اللذة بغرض استمرارها أو الاستزادة منها.
8- إزالة مشاعر الألم بالتخفيف منها أو تحويلها.
9- ربط مشاعر الجماعة والعمل على التفافها حول موضوعات وأهداف موحدة.(20/185)
10- الارتفاع بالغرائز الإنسانية وترقيتها أو تحويلها لتكون عوامل سمو.
11- فتح مجالات حضارية جديدة أمام البشرية وتعميق فهمنا للحياة.
وكم للأدب غير ذلك من مهمة فهو يربي العقول والمشاعر ويهذب الطباع، وهو لسان الدعاة إلى الله وهداة البشرية إلى الخير وهو وسيلة المصلحين الذين وهبوا حياتهم لإصلاح النفوس.
وما أقدر الكلمة الأدبية المدعمة بالآية القرآنية أو التوجيه النبوي على التأثير والإقناع إذا أرسلتها نفس مؤمنة بها منفعلة معها.
مجالات الأدب تشمل الكون كله:
لقد أثرى تراثنا القديم الحضارة الإنسانية بلا ادعاء أو مكابرة. تلك حقيقة لا ريب فيها، فابن سينا وابن رشد والخوارزمي والرازي وابن النفيس وغيرهم قد قدموا للإنسانية ما يجعلها تدين لنا به.
ولكن عندما توقفت ثقافة العرب الإسلامية عن النمو - بفعل عوامل من صنع أعداء أمتنا - فقد أصبحت لا ترضي نفسها ولا غيرها.
وبالنسبة لما لدينا في الحاضر فنحن في طور الأخذ من الآخرين أكثر من طور العطاء، وهذا واقع علينا أن نعترف به في شجاعة، وكما أعطينا في الماضي علينا أن نأخذ في الحاضر على شرط ألا نكون مجرد ببغائية نعيد صدى أصوات الآخرين، علينا أن نهضم ما نأخذ ونتمثله وأن نعيد تشكيله ليتوافق مع بيئتنا وذاتيتنا واضعين نصب أعيننا مقوماتنا الأخلاقية والروحية.
وبهذا يمكننا أن نقدم شيئا هاما ومجددا للتراث الإنساني، فالتنكر للذات مسخ للشخصية، والإعراض عن أوضاع العصر تدمير للشخصية أيضا.(20/186)
ومما لا ريب فيه أن فنّ القصة القصيرة الذي نضج واشتد عوده في الأدب الحديث فن عربي قد يم يتمثل - أظهر ما يتمثل- في تلك المقامات الرائعة التي صاغها بديع الزمان الهمذاني والحريري من بعده وخلقا بها نموذجا إنسانيا خالدا في الأدب العالمي وهو نموذجا الأفاق الذكي الحاضر البديهة الذلق اللسان القوي الخيال الذي لم يجد له مكانا في مجتمع فاسد مضطرب القيم فاضطر أن يحتال لكسب قوته بشتى الحيل مستغلا غفلة العوام وفساد الحكام.
هذا النموذج الإنساني عرفه الأدب الإسباني بعد أدبنا العربي، وأغلب الظن أن الأدباء الإسبان عرفوه من النماذج العربية ثم انتقل من الأدب الإسباني إلى سائر الآداب الأوربية فيما عرف في تلك الآداب باسم (قصص الصعاليك) فلا مجال إذن لإنكار ذلك في الأدب العربي.
وعند النظرة الفاحصة نرى أن للأدب مجالات عديدة ووظائف لا تقتصر على ناحية من النواحي ولا على جانب من الجوانب، فهو يتناول العقيدة والعواطف الإنسانية والحياة الاجتماعية والسياسية والقيم الأخلاقية والروحية، فالحياة كلها مجال للأدب، فلم يعد من الممكن القول إن هناك بعض موضوعات تصلح للتناول وبعضا آخر لا يصلح فقد اتسع ميدان الأدب اتساعا عظيما وها هي بعض تلك المجالات:
- العقيدة:(20/187)
لقد عبر الأدب عن العقيدة منذ وجد الإنسان، بل لقد نشأ في ظلها، ومازالت هذه العلاقة الوثيقة مرتبطة أشد الارتباط حيث قام الأدب بنشر الدين فسجل دعوته وبث شعائره بين البشر وشرح شرائعه، وأمام أعيننا الدين الإسلامي الحنيف فالقرآن الكريم في الذروة من الإعجاز والتسامي البياني والنبي صلى الله عليه وسلم) في قمة الفصاحة والبلاغة، وقد اعتمد الإسلام على الأدب واعتبره عنصرا فعالا يجب أن يقوم بدوره كما ينبغي، فقام الخطباء ونهض الشعراء يشرحون هذا الدين ويناضلون عنه يجادلون المرجفين ويعالجون الرذائل ويهدون الناس إلى الطريق الأقوم، بل إن هدف كل من الدين والأدب تصفية النفس وتهذيب الجنس البشري بطريق أداء الشعائر المقدسة من إثارة العواطف النبيلة والأخيلة الجميلة، وفي أدبنا العربي نماذج عديدة لتوضيح ذلك نقتصر منها على نموذجيين أولهما لكعب بن زهير حيث يقول في دعوته إلى الله:
رَحلتُ إلى قومي لأدعوا جُلّهم
إلى أمر حزمٍ أحْكمتْهُ الجوامعُ
سأدعوهُمُ جَهْدى إلى البرِّ والتقى
وأمرِ العلا ماشا يعتْني الأصابعُ
فكونوا جميعا ما استطعتم فإنه
سَيَلبَسكم ثوب من الله واسعُ
وثانيهما لشاعر معاصر هو أستاذنا وشيخنا المجذوب حيث يقول:
أتزعمُ يا مسكينُ أنك مسلمٌ
وليس على الإسلام فيك دليل!
هجرتَ كتَاب الله توصدُ دونه
فؤادَك حتى ما إليه سبيل
وعفتَ بيوت الله حتى كأنما
بهنَّ لأهل الغيِّ مثلِك غول
وجافيتَ دنيا المؤمنين مُنابذاً
فما لك بين المؤمنين خليل
ولو كنت ممن يعرف الحقَّ قلبُه
لأدركتَ أن العقل منك عليل
توهمتَ أن الدين محض هُوِيَّةٍ
وكلُّ كلامٍ بعدها ففضول
وفاتكَ أن الدين عقد مُوَثَّقٌ
عليه إلاهُ العالمين وكيل
ضمنتَ به ألاّ تزايل نهجَهُ(20/188)
ولو أوشكتْ شمُّ الجبال تزول
وألا ترومَ الأنس في غير أهله
فهم لك من دون الأنام قبيل
وألا يرى أعداؤه منك ذلةً
وتلقى أولي التقى وأنت ذليل
فأين وفاء المؤمنين لربهمْ
وماذَا لَه ياخا سراً ستقول
رويدا تؤد بك الحياة ولن يرى
كتأديبها للجانحين مثيل
لعلك بعد الجهل تصحو فترعوي
((فليس سواء عالم وجهول))
العواطف والمشاعر النفسية:
وهذه من أبرز مجالات الأدب فميزته أنه يوجد العبارة التي تعوزنا للتعبير عما في نفوسنا، فالأديب يعبر عن عواطفنا ومشاعرنا كما أنه يحاول أن يوصل انفعالاته ومشاعره إلينا.
ومن النماذج الطاهرة النظيفة على ذلك قول خبيب بن عدي:
لقد جمّع الأحزاب حوْلي وألّبوا
قبائلهم واستجمعوا كلّ مجمع
وكلهم مبدِي العداوة جاهد
عَليّ لأني في وثاقي بمضيع
وقد جمَّعوا أبناءهم ونساءهم
وقَرّبتُ من جذْع طويل ممنَّع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
وما أرْصدَ الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبِّرني على ما يراد بي
فقد بضعوا الحمى وقد ياس مطْمَعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يُبارك على أوصال شلوٍ ممزع
وقد خيروني الكفرَ والموت دونه
وقد هَملَتْ عيناي من غير مجزع
وما بي حِذارُ الموت إني لميِّتٌ
ولكنّ حِِذاري جحمَ نار ملَفع
فلستُ أبالي حين أقتل مُسلماً
على أيِّ جنب كان في الله مصْرعي
فلست بمبدٍ للعدوّ تخَشعاً
ولا جزعاً إني إلى الله مرْجعي
ومن النماذج قول شيخنا المجذوب أيضا:
يقولون: معْ أيِّ الفريقين تضلعُ
فلم يبقَ للإحجام والصبر موضع!
هنا (عنترٌ) يزجى بقايا فلوله
وثَمَّ (فلان) خلفَه نتجمعً
وأنتم دعاةَ الحقِّ أوْلى بنصرِه
إذا الناس خانوا الحقّ جُبنا وضَيَّعوا(20/189)
فقلت: أما والله ما في قلوبنا
لغير جلال الله والحق موقع
وكل خلاف بيننا فلأننا
وَعَيناه في ضوء الكتاب ولم تعُوا
إذا ما دعوناكم إليه جمحْتُمُو
وبالغتمو في ما يسوء ويشنع
وقلنا: هلموا نُعْل في الأرض شَرعَهُ
فقلتم: فلانٌ لا سواه المشرِّعُ
وقد فاتكم أن ليس للخلق مالكٌ
سوى الله يقضي فيهم ويشرِّع
وكل احتكامٍ في الحياة لغيره
هو الشرك لا بل دونهُ الشرك أجمع
إلى أن يقول:
فقد تصْبِحُ الدنيا لإبليس شيعةً
ونحن لغير الله لا نتشيع
أنعدَلُ بالله العظيم وشرعه
أضاليلَ يجلوها الخداع فتلمع
فأين إذن عهد قطعنا لربنا
بأنا له دون البرية خضَّع
بلى نحن جندُ الله بعناه واشترى
فلا هو يُعفينا ولا نحن نرجع
القيم الأخلاقية والإنسانية:
الحقيقة أن كل أدب ليست وراءه غاية خلقية لابد أن يكون كسيحا ضارا، لكن أصدق الفضائل ما نبعث من التصور الإلهي للحق الذي يعلم الدقيق والجليل ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولقد هدانا الدين الإسلامي العظيم إلى الخير وحذرنا من الشر ورسم لنا صراطا مستقيما يجب علينا سلوك محجته.
ومن النماذج الصادقة على ذلك قول امرأة مسلمة تغيب زوجها في معارك الجهاد في سبيل الله:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه
وأرقني ألاَّ ضجيع ألاعبه
يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه
لطيف الحشا لا تجتويه أقاربه
فو الله لولا الله لا شيء غيره
لينقضّ من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكَّلاَ
بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصدُّني
وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ومن النماذج أيضا قول شيخنا المجذوب في نشيد المؤمن:
دعوة الله وحده
حبذا الموتُ فداها
كيف لا ينصر جنده
وبهم يعلو لواها
عصبة هامت بحق
أبصرت فيه هداها(20/190)
كلهم إخوان صدق
وهبوا الروح الإلها
ربنا إنا تَخذنا
قائدا للمجد (طاها)
وأبينا ورفضنا
غير رضوانك جاها
فاحبُنا اللهم صبرا
يبلغ النفس مناها
وهب الإسلام نصرا
عن يدينا لا يضاهى
رب إن الأرض ناءت
تحت أثقال شقاها
وإلى عطفك جاءت
ترتجى اليوم شفاها
فامح بالقرآن عنها
ظلمة عم دجاها
وأنره بالحق منها
أعينا طال عماها
ومن ميادين الأدب ومجالاته الطبعية والكون والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحياة الفكرية والثقافية، وتوسيع المدارك وزيارة التجارب ويطول بنا الحديث لو ذكرنا النماذج الدالة على ذلك.
ولكننا نستطيع أن نقرر أن الأدب من وجهة النظر الإسلامية يملك من الزاد الفكري العظيم والثقافة العريقة ما يفضل تراث أية أمة، ويملك من التجارب الرائعة والنماذج الإنسانية الفذة ما يقف أمامها العقل مكبرا دهشا، والأدب لا يمكن أن ينفصل عن المجالات الحيوية في هذه الحياة باعتباره رسالة إصلاحية وليس متعة شخصية فحسب.
من أجل ذلك كله ينبغي على الأدباء والشعراء العرب المسلمين أن يجعلوا عصر صدر الإسلام نصب أعينهم ليستقوا من معينه الفياض ويرتشفوا من ينبوعه الصافي حتى تكون شخصيتهم متميزة وقائدة ورائدة كما أراد الله لهذه الأمة أن تكون وأن يستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحيهم كما استجاب الأدباء والشعراء في عصر النبوة والخلفاء الراشدين.
وبهذا تستعيد الأمة الإسلامية عزتها المسلوبة وكرامتها المفقودة فهل من مدكر؟
أرجو أن يكون ذلك إن شاء الله.
بعض مراجع البحث:
1- الأدب الهادف - محمود تيمور.
2- الإسلام والشعر - د. يحيى الجبوري.
3- الإسلامية والمذاهب الأدبية - د. نجيب الكيلاني.
4- تذوق الأدب - محمود ذهني.
5- تيارات أدبية بين الشرق والغرب - د. إبراهيم سلامة.(20/191)
6- الأدب وفنونه - د. عز الدين إسماعيل.
7- شعر الدعوة الإسلامية – د. عبد الرحمن رأفت.
8- وظيفة الأدب بين الالتزام الفني والانفصام الحالي - د. محمد النويهي
9- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء - للمرزباني.
10- همسات قلب - الشيخ المجذوب.
11- الأدب في عالم متغير - د. شكري عياد.
((يخطىء بعضهم في الإجابة فعندما يقال: أليس محمد رسول الله)) يقول بعضهم: ((نعم)) وهذا خطأ، والصحيح أن يقال في مثل هذا ونحوه ((بلى)) ، لأنك إن سألت بـ ((أليس)) فقلت مثلا: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} و {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} وقلت: ((نعم)) صار الكلام ((نعم ليس الله بقادر على أن يحيي الموتى)) و ((نعم ليس الله بأحكم الحاكمين)) نعوذ بالله من ذلك، وعندما تقول: ((بلى)) يصبح الكلام: بلى، إن الله قادر على أن يحيي الموتى، بلى، إن الله أحكم الحاكمين، وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ولو قالوا: ((نعم)) لكفروا، والسر في ذلك، أن بلى تأتي لإيجاب المنفي، فأما نعم فإنها تقع لتصديق المخبر، أو إعلام المستخبر، أو وعد طالب فالأول كقولك ((نعم)) لمن قال: قام زيد، والثاني كقولك: ((نعم)) لمن قال: هل جاء زيد، والثالث كقولك: ((نعم)) لمن قال: اضرب زيدا، أي: نعم أضربه.(20/192)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ / عبد الرؤوف اللبدي
أختي العزيزة هل:
في رسالة سلفت كتبت إليك بالصيغة الأولى من الصيغ التي تدخل فيها همزة الاستفهام على لم النافية الجازمة وهذه الصيغة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} .
وذكرت أن معنى الاستفهام في هذه الصيغة هو التعجب والتعجيب والتنبيه، وأن المراد بالتعجيب حمل المخاطب على التعجب، وأن المراد بالتنبيه طلب التأمل والتبصر والتفكير.
وأرجو أن تتذكري هذا المعنى لهمزة الاستفهام في هذه الصيغة في آياتها الخمس عشرة التي وردت فيها إذا ما نسيت أن أذكره بعد كل آية، على أنني سأتبع كل آية ما ترين فيه موضع التعجب والعبرة.
لقد كتبت إليك في الرسالة الأولى الآية الأولى من هذه الآيات؛ وها أنا ذى [1] أكتب إليك في هذه الرسالة الآيات الباقيات:
الآية الثانية:
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . الآية: 246 - البقرة.
أسلوب الحوار الذي جاءت فيه هذه القصة قد أكسبها حياة وحركة ووقعا عظيما في النفس وفي الحس، حتى كأنما المخاطب يرى أشخاصها وأحداثها ماثلة أمام عينيه، يرى هؤلاء القوم من بني إسرائيل أو أشرافهم يمشون إلى نبي لهم فيقولون له بحزم وعزم وحماس: "ابعث لنا ملكا يدبر شئوننا ويجمع صفوفنا ويقودنا إلى الحرب في سبيل الله".(20/193)
فيسألهم النبي سؤال أن من يتوقع منهم ألا يقاتلوا فينكرون عليه ذاك التوقع، ويعجبون أن يظن بهم هذا الظن، وقد أخرجهم عدوهم إخراجا مُرًّا من ديارهم التي كانوا فيها آمنين، وانتزعهم من أبنائهم وأهليهم انتزاعا ينزف الدم والدمع.
ويجاب الطلب ويكتب القتال، ويقودهم ملكهم طالوت إلى المعركة، وكان ما توقعه ذلك النبي.
فتولوا مدبرين قد نسوا أوطانا وديارا وأبناء اتخذوها من قبل ذريعة، وأعرضوا عن جهاد مفروض كانوا قد طلبوه ولم يثبت في ميدان المعركة إلا القليل.
لقد جاء الاستفهام في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} للتعجب والتعجيب والتنبيه.
ولقد رأيت في هذه القصة العجب، وعرفت من أين يجيء التعجب، وتدبرت ما تضمنته من عواقب.
لقد رأيت كيف يقولون ولم يفعلوا، وكيف يطلبون الجهاد رغبة من أنفسهم، حتى إذا فرض عليهم القتال ولوا مدبرين مخالفين عن أمر الله، كانوا ظالمين، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} لا يخفى عليه ظلم، وإلا ينجو من عقابه ظالم.
الآية الثالثة:
يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . الآية – 258– سورة البقرة.
التعجب والتفكير معنى همزة الاستفهام في صدر هذه الآية، وموضع التعجب والتفكير حال هذا الملك الظالم الذي آتاه الله الملك، فاستولى عليه الأشر والبطر، وأخذ يجادل إبراهيم عليه السلام ويحاول التغلب عليه في مغالطة حمقاء.(20/194)
اقرئي هذا الحوار المعجب الرائع مثنى وثلاث ورباع، وتدبري كيف يعمى الظالمون عن الحق، وكيف تفقد النعم ولا سيما نعمة الملك صواب كثير من المنعم عليه، فبدل الشكر والطاعة يكون الجحود والطغيان:
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهذا القول يفيد الحصر، ومنشأ الحصر تعريف الطرفين، ومدلول هذا الحصر أن الإحياء والإماتة مقصوران على رب إبراهيم رب العالمين، لا يتجاوزانه تعالى إلى شيء آخر مطلقا؛
قال الذي حاج إبراهيم في ربه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} يعني بذلك أنا أشارك ربك - يا إبراهيم - في الإحياء والإماتة - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وليس ذلك مقصورا عليه ومختصا به، ثم أحضر رجلين قتل أحدهما وأرسل الآخر، ليدل بذلك على ما ادعاه.
لقد كان في استطاعة إبراهيم عليه السلام أن يفحمه ويقول له: "أحي هذا الذي أمته"، ولكنه حين رأى منه هذه المغالطة الحمقاء آثر أن يأتي بصفة من صفات الله تعالى لا يستطيع هذا الملك الضال أن يماري فيها ويغالط {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .
وددت - والله - لو كنا أنا وأنت حاضرتين ذاك المجلس، لنمتع الأبصار بما ظهَر عليه حين بهت لنراه وقد أخذته الحيرة والعجز، وامتقع لونه من خزي، وبرق بصره من دهش، وحاولت شفتاه أن تنطقا بمغالطة حمقاء أخرى فلم تقدرا على شيء، لنراه وقد أطرق إلى الأرض عاجزا مغلوبا والناس من حوله ينظرون إليه باحتقار وذهول.
كيف لا يبهت {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين يزعمون أنهم يقدرون على ما يقدر عليه الله سبحانه وتعال، ى ويرغبون عن ملة إبراهيم حنيفا؟!!.
إن الله لا يهديهم ولا يرشدهم إلى ما يدحضون به حجج أهل الحق والتوحيد.
الآية الرابعة:(20/195)
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} . الآية – 23 - آل عمران.
الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع هذا التعجب والتنبيه حال هؤلاء اليهود يزعمون أنهم يتمسكون بكتاب الله الذي بين أيديهم وهو التوراة، وإذا دعوا إلى هذه التوراة لتحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم ركبوا مطايا العناد، وأعرضوا إعراضا شديدا، ذلك لأن في هذه التوراة نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّ اتباعه، وهذا مالا يوافق أهواءهم التي ضلت ضلالا بعيدا.
الآية الخامسة:
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} . الآية (44) من سورة النساء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع هذا كله حال هؤلاء اليهود الذين أوتوا نصيبا من التوراة يوجب عليهم اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ومع ذلك يؤثرون الكفر والمعاندة والمخالفة على الإيمان به واتباع هداه.
ولا تكفيهم ضلالتهم، بل يريدون أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل المستقيم كما ضلوا، إنهم يكرهون أن تكونوا مختصين بالهدى واتباع الحق، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} .
لقد رأيت - يا أخت - أن اليهود قد استبدلوا الضلالة بالهدى، وأن الآية الكريمة عبرت عن هذا الاستبدال بـ (يشترون) لتبين أن حرصهم على الضلالة ورغبتهم فيها حرص المشتري على السلعة، لقد كان في هذا توبيخ لهم وتقريع، وتشنيع عليهم أيما تشنيع.(20/196)
ولقد رأيت أيضا أن التعبير بالفعل المضارع: (يشترون) و (يريدون) يدل على أن ذلك متجدد مستمر فيهم ما تجدد الليل والنهار.
الآية السادسة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . الآية - 46 - سورة النساء.
موضع ما تدل عليه همزة الاستفهام من تعجب وتعجيب وتنبيه موضعه حال هؤلاء اليهود الذين يزكون أنفسهم فيبرئونها من الذنوب ويطهرونها على حين أنهم أئمة الكفر رؤوس الفتن، لا يستأهلون هذه التزكية، ولا يعتد بها منهم.
فالله هو الذي يزكي من يشاء من عباده، لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء، يجازي كل إنسان بما يستحق، ولا يظلم أحدا شيئا مهما بلغ ذلك الشيء من القلة والحقارة والصغر.
الآية السابعة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} . الآية -50- سورة النساء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام وتعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع ذلك حال هؤلاء اليهود الذي أوتوا نصيبا من التوراة، ثم هم يخالفون ما جاء فيه، ويستجيبون لطلب كفار قريش في مكة فيسجدون للأصنام ويشركون بالله، ويقولون لهم أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلا.
يقولون هذا وهم يعلمون أنه افتراء وبهتان، يقودهم إليه الحقد والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن آمن به.
الآية الثامنة:(20/197)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . الآيتان: 60-61 من سورة النساء.
موضع التعجب والتعجيب والتنبيه في هاتين الآيتين حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل على الأنبياء من قبله، يريدون أن يتحاكموا إلى غير الله ورسوله إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا، ويستجيبون لتلك الإرادة، فإذا قيل لهم تعالوا إلى حكم ما أنزل الله وإلى حكم الرسول أعرضوا عن التحاكم إليك أيها الرسول إعراضا شديدا.
الآية التاسعة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . الآية - 77- من سورة النساء.(20/198)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع التعجب حال جماعة من الصحابة رغبوا في قتال مشركي مكة، فطلب منهم الموادعة وأن يكفوا أيديهم عن ذاك القتال ثم فرض عليهم ذلك القتال الذي كانوا يودونه، فإذا فريق منهم يخافون أولئك الذين كانوا يرغبون في قتالهم أشد ما يكون عليه الخوف، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيب} قالوا ذلك خوفا من الموت لا إنكارا للحكم ولا اعتراضا على إيجابه.
قل متاع الدنيا فانٍ لا يدوم، ونعيم الآخرة هو الدائم الباقي، وهو خير للذين يتقون الله ويتمثلون أوامره، وسيجزيهم الله ثواب أعمالهم لا ينقصون منه شيئا.
الآية العاشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ, جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} . الآية -28 ,29- سورة إبراهيم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع التعجب والتنبيه حال أهل مكة، أنعم الله عليهم خلقهم ورزقهم وأسكنهم بيته الحرام الآمن يجبى إليه ثمرات كل شيء، وجعلهم قُوّاما عليه، ثم أكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبدل أن يشكروا الله على هذا كله كفروه جميعا، وأحلوا قومهم الذين اتبعوهم على الكفر أحلوهم دار الهلاك، وبئس القرار تلك الدار.
الآية الحادية عشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} . الآيتان: - 45 - 46 - من سورة الفرقان.(20/199)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام يثير تعجب المخاطب من هذا الظل الدال على عظمة الله جلت قدرته، وبديع صنعه، وبالغ حكمته، ويدعو المتأمل المتبصر إلى التفكير فيه: كيف يمده الله ويبسطه فينتفع به الناس انتفاعا لا يبلغه إحصاء ولا وصف، ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك.
ثم كيف جعل الشمس دليلا عليه، يستدل الناس بها وبأحوالها على أحوال الظل: أين يمتد وينبسط ومتى يكون ذلك، وأين يتقلص ويتلاشى ومتى يكون ذلك.
ثم كيف جعل الشمس بمشيئته تعالى تنسخ شيئا شيئا هذا الظل الممتد المبسوط.
الآية الثانية عشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} . الآية: - 69 - سورة غافر.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه وموضع التعجب والتنبيه حال هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الكريم وبما أرسل به الرسل من قبل، يجادلون في آيات الله بالباطل وعلى غير علم ولا هدى.
كيف يصرفون عن تلك الآيات الواضحة البينة الهادية إلى الصراط المستقيم؟ !! سوف يعلمون يوم القيامة عاقبة هذا الجدال والتكذيب.
الآية الثالثة عشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الآية: - 8 - سورة المجادلة.(20/200)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه وموضع هذا حال أولئك اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم ليوقعوا الريبة والخوف في قلوب المؤمنين، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا، ويعودون مرة بعد أخرى إلى ما نهوا عنه، ويتناجون بالإثم وعداوة المؤمنين ومخالفة ما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم هم يحيّون الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءوه بـ (السام عليك) وهى تحيّة لم يحيّ الله بها رسوله، ويقولون في أنفسهم هلا يعذبنا الله بما نقول من سوء، لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بهذا السوء الذي نقوله، ستكون جهنم عذابا لهم يقاسون حرها، وجهنم كافية لتعذيبهم، ومصيرهم فيها بئس المصير.
الآية الرابعة عشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . الآية - 14 - سورة المجادلة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع التعجب والتأمل حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين.
لم يكن هؤلاء المنافقون من المؤمنين لأنهم كانوا يضمرون الكفر، ولم يكونوا من اليهود لأنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكانوا يحلفون كذبا إنهم مؤمنون وهم يعلمون أن ما يحلفون عليه هو الكذب المحض.
الآية الخامسة عشرة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . الآية: -11- سورة الحشر.(20/201)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} استفهام تعجب وتعجيب وتنبيه، وموضع هذا التعجب والتنبيه حال جماعة من المنافقين يقولون ليهود بني النضير إخوانهم في الكفر والموالاة: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نتخلى عن صحبتكم، ولا نطيع - مهما تطاول العمر - أحدا يمنعنا من الخروج معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم على أعدائكم.
يقول هؤلاء المنافقون لأولئك اليهود هذا القول، ويقسمون عليه، والله يشهد إنهم لكاذبون في تلك الأقوال والوعود.
أختي العزيزة هل:
هذه الآيات الخمس عشرة التي وردت فيها صيغة الاستفهام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى} ولعلك قد رأيت أن أحوال اليهود في هذه الآيات كان لها النصيب الأوفر لمن أراد أن يتعجب أو يتدبر، وأن المنافقين قد جاءوا دونهم منزلة في هذه الأحوال العجيبة، ثم جاء كفار مكة بعد هؤلاء وأولئك، ثم تفرقت فرادى مواضع العجب والتأمل والتفكير.
وما أظنك في حاجة إلى أن أنبهك على أن تعجب المخاطب في هذه الآيات ما عدا الآية الحادية عشرة آية الظل قد قام على الإنكار والاستغراب والاستهجان، وأن تعجب المخاطب في آية الظل قد قام على التعظيم والإجلال والاستحسان.
أختي العزيزة هل:
لقد تعبت من الكتابة وقد آن لي أن أستريح، وما أظنك إلا قد تعبت من القراءة، وقد آن لك أن تستريحي.
أسأل الله تعالى أن نلتقي في رسالة ثالثة عما قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختك
همزة الاستفهام
مراجع ذكرت معنى همزة الاستفهام في الآيات الواردة في هذه الرسالة:
الآية الثانية:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، ج2 ص253، طبعة مصورة عن طبعة السلطان عبد الحفيظ سلطان أغرب، الناشر: دار الفكر / بيروت.
2- تفسير أبي السعود: ج1 ص239، الناشر: دار المصحف، شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد - القاهرة.
الآية الثالثة:(20/202)
تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج2 ص286، المطبعة المتقدم ذكرها.
3- تفسير القرطبي ج3 ص253 طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب بالقاهرة.
4- البرهان للزركشي ج2 ص340، الطبعة الثانية. الناشر: عيسى البابي الحلبي وشركاؤه.
5- تفسير الكشاف للزمخشري ج1 ص387، الناشر: مكتبة مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
الآية الرابعة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج2 ص416 - الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص20 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الخامسة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج3 ص260 ـ الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص181 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية السادسة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج3 ص270 الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص187 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية السابعة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج3 ص272 - الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص188 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الثامنة
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج3 ص279 - الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص194 الطبعة المتقدم ذكرها.
3- الفتوحات الإلهية لسليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل ج1 ص396 طبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر.
الآية التاسعة:
1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج3 ص296 - الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج2 ص203 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية العاشرة:
تفسير أبي السعود ج5 ص45 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الحادية عشرة:
1- تفسير البحر المحيط ج6 ص502 الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج6 ص222 الطبعة المتقدم ذكرها.(20/203)
3- الفتوحات الإلهية ج3 ص260 المؤلف والطبعة المتقدم ذكرها.
4- مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري ص13 الطبعة الثانية - الناشر دار الفكر.
5- البرهان للزركشي ج2 ص340 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الثانية عشرة:
1- تفسير البحر المحيط ج7 ص474 الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير أبي السعود ج7 ص282 الطبعة المتقدم ذكرها.
3- تفسير ابن كثير ج4 ص88 طبعة عيسى البابي وشركائه.
الآية الثالثة عشرة:
1- تفسير أبي السعود ج8 ص271 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الرابعة عشرة:
1- تفسير أبي السعود ج8 ص221 الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج8 ص238 الطبعة المتقدم ذكرها.
الآية الخامسة عشرة:
1- تفسير أبي السعود ج8 ص230 الطبعة المتقدم ذكرها.
2- تفسير القرطبي ج18 ص34 الطبعة المتقدم ذكرها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كتبتها هكذا ثلاث كلمات منفصلا بعضها عن بعض لأنه الأصل ولأنه أوضح قراءة، وعلماء الإملاء يرون أن تكتب هكذا.(20/204)
الطريقة المثلى لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها
أعد البحث: الدكتور/ محي الدين الألوائي
المدرس بشعبة تعليم اللغة العربية
بالجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
حقيقة اللغة:
إن اللغة نعمة الله العظمى، وميزة الإنسان الكبرى، ولها قيمتها في جميع مجالات الحياة البشرية، وهي الخاصية التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوان، ولو أن البعض قد عدها وسيلة فإنها في الحقيقة غاية تدرس لذاتها بمناهجها وقواعدها لأنها وعاء الأفكار بل هي جزء منها وربطت بين الفكر والعمل، ومن عناصرها: التفكير والصوت، والتعبير عن الفكر الداخلي والعمل الخارجي، وبفضل هذه النعمة قد أصبح الإنسان كائنا مثاليا على وجه الأرض.
فاللغة بمفهومها الحقيقي من خصائص الإنسان، ولكنا نقرأ ونسمع عن لغات كثيرة لمخلوقات أخرى مثل:
لغات النمل والطيور والحيوان والأسماك وغيرها، وجاء في القرآن الكريم إشارة لبعض هذه اللغات، حيث حكى عن نملة سليمان عليه السلام: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا…} وقوله تعالى عن الهدهد وسليمان: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} .(20/205)
وهذا يدل على أن لمخلوقات الله الأخرى لغات تتخاطب بها، ولكنها تختلف عن لغات البشر وأن لغة الإنسان مقرونة بالفكر في إصدار الأصوات وتلقيها ويحكمها العقل وينظم عملياتها ولا يجعلها أصواتا خالية من المعنى، والنظام هو الذي يمنحها الثراء والفاعلية والتعبير عن الأهداف السامية والذهنية المجردة، ويتطور أمرها بتطوير نضج الإنسان، ونضج عقله وترقي فكره، واللغة بهذا المعنى من خصائص الإنسان وحده دون سائر المخلوقات الأرضية الحية الأخرى، وما أعظم منة من الله على الإنسان حيث يقول: {لرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
إن للغة البشر مقدرة على الإبداع والإمتاع والابتكار، والمقاطع التي ننطقها هي تأثيرات صوتية طبيعية تستقبلها الآذان لكنها مرتبطة بأعضاء النطق فلا نستطيع أن نعرف حركات الأعضاء النطقية إذا صرفنا النظر عن التأثير الصوتي، والصوت - إذن- أداة للتفكر، وإن للغة في كل لحظة نظاما ثابتا وحركة متطورة، ولها في مجموعها أشكال كثيرة متضاربة لأنها في مجالاتها المتعددة: مادية وعضوية ونفسانية، وكما أن اللغة - بصفتها المذكورة - من خصائص الإنسان فإنها غاية منشودة في حياته الفردية والاجتماعية.
مكانة اللغة العربية:
إن اللغة العربية هي من أقدم اللغات وأغناها على الإطلاق، ولأسرار وحكم يعلمها خالق البشر والقوى، اختار هذه اللغة وعاء لكتابه الخالد، كما أشار إليه قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، (الشعراء: 192-193) ، وكانت اللغة العربية قد بلغت قبل البعثة المحمدية أوج كمالها في التعبير البليغ السامي عن جميع مقومات الحياة، وأوج مجدها في الفصاحة والنتاج الأدبي شعرا ونثرا، وظهرت روائع إنتاجها في الأشعار والأمثال والقصص.(20/206)
ومع نزول القرآن في هذه اللغة ارتفع شأنها وأصبحت اللغة السائدة في بلاد العرب والمسلمين، وإن للغة العربية فضلا كبيرا على نشر حضارة الفكر العربي الإسلامي، وتقدم العلوم والفنون والآداب المختلفة، ولأجل القرآن ظهرت علوم القرآن كلّها كما ظهرت علوم اللغة والنحو والصرف، والبلاغة التي كانت أساسا لتفسير نصوص القرآن وفهمها، ومن أجله أيضا ظهرت علوم منهجية مثل علوم التاريخ والأخبار والأسانيد وغيرها، كما تقدمت - تطبيقا لتعاليم القرآن - علوم كثيرة مثل الرحلات والجغرافيا والسير، واستحدثت علوم الطب والكيمياء والاجتماع وعلوم أخرى تابعة لدراسة القرآن، مثل التجويد والتلاوة إلى جانب علوم عديدة إسلامية.
ويتضح من هذا كله مدى طاقة اللغة العربية لما تمتاز به من قوة بيانها وأصالة ألفاظها وأصواتها وموسيقى كلماتها ووفرة معانيها، ولماّ كانت العلوم الإسلامية كلها تقوم على المبادئ القرآنية والسنة النبوية فيجب اغترافها من مناهلها الفياضة الأصلية ألا وهي نصوص القرآن والحديث النبوي فلا يتحقق هذا الهدف المنشود إلا عن طريق اللغة العربية التي هي وعاءهما الأصلي، وإذا رجعنا إلى نصوص القرآن وجدنا أن اللغة العربية هي مركز الانطلاق إلى حظيرة القرآن إذ جاء فيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} و {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .(20/207)
وإن دراسة القرآن والحديث تحتاج إلى اللغة العربية لما فيها من معان سامية ومفاهيم أصيلة، وإذا قدمت معاني القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية مترجمة إلى اللغات الأجنبية فتعوزها روح الأصالة وروعة النصوص التي ينوط بها إعجاز القرآن وكذلك غزارة المعاني التي تمتاز بها اللغة العربية، ومن ماحية أخرى إن نشر اللغة العربية بين الشعوب الإسلامية في مقدمة الوسائل الفعالة التى تساعد على إيجاد التقارب الفكري بين الأمة الإسلامية لأنها تحمل في طياتها القيم الروحية التي يمنحها الإسلام لكل مسلم كما تكمن فيها روح الألفة والمودة والأخوة التي تربط بين قلوب المسلمين برباط وثيق، ومنح الله سبحانه وتعالى للمسلمين هذه اللغة لتحقيق التفاهم والترابط بينهم في أنحاء الأرض، بحيث يسعى كل مسلم لأن يقرأها ويفهمها بل ويتحدث بها، وإنها أيضا الوسيلة الأولى لنشر الدعوة الإسلامية.
ومن هنا يمكن أن نقول إن اللغة العربية تربط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها برباط فكري ولفظي، لأن القرآن ليس مجرد مبادئ وتعاليم منعزلة عن الظاهر اللفظي وأن إعجاز القرآن منوط باللغة العربية، وإن اللغة العربية بطاقتها وتراثها لجديرة بأن تكون وسيلة للتفاهم بين الشعوب المسلمة في كل مكان وعونا على المحافظة على الوحدة الفكرية والمظهرية بين أفرادها وجماعاتها، وأن الوحدة الفكرية بين المسلمين تعلب دورا هاما في هذه المرحلة الحرجة الخطيرة التي يمر بها العالم العربي والإسلامي.
ويمكن تلخيص أهمية نشر اللغة العربية في البلدان الآسيوية والأفريقية والأوربية والأمريكية في النقاط التالية:(20/208)
1- إن هناك خطة خفية لنشر الفرقة بين المسلمين بالانتزاع من أيديهم حبل اللغة العربية الذي يعتصمون به جميعا، فحينئذ يسهل تشويه تعاليم الإسلام بين من لا يعرفون اللغة العربية، عن طريق كتب ومنشورات ومطبوعات عن الإسلام بغير اللغة العربية يراد بها القضاء على الإسلام معنويا بتشويه تعاليمه وبثّ السموم الفكرية بين أتباعه.
2- إن اللغة العربية تعلب دورا هاما وفعالا في مواجهة التحديات المعاصرة لأن انتشارها بين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم يساعدهم على تفهم دينهم والتمسك بطاقتهم الروحية.
3- إنها تساعدهم على استعمالها في التفاهم المتبادل فيما بينهم حتى يتيسر إيجاد تجاوب مشترك يمكنهم من مقاومة التخريب الفكري الذي تمارسه الجهات المغرضة لتشويه تعاليم الإسلام الحقة وتقطيع ذلك الرباط الذي يربط بين أبناء الأمة الإسلامية برباط فكري وروحي.
4- إن اللغة العربية هي وعاء القرآن الكريم ومركز الانطلاق إلى حظيرة القرآن والمنبع الأصلي للعلوم الإسلامية كلها كما أنها تساعد على توطيد ركن التعارف وتوثيق عرى التفاهم بين أبناء العالم العربي الناهض وبين أبناء البلدان الإسلامية غير الناطقة بها.
وجوب اختيار اللغة الفصحى في التعليم:
يجب اختيار اللغة الفصحى منطلقا لتعليم العربية لغير العرب لعدة أسباب علمية وعملية ومنهجية، وفيما يلي مجموعة من هذه الأسباب.(20/209)
أولا: إن العامية تختلف من بلد إلى بلد بل ومن منطقة إلى منطقة في كل قطر عربي، وإنما هي صورة أو صور من الكلام تحمل في ثناياها فوارق عديدة واختلافات شتى، سواء في الحروف أو النطق أو التراكيب الكلامية بحيث تخلو من خاصة الوحدة اللغوية التي تمثل العرب من حيث المجموع كأمة واحدة، ومن هنا تعجز هذه العاميات عن سدّ حاجات المتعلمين الأجانب في الإطار العربي العام، وتظهر هذه النتيجة واضحة حينما ينتقل المتعلم الأجنبي من بلد عربي إلى آخر بل ومن منطقة إلى أخرى في دولة عربية واحدة.
وثانيا: إن الفصحى هي التي تلبي أغراض المتعلمين الأجانب وتوفي بحاجاتهم على المدى البعيد والنطاق الواسع بحيث لا يصعب عليهم الاستماع إلى أي عربي وفي أي بلد والتفاهم معه في صورة موحدة أو شبه موحدة، ولا يتعبون في فهم العاميات المختلفة ذات السمات المحلية الخاصة ببلد عربي دون آخر، وأما الفروق الصوتية والاختلافات في نطق بعض الحروف فيستطيع المتعلم الأجنبي المتمكن في اللغة العربية الفصحى العامة أن يدرك تلك الفروق بمجرد أن يستمع إلى الكلمة أو الجملة منطوقة في إطار القواعد العامة، وأما العاميات فيحتاج الدارسون الأجانب لفهمها إلى أن يتعرفوا على المفردات والتراكيب المختلفة مع تحديد بيئة وبلد كل منها.(20/210)
وثالثا: إن اختيار العامية أو اللهجات المختلفة لتعليم العربية لغير الناطقين بها يضعنا أمام مشكلة كبرى عملية، إذ إن العاميات واللهجات ذات صور متعددة في الوطن العربي كإطار عام، فأي عامية أو لهجة نختارها للتعليم العام؟ فمثلا: هل العامية المصرية؟ أو الجزائرية؟ أو العراقية؟ وما إلى ذلك، وهذه التساؤلات تدل على صعوبة أو استحالة هذه المهمة، ولو اخترنا نظام تقديم بعض اللهجات العامية إلى جانب الفصحى أو الفصحى لمجموعة والعامية لأخرى فإن المنهج يؤدي إلى اضطراب في العملية التعليمية، وعرقلة لاستمرار الوحدة المنهجية للتعليم في مراحله المختلفة، ولو اخترنا عامية لسبب من الأسباب أو نظرا لظروف خاصة لمجموعة من المتعلمين فتكون فائدتها مقصورة على فترات زمنية محدودة وعلى بيئات عربية ضيقة وعلى حالات معينة، ولا يحقق هدفهم العام بعيد المدى من تعلم اللغة العربية.
ورابعا: عرفنا أن اللغة العربية الفصحى هي الوعاء الحقيقي للقرآن والسنة والعلوم الإسلامية، فإن الدارسين للغة العربية من أجل فهم القرآن والعلوم الإسلامية ليواجهون مشكلات أساسية كبرى وعديدة لو قدمنا إليهم اللهجات العامية أو الخليط منها ومن الفصحى، وجدير بالذكر أن الفصحى مازالت - ولا تزال - منهل العلوم والفنون والآداب على رغم الجهود الفاشلة لبعض الأشخاص المغرضين أو الجهات المغرضة لنشر العامية كتابة وقراءة، والواقع أن اللغة العربية الفصحى ما تزال - بفضل القرآن الكريم والعلوم الإسلامية والأدب العربي والإسلامي الرائع المدون في أمهات الكتب باللغة الفصحى القديمة والمعاصرة تنتظم مجموعة الأساسية للغة العربية فجميع قواعدها ثابتة ومحدودة بحيث يسهل فهمها وتناولها والتعايش مع التدريبات اللغوية وفقا لقواعد الإعراب وقوانين نظم الكلام وأحكام الصياغة والتصريف وغيرها.(20/211)
وخامسا: إن في اختيار الفصحى منطلقا لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها خدمة عظيمة للإسلام والمسلمين فإن الفصحى هي دعامة كبرى لوحدة الكيان العالم العربي والإسلامي وفيه أيضا خدمة لمقوماته الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وإن اختيار الفصحى في جميع مراحل التعليم فيه إنصاف لواقع العالم العربي الذي ينتظم تحت إطار واحد من العقيدة والدين واللغة والثقافة والتاريخ والموقع الجغرافي والمصير بصفة عامة، وإن في تقديم العامية في التعليم أو العمل لنشرها مجانبة للصواب ومخالفة للواقع المحسوس، وأضف إلى ذلك أن اللغة العربية الفصحى إنما هي همزة الوصل ونقطة الالتقاء بين أبناء العالم العربي وبين مئات الملايين من المسلمين في البلدان غير العربية بصفة كونها لغة القرآن ولغة العبادات ولغة العلوم الإسلامية.
طريقة اختيار الفصحى ونوعيتها:
وخلاصة ما تقدم وجوب الإصرار على تعليم اللغة العربية الفصحى لغير الناطقين بها بهدف الوصول إلى صيغة لغوية موحدة وعامة في الإطار العربي العام بحيث تنتظم الخواص العربية الأصلية المشتركة وتخلو بقدر الإمكان من الاختلافات المحلية الخاصة ببلد عربي دون الآخر سواء في المنطق أو اللهجات أو المفردات أو التراكيب ذات السمات المحلية.(20/212)
ومن المعروف أن اللغة الفصحى أيضا في جميع لغات العالم، ذات أنماط وأشكال متنوعة من الأساليب وصور التعبير، باختلاف العوامل والظروف المحيطة بها من بعد الفترة الزمنية وأسباب النموّ والتطور، ومن هنا يقال: بتجاوز في التعبير، أن هناك نوعين من الفصحى: أما أولهما فالفصحى الكلاسيكية أي القديمة مثل فصحى العصر الجاهلي وما بعده التي فقدت الممارسة العملية لها أو قلّ استخدامها في مجالات الحياة اليومية، وأما ثانيهما فالفصحى المعاصرة التي تعيش في مجالات الحياة عن طريق الاستعمال الواقعي بصورة أو أخرى، وكلما بعدت الفترة الزمنية قلّت الممارسة العصرية كانت النتيجة جفوة بين اللغة وأهلها وتتفاوت درجات السهولة والصعوبة في فهمها واستخدامها اليومي.
ومن ثم ينبغي أن نضع في الاعتبار مجموعة من المبادئ العامة عند اختيار مادة اللغة الفصحى العربية لتعليمها، سواء لغير العرب أو العرب أنفسهم:
أ – يجب اختيار فصحى العصر لتعليم العربية لغير أهلها، إذ هي الصيغة الأسهل تناولا والأقرب منالا بحكم قربها الزمني ومعايشتها لمجالات الحياة اليومية، وجدير بالذكر أن هذه الفصحى ما تزال تنطوي على جميع الخواص الأساسية للغة العربية، بفضل القرآن الكريم، ويقال في هذا المجال، إن العرب يختلفون فيما بينهم، بنوع ما، في نطق الفصحى العصرية وفي بعض تراكيبها وصيغها، ويمكن الرد عليه بأن هذا أمر يمكن تناوله تناولا علميا وموضوعيا يصل بنا في النهاية إلى خطوط عريضة للغة مشتركة صالحة للتطبيق في العملية التعليمية على المستوى العربي العام، وإن اختيار مثل هذا المنهج ليكون أيضا عونا كبيرا على توحيد أو تقريب بين هذه الصور المتعددة كما أن فيه خدمة للقضاء على سطوة اللهجات العامية.(20/213)
ويتحقق هذا الهدف المنشود بالالتجاء إلى الظواهر الصوتية التي يغلب استعمالها في الوطن العربي في عمومه مع مراعاة ما قرره الأقدمون من علماء اللغة في هذا المجال، وكذلك يجب استخدام المفردات والتراكيب العامة التي يشيع استعمالها لدى العرب بصفة عامة، عند وضع المواد المقررة في جميع المراحل وخاصة في المرحلة الأولى.
ب - اتخاذ طريق متدرج الخطوات، ويبدأ بالعبارات والأساليب التي تقرّب من لغة الحياة اليومية، والتي يشيع استعمالها في شتى مجالات الاجتماعية، ونتيجة في اختيار المواد المقررة والنصوص المطلوبة نحو لغة الأدب الحديث الجيد، ولغة وسائل الإعلام المعروفة مثل مفردات وأساليب نشرات الأخبار والأحاديث في الإذاعة والتلفزيون والصحف المعتد بها، وإن اللغة الفصحى اليوم لغة مكتوبة في أغلب أحوالها، ويمكن أن تتخذ هذه اللغة المكتوبة ذاتها أساسا عند اختيار المواد المقررة في مختلف المراحل التعليمية، ولا ينبغي أن نهمل فصحى العصور القديمة، وخاصة الزاهرة منها في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، وهكذا يستطيع الدارسون الإلمام بصورة متكاملة للغة العربية في عصورها المختلفة وفقا لمنهج دراسي متطور حسب الأهداف والفرات المحددة لكل دورة تدريبية أو مرحلة تعليمية.
ينبغي أن تكون المواد المختارة ذات تنوع في المعاني وأغراض التعبير، بحيث تصور الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك يجب أن توزع قواعد اللغة الصرفية والنحوية وغيرها توزيعا عادلا مناسبا لكل مستوى ومرحلة، وبالنسبة إلى التدريبات الصوتية يمكن أن توضح الصور النطقية الصحيحة في تسجيلات صوتية تتخذ نموذجا يحتذى به، ويلاحظ في اختيار الصور الصوتية أن تكون المفردات والتراكيب مستعملة في أغلب البلدان العربية ومشتركة فيما بينها في الوقت الحاضر حتى تكون هذه المواد نموذجية ومعيارية وعصرية.(20/214)
د - في ضوء هذه المبادئ الأساسية نختار بعض الآيات القرآنية التي تمدّ المتعلم بأفكار نافعة وثورة لغوية مفيدة، وكذلك بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تعدّ أيضا مصدرا غنيا في هذا الشأن.
ثم نورد أمثلة من أعمال المفكرين والكتاب والشعراء المعاصرين والقدامى من عصور العربية الزاهرة، وكل هذا وذاك حسب حاجات المتعلمين أو تخصصاتهم ومستوياتهم المختلفة، ومن المعروف أن هذا المنهج يكون مقصورا على دورات تعليمية متخصصة فتكون المادة المختارة في مجموعها على الأساليب العلمية المتخصصة بهذا الفرع أو ذاك.
ويمكن أن نطلق عليها (الدورات التدريبية التخصصية) ، وهي تختلف تماما في المادة والهدف عن النهج العام لهذه النوعية من التعليم، ولا ضير في هذه الحالة أن تكون المادة المختارة في مجموعها مقصورة على الأساليب العلمية المتخصصة، مع إمكانية الاسترشاد بالمبادئ العامة لتعليم العربية لغير الناطقين بها.
هـ- الاهتمام بتعليم أصوات اللغة العربية؛ إذ إن الأصوات هي اللبنات الأولى للبناء اللغوي من المفردات والجمل والتراكيب والأساليب التي تشكل أية لغة في مجموعها، وإن المتعلم الأجنبي لا يستطيع أن يستوعب ما يتعلم ويجيد نطقه بدون تعلم الأصوات، إما من قواعد أصوات الفصحى بصورها المختلفة فإنها مسجلة في كتب المحدثين والأقدمين جميعا، ويتحتم علينا لأدائها العملي أن نلجأ إلى صورة مشتركة من النطق تمثل الخواص الصوتية للعربية الفصحى تمثيلا صادق، ولتحقيق هذا الهدف نستطيع مراجعة المجيدين من قراء القران الكريم والاستعانة من بالمتخصصين في اللغة العربية الفصحى بالنطق والأداء النموذجي.(20/215)
ويجب أن نراعي في هذا المجال كلّ الجوانب الصوتية للغة، بحيث يعمل نطق الأصوات للمفردات والجمل والعبارات فكما أن لأصوات المفردات حدودا من الصحة والأداء فهناك حدود معينة لكل ما يتألف منها من جمل وتراكيب أو صيغ منها من وحدات لغوية وكما ينبغي مراعاة قواعد النطق والنبرات في الأداء الصحيح للكلمات، يجب الاهتمام بالإدغام وتوزيع الفواصل والوقفات ودرجات المدّ والشدّ وما إلى ذلك من القواعد المطردة في الجمل والعبارات، ومن المعروف أن طريقة أداء الكلام أو إلقائه في صورة معينة منسقة هي التي تكشف عن معانيه ومقاصده الحقيقية، وبعبارة أخرى أن معاني الجمل والعبارات تظهر وتتحدد بأدائها أداء موسيقيا أو تنغيميا معينا حسب خواص التركيب اللغوي وتوجيه مقامات الكلام وظروفه المختلفة.
و تحديد نوعية قواعد النحو والصرف التي تقدم إلى هؤلاء المتعلمين، ويجب أن يكون ما يقدم مناسبا لمستويات الطلاب أو أهدافهم من تعلم اللغة، ونتفادى مجاراة نهج الأقدمين في تقديم مجموعات من القواعد بقطع النظر عن التدريبات العملية التي يقوم بها المتعلم بكل ما يتلقاه من القواعد قراءة وكتابة وتمرينا، وأول مبدء لاختيار القواعد النحوية والصرفية لهؤلاء الدارسين هو الإدراك بأن تعليم القواعد النحوية هو وسيلة لا غاية في ذاته أي أنه وسيلة لاكتساب عملية فهم المسموع والمقرؤ وإفهام الآخرين ونقل الأفكار إليهم بالتعبير الشفوي والتعبير الكتابي.(20/216)
فينبغي اختيار تلك القواعد التي تساعد الطلاب على هذا القدر من الفهم والتعبير بسهولة ويسر، ونستبعد بقدر الإمكان من قواعد الصرف، مثلا: مسائل الإعلال بالنقل والقلب والحذف ومسائل التقدير والافتراض والتأويل وما شابه ذلك من الأمثلة الجدلية والقواعد الشاذة، ويمكن أن يقدم مثل هذه المسائل العويصة في المراحل المتخصصة أو المتقدمة فليس من الضروري الانسياق وراءها في المراحل الأولى لتعليم الدارسين غير الناطقين باللغة العربية.
وبالنسبة إلى قواعد النحو فيكفي تقديم قواعد تركيب الكلام من تقديم وتأخير وتنسيق مفردات الجملة بعضها ببعض، وقواعد التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع والتعريف والتنكير، وكذلك علامات الإعراب الأصلية والفرعية، ويجب أن نلاحظ في تقديم قواعد النحو أن لا تكون منحصرة في الإعراب فقط لأن أهمية التدريب في الكلام ونظمه لا تقل عن أهمية الإعراب، وإن الاهتمام المبالغ فيه هو الذي يؤدي إلى الدخول في المسائل النحوية المعقدة كمسائل التقدير والافتراض وحشد الأمثلة الشاذة، الأمر الذي يعقد العملية التعليمية للدارسين المبتدئين.
وأما الأبواب الشائعة ولكنها معقدة إلى حد ما مثل أبواب التحذير والإغراء والندبة والتعجب وغيرها فيمكن أن تقدم أمثلتها على أساس أنها أساليب عربية تستعمل في الظروف والمناسبات الخاصة، دون الدخول في تفاصيل التحليل الإعرابي والتحليل اللغوي، ومن الضروري كذلك أن نضع في الاعتبار عند اختيار مادة القواعد أن نقدم قواعد الصرف مستقلة عن قواعد النحو، فالصرف هو جزء لا يتجزّأ للنحو بل هو الذي يمهد له الطريق، ولا تظهر قيمة أمثلة الصرف إذا أخذت منعزلة عن قواعد التركيب النحوي، ولهذا يجب الاهتمام بتقديم قواعد النحو والصرف وأمثلتهما معا، مع مراعاة مستويات الطلاب وأهدافهم من تعلّم هذه اللغة من حيث النوعية والكيفية المذكورتين.(20/217)
مراعاة أهداف المتعلمين ومستوياتهم الثقافية:
لا بد أن نأخذ في الاعتبار عند وضع منهج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها واختيار المواد المطلوبة ونوعيتها، أهداف هؤلاء المتعلمين وأغراضهم من تعلم هذه اللغة وكذلك المستويات الثقافية لهم، وأن نوعية اللغة التي تقدم لهم وحدودها وخواصها وصيغها ومفرداتها وتراكيبها يجب أن تكون ملائمة لأوضاعهم الثقافية ومحققة لأهدافهم من تعلمها.
أما فيما يتعلق بالأغراض التي من أجلها يتعلم الدارسون الأجانب اللغة العربية فمنهم من يتعلم العربية لأهداف علمية وثقافية أو لأغراض تجارية واقتصادية أو سياسية أو لأجل مجرد التحدث مع أصحاب هذه اللغة في المعاملات اليومية، ويقبل البعض على تعلمها لفهم القرآن والعلوم الإسلامية، وهذا التنوع في أغراض الدارسين يتطلب تنوع الصيغة اللغوية التي تقدم إليهم لتلبية حاجات كل فريق حسب مقاصدهم التي من أجلها يدرسونها.
ويأتي بعد ذلك اختلاف المستويات الثقافية بين المتعلمين الأجانب، وأن هؤلاء المتعلمين يكونون ذوي ثقافات متفاوتة وأنماط متباينة من التربية البيئية والسلوك الاجتماعي، فليس من المقبول تربويا وعمليا أن تقدم لهؤلاء الدارسين المنتمين إلى بيئات متعددة وأوضاع ثقافية متفاوتة، مادة موحدة وبدرجة واحدة، وإن هذا النهج يحدث الخلط والاضطراب في التدريس، وربما يفوت فرص الفهم للمادة والتشوق لهذا الفريق أو ذاك لاستيعاب الدروس.(20/218)
وهنا تنشأ أيضا مشكلة أخرى هامة وهي اختلاف اللغات القومية بين هؤلاء المتعلمين، وقد ثبت من التجارب أن الطلاب يختلفون فيما بينهم في درجة الفهم والتحصيل للغة العربية باختلاف لغاتهم القومية، فإن طالبا مسلما من الهند أو باكستان أو بنجلادش أو من تشاد أو من جزر القمر ونحوها من البلدان التي قد تأثرت لغاتها المحلية باللغة العربية، حيث أن هذا الطالب له نوع من الإلمام ببعض الكلمات العربية أو المصطلحات الإسلامية كما أنه عادة يحفظ بعض السور من القرآن الكريم أو أدعية الصلوات وغيرها، فلا ينبغي أن يوضع هو في عداد الطلاب الذين يأتون من البلاد الأوربية أو الأمريكية بدون أن يكون لهم أدنى إلمام باللغة العربية أو حروفها الهجائية وخاصة بنطقها ومخارجها الصحيحة.
وقد سمعت رأيين من قبل بعض رجال التربية والعلماء المتخصصين في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وفي معالجة هذه المشكلة أي مشكلة اختلاف المستويات والأهداف واللغات القومية، فيرى البعض: وجوب العمل للتوفيق بين هذه الاعتبارات المختلفة إجمالا أي بتقديم مجموعة من المواد المختلطة من الفصحى والعامية والمصطلحات التجارية والعلمية والسياسية والتدريبات اللغوية المشتملة على القواعد الأساسية لأصوات اللغة ونحوها وصرفها وبلاغتها، وهذه هي الطريقة الممكنة للجمع بين هذه الحالات المختلفة والأوضاع المتفاوتة.(20/219)
ويرى البعض الآخر: أن هذا المنهج يؤدي إلى الاضطراب في العملية التعليمية، وربما يصلح في حالة دورات تدريبية قصيرة ذات هدف محدد من تعليم هذه اللغة لمجموعة من الدارسين، أما التعليم بصورة علمية ومنظمة لمدة طويلة فينبغي أن يكون على أساس خطة مدروسة طويلة المدى، ولهذا اقترحوا توزيع الطلاب على فصول الدراسة بحسب أوضاعهم الثقافية ولغاتهم القومية مع مراعاة مدى ملاءمة المادة المختارة لهذه الأوضاع وكذلك لمقاصد هؤلاء وأولئك، وإن كانت هذه الطريقة تبدو صعبة في أول وهلة فإنها هي الطريقة المثلى لتفادي محظور الخلط والاضطراب، وتحقيق التقدم في تعليم العربية لغير الناطقين بها بصورة أسهل وأنفع.
التخطيط المنهجي لتدريس المواد المقررة.
تطرقنا فيما سبق إلى ضرورة اختيار الفصحى منطلقا لتعليم العربية لغير الناطقين بها لعدة أسباب علمية وعملية ثم تكلمنا عن حقيقة تفاوت المستويات الثقافية لهؤلاء المتعلمين وكذلك اختلاف أهدافهم وأغراضهم من تعلم العربية وأشرنا أيضا إلى أهمية التنبيه إلى أمر اختلاف اللغات القومية بين المتعلمين الأجانب ودور هذا الاختلاف في دفع عجلة تعليم اللغة إلى الأمام، وفيما يلي مجموعة من الأفكار العامة لوضع خطة منهجية لتعليم العربية غير الناطقين بها بحيث تلبي أغراض المتعلمين وتفي بحاجاتهم كما تخدم اللغة العربية على المدى البعيد:
أ- الطريقة المباشرة:(20/220)
إن عامل الاحتفاظ بعربية جوّ الدروس في الفصول أو قاعات التعليم من أهم العوامل التي تساعد الطلاب الأجانب على معايشة جو اللغة العربية والتأثر بخواص هذه اللغة نطقا واستعمالا في أرضية واقعية، ولهذا يجب أن تكون الطريقة التي يقوم عليها تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها هي الطريقة المباشرة بأن تكون لغة التخاطب والتعليم بين المدرس والطالب في قاعات الدروس هي اللغة العربية فقط دون الالتجاء إلى الترجمة أو استخدام اللغات الأجنبية.
وتظهر قيمة هذه الطريقة ماثلة أمام أعيننا لأنه كلما نطبق نظام الطريقة المباشرة تكون النتيجة اعتماد الطالب الأجنبي في الفهم والمناقشة مع المدرس على اللغة العربية نفسها فيستذكر الكلمات المحفوظة في ذاكرته ويدرب نفسه على التقاط النطق والأصوات اللغوية الصحيحة مباشرة من فم المدرس، وبهذه الطريقة سيصبح الطالب الأجنبي الذي تعودّ لسانه على لغات أخرى أكثر تأثرا وأشد اتصالا بخواص اللغة العربية، وتتاح له الفرصة لاستخدامها مع العرب بنبرات واضحة ونطق صحيح.
وجدير بالذكر أن الطريقة المباشرة هي النظرية التربوية المعروفة لدى خبراء تعليم اللغات في العصر الحديث والمتبع في معاهد اللغات ومعاملها في الدول الأخرى، وإذا اضطر المدرس إلى ترجمة كلمة أو مصطلح أو نحو ذلك في مادة أو أخرى فعليه أن يختصر على قدر الضرورة وبنطاق ضيق فقط ثم يعود فورا، بمجرد انقضاء هذه الضرورة إلى اللغة العربية في المخاطبة، ولا يخفى ما لهذه الطريقة من أثر فى إيلاف الطلاب الأجانب الجو العربي أثناء الدروس.
ب- أسلوب التدريبات اللغوية:
إن التدريبات اللغوية هي الهدف الأول والأساسي في تخطيط منهج تعليم العربية لغير الناطقين بها، ومن ثم فلا بد أن يلتزم منهج تدريس هذه المادة لهؤلاء الطلاب بالطرق التالية:(20/221)
الأولى: البدء بالتدريب على نطق الكلمات الواردة في المادة المقررة ويليه فهم المعاني، هذا قبل قيام الطلاب بقراءتها وكتابتها، لأن الطالب الأجنبي لو تدرب على نطق الكلمات المطلوبة فتسهل عليه قراءتها ثم كتابتها، والطريقة لهذا التدريب أن يطلب المدرس من الطلاب الإصغاء إليه جيدا ثم ينطق كل واحد بوضوح بالكلمة التي نطقها المدرس، وبعد أن درج الطلاب على قدر كاف وصحيح من نطقها يحاول المدرس إفهامهم معنى تلك الكلمة بأية وسيلة مناسبة بالإشارة أو الصورة أو الرسم وأخيرا بالترجمة ولا ينبغي أن تستعمل الترجمة إلا كآخر محاولة لتحقيق هذا الغرض.
والثانية: العمل لزيادة حصيلة الطالب من المواد اللغوية من المفردات والجمل يوما فيوما، بحيث تكون تلك الحصيلة متدرجة في الألفاظ والمعاني، سواء في الكم أو الكيف، بمعنى ضرورة البدء بجمل قصيرة ثم الطويلة وكذلك ذات المعاني المتداولة سهلة المنال ثم المعاني العميقة التي لا تستعمل إلا في حالات وظروف خاصة، ومثال ذلك: يجب أن يكون الدرس المقرر يشتمل على أسماء وأفعال معروفة وشائعة في الاستعمال اليومي مثل: ((قال)) و ((ذهب)) و ((قرأ)) و ((كتب)) ، ويستبعد في البداية تلك الأفعال صعبة النطق ونادرة الاستعمال مثل: ((صعق)) و ((نعق)) و ((احدودب)) و ((تقهقر)) ونحوها، وكذلك أن يكون الدرس مشتملا على جمل متدرجة في قصرها وطولها وسهولتها وصعوبتها، فمثلا: تقدم أولا عبارات مستعملة في المعاملات اليومية للإنسان بحيث تتناول المحادثات اليومية عن الأكل والشرب أو اللعب أو الدرس وما إلى ذلك، وليس عن المسائل السياسية أو الاقتصادية أو الرحلات الطويلة، ويقدم ما يحتاج إليه في هذه المجالات في المراحل المتقدمة قليلا وبحسب فترات التدريب وتخصصات الطلاب.(20/222)
والثالثة: بعد الخطوات المذكورة يأتي دور التدريب على الأسئلة والأجوبة باللغة العربية بين المدرس والطلاب تارة وبين الطلاب فيما بينهم تارة أخرى، وهذا بهدف تقويم لسان الطالب على نطق الأصوات ومقاطع الجمل وعلى تكوين المهارات فيهم على استخدام تلك الكلمات والعبارات التي تعلّموها في التعامل الفعلي بدون خجل ولا خوف ولا صعوبة، وهذه الطريقة تساعد أيضا على ترسيخ ما درسه الطالب من الجمل والعبارات في أذهانهم كما أنها تحقق الهدف الرئيسي من تعلّم هذه اللغة أي التدريب على التحدث بها وفهم أساليب استخدام اللغة العربية في مجالات الحياة المتنوعة.
وفي هذا المجال يجب على المدرس أن يكرر هذه العملية بعد كل درس جديد إلى أن يأنس في الطلاب القدرة على استيعاب ما درسوا، فهما واستعمالا، ويوجه أولا أسئلة لكل طالب ليجيب عليه وكذلك يمكن أن يطلب أن يوجه بعضهم أسئلة إلى زميله فيجيب عليه سواء أكانت الأسئلة مدرجة في الدروس المقررة أو مستنبطة من أصول الدروس وقواعدها، وفي كلتا الحالتين ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن هذه الطريقة تعتمد أساسا على عنصر اكتساب الطالب التراكيب وأساليب المحادثات باللغة العربية.
والرابعة: يراعى في تدريس مادة التدريبات اللغوية إفهام الطلاب الأجانب ما للغة العربية من خصائص تمتاز بها عن اللغات الأخرى ليكون هؤلاء الطلاب على إدراك وبينة لطبيعة العربية حتى تزول من أذهانهم محاولة قياس نظام وقواعد اللغة العربية على اللغات التي تعودوا عليها، ويقبلون على تعلم اللغة العربية بفكرة مستقلة واضحة، ومن هذه الخصائص:(20/223)
موضع ((الفاعل)) من الفعل و ((الصفة)) من الموصوف، فبينما يقدم الموصوف على الصفة في العربية فيؤخر في الإنجليزية مثلا، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفاعل ففي الإنجليزية يقدم الفاعل على صيغة الفعل عكس النظام العربي المعروف، ويجب أيضا تنبيه هؤلاء الطلاب إلى حقيقة بعض الحروف الهجائية باللغة العربية والتي لا يوجد لها مثيل في أية لغة في العالم في النطق والمخارج مثل: الضاد والعين والخاء والصاد والطاء والقاف.
جـ- طريقة القراءة والكتابة:
إذا كان إفهام الطلاب الأجانب خصائص اللغة العربية يؤدي إلى تدريبهم على النطق الصحيح والتركيب اللغوي الذي تمتاز به العربية عن اللغات الأخرى فإن تعليمهم القراءة العر بية يأتي في المقام الأول ويليها تعليمهم الكتابة العربية. ويجب أن تكون مادة القاءة التي يتدربون عليها من بين الجمل والعبارات التي درسوها فعلا أثناء التدريبات اللغوية من المحادثات أو الأسئلة والأجوبة على أن تكون تلك الجمل قصيرة والكلمات سهلة النطق وفهم معانيها. وأما في مجال تلك المادة فلابد من مراعاة نظام التدرج فمثلا: تبدأ القراءة بالجمل القصيرة فعبارات موجزة من بعض النصوص.(20/224)
وبعد اختيار المادة المناسبة يطلب المدرس من الطلاب واحدا فواحدا، أن يقرأها بصوت عال وبنطق صحيح، ويقوم المدرس بتصحيح أخطاء القراءة فورا بدون أن ينتظر انتهاء الطالب من قراءته للعبارة أو الفقرة كلها، وإذا وجد نص مادة القراءة المطلوبة صعبة النطق يقرأ بنفسه أولا ثم يطلب من الطلاب أن يرددوها مرات لكي تتعود ألسنتهم على ذلك، والبساطة والإيجازفي الكلمات والعبارات أمران ضروريان في تدريب الطلاب الأجانب في المرحلة الأولى من التدريبات اللغوية، ويستحسن تدريبهم على القراءة من العبارات التي لهم إلمام بمعانيها وموضوعاتها بحكم ثقافتهم العامة أو مستواهم العلمي أو وضعهم الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، إذا كان معظم الطلاب في ذلك الفصل من المسلمين من بلاد غير عربية ولهم خلفية إسلامية يستحسن أن تشمل مادة القراءة التي تقدم إليهم على موضوعات عن أركان الإسلام والعبادات وسيرة الرسول والتاريخ الإسلامي وما شابه ذلك، ويمكن أن تكون فيما بعد مدخلا لهم إلى العلوم الإسلامية في المراحل المتقدمة، وإذا وجد المدرس مستوى طلابه غير ذلك فعليه أن يختار لهم عبارات في موضوعات عامة اجتماعية وأخلاقية وسياسية وغيرها.
وعلى المدرس أن يوجه إليهم عقب انتهائهم من القراءة المطلوبة أسئلة تعين على فهم المعاني والأفكار التي انطوت عليها المادة المقروءة، كما أن هذه الطريقة تنمي فيهم قدرة الحوار والنقاش في اللغة العربية، ويجب على المدرس كذلك أن يأخذ في اعتباره زيادة حصيلة الطلاب من التراكيب والعبارات العربية يوما فيوما بمعنى أن يكون ما يقدم إليهم من المواد متجددة ومتدرجة في الشكل والمضمون.(20/225)
إن الكتابة العربية - في الحقيقة والواقع - أقصر كتابة، وأن اختصار الكتابة العربية واقع ملموس لكل ناظر. وذلك عند الموازنة بين الكلمات المعجمية والنصوص المحددة في اللغات الأجنبية ونظائرها في اللغة العربية، وأن الموازنة الصحيحة تثبت أن الكتابة العربية تتطلب مساحة أقل من تتطلبه الكتابات الأجنبية في مختلف اللغات، وجدير بالذكر أن الكتابة العربية تقتضي اختصار الحروف المفردة عند استخدامها في الكلمة، فالحروف في حال اتصالها في الكلمة الواحدة تختزل بمقدار نصفها أو أقل أحيانا، وأن كتابة هذه الحروف متراكبة تتيح لحجم الكلمة مزيدا من الاختصار في المساحة، هذا إلى جانب كون الحروف العربية عادة أقل من حجم الحروف الأجنبية.
والحقيقة الأخرى التي يجب أن ترسخ في أذهان الطلاب هي أن الكتابة العربية العامة لا تقتضي كتابة نتمناعلامات الإعراب - أي التشكيل - على عكس الكتابة في اللغات لأجنبية، والنتيجة الحتمية لهذا النظام أن كمية الحروف في أي كلمة عربية تعتبر بمقدار نصفها إذا روعي تعداد علامات الحركات للحروف في كلمة أجنبية، وفي حالة وضع علامات الحركات - في بعض الحالات – فإنما توضع فوق الحروف وتحتها، وبذلك لا تشغل من المساحة شيئا يذكر.(20/226)
وإذا نظرنا إلى تنوع الكتابة العربية وتطوراتها، فنرى أن الكتابة العربية قد احتفظت برسومها الجوهرية منذ عصورها الأولى، وأما الذي حدث فهو تصرف وتنوع في تكوين نفس الحروف الأساسية، من تشابك وتدامج وما إلى ذلك من التنميق والتجميل وغيرهما، ومسايرة لهذا التطوير قد نشأت أنماط عديدة للخط العربي مثل: النسخي والرقعي والثلثي والفارسي والكوفي والديواني وغيره، ولكل منها معالمه المميزة كما له استخدامه الخاص، وهكذا دخل في المكتبة العربية الجمال الفني والتفنن في النماذج الخطية، ونتج عن ذلك الاحتفاظ بنماذج زخرفية لتزيين الجدران والحجرات وانتقال عناصر من الحضارة العربية الإسلامية إلى الدول الأخرى عن طريق النقوش والزخارف العربية المعروفة بالإبداع الجمالي والإمتاع الفني.
وأما هدفنا الأساسي في هذه المرحلة فهو تهيئة أذهان الطلاب الأجانب للتدريب على كتابة اللغة العربية بيسر وسهولة حسب قواعد العربية وأوضاعها نحوا وصرفا واشتقاقا وفيما يلي بعض القواعد الأساسية لتدريب هؤلاء الطلاب على رسم الخط العربي في المراحل الأولى:
1 – تعويد الطالب على كتابة الجمل والعبارات العربية بخط ((النسخ)) وبحروف كبيرة بدون تشكيل - إلا للضرورة - فإن التشكيل يضاعف وقت الكتابة ويشغل فكر الطالب بعلامات الضبط وتحري وضعها، وأن إلزام الطالب بالشكل في الكتابة يؤدي في المستقبل إلى الاضطراب والخوف في قراءة مكتوبات غير مشكولة.(20/227)
2 – إن الكتابة العربية منضبطة بغير ضابط من التشكيل ـ فمثلا: إن ((اسم الفاعل)) و ((اسم المفعول)) وغيرهما من الصيغ الاشتقاقية والقياسية لها ضوابط شكلية معروفة فلا بد من تعويد الطلاب على معرفتها من الكتابة نفسها دون الالتجاء إلى مساعدة الشكل، وكذلك حروف المد: الواو والألف والياء، فإن كلا منها يدل على حركة ما قبله فلا يحتاج إلى الشكل إلا نادرا، فعلى المعلم أن يدربهم على النطق الصحيح من الكتابة الصحيحة بدون مساعدة الشكل.
3 – التدريب على التزام مواضع الشدة والمدة وهمزة القطع وكذلك تنبيههم على طريقة كتابة بعض الأعلام والأعداد من زيادة حروف خشية اللبس وتسهيل النطق مثل كتابة: ((عمرو)) و ((مائة)) ونظام كتابة الهمزة: فإذا كانت في أول الكلمة ترسم ألفا: ((إن)) و ((أن)) ، وإن دخل على كلمة حرف نحو: ((فإن)) و ((لأن)) ،، وإن كانت في وسط الكلمة ترسم على حرف مجانس لحركة ما قبلها إن كانت ساكنة: فأس، بئر، سؤل، والهمزة في آخر الكلمة ترسم على حرف مجانس لحركة ما قبلها إذا سبقت حركة مثل: ((يجرؤ)) و ((يبدأ)) و ((يستهزئ)) وعلى الرغم من بعض التعقيدات الإملائية في هذا النوع من الرسم فلا بد من تنبيه هؤلاء الطلاب إلى ذلك لكي يتكيفوا بالتدريج مع خصائص الكتابة العربية ويحسنوا ارتسامها في كتاباتهم في المراحل المتقدمة.
د – طريقة تعليم قواعد العربية:
يجب أن تكون الغاية من تعليم القواعد العربية للطلاب الأجانب، تزويدهم ببعض القواعد النحوية والصرفية الأساسية التي تساعدهم على تعلم العربية والتحدث بها بدون خطأ لغوي يغير المعنى، هذا في المراحل الأول وكذلك إعدادهم لمواصلة الدراسات النحوية والصرفية في المراحل المتقدمة لو أرادوا الاستمرار في فصول متخصصة، ولتحقيق هذا الهدف المنشود لا بد من مراعاة الأمور التالية:(20/228)
أ - عدم تقديم التعريفات أو الحدود النحوية المعروفة للقواعد النحوية بل يجب الاكتفاء بالأمثلة للباب المطلوب تعليمه مع ذكر اسمه، ويمكن تقديم تعريف مختصر بلغة مبسطة مثلا: ((المبتدأ والخبر مرفوعان)) بدون أن يتطرق إلى ما رافع المبتدأ والخبر وغيره من المسائل النظرية العويصة.
ب - مراعاة التدرج في تعليم القواعد النحوية، مثلا: عند تعليم ((إن وأخواتها)) و ((كان وأخواتها)) يستحسن الاكتفاء بتقديم بعضها مع الأمثلة ولا ينبغي استيعاب جميع هؤلاء الأخوات لئلا يصعب عليهم حفظها وفهم أماكن استخدام كل منها، وكذلك في تقديم الأمثلة يراعى المألوف والشائع، وبصيغ مبسطة وباستخدام المفردات والتركيبات الكثيرة الاستعمال ويتجنب الألفاظ النادرة.
جـ - نماذج من القواعد المتدرجة:
1 - أقسام الكلمة في اللغة العربية، من: اسم وفعل وحرف مع الأمثلة.
2 - أقسام الفعل، من: ماض ومضارع وأمر ونهي مع الأمثلة.
3 - أبواب الفعل الثلاثي: المجرد والمزيد وأبواب الرباعي: المجرد والمزيد، مع الأمثلة، ولا ينبغي تقديم التفاصيل عن الفعل الصحيح والمعتل للمبتدئين من الطلاب الأجانب.
4 - ثم تدريبهم على تصريف الماضي والمضارع والأمر والنهي من بعض الأفعال السهلة التي درسوها جيدا خلال الدروس السابقة.
5 - وتليها أمثلة لنواصب المضارع وجوازمه، تكملة لقواعد قسم الفعل من الكلمة.
6 - قواعد مبسطة للأسماء المرفوعة مع الأمثلة، مثل: المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل وكذلك المنصوبة منها مثل: المفعول به والحال واسم إن وخبر كان، وأخيرا المجرور منها مثل: المضاف إليه والاسم المسبوق بحرف من حروف الجر.
7 - قواعد استعمال كتابة الأعداد مهمة جدا بالنسبة إلى دارسي اللغة العربية وصعبة لهم في نفس الوقت، ولهذا يجب مراعاة التدرج في تدريبهم على هذا الباب من القواعد لأنه متداخل ومتشابك إلى حد ما.(20/229)
8 - لا ينبغي أن تقدم إليهم في المرحلة الأولى المسائل المتعلقة بحركات الإعراب الأصلية والفرعية والظاهرة والمقدرة وغيرها، ويكفي تدريبهم على بعض الأمثلة لاستخدام هذا النوع من الأسماء مثل: المنقوص والمقصور والممنوع من الصرف وغيرها بدون الدخول في تفاصيل القواعد والتعريفات خشية اللبس والاضطراب.
نظرة على منهج شعبة تعليم اللغة العربية - بالجامعة الإسلامية بالمدينة
افتتحت شعبة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 86/1387هـ، وهي تهدف إلى تعليم اللغة العربية للطلاب الوافدين إلى الجامعة، الذين لا يمتلكون اللغة العربية أو لا يجيدونها حتى يتمكنوا من الدراسة والتخاطب بها، والدراسة فيها سنتان، وبعد نجاح الطالب فيها يلحق بإحدى الكليات أوا لثانوية أو المتوسطة حسب مؤهلاته العلمية التي يحملها قبل الالتحاق بالشعبة.
وأما خطة التعليم في شعبة اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، في الإطار العام لأهداف الجامعة، فتعتني بالأمور الآتية:
الأول: أنها تعلم الطلاب الأجانب اللغة العربية والمواد الإسلامية معا، لأن هدفها إعداد الطلاب لمتابعة دراساتهم الإسلامية باللغة العربية التي هي وعاء هذه الدراسات ومنبعها الأصلي.
والثاني: تعليم اللغة العربية من خلال المواد الإسلامية، وكذلك تزويد الطلاب بالمصطلحات الإسلامية الضرورية في الدراسات المتقدمة، وتشمل مواد الدراسة الأساسية: التوحيد والتفسير والحديث والفقه والثقافة الإسلامية.
والثالث: اتباع الطريقة المباشرة في التدريس أي يجري تعليم جميع المواد باللغة العربية الفصحى دون اعتماد على الترجمة أو البيان باللغات الأخرى حتى يكون جوّ الدروس عربيا محضا.(20/230)
الخامس: أن الجامعة تضم الآن طلابا من أكثر من مائة جنسية من شتى بقاع العالم، ويفدون إلى الجامعة الإسلامية لتعلم اللغة العربية كلغة القرآن والعلوم الإسلامية، ولا يتعلمونها بهدف التعامل التجاري والاجتماعي والسياسي كما لا يأتون لتعلم العاميات المحلية.
والسادس: تقدم المادة المقررة، لكل طالب في فصول الشعبة، مطبوعة بخط نسخ وحروف كبيرة ومشكولة حسب الحاجة، ويكون للشعبة اختباران في السنة: أحدهما في منتصف العام والآخر في نهاية العام الدراسي.(20/231)
مختارات من التراث
نكبة دمشق
لأمير الشعراء أحمد شوقي
سلام من صبا (بردى) أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلالُ الرُّزءِ عن وصف يدقُّ
وذكرى عن خواطرها لقلبي
إليك تلفَّتُ أبدًا وخفقُ
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
دخلتك والأصيل له ائتلاق
ووجهك ضاحك القسمات طلق
وتحت جنانك الأنهار تجري
وملء رباك أوراقٌ وَوُرقُ
وحولي فتيةٌ غرٌّ صِباح
لهم في الفضل غايات وسبق
على لهَوَاتهم شعراء لُسنُ
وفي أعطافهم خطباء شُدق
رواة قصائدي فأعجب لشعرٍ
بكل محلَّةٍ يرويه خلقُ
غمزتُ إباءهم حتى تلظَّت
أنوف الأسد واضطرم المدَق
وضجَّ من الشكيمة كل حرّ
أبيّ من أميّة فيه عتق
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الوليّ بما يَشُقُّ
يُفصلها إلى الدنيا بريدٌ
ويجملها إلى الآفاق برق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تخال من الخرافة وهي صدق
وقيل معالم التاريخ دُكَّت
وقيل أصابها تَلَفٌ وحرق
ألستِ دمشق للإسلام ظئرا
ومرضعةُ الأبوَّة لا تعق
صلاح الدين تاجك لم يجمَّل
ولم يوسم بأزين منه فرق
وكل حضارة في الأرض طالت
لها من سرحك العلوي عرق
سماؤك من حلي الماضي كتابٌ
وأرضك من حلي التاريخ رقُّ
بنيت الدولة الكبرى وملكا
غبار حضارتيه لا يشق
له بالشام أعلام وعرسٌ
بشائره بِِأَندَلُسٍ تدقّ
رباع الخلد ويحك ما دهاها
أحق أنها دَرَسَت أحق
وهل غرف الجنان مُنَضَّداتٌ
وهل لنعيمهن كأمس نسق
وأين دمى المقاصر من حِجَال
مهتكة وأستار تشق(20/232)
برزن وفي نواحي الأَيك نار
وخلف الأيك أفراخ تُزقُّ
إذا رمن السلامة من طريق
أتَت من دونه للموت طرق
بليل للقذائف والمنايا
وراء سمائه خطف وصعق
إذا عصف الحديد احمرَّ أفقٌ
على جنباته واسود أفقُ
سلي من راع غيدك بعد وهن
أبين فؤاده والصخر فرق؟
وللمستعمرين وإن ألانوا
قلوبٌ كالحجارة لا ترق
رماك بطيشه ورمى فرنسا
أخو حرب به صلفٌ وحمق
إذا ما جاءه طلاب حق
يقول عصابة خرجوا وشقوا
بني سورية اطَّرحوا الأماني
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خدع السياسة أن تغرُّوا
بألقاب الإمارة وهي رقّ
فتوق الملك تحدث ثم تمضي
ولا يمضي لمختلفين فَتَقُ
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حُرّ
يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يُسقوا ولم يَسقوا؟
ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يدني الحقوق ولا يُحق
ففي القتلى لأجيال حياةٌ
وفي الأسرى فدى لهمو وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرَّجة يُدَق
جزاكم ذو الجلال بني دمشق
وعزُّ الشرق أوله دمشق
نصرتم يوم محنته أخاكم
وكل أخ بنصر أخيه حق(20/233)
كيف يتفرق أهل الحق!
يوسف الهمذاني الشافعي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية
تداعى علينا الآكلون وأولمت
بنا في نواحي الأرض حمرُ المآدب
فيا أمة الإسلام ماذا دهاكمو
وفيم تداعيكم لدى كل جانب
على فرقة حتى وقد جمعوا لكم
وخضَّب فيكم رمحه كل خاضب
تظلون شتى حين تدعون واحدا
وما كان نهج الحق يوما بناكب
ولكنَّ فيكم مؤمنا متَوجِّها
إلى الله لا يخشى طُرُوَّ العواقب
وفيكم على رغم التبصر عصبة
تؤَرِّقهم أطماعهم بالمذاهب
وفيكم أناس غافلون أضلَّهم
صياحٌ بتزويق من القول خالب
يسيرون في أرجائها في عَمَاية
وقد كثرت فيها فخاخ الثعالب
نسُوا ماضيا كادت تعفَّى معالمٌ
به غير تقدير من الله غالب
أراد ليبقى نوره متوهجا
يضيء سناه كل شرق وغارب
يضيء سناه من كنانة أرضه
وقد نزل الطاغوت كل المسارب
فإن تنصروه تنصروا أبدا به
وإن تتولوا يوله خير صاحب
إلى أن يشاء الله أمرا وننتهي
ليوم حساب عند أعدل حاسب(20/234)
آية العدد
لفضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية
تفسير آية من سورة النحل
قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
هذه الآية هي الموفية تسعين آية من سورة النحل والتي هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف الكريم. وهي مكية من العتاق الأول، وهذه الآية منها هي أجمع آية في كتاب الله لبيان الخير والشر.
شرح ألفاظ الآية:
إن: حرف توكيد يدخل على الجملة الاسمية فيؤكد صحة خبرها ويثبته.
الله: هو اسم الجلالة وهو علم على ذات الرب تبارك وتعالى؛ ولذا هو يوصف فيقال: الله العزيز الجبار، ولا يوصف به فلا يقال السميع الله. أو الرحيم الله.
ومن أحكام هذا الاسم الكريم اللفظية أنه ينطق به مفخم اللام، إلا في حال جر المضاف إليه نحو بسم الله فإنه يرقّق.
ومن أحكامه الشرعية: أنه يتبرك به فيقال بسم الله عند الشروع في الأعمال الصالحة. ويتوسل به فيقال: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت. وإذا دعيت به أجبت، ويحرم ذكره أو حمله في مواضع القذر والنجاسات كالكنف والمراحيض.
الباء: هنا للتعدية، إذ أن فعل (أَمَرَ) يتعدى إلى المفعول الثاني بواسطة الباء فيقال: أمر الإمام المسلمين بالجهاد، فالجهاد مجرور بالباء ظاهرا، وفي الباطن هو منصوب لأنه مفعول ثانٍ لأَمَرَ.(20/235)
العدل: لفظ واسع الإطلاق؛ إذ يفسر بمعان كثيرة، هي دائرة على التوسط بين شيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما إفراطا في جانب أو تفريطا في آخر. وهو في كل مقام بحسبه، ففي مقام العقيدة: العدل وسط بين الشرك والإلحاد، وفي مقام الحكم: وسط بين المحاباة والإجحاف، وفي مقام الإنفاق: العدل وسط بين التقتير والإسراف.
ولذا عرفه بعضهم فقال العدل: التوسط في الأمور وهو رأس الفضائل كلها.
و: الواو حرف عطف لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا فهو لمجرد عطف شيء على آخر، فعطف به هنا الإحسان على العدل.
الإحسان: مصدر أحسن يحسن إحسانا؛ العمل أتقنه وجوَّده؛ ويطلق على معان منها؛ الفضل، والإخلاص، والزيادة في الخير. فيقال أحسن فلان في عمله أو قوله إذا أتقنه وأبعده عن النقص والفساد، كما يقال أحسن فلان إلى فلان أو به، إذا عامله بالحُسن ضد القبح والإساءة.
ومن أحكامه: أنه واجب في العبادات، إذ هو إتقانها وتخليصها من شوائب الشرك لله تعالى كما هو واجب بالوالدين وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار مطلقا.
إيتاء: الإيتاء مصدر آتى يؤتي فلانا إذا أعطاه إياه فهو بمعنى أعطى سواء بسواء غير أنه لم يستعمل غالبا في أداء الحقوق إلا بلفظ "أتى"ولعله إشارة إلى أن المرء إذا أراد أن يعطي حقا لصاحبه عليه أن يأتي هو بنفسه ويعطيه ذلك الحق، لما في ذلك من مزيد الاحترام والاعتراف، ويكون هذا كالإشارة في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فإن الباء هنا بدل عن إلى؛ إذ يقال أحسن إلى فلان، وأما بفلان فإنه إشارة إلى إلصاق الإحسان به إذ في الإمكان أن يرسل الولد طعامه أو شرابه إلى والده مع خادم مثلا، ولكن الأولى به أن يأتي هو به ليضعه في يد والده أو حتى في فمه؛ إذ هذا أبلغ في البر وأكمل في الإحسان.(20/236)
ذي: إسم بمعنى صاحب وتعرب بالحروف فترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء كما هي هنا وإذا ثنيت قيل فيها: ذوا رفعا، وذوَيْ نصبا وجرا، وإذا جمعت قيل فيها: ذوو رفعا وذوي بكسر الواو نصبا وجرا. وهي دائما بمعنى صاحب، وصاحبَيْ وأصحاب.
القربى: في الأصل هو مصدر، وهي بمعنى القرابة، والقرابة هي الدنو في النسب، والقرب في الرحم فذي القربى هو صاحب القرابة التي هي دنو في النسب وقرب في الرحم.
و: تقدم الكلام عليها.
ينهى: فعل مضارع ماضيه: نهى عن الشيء إذا منع فاعله من فعله، وجيء به هنا مضارعا كما في قوله: إن الله يأمر، من أجل إفادة الحدوث والتجدد، إذ أمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى حقه كنهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي، أمر يتجدد في كل آن ويحدث عند كل تقصير في ترك المأمور به، أو فعل المنهي عنه.
عن: حرف جر ولها معان عدة؛ وهي هنا للمجاورة والتعدية؛ إذ إن فعل (نهى) يتعدى إلى مفعولين الأول بنفسه والثاني بواسطة حرف الجر "عن"يقال: نهى الله العباد عن الظلم، فالعباد المفعول الأول والثاني الظلم غير أن الظلم وإن كان مفعولا في الباطن فهو مجرور بحرف الجر في الظاهر.
الفحشاء: الإسم من الفحش، ويطلق لفظ الفحشاء على كل خصلة قبيحة شديدة القبح حتى أطلق في لسان العرب على منع الغنيّ وهو الشح والبخل، وسؤاله وهو الامتهان والطمع، فالغني إذا سئل مالا فمنعه بخلا به قد ارتكب فاحشة شديدة وهي البخل قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وهو البخل. كما أن الغني إذا سأل غيره مالا كان قد ارتكب فاحشة بسؤاله وهو غني؛ لأن الناس يستعظمون سؤاله ويعجبون منه فكان سؤال الغني الفحشاء، يبد أن الفحشاء إذا أطلقت في القرآن تتناول أولا فاحشة الزنى واللواط ثم تعم كل خصلة قبيحة شديدة القبح.
و: تقدم شرح هذا الحرف.(20/237)
المنكر: اسم مفعول من أنكر الشيء ينكره إذا لم يعرفه أو لم يعترف به جائزا أو صالحا نافعا مفيدا، وهو هنا: كل ما أنكره الشرع لفساده وضرره من كل المعتقدات والأقوال والأفعال.
و: تقدم شرحها.
البغي: ظلم الناس والاستطالة والتكبر عليهم، وكل مخالفة للحق فهي ظلم، والنهي واجب عنها.
يعظكم: يأمركم وينهاكم ناصحا لكم، إذ الوعظ هو النصح والتذكير بما يحمل على التوبة، بفعل الواجب والمندوب، وترك المحرم والمكروه.
لعلكم: لعل حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر، ولها معان منها الترجي كما هي هنا له، وقد تكون للتعليل وهي صالحة هنا له أيضا، والضمير في لعلكم للمخاطبين وهم المؤمنون الذين أمرهم الله ونهاهم إعدادا لهم للكمال والسعادة في الدنيا والأخرى.
تذكرون: فعل مضارع مسند إلى واو الجماعة، ويقرأ بتشديد الذال وتخفيفها وهما قراءتان سبعيتان، فالتخفيف على إسقاط إحدى التاءين، إذ الأصل تتذكرون، والتشديد على إسكان التاء الثانية وإدغامها في الذال وهذا الحذف والإدغام إنما هو لأجل التخفيف لا غير.
ومعنى تذكرون: تتعظون يقال ذكره إذا وعظه، والأصل تذكيره بما فرط فيه من الواجبات، وبما ارتكبه من المنهيات، مبيّنا له عواقب ذلك، حتى يذكر فإذا ذكر عزم على التوبة، وهو معنى اتعظ، يقال وعظه فاتعظ، أي أثر فيه تذكيره حتى عزم على التوبة وتاب.
معنى الآية الكريمة
يخبر الله تعالى أنه يأمر عباده في كتابه العزيز بفعل ثلاثة أمور، وترك ثلاثة أخرى؛ إذ كمالهم وسعادتهم متوقفان على ذلك، فالأمور التي أمر بفعلها هي العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والتي نهى عن فعلها هي الفحشاء، والمنكر، والبغي.
ولما كان الامتثال يتوقف على معرفة المأمور به، والمنهي عنه، وجب على المؤمنين معرفة ذلك، وهذا بيانه:(20/238)
أما العدل فهو أن يعبد الله وحده، ولا يشرك بعبادته أحدا، إذ عبادته تعالى وحده حق له على عباده وجب عليهم بخلقه إياهم، ورزقهم، وتربيتهم، وحفظهم، وتدبير حياتهم، فتضييع هذا الحق لله تعالى وإهداره ظلم عظيم يتنافى مع العدل الذي أمر الله به عباده في هذه الآية، كما أن إشراك بعض خلقه في عبادته التي وجبت له هضم لحق الله تعالى وظلم لا يتفق مع العدل الواجب القيام به.
وبما أن العدل يشمل أمورا كثيرة كلها مرادة لله تعالى ومحبوبة له فلنبين طرفا منها لتعرف ويمتثل أمر الله تعالى فيها:
1- العدل في الأحكام: لقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .
والحكم بالعدل: أن يعطى من حكم بين اثنين الحق لصاحبه، ويمنع منه الباغي عليه، فالحكم بالعدل في كل القضايا والأمور أمر محبوب لله تعالى مراد له، ولذلك أمر به وواعد خيرا عليه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وَلُوا" (رواه مسلم) .
2- العدل في القول؛ لأمر الله تعالى به في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، فواجب كل من قال مخبرا أو شاهدا أو آمرا أو ناهيا أن يعدل في قوله فلا يحيف ولا يجور، ولا يكذب، ولكن يعدل ويصدق، ولو كان المقول فيه أو له أقرب قريب من القائل.
3- العدل في العطية للأولاد بحيث يسوي بينهم، ولا يفضّل أحدا على آخر لقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" وقوله: "سَوُّوا بين أولادكم في العطية".(20/239)
4- العدل بين الزوجات. فمن كان له زوجتان فأكثر وجب عليه أن يعدل بينهما في الغذاء، والكسوة، والسكن، والفراش، وإلا تعرض لوعيد شديد ينال أهل الحيف والجور من الناس، فقد روى الترمذي بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجرّ أحد شقّيه ساقطا أو مائلا".
العدل في الرعية فمن استرعاه الله تعالى أمّة فولاه عليها وجب عليه أن يسوسها بالعدل فيسوي بين أفرادها في الحقوق والواجبات طلبا للعدل وتحقيقا له بين أفرادها، ولا يتم لحاكم ذلك مهما كان، ما لم ينفذ أحكام الله برمّتها، فمن أعطاه الله أعطاه، ومن منعه الله منعه، ومن أكرمه الله بطاعته وتقواه أكرمه، ومن أهانه الله بفجوره أهانه.
كل هذا داخل في الأمر بالعدل وهو مراد لله ومحبوب له، ولذا أمر به، ودعا إليه.
أما الإحسان: وهو الأمر الثاني في الآية فإنه قوام أعمال القلوب والجوارح كلها فلا يتم عمل الإنسان ولا يصلح إلا عليه. أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله كتبه في كل شيء ففي حديث مسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
والإحسان ضد الإساءة والفساد، ولذا افتقرت كل الأعمال والأقوال إليه، وأعمال القلوب كأعمال الجوارح في الإحسان.
وهو – أي الإحسان – في العبادات أن تؤدى كاملة صحيحة وذلك باستيفاء شروطها وأركانها واستيفاء سننها وآدابها مع الإخلاص لله تعالى فيها.
وهو - أي الإحسان - في المعاملات؛ إن كان للوالدين، فهو برهما الذي هو طاعتهما في المعروف وإيصال الخير إليهما، وكف الأذى عنهما، والدعاء والاستغفار لهما في حياتهما وبعد موتهما، وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما.(20/240)
وهو للأقارب برّهم، وصلتهم، ورحمتهم، والعطف عليهم، وفعل ما يحمد فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم، أو يقبح قوله، أو فعله معهم.
وهو - الإحسان - لليتامى: المحافظة على أموالهم، وحماية حقوقهم، وتربيتهم وتأديبهم وترك أذاهم، وعدم قهرهم، والهشّ في وجوههم، والبش عند مخاطبتهم.
وهو - الإحسان – للمساكين سدّ جوعهم، وستر عورتهم، والحث على إطعامهم، وعدم المساس بكرامتهم، فلا يحتقرون، ولا يزدرون، ولا ينالون بسوء أو يمسون بمكروه.
وهو لابن السبيل قضاء حاجته، وسدّ خلته، ورعاية ماله، وصيانة كرامته، وإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضل.
وهو - الإحسان – للخادم: إعطاؤه أجره قبل أن يجف عرقه، وعدم إلزامه ما لا يلزمه، وعدم تكليفه ما لا يطيق، وصون كرامته، واحترام شخصيته.
وهو - الإحسان - لعموم الناس، التلطف في القول لهم، ومجاملتهم في معاملتهم، ومخاطبتهم مع أمرهم بالمعروف إن تركوه، ونهيهم عن المنكر إن ارتكبوه، وإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم وإنصافهم من النفس، والاعتراف بحقوقهم، وكف الأذى عنهم، بعدم ارتكاب ما يضرهم، أو فعل ما يؤذيهم.
وهو – الإحسان - للحيوان إطعامه إذا جاع، ومداواته إن مرض، وعدم تكليفه ما لا يطيق، وعدم حمله على ما لا يقدر، بالرفق به إن عمل، وإراحته إن تعب.
وهو - أي الإحسان - في الأعمال البدنية الدنيوية بإجادة العمل، وإتقان الصّنعة، وتخليص سائر الأعمال من الغش والفساد.
هذا هو الإحسان المأمور به في الآية الكريمة، وهو مأمور به في كل شيء، لتوقف صلاح الأعمال عليه، ومما يساعد على تحقيق هذا المبدأ، أو تنفيذ هذا الأمر الإلهي العظيم، مراقبة الله تعالى عند القيام بأي فعل، وذلك لإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(20/241)
وأما إيتاء ذي القربى: فإنه المطلب الثالث في هذه الآية الكريمة، وهو الاعتراف بحقوق ذوي القربى المالية كالإرث ونحوه، وغير المالية من البر والصلة، فهذا الحق يجب أن يعترف به ويسلم إلى أهله، طاعة لله تعالى في أمره به. إن في إيتاء ذي القربى حقه، وما يجب له على قريبه من أسباب كمال الأمة وقوتها وسعادتها، ما يوجد في إقامة العدل، وتعميم الإحسان. إن في إيتاء ذي القربى حقه من تماسك الأفراد، وترابط الأسر ما يجعل الأمة قادرة على إقامة العدل وبذل الإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالجملة فإن هذا المطلب لا يقل أهمية عن المطلبين السابقين له وهما العدل والإحسان وبتحقيق هذه المطالب الثلاثة والتي هي جماع الخير كله يتم للأمة التي تنشد السعادة والكمال نصف بناء صرح سعادتها وكمالها، ويقى النصف الثاني متعلقا باجتناب المنهيات الثلاثة؛ الفحشاء، والمنكر، والبغي، فمتى حققت الأمة تلك المطالب واجتنبت هذه المناهي فقد أقامت صرح حضارتها، وعزتها وسعادتها، وكمالها، وتسنمت ذرى الشرف والمجد بين الأمم والشعوب.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا هو أن السلب كالإيجاب في التأثير على كمال الأمة وسعادتها، فإن اجتناب المنهيات الثلاثة وهو سلب محض لا يقل خطورة وتأثيرا عن فعل المأرات الثلاثة والتي هي إيجاب حقيقي، إن المأمورات الثلاثة إذا كانت قد جمعت كل عناصر الخير، فإن المنهيات الثلاثة قد جمعت عناصر كل الشر ومن هنا وجب عدم التساهل في أيّ منها فعلا وتركا. أو سلبا وإيجابا، فإذا كان إقامة العدل، وتعميم الإحسان، وترابط الأفراد برباط الحب والولاء، دعائم صرح سعادة الأمة وكمالها فإن إشاعة الفحشاء، وظهور المنكر، وسيادة البغي، مقوّضات لصرح كمال الأمة، ومدمرات له.(20/242)
ومن هنا كان النهي عن المنكر ملازما للأمر بالمعروف، إذ الأمر بالمعروف أمر بالبناء، والنهي عن المنكر نهي عن التخريب والتدمير، ولذا كان لا غنى لأحدهما عن الآخر، إذ لا فائدة في بناء يقام اليوم ويهدم غدا.
وبالتتبع للآيات القرآنية التي ذكر فيها الأمر بالمعروف نجد أن النهي عن المنكر مقرونا بها لا يفارقها بحال، فآية آل عمران يقول تعالى فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وآية التوبة يقول تعالى فيها: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وآية الحج يقول سبحانه فيها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وكل الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية فإنها ما ذكرت الأمر بالمعروف إلا مقرونا بالنهي عن المنكر كقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر"… الحديث… وقوله: "مُر بالمعروف وانْهَ عن المنكر ... " الحديث، وذلك أن المعروف بناء، والمنكر هدم فمن أمر ببناء ولم ينه عن هدمه مع وجود مقتضيات الهدم، كان قد جانب الحكمة، وأخطأ الصواب، إن من أقام صرحا، أو غرس غرسا، وجب عليه حمايته من أيدي العوادي تعدو عليه، وإلا فقد أضاع جهده، وخسر عمله، وبالجملة فإن ترك المنهيات الثلاثة في الآية الكريمة وهي الفحشاء والمنكر والبغي، ضروري لبقاء العدل، والإحسان ودوام التماسك والترابط بين أفراد المجتمع، وإلا فسيزول العدل ويذهب الإحسان، وتتقطع روابط المودة والولاء، وتحلّ الكوارث وينزل البلاء، كما هو مشاهد في حياة الناس اليوم.
والله المستعان، وعليه وحده التكلان.(20/243)